أحكام المرأة و الاُسرة

أحكام المرأة و الاُسرة20%

أحكام المرأة و الاُسرة مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: المرأة
الصفحات: 300

أحكام المرأة و الاُسرة
  • البداية
  • السابق
  • 300 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159461 / تحميل: 6126
الحجم الحجم الحجم
أحكام المرأة و الاُسرة

أحكام المرأة و الاُسرة

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوصيّة

١ ـ يُشترط في وصيّة الصبيّ أن يبلغ عشر سنين ، وتنفذ في الخيرات والمبرّات لأرحامه وأقربائه ، وأمّا الغرباء فيوجد إشكال في نفوذ وصيّته لهم ، وكذلك في نفوذ وصيّة البالغ سبع سنين في الشيء القليل ، فلا بدّ من رعاية مقتضى الاحتياط فيهما(١) .

٢ ـ إذا نصّب المجتهد قيّماً على الأطفال فهل تبطل الوصية بموته أو لا ؟ لا يخلو عن إشكال فلا يترك الاحتياط(٢) .

٣ ـ لو أوصى وصيّةً تمليكيّة(٣) لصغير من أرحامه أو من غيرهم بمال ولكنّه جعل أمره إلى غير الأب والجدّ والحاكم ، فلا يصحّ هذا الجعل ، بل يكون أمر ذلك المال للأب والجدّ مع وجودها وللحاكم مع فقدهما ، ولكن لو أوصى أن يبقى المال بيد الوصي حتى يبلغ الصبيّ صح تمليكه أيَّاه ، وكذا إذا أوصى أن يصرف ماله عليه من دون أن يملّكه إياه بشرط أن لا ينافي حقّي الحضانة والولاية.

٤ ـ يجوز للأب والجدّ أن يجعلا القيمومة لفردين أو أكثر على الأطفال ، وكذلك يجوز لهم أن يجعلا شخصاً مشرفاً وناظراً على القيّم.

٥ ـ لو أوصى بالوصيّة العهديّة ـ وهي تولّي أُموره بعد وفاته ـ بأن يُعطى من ماله شيء لأحفاده الذين لم يولدوا بعد ، إذا كان يتوقّع وجودهم في المستقبل ،

__________________

(١) أي في عطيّة الصبيّ البالغ عشر سنين إذا كانت لغير أقربائه ، والصبيّ البالغ سبع سنين حتى لو كانت العطية شيئاً قليلاً سواء كانت للأقرباء أو للغرباء.

(٢) الاحتياط هنا وجوبي.

(٣) سيأتي بيان معنى الوصية التمليكيّة.

٨١

صحت هذه الوصية ؛ لأنّ الوصيّة العهديّة لا يشترط فيها وجود الموصى له ، فإن وجدوا في ظرف الإعطاء اُعطي لهم ، وإلاّ كان ميراثاً لورثة الموصي إن لم تكن هناك قرينة على كونها من باب تعدّد المطلوب ( بأن تكون وصيّته في وجوه البرّ وكونه لأرحامه ) وإلاّ صرف فيما هو الأقرب إلى نظر الموصي من وجوه البرّ.

٦ ـ يشترط في الوصيّ أن يكون بالغاً على المشهور ، فلا تصح الوصاية إلى الصبيّ منفرداً إذا أُريد من الوصاية التصرّف في حال صباه قبل بلوغه مستقلاً ، ولكنّه لا يخلو عن إشكال ، فلو أوصى إليه كذلك(١) فالأحوط أن يكون تصرّفه بإذن الحاكم الشرعي.

٧ ـ تجوز الوصاية إلى المرأة وإلى الأعمى والوارث ، وإذا أوصى إلى صبيّ وبالغ فمات هذا الصبيّ قبل البلوغ ، أو أنّه بلغ وهو على الجنون ففي جواز انفراد البالغ بالوصيّة قولان ، أحوطهما الرجوع إلى الحاكم الشرعي فيضمّ إلى البالغ فرداً آخر ، إلاّ إذا كانت هناك قرينة على إرادة الموصي انفراد البالغ بالوصاية في هذه الصورتين(٢) .

٨ ـ تختصّ الوصيّة التمليكيّة ـ وهي أن يجعل شيئاً ممّا له من مال أو حقّ لغيره بعد وفاته ـ بأنّها تثبت بشهادة النساء منفردات ، فيثبت ربع الوصية بشهادة مسلمة عادلة ، ونصفها بشهادة مسلمتين عادلتين ، وثلاثة أرباعها بشهادة ثلاث مسلمات عادلات ، وجميعها بشهادة أربع مسلمات عادلات مع عدم الحاجة إلى

__________________

(١) أي لو كانت الوصاية للصبيّ بتصرفه في المال ـ حال صباه ـ منفرداً ومستقلاّ بدون إشراف شخص عاقل بالغ قادر على التصرّف وعارف بموازينه ، فلا بدّ أن يأذن الحاكم الشرعي في ذلك حتى تكون الوصية نافذة وصحيحة.

(٢) أي في صورة موت الصبي قبل بلوغه ، أو في كونه قد بلغ وهو مجنون.

٨٢

اليمين ، والوصية العهديّة تثبت بشهادة عدلين من الرجال ، ولا تقبل فيها شهادة النساء منفردات أو منضمّات إلى الرجال.

الوقف

١ ـ يجوز للزوج أن يوصي بتحبيس ثلث بستانه على زوجته حتى تنتفع من وارده مدّة حياتها بشرط أن يعود الثلث بعد وفاة الزوجة إلى ورثة الزوج(١) .

٢ ـ إذا وقّف على أولاده الصّغار وأولاد أولاده وكانت العين الموقوفة في يده ، كفى ذلك في تحقّق القبض ، وأمّا إذا كانت العين في يد غير الواقف فلا بدّ من أخذها منه ليتحقّق قبض الولي.

٣ ـ يشترط في الواقف البلوغ ، لكن لو أوصى الصبيّ بأن يوقّف ملكه بعد وفاته على وجوه الخير أو المبرّة لأرحامه وأقربائه وكان قد بلغ عشراً نفذت وصيّته.

٤ ـ إذا وقّف على المؤمنين اختُص الوقف بمن كان مؤمناً في اعتقاد الواقف ، ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والأطفال ، فلو كان الواقف اثني عشريّاً اختُص الوقف بالاثني عشريّة.

٥ ـ إذا وقّف على إخوته فيشترك إخوته فيه بالسويّة ، سواء كانوا إخوة للأبوين أو إخوة للأب فقط ، أو الأُمّ فقط ، وكذلك إذا وقّف على أجداده أو أعمامه أو أخواله ، وأمّا الإخوة فلا يشمل أولادهم وكذلك الأخوات.

٦ ـ إذا وقّف شيئاً على أبنائه لم تدخل البنات في جملة الأبناء ، ولكن إذا وقّف على الذريّة دخل الذكر والأُنثى ، والصلبي وغيره في الوقف.

__________________

(١) الفتاوى الميسّرة : ٣٥٦.

٨٣

٧ ـ إذا قال : ( هذا وقف على أولادي ما تعاقبوا وتناسلوا ) أي على جميع عقبهم وكلّ من كان من نسلهم ، فيشترك الجميع في الوقف بدون تقدّم واحد على الآخر.

وأمّا إذا قال : ( هذا وقف على أولادي نسلاً بعد نسل ) ، فلا بدّ من الترتيب ، فيكون التصرّف حقّاً لمن هو أوّل في النسل.

٨ ـ الوقف حسب ما يقفه أهله ، فلو جعله الواقف ترتيبيّاً فهو كذلك ، فإذا جعل الترتيب بين الطبقة السابقة والطبقة اللاحقة ، يراعى الأقرب فالأقرب إلى الواقف ، فلا يشارك الولد أباه ، ولا ابن الأخ عمّته أو عمّه ، ولا ابن الاُخت خالته أو خاله.

٩ ـ لو قال الواقف : ( وقّفت على أولادي طبقة بعد طبقة ، وإذا مات أحدهم وكان له ولد فنصيبه لولده ) فلو مات وكان له أكثر من ولد قُسّم النصيب على الرؤوس ، وإذا مات ولم يكن له ولد فنصيبه لمن كان في طبقته.

١٠ ـ إذا قال الواقف : ( هذا وقف على أولادي ، فإذا انقرض أولادي وأولادهم فهو على الفقراء ) فهو وقف على أولاده الذين من صلبه وغيرهم. ولو قال : ( هذه الدار وقف على أولادي ) جاز لهم الانتفاع بها بغير السكن ، كأُجرتها إلى أحد وتقسيم الأُجرة عليهم ، وإذا عيّن وقف الدار بشرط السكنى فيها فلا يجوز أن يؤجّرها ، وإن لم تسع لسكناهم قسّموها بينهم يوماً فيوماً أو شهراً فشهراً أو سنة فسنة.

١١ ـ إذا أوقف شيئاً على إخوته نسلاً بعد نسل ، فيشمل الوقف الذكور والإناث ، ولو عيّن الوقف على الذكور فلا يشمل الإناث.

٨٤

الصدقة

١ ـ وهي من الأُمور التي تواترت فيها الأحاديث ، فبها ينزل الرزق ، وبها يُشفى المريض ، وبها يُدفع البلاء. ويعتبر فيها البلوغ ، فيوجد إشكال في صحة الصدقة من الصبيّ البالغ عشراً.

ولو دار الأمر بين الصدقة وبين التوسعة على العيال ، فالتوسعة على العيال أفضل من الصدقة.

٨٥

كتاب النكاح

النكاح من المستحبات التي أُكّد عليها في كلام أهل البيتعليهم‌السلام ، وورد أيضاً الذمّ على تركه ، ووصف بأنّه نصف الدين ، وأنّه« ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله » (١) .

وحرصاً من الشريعة السمحاء على هذه المسألة المهمة ، نظر المعصومونعليهم‌السلام إلى الصفات التي لا بدّ أن تتوفّر في الزوجة التي يريد الرجل أن يختارها وكذلك العكس.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :« اختاروا لنطفكم ، فإنّ الخال أحد الضجيعين » (٢) .

وعن الصادقعليه‌السلام حيث قال له أحد أصحابه قد هممت أن أتزوج ، فقالعليه‌السلام :« اُنظر أين تضع نفسك ، ومن تشركه في مالك ، وتطلعه على دينك وسرّك ، فإن كنت لا بدّ فاعلا فبكراً تنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق » (٣) .

وكما ينبغي للرجل أن يهتم بصفات المرأة التي يريد الزواج منها ، فلا بدّ أن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٠ ، الحديث ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧ ، الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٧ ، الحديث ١.

٨٦

تهتمّ المرأة ـ أيضاً ـ بصفات الرجل الذي تريد أن تجعله شريكاً لها في حياتها ، وهذا دليل على اهتمام الشريعة بالمرأة واحترام شخصيّتها وحفظ كرامتها ، لذا فقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :« من زوّج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها » (١) . وجاء عن رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :« النّكاح رقّ ، فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقّها ، فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته » (٢) .

١ ـ يستحب لمن أراد التزويج أن يصلّي ركعتين ويدعو ويقول :« اللهمّ إنّي أريد أن أتزوج اللّهم فأقدر لي من النساء أعفّهنّ فرجاً ، وأحفظهنّ لي في نفسها وفي مالي ، وأوسعهنّ رزقاً ، وأعظمهنّ بركة » (٣) .

ويستحب أيضاً أن يُشهد على العقد وأن يعلن به ، ويستحب الخطبة ، وتشتمل الخطبة على التحميد ، والصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام والشهادتين ، والوصيّة بالتقوى ، والدعاء للزوجين ، ويكفي أن يقول : الحمد لله ، والصلاة على محمّد وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويكره إيقاع العقد والقمر في برج العقرب ، وإيقاعه في محاقّ الشهر.

٢ ـ لا بدّ من النظر في حال الخطّاب ، فإذا كان ممّن يرضى خلقه ودينه فلا يردّ ، وهو ما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ يكره الخلوة بالزوجة في حضور الأطفال ، فينظرون إليهما ، هذا إذا لم يكن مستلزماً للحرمة كالنظر إلى العورة فيكون محرّماً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٧ الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ : ٧٩ ، الحديث ٨.

(٣) وسائل الشيعة ٢٠ : ١١٣ ، الحديث ١.

٨٧

٤ ـ يستحب التوسّط للتزويج والشفاعة في هذا الأمر لا سيما إرضاء الطرفين به.

٥ ـ لو عقد على صبّية لم تبلغ تسع سنين فلا يجوز أن يطأها ، ولو فعل ذلك ولم يفضّ بكارتها فليس عليه إلاّ الإثم ، أمّا لو أفضّها فتجب عليه ديّة الإفضاء ، ولم يحرم عليه وطؤها لا سيما إذا اندمل الجرح بعلاج أو بغيره ، وتجري عليها أحكام الزوجة من التوارث وحرمة زواج الأخت وغير ذلك ، وكذلك تجب عليه نفقتها ، ولو أفضى غير الزوجة بالزنا أو بغيره فتجب عليه الديّة فقط دون النفقة.

٦ ـ لا يجوز ترك وطء الزوجة الشابّة أكثر من أربعة أشهر ، إلاّ إذا كان هناك عذر كالحرج والضرر أو أنّها كانت راضية ، أو اشترط عليها حين العقد ، وليس هذا الحكم مختصّاً بالزوجة الدائمة ، فيعمّ المنقطعة أيضاً على الأحوط وجوباً ، وكذلك يعمّ الحكم الحاضر والمسافر على الأحوط وجوباً أيضاً ، ولا يجوز إطالة السفر دون عذر شرعي إذا كان السفر يفوّت حقّها ، وكذلك إذا لم يكن لضرورة عرفية كما إذا كان للتنزّه ، وإذا كانت الزوجة لا تقدر على الصبر إلى أربعة أشهر بحيث خاف الزوج وقوعها في الحرام إذا لم يواقعها فالأحوط وجوباً المبادرة إلى مواقعتها قبل تمام الأربعة أو طلاقها وتخلية سبيلها.

٧ ـ يستحب أن يكون الزفاف ليلاً والوليمة قبله أو بعده ، وصلاة ركعتين عند الدخول ، وأن يكون كلّ من الزوجة والزوج على وضوء ، والدعاء بالمأثور بعد أن يضع يده على ناصيتها ، وهو :( اللهمّ على كتابك تزوّجتها ، وفي أمانتك أخذتها ، وبكلماتك استحللت فرجها ، فإن قضيت لي في رحمها شيئاً فأجعله مسلماً سويّاً ، ولا تجعله شرك الشّيطان ) وأمرها بمثله ، ويسأل الله تعالى الولد الذكر.

٨ ـ تستحب التسمية عند الجماع ، وأن يكون على وضوء خصوصاً إذا كانت

٨٨

المرأة حاملاً ، وأن يسأل الله تعالى أن يرزقه ولداً تقيّاً مباركاً زكيّاً ذكراً سويّاً.

٩ ـ يجوز العزل عن الزوجة سواء كانت دائمة أم منقطعة ، ويكره في الزوجة الحرّة ، نعم ترتفع الكراهة إذا كان العزل برضاها أو اشترطه الزوج عليها في العقد.

وأمّا امتناع الزوجة عن انزال المني في قبلها فالظاهر حرمته إلاّ برضاه ، أو أشتراطه عليه حين التزويج ، ولا تجب عليها ديّة النطفة على الأقوى.

١٠ ـ يجوز لكلّ من الزوج والزوجة النظر إلى جسد الآخر ، ظاهره وباطنه حتى العورة ، وكذا لمس كلّ منهما كلّ عضو من الآخر ، سواء مع التلذّذ أو بدونه.

١١ ـ يجوز للرجل أن ينظر إلى جسد مماثله ما عدا العورة ، سواء كان المنظور إليه شيخاً أم شاباً ، حسن الصورة أم قبيحها ، بشرط أن لا يلتذ بالنّظر ، وكذلك يحرم النّظر لو خاف على نفسه أن يقع في الحرام ، والحكم كذلك بالنسبة إلى نظر المرأة إلى امرأة أخرى ، ويجب أن يجتنب المكلّف عن النظر إلى عورة الكافر والصبيّ المميِّز على الأحوط وجوباً.

١٢ ـ يجوز أن ينظر الرجل إلى جسد محارمه ما عدا العورة ، بشرط أن يكون النظر خال من التلذّذ وخوف الوقوع في الحرام ، وكذلك يجوز نظر المحارم إلى جسد المحرم عليهنّ من عدم التلذّذ وخوف الوقوع في الحرام ، والمراد بالمحارم : من يحرم عليه نكاحهنّ أبداً ، سواء من جهة الرضاع ، أو النسب ، أو المصاهرة ، ولا يشمل النكاح المحرّم بغير هذه الأسباب كالزنا واللواط واللّعان.

١٣ ـ لا يجوز للرجل أن ينظر إلى ما عدا الوجه والكفّين من جسد المرأة الأجنبيّة ، ولا فرق بين أن يكون النظر لجسدها بشهوة أو مع خوف الوقوع في الحرام.

أمّا الوجه والكفّين فلا يجوز له النظر إليهما مع التلذّذ الشهوي ، أو خوف

٨٩

الوقوع في الحرام ، وأمّا مع عدم وجود هذين الوصفين فلا يبعد جواز النظر وإن كان الأحوط استحباباً تركه.

١٤ ـ يحرم على المرأة أيضاً أن تنظر إلى بدن الرجل الأجنبيّ مع الالتذاذ الشهوي أو مع خوف الوقوع في الحرام ، والأحوط وجوباً أن لا تنظر إلى غير ما جرت السيرة على عدم الالتزام بستره كالرأس واليدين والقدمين ونحوها وإن كان بلا تلذذ شهوي أو خوف الوقوع في الحرام ، وأمّا نظرها إلى هذه المواضع من بدنه من دون تلذّذ شهوي ودون الخوف من الوقوع في الحرام فالظاهر جوازه وإن كان الأحوط استحباباً تركه أيضاً.

١٥ ـ لا يجوز لمس بدن الغير وشعره مع الالتذاذ أو الريبة إلاّ الزوجين فيما بينهما ، أمّا بدون الالتذاذ وخوف الوقوع في الحرام فيجوز للمحارم والمماثل ، أي الرجل للرجل والمرأة للمرأة ، ومن هذا تعرف حرمة المصافحة كما يفعل أهل الدول الغربيّة ، وتستطيع المرأة أن تقدّم تلك التحيّة مع الساتر كأن تلبس قفّازات وتصافح الأجنبي(١) .

١٦ ـ لو قطع عضو من الأجنبيّ أو الأجنبيّة وهو ممّا يحرم النظر إليه قبل القطع ، فلا يجوز النظر إليه بعد القطع إن كان يصدق عليه عرفاً أنّه نظر إلى صاحب العضو المبان ، وأمّا مع عدم صدق ذلك فيجوز النظر إلى ما عدا العورة ، والأحوط استحباباً الاجتناب عن النظر إلى السنّ والظفر.

١٧ ـ يجب على المرأة أن تستر شعرها وجسدها ما عدا الوجه والكفين ، هذا

__________________

(١) قُيِّد حكم جواز المصافحة مع الكفوف بالضرورة كما إذا عُرّضت المرأة إلى ضرر معتدّ به أو حرج شديد لا يتحمّل عادةً. انظر فقه الحضارة : ١٨٠.

٩٠

أمام غير المحارم والزوج ، إلاّ إذا خافت أن تقع ـ هي ـ في الحرام ، أو أنّها أظهرتهما بداعي إيقاع الرجل في الحرام ، فيحرم عليها إبداؤهما ، حتّى بالنسبة إلى المحارم حينئذ. وأما إذا كانت المرأة كبيرة السنّ لا ترجو نكاحاً فيجوز لها إظهار شعرها وذراعها ونحو ذلك ممّا لا يستره الخمار والجلباب عادة. والخمار : هو ما تغطّي به المرأة رأسها. والجلباب : هو الثوب الواسع. والجواز مشروطٌ بعدم تبرّجها بزينة ، فلو كانت متبرّجة بزينة حرم عليها الإظهار.

١٨ ـ لا يجب على الرّجل التستّر من المرأة الأجنبيّة ، وإن كان لا يجوز لها ـ على الأحوط وجوباً ـ أن تنظر إلى غير ما جرت السيرة على عدم الالتزام بستره من بدنه.

١٩ ـ قدّر ديننا الحنيف مواقع الضرورة وجعل لنا قاعدة ( الضرورات تبيح المحضورات ) لذا فحرمة النظر واللمس للأجنبيّة موجودة في غير مواقع الاضطرار ، أمّا مع الاضطرار كالاستنقاذ من الغرق أو الحرق أو الاضطرار الى المعالجة من مرض وكان الرجل الأجنبي أرفق بعلاجها فيجوز ذلك ، ولو كان الطبيب يكتفي حين المعالجة إمّا باللمس أو بالنّظر فلا يجوز له التعدّي أكثر ، فإمّا يعالج بالنظر أو باللمس.

٢٠ ـ يجوز اللمس والنظر من الرجال للصبيّة غير البالغة ـ ما عدا النظر إلى عورتها ـ بشرط عدم التلذّذ الشهوي وخوف الوقوع في الحرام. والأحوط استحباباً الاقتصار على المواضع التي لم تجر العادة بسترها بالملابس المتعارفة وترك ما جرت العادة بستره مثل الصدر والبطن والفخذ ، والأحوط استحباباً أيضاً عدم تقبيلها ووضعها في الحجر إذا بلغت ستّ سنين.

٩١

٢١ ـ يجوز للمرأة أن تنظر إلى الصبيّ غير البالغ ـ ما عدا عورته ـ وتمسّ مواضع بدنه مع عدم التلذّذ وخوف الافتنان ، ولا يجب عليها أن تتستّر منه قبل أن يبلغ سنّاً يمكن أن يترتّب على نظره إليها ثوران الشهوة عنده ، وإذا بلغ ذلك السنّ وجب التستّر منه على الأحوط وإن لم يبلغ البلوغ الشرعي.

٢٢ ـ إذا كان الصبيّ غير مميّز فلا يجب التستر منه ، مع عدم الالتذاذ وخوف الوقوع في الحرام ، وكذلك إذا كانت الصبيّة غير مميِّزة فلا يجب عليها التستر مع عدم الالتذاذ وخوف الوقوع في الحرام أيضاً ، وكذلك المجنون غير المميّز لا تجري عليه أحكام التستّر.

٢٣ ـ يجوز النظر إلى النّساء المتبرّجات المبتذلات اللواتي إذا نُهين عن التكشّف لا ينتهين ـ كما في الغرب ـ بشرط أن يكون النظر بلا تلذّذ وخوف الوقوع في الحرام ، ولا فرق في ذلك بين أن يكنّ كافرات أو غير ذلك ، أو أن يكون النظر إلى وجوههنّ وأيديهنّ أو باقي الأعضاء التي جرت عادتهنّ على عدم ستره.

٢٤ ـ لو كانت المرأة سافرة في صورة لها ولكنّها غير مبتذلة فالأحوط وجوباً أن لا ينظر إليها الرجل الأجنبي إذا كان يعرفها ، ويستثنى من ذلك الوجه والكفّان إذا كان النظر بلا تلذّذ شهوي وخوف الوقوع في الحرام ، وكذلك لا يجوز النظر إليهما مباشرة مع التلذذ وخوف الوقوع في الحرام كذلك.

٢٥ ـ يتعارف عند بعض الناس بأن ينظر الرجل إلى محاسن المرأة ـ كوجهها وشعرها ورقبتها وساقيها ومعاصمها ـ التي يريد التزويج منها فهو جائز ، ولا يشترط في ذلك رضاها ، ويستثنى من ذلك أُمور :

١ ـ أن لا يكون النظر بقصد الالتذاذ الشهوي وإن علم أنّه يحصل بالنظر إليها قهراً ، وأن لا يخاف الوقوع في الحرام بسبب هذه النظرة.

٩٢

٢ ـ أن لا يكون هناك مانع من التزويج بها ، كأنّها في العدّة مثلاً أو أنّها أُخت لزوجته فلا يجوز التزويج منها.

٣ ـ أن لا يكون مسبوقاً بحالها كما إذا رآها سابقاً.

٤ ـ أن يحتمل الناظر اختيارها زوجةً له.

٥ ـ لو كان هناك نساء متعدّدات ولا يعلم أيّاً منهنّ يختار على وجه التعيين فلا يجوز له على الأحوط وجوباً أن ينظر لهنّ جميعاً ، ولا بدّ من قصد الزواج بواحدة منهنّ بالخصوص.

٦ ـ يجوز أن يتكرّر النّظر لو لم يحصل الاطّلاع بالنّظرة الأُولى ، ولو حصل له الاطّلاع لا يجوز أن يكرّر النظر مرّة ثانية.

٢٦ ـ يجوز للأجنبي أن يسمع صوت الأجنبية مع عدم الالتذاذ أو خوف الوقوع في الحرام ، وكذلك يجوز لها إسماع صوتها له مع عدم خوف الافتنان ، نعم لا يجوز لها ترقيق الصوت وتحسينه على نحو يكون عادة مهيّجاً للسامع ، وإن كان السامع من محارمها.

عقد النكاح

١ ـ عقد النكاح على قسمين : دائم ، ومنقطع. والعقد الدائم هو عقد لا تعيّن فيه مدّة الزواج ، وتسمّى الزوجة فيه ب‍ ( الدائمة ) ، والعقد المؤقت هو العقد الذي تعيّن فيه مدّة الزواج كساعة أو يوم أو سنة أو أقلّ أو أكثر ، وتسمّى الزوجة فيه ب‍ ( المنقطعة أو المتَمَتّع بها ).

٢ ـ يشترط في النكاح ـ سواء كان مؤقتاً أم دائماً ـ الإيجاب والقبول ، ولا بدّ أن

٩٣

يكونا لفظييّن على الأحوط وجوباً ، فلا يكفي مجرّد التراضي القلبي ، ولا الإشارة المفهِمة هذا في غير الأخرس ، والأحوط وجوباً أن يكون لفظ الإيجاب والقبول بالعربية مع التمكّن منها ، ومع عدم التمكّن من العربية يكفي غيرها من اللّغات المفهمة لمعنى النكاح والتزوج وإن تمكّن أن يوكّل أحداً عنه.

٣ ـ الأحوط استحباباً تقديم الإيجاب على القبول ، وإن كان يجوز تقديم القبول على الإيجاب إذا لم يكن القبول بلفظ ( قبلت ) ـ فيكون حينئذٍ الاحتياط لزوميّاً أي واجباً ـ أو نحوه من اللفظ الخالي عن ذكر المتعلّق ، كما إذا قال الرجل للمرأة : ( أتزوّجك على الصّداق المعلوم ) فتقول المرأة : ( نعم ) ، أو يقول الرجل : ( قبلت التزويج بك على الصداق المعلوم ) ، فتقول المرأة : ( زوّجتك نفسي ).

٤ ـ الأحوط استحباباً أن يكون الإيجاب من جانب المرأة والقبول من جانب الرجل ، ويجوز العكس بأن يقول الرجل : ( زوّجتك نفسي على الصداق المعلوم ) ، فتقول المرأة : ( قبلت ).

٥ ـ الأحوط استحباباً أن يكون الإيجاب في الزواج الدائم بلفظ النكاح أو التزويج ، أي تقول المرأة أو الرجل : ( زوّجتك نفسي ، أو أنكحتك نفسي ) ، كما أنّ الأحوط استحباباً كون الإيجاب والقبول بصيغة الفعل الماضي أي ( زوّجت ) وإن جاز بغيرها أيضاً.

٦ ـ يجوز الاقتصار في القبول على لفظ ( قبلت ) أو ( رضيت ) بعد الإيجاب من دون ذكر المتعلّقات التي ذكرت فيه ، فلو قال الموجب ـ الوكيل عن الزوجة ـ للزوج : ( أنكحتك موكّلتي فلانة على المهر المعلوم ) ، فقال الزوج : ( قبلت ) من دون أن يقول : ( قبلت النكاح لنفسي على المهر المعلوم ) صحّ.

٧ ـ يجوز أن يباشر الزوجان العقد بنفسهما من دون أن يوكّلا أحداً في ذلك ،

٩٤

فلو باشرا العقد الدائم وبعد تعيين المهر قالت المرأة مخاطبةً للرجل : ( أنكحتك نفسي ، أو أنكحت نفسي منّك أو لك على الصداق المعلوم ) ، فقال الرجل : ( قبلت النكاح ) صحّ العقد ، وكذا يصح العقد لو قالت المرأة للرجل : ( زوّجتك نفسي ، أو زوّجت نفسي منك أو بك على الصداق المعلوم ) فقال الرجل : ( قبلت التزويج ).

٨ ـ لا يشترط المطابقة بين لفظ القبول وعبارة الإيجاب ، بل يصحّ الإيجاب بلفظ والقبول بلفظ آخر ، كأن يقول : ( زوجتك ) فيجيبه ( قبلت النكاح ) ، أو يقول : ( أنكحتك ) فيجيب ( قبلت التزويج ) ، والأحوط استحباباً المطابقة بين اللّفظين.

٩ ـ إذا لحن في صيغة العقد بحيث لم يكن المعنى ظاهراً(١) لم يكف ذلك ، وإذا لحن في مادّة الكلام كما إذا قال بدل زوّجتك : ( جوّزتك ) كما هو دارج عند البعض كفى ذلك إذا كان المباشر للعقد من أهل تلك اللغة.

١٠ ـ لا بدّ أن يتحقّق القصد من العقد ، وهو متوقّف على فهم معنى لفظ ( زوّجت ) أو كلمة اُخرى تقوم مقام ذلك ولو إجمالاً ، ولا يعتبر العلم بخصوصيّات اللفظ ولا تمييز الفعل والفاعل والمفعول مثلاً ، فإذا كان هناك قصد في إيجاد علقة الزواج وقال : ( زوّجت ) وقال الطرف الآخر : ( قبلت ) كفى.

١١ ـ تشترط الموالاة بين الإيجاب والقبول ، بحيث يصدق أنَّ هذا القبول لذلك الإيجاب ، ولا يضرّ الفصل بمتعلّقات العقد من القيود والشروط التابعة له وإن كثرت.

١٢ ـ يشترط في صحّة النّكاح أن يكون منجّزاً غير معلّق على أمر سوف يحصل في المستقبل ، سواء كان معلوم الحصول أم متوقّع الحصول ، فلو علّقه بطل ،

__________________

(١) أيّ لا يفهم منه أنّه صيغة للعقد.

٩٥

وهكذا يبطل لو علّقه على أمر حاليّ ولكن يحتمل حصوله وكان ذلك الأمر ممّا تتوقّف عليه صحّة العقد ، أمّا إذا علّقه على أمر موجود حالاً وهو معلوم الحصول لديه ـ كما إذا قالت المرأة في يوم الجمعة وهي عالمة أنّه يوم الجمعة : ( أنكحتك نفسي إن كان اليوم الجمعة ) فيصحّ العقد ـ وكذلك يصحّ لو علّق على أمر مجهول الحصول ولكنّه ممّا يتوقّف عليه صحّة العقد كما لو قالت المرأة : ( أنكحتك نفسي إذا لم أكن اُختك ).

١٣ ـ يشترط في العاقد ـ وهو الذي يُجري صيغة العقد ـ أن يكون قاصداً للمعنى حقيقةً ، فلا عبرة بعقد الشخص الهازل الذي يقول الصيغة بنحو المزاح ، أو الساهي ، أو الغالط في كلامه ، أو النائم لو قال الصيغة في حال نومه ، وكذلك لا عبرة بعقد السكران الذي لا يفهم ما يقول ولا المجنون ، وإن كان جنونه أدوارياً بأن يؤثّر عليه الجنون ساعة ويفيق منه اُخرى ، إن كان قد أجرى صيغة العقد في حال جنونه.

ومن الشرائط أيضاً كون العاقد بالغاً ، فلا يصحّ عقد الصبيّ لنفسه وإن كان مميّزاً ـ حتّى لو قصد المعنى(١) ـ إذا لم يكن بإذن الوليّ ، أو كان بإذنه ولكن كان الصبيّ مستقلاً في التصرّف ، والأحوط وجوباً أن لا يتولّى الصبي إنشاء الصيغة حتّى لو كان العقد من الولي نفسه وكان الصبيّ وكيلاً عنه في إنشاء الصيغة.

١٤ ـ نجد البعض ممّن يجبر البنت أو الولد على الزواج غافلين عن اشتراط رضى الزوجين في صحة العقد حسب الواقع لا الظاهر ، فلو أذنت الزوجة وأظهرت الكراهة وعُلم منّها الرضى القلبي صحّ العقد ، ولو تظاهرت بالرضى وعُلم منها الكراهة قلباً بطل العقد ، الاّ إذا كانت البنت باكراً غير مستقلّه في شؤون حياتها

__________________

(١) لأنّ القصد شرط في صحّة العقد ، ولكن إذا كان العاقد بالغاً فلا يكفي القصد في غير البالغ.

٩٦

وزوّجها الأب بدون رضاها وكان العقد لصالحها حسب النظر العقلائي فإنّ الحكم بالصحّة أو البطلان مشكِل ـ والأحوط وجوباً إذا لم ترض البنت ـ أن يطلّقها الرجل وإذا رضيت بعد الردّ يجدّد العقد.

١٥ ـ لو كان الزوجان أو أحدهما كارهاً للعقد واُجري على هذه الحالة وبعد ذلك رضيا وأجازا العقد صحّ ، والأفضل إعادة العقد مرّة أخرى.

١٦ ـ لو كان للأب عدّة بنات وقال للزوج : أزوّجك إحدى بناتي ، فإنّه لا يصح ، فلا بدّ حينئذٍ من التعيين بحيث تمتاز التي يريد تزويجها عن غيرها ، سواء كان التعيين بالاسم أو الإشارة كأن يقول : ( زوّجتك بنتي هذه ) وكذلك يبطل لو قال لأب الزوج : ( زوّجت بنتي أحد أبنيك ، أو أحد هذين ) وهو يشير إليهما معاً.

ولكنّه يصح لو كانا معلومين لدى المتعاقدين ، فلا يشترط عندئذ التعيين عند إجراء الصيغة سواء بالاسم أم بالإشارة ، وكذلك يصحّ لو كانا متقاولين على تزويج بنته الكبرى من ابنه الكبير ـ مثلاً ـ وحين إجراء الصيغة قال : ( زوّجت بنتي من ابنك ) وقَبِل الآخر فالظاهر الصحّة.

١٧ ـ لو وقع اشتباه بين الزوجة التي عَيّنت بالوصف والاسم وبيّن مَن هي المقصودة في الواقع ، كما إذا قصد تزويج بنته الكبرى وتخيّل أنّ اسمها فاطمة وكانت المسمّاة بفاطمة هي الصغرى وكانت الكبرى مسمّاة بخديجة وقال : ( زوّجتك الكبرى من بناتي فاطمة ) وقع العقد على الكبرى التي اسمها خديجة ولا يقع على فاطمة ، وإن كان المقصود تزويج فاطمة وتخيّل أنّها الكبرى فتبيّن أنّها الصغرى وقع العقد على المسمّاة بفاطمة واُلغي وصفها بأنّها الكبرى ، وكذا لو كان المقصود تزويج المرأة الحاضرة وتخيّل أنّها الكبرى واسمها فاطمة فقال : ( زوّجتك هذه وهي فاطمة

٩٧

وهي الكبرى من بناتي ) وتبيّن أنّها الصغرى واسمها خديجة وقع العقد على المشار إليها ، ولا عبرة بالاسم والوصف ، ولو كان المقصود العقد على الكبرى فلمّا تصوّر أن هذه المرأة الحاضرة هي تلك الكبرى قال : ( زوّجتك الكبرى وهي هذه ) وقع العقد على تلك الكبرى وتُلغى الإشارة فلا عبرة فيها.

١٨ ـ لو أوكلت المرأة شخصاً لإجراء العقد عنها فلا يجوز له أن يتزوّجها إلاّ إذ كان كلامها في التوكيل عامّاً ، بحيث يشمل الموكَّل أيضاً ، فلو كان كذلك جاز أن يتزوّجها(١) .

١٩ ـ يجوز أن يتولّى إجراء العقد كلّ من الزوجين أو يجعلا وكيلاً واحداً عنهما معاً سواء كان العقد دائماً أم مؤقّتاً ، والأحوط استحباباً أن لا يتولّى العقد شخص واحد بل يكون وكيل المرأة غير وكيل الرجل.

٢٠ ـ إذا ادّعت المرأة أنّها غير ذات بعل واحتمل صدقها جاز أن يتزوّج منها ، من غير فحص وسؤال حتّى إذا كان لها زوج سابقاً فادّعت أنّها تطلّقت منه أو مات عنها ، نعم لو كانت متّهمة(٢) فالأحوط وجوباً الفحص عن حالها.

٢١ ـ يصحّ التوكيل في النكاح من طرف الزوج أو الزوجة أو من الطرفين إذا كانا كاملين ، وكذلك يصحّ توكيل وليّهما إن كانا قاصرين ، ويجب على الوكيل أن لا يتعدّى عمّا عيّنه الموكِّل ، من حيث الشخص والمهر والخصوصيات الأُخرى وإن كان على خلاف مصلحة الموكّل ، وإن تعدّى كان فضوليّاً متوقّفاً على إجازته.

٢٢ ـ إذا وكّلا شخصاً في إجراء صيغة العقد لم تجز لهما الاستمتاعات

__________________

(١) أي يجوز للموكَّل نفسه أن يتزوّجها.

(٢) أي يشكّ في صدق ادّعائها بأنّها غير ذات بعلٍ.

٩٨

الزوجيّة حتّى النظر المحرّم قبل الزواج ، وتحلّ لهما الاستمتاعات إذا اطمئنا بأنّ الوكيل أجرى صيغة عقد النكاح ، ولا يكفي ظنّهما بإجراء الصيغة ، ولو أخبر الوكيل خبراً لا يوجب الاطمئنان فلا يجوز لهما الاعتماد على هذا الخبر ، ولكن لو علما أنّه أجرى صيغة عقد النكاح وشكّاً في صحّته فيجوز لهما الاستمتاعات الزوجيّة.

٢٣ ـ إذا ادّعى رجل أنّه زوج لامرأة وأنكرت ـ هي ـ ذلك فيجوز لها أن تتزوّج من غيره ، ويجوز للغير أن يتزوّجها ما لم يحرز كذبها ، ويجوز زواجها من غيره إذا كان قبل إقامة الدعوى عند الحاكم الشرعي ، وإن كان بعد الدعوى وأقام المدّعي البيّنة على أنّه زوجها حَكَم الحاكم الشرعي بإبطال العقد الجديد ولو لم يأتي بالبيّنة لم تُسمع دعواه ، وليس هناك يمين على المرأة ولا على الذي عقد عليها ، هذا فيما إذا كان قد ادّعى أنّه زوجها قبل رفع الأمر إلى الحاكم ، وأمّا إن كان بعد طرح الدعوى عند الحاكم فالأحوط وجوباً الانتظار إلى حين فصل النزاع ، فإذا أتى المدّعي بالبيّنة حُكم له ، وإن لم يكن له بيّنة طلب توجيه اليمين إلى المنكِر ـ أي إلى الزوجة في محلّ كلامنا ـ فإن حلفت حكم لها ، وإن لم تحلف ولم يرد الحاكم اليمين على المدّعي وإن كان عدم الردّ عن غفلة أو جهالة جاز للحاكم أن يحكم على المدّعي ، وللحاكم الولاية بأن يردّ اليمين على المدّعي انتظاراً لفصل النزاع ، وإن ردّ المنكِر أو الحاكم اليمين على المدّعي فحلف المدّعي حُكم له ، وأن نكل(١) المدّعي حكم عليه وأعطي الحقّ للزوجة ، هذا بحسب الموازين القضائيّة ، أمّا بحسب الواقع فيجب على كلّ منهما العمل على ما هو تكليفه بينه وبين الله ، لكي يحلّ النزاع بينهما.

__________________

(١) نكَلَ عن العَدُوِّ وعن اليمينِ يَنْكُلُ بالضمّ ، أي جَبُنَ ، الصحاح ٥ : ١٨٣٥ ، « نكَل ».

٩٩

٢٤ ـ لو غاب الزوج عن الزوجة غيبة طويلة وانقطع خبره عنها بحيث لم يعلم موته ولا حياته ، وادّعت الزوجة حصول العلم بموته فلا يجوز لمن أراد أن يتزوّجها الاكتفاء بقولها ، ولا يجوز للوكيل عنها الاكتفاء بقولها وإنشاء العقد ، والأحوط وجوباً أن لا يتزوّجها إلاّ من لم يطّلع على حالها ولم يعلم أنّه كان لها زوج وقد فقد.

في أولياء العقد

١ ـ الجدّ له الولاية ولا يشترط في ولايته حياة الأب ولا موته ، ومع وجود الأب يكون كلّ من الأبّ والجدّ مستقلا في ولايته ، فلو زوّج الجد الصغيرة ـ الذي هو ولي عنها ـ فلم يبق محلّ لتزويج الأب لها ، وإن زوّجها الأبّ من شخص وزوّجها الجدّ من شخص آخر وعلم السابق منهما أنّه الجدّ مثلاً كان عقده هو المقدّم ويلغى عقد الأب ، وإن عُلم تقارنهما في الزمن قدّم عقد الجد ولغي عقد الأب.

وأمّا إذا لم يعلم الحال واحتمل أنّ أحدهما سابق على الآخر ، أو احتمل التقارن فيما بينهما ـ سواء علم تاريخ أحد العقدين وجهل الآخر أم جهل التاريخين معاً ـ فيعلم إجمالاً بكون الصغيرة زوجة لأحد الشخصين أجنبيّة عن الآخر فلا يصح تزويجها بغيرهما ، كما أنّه ليس للغير أن يتزوّجها.

وأمّا حالهما بالنسبة إليها ، وحالها هي بالنسبة إليهما فلا تُترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيهما ، ولو بأن يطلّقها أحدهما ويجدّد الآخر نكاحها.

٢ ـ يشترط في صحّة تزويج الأبّ والجدّ لمن هو وليّ عنه بأن يكون عقدهُ خالياً من إيصال المفسدة إليه ، والأحوط استحباباً مراعاة المصلحة ، وإن كان التزويج مؤدّياً للمفسدة يكون العقد فضوليّاً ، فيكون حال الولي كحال الأجنبي فتتوقّف حينئذٍ صحّة العقد على إجازة من عُقد له بعد بلوغه أو إفاقته من الجنون ، والضابط

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(١) ؟

جملة( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم :( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) .

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(١) .

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا :( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى :( رَبِّهِمْ ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية :( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) .

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ( هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) .

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول :( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول :( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) .

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(١) .

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى :( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) .

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(٣) .

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) .

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (١) .

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(١) .

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(٢) .

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢) ويسلّم بعضهم على بعض( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) .(٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام اللهعزوجل ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) .

الخلاصة :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) .(٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) )

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباريعزوجل :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (٢) .

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة( لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون»( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ) .

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادقعليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(٣) .

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى :( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا(١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300