تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء30%

تنزيه الانبياء مؤلف:
تصنيف: النبوة
الصفحات: 189

تنزيه الانبياء
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46776 / تحميل: 5457
الحجم الحجم الحجم
تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء

مؤلف:
العربية

تنزيه الانبياء

ابي القاسم علي بن الحسين الموسوي

المعروف بالشريف المرتضى

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى

قريبة إنشاء الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ومستحقه ، وصلى الله على خيرته من خلقه ، على عباده محمد وآله الابرار الطاهرين ، الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. سألت احسن الله توفيقك ، إملاء كتاب في تنزيه الانبياء والائمة عليهم السلام عن الذنوب والقبائح كلها ، ما سمي منها كبيرة أو صغيرة والرد على من خالف في ذلك ، على اختلافهم وضروب مذاهبهم وأنا اجيب إلى ما سألت على ضيق الوقت ، وتشعب الفكر ، وأبتدئ بذكر الخلاف في هذا الباب ، ثم بالدلالة على مذهب الصحيح من جملة ما اذكره من المذاهب ، ثم بتأويل ما تعلق به المخالف من الآيات والاخبار ، التي اشتبه عليه وجهها ، وظن انها تقتضي وقوع كبيرة أو صغيرة من الانبياء والائمة عليهم السلام ، ومن الله تعالى استمد المعونة والتوفيق ، واياه اسأل التأييد والتسديد. بيان الخلاف في نزاهة الانبياء عن الذنوب : اختلف الناس في الانبياء عليهم السلام. فقالت الشيعة الامامية ، لا يجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا ، لا قبل النبوة ولا بعدها ، ويقولون في الائمة مثل ذلك ، وجوز اصحاب الحديث والحشوية على الانبياء الكبائر قبل

٢

النبوة ، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوى الكذب فيما يتعلق باداء الشريعة ، ومنهم من جوزها كذلك في حال النبوة بشرط الاستسرار دون الاعلان ، ومنهم من جوزها على الاحوال كلها ، ومنعت المعتزلة. من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الانبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها ، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير ، ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي صلى الله عليه وسلم الاقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد ، ومنهم من منع من ذلك وقال انهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا ، بل على سبيل التأويل. وحكي عن النظام ، وجعفر بن مبشر ، وجماعة ممن تبعهما ، ان ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة ، وانهم مؤاخذون بذلك ، وان كان موضوعا من أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم. وجوزوا كلهم ومن قدمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث على الائمة الكبائر والصغائر ، إلا انهم يقولون ان بوقوع الكبيرة من الامام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به. واعلم ان الخلاف بيننا وبين المعتزلة. في تجويزهم الصغاير على الانبياء صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق لانهم انما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب ، وإنما يكون حظه نقص الثواب على اختلافهم أيضا في ذلك ، لان أبا علي الجبائي يقول : ان الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة ، فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى ، لان الشيعة إنما تنفي عن الانبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب ، لان الاحباط باطل عندهم ، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب ، وإذا كان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الانبياء عليهم السلام وجب ان تنتفي عنهم ساير الذنوب ، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط ، فإذا بطل الاحباط فلابد من الاتفاق على ان شيئا

٣

من المعاصي لا يقع من الانبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب ، لكنه يجوز ان نتكلم في هذه المسألة على سبيل التقدير ونفرض ان الامر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة ، ومتى فرضنا ذلك لم نجوز ايضا عليهم الصغائر لما سنذكره ونبينه انشاء الله تعالى. تنزيه الانبياء كافة عن الصغائر والكبائر : (واعلم) ان جميع ما تنزه الانبياء عليهم السلام عنه ، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة ، وتفسير هذه الجملة ، ان العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة ، وجاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في انك رسولي ومؤد عني. فلابد من ان يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه ، لانه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب ، لان تصديق الكذاب قبيح ، الجبائي : هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية. كما قلنا ان الكذب قبيح ، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فانما دل المعجز على نفيها ، من حيث كان دالا على وجوب اتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه ، وقبوله منه ، لان الغرض في بعثة الانبياء عليهم السلام ، تصديقهم بالاعلام ، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به ، فما قدح في الامتثال والقبول واثر فيهما ، يجب أن يمنع المعجز منه ، فلهذا قلنا : انه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة ، وفي الاول يدل بنفسه ، فإن قيل : لم يبق إلا أن تدلوا على ان تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال ، قلنا : لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الاقدام على الذنوب ، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا ان وقوع الكبائر منفر عن القبول ، والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالادلة والقياس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فان حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه. فإن قيل : أو ليس

٤

قد جوز كثير من الناس على الانبياء عليهم السلام الكبائر مع انهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع ، وهذا ينقض قولكم ان الكبائر منفرة. قلنا : هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه ، لانا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق ، وان لا يقع امتثال الامر جملة. وإنما أردنا ما فسرناه من ان سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول. كما إنا مع الامان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أن عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من ان يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من ان يكون مقربا ، فدل على ان المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه ، فان قيل : فهذا يقتضي ان الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين انها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير. قلنا : الطريقة في الامرين واحدة ، لانا نعلم ان من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الاحوال وان تاب منهما ، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا ، وفي نفسونا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا

٥

ما يعير الناس. وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاحوال ولا على وجه من الوجوه. ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب ان لا يكون فيه شئ من التنفير ، لان الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان احدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى ان كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة ، وان القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الاحيان والاوقات المتباعدة منفر أيضا ، وان فارق الاول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الاول من ان يكون منفرا في نفسه. فإن قيل : فمن أين قلتم ان الصغائر لا تجوز على الانبياء في حال النبوة وقبلها؟ قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل ، لانا كما نعلم ان من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم ان من يجوز عليه الصغائر من الانبياء (ع) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها ، وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها. فاما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ ، لانه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما ، ألا ترى ان كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم. على ان هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة ، لان التوبة والاقلاع قد ازالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما. فإن قيل : كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لانها

٦

بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب ، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة. ألا ترون ان كثيرا من الانبياء عليهم السلام قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب ، ولا يكون ذلك منفرا عنهم. قلنا : ان الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها ، بل انما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على انهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه. وبعد : فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل ، لانها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت ، وبين قوتها. وان لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى ان من ولى ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية ، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة ، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة. وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الانبياء عليهم السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل. إلا ان أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله ان ذنوب الانبياء لا تكون عمدا ، وإنما يقدمون عليها تأويلا ، ويمثل لذلك بقصة آدم (ع) ، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن ان النهي يتناول العين ، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض ، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للانبياء عليهم السلام ، واعتقادا ان تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها ، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين ، لانه مخطئ على مذهبه في الاعراض عن تأمل مقتضى النهي ، وهل يتناول الجنس أو العين لان ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة ، وهاتان معصيتان. وبعد : فإن تعمد المعصية ليس يجب ان يكون مقتضيا لكبرها لا محالة ، لانها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل

٧

ما يوجب صغرها ، ويمنع من كبرها. وليس له ان يقول ان النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه ، لان ذلك ان لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا ، وكيف يكون تناوله معصية؟ ولابد على هذا من ان يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الاخلال بالواجب ، ولا فرق في باب التنفير بين الاقدام على المعصية والاخلال بالواجب. فإذا جاز عنده ان يتعمد الاخلال بالواجب ولا يكون منه كبيرا ، جاز ان يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا. فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما ، من ان ذنوب الانبياء عليهم السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة ، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها ، فليس بشئ ، لان السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من ان يكون ذنبا مؤاخذا به ، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والادلة ، فلو جاز ان يخالف حال الانبياء في صحة تكليفهم مع السهو ، جاز ان يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح ، فأما الطريق الذي به يعلم ان الائمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الكبائر في حال الامامة ، فهو أن الامام انما احتيج إليه لجهة معلومة ، وهي ان يكون المكلفون عند وجوده ابعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع ، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة. فيه. وموجبة وجود امام يكون اماما له ، والكلام في امامته كالكلام فيه ، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الائمة وهو باطل أو الانتهاء إلى امام معصوم وهو المطلوب. ومما يدل ايضا على ان الكبائر لا تجوز عليهم ، ان قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الانبياء (ع) ، بل يجوز ان ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم ، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه

٨

في مواضع كثيرة ، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الانبياء (ع) فيما يجوز عليهم ومالا يجوز ، فإذا كنا قد بينا ان الكبائر والصغائر لا يجوزان على الانبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول اقوالهم ، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم ، فكذلك يجب أن يكون الائمة عليهم السلام منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الامامة وبعدها ، لان الحال واحدة. وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الانبياء (ع) من الكتاب.

في تنزيه آدم عليه السلام

(مسألة) فمما تعلقوا به قوله تعالى في قصة آدم (ع) :( وعصى آدم ربه فغوى ) . قالوا وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة ، وأكده بقوله فغوى ، وهذا تصريح بوقوع المعصية ، والغي ضد الرشد. (الجواب) : يقال لهم أما المعصية فهى مخالفة الامر ، والامر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا ، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا ، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب. فإن تسمية من خالف ما أمر به سواه كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة ، ولهذا يقولون أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني ، وإن لم يكن ما أمره به واجبا ، وأما قوله (فغوى) ، فمعناه انه خاب ، لانا نعلم انه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم. فإذا خالف الامر ولم يصر إلى ما ندب إليه ، فقد خاب لا محالة ، من حيث انه لم يصر إلى الثواب الذى كان يستحق بالامتناع ، ولا شبهة في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة. قال الشاعر : فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره؟ ومن يغو لا يعدم على الغي لائما فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ترك الندب

٩

معصية؟ أو ليس هذا يوجب ان توصف الانبياء (ع) بأنهم عصاة في كل حال ، وأنهم لا ينفكون من المعصية لانهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب؟ قلنا : وصف تارك الندب بانه عاص توسع وتجوز والمجاز لا يقاس عليه ولا يعدى به عن موضعه. ولو قيل انه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الاولى والافضل ، ولم يجز إطلاقه أيضا في الانبياء (ع) إلا مع التقييد لان استعماله قد كثر في القبائح ، فإطلاقه بغير تقييد موهم ، لكنا نقول : ان أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبايح فلا يجوز ذلك ، وان أردت انهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب وكان أولى فهم كذلك. فإن قيل : فأي معنى لقوله تعالى :( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) وأي معنى لقوله تعالى :( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم ) فكيف تقبل توبة من لم يذنب؟ ام كيف يتوب من لم يفعل القبيح؟ قلنا : أما التوبة في اللغة : الرجوع ، ويستعمل في واحد منا وفى القديم تعالى. والثانى ان التوبة عندنا وعلى أصولنا فغير موجبة لا سقاط العقاب ، وإنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلا ، والذى توجبه التوبة وتؤثره هو استحقاق الثواب ، فقبولها على هذا الوجه انما هو ضمان الثواب عليها. فمعنى قوله تعالى :( تاب عليه ) انه قبل توبته وضمن له ثوابها ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة من هذا الجواب ، لانه إذا قيل له كيف تقبل توبته وتغفر له معصيته؟ قد وقعت في الاصل مكفرة لا يستحق عليها شيئا من العقاب ، لم يكن له بد من الرجوع إلى ما ذكرناه ، والتوبة قد تحسن ان تقع ممن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه ، ويكون وجه حسنها في هذا الموضع إستحقاق الثواب بها أو كونها لفظا ، كما يحسن أن تقع ممن يقطع على انه غير مستحق للعقاب ، وأن التوبة لا تؤثر في اسقاط شئ يستحقه من العقاب ، ولهذا جوزوا التوبة من الصغائر وإن لم

١٠

تكن مؤثرة في اسقاط ذم ولا عقاب. فان قيل : الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه ، لانه اخبر ان آدم عليه السلام منهي عن أكل الشجرة بقوله :( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) وبقوله :( ألم انهكما عن تلكما الشجرة ) ؟ وهذا يوجب بأنه (ع) عصى بأن فعل منهيا عنه ولم يعص بان ترك مأمورا به. قلنا : أما النهي والامر معا فليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك ، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الامر ، فإنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه. فإذا قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة ، ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهيا ، كما أنه تعالى لما قال :( اعملوا ما شئتم وإذا حللتم فاصطادوا ) ، ولم يرد ذلك ، لم يكن أمرا. فإذا كان قد صح قوله (ولا تقربا هذه الشجرة) إرادة لترك التناول ، فيجب ان يكون هذا القول أمرا ، وإنما سماه منهيا عنه ، ويسمى أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ، لان النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل ، وتزهيدا في الفعل نفسه. ولما كان الامر ترغيبا في الفعل المأمور به وتزهيدا في تركه ، جاز ان يسمى نهيا. وقد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول احدنا قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الامير ، وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه ، ويقول نهيتك عن هجر زيد وإنما معناه امرتك بمواصلته ، فإن قيل ألا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح ومنهي غير قبيح ، بل يكون تركه أفضل من فعله ، كما جعلتم الامر منقسما إلى واجب وغير واجب. قلنا الفرق بين الامرين ظاهر ، لان انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب وغير واجب غير مدفوع ، ولا خاف ، وليس يمكن أحد أن يدفع ان في الافعال الحسنة التي يستحق بها المدح والثواب ما له صفة الوجوب ، وفيها ما لا يكون كذلك. فإذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الارادة له واستحقاق الثواب والمدح به ، فليس يفارقه إلا بكراهة الترك. لان الواجب تركه مكروه والنفل ليس كذلك. فلو جعلنا

١١

الكراهة تتعلق بالقبيح وغير القبيح من الحكيم تعالى ، وكذلك النهي. كما جعلنا الامر منه يتعلق بالواجب وغير الواجب ، لارتفع الفرق بين الواجب والندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول ، فان قيل : فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما :( ربنا ظلمنا انفسنا ) وقوله تعالى :( فتكونا من الظالمين ) . قلنا : معناه أنا نقصنا انفسنا وبخسناها ما كنا نستحقه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة ، وحرمناها الفايدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب ، وإن لم يكن مستحقا قبل ان يفعل الطاعة التي يستحق بها ، فهو في حكم المستحق ، فيجوز ان يوصف بذلك من فوت نفسه بأنه ظالم لها ، كما يوصف من فوت نفسه المنافع المستحقة. وهذا معنى قوله تعالى :( فتكونا من الظالمين ) . فإن قيل فإذا لم تقع من آدم عليه السلام على قولكم معصية ، فلم أخرج من الجنة على سبيل العقوبة وسلب لباسه على هذا الوجه؟ ولولا أن الاخراج من الجنة وسلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب ، كما قال الله تعالى :( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما ) وقال تعالى في موضع آخر :( فأخرجهما مما كانا فيه ) ؟. قلنا : نفس الاخراج من الجنة لا يكون عقابا ، لان سلب اللذات والمنافع ليس بعقوبة ، وإنما العقوبة هي الضرب والالم الواقعان على سبيل الاستخفاف والاهانة. وكذلك نزع اللباس وابداء السوأة. فلو كانت هذه الامور مما يجوز ان تكون عقابا ويجوز ان يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره ، بدلالة ان العقاب لا يجوز ان يستحقه الانبياء عليهم السلام. فإذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة ، فهو اولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك ، فان قيل فما وجه ذلك ان لم تكن عقوبة؟. قلنا : لا يمتنع ان يكون الله تعالى علم ان المصلحة تقتضي تبقية آدم عليه السلام في الجنة وتكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة ، فمتى تناول منها تغيرت الحال في المصلحة وصار اخراجه عنها وتكليفه في دار

١٢

غيرها هو المصلحة. وكذلك القول في سلب اللباس حتى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك ، وإنما وصف إبليس بأنه مخرج لهما من الجنة من حيث وسوس اليهما وزين عندهما الفعل الذي يكون عنده الاخراج ، وإن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنه يتعلق به تعلق الشرط في مصلحته ، وكذلك وصف بأنه مبدئ لسوأتهما من حيث اغواهما ، حتى اقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأن اللباس معه ينزع عنهما ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة لا يستحق بها العقاب من مثل هذا التأويل ، وكيف يجوز ان يعاقب الله تعالى نبيه بالاخراج من الجنة أو غيره من العقاب ، والعقاب لابد من ان يكون مقرونا بالاستخفاف والاهانة ، وكيف يكون من تعبدنا الله فيه بنهاية التعظيم والتبجيل مستحقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والاهانة : وأي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت؟ وما يجيز مثل ذلك على الانبياء (ع) إلا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم. حول ايحاء ابليس لحواء بتسمية ولدها عبد الحارث : (مسألة) فان قال قائل فما قولكم في قوله تعالى( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما اثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما اتاهما فتعالى الله عما يشركون ) أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضى وقوع المعصية من آدم (ع) لانه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه إلا ذكر آدم (ع) وزوجته ، لان النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء. فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه ، على انه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى ، لما ان حملت حواء عرض لها وكانت ممن لا يعيش لها ولد. فقال لها احببت ان يعيش ولدك فسميه عبد الحارث ، وكان أبليس قد سمي الحارث ، فلما ولدت

١٣

سمت ولدها بهذه التسمية. فلهذا قال تعالى :( جعلا له شركاء فيما اتاهما ) . (الجواب) : يقال له قد علمنا ان الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الانبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير محتملة ، ولا يصح دخول المجاز فيها. والكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلابد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل ، لكنا نعلم في الجملة ان تأويلها مطابق لدلالة العقل. وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل ومما يشهد له اللغة وجوه. (منها) ان الكناية في قوله سبحانه :( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) غير راجعة إلى آدم (ع) وحواء ، بل إلى الذكور والاناث من أولادهما ، أو إلى جنسين ممن اشترك من نسلهما. وان كانت الكناية الاولى تتعلق بهما ويكون تقدير الكلام : فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى. ويقوي هذا التأويل قوله سبحانه :( فتعالى الله عما يشركون ) . وهذا ينبئ على ان المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم (ع) وحواء ، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا اليهما ، لان الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره ، ومن كناية إلى خلافها. قال الله تعالى :( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله ) فانصرف من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله إلى مخاطبة المرسل إليهم ، ثم قال :( وتعزروه وتوقروه ) يعني الرسول ، ثم قال (وتسبحوه) يعني مرسل الرسول. فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى. وقال الهذلي : يا لهف نفسي كأن جدة خالد وبياض وجهك للتراب الاعفر ولم يقل بياض وجهه. وقال كثير : أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة؟ لدينا ولا مقلية ان تقلت فخاطب ثم ترك الخطاب. وقال الآخر : فدى لك ناقتي وجميع أهلي؟ ومالي

١٤

انه منه أتاني ولم يقل منك أتاني. فإن قيل ، كيف يكنى عمن لم يتقدم له ذكر؟. قلنا : لا يمتنع ذلك ، قال الله تعالى :( حتى توارت بالحجاب ) ولم يتقدم للشمس ذكر ، وقال الشاعر : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بي الصدر ولم يتقدم للنفس ذكر. والشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا على انه قد تقدم ذكر ولد آدم (ع) ، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى :( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) ومعلوم ان المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام. وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى :( فلما أتاهما صالحا ) لان المعنى أنه لما أتاهما ولدا صالحا. والمراد بذلك الجنس ، وإن كان اللفظ لفظ وحدة. وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما ، وجب أن يضاف إلى من يليق به. والشرك لا يليق بآدم عليه السلام ، فيجب ان ننفيه عنه ، وإن تقدم ذكره وهو يليق بكفار ولده ونسله فيجب ان نعلقه بهم. (ومنها) ما ذكره أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني ، فإنه يحمل الآية على ان الكناية في جميعها غير متعلقة بآدم (ع) وحواء ، فيجعل الهاء في (تغشيها) والكناية في (دعوا الله ربهما) و( اتاهما صالحا ) راجعين إلى من اشرك. ولم يتعلق بآدم (ع) من الخطاب إلا قوله تعالى :( خلقكم من نفس واحدة ) قال : والاشارة في قوله :( خلقكم من نفس واحدة ) إلى الخلق عامة. وكذلك قوله :( وجعل منها زوجها ) ثم خص منها بعضهم ، كما قال الله تعالى :( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) فخطاب الجماعة بالتسيير ، ثم خص راكب البحر. وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها ، وهما آدم وحواء. ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ، أدعى له الشركاء في عطيته. قال وجايز أن يكون عنى بقوله :( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) المشركين خصوصا ، إذا كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها ، ويكون المعنى في قوله تعالى :( خلقكم من نفس واحدة )

١٥

وهذا قد يجئ كثيرا في القرآن وفي كلام العرب. قال الله تعالى :( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وهذا الوجه يقارب الوجه الاول في المعنى وان خالفه في الترتيب. (ومنها) ان تكون الهاء في قوله :( جعلا له شركاء ) راجعة إلى الولد لا إلى الله تعالى ، ويكون المعنى انهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح ، فشركا بين الطلبتين. ويجري هذا القول مجرى قول القائل : طلبت مني درهما فلما أعطيتك شركته بآخر ، أي طلبت آخر مضافا إليه. فعلى هذا الوجه لا يمتنع ان تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام. فان قيل : فأي معنى على هذا الوجه لقوله :( فتعالى الله عما يشركون ) وكيف يتعالى الله عن ان يطلب منه ولد بعد آخر. (قلنا) لم ينزه الله تعالى نفسه عن هذا الاشراك ، وإنما نزهها عن الاشراك به ، وليس يمتنع ان ينقطع هذا الكلام عن حكم الاول ، ويكون غير متعلق به ، لانه تعالى قال :( أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك دون ما تقدم ، وليس يمتنع انقطاع اللفظ في الحكم عما يتصل به في الصورة ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، لان من عادة العرب ان يراعوا الالفاظ اكثر من مراعاة المعاني ، فكأنه تعالى لما قال جعلا له شركاء فيما اتاهما ، وأراد الاشتراك في طلب الولد ، جاء بقوله تعالى عما يشركون على مطابقة اللفظ الاول ، وان كان الثاني راجعا إلى الله تعالى ، لانه يتعالى عن اتخاذ الولد وما اشبهه. ومثله قول النبي قد سئل عن العقيقة فقال : «لا أحب العقوقة ، ومن شاء منكم ان يعق عن ولده فليفعل». فطابق اللفظ وان أختلف المعنيان وهذا كثير في كلامهم. فاما ما يدعي في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت

١٦

إليه ، لان الاخبار يجب ان تبنى على أدلة العقول ، ولا تقبل في خلال ما تقتضيه أدلة العقول. ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ، ونردها أو نتأولها ان كان لها مخرج سهل. وكل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحا في طريقه ، فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة وهو منقطع ، لان الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين. وقد يدخل الوهن على هذا الحديث من وجه آخر ، لان الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما رواه خلف بن سالم عن اسحاق بن يوسف عن عوف عن الحسن في قوله تعالى :( فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما ) قال هم المشركون. وبازاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم ، من ان الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته عليهما السلام وان المراد به غيرهما وهذه جملة واضحة.

تنزيه نوح عليه السلام

(مسألة) فان سأل سائل عن قوله تعالى :( ونادى نوح ربه فقال رب ان أبني من اهلي وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين قال يا نوح أنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين ) فقال : ظاهر قوله تعالى انه ليس من أهلك ، فيه تكذيب ، لقوله عليه السلام ان ابني من أهلي. وإذا كان النبي (ع) لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك؟ قيل له في هذه الآية وجوه ، كل واحد منها صحيح مطابق لادلة العقل. (أولها) أن نفيه لان يكون من أهله لم يتناول فيه نفي النسب ، وإنما نفى ان يكون من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ، لانه عزوجل كان وعد نوحا عليه السلام بأن ينجي اهله في قوله :( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك إلا من سبق عليه القول ) فاستثنى من اهله من اراد اهلاكه بالغرق. ويدل على

١٧

صحة هذا التأويل قول نوح عليه السلام : ان ابني من اهلي وان وعدك الحق. وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان. وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين. (والوجه الثاني) ان يكون المراد من قوله تعالى :( ليس من اهلك ) أي انه ليس على دينك ، وأراد انه كان كافرا مخالفا لابيه ، فكأن كفره اخرجه من ان يكون له أحكام أهله. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على سبيل التعليل :( انه عمل غير صالح ) فتبين انه انما خرج عن احكام اهله بكفره وقبيح عمله. وقد حكي هذا الوجه أيضا عن جماعة من اهل التأويل. (والوجه الثالث) انه لم يكن ابنه على الحقيقة ، وإنما ولد على فراشه. فقال (ع) ان ابني على ظاهر الامر. فأعلمه الله تعالى ان الامر بخلاف الظاهر ، ونبهه على خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لانه انما اخبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي ، فاخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره. وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج. وفي هذا الوجه بعد ، إذ فيه منافاة للقرآن لانه تعالى قال :( ونادى نوح ابنه ) فأطلق عليه اسم النبوة. ولانه تعالى أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى :( واهلك إلا من سبق عليه القول ) . ولان الانبياء عليهم السلام يجب ان ينزهوا عن هذه الحال لانها تعبير وتشيين ونقص في القدر ، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم. وقد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على ان تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ، فخانتاهما ، أن الخيانة لم تكن منهما بالزنا ، بل كانت احداهما تخبر الناس بأنه مجنون ، والاخرى تدل على الاضياف. والوجهان الاولان هما المعتمدان في الآية ، فإن قيل اليس قد قال جماعة من المفسرين ان الهاء في قوله تعالى :( انه عمل غير صالح ) راجعة إلى السؤال؟ والمعنى ان سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير

١٨

صالح ، لانه قد وقع من نوح (ع) السؤال والرغبة في قوله : رب إن ابني من اهلي وان وعدك الحق ، ومعنى ذلك نجه كما نجيته. قلنا ليس يجب ان تكون الهاء في قوله ان عمل غير صالح ، راجعة إلى السؤال بل إلى الابن يكون تقدير الكلام : ان ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ويشهد لصحة هذا التأويل ، قول الخنساء : ما ام سقب على بو تطيف به * قد ساعدتها على التحنان اظئار ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت * فانما هي اقبال وادبار وإنما اراد انها ذات إقبال وذات إدبار ، وقد قال قوم في هذا الوجه : ان المعنى في قوله : إنه عمل غير صالح ، أن اصله عمل غير صالح من حيث ولد على فراشه وليس بإبنه. وهذا جواب من يرى انه لم يكن ابنه على الحقيقة. والذي اخترناه خلاف ذلك ، وقد قرئت هذه الآية بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ، ومع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح (ع) ، وقد ضعف قوم هذه القراءة فقالوا : كان يجب ان يقول انه عمل عملا غير صالح ، لان العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن ، حتى يقولوا عملا غير حسن. وليس هذا الوجه بضعيف ، لان من مذهبهم الظاهر أقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس. فيقول القائل : قد فعلت صوابا وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا. وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي؟. ايها القائل غير الصواب؟ أخر النصح واقلل عتابي وقال أيضا : وكم من قتيل ما يباء به دم * ومن علق رهنا إذا لفه الدما ومن مالي عينيه من شئ غيره * إذا راح نحو الحمرة البيض كالدما أرادوكم من انسان قتيل. وقال رجل من بجيلة : كم من ضعيف العقل منتكث القوى * ما ان له نقض ولا ابرام أرادكم من انسان ضعيف العقل والقوى. فإن قيل : لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قال الله تعالى :( فلا تسألني ما ليس لك به علم اني أعظك ان تكون من الجاهلين ) فكيف قال نوح عليه السلام من بعد :( رب اني أعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) . قلنا ليس يمتنع أن يكون نوح (ع) نهى عن سؤال ما ليس له

١٩

به علم ، وإن لم يقع منه ، وان يكون هو (ع) تعوذ من ذلك ، وان لم يواقعه. ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وآله قد نهى عن الشرك والكفر ، وإن لم يقعا منه ، في قوله تعالى :( لئن أشركت ليحبطن عملك ) . وانما سأل نوح عليه السلام نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع. فلما بين الله تعالى ان المصلحة في غير نجاته ، لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال. فأما قوله تعالى :( اني اعظك ان تكون من الجاهلين ) ، فمعناه لئلا تكون منهم. ولا شك في ان وعظه تعالى هو الذي يصرفه عن الجهل وينزهه عن فعله. وهذا كله واضح.

تنزيه ابراهيم عليه السلام

فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن ابراهيم عليه السلام :( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الظالمين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون ) أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي انه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الاوقات الالهية للكواكب ، وهذا مما قلتم انه لا يجوز على الانبياء عليهم السلام. (الجواب) : قيل له في هذه الآية جوابان : احدهما ان ابراهيم عليه السلام انما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له ، لان ابراهيم (ع) لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما اكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلما رأى الكواكب : وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة واعظمه ما رآها عليه من النور وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون انها آلهة. قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم ان الافول لا يجوز على الاله ، علم انها محدثة متغيرة منتقلة. وكذلك

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لندن إلى ملبورن باستراليا تتم في بضع ثوان، فاذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة، فما بالنا بنظامنا العصبي، وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيدا؟! ان ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي - الذي أوجدته الطبيعة - من جانب إلى آخر، ليل نهار. وهذه الأخبار هي التي توجه القلب في تدفقها، وفي حركتها، وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة، وتتحكم في الحركات الرئوية. ولو لم يكن هذا النظام موجودا في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقا لاشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.ومركز هذا النظام للمواصلات مخ الانسان، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون خلية عصبية، ومع كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم، وتسمى هذه الأسلاك «الأنسجة العصبية»، وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وارسال للأخبار، بسرعة سبعين ميلا في الساعة. وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق، ونسمع، ونرى، ونباشر سائر أعمالنا؛ بل ان هنالك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة وتسمى Taste Buds ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ. وبوساطة هذه الشعيرات يحس بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية. ومن خلال نظام معقد، يسري من هذه الخلايا، يسمع مخنا. وفي كل عين مائة وثلاثون مليونا من الخلايا الملتقطة للضوء Light Roceptors ، وتقوم بمهمة ارسال المجموعة التصويرية إلى المخ، وهناك شبكة من الأنسجة الحسية على امتداد جلدنا، فاذا قربنا إلى الجلد شيئا حارا، فان ثلاثين ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس بهذه العملية وترسلها فورا إلى المخ. واذا قربنا إلى الجلد شيئا باردا، فان ربع مليون من الخلايا، التي تلتقط الأشياء الباردة، تحس به، وعندئذ يمتلىء المخ باثرها، ويرتعد الجسم، وتتسع الشرايين الجلدين، فيسرع مزيد من الدم اليها ويزودها بالحرارة، ويرتعد الجسم، ويزودها بالحرارة. واذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة، فان مخابرات الحرارة توصلها إلى الدماغ، وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية - تلقائيا - عرقا باردا الى خارج الجسم. والنظام العصبي يشتمل على عدة فروع. منها (الفرع المتحرك ذاتي) Autonomic Branch ويقوم بأعمال تحدث ذاتيا في الجسم، كعملية الهضم والتنفس وحركات القلب. ويندرج تحت هذا الفرع نظامان: أحدهما (النظام الخالق للحركة) Sympathetic System والآخر: هو المانع لها Payasympathetic وهذا الأخير يقوم بعملية المقاومة والدفاع. ولو ترك الأمر للنظام الاول لازدادت حركة القلب زيادة يترتب عليها موت صاحبه، ولو سيطر النظام الثاني لتوقفت حركة القلب توقفا تاما. وأقسام هذين النظامين تباشر أعمالها في دقة فائقة، وفي توازن عام، ولكن هنالك حالات يزداد فيها نشاط أحد النظامين، فالنظام الأول يتغلب عند الضغط واحتياج القلب إلى قوة مسعفة، وعندئذ تزيد سرعة عمليات القلب والرئة، والنظام الثاني يتغلب عند النوم. فيسود السكون جميع الحركات الجسمية.

٦١

تقليد الطبيعة

ان أحسن الآلات من صناعة الانسان لايمكن أن تقف أمام النظام العجيب الذي يوجد في الكون. ولهذا فان تقليد نظام الطبيعة قد أصبح اليوم مصنوعا خاصا في العلم، يولي أهمية خاصة للسير بالآلات الميكانيكية وفق ذلك النظام. وأصبحنا نرى علما جديدا يسمى (بيونيكس) Bionics لهذه الدراسة. وكانت مقتصرة من قبل على اكتشاف القوى الكامنة في الطبيعة واستغلالها.

واليوم يسلك النظام البيولوجي سبلا كثيرة للحصول على معلومات تساعد على حل مسائل الهندسة. ومن أمثلة استغلال نظام الطبيعة في الصناعة آلة التصوير، وهي في الواقع تقليد ميكانيكي لعين الانسان، فعدسة الكاميرا Lens هي كالشبكة الخارجية للعين، والحجاب الحاجز Diaphragm هو قزحية العين Tyis والفيلم الذي يتأثر بالضوء. انما هو شاشة العين التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشياء معكوسة(١) . لقد ابتكرت جامعة موسكو آلة نموذجية لالتقاط وقياس (الذبذبات تحت الصوتية) Infra - Sonic Vibrations وهذه الآلة تستقبل وتلتقط أخبار الفيضانات والزلازل وما أشبهها من الكوارث قبل حدوثها بمدة تتراوح بين اثنتي عشرة ساعة، وخمس عشرة ساعة. وهي أقوى من الآلات المستعملة خمس مرات. فمن أين جاء هذا التفكير إلى العلماء؟ لقد استنبطوه من سمكة قنديل البحر، التي تسمى (هلامي) Jelly Fish فقلد المهندسون أعضاءها، وهي شديدة الحساسية، حتى لتحس بالذبذبات تحت الصوتية(٢) !.

وهناك أمثلة كثيرة جدا غير هذه يمكن عرضها، وهي تؤكد أن علماء الطبيعة والتكنولوجيا يقلدون - في تفكيرهم الحديث - النماذج الحية في الطبيعة.

وقد شغلت بال العلماء مسائل كثيرة من أزمان مضت، على حين حلتها الطبيعة منذ زمن بعيد. وان كانت اجهزة التصوير وتلقي الأخبار «التليبرنتر» لايمكن وجودها بغير عقل انساني، فمن المستحيل ان نتصور ان نظام الكون - الذي هو أكثر تعقيدا من أي نظام - قد قام بنفسه بغير عقل وراءه؛ بل لابد أن له مهندسا منظما - هو الاله، ولايمكن أن يتصور العقل نظاما دون منظم، فليس من اللامعقول أن نعتقد بوجود منظم للكون، بل ان من اللامعقول أن ننكر خالق هذا النظام، فالحقيقة أن العقل الانساني لايملك أساسا عقليا لانكار الاله.

___________________

(١) لن يجرؤ صاحب علم منا أن يدعي أن آلة التصوير جاءت عن نفسها، دون اختراع انساني. ولكن الكثيرين من علمائنا يعتقدون أن «العين» جاءت عن صدفة واتفاق محض!!.

(٢) Soviet Land, Delhi, Dec, ١٩٦٣.

٦٢

ثالثا - روح الكون الغريبة:

ليس الكون كسلة المهملات، وانما هو منطو على روح غريبة. وهذه الروح لايمكن أن تصدر الا عن عقل قام بخلق الكون، ويقوم بتدبيره. وليس من الممكن أن يوجد نظام وروح في عملية مادية عمياء، حدثت اتفاقا؛ فالكون متوازن، ومتناسب إلى حد لايمكن تصوره. لقد قال «شادفاش Chadvalsh : «ان من الممكن أن نسأل أي رجل - مؤمنا بالله كان او منكر له - نسأله ان يثبت كيف يمكن ان يكون هذا التوازن في صالحه، اذا كان الكون قد وجد بمحض الصدفة؟»(١) .

لابد للحياة فوق الأرض من أحوال كثيرة، يستحيل اجتماعها بنسبها الخاصة رياضيا. ولكننا نجد أن هذه الحالات المستحيل اجتماعها رياضيا موجودة على سطح الأرض فعلا. وذلك يحتم علينا أن نؤمن بأن هنالك طاقة عظيمة عاقلة وراء الكون؛ هي المتسببة في وجود هذه الحالات.

التوازن المدهش في الأرض

الأرض أهم عالم عرفناه، اذ توجد فيها أحوال لاتوجد في شيء من هذا الكون الواسع، وهي في ضخامتها (كما تبدو لنا) لاتساوي ذرة من هذا الكون العظيم، ولو ان حجمها كان أقل أو أكثر، مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها، فلو أنها كانت في حجم القمر مثلا؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلا. لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية، ونتيجة لذلك لايمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها، كما هي الحال في القمر، الذي لايوجد فيه ماء ولايحوطه غلاف هوائي، لضعف قوة الجاذبية فيه. وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلا حتى يتجمد كل مافيها، واشتداد الحرارة نهارا حتى يحترق كل ماعليها. وكذلك يترتب على نقص حجم الارض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارا كبيرا من الماء. وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض، ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب «عجلة التوازن العظيمة) Great Balance Wheel(٢) وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى. ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها، ثم تنخفض إلى ادنى درجاتها، على ما سبق ذكره.

وعلى العكس من ذلك، اذا كان قطر الارض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها

___________________

(١) The Evidence of God, p. ٨٨.

(٢) The Evidence of God, p. ٨٨.

٦٣

الحالية؛ وحينئذ ينكمش غلافها الجوي - الذي هو على بعد خمسمائة ميل - إلى ما دون ذلك. وسيترتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين من الضغط الجوي، وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.

ولو أن الأرض تضاعف حجمها، فصارت مثل حجم الشمس مثلا، لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مائة وخمسين مرة، ولاقترب غلافها الهوائي، حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط، بدلا من خمسمائة ميل، ولارتفع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة. وذلك يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية. وهو من الناحية النظرية يعني أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلا واحدا - تحت الكثافة الهوائية - الحالية - خمسمائة رطل. كما يهبط حجم الانسان حتى يصير في حجم فار كبير، ولاستحال وجود العقل في الانسان، لأنه لابد للعقل الانساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم، ولايوجد هذا النظام الا اذا كان حجم الجسم بقدر معين.

***

نحن قائمون على الأرض ظاهرا، ولكن الأصح ان نقول: نحن ملقون على رؤوسنا، ولتوضيح ذلك نقول: ان الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الانسان، فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة، ان سكان أمريكا سيكونون تحت سكان اهالي الهند، وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.

فأرضنا هذه ليست بثابتة، وانما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة، وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وضعت على محيط عجلة تدور بسرعة، يوشك أن تقذف بها في الفضاء، ولكن الأرض لاتقذفنا؛ بل نحن مستقرون عليها، فكيف تمسكنا وهي تدور بهذه السرعة؟!!.

ان في الأرض جاذبية غير عادية، وهي بهذه الجاذبية تشد كل شيء اليها، فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة، وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.

وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة مايقرب من ١٥ رطلا معناه: أن كل انسان يتحمل ما يقرب من ٤٠ر٢٢٨ رطلا من الضغط الجوي على جسمه، ولكن الانسان لايحس بهذا الوزن، لأن الهواء يضغطه من كل ناحية، كما يحدث عندما نسبح في الماء. ثم ان الهواء - وهو علم على مركب معين من الغازات - ذو فوائد كثيرة، لايمكن حصرها في كتاب.

***

٦٤

لقد توصل نيوتن، من خلال مشاهداته ومطالعاته، إلى أن الأجسام يجر بعضها بعضا، ولكنه لم يستطع تعليل هذا، ولذا سلم بأنه لاتفسير لديه لهذه العملية. وقد ذكر هذه المسألة (وهايت هيد) قائلا:

«لقد كشف نيوتن - حين سلم بهذا - عن حقيقة فلسفية عظيمة؛ هي أن الطبيعة لو كانت بغير روح فلن تفسر نفسها، كما أن الشخص الميت لايستطيع أن يحكي لنا واقعا. ان جميع التفسيرات الطبيعية والمنطقية لم تزد أخيرا على أن تكون اظهارا لهدف، لأن الميت لايمكن أن يكون حامل(١) أهداف».

وسوف أدفع حديث (وهايت هيد) إلى الأمام، قائلا² انه اذا لم يكن هذا الكون تحت سلطان «وجود ذي ادراك» فلماذا توجد فيه هذه الروح المدهشة؟.

***

ان الأرض تتم دورة واحدة حول محورها، في كل أربع وعشرين ساعة. ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، فاذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة، لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات، بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس - بشدة حرارتها - كل شيء فوق الارض، ومابقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة الشديدة في اليل.

وهذه الشمس، التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا، تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت؛ والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ مايقرب من ٠٠٠٠٠٠،٩٣ ميلا.

وهذا البون الهائل دائم، لايتغير أبدا بزيادة أو نقص، وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لانه لو نقص، واقتربت الشمس من الأرض. بمقدار النصف، مثلا، من الفاصل الحالي، فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها، ولو بعد هذا الفاصل، فصار ضعف ما هو عليه الآن فان البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد، سوف تقضي على الحياة في الأرض، ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادي، يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة، فسوف يجعل من الارض تنورا رهيبا.

ثم ان هذه الارض دائرة في الفضاء، وهي تؤدي عملها بزاوية ٥٣٣ درجة، الأمر الذي تنشأ عنه المواسم، ويترتب عليه صلاحية اكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى، فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة، ولسار بخار البحار شمالا

___________________

(١) The Age of Analysis, p. ٨٥.

٦٥

وجنوبا؛ ولما بقى على الأرض غير جبال الثلج، وفيافي الصحراوات؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.

***

فلو كان قياس العلماء صحيحا، وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة، فما أعجب هذا القياس، وما أكثر اثارته للدهشة!!. يقولون: ان الأرض انشقت من الشمس، ومعنى هذا: أن درة حرارتها كانت في مبدأ أمرها، نفس حرارة الشمس، وهي اثنا عشر ألف درجة فهر نهيت، ثم بدأت الارض تبرد؛ اذ لايمكن اتصال الأوكسجين بالهيدروجين الا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت - وفي هذه المرحلة وجد الماء، وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الارض ملايين السنين، حتى جاءت الأرض في صورتها الحالية، منذ أكثر من بليون سنة مضت، وذهبت الغازات من فضاء الارض إلى فضاء الكون، وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي، أو انجذبت إلى الاشياء الأرضية، أو بقيت في صورة الهواء؛ وأكثرها في صورة الأوكسجين او النتروجين. وهذا الهواء، في كثافته، يعد جزءا واحدا من ٠٠٠٠٠٠،٢ من أجزاء الأرض. ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض، كما انها كلها لم تتحول إلى (هواء). ولو انه حدث، لاستحالت حياة الانسان، فلو أننا فرضنا المستحيل، ووجدت الحياة في ظروف كهذه - تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف في الارطال من الضغط الجوي - لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الانسان الحالية.

ولو كانت قشرة الأرض اكثر سمكا، بمقدار عشرة اقدام من سمكها الحالي، لما وجد الأوكسيجين،(١) وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.

وكذلك لو كانت البحار اعمق بضعة أقدام، أكثر من القاع الحالي، لانجذب (ثاني أكسيد الكربون)، والأوكسجين(٢) ، ولاستحال وجود النباتات على الأرض؛ فضلا عن الحياة.

ولو كان الغلاف الهوائي للارض ألطف مما هو عليه الآن، لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الارض الخارجي، ولرايناها مضيئة في الليل، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها، فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلا في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة، فانها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض، حتى تصبح الأرض غربالا في وقت ليس ببعيد.

___________________

(١) اذ أن القشرة الأرضية ستمتص حينئذ الأوكسجين.

(٢) حتى يمتصهما الماء.

٦٦

فلو لا ان غلاف الارض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا. فان سرعتها اكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة كما ان حرارتها الشديدة كافية لاهلاك كل شيء، بما فيه الانسان. فنحن أذن في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون، الذي لا تخترقه «الاشعة الشمسية ذات الاهمية الكيماوية) Actinic Rays الا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات، وايجاد الفيتامينات، والقضاء على الجراثيم الضارة، وما إلى ذلك. ان هذاالتوازن للكميات، المحتاج اليها، عجيب جدا.، فالغلاف الذي فوق الارض مكون من ستة غازات، منها ٧٨في المائة من النتروجين، و٢١في المائة من الاوكسيجين، والغازات الاخرى توجد بنسب قليلة، هذا الغلاف يضغط الارض بنسبة١٥رطلا في البوصة المربعة، ونسبة الاوكسيجين في هذا الضغط ٣ارطال في البوصة المربعة، والمقادير الاخرى للاوكسيجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الارض، وهي تمثل ٨و٠من الماء الموجود على سطح الارض، والاوكسيجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الارض، ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.

قانون الضغط والتوازن

وهنا يظهر سؤال هام، وهو. كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة، مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة، التي لابد منه للحياة، في الفضاء؟ والجواب: انه لوكانت نسبة الأوكسيجين ٥٠%،اواكثر، بدلا من ٢١%، لزادت قابلية الاحتراق، بما يساوي ارتفاع هذه النسبة. فاذا احترقت شجرة واحدة في غابة، حينما تكون نسبة الاوكسجين ٢١%فان الانفجار الخاطف، الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى ٥٠%يجعل احتراق الغابة كلها امرا حتميا في لحظات!

ولو ان هذه النسبة انخفضت فاصبحت١٠% لكان من الممكن، على مدى الكون ان تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الاوكسيجين إلى هذا الحد ولكنه يكون من المستحيل ان تزدهر الحضارة الانسانية، كما هي عليه في الظروف الحاليه(١) .

ولو ان الاوكسيجين الموجود على سطح الارض انجذب مع الاوكسيجين الذي انجذب قبل ذلك في الارض، لكان من المستحيل (الوجود الحيواني الحسي).

ان الاوكسيجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون، وغازات الكاربون الاخرى، على اختلاف اشكالها، تتركب معا فتصبح عناصر عظيمة الأهمية للحياة الحيوانية، وللاسس

___________________

(١) اذ ان اعضاء الجسم الانساني على فرض وجودها في هذه الحالة لن تتمكن في تلك الظروف من مواصلة عملها كعادتها اليوم في الظروف المتاحة فعلا، وذلك لاستحالة وجود الانسجة والخلايا البدنية والعقلية الدقيقة في ظل تلك الظروف، لانه كلما قل الاوكسجين قل النشاط الجسماني والعقلي.

٦٧

التي تقوم عليها الحياة الانسانية، وبناء عليه لا يوجد احتمال ٠٠٠٠٠٠،١٠١ ان تجتمع، هذه الغازات في تناسبها المطلوب، وبجميع خصائصها اللازمة للحياة، علىكوكب معين، بطريق الصدفة.

ولذلك يقول احد كبار علماء الطبيعة:

« Science has no ecplanation to offer for the facts, and to say it is ‘accidental’ is to defy mathematics »

«ان العلم لا يملك أي تفسير للحقائق والقول بانه حدثت «اتفاقا» انما يعتبر تحديا وتصادما مع الرياضيات». ان هناك وقائع كثيرة جدا، لا طريق لنا إلى فهمها او تفسيرها، الا اذا سلمنا بان للعقل يدا عليا في احداثها.

فمن الخصائص المهمة التي توجد في الماء: ان كثافة الثلج Density تقل بنسبة كبيرة عن كثافة الماء، فألماء أذن مادة معلومة، تقل كثافتها بعد التجمد ولهذا الامر قيمة عظيمة بالنسبة إلى الحياة، اذ يترتب على هذه الخاصة ان الثلج يطفو على سطح الماء، ولا ينزل إلى قاع البحار والانهار، ولولا ذلك، لكان الماء كله قد تجمد في البحار، والانهار، والخزانات المائية، ان الثلج يقوم بدور الحاجب للماء الذي تحته، كيما تبقى حرارته دون درجة التجمد، فتبقى الاسماك والحيوانات المائية على قيد الحياة.، فاذا ما جاء موسم الربيع ذاب الثلج، ولولا خاصة الثلج هذه لعانى سكان الاقطار الباردة الكثير من المتاعب والمصائب، الناجمة عن عدم ذوبان الثلج.

***

لقد اصاب مرض الاندوثيا Endothia في اوائل القرن العشرين اشجار (شاه بلوط) الثمينة في غابات امريكا، وانتشر بسرعة فائقة فقال بعض من راى تلك المواضع الخربةالكبيرة في «مظلة الغابات»: انها لن تمتليء ابدا!!

ولم يكن أي نوع من الاشجارـ حتى ذلك الحين قد انتزع هذا الامتياز الذي كان خاصا بهذا النوع من اشجارالبلوط، ذات الاخشاب الثمينة الغالية حتى كان يلقب:. «ملك اشجار الغابات الامريكية »قبل وصول وباء الأندوثيا من آسيا سنة ١٩٠٠م تقريبا.

اما الآن، فلا توجد هناك اية اثار لشاه بلوط، ذلك الشجر العظيم، في الغابات الامريكية. ولكن سرعان ما امتلات تلك المواضع في غابات امريكا بنوع آخر من الاشجار، يسمى: «التيوليب»، كانت لا تحتل من الغابات الا حيزا صغيرا، ولم تكن مزدهرة.

٦٨

لقد انتهزت اشجار «التيوليب»هذه الفرصة، فازدهرت وحلت محل شاه بلوط. اليوم لا يتذكر أي تاجر اخشاب امريكي وجود اشجار شاه بلوط، فقد حلت محلها اشجار «التيوليب»، التي تتضخم كل سنة بنسبة بوصة واحدة في الجذع. وترتفع ست بوصات في الفروع والاغصان، كما تعطي خشبا ممتازا يستعمل في جميع الصناعات الدقيقة.

***

ومن الاحداث العلمية الهامة التي وقعت في هذا القرن ما حدث في استراليا. لقد زرعوا نوعا خاصا من «الصبار» في مزارعها لكي يحميها.ولم يكن في استراليا أي نوع من الدودة يعادي ويأكل هذا النبات ذا الشوك، فاخذ ينتشر انتشارا رهيبا ومروعا، حتى استولى على منطقة توازي مساحة جزر بريطانيا كلها، لقد هاجم الصبار القرى والمدن، وخرب المزارع والحقول، حتى استحالت الزراعة، ولم يتمكنوا من استئصاله باية طريقة لقد اصبح جيشا جبارا، يزحف لكي يسيطر على استراليا كلها، وهي لا تجد ما تقاوم به، واستمرت هذه الحال، حتى خرج علماء الحشرات، يبحثون عن دودة تأكل الصبار. فاكتشفوا دودة لا تعيش الا عليه، ولا غذاء لها سواه، وقد كان نسلها يزيد بسرعة، ولا عدولها في حشرات استراليا، وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على جيش الصبار العظيم، وانتهت مصائب استراليا!!

ايمكن ان يكون هذا القانون«قانون الضبط والتوازن Checks and Balances قد حدث دون تخطيط واع، هكذا صدفة واتفاقا؟!

السنن الرياضية المحكمة

وفي الكون سنن رياضية محكمة، بصورة تدعو إلى الدهشة والاكبار، وحتى المادة الجامدة، التي لا تملك شعورا لا يمكن ان تجري على غير نظام، وانما هي تتبع قوانين صارمة معلومة، ولفظ الماء، اينما كان الماء على هذه الارض الواسعة، لن يكون معناه سوى مادة سائلة تحتوي على١،١١%من الهيدروجين، و٩،٨٨% من الاوكسيجين. ولذلك يستطيع أي عالم يجري عملية تسخين الماء في معمله ان يقول بكل قطعية: ان درجة حرارة غليان الماء هي (١٠٠) سنتي جراد، دون ان يرى مقياس الحرارة، ما دام ضغط الهواء ٧٦٠م.م. فاذا كان ضغط الهواء اقل، فسوف نحتاج طاقة اقل لتوفير الحرارة التي تدفع جزئيات الماء. وتعطيها صورة البخار، وحينئذ سوف تنخفض درجة غليان الماء، وعلى العكس، لو كان ضغط الهواء اكثر من ٧٦٠م.م. فستزداد درجة غليان، بمقدار زيادة ضغط الهواء. لقد جربوا هذه العملية مرارا، إلى ان تمكنوا من البت في امر الغليان، حتى قبل تسخين الماء، والتنبؤ بدرجة غليانه دون استعمال المقياس. ولو لم يكن هذا النظام والضبط

٦٩

في المادة وعمليات الطاقة، لما وجد الانسان اسسا يقيم عليها كشوفه ومنجزاته العلمية. ولولا النظام والضبط لحكمت عالمنا الاتفاقات والصدف المحضة!ولكان من المستحيل على علماء الطبيعة ان يقولوا. انه بمباشرة عمل ما في حالة معينة تحصل نتيجة كذا.

نظام العناصر والدورية

ان أول شيء يشاهده الطالب في معمل الكيمياء هو نظام العناصر ودوريتها، وقد وضع العالم الروسي «ماندليف» خريطة للعناصر الكيماوية، بمقاديرها الجوهرية، وسميت بـ«الخريطة الدورية) Periodic Chart ، وفي ذلك الوقت لم تكن كل العناصر قد تم كشفها، حتى تملأ كل الخانات الموجودة في الخريطة، فتركها «ماندليف» خالية؛ إلى أن ملأها العلماء فيما بعد، كما تخيلها العالم الروسي من قبل كشفها بسنين طويلة، وهذه الخريطة تحوي جميع العناصر الجوهرية بأرقام وقوائم مختلفة. ومعنى الأرقام الجوهرية هو العدد الخاص الذي يوجد في مركز الذرة، من الشحنات الكهربية الايجابية «البروتون»، وهذا العدد هو الفارق بين ذرة عنصر وذرة عنصر آخر؛ فالهيدروجين، الذي نعتبره أبسط عنصر يوجد في مركز ذرته شحنة واحدة من الكهربية الايجابية، وكذلك توجد في العنصر المسمى «هيليم» شحنتان، وفي «ليثيم» ثلاث شحنات. وما كان لنا ان نتمكن من وضع خرائط العناصر المختلفة الا بناء على قوانينها الرياضية العجيبة. وهل هناك مثال للضبط أفضل من أننا عثرنا على العنصر رقم (١٠١) بمجرد معرفة شحناته الكهربية الخمسة عشر؟!!.

ليس من الممكن أن يطلق العلماء على هذا النظام الرائع في الطبيعة عبارة: (الصدفة الدورية) Periodic Chance ، وانما هو (القانون الدوري) Periodic Law وليس من الممكن أو نتنكر لماتطلبه هذه الضوابط والنظم من وجود اله ومهندس. فان عدم ايمان العلم الحديث بالاله انكار في الواقع لكشوفه كنتيجة حتمية!.

«سوف يحدث كسوف للشمس يوم ١١ أغسطس سنة ١٩٩٩م، ويمكن رؤيته كاملا في كورنفال(١) »، ليس هذا مجرد تنبؤ قياسي، ولكن علماء الفلك يؤمنون بأنه لابد من هذا الكسوف، بناء على نظام دوران الشمس الموجود حاليا.

ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الكواكب والنجوم التي لاحصر لها؛ ان هذ الكرات السماوية، التي لاتزال معلقة في الفضاء، منذ قرون لانعرف عدتها، نور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم بحيث يمكننا معرفة جميع الوقائع

___________________

(١) بلدة في جنوب غربي انجلترا - المراجع.

٧٠

المستقبلة قبل وقوعها بقرون. انه نظام لامثيل له، من الذرة إلى قطرة الماء، إلى الكواكب السحيقة في أجواء الفضاء. نظام تستنبط على أساسه قوانين علمية!.

ان نظرية «نيوتن» تفسر دوران الكرات الفلكية، وبناء على هذه النظرية استطاع العالمان: آدمز ولافرييز أن يتنبآ بوجود كوكب، لم يكن معروفا وجوده في وقتهما، وبناء على قولهما وجه مرصد برلين في ليلة من ليالي سبتمبر سنة ١٨٤٦ تلسكوبا إلى الجهة التي أشارا اليها، وسرعان ما وجد رجال المرصد الكوكب الذي نسميه اليوم (السيار نبتون)، في أسرة الشمس!!.

***

خصائص حكمية

ان أبعد الأمور عن القياس، وأعظمها استحالة، هو أن نؤمن بأن الكون وقطعيته. الرياضية، قد جاءا نتيجة «صدفة»!.

فمن الخصائص الحكيمة في هذا الكون كونه صالحا لتصرفات الانسان عند الضرورة، ولنأخذ النتروجين على سبيل المثال. فان ٧٨% من النتروجين توجد في كل هبة من الرياح، وكذلك توجد في أجزاء كيماوية أخرى، ونسميها حينئذ «النتروجين المركب»، وهذه كلها يستغلها النبات لكي يهىء لنا الجزء النتروجيني في غذائنا؛ فلولا هذه العملية، لهلك الحيوان والانسان، وكل ما يعتمد على النبات في أكله جوعا وفاقة؛ فان أي نبات غذائي لاينمو بدون هذا التحليل الكيماوي.

ان هناك طريقتين لاثالثة لهما، لتحليل النتروجين في الأرض، والطريقة الأولى: هي «العملية الجرثومية»، وتقوم بأدائها الجراثيم التي تعيش في جذور الشجرة تحت الأرض، وهذه الجراثيم تأخذ النتروجين من الهواء، وتصنع من «النتروجين المركب»، ويبقى هذا النتروجين تحت الأرض، بعد الحصاد، مع الجذور. وأما العملية الثانية التي تصنع النتروجين المركب فهي (الرعد). فكلما احتك الرعد في الفضاء، مزج شيئا من الأوكسجين في النتروجين، ويصل هذا النتروجين المركب إلى الحقول عن طريق الأمطار التي تلي العملية، والكمية التي تحصلها الحقول من هذا المركب بسهولة، كل سنة، هي ما يقرب من خمسة أرطال لكل «ايكر»(١) من الأرض، وهي تساوي ثلاثمائة رطل من نترات الصوديوم(٢) .

___________________

(١) مقياس انجليزي لسلطح الأرض، وهو أقل من (فدان) المراجع.

(٢) The Nature and properties of Soils. Lyon, Buckman and Brady ,

٧١

ولكن هذه الكمية من النتروجين المركب لا تكفي، لأن الحقول التي تزرع لمدة طويلة، ينفذ مافيها منه. ولذلك نرى الزراع يحولون المواسم الزراعية من حقل لآخر، بعد وقت معلوم. وأعجب ما حدث في هذا القرن - عندما ضاقت الأرض بما رحبت على سكانها، وقل النتروجين لكثرة الزراعة، وخافت الانسانية من القحط والفاقة - اكتشافنا في هذه المرحلة الخطيرة «طريقا ثالثة» لاستمداد النتروجين من الهواء، وكانت الجهود الأولى، التي بذلت في هذا الصدد، أنهم جربوا عملية خلق رعد صنعي في الفضاء باستعمال آلات قوتها ٠٠٠٠٠٠،٣ حصان؛ غير أنهم لم ينجحوا الا في صناعة كمية ضئيلة من النتروجين المركب. وتقدم الانسان بهذه التجارب، حتى كشف الطريق الثالثة² وهي استخدام الهواء في صناعة النتروجين المركب، في صورة (السماد). وهكذا استطاع أن يهيىء لغذائه جزءه الضروري، الذي لولاه لهلك جوعا. وهذا حدث عجيب في تاريخ الارض؛ فان الانسان كشف للمرة الأولى في تاريخه حلا لأزمة الغذاء، وابتعدت أشباح الكارثة عن سكان الأرض، حين كان من المستحيل أن يتجنبوها!!.

***

ان هناك أمورا كثيرة تؤكد وجود الحكمة والروح في الكون، وكل مالدينا من علم يؤكد لنا أن ما قد كشف أقل بكثير مما لم نستطع حتى الآن الكشف عنه! وبرغم ذلك فان ماكشفه الانسان كثير جدا، حتى اننا لو أردنا فهرسة عناوين هذه العلوم، فسنحتاج إلى سفر ضخم جدا، بالنسبة إلى هذا الكتاب الذي بين يدي القارىء، وسوف يبقى بعد ذلك ايضا الكثير منها دون فهرسة.

ان كل ما يمكن للسان الانساني أن يلفظه عن آلاء الله وآياته سوف يكون غاية في النقص، فمهما فصلناها وأسهبنا في تفسيرها، فسنخرج آخر الأمر مقتنعين بأننا لم نحط بها، وانما تناولنا منها «بعض الشيء».

والحق انه لو قدر أن تنكشف للانسان جميع العلوم الكونية، ثم يجلس سكان المعمورة، وقد هيئت لكل فرد منهم جميع الوسائل، في أكمل صورها، فان هؤلاء جميعا لن يستطيعوا تدوينها ابدا. أليس هذا هو مصداق قوله تعالى:

( وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللَّهِ ) : وقوله تعالى:( قُلْ لَوْ کَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِکَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (١) !!.

___________________

(١) لقمان/٢٧.

(٢) والكهف١٠٩.

٧٢

ان كل ما أتيحت له الفرصة كي يطالع صفحة من هذا الكون، سيعترف مصدقا أنه لامبالغة في هذه الكلمات الالهية، وانما هي تعبير بسيط عن الحقائق الموجودة فعلا.

***

صدفة أم عمليات حكيمة؟

ان معارضي الدين يسلمون بكل ما طرحناه في الصفحات الماضية من الأنظمة العجيبة، والحكمة غير العادية، والروح التي تسري في الكون، ولكنهم يفسرونها بطريقة أخرى؛ انهم عاجزون عن أن يجدوا فيها رمزا أو اشارة لمنظم ومدبر. فاذا بهم يرون أن كل هذا جاء نتيجة «صدفة محضة».

واستمع إلى قول «هكسلي»:

«لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون، الموجود الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في «المادة»، لبلايين السنين(١) ».

ان أي كلام من هذا القبيل «لغو مثير»، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان؛ فان جميع علومنا تجهل - إلى يوم الناس هذا - آية صدفةأنتجت واقعا عظيما ذا روح عجيبة، في روعة الكون، فنحن نعرف بعض الصدف، وما ينشأ عنها من آثار، فعندما تهب الرياح تصل «حبوب اللقاح» من وردة حمراء إلى وردة بيضاء، فتأتي بوردة صفراء. هذه صدفة لاتفسر قضيتنا الا تفسيرا جزئيا استثنائيا. فان وجود الوردة في الأرض بهذا التسلسل، ثم ارتباطها المدهش مع نظام الكون، لايمكن تفسيره بهبة رياح صدفة. انها تأتي بوردة صفراء ولكنها لاتأتي بالوردة نفسها! ان الحقيقة الجزئية الاستثنائية التي توجد في مصطلح «قانون الصدفة» باطلة كل البطلان، اذا ما أردنا تفسير الكون بها.

يقول البروفيسور ايدوين كونكلين:

«ان القول بأن الحياة وجدت نتيجة «حادث اتفاقي» شبيه في مغزاه بأن نتوقع اعداد معجم ضخم، نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة(٢) ».

وقد قيل: ان تفسير الكون بوساطة (قانون الصدفة) ليس «بكلام فارغ». بل هو

___________________

(١) The Mysterious Universe, pp. ٣ - ٤.

(٢) The Evidence of God , p. ١٧٤.

٧٣

كما يعتقد السير جيمس جينز ينطبق على «قوانين الصدفة الرياضية المحضة»

Purely Mathematical Laws of Chance(١)

ويقول احد العلماء الاميركيين:

«ان نظرية الصدفة ليست افتراضا، وانما هي نظرية رياضية عليا، وهي تطلق على الأمور التي لاتتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في امكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة، هي معرفة مدى امكان ووقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة(٢) ».

***

ولو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون، وافترضنا أيضا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها (ولست أجد أساسا لأقيم عليه هذه الافتراضات) ففي تلك الحال أيضا لن نظفر بتفسير الكون، فان «صدفة» أخرى تحول دون طريقنا. فلسوء حظنا: أن الرياضيات التي تعطينا نكتة «الصدفة» الثمينة، هي نفسها التي تنفي أي امكان رياضي في وجود الكون الحالي، بفعل قانون الصدفة.

لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال، لتسويغ ايجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.

ويمكننا أن نفهم شيئا عن قانون الصدفة من المثال التالي:

«لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد، من ١ إلى ١٠، ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى. فامكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه(٣) في المحاولة الأولى هو واحد على عشرة؛ وامكان أن تتناول الدرهمين(١،٢) بالترتيب، واحد في المائة، وامكان أن تخرج الدراهم(١،٢،٣،٤) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. حتى ان الامكان في أن تنجح في تناول الدرهم ١ إلى ١٠ بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات!!».

لقد ضرب هذا المثال العالم الأميركي الشهير «كريسي موريسن»، ثم استطرد قائلا:

___________________

(١) Mysrerious Universe, p. ٣.

(٢) The Evidence of God, p. ٢٣.

(٣) Man Doesnot Stand Alone p. ١٧.

٧٤

«ان الهدف من اثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس الا أن نوضح كيف تتعقد «الوقائع» بنسبة كبيرة جدا في مقابل «الصدفة»(١) .

ولنتأمل الآن في أمر هذا الكون، فلو كان كل هذا بالصدفة والاتفاق، فكم من الزمان استغرق تكوينه بناء على قانون الصدفة الرياضي؟.

ان الأجسام الحية تتركب من «خلايا حية»، وهذه (الخلية) مركب صغير جدا، ومعقد غاية التعقيد، وهي تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلاي) Cytology ومن الأجزاء التي تحتوي عليها هذه الخلايا: البروتين، وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر، هي: الكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويشمل الجزىء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر!!.

وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي، كلها منتشرة في أرجائه، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون الصدفة»؟ أيمكن أن تتركب خمسة عناصر - من هذا العدد الكبير - لايجاد «الجزيء البروتيني» بصدفة واتفاق محض؟! اننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه، لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المادة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.

لقد حاول رياضي سويسري شهير، هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضة. فانتهى في أبحاثه إلى أن (الامكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي - الذي من شأنه أن يؤدي إلى خلق كون،اذا ما توفرت المادة - هو واحد على ١٠/٦٠(أي: ١٠×١٠ مائة وستين مرة). وبعبارة أخرى: نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة!! وهو عدد هائل لايمكن وصفه في اللغة.

ان امكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون، حتى يمكن تحريكها وضخها، وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية، فهي أكثر من ١٠/٢٤٣ سنة(٢) !.

ان جزيء البروتين يتكون من «سلاسل» طويلة من الأحماض الأمينية Amino - Acids وأخطر مافي هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض، فانها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة لأصبحت سما قاتلا، بدل أن تصبح موجدة للحياة.

___________________

(١) Man Does not Stand Alone, p. ١٧.

(٢) أي: مائتان وثلاثة وأربعون صفرا أمام عشر سنين - المترجم.

٧٥

لقد توصل البروفيسور ج.ب. ليتز G. B. Leathes إلى أنه يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من ١٠/٤٨ صورة وطريقة. وهو يقول: انه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل - بمحض الصدفة - في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لاحصر لها، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوي أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.

ولابد أن يكون واضحا للقارىء أن القول بالامكان في قانون الصدفة الرياضي لايعني أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره، بعد تمام العمليات السابق ذكرها، في تلك المدة السحيقة؛ وانما معناه أن حدوثه في أثناء تلك المدة محتمل، لا بالضرورة، فمن المكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء مابعد تسلسل العملية إلى الأبد!.

***

هذا الجزيء البورتيني ذو وجود «كيماوي»، لايتمتع بالحياة الا عندما يصبح جزءا من الخلية، فهنا تبدأ الحياة، وهذا الواقع يطرح أهم سؤال في بحثنا: من أين تأتي الحرارة، عندما يندمج الجزيء بالخلية؟. ولاجواب عن هذا السؤال في أسفار المعارضين الملحدين.

ان من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي، لاينطبق على الخلية نفسها، وانما على جزء صغير منها، هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لايمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش، وفي جسد كل فرد منا، مايربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا!!. لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دي نواى) Cotme de Nouy بحثا وافيا حول هذا الوضوع، وخلاصة البحث: أن مقادير (الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الامكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، وهو يرى: أن حجم هذه المقادير التي سنحتاج اليه في عمليتنا لايمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الانسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث - على وجه الصدفة - من النوع الذي ندعيه، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته ١٠/٨٢ سنة ضوئية (أي: ٨٢ صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية!!) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي؛ فان ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل الينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط. وبناءا على هذا، فان فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لاتكفي أبدا لهذه العملية المفترضة. أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها، فاننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض، بسرعة خسمائة (تريليون) حركة، في الثانية الواحدة، لمدة ١٠/٢٤٣ بليون سنة

٧٦

(٢٤٣ صفرا أمام عشرة بلايين)، حتى يتسنى لنا حدوث امكان في ايجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.

ويقول «دي نواي» في هذا الصدد: لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد الا منذ بليونين من السنين، وأن الحياة - في أي صورة من الصور - لم توجد الا قبل بليون سنة، عندما بردت الأرض(١) ».

هذا، وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه، وأثبتت الدراسة في هذا الموضوع أن كوننا موجود منذ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة. وهي مدة قصيرة جدا، ولاتكفي على أي حال من الأحوال لخلق امكان، يوجد فيه الجزيء البروتيني، بناء على قانون الصدفة الرياضي.

وأما مايتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء، جزء من الشمس، انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء، شعلة من نار رهيبة، ولم يكون من الممكن ظهور الحياة على ظهوره حينئذ لشدة الحرارة، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد، ثم تجمدت وتماسكت، حتى ظهر امكان بدء الحياة على سطحها.

ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق، وأحسن طريقة عرفناها لهذه الدراسة، هي التي توصلنا اليها بعد كشف (العناصر المشعة) Radio - Active Elements ، فان الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة؛ وهذا (التحلل) Disintegration يقلل الذرات الكهربية في هذه العناصر، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة، وهو يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية، وهذه النسبة في الانتشار لاتتغير تحت أي ظرف، من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لاتتغير.

ان قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال، ومما لاشك فيه أن هذا اليورانيوم هو جزء من ذلك الجبل، منذ أن تجمد في شكله الأخير، عند تجميد الارض. وعلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص، ولانستطيع أن ندعي أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم. والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما اذا

___________________

(١) Human Destiny, pp. ٣٠ - ٣٦.

٧٧

كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم، أو أنها قطعة رصاص عادي، ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه، ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!.

لقد أثبتت التجاب ا،ه قد مر الف وأربعمائة مليون سنة على تجمد تلك الجبال، التي تعتبر - علميا - اقدم جبال الأرض، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال، ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشادة، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن «المعدل المعقول» لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة(١) !.

***

ولنتأمل الآن، بعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح، تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين، حتى يتسنى مجرد امكان لحدوث (جزيء بروتيني) فيها بالصدفة! فكيف آذن جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات، وأكثر من ٠٠٠،٢٠٠ ألف نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض، في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيوانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه «الانسان»؟ ولاأدري كيف نجرؤ على مثل هذه الاعتقادات، في حين أننا نعرف جيدا أن نظرية النشوء والارتقاء تقوم على أساس «تغييرات صدفية محضة»؟! وأما هذه التغيرات، فقد حسبها الرياضي «باتو) Patau ، وانتهى إلى أن اكتمال «تغير جديد» في جنس ما، قد يستغرق مليونا من الأجيال(٢) :

فلنفكر في أمر (الكلب) الذي يزعمون أنه جد (الحصان) الأعلى، كم من المدة، على قول الرياضي باتو سوف يستغرقها الكلب، حتى يصبح حصانا؟!.

وما أصح ماقاله عالم الأعضاء الاميركي مارلين ب. كريدر:

«ان الأمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق - عن طريق الصدفة - في نسبها الصحيحة، هو ما يقرب من «لاشيء»(٣) .

لقد أطلت في هذا البحث حتى نتبين مدى سخافة فكرة الخلق بالصدفة، وبطلانها، ولست - في الحق - أشك في أنه يستحيل وجود الجزيء البروتيني والذرة عن الصدفة، كما لايمكن ان يكون عقلك هذا - الذي يتأمل في أسرار الكون وخفاياه - من ثمار الخلق

___________________

(١) JWN Sullivan Limitations of Science, p. ٧٨.

(٢) The Evidence of God , p. ١١٧.

(٣) Ibid, p. ٦٧.

٧٨

الصدفي، مهما بالغنا في افتراضاتنا عن المدة الطويلة التي استغرقتها عملية المادة في الكون. ونظرية الخلق هذه ليست مستحيلة في ضوء قانون الصدفة الرياضي فحسب، وانما هي لاتتمتع بأي وزن منطقي في نفس الوقت.

وأي كلام من هذا القبيل سخيف وملىء بالصلافة. ومثاله كمن يزعم أن سقوط كوب مملوء بالماء أو بالقهوة سوف يرسم خريطة العالم على الأرض!! لامانع من أن أسأل هذا الرجل: من أين جاء بهذا الفرش الأرضي، والجاذبية، والماء، والكوب، حتى يقع هذا الاتفاق الغريب؟!.

***

ولقد ولغ عالم البيولوجيا «هيكل) Haeckel في زعمه حين قال:

ايتوني بالهواء، وبالماء وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الانسان». ولكن «هيكل» نسى أو تجاهل في هذه القالة: أنه بتقريره احتياجه إلى المادة والأحوال المادية، ينفي زعمه من تلقاء نفسه!.

يقول الأستاذ «كريسي موريسن»(١) في هذا الصدد:

«ان هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية، ومسالة الحياة نفسها، فان أول شيء سيحتاج اليه عند خلق الانسان، هو الذرات التي لاسبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات)، أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة. ولكن امكان الخلق في هذه المحاولةبعد كل هذا، لايعدو واحدا على عدة بلايين، ولو افترضنا أن «هيكل» نجح في محاولته، فانه لن يسميها «صدفة»، بل سوف يقررها، ويعدها نتيجة لعبقريته»(٢) .

***

ولنختم هذا البحث بقول عالم الطبيعة الأميركي «جورج ايرل ديفيس»:

(لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه، فان معنى ذلك أن يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الاله. وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الاله)، ولكن الهنا هذا سوف يكون عجيبا: الها غيبيا وماديا في آن واحد!! انني أفضل أن أؤمن بذلك الاله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلا من أن أتبنى مثل هذ الخزعبلات(٣) ».

___________________

(١) رئيس أكاديمية العلوم الأميركية بنيويورك (سابقا) - المترجم.

(٢) Man Does not Stand Alone, p. ٨٧.

(٣) The Evidence of God , p. ٧١.

٧٩

الباب الخامس : دليل الآخرة

من أهم الحقائق التي يدعونا الدين إلى الايمان بها: فكرة الآخرة. والمراد بها: أن هناك عالما آخر غير عالمنا الحاضر؛ وسوف نعيش في ذلك العالم خالدين؛ وأن عالمنا هذا هو مكان للاختبار والابتلاء، وجد فيه الانسان لأجل معلوم؛ وأن الله سوف ينهي هذا العالم حين يحين أجله، لبناء العالم الآخر، على طراز جديد وأن الناس سوف يبعثون مرة أخرى؛ وسوف تعرض أعمالهم - خيرا أو شرا - على محكمة الله، الذي يجزي كل انسان بما عمل في الحياة الدنيا.

أهذه النظرية صحيحة؟ أم باطلة؟ وهل هناك امكان لهذه الآخرة؟ سوف نعرض هنا بعض جوانب القضية.

***

أولا: امكان الآخرة

ليكن الجانب الأول من هذا العرض، هو البحث عن «امكان» وقوع الآخرة. فهل هنالك وقائع واشارات تصدق هذه الدعوى؟.

ان فكرة (الآخرة) تقتضي - أول ما تقتضي - ألا يكون الانسان والكون، في شكلهما الحالي أبديين، وقد علمنا في الصفحات الماضية - بما لايدع مجالا للشك - أن ابدية الكون والانسان مستحيلة، وأيقنا، يقينا لايتزعزع، بأن الانسان يموت، وأن الكون سينتهي طبقا لقانون «الطاقة المتاحة». ولست أدري اذا ما كان هنا طريق للنجاة من هذه النهاية المروعة.

***

أ - مسألة الموت:

ان الذين لايؤمنون بالعالم الثاني - الآخرة - يحاولون بدافع الغريزة أن يجعلوا من هذا الكون عالما أبديا لأفراحهم، ولذلك بحثوا كثيرا عن أسباب «الموت»، حتى يتمكنوا من الحيلولة دون وقوع هذه الاسباب، من أجل تخليد الحياة، ولكنهم أخفقوا اخفاقا

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189