العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام25%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103860 / تحميل: 5997
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

« بلى نصلّي بصلاتك ».

وائتمّ الجيش بريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسينعليه‌السلام خطاباً رائعاً، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:

«أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فان أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ».

لقد دعاهم إلى تقوى الله، ومعرفة أهل الحقّ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لأنفسهم، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيتعليهم‌السلام روّاد الشرف والفضيلة، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله، وإذا لم يستجيبوا لذلك، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.

وانبرى إليه الحرّ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام فقال له:

« ما هذه الكتب التي تذكرها؟ ».

فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ، فبهر منها، وجعل يتأمّل فيها، وقال للإمام:

« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ».

١٦١

ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ، وقال له:

« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد ».

ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية، فثار في وجه الحرّ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك ».

وأمر الإمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك، فصاح به الحسين:

« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟ ».

واطرق الحرّ برأسه إلى الأرض، وتأمّل، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:

« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه ».

وسكن غضب الامام، وأعاد عليه القول:

« ما تريد منّا ..؟ ».

« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد ».

« والله لا أتبعك ».

« إذن والله لا أدعك ».

وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده، فقال للإمام:

« إنّي لم أُؤمر بقتالك، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».

١٦٢

واتفقا على هذا الأمر فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسية، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.

خطاب الإمام:

وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:

« أيّها الناس: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » ..

« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممن غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني، ولا تخذلوني، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكن فيَّ أسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم ».

وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على

١٦٣

حكومة يزيد، وانّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصية الخاصة، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله، وينكث عهده، ويخالف سنّة رسوله، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره، كما ندّدعليه‌السلام بالأمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا حدود الله، والإمامعليه‌السلام أحقّ وأولى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون، ولما أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:

« أنّي أذكرك الله في نفسك، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ».

وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:

« أبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول: كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أين تذهب، فانّك مقتول، فقال له:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً

ووآس الرجال الصالحين بنفسه

وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

١٦٤

ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويين وجورهم:

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ:

وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء، وهي تارة تتيامن، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية، ويدفعونه تجاه الكوفة، والركب يمتنع عليهم، وبينما هم كذلك، وإذا براكب يجدّ في سيره، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ، فسلّم الخبيث على الحرّ، ولم يسلّم على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:

« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن، ولا على غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام ».

وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الإمام، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث، وانقلاب الأوضاع إليه ان وصل الإمام إلى الكوفة، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.

وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء، فامتنع عليه الحرّ لأن نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الإمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ، فامتنع عليه الإمام، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.

١٦٥

في كربلاء

وكان ركب الإمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:

«ما اسم هذا المكان ؟ ».

«كربلاء ».

وفاضت عيناه بالدموع، وراح يقول:

«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ».

وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً:

«هذا موضع كرب وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا ».

وسارع أبو الفضل العباس مع الفتية من أهل البيتعليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي، ومخدرات النبوة، وقد خيّم عليهنّ الرعب، وأيقن بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض.

ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً:

«اللهمّ انّا عترة نبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخرجنا، وطردنا، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين ».

١٦٦

وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه، فقال لهم:

«الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون ».

يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا، وعبيد السلطة، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.

ثم حمد الامامعليه‌السلام الله وأثنى عليه، والتفت إلى أصحابه قائلاً:

«أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت، وتنكّرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (١) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما »(٢) .

لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن

__________________

(١) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.

(٢) حياة الإمام الحسين ٣: ٩٨.

١٦٧

القين وهو من أفذاذ الأحرار فقال له:

« سمعنا يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ».

ومثلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتفاني في سبيله، وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير الذي وهب حياته لله، فقال له:

يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة ».

ولا يوجد في البشرية مثل هذا الإيمان الخالص، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله.

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه، فقال:

« أنت تعلم أن جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقدر أن يشرب الناس محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل، حتى قبضه الله إليه، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه، فسر بنا راشداً معافى، مشرقاً، ان شئت أو مغرباً، فوالله ما اشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا،

١٦٨

وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك »(١) .

دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع، وإدراكه العميق للأحداث ودراسته لأبعادها فقد أعرب أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الإسلام على ألسنتهم، وكانوا يبغون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون، وحال الإمام الحسينعليه‌السلام كحال جدّه وأبيه، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم.

وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني، وقد شكرهم الامام، وأثنى عليهم، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.

خروج الجيوش لحرب الإمام الحسين:

وتمّت أحلام ابن مرجانة، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة، وتصفح الأرجاس من أذنابه

__________________

(١) مقتل المقرم: ٢٣١.

١٦٩

وعملائه، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.

وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك، وزحف إلى كربلاء، ومعه أربعة آلاف فارس، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم خيرة من في الأرض، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.

خطبة ابن زياد:

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة، وقد امتلأ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:

« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا أمير المؤمنين يزيد، قد عرفتموه حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً إلى الرعية، يعطي العطاء في حقّه، وقد أمنت السبل على عهده، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد، ويغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة، وأمرني أن أقّرؤها عليكم، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا »(١) .

لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها، ويتهالكون عليها، ويقدمون

__________________

(١) الطبري ٦: ٢٣٠.

١٧٠

أرواحهم بسخاء في سبيلها، وهي المادة التي هاموا بحبها، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.

واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.

احتلال الفرات:

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس، وقد صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم من خيرة ما خلق الله.

ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(١) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب، فكان يسمع صراخ أطفاله، وهم ينادون: العطش، العطش، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب، فقد ذبلت شفاه أطفاله، وذوي عودهم، وجفّ لبن المراضع، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:

وذئاب الشرور تنعم بالماء

وأهـل النبيّ من غير ماء

يالظلم الأقدار يظمأ قلب الليث

والليث موثق الأعضاء

وصغار الحسين يبكون في الصحراء

يا ربّ أين غوث القضاء

_________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ٨٩.

١٧١

لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم، فتنكّروا لإنسانيتهم، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال فالناس فيه جميعاً شركاء، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلامية، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان، ولكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك، فحرم الماء على آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:

« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات، والله لا تذوقه أو تموت دونه »(١) .

واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً:

« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب، وتشرب فيه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم »(٢) .

وكان هذا الوغد الأثيم ممن كاتب الإمام الحسينعليه‌السلام بالقدوم إلى الكوفة.

وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته، قائلاً:

« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ١٨٢، تأريخ ابن الأثير ٤: ٢٣٦.

١٧٢

حتى تموت عطشاً ».

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:

«اللهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً »(١) .

لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.

سقاية العباس لأهل البيت:

والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء، وأخذه بالقوة، وقد صحب معه ثلاثين فارساً، وعشرين راجلاً، وحملوا معهم عشرين قربة، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:

« ما جاء بك؟ ».

« جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه ».

« اشرب هنيئاً ».

« أفأشرب والحسين عطشان، ومن ترى من أصحابه؟. ».

« لا سبيل إلى سقي هؤلاء، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء ».

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي: ٨٦.

١٧٣

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام، وسخروا من كلامه، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل، ونافع بن هلال، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل، وقد ملأوا قربهم من الماء.

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت، وانقذهم من الظمأ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقاء ) وهو من أشهر ألقابه، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده(١) .

أمان الشمر للعباس وأخوته:

وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وأخوته الممجّدين، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم، ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار، وبذلك يضعف جيش الإمام، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب، وقد وقف أمام جيش الحسين، وهتف منادياً:

« أين بنو أختنا العباس واخوته؟ ».

وهبّت الفتية كالأسود، فقالوا له:

« ما تريد يابن ذي الجوشن؟ ».

فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:

« لكم الأمان ».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

١٧٤

وصاحوا به، وهم يتميّزون من الغيظ، فقد لذعهم قوله:

« لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أمان له »(١) .

وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الأماجد اخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان، ولم يعلم أن أخوة الحسينعليه‌السلام من أفذاذ الدنيا، الذين صاغوا الكرامة الإنسانية، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان.

زحف الجيوش لحرب الحسين:

وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال، وتدافعهم نحو أخيها، فانبرت إليه فزعة مرعوبه، فايقظته، فرفع الإمام رأسه فرأى أخته مذهولة، فقال لها بعزم وثبات:

«إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، فقال: إنك تروح إلينا ».

وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات، وانهارت قواها، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها، وراحت تقول:

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٥

« يا ويلتاه »(١) .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:

« أتاك القوم ».

وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:

«اركب بنفسي أنت يا أخي، حتى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم، وما تريدون؟ ».

لقد فدى الإمامعليه‌السلام اخاه بنفسه، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته، وعظيم منزلته، وانه قد بلغ قمّة الإيمان، وأعلى مراتب المتقين وأسرع أبو الفضل نحو الجيش، ومعه عشرون فارساً من أصحابه، ومن بينهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم، فقالوا له:

« جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه، أو نناجزكم »(٢) .

وقفل العباس إلى أخيه، فأخبره بمقالتهم، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:

« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ، وعلى رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قتلوا ذريته، وأهل بيته، المتهجّدين بالاَسحار، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار، وشيعته الأتقياء الأبرار »(٣) .

وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٤.

(٢) البداية والنهاية ٨: ١٧٧.

(٣) حياة الإمام الحسين ٣: ١٧٢.

١٧٦

« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك ».

وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له: « أتق الله يا بن قيس، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة، عترة خيرة الأنبياء ».

فأجابه عزرة:

« كنت عندنا عثمانياً فما بالك، ».

فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان:

« والله ما كتبت إلى الحسين، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولكن الطريق جمعني وإياه، فلما رأيته ذكرت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت ما تقدمون من غدركم، ونكثكم، وسبيلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة لأنّه كان عثماني الهوى، ولكنه حينما التقى بالإمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب، وصار من أنصار الإمام، ومن أكثرهم مودّة وحباً له، لأن الإمام من ألصق الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه، فقال له:

«ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة، وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٧

وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار ... ».

لقد أراد ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.

ورجع أبو الفضلعليه‌السلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.

ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والإحجام عن إجابة الإمام قائلاً:

« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه »(١) .

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان، وأيّد ابن الأشعث مقالته، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً:

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٧٨

« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم »(١) .

وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه.

الإمام يأذن لأصحابه بمفارقته:

وجمع ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:

« أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فان

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣: ١٦٥.

١٧٩

القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري »(١) .

وتمثّلت روعة الإيمان، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الأحرار، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام، فيتخذونه ستراً دون كل عين، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.

جواب أهل البيت:

ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً، وهم يعلنون ولاءهم له، وتضحيتهم في سبيله، وقد مثلهم أبو الفضل العباسعليه‌السلام فخاطب الإمام قائلاً:

« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً ».

والتفت الإمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل، فقال لهم:

« حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد اذنت لكم ».

وهبّت فيتة آل عقيل كالأسود تتعالى أصواتهم، قائلين:

« إذن ما يقول الناس:، وما نقول:، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا، وبني

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ 18 والـ 23، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ 17، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (1).

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230