بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123084 / تحميل: 6204
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غلبة الغريزة على العلم:

ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف!

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل، وإثبات فساد ذلك من الناحية الاجتماعية والقضائية والاقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق، لا يتورعون من أخذ الرشوة، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد!

ما أكثر المتمدّنين الذي يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم، ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي، ولكنهم لا يستطيعون الامتناع عن شربها حتى ليلة واحدة!

ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء الذين لا يطبّقون علمهم، وينقادون لأهوائهم... منها:

1 - قوله ( ص): (العلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فقد هلك) (1) .

2 - وقد ورد أيضاً: (أوحى الله إلى داود: لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا، فأولئك قطاع الطريق على عبادي) (2) .

3 - قال رسول الله ( ص): يا أبا ذر، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه) (3) .

____________________

(1) لئالي الأخبار ص 192.

(2) لئالي الأخبار ص 192.

(3) لئالي الأخبار.

٣٦١

4 - وفي حديث آخر: (أشد الناس عذاباً في القيامة، عالم لم يعمل بعلمه، ولم ينفعه علمه) (1) .

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يوماً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية... وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الإنسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الإنسانية. ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا!

(إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد اضمحلال بعض القيود والموانع الاجتماعية؛ تثبت أنه وإن كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويوجدون المدنيات المختلفة، لكنهم ليسوا متمدنين).

(هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الاجتماعية فقط) (2) .

الهمجية في لباس التمدُّن:

لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والإنسانية قبل الحرب العالمية. ولكنه عندما اندلعت نيران الحرب انفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة... وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية - أي لباسه الواقعي - فقد استولت سحب الإجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والانتقام محل الضحكات المصطنعة في وجوه الجماهير المتمدنة!

(النفي، والقتل العام للمدنيين، ومعسكرات العمل الإجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب

____________________

(1) مجموعات ورام ج 1|220.

(2) إنديشه هاي فرويد ص 116.

٣٦٢

والقمع والإرهاب) والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل... كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب. ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية، وهكذا اختفت مظاهر احترام الحياة والمثل الإنسانية، والقيم الأخلاقية في كل مكان) (1) .

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإلهية) قبل الحرب يأمل بانتشار التعاليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة؛ حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها... إنه يقول:

(إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدّم خدمات مهمة إلى الإنسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الاجتماعية، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي) (2) .

إن فرويد يوصي بما يلي: (من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني، فيعود الناس على غض النظر عن هذه التسلية، ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ).

إنه يعتقد بأن: (الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنساناً راشداً، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة) (3) .

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 117.

(2) انديشه هاى فرويد ص 96.

(3) انديشه هاى فرويد ص 97.

٣٦٣

أوهام فرويدية:

كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية، إنه كان يتصور أن الإنسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة القيم العليا، لكن اندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد، وقلبت تفكيره رأساً على عقب، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطئ... وراح يقول:

(ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس. ولكن هذا لا يأس والألم ليسا وجيهين في الحقيقة، وذلك أنا نعتبر سكّان العالم لهذه الجهة منحطين، وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه) (1) .

(بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الاعتداءات البشرية، يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي، ولا تزال الاعتداءات موجودة حلف أستار المجتمع).

(هناك كثير من المتمدنين الذين يستاءون من تصور ارتكاب القتل أو الاتصال الجنسي مع المحارم، ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم وأطماعهم الجنسية).

(إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب، فسيلحقون الأذى

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 117.

٣٦٤

بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب، والخداع، والفتراء، وما شاكل ذلك...) (1) .

(إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعدالة والاعتداءات الأخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الاعتيادية مباحة في حال الحرب. ولذلك فإن الحكومة لا تكتفي بالاستعانة بالمكر والحيلة المواجهة العدو فقط، بل لا تمانع من الكذب العمد. ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً) (2) .

التمدن الفاقد للإيمان:

إن المدينة المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الإيمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والانهيار.

إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والاعتداءات التي ارتكبت في أثنائها وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الإنسانية من تصوره، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه.

إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليها، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر... هي قوة الإيمان بالله. فالإيمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها... القوة الإيمانية تحفظ الإنسان في أخطر لحظات الانحراف والانزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه الإيمان بالله قوة لا تغلب ولا تدحر، وملجأ لا يتحطم (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصال لها).

إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الإسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو (الإيمان بالله).

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 123.

(2) انديشه هاى فرويد ص 125.

٣٦٥

يشترك الإسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة، لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شئون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم. أما الهدف من التربية في الإسلام فهو أن يتربى الأفراد، مضافاً إلى استقامة سلوكهم على التفكير السليم، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير.

النوايا الصالحة:

تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للإنسان فقط. أما المذهب التربوي للإسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة.

يقول الرسول الأعظم ( ص): (نية المؤمن خير من عمله) (1) .

وعن الإمام الصادق ( ع) ضمن حديث طويل: (والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هو العمل)، ثم تلا قوله عَزَّ وجَلَّ: ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يعني: (على نيته) (2) .

إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئاً، أما المذهب الإسلامي فيرى أن المسلم الواقعي والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الإسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهياً، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية.

يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية - الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك - عن هذا الموضوع فيقول:

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2|84.

(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 1|6.

٣٦٦

(للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيع الواجبات الأخلاقية. ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية. في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون. ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الإسلامية التي تنبع من إرادة الله، الإرادة التي كشفت لرسوله محمد ( ص)، هذا القانون وهذه الإرادة الإلهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة. إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقى وأفضل وأن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر) (1) .

العمل المستند إلى الإيمان:

يستند أساس السعادة الإنسانية في الإسلام إلى دعامتين، الأولى: الإيمان، والأخرى: العمل الصالح. ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ونظائرها. والنكتة التي تجلب الانتباه هنا هي أن الإيمان مقدم على العمل الصالح دائماً، ذلك أن الإسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى الاعتقاد الحقيقي، وتنبع من منبع الإيمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الإسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه.

إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها.

____________________

(1) مقدمة كتاب ( حقوق دار إسلام) ص ج.

٣٦٧

الرياء والتظاهر:

أما الأعمال الصالحة التي لا تملك أساساً إيماناً ثابتاً، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس، أو العادة الاجتماعية... لا تبقى ثابتة أبداً، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف.

إن الإحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة، فمن يقوم بهذا العم المقدس امتثالاً لأمر الله واحتراماً للإيمان، يعمل في كل مكان، وبلا أي منّة، بل يكون رائده الإخلاص وجلب رضى الله، دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم. أما الذي لا ينبع له إحسانه من رصيد إيماني، بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط، والتظاهر أمام الناس، وانتشار أمره في الصحف والمجلات، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الإطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الإحسان، أو يتخلى عنه تماماً:

(يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية: لما كانت المشكلة الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية، فإننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين. هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي. ذلك أن الإنسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأها، مضافاً إلى أن سلوكاً كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها؛ لأن المقصود أن يتكامل الإنسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية، ليس الهدف أن نحث الإنسان على أن يؤدي حركات أخلاقية. فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والمؤقتة التي تزول بأبسط مبرر. إن القواعد الأخلاقية إذا فرضت على الإنسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالية، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة) (1) .

____________________

(1) سرنوشت بشر ص 216.

٣٦٨

(يرى بعض الكتّاب أنهم أجل من أن يحتاجوا إلى المقرّرات والأنظمة الدينية والأخلاقية، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة. إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة. ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة. إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرءوها بصورة سطحية أو لم يقرءوها أصلاً، فيرون أن (فولتير) و(داروين) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة.

ولإثبات هذا الادعاء ننقل نصاً لفولتير في موسوعته الفلسفية...).

الإيمان والقيام بالواجب:

إن المؤمنين بالله العظيم، والذين يعمر قلوبهم العشق الإلهي، يسعون في القيام بواجباتهم، والأعمال الصالحة بشوق ونشاط لا يتطرق الملل والكلل إليهما... ولا يتسرب إلى نفوسهم الرياء... إنهم يعملون لله وحده ولا ينتظرون الجزاء إلا من عظمته.

عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عَزَّ وجَلَّ: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) . قال: (ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة: خشية الله والنية الصداقة والحسنة).

ما الذي نستنتجه مما مر؟ إن الإنسان الملحد وحش كاسر!

(إن بعض المهندسين الجاهلين للفلسفة ينكرون العلل الغائية، ولكن الفلاسفة الحقيقيين يذعنون لها. وكما يقول كاتب معروف: إن كتاب الدعاء هو الذي يعرف الله للأطفال، بينما يثبت (نيوتن) وجود الله للمثقفين).

(إن الإلحاد هو العيب المهم في عدة قليلة من الأذكياء والخرافة عيب الحمقى) (1) .

____________________

(1) سرنوشت بشر ص 156.

٣٦٩

الإيمان وتعديل الغرائز:

إن من أهم نتائج الإيمان الواقعي بالله، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة، وضبط الرغبات اللامشروعة، فعندما يتحطم سد العقل والعلم والوجدان، ويفق مقاومته أمام الضربات القاصمة للغرائز، يثبت الإيمان بالله خشية الله، والنية الصادقة والحسنة. ثم قال:

(الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عَزَّ وجَلَّ) (1) .

في قوته رصيناً وطيد الأركان... ويمنع من إسراف الغرائز، ويحفظ صاحبه من السقوط الحتمي، وقد اعتبر ذلك من علائم المؤمن في الروايات الإسلامية.

عن أبي جعفر (ع) قال: (إنما المؤمن، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم يخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق) (2) .

لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها مهواة سحيقة للإنسان. فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة استجابة لإحدى الرغبات النفسية. أما الرجال المؤمنون فإنهم يستطيعون في المواقع الحساسة بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) ضمن حديث طويل في بيان علائم المؤمن: (لا يحيف في حكمه ولا يجور في عمله، نفسه أصلب من الصلد، حياؤه يعلو شهوته، ووده يعلو حسده، وعفو يعلو حقده) (3) .

الإيمان والعزم:

يشير الإمام علي (ع) في هذه الجمل بعد الإشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين، إلى أن غريزة الشهوة والحسد والانتقام مكبوتة في

____________________

(1) الكافي للكليني ج 2|16.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15|94.

(3) المصدر السابق ج 15|97.

٣٧٠

نفوس الأشخاص المؤمنين وأن القوة الإيمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر.

عن أبي عبد الله (ع) قال: (ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على مَن تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة. ورجل قال بالحق في ما له وعليه) (1) .

في هذا الحديث يبين الإمام الصادق (عليه السلام) غلبة الإيمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد.

وللرسول الأعظم (ص) بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول: (... مشمولاً بحفظ الله، مؤيداً بتوفيق الله، لا يحيف على مَن يبغض، ولا يأثم في من يحب، لا يجوز، ولا يعتدي، لا يقبل الباطل من صديقة، ولا يرد الحق على عدوه) (2) .

إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفوسهم، أو مكنة في الانحراف بهم عن السلوك الصحيح والطريق المستقيم.

الإيمان والهدوء النفسي:

إن الأثر الثاني للإيماني بالله يظهر في الهدوء النفسي. إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الإيمان يقدرون على الاحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم فلا يصابون بأي اضطراب أو قلق تجاهها.

لقد حاصرت الحوادث والمفاجئات الطبيعية في العالم مثل الموت والمرض والزلزال والفيضان، وما شاكل ذلك، البشر من جهة، والإخفاقات وحالات

____________________

(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4|38.

(2) بحار الانوار للعلامة المجلسي ج 15|82.

٣٧١

الفشل والانهيار في الحياة من جهة أخرى... بحيث تلاقي جميع الطبقات الاجتماعية الأمرين من تلك المصائب والويلات.

وكما تخطو البشرية في مجالات المدنية، وتزداد مباهج الحياة يوماً بعد يوم وتفتح العلوم الطبيعية أبواباً جديدة للذة على العالم كلما تتعقد المشاكل الاجتماعية وتتحرك حوافز الحرص والجشع وتثور دوافع حب المال والجاه ويطول الأمل، ويشتد السعي وراء اللذة، وتكثر الرغبات النفسانية. ومن الطبيعي في حاله كهذه، أن تزداد الإخفاقات والانهيارات الروحية ويسود القلق والاضطراب على العام:

مرض القلق:

لقد أدى القلق والاضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى، وهذا المرض المؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء.

فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة. أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر!

والبعض الآخر يلجئون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت، والتخلص من شر القلق الداخلي إلى استعمال المشروبات الروحية والحشيشة، وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم.

أما القسم الآخر فإنهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الإصابة بالأمراض النفسية أو الجنون، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة!

وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الاختيار من يدها، وأقدمت على الانتحار هرباً من القلق والألم، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الاضطرابات.

٣٧٢

لقد اهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام، وألفوا في ذلك الكتب المختلفة، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الإيحاء، والتحليل النفسي، وحل العقد النفسية... إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصلوا إلى نتائج مفيدة... ولكن تلك النتائج ضئيلة، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم.

إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصايا، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب.

الإيمان وعلاج القلق:

هنا يظهر دور الإيمان الكبير في علاج مرض القلق. فإن المؤمنين يستدون إلى الله تعالى في مد الحياة وجزرها، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية، ونفوساً تتحدى التحطيم، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة.

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) . إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود، ذلك هو الله تعالى: ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (2) .

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) قوله (ع): (هي الإيمان بالله وحده لا شريك له) (3) .

كما أن حديثاً آخر يستند هذا الموضوع، ذلك أن الراوي يقول: سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله عَزَّ وجَلَّ: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ

____________________

(1) سورة الأحقاف |13.

(2) سورة الرعد |28.

(3) الكافي ج 2|14.

٣٧٣

الْمُؤْمِنِينَ ) قال: (هو الإيمان). قال: قلت ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ؟ قال: (هو الإيمان). وعن قوله: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) ؟ قال: (هو الإيمان) (1) .

لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي، والارتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة، ولقد قام النبي (ص) والأئمة (ص) والأئمة (ع) بتفسير ذلك كله بالإيمان... فالإيمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب، لم يصب ذلك القلب بقلق أصلاً، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف.

(يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأستاذ الفلسفة في جامعة (هارفرد): إن أشد العقاقير تأثيراً في رفع القلق هو الإيمان بالله والاعتقاد الديني) (2) ، (إن الإيمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الإنسان بمددها، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الإنسانية) (3) .

تشكل القيمة المعنوية للإيمان، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين، فصلاً مستقلاً من فصول علم النفس الحديث في العالم، ذلك أن كثيراً من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الإيمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين!

الإلحاد والقلق:

يعترف العلماء المعاصرون بأن قسماً مهماً من الاضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الإيمان. (في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الانتحار: عملية انتحار واحدة كل (35) دقيقة، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون. وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء

____________________

(1) الكافي ج 2|15.

(2) دع القلق وابدأ الحياة ص 159.

(3) نفس المصدر 155.

٣٧٤

والاطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للإنسان، كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الانتحارات والإصابات بالجنون).

(يقول الدكتور (كارل جونك) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه: لقد راجعني في طي الثلاثين عاماً الأخيرة أناس من جميع الدول المتمدنة في العالم. وقد عالجت مئات المرضى، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم، أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة، لم يوجد بينهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر. ولذا أستطيع القول بكل تأكيد: إن كلاً منهم كان قد تمرّض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لأتباعها، وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفّقوا للعلاج أصلاً) (1) .

إيمان الأنبياء:

إن أجلى مثال للإيمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء. إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جداً، مليئة بالأخطار والمشاكل، وكانوا يتعرّضون للموت في كل لحظة، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق؛ ذلك أنهم كانوا مؤمنين بالله وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه.

ولقد تعلم اتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم فراحوا في ظل إيمانهم بالله أقوياء إلى درجة أنهم لم يتزعزعوا أمام الحوادث والمصائب التي يلاقونها، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب... كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم، في الفقر والغنى، في الموت والمرض... وفي كل الحالات، إلى الله تعالى، متطلّعين إلى رحمته وكرمه.

وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه المرأة المسلمة:

____________________

(1) دع القلق وابدأ الحياة ص 154.

٣٧٥

(خرجت مع صديق لي بالبادية فاضللنا الطريق، فإذا رأينا في يمين الطريق خيمة فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ردت علينا السلام، فقالت: من أنتم؟ قلنا: ضالين قصدناكم لنأنس بكم. فقالت: أديروا وجوهكم حتى أعمل من حقكم شيئاً، ففعلنا، فقالت: أجلسوا حتى يجيء ابني، وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر. فرفعتها مرة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل. وقالت: أما الناقة فناقة ابني، وأما الراكب فليس هو. فلما ورد الراكب عليها قال: يا أم عقيل عظم الله أجرك بسبب عقيل، قالت: ويحك مات عقيل؟ قال: نعم. قالت: بما مات؟ قال: ازدحمته الناقة وألقته في البئر. فقالت له: أنزل وخذ زمام القوم. فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعاماً، فشرعنا في أكل الطعام ونتعجّب من صبرها. فلما فرغنا خرجتْ إلينا وقالت: أيها القوم أفيكم من يحسن في كتاب الله شيئاً؟ قلت: بلى! قالت: اقرأ عليّ آيات أتسلى بها من موت الولد. قلتُ: الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ... *... الْمُهْتَدُونَ ) ، قالت: الله! هذه الآية في كتاب الله هكذا؟ قلت: أي والله، إن هذه الآية في كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم فقامت وصلت ركعات، ثم قالت: اللَّهُم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به) (1) .

أي قوة غير الإيمان بالله قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة؟! أي قدرة غير الاعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب، بهذه الفورية؟!

إحياء الفطرة الأولى:

نعود فنلخّص ما ذكرناه فيما سبق، وهو أن الإيمان بالله إحياء لأولى القوى الفطرية عند الإنسان... إن الإيمان بالله كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي... وهو أعظم ملجأ للإنسان، وأكبر عامل للهدوء النفسي

____________________

(1) لئالي الأخبار ص 305 الطبعة الحديثة.

٣٧٦

واطمئنان الخاطر... وبصورة موجزة، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم.

إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى، ويلقنه درس الإيمان به بلسان ساذج بسيط. إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة اتباعاً لمنهج القرآن الكريم، ويبذر في نفسه بذور الأمل، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم.

يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان، فالله قادر على حل مشاكله وتيسير أموره. فإن رفعنا يد الحاجة نحوه، ساعدنا على مهمتنا.

على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الإنسانية هو جلب رضى الله، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا، عن طريق نبيه العظيم، إن الصدق والأمانة يسبّبان رضى الله، والخيانة تسبّب غضبه.

يجب على المربي أن يوقظ الإحساس بالمسئولية أمام الله في الطفل منذ الطفولة، ويحثه على الشعور بواجبه، وإشعاره بالأسلوب البسيط: أن الله يراقبك في كل حال، ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة، ولا يخفى شيء على الله... إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك.

إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الإيمانية عند الطفل، ويربونه مؤمناً منذ الصغر، فإنهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى.

٣٧٧

٣٧٨

المحاضرة الخامسة عشرة:

التربية في ظل العدل والحرية

قال الله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (1) .

حب الكمال:

من الأمور الفطرية عند الإنسان، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل: غريزة التفوق، وحب الكمال. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل إنسان، وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس، فيسوق الطفل إلى طريق الترقّي والتعالي.

لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الإمام الحسن (ع): أنه دعا بنيه وبني أخيه، فقال: (إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم... فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته) (2) .

وفي هذا الحديث نجد أن الإمام الحسن (عليه السلام)، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم - وهو أمر فطري - من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد.

____________________

(1) سورة آل عمران |159.

(2) بحار الأنوار ج 1|110.

٣٧٩

إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم والتربية في العصر الحديث، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فإن الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب.

التكامل في ظل الحرية:

والنكتة الجديرة بالملاحظة هي أن الإرضاء الصحيح لغريزة حب التفوق والوصول إلى الكمال الحقيقي يمكن أن يتحقق في ظل الحرية والعوامل المساعدة فقط، وبدونها لا يكون نيل الكمال الواقعي ميسراً وبعبارة أوضح: إن الإنسان يستطيع السعي وراء الكمال وإرضاء الميول الباطنية بالنسبة إلى بلوغ طريق التعالي في الصورة التي يكون طريق التقدم مفتوحاً أمامه، ولا تعتاقه العوارض والموانع، فما أكثر الثروات النفسية التي ظلت عاطلة وفاقدة للأثر، لعدم حصولها على العوامل المساعدة، وما أكثر الأشخاص الذين يصطدمون في طريق إحياء استعداداتهم الفطرية بالموانع الطبيعية أو الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية ويقفون عندها محرومين من السير في مدارج الكمال والرقي!

إن زهرة صغيرة إذا لاقت عوامل مساعدة وجواً طليقاً وغذاء كافياً، تتفتح أكمامها ويفوح عطرها... وكذلك تكون الاستعدادات الداخلية عند الإنسان فإنها تزدهر وتنمو في الظروف المساعدة، وتعود عليه بالفوائد العديدة.

إن من أهم شروط التعالي والتكامل للأطفال والكبار هو كون الجو الذي يعيشون فيه حراً، ذلك أنه عندما يكفهر وجه المجتمع بالظلم والتجاوز ويسود الاستبداد والضغط الشديد... وحين يحل اليأس محل الأمل، والظلم محل العدل، والاستهتار والفوضى بدل القانون، والخوف بدل الهدوء... فمن المحتم أن ينقطع السبيل إلى التكامل في ذلك المجتمع.

والذين يعيشون في أمثال هذه المجتمعات لا يقدرون على إخراج استعداداتهم الخفية وذخائرهم المعنوية من مرحلة القوة إلى حيز الوجود

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فقال عليه السلام : هذه ممّا في بيتك ١ .

هذا و قال ابن أبي الحديد : ذمّ عليه السلام أهل البصرة فقال « عائلهم مجفو و غنيهم مدعو و العائل : الفقير » ، و هذا كقول الشاعر :

فإن تملق فأنت لنا عدو

فان تثر فأنت لنا صديق ٢

قلت : كلامه خبط ، فان قوله عليه السلام الجملة صفة « قوم » ، فهو ذمّ لذلك الرجل الذي دعا عثمان ، لأن طعامه لم يكن اللّه ، كما أن الشعر في مقام آخر غير ذمّ أحد ، فإنّه في مقام بيان أنّ الفقير مبغض إلى النّاس طبعا ، حتى أنّه لو كان صديقا يكون عندهم كالعدو و الغني بالعكس ، حتى أنّه لو كان عدوا كان عندهم كالصديق هذا ، و في ( العيون لابن قتيبة ) ، قال عدي بن حاتم لابن له حدث : قم بالباب فامنع من لا تعرف و أذن لمن تعرف فقال : لا و اللّه لا يكون أوّل شي‏ء وليته من أمر الدنيا منع قوم من الطعام ٣ .

« فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم » من قضمت الدابة شعيرها بالكسر « فما اشتبه عليك علمه » هل هو حلال أو حرام « فالفظه » من لفظ الشي‏ء من فمه ،

أي : رماه منه ، و ما رماه لفاظه .

و في ( المروج ) : كان لأنوشروان مائدة من الذهب عظيمة عليها أنواع من الجواهر مكتوب عليها من جوانبها « ليهنه طعامه من أكله من حلّه ، و عاد على ذوي الحاجة من فضله ، ما أكلته ، و أنت تشتهيه ، فقد أكلته ، و ما أكلته ، و أنت لا تشهيه ، فقد أكلك » ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٦ : ٢٧٦ ح ٤ ، و البرقي في المحاسن : ٤١٥ ح ١٦٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٦ .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ١ : ٣٣٥ .

( ٤ ) مروج الذهب ١ : ٢٩٤ .

٤٦١

« و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه » لعدم وجود تبعة فيه . في الخبر ولّى عليه السلام رجلا من ثقيف و قال له : إذا صلّيت الظهر فعد إليّ ، فعدت إليه فلم أجد عنده حاجبا ، فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء ، فدعا بوعاء مشدود مختوم فقلت في نفسي : لقد آمنني حتى أخرج إلي جوهرا ، فكسر الختم و حلّه فإذا فيه سويق ، فأخرج منه فصبّه في القدح و صبّ عليه ماء فشرب و سقاني ،

فلم أصبر أن قلت : أتصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته ؟ فقال :

أما و اللّه ما أختم عليه بخلا به ، و لكني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص ،

فيوضع فيه من غيره ، و أنا أكره أن يدخل بطني إلاّ طيّبا ، و إيّاك و تناول ما لا تعلم حلّه » ١ .

و في الخبر : ما من عبد إلاّ و به ملك يلوي عنقه وقت حدثه حتى ينظر إليه ثم يقول له الملك : يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته و إلى ما صار ،

فينبغي عند ذلك أن يقول : اللّهمّ ارزقني الحلال و جنّبني الحرام ٢ .

« ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به و يستضي‏ء بنور علمه » في ( الإرشاد ) :

خرج عليه السلام ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبانة ، فلحقه جماعة يقفون أثره ، فوقف ثم قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن شيعتك ، فتفرّس في وجوههم ثم قال : ما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة قالوا : و ما سيماء الشيعة ؟ قال :

صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، حدب الظهور من القيام ،

خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، عليهم غبرة الخاشعين ٣ .

و في الخبر قال أبو الصباح الكناني للصادق عليه السلام : يكون بيننا و بين

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه أحمد في الورع و أبو حاتم السجستاني في المعمرين و أبو نعيم في حلية الأولياء ، عنهم ذيل احقاق الحقّ ٨ : ٢٧٨ و ٢٧٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الإرشاد : ١٢٧ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

٤٦٢

الرجل الكلام فيقول : جعفري خبيث فقال عليه السلام : يعيركم النّاس بي ما أقلّ و اللّه من يتّبع جعفرا منكم إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه ، و عمل لخالقه ، و رجا ثوابه .

و قال الكاظم عليه السلام : كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول : ليس من شيعتنا من لا يتحدّث المخدرات بورعه في خدورهن ، و ليس من أوليائنا من هو في قرية عشرة آلاف رجل فيهم خلق للّه أورع منه ١ .

في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن كتاب ابن الغطريف بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال : هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة ٢ .

« ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه » بالكسر ، الثوب الخلق .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام يأكل أكل العبد و يجلس جلسة العبد ، و إنّه كان ليشتري القميصين السنبلانيين ، فيخيّر غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر ،

فإذا جاز أصابعه قطعه ، و إذا جاز كعبيه حذفه ، و لقد ولّي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ، و لا لبنة على لبنة ، و لا أقطع قطيعا و لا أورث بيضاء و لا حمراء ، و ان كان ليطعم النّاس خبز البر و اللحم و ينصرف إلى منزله و يأكل خبز الشعير و الزيت و الخل ٣ .

و في ( ذيل الطبري ) : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، و كان على ثلاثين ألفا من النّاس يخطب في عباءة يفترش نصفها و يلبس نصفها ، و كان إذا خرج

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجهما الكليني في الكافي ٢ : ٧٧ و ٧٩ ح ٦ و ١٥ .

( ٢ ) تذكرة الخواص : ٥٣ .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في أماليه : ٢٣٢ ح ١٤ ، المجلس ٤٧ ، و أبو جعفر الطوسي في أماليه ٢ : ٣٠٣ ، المجلس ٢١ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٣

عطاؤه أمضاه و يأكل من سفيف يده ١ .

« و من طعمه بقرصيه » و أدامه الملح أو اللبن الحامض ، فعن سويد بن غفلة : دخلت على علي عليه السلام فوجدت بين يديه إناء فيه لبن أجد ريح حموضته ،

و في يده رغيف أرى قشير الشعر في وجهه ، و هو يكسره بيده و يطرحه فيه ،

فقال : أدن فأصب من طعامنا ، فقلت : إنّي صائم . فقلت لفضة و هي بقرب منه قائمة ويحك ألا تتقين اللّه في هذا الشيخ بنخل هذا الطعام ؟ قالت : تقدم إلينا ألا ننخل له طعاما . قال : ما قلت لها ؟ فأخبرته فقال : بأبي و امّي من لم ينخل له طعام ، و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيّام حتى قبضه اللّه ٢ و كان عليه السلام يجعل جريش الشعير في وعاء و يختم عليه ، فقيل له في ذلك فقال : أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن ٣ .

في ( رجال الكشي ) : قال أبوذر : من جزى اللّه عنه الدنيا خيرا ، فجزاه اللّه عني مذمة ، بعد رغيفي شعير أتغذّى بأحدهما و أتعشّى بالآخر ، و بعد شملتي صوف اتّزر بإحداهما و أرتدي الاخرى ٤ .

« ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك » إنّما كان يقتدى به في الملبس و المطعم سلمان ، و أبوذر كما مرّ .

و في ( جمل المفيد ) عن الواقدي أنّه عليه السلام في حرب البصرة دعا بدرعه البتراء و لم يلبسها بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ يومئذ فكان بين كتفيه منها متوهيا ،

و جاء و في يده شسع نعل ، فقال له ابن عباس : ما تريد بهذا الشسع ؟ قال : أربط بها ما قد توهّى من هذا الدرع من خلفي . فقال له : أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل : ٥٠ .

( ٢ ) رواه الخوارزمي في مناقبه : ٦٧ . و السروي في مناقبه ٢ : ٩٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) روى هذا ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٦ .

( ٤ ) اختيار معرفة الرجال : ٢٨ ح ٥٤ .

٤٦٤

هذا ؟ فقال عليه السلام : لا تخف أن أوتي من ورائي ، و اللّه يا ابن عباس ما ولّيت في زحف قط ١ .

و في النهج قال ابن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ( عند خروجه إلى الجمل ) و هو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها . فقال عليه السلام : و اللّه لهي أحب إليّ من أمرتكم الخ ٢ .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن الأحنف بن قيس قال : دخلت على معاوية فقدّم إلي من الحلو و الحامض ما كثر تعجّبي منه ، ثم قال : قدّموا ذلك اللون فقدّموا لونا ما أدري ما هو ، فقال : مصارين البط محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السكر . قال : فبكيت فقال :

ما يبكيك ؟ فقلت : للّه درّ ابن أبي طالب ، لقد جاء من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرك . فقال : و كيف ؟ قلت : دخلت عليه ليلة عند افطاره ، فقال لي : قم فتعشّ مع الحسن و الحسين ثم قام إلى الصلاة ، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج منه شعيرا مطحونا ثم ختمه ، فقلت :

لم أعهدك بخيلا يا أمير المؤمنين ، فقال : لم أختمه بخلا و لكن خفت أن يبسّه الحسن أو الحسين بسمن أو اهالة . فقلت : أحرام هو ؟ قال : لا و لكن على أئمة الحقّ أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم حالا في الأكل و اللباس ، و لا يتميّزون عليهم بشي‏ء ، ليراهم الفقير فيرضى عن اللّه تعالى بما هو فيه ، و يراهم الغني فيزداد شكرا و تواضعا ٣ .

« و لكن أعينوني بورع » عن المحارم قال تعالى : إنّما يتقبّل اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الجمل : ١٨٩ .

( ٢ ) نهج البلاغة ١ : ٨٠ ، الخطبة ٣٣ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ١١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٥

من المتّقين ١ و قال نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أفضل الأعمال الورع عن محارمه ٢ .

« و اجتهاد » في الطاعات و العبادات . قال الصادق : كان علي عليه السلام ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النّار ، يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه ٣ .

و كان عليه السلام لا تفوته عبادة حتّى إعانة المرأة و الكسب و غرس الأشجار .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام ما ورد عليه أمران كلاهما رضا للّه إلاّ أخذ بأشدّهما على بدنه ٤ ، و لقد اعتق ألف مملوك من كدّ يده ، تربت فيه يداه ، و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من النّاس ، و إنّه كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة ، و كان أقرب النّاس شبها به حفيده علي بن الحسين عليه السلام و ما أطاق عمله أحد من النّاس بعده .

و قال الحسن عليه السلام صبيحة وفاته كما في ( مقاتل أبي الفرج ) لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، و لا يدركه الآخرون بعمل ، و لقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقيه بنفسه ، و لقد كان يوجّهه برايته ،

فيكتنفه جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه الخبر ٥ .

و روي عنه عليه السلام أنّه قال : ما تركت صوم شعبان بعد ما سمعت منادي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّ شعبان شهري ، فأعينوني على صيامه ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٢٧ .

( ٢ ) روى هذا المعنى بألفاظ مختلفة المجلسي في البحار ٧٠ : ٢٩٦ ، باب ٥٧ ، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال ١ : ٢٥٤ و ٢٥٥ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٣ . عن الباقر عليه السلام و ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ عن الصادق عليه السلام .

( ٥ ) مقاتل الطالبيين : ٣٢ .

( ٦ ) رواه الطوسي في المصباح : ٧٥٧ ، و ابن طاووس في الاقبال ، عنه البحار ٩٧ : ٧٩ ح ٤٤ ، و النقل بالمعنى .

٤٦٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و كان عليه السلام يرد بيته بعد الظهر ، فإن كان طعام أتى عليه السلام به و إلاّ كان ينوي الصيام .

و ورد في إنفاقه عليه السلام آيات الذين ينفقون أموالهم بالليل و النّهار سرّا و علانية فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ١ و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ٢ و يطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً و يتيماً و أسيراً . إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً و لا شُكوراً . إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً . فوقاهم اللّه شرّ ذلك اليوم و لقّاهم نظرة و سروراً . و جزاهم بما صبروا جنّة و حريراً إلى قوله تعالى : إن هذا كان لكم جزاءً و كان سعيكم مشكوراً ٣ .

و في الخبر : كان علي عليه السلام يمشي في الأسواق وحده و هو وال يرشد الضّالّ و يعين الضعيف ، و يمرّ بالبقال و البيّاع فيفتح عليه ، و يتلو : تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتّقين ٤ و يقول نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة ٥ .

و جاء في الأثر : كان علي عليه السلام يحتطب ، و يستسقي ، و يكنس ، و كانت فاطمة عليها السلام تطحن و تعجن و تخبز ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢٧٤ .

( ٢ ) الحشر : ٩ .

( ٣ ) الانسان : ٨ : ٢٢ .

( ٤ ) القصص : ٨٣ .

( ٥ ) رواه الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ٢٦٩ ، و السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

( ٦ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

٤٦٧

و في الخبر أنّه عليه السلام غرس مائة ألف نخلة ١ .

« و عفّة » قال رجل للباقر عليه السلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، و لكنّي أرجو ألاّ آكل إلاّ حلالا ، فقال عليه السلام له : أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن و فرج ٢ .

« و سداد » بالفتح إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون . نحن أوليائكم في الحياة الدّنيا و في الآخرة ، و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون ٣ .

« فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا » التبر : الذهب غير المضروب ، فإذا ضرب فهو عين .

في ( الكافي ) : قال عبد الأعلى مولى آل سام لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ النّاس يرون أنّ لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسوؤني ذلك إنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ ذات يوم على ناس شتى من قريش و عليه قميص مخرّق ، فقالوا : أصبح علي لا مال له ، فسمعها عليه السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره و لا يبعث إلى انسان شيئا و أن يوفّره ، ثم قال له بع الأوّل فالأوّل و اجعلها دراهم ثمّ اجعلها حيث يجعل التّمر ، فاكبسه معه حيث لا يرى ، و قال للذي يقوم عليه إذا دعوت بالتّمر فاصعد و انظر المال فاضربه برجلك كأنّك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ، ثم بعث إلى رجل منهم يدعوهم ، ثم دعا بالتمر ، فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله فانتشرت الدراهم فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : هذا مال من لا مال له ثمّ أمر بذلك المال فقال : انظروا كلّ أهل بيت ابعث إليهم ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الكليني في الكافي ٥ : ٧٤ ح ٦ .

( ٢ ) رواه الكليني في الكافي ٢ : ٧٩ ح ٤ .

( ٣ ) فصلت : ٣٠ ٣١ .

٤٦٨

فانظروا ماله ، و ابعثوا له ١ .

« و لا ادّخرت من غنائمها وفرا » أي : مالا كثيرا كالنّاس .

في ( المروج ) : بنى عثمان داره في المدينة و شيّدها بالحجر و الكلس ،

و جعل أبوابها من الساج و العرعر ، و اقتنى اموالا و جنانا و عيونا بالمدينة ،

و كان عند خازنه يوم قتل من المال خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم ، و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائة ألف دينار ، و خلّف خيلا كثيرا و إبلا و بلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، و خلّف ألف فرس و ألف عبد و ألف أمة و خططا في البصرة و الكوفة و مصر و الاسكندرية و داره بالبصرة المعروفة به في هذا الوقت سنة ( ٣٣٢ ) تنزلها التّجار ، و أرباب الأموال ، و أصحاب الجهات من البحرين و غيرهم .

و كذلك طلحة داره بالكوفة المشهورة به في هذا الوقت المعروفة بالكناس بدار الطلحيين ، و كانت غلته من العراق كلّ يوم ألف دينار و قيل أكثر ،

و بناحيته سراة أكثر ، و شيّد داره بالمدينة و بناها بالآجر و الجصّ و الساج .

و كذلك عبد الرحمن بن عوف ابتنى داره و وسّعها و كان على مربطه مائة فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم ، و بلغ ربع ثمن ماله أربعة و ثمانين ألفا .

و ذكر سعيد بن المسيّب ، أن زيد بن ثابت خلّف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الأموال و الضياع بقيمة مائة ألف دينار .

و مات يعلى بن اميّة و خلف خمسمائة ألف دينار ، و ديونا على النّاس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٦ : ٤٣٩ ح ٨ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٩

و عقارات و غيرها ما قيمته مائة ألف دينار ١ .

في ( جمل المفيد ) : روى الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حريز الأسود قال : لما قدم طلحة و الزبير البصرة أرسلا إلى أناس من أهل البصرة أنا فيهم ، فدخلنا بيت المال معهما ، فلما رأيا ما فيه من الأموال قالا : هذا ما وعدنا اللّه و رسوله وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه و قالا : نحن أحقّ بهذا المال من كلّ أحد إلى أن قال بعد ظفره عليه السلام دعانا علي عليه السلام فدخلنا معه بيت المال ، فلما رأى ما فيه ضرب إحدى يديه على الاخرى و قال : غري غيري و قسّمه بين أصحابه خمسمائة خمسمائة بالسوية حتى لم يبق إلاّ خمسمائة درهم و عزلها لنفسه ، جاءه رجل و قال : إنّ اسمي سقط من كتابك ، فقال عليه السلام : ردّوها عليه . ثم قال : الحمد للّه الذي لم يصل إليّ من هذا المال شيئا و وفّره على المسلمين .

و فيه روى أبو مخنف عن رجاله قال : لمّا أراد علي عليه السلام التوجّه إلى الكوفة قام في أهل البصرة ، فقال : ما تنقمون علي يا أهل البصرة و اللّه إنّهما و أشار إلى قميصه و ردائه لمن غزل أهلي ، و ما تنقمون مني يا أهل البصرة و اللّه ما هي و أشار إلى صرّة في يده فيها نفقته إلاّ من غلّتي بالمدينة ، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر ممّا ترون فأنا عند اللّه من الخائنين ٢ .

« و لا أعددت لبالي » أي : اندراس « ثوبي طمرا » . و في الخبر أنّه عليه السلام كان يغسل ثوبه و يلبسه و يجفّه على بدنه لعدم وجود عوض له « و لا حزت من أرضها شبرا و لا أخذت منه إلاّ كقوت اتان » انثى الحمار « دبره » من « دبر البعير و أدبره القتب » .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٣٣٢ و ٣٣٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الجمل : ٢١٤ و ٢٢٤ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٧٠

« و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة » من « طعام عفص » فيه تقبض « مقره » من « مقر الشي‏ء » صار مرّا ، و ليس في ( ابن ميثم ) قوله « و لا حزت » إلى هنا و انما هو في ابن أبي الحديد أخذته ( المصرية ) عنه ، لكن ، ليس فيه « أوهى و أهون » معا ، و الظاهر أنّها رأتهما بالنسخة البدليّة فجمعت بينهما ١ .

قوله عليه السلام « و إنّما هي نفسي اروضها » من رضت المهر أروضه رياضا و رياضة ، أو من روّضته للمبالغة « بالتقوى » . في الخبر : بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة ، فلمّا رجعوا قال : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، و بقي عليهم الجهاد الأكبر . قيل له : و ما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس ، أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه ٢ .

و في ( الحلية ) ، في سفيان بن عيينة : عن عاصم بن كليب عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام قسّم ما في بيت المال على سبعة أسباع ، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر ، ثمّ دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم و عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه قال : رأيت الغنم تبعر في بيت مال علي عليه السلام فيقسّمه .

و عن الأعمش عن رجل : إنّ عليّا عليه السلام كان إذا قسّم ما في بيت المال نضحه ثمّ صلّى فيه ركعتين ٣ .

« لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر و تثبت على جوانب المزلق » مزلق الأقدام يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ٤ ، الذين آمنوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٧ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٩٩ .

( ٢ ) هذا تلفيق حديثين أخرجهما الصدوق في أماليه : ٣٧٧ ح ٨ ، المجلس ٧١ ، و في معاني الأخبار : ١٦٠ ح ١ ، و ابن الأشعث في الاشعثيات : ٧٨ ، و أخرج الأوّل الكليني في الكافي ٥ : ١٢ ح ٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٧ : ٣٠٠ .

( ٤ ) الشعراء : ٨٨ ٨٩ .

٤٧١

و لم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن و هم مهتدون ١ و إن منكم إلاّ واردها كان على ربّك حتما مقضيّاً . ثمّ ننجي الذين اتّقوا و نذر الظّالمين فيها جثيّاً ٢ تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقيّا ٣ .

و في الخبر : على الصراط قنطرة ، لا يجوزها من كان في رقبته مظلمة ٤ .

ورد في تفسير قوله تعالى : إنّ ربّك لبالمرصاد ٥ لا تدع النفس و هواها ، فإن هواها في رداها ، و كفّ النفس عمّا يهوى دواها .

هذا ، و نظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس ، فقيل له في ذلك ،

فقال : ليطول وقوفي في الظل .

أهين لهم نفسي لأكرمها بهم

و من يكرم النّفس التي لا تهينها

« و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل » . في ( المروج ) :

استسقى عليه السلام يوم الجمل فأتي بعسل و ماء ، فحسا منه حسوة و قال :

هذا الطائفي ، و هو غريب بهذا البلد ، فقال له عبد اللّه بن جعفر : أما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا ؟ قال : انّه و اللّه يا بنيّ ما ملأ صدر عمّك شي‏ء قط من أمر الدّنيا ٦ .

« و لباب » بالضم اللب ضدّ القشر ، قال :

أ ليس بذي المكارم في قريش

إذا عدّت ، و ذي الحسب اللباب ٧

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الانعام : ٨٢ .

( ٢ ) مريم : ٧١ .

( ٣ ) مريم : ٦٣ .

( ٤ ) أخرجه الكليني في الكافي ٢ : ٣٣١ ح ٢ ، و غيره و النقل بتصرف يسير .

( ٥ ) الفجر : ١٤ .

( ٦ ) مروج الذهب ٢ : ٣٦٨ .

( ٧ ) أورده أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

٤٧٢

« هذا القمح » أي : البّرّ ، و في حديث الحسن البصري « لباب البرّ بلعاب النحل » ١ .

هذا ، و في ( النفحة ) : أرسل سنّيّ إلى شيعيّ شيئا من الحنطة و كانت عتيقة فردّها عليه ، ثم أرسل إليه عوضها جديدة لكن فيها تراب ، فكتب إليه بعد قبولها :

بعثت لنا بدال البرّ برّا

رجاء للجزيل من الثواب

رفضناه عتيقا و ارتضينا

به إذ جاء و هو أبو تراب

و لا يخفى ما فيه من النكات اللطيفة ، جمعه بين الرفض دلالة على تشيعه ، و تركه العتيق و هو لقب أبي بكر ، و المرتضى لقب أمير المؤمنين ،

و أبي تراب كنيته عليه السلام .

« و نسائج » جمع نسيج ، أي : منسوجات « هذا القز » أي : الإبريسم .

و كان يقال لعمرو بن عامر من ملوك اليمن « مزيقياء » ، لأنّه كان يلبس كلّ يوم حلّتين ، فيمزّقهما بالعشي ، و يكره أن يعود فيهما ، و يأنف أن يلبسهما غيره .

قال ابن أبي الحديد : روى بدل قوله عليه السلام « و لو شئت إلى هذا القز » « و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفّى و لباب هذا البرّ المنقّى ، فضربت هذا بذاك حتّى ينضح وقودا و يستحكم معقودا » ٢ .

قلت : و روى ابن بابويه في ( أماليه ) : « و لو شئت لتسربلت بالعبقريّ المنقوش من ديباجكم ، و لأكلت لباب هذا البرّ بصدور دجاجكم ، و لشربت الماء الزلال برقيق زجاجكم ، و لكنّي أصدّق اللّه جلّت عظمته حيث يقول : من

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٧ .

٤٧٣

كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار ١ ، فكيف أستطيع الصبر على نار لو قذفت بشرره إلى الأرض لأحرقت نبتها ، و لو اعتصمت نفس بقلّة لأنضجها وهج النّار في قلّتها » ٢ .

« و لكن هيهات » أي : بعد « أن يغلبني هواي » و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النّفس عن الهوى . فإنّ الجنّة هي المأوى ٣ .

« و يقودني جشعي » الجشع : شدّة الحرص على الطعام ، قال :

و إن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذا عجل القوم أجشع

« إلى تخيّر الأطعمة » قالوا : من كان همّه ما يدخل في بطنه ، كانت قيمته ما يخرج من بطنه .

« و لعلّ بالحجاز » في ( المعجم ) عن الأصمعي : الحجاز : من تخوم صنعاء من العبلاء و تبالة إلى تخوم الشام ، و انما سمّي حجازا لأنه حجز بين تهامة و نجد ، فمكّة تهاميّة ، و المدينة حجازية ، و الطائف حجازيّة ، و عن هشام الحجاز ما بين جبلي طي إلى طريق العراق لمن يريد مكّة ٤ .

و في ( الصحاح ) : سمّيت بذلك لأنّها حجزت بين نجد و الغور ، و قال الأصمعي لأنّها احتجزت بالحرار الخمس منها حرّة بني سليم و حرّة واقم ،

يقال : احتجز بأزار ، أي : شدّه على وسطه ٥ .

« أو اليمامة » في ( المعجم ) : في السير اليمامة كانت منازل طسم و جديس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هود : ١٥ و ١٦ .

( ٢ ) أمالي الصدوق : ٤٩٦ ، المجلس ٩٠ .

( ٣ ) النازعات : ٤٠ و ٤١ .

( ٤ ) معجم البلدان ٢ : ٢١٩ .

( ٥ ) صحاح اللغة ٢ : ٨٦٩ ، مادة ( حجز ) .

٤٧٤

و كانت تدعى جوا ١ .

و في ( الصحاح ) : اليمامة : اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، يقال أبصر من زرقاء اليمامة ،

سمّيت البلاد باسم هذه الجارية ٢ .

« من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع » في ( عيون القتيبي ) : قيل ليوسف عليه السلام مالك تجوع و أنت على خزائن الأرض ؟ قال : أخاف أن أشبع فأنسى الجائع ٣ .

« أو أبيت مبطانا » ممتلأ البطن « و حولي بطون غرثى » أي : جائعة . قال بعضهم :

يملّى‏ء بطنه و الجار جائع

و يحفظ ماله و العرض ضائع

« و أكباد حرّى » أي : عطشى . كتب المأمون إلى الرستمي و قد تظلّم منه غريم ليس من المروة أن تكون أوانيك من الذهب و الفضة ، و جارك طاو و غريمك عاو .

و لدعبل :

و ضيف عمرو و عمرو يسهران معا

عمرو لبطنته و الضيف للجوع

و للصابي :

و شبع الفتى لؤم

إذا جاع صاحبه

و في ( عقاب الأعمال ) عن السجاد عليه السلام : من بات شبعان و بحضرته مؤمن جائع طاو ، قال اللّه عزّ و جلّ : ملائكتي أشهدكم على هذا العبد إنّني أمرته

ــــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان ٥ : ٤٤٢ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٥ : ٢٠٦٥ ، مادة ( يم ) .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ٢ : ٣٧٤ .

٤٧٥

فعصاني ، و أطاع غيري ، وكلته إلى عمله ، و عزّتي و جلالي لا غفرت له أبدا ١ .

« أو أكون كما قال القائل :

و حسبك داء أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القد »

القدّ بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ، و فلان ما يعرف القد من القد ،

أي : مسك السخلة من السير ، و في الجمهرة قدّ الشي‏ء قدّا إذا قطعه قطعا مستطيلا ، و به سمّي القد الذي يقد من الأديم الفطير ، و القدّ ( بفتح القاف ) خلاف القط ، لأن القد طولا و القط عرضا ، و في الحديث « إنّ عليّا عليه السلام كان إذا اعتلى قدّ و إذا اعترض قط » ، و القد ( بكسر القاف ) سيور تقد من جلد فطير يشد بها الأقتاب و المحامل و غيرها ٢ .

قال ابن أبي الحديد : هذا البيت منسوب إلى حاتم الطائي ، و أوّل أبياته :

أيا ابنة عبد اللّه و ابنة مالك

و يا ابنة ذي الجدّين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

قصيّا بعيدا أو قريبا فإنّني

أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ

و إنّي لعبد الضيف ما دام نازلا

و ما من خلالي غيرها شيمة العبد ٣

قلت : لم يذكر مستنده في كون الأبيات لحاتم ، و قد نسب المبرد في ( كامله ) الأبيات الثلاثة الاولى و الأخير إلى قيس بن عاصم المنقري ، و لم ينقل فيها الرابع شعر كلامه عليه السلام . و نقل ابن قتيبة في ( عيونه ) أيضا الأبيات الثلاثة الاولى و ذكر بدل الأخيرين :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) عقاب الأعمال : ٢٩٨ ح ١ .

( ٢ ) جمهرة اللغة ١ : ٨٥ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٨ .

٤٧٦

و كيف يسيغ المرء زادا و جاره

خفيف المعى بادي الخصاصة و الجهد

و للموت خير من زيارة باخل

يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

و لم يذكر قائلها ١ ، فلعلّ ابن أبي الحديد قال منسوب إلى حاتم حدسا لشهرته في الجود و الإيثار ، فكان يتجوّع و يشبع جاره ففي ( شعراء ابن قتيبة ) : قالت نوّار امرأة حاتم : أصابتنا سنة أقشعرّت لها الأرض و اغبرّت الآفاق ، فضنّت المراضع عن أولادها فما تبض بطرة و راحت الإبل حدبا حدابيس ، و حلقت ألسنة المال و أيقنا انّه الهلاك من الجوع ،

فقام حاتم إلى الصبيّين و قمت إلى الصبيّة ، فو اللّه ما سكتوا إلاّ بعد هدأة من الليل ، و أقبل يعلّلني بالحديث فعلمت الذي يريد فتناومت ، فلما تجوّرت النجوم إذا شي‏ء قد رفع كسر البيت ، فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد في آخر الليل ، فقال : من هذا ؟ فقال : جارتك فلانة أتتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع فما أجد معولا إلاّ عليك أبا عدي . فقال :

أعجيلهم قد أشبعك اللّه و إيّاهم . فأقبلت المرأة تحمل اثنين و تمشي جنباتها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه ، فوجا لبته بمدية ثم كشطه و دفع المدية إلى المرأة فقال : شأنك الآن فاجتمعوا على اللحم ، فقال : سوأة أتأكلون دون الصريم ، ثم أقبل يأتيهم بيتا بيتا ، و يقول : هبّوا أيها القوم عليكم بالنّار ، فاجتمعوا فالتفع ناحية بثوبه ينظر إلينا ، و لا و اللّه ما ذاق منه مضغة و انّه لأحوج إليه منّا فأصبحنا و ما على الأرض إلاّ عظم و حافر ، فعذلته على ذلك فقال :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كامل المبرد ٥ : ١٤٤ ، و عيون ابن قتيبة ٣ : ٢٦٣ .

٤٧٧

مهلا نوّار أقلّي اللوم و العذلا

و لا تقولي لشي‏ء فات ما فعلا

و فيه أيضا : أتى حاتم ماوية بنت عفرز يخطبها ، فوجد عندها النابغة الذبياني و رجلا من نبيت يخطبانها ، فقالت : انقبلوا إلى رحالكم ، و ليقل كلّ واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله و منصبه ، فإنّي متزوّجة أكرمكم و أشعركم ،

فانطلقوا و نحر كلّ واحد منهم جزورا و لبست ماوية ثياب امة لها و اتبعتهم ،

فأتت النبيتي فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته ، و أتت النابغة فأطعمها مثل ذلك ، و أتت حاتما فأطعمها عظما من العجز و قطعة من السنام و قطعة من الحارك أي الكاهل فانصرفت ، و أهدى كلّ منهم باقي جزوره و أهدى لها حاتم مثل ما أهدى إلى واحدة من جاراته ، و صبّحها القوم فأنشدها النابغة :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

إذا الدّخان تغشى الأشمط البرما

إنّي أتمم أيساري و أمنحهم

مثنى الأيادي و أكسوا الجفنة الأدما

و أنشدها النبيتي :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

عند الشتاء إذا ما هبت الريح

إذا اللقاح غدت ملقى اصرتها

و لا كريم من الولدان مصبوح

و أنشدها حاتم :

أ ماوي ، إنّ المال غاد و رائح

و يبقى من المال الأحاديث و الذكر

أ ماوي ، إنّي لا أقول لسائل

إذا جاء يوما حل في مالنا نزر

أ ماوي إمّا مانع فمبين

و إمّا عطاء لا ينهنهه الزجر

أ ماوي ، أن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا ماء لدي و لا خمر

ترى ان ما انفقت لم يك ضرّني

و إنّ يدي ممّا بخلت به صفر

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما

أراد ثراء المال كان له وفر

فلمّا فرغوا من إنشادهم ، دعت بالمائدة و قدّمت إلى كلّ واحد

٤٧٨

منهم ما كان أطعمها ، فنكس النبيتي و النابغة رؤوسهما ، فلما رأى حاتم ذلك رمى بالذي قدّم إليه إليهما و أطعمهما ، فتسلّلا لو اذا ، فتزوّجت حاتم و كانت من بنات ملوك اليمن ١ .

و في ( المروج ) : قال عبد الملك لبنيه : أحسابكم أحسابكم صونوها ببذل أموالكم ، فما يبالي رجل منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملآ بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا ٢

و في ( كنايات الثعالبي ) : كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا قعدوا عنده كأنّ على رؤوسهم الطير ، فانبرى يوما حسّان فأنشده قول الأعشى :

كلا أبويكم كان فرعي دعامة

و لكنّهم زادوا او أصبحت ناقصا

تبيتون في المشتى ملا بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا تنشد هجاء علقمة ، فإن أبا سفيان شغب منّي عند هرقل فعزب عليه علقمة ، فقال حسّان : يا رسول اللّه ، من نالتك يده وجب علينا شكره . فما سمع في الكناية عن الوقيعة بأحسن من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « شغب مني » و لا في الكناية عن الإنكار و الاحتجاج كقوله « فعزب عليه » و لا في الاعتذار كقول حسان « من نالتك يده » الخ ٣ .

هذا ، و في ( الأغاني ) : قال متمم بن نويرة لعمر لمّا سأله عن أخيه مالك : إنّه أسرني حيّ من العرب ، فشدّوني وثاقا بالقد و ألقوني بفنائهم ،

فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم و هم جلوس في ناديهم ،

فلما نظر إليّ أعرض عنّي ، و نظر القوم إليه فعدل إليهم و عرفت ما أراد ، فسلّم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء : ٧١ ٧٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ١٦٦ .

( ٣ ) منتخب النهاية في الكناية : ٢٠٩ .

٤٧٩

عليهم و حادثهم و ضاحكهم و أنشدهم ، فو اللّه ، إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا و حضر غداءهم ، فسألوه ليتغدّى معهم فنزل و أكل ثم نظر إليّ و قال :

إنّه لقبيح بنا أن نأكل و رجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا ، و أمسك يده عن الطعام ، فلما رأى ذلك القوم نهضوا ، و صبّوا الماء على قدّي حتى لان و حلّوني ،

ثم جاءوا بي فأجلسوني معهم على الغداء ، فلمّا أكلنا قال لهم : أما ترون ، تحرم هذا بنا و أكل معنا انّه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد فخلوا سبيلي ١ .

و فيه : مرّ فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب و هو منتبذ بناحية المدينة ، فنزل به ، فلم يقره شيئا و لم يبعث إليه و لا إلى أصحابه بشي‏ء .

و قد عرّفوه مكانهم ، فارتحلوا عنه و التفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له : قل له ، أما و اللّه لأطوقنّك طوقا لا يبلى . و قال :

ألا أيّها الباغي القرى لست واجدا

قراك إذا ما بتّ في دار عاصم

إذا جئته تبغي القرى بات نائما

بطينا و أمسى ضيفه غير نائم ٢

و روي في ( الحلية ) : أن أويس القرني كان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطعام و الثياب ، ثم يقول : اللّهمّ من مات جوعا فلا تؤاخذني به ،

و من مات عريانا فلا تؤاخذني به ٣ .

هذا ، و روي أنّ علي بن الحسين عليه السلام قال لمولاة له يوم جمعة : لا يعبر على بابي سائل إلاّ أعطيتموه ، فإن اليوم الجمعة . فقال له أبو حمزة الثمالي :

ليس كلّ من يسأل مستحقّا ، فقال عليه السلام : أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقّا فلا نطعمه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب ، إنّ يعقوب كان يذبح

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الأغاني ١٥ : ٢١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الأغاني ١٢ : ٧٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٢ : ٨٧ .

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601