تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء50%

تنزيه الانبياء مؤلف:
تصنيف: النبوة
الصفحات: 189

تنزيه الانبياء
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46810 / تحميل: 5460
الحجم الحجم الحجم
تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فطوبى لك يا قرّة العين بما كتبت يراعك المباركة ، وستلقى الأجر من اُمّنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ، إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم ، والسلام عليك وعلى أعزّائي طلاّب العلوم الدينية ورجال العلم والفضيلة ، وعلى كلّ مؤمن ومؤمنة ، ودمتم بخير وسعادة ، وتقبّلوا تحيّات(1) .

العبد

عادل العلوي

قم المقدّسة ـ الحوزة العلميّة

__________________

(1) سماحة آية الله العلاّمة الأستاذ السيّد عادل العلوي.

ولد في مدينة الكاظميّة المقدّسة بين الطلوعين في السادس من شهر رمضان المبارك عام 1955 م ـ 1375 ه‍ ويتصل نسبه ب‍ (38) واسطة إلى مولانا الإمام علي بن الحسين ( زين العابدينعليه‌السلام ).

والده العلاّمة آية الله السيّد علي بن الحسين العلوي ، من علماء الكاظميّة والنجف وبغداد ، تلقّى دروسه في العراق على يد والده المرحوم وعلى غيره ، وفي قم المقدّسة على يد كبار المراجع العظام والعلماء الأجلاء أمثال السيّد المرعشي النجفيقدس‌سره والسيّد محمد رضا الكلبايكانيقدس‌سره والشيخ محمد فاضل اللنكراني ( دام ظلّه ) والشيخ جواد التبريزي ( دام ظلّه ) وغيرهم.

يُعَد اليوم من المدرسين الكبار في حوزة قم المقدّسة ، يقوم بتدريس الكفاية إضافة إلى دروسه في خارج الفقه وكذلك المكاسب والفلسفة والكلام ، مضافاً إلى محاضرات في التفسير والأخلاق ، وكتب رسالته ( زبدة الأفكار في نجاسة أو طهارة أهل الكتاب ) التي نال عليها درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلاميّة ، مضافاً إلى شهادات الأعلام باجتهاده في الفقه والأصول ، وقد اشتهر بكثرة تأليفاته المتنوعة ، فهو يسعى إلى تأسيس موسوعة إسلاميّة بقلمه الشريف في شتّى العلوم والفنون تقع في (120) كتاب ورسالة ، وقد طبع منها (64) كتاب ورسالة ، فضلاً عن المقالات ، هذا وقد عُرِف بخدماته الثقافيّة والإجتماعيّة ، مثل تأسيس مستوصف الإمام السجّاد الخيري والمؤسسة الإسلاميّة العامّة للتبليغ والإرشاد ، وجماعه العلماء والخطباء في الكاظميّة وبغداد ، ومكتبات عامّة ، وحسينيّات كحسينيّة الإمامين الجوادينعليهما‌السلام في مشهد الإمام الرضا عليه‌السلام ، ولقد أجازه في الرواية ما يقرب عن عشرين من مشايخ الرواية كالآيات العظام : السيّد المرعشي النجفي قدس‌سره والسيّد الكلبايكاني قدس‌سره والشيخ الآراكي قدس‌سره والشيخ اللنكراني ( حفظه الله ) والسيّد عبد الله الشيرازي ( حفظه الله ) والسيّد محمّد الشاهرودي ( حفظه الله ) وغيرهم.

٢١

٢٢

المقدمة

بسمه تعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين حبيب اله العالمين ابي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، اللهم صلِّ على الصديقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأمُّ احبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين ، اللهم كُن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها وكن الثائر اللهم بدم اولادها اللهم كما جعلتها أمُّ أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمة عند الملاء الأعلى فصلِّ عليها وعلى امها صلاة تكرم بها وجه أبيها محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقر بها اعين ذريتها وأبلغهم عني في هذه الساعة وفي كل ساعة افضل التحية والسلام واردد عليّ منهم السلام انك جواد كريم.

وبعد فانه لا يخفى على المتتبع لسيرة وحياة أهل البيتعليهم‌السلام انه قد كُتِبَت فيهم الكثير من الكتب وبالخصوص في شخصية فاطمةعليها‌السلام ومعرفتها حيث دارت في مجمل بحوثها على طريقة السرد التأريخي او المقارنة الموضعية ـ بين حياتها سلام الله عليها وبين باقي النساء المؤمنات اللآئي ذكرهن القرآن الكريم ـ أو على طريقة الاستنتاج والتحليل الواقعي والموضوعي لجميع مواقفها الاسلامية التي اتخذتها خلال مسيرتها الحياتية والتي كانت مليئة بالدروس والعبر والعظات الإنسانية البليغة.

على أن هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم قد جاء ليمثل مجموعة السبل التي لابد من الكتاب أو المؤلف أن يجمعها ويصبها في قالب حسن وهو يعرض شخصية مثل شخصية الصديقة الطاهرة فاطمةعليها‌السلام ، حيث فيه الأسرار الغامضة التي جاءت على شكل عناوين لبعض هذه البحوث مثل : حقيقة السر المستودع ، أصل يوم العذاب ، فاطمة حجة الله الكبرى ، وأيضا فيه المقارنة الموضوعية ، والإستنتاج العلمي ، والتحليل المثمر ، وكما سيظهر لك من خلال قراءة هذه البحوث والمحاضرات.

٢٣

على أنني أُنبه القارئ العزيز أنني قد وضعت في الكتاب بعض المواضيع التي ذكرتها بعض الكتب من باب اتمام الفائدة في الكتاب على امل ان يكون شاملاً لكثير من القضايا الحساسة والعقائدية في حياة فاطمة سلام الله عليها ، وليرجع اليها الكاتب والخطيب والباحث حين تعوزه المصادر والكتب ، وقد توجت كل بحث في بدايته بقصيدة شعرية في حياة فاطمةعليها‌السلام لتكون محطات ادبية فاطمية يستفيد منها القارئ اثناء ترحاله من بحث إلى آخر ، لذا جاء هذا الكتاب ليمثل مصباحاً جديداً في معرفة فاطمةعليها‌السلام انشاء الله راجياً أن أكون قد أديت بعض الحق الذي عليّ في توضيح بعض القضايا العقائدية في شخصيتها الاسلامية الفذة ، والحمد لله رب العالمين.

محمد فاضل المسعودي

قم المقدسة

18 ذي الحجة ـ عيد الغدير المبارك(1)

1419 ه‍

__________________

(1) من اللطائف الجميلة والصدف الحميدة التي شاهدناها خلال الإنتهاء من العمل في هذا الكتاب المبارك إن شاء الله تعالى ، أننا تفألنا بالقرآن الكريم في يوم الإنتهاء من وضع اللمسات الأخيرة عليه وذلك يوم الغدير الأفعم ، فخرجت لنا الآية المباركة المختصّة بيوم الغدير ويوم تنصيب أمير المؤمنينعليه‌السلام بالولاية العظمى ، وهي قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

٢٤

التمهيد

( اللهم أني أسألك بحق فاطمة وأبيها

وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها )

قبل الدخول في مضامين هذا الدعاء لابد من الإشارة إلى عدة أسئلة مهمة تتعلق بسند هذا الحديث ، وهل ورد فيه سند ؟ وفي أي كتاب مذكور ؟ وهل جاء هذا الحديث على لسان المعصوم أم لا ؟

كل هذه الأسئلة لابد من الإجابة عليها قبل الدخول في صميم هذا البحث ، فنقول : أن هذا الحديث لم نرَ له سنداً في أي كتاب من الكتب المتداولة ولم يروَّ عن أي معصوم من أهل بيت العصمة ، ولكن وجدناه مكتوباً في كتاب فاطمة بهجة قلب المصطفىٰ تحت عنوان ( دعاء التوسل بهاعليها‌السلام ) حيث رواه مؤلف الكتاب الشيخ الهمداني بقوله : سمعت شيخي ومعتمدي آية الله المرحوم ملاّ عليّ المعصومي يقول في التوسل بالزهراءعليها‌السلام « الهي بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها (1) » .

وأيضاً وجدنا هذا الدعاء ضمن الوصايا المهمة التي أوصىٰ بها آية الله المرعشي النجفي أبناءه بالمداومة على قراءته وبالخصوص ابنه الكبير حيث يقول : ( وأوصيه ـ أي ابنه الأكبر ـ بمداومة قراءة هذا الدعاء الشريف في قنوتات فرائضه اللهم أني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله »(2) .

__________________

(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى 252.

(2) قبسات من حياة سيّدنا الأستاذ المرعشي النجفيرحمه‌الله : ص 124.

ولقد ذكر مؤلّف هذا الكتاب السيد العلوي : إنّ هذا الدعاء قد تلقّاه السيد المرعشي في ضمن الوصايا المهمة التي أعطاها الإمام المهدي (عج) للسيّد المرعشي في إحدى تشرفاته بلقاء الإمام (عج).

٢٥

فما أعظمه من دعاء بحيث يذكره السيد المرعشي النجفيرحمه‌الله في ضمن وصاياه المهمة التي أوصى بها ، وأي فضيلة لهذا الدعاء والتوسل بحق الزهراءعليها‌السلام كي يَكونَ من أهم الأدعية في قنوتات فرائض السيد المرعشيرحمه‌الله .

لابد له من كرامة عظيمة وأهمية جليلة بحيث لا يترك من الوقوف معه والإستضاءة من نوره وبيان مضامينهُ وتجليت حقائقه لكي نعرف فاطمة حق معرفتها وعلى القدر المتيسر منه.

وهذا الحديث وان لم يكتب له سند في كتب الحديث ، ولكن جاء مضمونه مطابقاً لكثير من الروايات الشريفه المأثورة في حق الصديقة الكبرى فاطمةعليها‌السلام ، وعلى مضمونه وحقائقه توجد أدلة وشواهد تؤكد حقيقته وان لم يرد في كتب الأدعية ، ولكن يكفي في نقله على ما استفدناه من الكتابين المذكورين اللذين ذكرا هذا الدعاء ، ومن باب التسامح في أدلّة السنن يهون الخطب في سنده ، وعلى ضوء ما نفهمه من هذا الدعاء سوف يكون حديثنا حوله في بحثين :

البحث الأول : التوسل والإستغاثه بالزهراءعليها‌السلام .

البحث الثاني : حقيقة السر المستودع في فاطمةعليها‌السلام .

٢٦

٢٧
٢٨

التوسل بفاطمةعليها‌السلام

للخطيب الشيخ محسن الفاضلي

توسَّلت بالحوراء فاطمةَ الزّهرا

لتلهمني حتى أقولَ بها شِعرا

فجاء بحمدِ الله ما كنت أبتغي

فأبديتُ للمعبودِ خالقي الشّكرا

أجل هي روح المصطفى كُفءُ حيدرٍ

وأمُّ أبيها هل ترى مثلَه فخرا

أو المثلِ الأعلى بكلَّ خصالها

جلالاً كمالاً عفّةً شرفاً قدرا

حوت مَكرُماتٍ قطُّ لم يحو غيرُها

فمن بالثّنا منها ألا قُلْ لَنا أحرىٰ

وسيلتُنا والله خيرُ وسيلةٍ

بحقًّ كما وهي الشفيعةُ في الأخرىٰ

أيا قاتل اللهُ الذي راعها وقد

عليها قسىٰ ظلماً وروّعها عصْرا

وسوّد متنيها وأحرقَ بابَها

وأسقطها ذاكَ الجنينَ على الغبرا

أيا مَن تواليها أتنسىٰ مُصابَها

وتَسلو وقد أمست ومقلتُها حمرا

من الضّربِ ضرِب الرّجس يومِ تمانعت

بأن يذهبوا بالمرتضىٰ بعلِها قَسرا

وعادت تعاني هظمَها ومصابَها

بفقدِ أبيها وهي والهفتا عَبرىٰ

الى أن قضت روحي فداها ولا تَسل

عن أحوالها واللهُ من كلِّنا أدرىٰ

٢٩
٣٠

البحث الأوّل

حقيقة التوسل والاستغاثة بالزهراءعليها‌السلام

منذ أن خلق الله البشرية وبالتحديد منذ أن خلق آدم وحواء جعل لهم وسيلة يتوسلون بها إليه لقضاء حوائجهم خصوصا أن أبينا آدمعليه‌السلام عندما أذنب بترك الأولى قد توسَّل إلى الله تعالى بغفران ذنبه « تركه الاولى » وكان من جملة ما توسل به الكلمات التي تلقاها من الله تعالى وتاب بها عليه تبارك وتعالى ولقد فسرت هذه الكلمات بأصحاب الكساء الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين كما جاء ذلك في تفسير قوله تعالى( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1) ، إن آدم رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرمة ، فسأل عنها فقيل له : هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى والأسماء هي : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام فتوسل آدمعليه‌السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته.

به قد أجاب الله آدم إذ دعا

ونُجي في بطن سفينة نُوحُ

قومُ بهم غفرت خطيئة آدم

وهُمُ الوسيلة والنجوم الطُلَّع(2)

وعلى هذا الأساس كان التوسل بأولياء الله وأحبائه من الأمور المتعارفة والمتسالمة عليها عند المسلمين بل يتعدى ذلك إلى غير المسلمين فنحن نجد ان الكثير من الديانات الأخرى غير الإسلامية تتوسل بشيء ما للتقرب إلى الله تعالى أو إلى الآلهة التي يعتقدون بها وهذا ما وجدنا في مشركي قريش حيث كانوا يعبدون اللات والعزىٰ ليقربونهم إلى الله زلفى وكما صرح بذلك القرآن الكريم في بعض آياته ، وعلى كل حال فقد وردت عدة آيات قرآنية تؤكد هذه المسألة في القرآن الكريم منها قوله تعالى :

__________________

(1) البقرة : 37.

(2) البرهان : 1 / 86 ، مجمع البيان 1 / 89.

٣١

( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث كان القرآن موافقاً في هذه المسألة للعقلاء أنفسهم وهذا ما نجده في طلب حوائجهم من الذين هم في موضع القيادة أو المسؤولية فيسألونهم قضاء حوائجهم وهم أما زعيم أو رئيس أو حتى رجل كريم وهذا ليس من الشرك في شيء ، فهذا مما يساعد عليه العرف العقلائي فنحن عندما نذهب إلى الطبيب نلتمس لديه الشفاء والعلاج وصولاً إلى الصحة والسلامة ، وما الطبيب الحقيقي إلاَّ الله تعالى فهل هذا يعتبر شركاً بالله عز وجل ؟ ويدل على هذا الأمر ما روي في قصة أبناء يعقوب على لسان القرآن الكريم عندما أدركوا انهم قد ارتكبوا ذنوباً كثيرة بحق أخيهم يوسف حيث جاءوا أباهم يعقوب قائلين :( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) (2) على أساس أن أباهم هو وسيلة الغفران لهم من قبل رب العالمين( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

وعلى هذا الأساس كان التوسل أمراً دينياً قد تعارف عليه الناس منذ أن خلق الله البشرية وقد جاء الإسلام ليؤكد على ضرورة هذا الأمر وذلك من خلال إتخاذ الوسيلة التي نتوسل بها إلى الله تعالى ، ولم نجد من وقف ضد هذا الأمر ـ أي التوسل ـ إلاّ ما أسسه ابن تيمية وتلاميذه في القرن الثامن الهجري ، وتلاه في عقائده الباطلة والتي لا تمتلك دليل منطقي برهاني محمد بن عبد الوهاب الذي أسس أضل واطغى جماعة على الدين الإسلامي ألا وهي الوهابية العمياء فأعتبر التوسل بأولياء الله تعالى من الأنبياء والأوصياء وعباد الله الصالحين بدعة ـ تارة ـ وعبادة للأولياء أنفسهم تارة أخرىٰ.

وقد خالفت الوهابية كل المرتكزات العقلائية في هذا المضمار وخصوصاً نحن نؤمن بأن القرآن الكريم قد أكد على حقيقة اتخاذ الوسيلة وبأشكال متعددة ، وليس هذا على ما يدعيه محمد بن عبد الوهاب نوعاً من أنواع الشرك بالله تعالى ، والقرآن الكريم نفسه أكد على ضرورة اتخاذ الوسيلة إلى الله تعالى.

والتوسل يكون على قسمين أو صورتين :

__________________

(1) المائدة : 25.

(2) يوسف : 97.

٣٢

1 ـ التوسل بالأولياء أنفسهم ، كأن نقول : ( اللهم أني أتوسل إليك بنبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تقضي حاجتي ).

2 ـ التوسل بمنزلة الأولياء وجاههم عند الله تعالى كأن نقول ( اللهم أني أتوسل إليك بجاه محمد وحرمته وحقه أن تقضي حاجتي ).

أما الوهابية فإنهم يُحرمون الصورتين معاً ، في حين أن الأحاديث الشريفة وسيرة المسلمين تشهدان بخلاف ما تدعيه الوهابية وتؤكدان جواز الصورتين معاً(1) . فلقد جاء الحديث الشريف عن عثمان بن حنيف ليؤكد على هذه الحقيقة حقيقة جواز التوسل بأولياء الله تعالى حيث يقول : « إن رجلاً ضريراً أتىٰ إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أُدُع الله يعافيني.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن شئتَ دعوت ، وأن شئت صبرت وهو خير ؟

فقال : فادعُه ـ فأمره ـ ان يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعوا بهذا الدعاء : اللهم أني اسئلك واتوجِّه إليك بنبيك نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي لتقضى ! ، اللهم شفعه فيَّ.

قال ابن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ.

ويعتبر هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة السند وقد أثبتته كتب العامة قبل الخاصة حتى ابن تيمية نفسه اعتبر ناقل هذا الحديث ثقة(2) .

أن هذا الحديث من خلال التأمل الدقيق في ألفاظه يظهر معناه واضحاً جلياً. حيث دل على ان الإنسان له أن يتوسل إلى الله تعالى بالذين جعلهم أدلاء على مرضاته وسبل نجاته ألا وهم الأنبياء وأفضلهم وأحسنهم خاتمهم نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته ، والتوسل يكون بحرمتهم وكرامتهم وحقهم على الله تعالى. أما التوسل بالأنبياء وبحقهم فهذا ما جاء على لسان الحديث المروي في وفاة فاطمة أُم أمير المؤمنين حيث يقول الحديث « لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجلس عند رأسها

__________________

(1) الوهابية في الميزان : 163.

(2) سنن ابن ماجة : 1 / 441 ، الوهابية في الميزان 164.

٣٣

فقال : رحمك الله يا أمي بعد أمِّي ثم دعا رسول الله أسامَة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون ، فحفروا قبرها ، فلما بلغوا اللحد حفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده وأخرج ترابه فلما فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه ، ثم قال : والله الذي يُحي ويميت وهو حَيٌّ لا يموت إغفر لأمي فاطمة بنت أسد ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي(1) .

أما ما ورد في التوسل بالنبي نفسه ، فقد روىٰ جمع من المحدثين ان اعرابياً دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « لقد أتيناك وما لنا بعيرٌ يئط ـ أي مثل صوت البعير ـ ولا صبي يغط ـ وهو صوت النائم ـ ثم أنشأ يقول :

أتيناك والعذراء تدمىٰ لبانُها

وقد شغلت أم الصبيِّ عن الطفلِ

ولا شيء ممِّا يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلهز الفسْلِ

وليس لنا إلا إليك فرارُنا

وأين فرارُ الناس إلا إلى الرسلِ

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يَجُر رداءه ، حتى صعد المنبر فرفع يديه وقال : اللهم اسقنا غيثاً فما ردا النبي حتى ألقت السماء

ثم قال : لله دَرُّ أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه من ينشدنا قولَهُ ؟

فقام علي بن أبي طالبعليهما‌السلام وقال : كأنك تريدُ يا رسول الله ـ قَولَهُ :

وأبيض يُستسقىٰ الغمامُ بوجهه

ثِمال اليتامى عصمَةٌ للأراملِ

يطوف به الُهلاِّك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجل فانشد عليعليه‌السلام أبياتاً من القصيدة ، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر ، ثُمِّ قام رجل من كنانة وأنشد يقول :

لك الحمد والحمد ممن شكر

سقينا بوجه النبي المَطَر(2)

ولنعم ما قال سواد بن قارب في القصيدة التي يتوسل بها بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله

وأشهد أن الله لا ربًّ غيرُه

وانك مأمون على كل غائبِ

وانك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يابن الأكرمين الاطائب

__________________

(1) كشف الإرتياب : 312 ، حلية الأولياء : 121 ، وفاء الوفا 3 : 899.

(2) شرح نهج البلاغة 14 / 80 ، السيرة الحلبية : 3 / 263.

٣٤

فمرنا بما يأتيك يا خير مُرسلٍ

وان كان فيما فيه شيبُ الدوائِب

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ

بِمُضض فتيلاً عن سواد بن قاربِ(1)

أما التوسل بأولياء الله تعالى فهذا ما اثبتته الكتب الكثيرة وخاصة الموجودة في كتب العامة حيث ورد في كيفية استقساء المسلمون بعم النبي « العباس » واستسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة ، لما اشتَدَّ القحط فسقاهم الله تعالى به ، وأخصبت الأرض ـ فقال عمر هذا ـ والله ـ الوسيلة إلى الله والمكان منه.

وقال حسّان :

سأل الأمام وقد تتابع جد بنا

فسقى الغمام بغُرّة العَّباسِ

عم النبي وصفو والِدهِ الذي

وَرث النبي بذاك دون الناس

أحيى الإله به البلاد فأصبحت

مخضرة الأجانب بعد اليأس

ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئاً لك ساقي الحرمين(2) .

أقول : بعد هذا البيان يظهر لنا ان التوسل بالأولياء الصالحين مما جرت به السنة الشريفة فضلا عن القرآن الكريم نفسه ، وعلى هذا الأساس جاء هذا الدعاء المروي عن علمائِنا الأفاضل :

« اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والذي يظهر من خلال استقراء الروايات المأثورة في حق الزهراء أن هذا الدعاء وارد في حق التوسل بالصديقة الطاهرة الزهراءعليها‌السلام فتارة نجد بعض الأحاديث تبين كيفية التوسل بالزهراء وتارة أخرى تبين كيفية الاستغاثة بالصديقة الشهيدة سلام الله عليها.

فقد ورد عن لسان العلامة المتبحر المجلسي ما نصه : وجدت نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا رضي الله عنهم ما هذا لفظه :

هذا الدعاء رواه محمد بن بابويهرحمه‌الله ، عن الأئمةعليهم‌السلام وقال : ما دعوت في أمر إلاّ رأيت سرعة الإجابة وهو

(يا فاطمة الزهراء يا بنت محمد ، يا قرة عين الرسول ، يا سيدتنا ومولاتنا ، إنّا

__________________

(1) الدرر السنية : 27 زيني دحلان ، التوصل إلى حقيقة التوسل : 300.

(2) تاريخ اُسد الغاية في معرفة الصحابة : 3 / 111.

٣٥

توجهنا واستشفعنا ، وتوسلنا بك إلى الله ، وقدمناك بين يدي حاجتنا ، يا وجيهة عند الله أشفعي لنا عند الله )(1) .

وروي في كيفية التوسل بالزهراء ، أن تصلي ركعتين ، فاذا سلمت فكبر الله ثلاثاً ، وسبح تسبيح الزهراءعليها‌السلام واسجد وقل مائة مرة : يا مولاتي ، يا فاطمة أغيثيني ، ثم ضع خدّك الأيمن ، وقل كذلك ، ثم عد إلى السجود وقل كذلك ، ثم خدك الأيسر على الأرض وقل كذلك ، ثم عد إلى السجود وقل كذلك مائة مرة وعشر مرات ، أذكر حاجتك تقضى(2) . أما صلاة الاستغاثة بالبتول فهو نفس العمل السابق إضافة إلى ذلك تقول في السجود :

(يا آمناً من كلّ شيء وكل شيء منك خائف حذر ، أسألك بأمنك من كل شيء وخوف كلّ شيء منك ، أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تعطيني أماناً لنفسي وأهلي ومالي وولدي حتى لا أخاف أحداً ولا أحذر من شيء أبداً ، إنك على كل شيء قدير ).

والدعاء الذي افتتحنا به البحث يؤكد على مسألة مهمة أخرى وهي حق فاطمةعليها‌السلام والذي يهمنا في هذا المقام هو معرفة حق فاطمة وما المقصود منه ، والذي نراه بعد تتبع بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام أنّ حق أهل البيت عظيم وحقوقهم كثيرة ، ولكن الأهم من هذا كله هو معرفة الحق الأكبر ، والذي عبرت عنه الروايات حق المعرفة ، وبعبارة أخرى اهم حق هو معرفة كونهمعليهم‌السلام مفترضوا الطاعة وهذا ما أشارت إليه الكثير من الروايات المروية في المقام.

حيث فسرت حق الأئمة تارة بأنهم حجة الله على الخلق والباب الذي يؤتى منه والمأخوذ عنه ، وأنهم مفترضوا الطاعة ، وهكذا بالنسبة للأئمةعليهم‌السلام ، أمّا الصديقة الشهيدة ، فحقها كبير على الناس وخصوصاً الأنبياء ، حيث ورد أنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى ، وكذلك ورد أنها مفترضة الطاعة على جميع البشر وهذا حقها الأكبر

__________________

(1) البحار : 12 / 247.

(2) البلد الأمين : 159 ، البحار : 102 / 254 ح 13 ، مستدرك الوسائل : 6 / 331 ح 3 مثله.

٣٦

على الناس حيث يقول الحديث :

« ولقد كانتعليها‌السلام مفروضة الطاعة ، على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير ، والوحش ، والأنبياء ، والملائكة »(1) . على أنه كلما ثبت من حقوق للأئمةعليهم‌السلام فهو ثابت للصديقة الطاهرة فاطمةعليها‌السلام وخصوصا نحن نعلم انه ورد عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام انه قال : ( نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا ).

اذن من خلال هذا الموضوع نفهم ان لحقيقة التوسل بالصديقة الشهيدةعليها‌السلام لقضاء الحاجات بوجاهتها عند الله دوراً مهماً في ترسيخ عقيدة الإنسان المؤمن بها حيث بعد قضاء الحاجة على يديها يجد المؤمن ايماناً راسخاً بها هذا من جهة ، وان حقيقة التوسل بها يضعنا أمام جملة من الحقائق لابد من الوقوف معها والتأمل في مغزاها من جهة اُخرى.

وأوَّل هذه الحقائق المنزلة العظيمة والجليلة والفريدة التي كانت تتمتع بها بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مما جعلها موئلاً لكل مستغيث ومقصداً لكل طالب حاجة ضاق بحاجته ذرعاً وهو لا يدري باب من يطرق حتى تقضى حاجته وتجاب استغاثته ، فاذا بالإمام الصادقعليه‌السلام يقول لنا : عليكم بالزهراء ، استغيثوا بإسمها ونادوا مولاتكم فاطمة ، وحينئذ تقضى حاجتكم ، وتنالون مطلبكم ويكفي في مقام بيان منزلتها انها كانت المرجع لأبيها حيث كنّاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باُمّ أبيها ، وانها كانت بضعة منه فمن أغضبها فقد أغضبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويكفي في منزلتها أيضاً أنها سيدة نساء أهل الجنة ،بل سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة ، وأنها أم الأئمة المعصومين وانها حليلة سيد الأوصياء علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

وأما الحقيقة الثانية التي أثبتتها أحاديث التوسل بالصديقة الشهيدة ، هو مسألة الشفاعة ، ولما لها من الأهمية الكبرى في حياة الفرد المؤمن ، حيث نجد مسألة الشفاعة لها دور كبير في بعث الأمل في روح المذنبين وأن لهم أملاً يظهر خلال الدنيا على نحو التوسل وفي الآخرة على نحو الشفاعة وهذا ما أكده القرآن الكريم في كثير من آياته

__________________

(1) دلائل الإمامة : 28.

٣٧

حيث يقول سبحانه وتعالى :( يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ ) (1) ،( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (2) ،( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ) (3) . فإذا كان الله سبحانه وتعالى يأذن لبعض عباده بأن يشفعوا لغيرهم من الناس فمن أولى من بضعة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الخصوصية.

والحقيقة الأخرى التي كشفت عنها روايات التوسل والإستغاثة بالصديقة الشهيدة هي مسألة تسبيح الزهراءعليها‌السلام ، ذلك التسبيح الذي علمه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لابنته بأن تكبر الله سبحانه أربعاً وثلاثين وتحمده ثلاثاً وثلاثين وتسبحه ثلاثاً وثلاثين ، عندما جاءته والإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام تشكو لهصلى‌الله‌عليه‌وآله إجهادها ونصبها ومعاناتها في عمل البيت ، فطلبت منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعينها بخادمة تكون معواناً لها ، فكان أن علمها هذا التسبيح الذي عملت به سلام الله عليها وعنها أخذ المؤمنون يسبحون به ويتعبدون بعد كل صلاة ، وكأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد ان تصبح الزهراءعليها‌السلام حاضرة في كل صلاة يؤديها مؤمن ، إذ كلما تَعَبَّد بهذا التسبيح متعَبِد تذَكَّر الزهراء ومكانتها من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الله سبحانه وتعالى.

__________________

(1) طه آية 109.

(2) سبأ آية 23.

(3) مريم آية 87.

٣٨

٣٩
٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فأما انكاحه عليه السلام

اياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه (ع) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، اشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الامر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله (ع) رد أمرها إليه ففعل ، فزوجها منه. وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار. وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع ان يبيح الشرع ان يناكح بالاكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما إذا كان المنكح مظهرا للاسلام والتمسك بسائر الشريعة. وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة. وفعل امير المؤمنين عليه السلام اقوى حجة في احكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان يجوز ذلك ، وفرقنا بين الامرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الامرين ، وان كان عما في الشرع فالاجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال. وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الاسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، إذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه. فإذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم؟ قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية.

فأما الدخول في الشورى

فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه. والاخبار الدالة على النص بالامامة عليه ، وبما ذكرناه

١٤١

في الامور التي تدل على ان اسبابه إلى الامامة اقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى. وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا. وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على اظهار البيعة للرجلين ، والرضا بامامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل (ع) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الامامة اليك ، وان اختيار الامة للامام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه. والامتناع من الدخول يعود إليه ، ويحمل عليه. وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الامر منها. ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الامر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه (ع) التوصل به الهجرة له. وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال.عن عدم افتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين : (مسألة) : فإن قيل : إذا كنتم تروون عنه (ع) وتدعون عليه في احكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الامر يجري بخلافها ، فإلا افتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد إليها. وليس لكم ان تقولوا انه (ع) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لانه (ع) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الاصابع ، وبيع امهات الاولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه (ع) فيه إلى الآن معروف. فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في احكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا ابطال اختيار؟ (الجواب) : قلنا : لم يظهر امير المؤمنين عليه السلام في احكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، أو بحيث علم ان

١٤٢

الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة. وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة أو يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو اعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير. وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الامور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر. أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الاشياء وان كان في ظاهر الامر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس. وإذا كان الامر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون امير المؤمنين (ع) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم اظهارا واحدا ، لانه (ع) علم أو غلب في ظنه ان اظهار ذلك يؤدي من المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي إليه اظهار ما اظهره ، وهذا واضح لمن تدبره. وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الاحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الامر إليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الامر ما افضى إليه (ع) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول ايام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه (ع) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه (ع). ومن يرى انهم مضوا على اعدل الامور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم. وما العجب من ترك امير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ،

١٤٣

وانما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان (ع) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الانصار وتخاذل الاعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو (ع) القائل : «والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين اهل الانجيل بانجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يا رب ان عليا قد قضى بقضائك». وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا امير المؤمنين فقال (ع) : «اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو اموت كما مات اصحابي» يعني (ع) من تقدم موته من اصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به. وهذا واضح فيما قصدناه. وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما افضى التصرف في الامامة إليه (ع). في مسألة التحكيم : (مسألة) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال. وهذا يدل على شكه في امامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له. أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا امامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالامامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الاب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الامور ضلت الخوارج مع شدة

١٤٤

تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه؟. (الجواب) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لاجل امر محتمل ، وقد ثبت امامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدله عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل. وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الادلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الاصول. لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الانبياء عليهم السلام عن المعاصي. فنقول : إن امير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل احوج إلى التحكيم وألجئ إليه لان اصحابه (ع) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها واظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص ، والمكيدة التى كادبها لما احس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام

١٤٥

طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة. ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى إليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع (ع) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق (ع) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور اصحابه من فتنة صماء هي اقرب إليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه أو يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض. ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد احس بالظفر وايقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وامير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق اصحابه عنه. وقال لهم امير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وانا اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة. فأجاب (ع) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الاعظم بتحمل الضرر الايسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري. فقال (ع) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الاشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه. واختاروا أبا موسى مقترحين له (ع) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما

١٤٦

متى تعدياه فلا حكم لهما. هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق. وعلمنا ان امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالامر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه. ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام امير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم. وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الاعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام. وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا.

فأما تحكيمهما

مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، إذ كنا قد بينا ان الاكراه وقع على اصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم اصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم. لكنه أجاب إليه ملجأ كما اجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك. وقد صرح (ع) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا واصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا.وكيف يكون التحكيم منه (ع) دالا على الشك ، وهو (ع) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده إليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك إذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك. فأما إذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه (ع) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به (ع) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه. وقد أجاب (ع) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : اشككت؟ فقال عليه السلام : أنا اولى بأن

١٤٧

لا أشك في دينى أم النبي صلى الله عليه وآله؟ أو ما قال الله تعالى لرسوله :( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين ) . واما قول السائل ، فإنه (ع) تعرض لخلع امامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه (ع) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لاقرا امامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع امامته ولا تعرض منهما لذلك. ونحن نعلم ان من قلد حاكما أو ولى اميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه.

فأما تأخيره جهاد الظالمين

وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان اصحابه (ع) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير اعوان لا يمكن. والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه.

فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين

واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت إليها. وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الاولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض. فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله. واللوم بلا اشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله. وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن انصف من نفسه بلاغ وكفاية. في أن عليا لم يندم على التحكيم : (مسألة) : فان قيل فإذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه (ع) انه كان يقول

١٤٨

بعد التحكيم في مقام بعد آخر : لقد عثرت عثرة لا تنجبر * سوف اكيس بعدها واستمر واجمع الرأي الشتيت المنتشر أو ليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب؟. (الجواب) : قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الاخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس اظهارا لوقوع التحكيم من الصواب والسداد موقعه ، وان الذي دعي إليه حسن ، والتدبير اوجبه ، وأنه (ع) ما اعترف قط بخطأ فيه ولا اغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه ، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته وخرجت عليه ، لاجل انها ارادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع وأبي اشد اباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي اضافوه إليه (ع) من الاقرار بالخطأ واظهار الندم. وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه ، ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به احد ممن يعرفه حق معرفته. وهذا الخبر شاذ ضعيف ، فإما ان يكون باطلا موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم. فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب اهل السير ، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام ، قال كتب الي محمد بن ابي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه ، فكتبت له ذلك وانفذته إليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ، فأسف (ع) على ظفر عدوه بذلك ، واشفق من أن يعمل بما فيه من الاحكام ، وتوهم ضعفة اصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده ، فتقوى الشبهة به عليهم. وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم ، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره. فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه (ع) ، كان الاخذ بها اولى. في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير

١٤٩

المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا إليها تارة والى الارض أخرى وقوله (ع) : والله ما كذبت ولا كذبت. فلما قتلهم وفرغ من الحرب ، قال له ابنه الحسن (ع) : يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم اليك في هؤلاء بشئ؟. قال : لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق ، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين. أو ليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت. وقال هذا توهيم منه (ع) لاصحابه أن رسول الله قد تقدم إليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم ، إذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت. (الجواب) : إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية ، يعني التضمنة لقوله (ع) انه لم يتقدم الرسول إليه في ذلك بشئ ، إن كان النظام رواها ونقلها ، ام كيف استجاز ان يضيفها إليه (ع) ان كان تخرصها؟ وكيف ظن ان مثل ذلك يخفى على احد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه عليه السلام بالانذار لقتال أهل النهروان وكيفيته ، والاشعار بقتل المخدج ذي الثدية ، وإنما كان عليه السلام ينظر إلى السماء ثم إلى الارض ويقول ما كذبت ولا كذبت استبطاء لوجود المخدج ، لانه (ع) عند قتل القوم أمر بطلبه في جملة القتلى ، فلما طال الامر في وجوده واشفق (ع) من وقوع شبهة من ضعفة اصحابه فيما كان يخبر به وينذر من وجوده فقلق (ع) لذلك واشتد همه وكرر قوله ما كذبت ولا كذبت ، إلى ان اتاح الله وجوده والظفر به بين القتلى على الهيئة التي كان (ع) ذكرها ، فلما احضروه اياه كبر (ع) واستبشر بزوال الشبهة في صحة خبره. وقد روى من طرق مختلفة وجهات كثيرة عنه (ع) الانذار بقتال الخوارج وقتل المخدج على صفته التي وجد عليها ، وأنه عليه السلام كان يقول لاصحابه أنهم لا يعبرون النهر حتى يصرعوا دونه ، وأنه لا يقتل من أصحابه إلا دون العشرة ، ولا يبقى من الخوارج

١٥٠

إلا دون العشرة ، حتى أن رجلا من اصحابه قال له يا أمير المؤمنين ذهب القوم وقطعوا النهر. فقال (ع) لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتى يقتلوا دونه عهدا من الله ورسوله. فكيف يستشعر عاقل ان ذلك من غير علم ولا اطلاع من الرسول صلى الله عليه وآله على وقوعه وكونه. وقد روي عن ابن ابي عبيدة اليماني لما سمعه (ع) يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بقتال الخوارج قبل ذلك بمدة طويلة وقتل المخدج ، شك فيه لضعف بصيرته فقال له : أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك؟ فقال أي ورب الكعبة مرات. وقد روي أمر الخوارج وقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم وانذار الرسول صلى الله عليه وآله بذلك جماعة من الصحابة ، لولا ان في ذكر ذلك خروجا عن غرض الكتاب لذكرناه ، حتى أن عائشة روت ذلك فيما رفعه عامر عن مسروق قال : دخلت على عائشة ، فقالت من قتل الخوارج؟ قلت قتلهم علي بن ابي طالب عليه السلام. فسكتت. فقلت لها يا امة اسألك بحق الله وحق نبيه وحقي ، فإني لك ولد إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم شيئا لما اخبرتنيه. قالت سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. وعن مسروق ايضا عن عائشة أنها قالت من قتل ذا الثدية؟ قلت علي بن ابي طالب. قالت لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب الي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، إلا انه لا يمنعني ما في نفسي ان أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه سمعته يقول يقتلهم خير امتي بعدي. وروى فضالة بن ابي فضيلة وهو ممن كان شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا ، قال اشتكى امير المؤمنين عليه السلام بينبع شكاة ثقل منها ، فخرج ابي يعوده ، فخرجت معه ، فلما دخل عليه قال لا تخرج إلى المدينة ، فإن اصابك اجلك شهدك اصحابك وصلوا عليك وإنك هاهنا بين ظهراني اعراب جهينة. فقال عليه السلام اني لا اموت

١٥١

من مرضي هذا لانه فيما عهده الي رسول الله صلى الله عليه وآله اني لا اموت حتى أؤمر واقتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وحتى تخضب هذه من هذا وأشار (ع) إلى لحيته ورأسه. وذكر المروي في هذا الباب يطول والامر في اخباره عليه السلام بقصة الخوارج وقتاله (ع) لهم وانذاره بذلك ظاهرا جدا. بيان أن عليا قد يعرض في كلامه خدعة الحرب : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه السلام من قوله : إذا حدثتكم عن رسول الله بحديث فهو كما حدثتكم ، فوالله لان أخر من السماء احب الي من أن اكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله. وإذا سمعتموني احدث فيما بيني وبينكم ، فإنما الحرب خدعة. وأليس هذا مما نفاه النظام ايضا وقال لم يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، وذكر ان هذا يجري مجرى التدليس في الحديث. (الجواب) : قلنا ان امير المؤمنين عليه السلام لفرط احتياطه بالدين وتخشنه فيه وعلمه بأن المخبر ربما دعته الضرورة إلى ترك التصريح واستعمال التعريض ، أراد ان يميز للسامعين بين الامرين ويفصل لهم بين ما لايدخل فيه التعريض من كلامه مما باطنه كظاهره ، وبين ما يجوز ان يعرض فيه للضرورة ، وهذا نهاية الحكمة منه وازالة اللبس والشبهة ، ويجري البيان والايضاح بالضد فيما يوهمه النظام من دخوله في باب التدليس في الحديث ، لان المدلس يقصد إلى الابهام ويعدل عن البيان والايضاح طلبا لتمام غرضه. وهو عليه السلام ميز بين كلامه وفرق بين انواعه حتى لا تدخل الشبهة فيه على احد. واعجب من هذا كله قوله انه لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، لانه ما اعتذر كما ظنه ، وانما نفى ان يكون التعريض مما يدخل روايته عن رسول الله. كما انه ربما دخل ما يخبر به عن نفسه قصدا للايضاح ، ونفي الشبهة. وليس كل من نفى عن نفسه شيئا واخبر عن براءته منه فقد فعله. وقوله عليه السلام لان أخر من السماء يدل على انه ما فعل ذلك

١٥٢

ولا يفعله ، وإنما نفاه حتى لا يلتبس على احد خبره عن نفسه ، ومما يجوز فيه مما يرويه ويسنده إلى رسول الله. في قوله ما حدثني أحد عن الرسول إلا استحلفته : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من انه قال كنت إذا حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث استحلفته بالله أنه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإن حلف صدقته وإلا فلا. وحدثني ابو بكر وصدقني ، أو ليس هذا الخبر مما طعن به النظام وقال لا يخلو المحدث عنده من ان يكون ثقة أو متهما. فإن كان ثقة فما معنى الاستحلاف؟ وان كان متهما فكيف يتحقق قول المتهم بيمينه؟ وإذا جاز ان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالباطل جاز ان يحلف على ذلك بالباطل؟. (الجواب) : قلنا هذا خبر ضعيف مدفوع مطعون على اسناده ، لان عثمان بن المغيرة رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن اسماء بن الحكم الفزاري. قال سمعت عليا عليه السلام يقول كذا وكذا واسماء بن الحكم هذا مجهول عند اهل الرواية لا يعرفونه ولا روي عنه شئ من الاحاديث غير هذا الخبر الواحد. وقد روي ايضا من طريق سعد بن سعيد بن ابي سعيد المقري عن اخيه عن جده ابي سعيد رواه هشام بن عمار والزبير بن بكار عن سعد بن سعيد بن ابي سعيد عن اخيه عبدالله بن سعيد عن جده عن امير المؤمنين عليه السلام. وقال الزبير عن سعد بن سعيد أنه ما ارى اخبث منه. وقال أبو عبدالرحمن الشيباني : عبدالله بن سعيد بن ابي سعيد المقري متروك الحديث. وقال يحيى بن معين انه ضعيف. ورووه من طريق ابي المغيرة المخزومي عن ابن نافع عن سليمان بن يزيد عن المقري وابو مغيرة المخزومي مجهول لا يعرفه اكثر اهل الحديث. ورووه من طريق عطا بن مسلم عن عمارة عن محرز عن ابي هريرة عن امير المؤمنين عليه السلام قالوا : محرز لم يسمع من امير المؤمنين (ع) بل لم يره

١٥٣

وعمارة وهو عمارة بن حريز وهو ابن هرون العبدي ، قيل أنه متروك الحديث. ومما ينبئ عن ضعف هذا الحديث واختلاله ان من المعروف الظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرو عن احد قط حرفا غير النبي صلى الله عليه وآله. واكثر ما يدعى عليه من ذلك هذا الخبر الذي نحن في الكلام عليه. وقوله ما حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته ، يقتضي ظاهره أنه قد سمع اخبارا عنه (ع) من جماعة من الصحابة. والمعلوم خلاف ذلك. واما تعجب النظام من الاستحلاف ففي غير موضعه ، لانا نعلم ان في عرض اليمين تهيبا لمن عرضت عليه وتذكيرا بالله تعالى وتخويفا من عقابه ، سواء كان من تعرض والاقدام عليها يزيدنا في الثقة بصيرة ، وربما قوى ذلك حال الظنين لبعد الاقدام على اليمين الفاجرة ، ولهذا نجد كثيرا من الجاحدين للحقوق متى عرضت عليهم اليمين امتنعوا منها وأقروا بها بعد الجحود واللجاج. ولهذا استظهر في الشريعة باليمين على المدعى عليه ، وفي القاذف زوجته بالتلفظ باللعان. ولو أن ملحدا أراد الطعن على الشريعة واستعمل من الشبهة ما استعمله النظام ، فقال اي معنى لليمين في الدعاوى ، والمستحلف ان كان ثقة فلا معنى لاحلافه ، وان كان ظنينا متهما فهو بأن يقدم على اليمين اولى. وكذلك في القاذف زوجته لما كان له جواب إلا ما اجبنا به النظام ، وقد ذكرناه. وقد حكي عن الزبير بن بكار في هذا الخبر تأويل قريب وهو انه قال : كان ابو بكر وعمر إذا جاءهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفانه لا يقبلاه حتى يأتي مع الذي ذكره آخر ، فيقوما مقام الشاهدين. قال فأقام امير المؤمنين عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق ، كما اقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق. فان قيل أو ليس هذا الحديث إذا سلمتوه واخذتم في تأويله يقتضي ان أمير المؤمنين عليه السلام

١٥٤

ما كان يعلم الشئ الذي يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وانه كان يستفيده إلا من المخبر ، ولولا ذلك لما كان لاستحلافه معنى؟ وهذا يوجب انه (ع) كان غير محيط بعلم الشريعة على ما يذهبون إليه؟. قلنا : قد بينا الجواب عن هذه الشبهة في كتابنا الملقب بالشافي في الامامة ، وذكرنا انه (ع) وان كان عالما بصحة ما اخبره به المخبر ، وأنه من الشرع ، فقد يجوز ان يكون المخبر له به ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن كان من شرعه ، ويكون كاذبا في ادعائه السماع ، فكان يستحلفه لهذه العلة. وقلنا أيضا لا يمتنع ان يكون ذلك انما كان منه (ع) في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الاحوال لم يكن محيطا بجميع الاحكام ، بل كان يستفيدها حالا بعد حال. فان قيل : كيف خص ابا بكر في هذا الباب بما لم يخص به غيره؟ قلنا : يحتمل ان يكون ابو بكر حدثه بما علم أنه سمعه من الرسول وحضر تلقيه له من جهته صلى الله عليه وآله ، فلم يحتج إلى استحلافه لهذا الوجه. في حكمه بعد غنيمة المال والذرية : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما ذكره النظام في كتابه المعروف بالنكت من قوله العجب مما حكم به علي بن ابي طالب في حرب اصحاب الجمل ، لانه (ع) قتل المقاتلة ولم يغنم ، فقال له قوم من اصحابه إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلال ، وإن كان قتلهم حراما فغنيمتهم حرام فكيف قتلت ولم تسب؟ فقال (ع) فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فقال قوم إن عائشة تصان لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ فنحن لا نغنمها ونغنم من ليس سبيله من رسول الله صلى الله عليه وآله سبيلها ، قال فلم يجبهم إلى شئ من ذلك. فقال له عبدالله بن وهب الراسبي : أليس قد جاز ان يقتل كل من حارب مع عائشة ولا تقتل عائشة؟ قال بلى قد جاز ذلك وأحله الله عزوجل. فقال له عبدالله بن وهب : فلم لا جاز ان نغنم غير عايشة ممن حاربنا ويكون غنيمة عايشة غير حلال لنا فيما تدفعنا عن حقنا. فأمسك (ع) عن جوابه

١٥٥

وكان هذا أول شئ حقدته الشراة على علي عليه الصلاة والسلام؟ (الجواب) : قلنا ليس يشنع امير المؤمنين عليه السلام ويعترضه في الاحكام الا من قد اعمى الله قلبه وأضله عن رشده ، لانه المعصوم الموفق المسدد على ما دلت عليه الادلة الواضحة. ثم لو لم يكن كذلك وكان على ما يعتقده المخالفون ، اليس هو الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وآله بأنه (ع) اقضي الامة واعرفها بأحكام الشريعة؟ وهو الذي شهد صلى الله عليه وآله له بأن الحق معه يدور كيف ما دار؟ فينبغي لمن جهل وجه شئ فعله (ع) ان يعود على نفسه باللوم ويقر عليها بالعجز والنقص ، ويعلم ان ذلك موافق للصواب والسداد ، وإن جهل وجهه وضل عن علته. وهذه جملة يغني التمسك بها عن كثير من التفصيل ، واستعمال كثير من التأويل. وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل اهل القبلة إلا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد صرح (ع) بذلك في كثير من كلامه الذي قد مضى حكاية بعضه ، ولم يسر فيهم إلا بما عهده إليه من السيرة. وليس بمنكر ان يختلف احكام المحاربين فيكون منهم من يقتل ولا يغنم. ومنهم من يقتل ولا يغنم. لان احكام الكفار في الاصل مختلفة مقاتلو امير المؤمنين عليه السلام عندنا كفار لقتالهم له. وإذا كان في الكفار من يقر على كفره ويؤخذ الجزية منه ، ومنهم من لا يقر على كفره ولا يقعد عن محاربته ، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه من الاحكام جاز ايضا ان يكون فيهم من يغنم ومن لا يغنم ، لان الشرع لا ينكر فيه هذا الضرب من الاختلاف. وقد روي ان مرتدا على عهد ابي بكر يعرف بعلانة ارتد ، فلم يعرض ابو بكر لما له. وقالت امرأته ان يكن علانة ارتد فانا لم نرتد. وروي مثل ذلك في مرتد قتل في ايام عمر بن الخطاب ، فلم يعرض لما له. وروي ان امير المؤمنين عليه السلام قتل مستوردا العجلي ولم يعرض لميراثه. فالقتل ووجوبه ليس بامارة على تناول المال واستباحته ، على ان الذي رواه النظام من القصة محرف معدول عن

١٥٦

الصواب ، والذي تظاهرت به الروايات ونقله أهل السير في هذا الباب من طرق مختلفة ، أن امير المؤمنين عليه السلام لما خطب بالبصرة وأجاب عن مسائل شتى سئل عنها ، واخبر بملاحم وأشياء تكون بالبصرة ، قام إليه عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال يا امير المؤمنين ان الناس يكثرون في أمر الفئ ويقولون من قاتلنا فهو وماله وولده فئ لنا. وقام رجل من بكر بن وايل يقال له عباد بن قيس ، فقال يا امير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعية ، فقال عليه السلام ولم ويحك؟ قال لانك قسمت ما في العسكر وتركت الاموال والنساء والذرية. فقال امير المؤمنين (ع) : يا ايها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن. فقال عباد بن قيس جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات. فقال عليه السلام ان كنت كاذبا فلا اماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف. فقال رجل يا امير المؤمنين ومن غلام ثقيف؟ فقال رجل لا يدع لله حرمة الا انتهكها. فقال له الرجل أيموت أو يقتل؟ فقال امير المؤمنين عليه السلام بل يقصمه قاصم الجبارين يخترق سريره لكثرة ما يحدث من بطنه ، يا أخا بكر انت امرؤ ضعيف الرأي ، أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وان الاموال كانت بينهم قبل الفرقة يقسم ما حواه عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا احد اخذناه بذنبه ، وان كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره. يا أخا بكر والله لقد حكمت فيكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكة قسم ما حواه العسكر ، ولم يعرض لما سوى ذلك. وانما اقتفينا اثره حذو النعل بالنعل. يا أخا بكر ، اما علمت ان دار الحرب يحل ما فيها ، ودار الهجرة محرم ما فيها إلا بحق ، مهلا مهلا رحمكم الله فإن انتم انكرتم ذلك علي ، فأيكم يأخذ أمه عايشة بسهمه؟ قالوا يا امير المؤمنين اصبت واخطأنا وعلمت وجهلنا ، أصاب الله بك الرشاد والسداد.

١٥٧

فاما قول النظام

ان هذا اول ما حقدته الشراة عليه فباطل ، لان الشراة ما شكوا قط فيه عليه السلام ولا ارتابوا بشئ من افعاله قبل التحكيم الذي منه دخلت الشبهة عليهم ، وكيف يكون ذلك وهم الناصرون له بصفين والمجاهدون بين يديه والسافكون دماءهم تحت رايته. وحرب صفين كانت بعد الجمل بمدة طويلة فكيف يدعى ان الشك منهم في أمره كان ابتداءه في حرب الجمل لولا ضعف البصائر؟ في أن الزبير لم يلحق بعلي وهو لم يقتل قاتله (مسألة) : فإن قيل فما الوجه ذكره النظام من أن ابن جرموز لما أتى أمير المؤمنين عليه السلام برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما كان ابن صفية بجبان ، ولا لئيم ، لكن الحين ومصارع السوء. فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين. فقال (ع) سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار. فخرج ابن جرموز وهو يقول : أتيت عليا برأس الزبير * وكنت أرجى به الزلفة فبشر بالنار قبل العيان * فبئس البشارة والتحفة فقلت له ان قتل الزبير * لولا رضاك من الكلفة فان ترض ذاك فمنك الرضا * وإلا فدونك لي حلفة ورب المحلين والمحرمين * ورب الجماعة والالفة لسيان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة قال النظام ، وقد كان يجب على علي عليه السلام أن يقيده بالزبير وكان يجب على الزبير إذ بان أنه على خطأ أن يلحق يعلي فيجاهد معه (الجواب) : أنه لا شبهة في أن الواجب على الزبير أن يعدل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو ينحاز إليه ويبذل نصرته لا سيما ان كان رجوعه على طريق التوبة والانابة. ومن أظهر ما أظهر من المباينة والمحاربة إذا تاب وتبين خطأه يجب عليه أن يظهر ضد ما كان أظهره لا سيما وأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال مصاف لعدوه ومحتاج إلى نصرة من هو دون الزبير في الشجاعة والنجدة ، وليس هذا موضع إستقصاء ما يتصل بهذا

١٥٨

المعنى وقد ذكرناه في كتابنا الشافي المقدم ذكره.

فأما أمير المؤمنين

فإنما عدل أن يقيد ابن جرموز بالزبير لاحد أمرين : إن كان ابن جرموز قتله غدرا وبعد أن آمنه وقتله بعد أن ولى مدبرا ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أمر أصحابه أن لا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح فلما قتل ابن جرموز مدبرا كان بذلك عاصيا مخالفا لامر إمامه ، فالسبب في أنه لم يقيده به أن أولياء الدم الذين هم أولاد الزبير لم يطالبوا بذلك ولا حكموا فيه وكان أكبرهم والمنظور إليه منهم عبدالله محاربا لامير المؤمنين عليه السلام ، مجاهرا له بالعداوة والمشاقة فقد أبطل بذلك حقه ، لانه لو أراد أن يطالب به لرجع عن الحرب وبايع وسلم ثم طالب بعد ذلك فانتصف له منه. وإن كان الامر الآخر وهو ان يكون إبن جرموز ما قتل الزبير الا مبارزة من غير غدر ولا أمان تقدم على ما ذهب إليه قوم ، فلا يستحق بذلك قودا ولا مسألة ها هنا في القود. فإن قيل فعلى هذا الوجه ما معنى بشارته بالنار؟ قلنا ، المعنى فيها الخبر عن عاقبة أمره ، لان الثواب والعقاب إنما يحصلان على عواقب الاعمال وخواتيمها ، وابن جرموز هذا خرج مع أهل النهروان على أمير المؤمنين عليه السلام ، فقتل هناك. فكان بذلك الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير. فإن قيل : فأي فائدة لاضافة البشارة بالنار إلى قتل الزبير وقتله طاعة وقربة ، وإنما يجب ان تضاف البشارة بالنار إلى ما يستحق به النار قلنا : عن هذا جوابان : أحدهما : أنه (عليه السلام) أراد التعريف والتنبيه ، وإنما يعرف الانسان بالمشهور من أفعاله ، والظاهر من أوصافه ، وابن جرموز كان غفلا خاملا ، وكان فعله بالزبير من أشهر ما يعرف به مثله وهذا وجه في التعريف صحيح. والجواب الثاني : ان قتل الزبير

١٥٩

إذا كان بإستحقاق على وجه الصواب من أعظم الطاعات وأكبر القربات ، ومن جرى على يده يظن به الفوز بالجنة ، فأراد (عليه السلام) أن يعلم الناس أن هذه الطاعة العظيمة التي يكثر ثوابها إذا لم تعقب بما يفسده غير نافعة لهذا القاتل ، وأنه سيأتي من فعله في المستقبل ما يستحق به النار ، فلا تظنوا به لما اتفق على يده من هذه الطاعة خيرا. وهذا يجري مجرى أن يكون لاحدنا صاحب خصيص به خفيف في طاعته مشهور بنصيحته ، فيقول هذا المصحوب بعد برهة من الزمان لمن يريد اطرافه وتعجبه : أو ليس صاحبي فلان الذى كانت له من الحقوق كذا وكذا ، وبلغ من الاختصاص بي إلى منزلة كذا قتلته وأبحت حريمه وسلبت ماله؟ وان كان ذلك انما استحقه بما تجدد منه في المستقبل ، وانما عرف بالحسن من أعماله على سبيل التعجب وهذا واضح. في الاحكام المدعى مخالفة علي فيها لمن سواه (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما عابه النظام به عليه السلام من الاحكام التي داعى أنه خالف فيها جميع الامة ، مثل بيع أمهات الاولاد وقطع يد السارق من أصول الاصابع ودفع السارق إلى الشهود ، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان وجهره بتسمية الرجال في القنوت وقبوله شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، والله تعالى يقول :( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وأخذه (عليه السلام) نصف دية الرجل من أولياء المرأة وأخذه نصف دية العين من المقتص من الاعور وتخليفه رجلا يصلى العيدين بالضعفاء في المسجد الاعظم ، وأنه (عليه السلام) أحرق رجلا أتى غلاما في دبره ، وأكثره ما أوجب على من فعل هذا الفعل الرجم ، وأنه أوتى بمال من مهور البغايا فقال عليه السلام ارفعوه حتى يجئ عطاء غني وباهلة. فقال النظام لم خص بهذا غنيا وباهلة؟ فان كانوا مؤمنين فمن عداهم من المؤمنين كهم في جواز تناول هذا المال وان كانوا غير مؤمنين فكيف يأخذون العطاء مع المؤمنين؟ قال وذلك المال وان كان من مهور البغايا أو بيع لحم الخنازير بعد أن تملكه الكفار ثم يبيحه الله

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189