آداب المتعلّمين

آداب المتعلّمين37%

آداب المتعلّمين مؤلف:
الناشر: انتشارات كتابخانه مدرسه علميّه إمام عصر عجّل الله تعالى فرجه - شيراز
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 149

آداب المتعلّمين
  • البداية
  • السابق
  • 149 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88853 / تحميل: 9697
الحجم الحجم الحجم
آداب المتعلّمين

آداب المتعلّمين

مؤلف:
الناشر: انتشارات كتابخانه مدرسه علميّه إمام عصر عجّل الله تعالى فرجه - شيراز
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الأول

في ماهيّة العلم وفضله

[٢ - فرض العلم]

إعلم أنّه قالَ رسول الله صلى الله عليه وآله : ( طَلَبُ العلمِ فريضة على كُلّ مُسْلمٍ ومُسْلمةٍ )(٥) .

____________________

(٥) جاء الحديث بهذا النصَ في كتابنا، وفي الزرنوجي، وكذلك رواه الشيخ ابن فَهد الحليّ في (عدّة الداعي ص٦٣) مسندا عن الإمام الرّضا عليه السلام مرفوعا إلى النبيّ صلىالله عليه وآله وسلم. وقال الشيخ امين الإسلام الطبرسي في خطبة تفسير مجمع البيان ما نصّه: قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ما رواه لنا الثقات بالأسانيد الصحيحة مرفوعاً إلى إمام الهدى وكهف الورى ابي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن اَبائه سيّد عن سيّد وإمام عن إمام إلى ان يتّصل به عليه واَله السلام انّه قال: ...الحديث ،لاحظ مجمع البيان (ج١ ص ).

وارسله ابن الطبرسي في مشكاة الأنوار (ص ١٨٢) وكذلك أرسله الشيخ ابن أبي جُمهور الأحسائي في عوالي اللاَلي (٧٠٤ ح ٣٦) ونقله عنه المجلسي في بحار الأنوار (١٧٧١).

لكن رواه الشيخ الطوسيّ في الأمالي (١٠٢٢ و ١٨٢) مسندا عن الرّضا عليه السلام مرفوعا - في ابتداء حديثٍ طويل - من دون لفظ: (ومُسلمة).

وللحديث عند العامة طرق كثيرة، ذكرها السخاوي في (المقاصد الحسنة ص٥ - ٢٧٧) وقال: (ومسلمة) ليس لها ذكر في شي من طرقه.

وانظر (الرحلة في طلب الحديث) للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم (٧١ - ١٠).

٤١

والمرادُ من العلم - هاهنا - : علمُ الحال ِ، أي : المحتاجُ إليه في الحالِ ، المُوْصِلُ إلى النَفْع في المَآلِ كما يُقالُ: ( أفْضَلُ العلمِ علمُ الحال ، وأفْضَلُ العَمَلِ حِفْظُ المَآلِ(٦) ).

فيفرضُ على الطالب ما يُصْلِحُ حالَه.

[٣ - شَرَفُ العلم ]

وشَرَفُ العلم لا يخفى على أحَدٍ. إذِ العلمُ هو المختَص بالإنْسانِيّة(٧) لأِنَ جميع الخصال - سوى العلم - يشترك فيها الإنسانُ وسائر الحيوانات كالشجاعة ، والقُوَة ، والشَفَقَة ، وغيرها.

[٤ - العلمُ فضيلة ]

وبه أظْهرَ الله تعالى فَضْلَ آدَمَ عليه السلام على الملائكة، وأمَرَهم بالسجودِ له(٨) .

____________________

(٦) في (ف) حفظه، وفي (ب): حفظ الحال.

(٧) في الخشاب، وبعض النسخ: بالانسان.

(٨) أي في قوله تعالي: (وَعَلَمَ آدَمَ إلاسْمَأَ كُلَها ...) ثمّ قال تعالي: (وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا ...) من الاَيتين (٣١ و ٣٢) من سُورة البقرة (٢).

٤٢

[٥ - السّعادة بالعلم ]

وأيضا : هو الوسيلةُ إلى السعادة الأبَديَة ، إنْ وَقَعَ العَمَلُ على مُقتضاه(٩) .

____________________

(٩) للتفصيل عن فضل العلم وشرفه راجع: مقدمة (منية المريد) للشهيد الثاني، حيث عقد فصولا سبعة لاستيعاب ذلك، وخصّص الفصل الثالث لذكر ما ورد عن أئمة أهل البيت : من طريق الخاصة، فانظر (ص٩٣ - ١٢٧) ولاحظ (١٠٨ - ١١٩).

و : (أدب الدُنيا والدين) للماوردي (ص٤١ - ٤٣). وقال عليّ أميرُ المؤمنين عليه السلام (أعز العِز العِلْمُ، لأنَ به معرفةَ المعادِ والمعاشِ، وأذل الذُلَ الجهل، لأنّ صاحبه أصمّ، أبكم، أعمى، حَيْران). في نزهة الناظر (ص٣٣).

وقال عليه السلام:

العلمُ زَيْن فكُن للعلم مكْتَسِبا * وكُنْ له طالِبا ما عِشتَ مُقْتَبِسا

اُرْكُنْ إليه وَثِقْ بالله واغْنَ بِه * وكُنْ حليما رزينَ العقلِ مُحْتَرِسا

وكُنْ فَتًى ماسِكا مَحْضَ التقى ورعا * لِلدينِ مُغْتَنِما لِلعلمِ مُفْتَرِسا

فَمَنْ تَخَلَقَ بالاَدابِ ظَلَ بها * رئيسَ قَوْمٍ إذا ما فارَقَ الرُؤَسا

الديوان (ص٧٢).

وقال عليه السلام:

لو صِيْغَ من فِضَةٍ نَفْس على قَدَر * ِلعادَ من فضله لمّا صَفا ذَهبا

ما للفتى حَسَب إلا إذا كَمُلَتْ * أخلاقُه وحَوى الاَدابَ والحَسَبا

فاطْلُبْ فَدَيتُكَ عِلما واكْتَسِبْ أدبا * تَظْفَرْ بذاك به واسْتَعْجِلِ الطَلَبا

الديوان (ص٤٦).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: (تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة، وطلبته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبَذْله لأهله قُرْبة. والعلم مأواه الجنة، واُنْس في الوحشة وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السرّأ، وعون على الضرّأ، وزين عند الأخلاّض، وسلاح على الأعداء.

يرفع الله به قوما في الخير، ليجعلهم أئمةً يقتدى بفعالهم، وتقتص آثارهم، ويصلّي عليهم كل رطب ويابِس وحيتانُ البحر وهوامه وسباعُ البرّ وأنعامُه. في نزهة الناظر (ص٥٠).

٤٣

[٦ - أنواع من العلم]

فالعلمُ الذي يُفْرَضُ على المكلَفِ بعينه(١٠) يجبُ تحصيلُه ، وجَبْرُه(١١) عليه إنْ لَمْ يُحَصلْ

والذي يكونُ الاحْتياجُ إليه في الأحْيان ِ، فرض(١٢) على سَبيل الكِفاية إذا قامَ به البعضُ سَقَطَ عن الباقينَ ، وإنْ لم يكنْ في البَلَدِ مَنْ يقومُ به، اشتركوا - جميعا - بتحصيله ، بالوجوب(١٣) .

قيلَ: (إنّ علمَ ما نفعُ(١٤) على نفسه، في جميع الأحوال ، بمنزلة الطعام ،

____________________

(١٠) في نسخة (أ): نفسه، بدل (بعينه).

(١١) كذا في الخشاب وأكثر النسخ، وفي (أ، ف، و، ع) والاُخرى: (وجُبِرَ).

(١٢) في الخشاب: فرضا، وهو غلط، لأنّه خبر (الذي).

(١٣) في غير (ف) بتحصيله وللتفصيل عن أنواع العلم، راجع: منية المريد (ص٣٧٩ - ٣٨٣).

(١٤) كذا في أكثر النسخ وفي الزرنوجي (يقع) وفي (د) وبعض النسخ: ينفع، بدل (يقع) هنا وفي الجملة التالية.

٤٤

لابُدَ لكلّ أحدٍ من ذلك

وَعلمُ مانفعَ في الأحيانِ ، بمنزلة الدوأ، يُحتاجُ إليه في بعض الأوقات.

وَعلمُ النجوم بمنزلة المرض ، فتعلمه حرام لأنَه يضر ولا ينفعُ، إلاّ قَدَرمايُعْرَفُ به القِبْلةُ، وأوقاتُ الصلاة وغير ذلك، فإنّه ليس بحرامٍ )(١٥) .

____________________

(١٥) علم النجوم ضرره وحرمته:

يُطلق علم النجوم تارةً على معرفة النجوم وأعدادها وحركاتها ومواقعها وأزمانها، فهذا من المعارف البشريّة العامّة المتداولة، إلا انّه لا يُفيد طالب العلم الديني شيئا، إذ لا أثر له في حياته ولا يترتّب على معرفته شي خاص، فبذل الجهد فيه مضر له، من جهة تفويت الوقت عليه، عن تحصيل ما هو ضروري، أو أكثر أهميّة ونفعا وأثرا في حياته العملية، وهذا معنى قول الماتن: يضر ولا ينفع.

وعلى هذا فيكون الاستثناء في قوله: (إلا قدر ما يعرف ...) إلى آخره، متّصلا، إلاّ أن الحكم بحرمة هذا العلم شرعا، لا دليل عليه ما لم يؤدّ إلى تقصير في أداء ما يجب على المكلّف معرفةً أو أداءً.

وقد يُطلق علم النجوم على خصوص تعلّم ما يتداوله المعتقدون بتأثير الكواكب العلوية في الشؤون الكونية، وأنها الفاعلة للاَثار من دون إرادة الصانع الجبار - تعالى الله عمّا يقول الجاهلون - فهذا محكوم بالحرمة لابتنائه على الكفر بالله أو الشرك أو التفويض أو تحديد قدرته تعالي، وكلّ ذلك مخالف للحقّ المدلول عليه في محلّه.

وهذا يضرّ بطالب العلم عقيدة، ولا ينفعه علما ولا عملا لابتنائه على اُمور غير واقعية بل على أحكام والتزامات تخمينية وتكهنات أو أفكار خرافيّة أو نقول غير مؤكّدة ولا مضبوطة. وعلى هذا فالاستثناء في قوله: (إلا قدر ...) منقطع كما لا يخفي.

٤٥

[٧ - ماهيّة العلم ]

وأمّا تفسير(١٦) العلم : فهو صِفة يتجلّى بها - لمنْ قامت هي به - المذكورُ(١٧) .

[٨ - العلم حُجّة على المتعلّم ]

فينبغي لطالب العلم أنْ لا يغْفُلَ عن نفسه ، وما ينفعُها ، وما يضرها ، في أوْلاها واُخراها فيَسْتجلبُ ما ينفعُها، ويجتنبُ عمّا يضرها لئلاّ يكونَ عقلُه وعلمُه حجَةً عليه فتزدادُ عقوبتُه(١٨) .

____________________

(١٦) كذا في الزرنوجي وأكثر النسخ، لكن في الخشاب و (ف) ونسخ اُخري: نفس، بدل (تفسير).

(١٧) ارتبكت النسخ في إثبات هذا التعريف:

ففي أكثرها والخشاب هكذا: (فهي صفة يتحلّى ...).

وفي بعضها: (... يتحلّى بها مَنْ قامت به فَمخْصوص بالمذكور).

وفي نسخة: (... لا يتجلّى بها إلا لمن ...).

وما أثبتناه من الزرنوجي و (ف، و)، ومعناه: أنّ العلم صِفة تتّضح بها المعلوماتُ لمن وُجدت فيه.

(١٨) في الزرنوجي ونسخٍ: (... عقوبة) وفي بعض النسخ: (فيزاد عقوبة).

٤٦

الفصل الثاني

في النيَة

[٩ - لزوم النيّة ]

لابُدّ لِطالِبِ العلم من النيَة(١٩) في تَعَلمِ العلم، إذ النيّةُ هي الأصْلُ في جميع الأفعال، لقوله صلى الله عليه وآله : ( إنّما الأعمالُ بالنيّات، وإنّما لكُلّ امرىٍ ما نوى )(٢٠) .

____________________

(١٩) في هامش الخشاب (أطلُبُ العِلْمَ لوجوبه قُرْبةً إلى الله تعالي).

(٢٠) هذا الحديث لم يذيّل بقوله: (وإنّما لكل امرى ما نوي) في بعض النسخ وجُعل الذيل حديثا مستقلا في نسخ اُخري. وقد رواه الشيخ الطوسيّ في تهذيب الأحكام (٨٣١) ح٢١٨ و (١٨٦٤) ح٥١٩ مذيّلا بلفظ: (... وَإنّما لكلّ امْرِىٍ مَا نَوَى) مرسلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الحديث (٥١٨) مع الذيل، ونقله عنه في وسائل الشيعة (٥٦) ح٧١٩٧، مذيّلا، وانظر الوسائل (٤٨١) ح٨٨ و ٨٩. ورواه - مذيّلا وغير مذيّلٍ - ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللاَلي (٨١١) ح٣ و (٣٨٠١) ح٢ و (١١٢) ح١٩ و (١٩٠٢) ح٨٠. ورواه من العامّة: البخاري في الصحيح (٢١) باب بد الوحي، ومسند أحمد (٢٥١) والبيهقي في السنن الكبرى (٣٤١٧) وابنُ عساكر في الأربعين البلدانية (٤٦ - ٤٧) وهو أوّل أحاديث الجامع الصغير، للسيوطي.

وقال الزرنوجي: حديث صحيح.

٤٧

فينبغي أنْ ينويَ المتعلّمُ بِطَلَبِ العلم : رضا الله تعالى ، وإزالَةَ الجَهلِ عن نفسه، وعن سائر الجُهالِ وإحْيأَ الدينِ ، وإبقاءَ الإسلام ِ.

والأمر(٢١) بالمَعْرُوف، والنَهي عن المنكر، من نَفْسِه، ومتعلّقاته، ومن الغَيْر بِقَدَرِ الإمكان.(٢٢)

[١٠ - سِيْرةُ الطالب]

فينبغي لطالب العلم أنْ: يَصْبِرَ في المشاقّ(٢٣) .

____________________

(٢١) في كثير من النسخ (بالأمر).

(٢٢) أجمل المؤلّف في هذه الفقرة ما سيذكره في الفقرات التالية في فصول الكتاب، وسنشير إلى مواضع تفصيل كلّ ما يذكر..[٤٨]

(٢٣) لاحظ الفقرة وروى ابن عبد البر عن الإمام زيد الشهيد عليه السلام أنه قال: (لا يُستطاع العلم براحة الجسم). جامع بيان العلم (٩١١).

وكتب في هامش نسخة (ف) من كتابنا هذين البيتين:

أرى العلم في جوعٍ وذل وعِفّةٍ * وبُعدٍ عن الاَبأ والأهلِ والوطنْ

فلو كانَ كسبُ العلمِ أسهلَ حرفةٍ * لما كانَ ذو جَهلٍ على الأرضِ في الزمنْ

لاحظ الصورة رقم (٢) من نماذج مصوّرات الكتاب.

٤٨

ويجتهد بقَدَر الوُسْع(٢٤) .

فلا يَصْرِفَ عُمُرَه في الدُنْيا الحقيرة.

ولا يُذِلَ نفسَه بالطَمَع(٢٥) .

(ويجتنبُ الحِقدَ، والحَسَدَ)(٢٦) .

ويحترزَ عن التَكَبرِ(٢٧) .

____________________

(٢٤) لاحظ الفقرات [٢٣ - ٢٧]

(٢٥) لاحظ الفقرة [٣٧].

(٢٦) ما بين القوسين ورد في بعض النسخ، ولاحظ الفقرتين:[٤٢و٤٤]

(٢٧) للتفصيل حول الأخلاق، لاحظ الفقرة [٢٢] وتعاليقها، ولاحظ الفقرتين [ ٤٦و.٤٩].

٤٩

الفصل الثالث

في اختيار العلم والاُستاذ والشريك والثبات

[١١ - اختيار العلم]

ينبغي لطالب العلم أنْ يختارَ من كلّ علمٍ أحْسَنَه((٢٨) ) وما يحتاجُ إليه في اُمور دينه في الحالِ، ثُمَ ما يحتاجُ إليه في المآلِ.

____________________

(٢٨) قال عليّ عليه السلام : (خذوا من كلّ علمٍ أحسنه، فإنّ النحل يأكلُ من كلّ زهرٍ أزينَه، فيتولّد منه جوهران نفيسان: أحدهما فيه شفأ للناس، والاَخر يُستضأ به). معجم ألفاظ غرر الحكم (ص١٣٤٢) رقم (١٠٥٣).

وقال عليه السلام: (العلم أكثر من أن يُحاط به، فخذوا من كلّ علمٍ أحسنَه). معجم ألفاظ غرر الحكم (ص٢٣٤).

ومن قول الإمام عليه السلام اقتبس الشاعر فيما أنشدنيه سماحة العلاّمة المجاهد السيّد بدر الدين الحوثي الحسني اليماني دام عُلاه، فقال:

ما حوى العلم جميعا أحد * لا، ولو دارسَه ألْفَ سَنَه

إنّما العِلمُ بَعيد غورُه * ( فخذوا من كلّ علمٍ أحْسَنَه)

ولاحظ ما يأتي في التعليق على الفقرة .[٥٠]الهامش (٤)

٥٠

ويُقدّمَ علمَ التوحيدِ، ويَعْرِفَ الله تعالى بالدليل(٢٩) .

[١٢ - اختيار العتيق]

ويختارَ العتيقَ دُوْنَ المحْدَثات.

قالوا: (عليكُم بِالعتيقِ((٣٠) ) وإيّاكُم والمحدَثاتِ).

____________________

(٢٩) للتوسّع في هذه الفقرة راجع منية المريد (ص٣٦٦ و ٣٧٩ و ٣٨٥) وانظر هنا في الاعتماد على الاستاذ في اختيار العلم.[٢٠]الفقرة

(٣٠) جاءت هذه الجملة ضمن كلام لبعضهم، في جامع بيان العلم ( ٢/ ١٩٣). فإنّه أسند إلى مَنْ قال: (ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه ورأ ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإيّاكم والتبدّع، وإيّاكم والتنطُع، وعليكم بالعتيق).

فالظاهر أنّ المراد بالعتيق هي المعارف والعلوم القديمة، التي وقع الاتفاق على ضرورتها وفائدتها علما وعملا، دون ما لا نفعَ فيه سوى الترف العلمي، والنُزهة الفكرية، وما لا دخل له في تمرينٍ أو مقدميّة لعلم، ومن ذلك ممّا تُدووِل في العصور المتأخّرة من الجدليات والفرضيّات، أو الصناعات المسمّاة بالعقليّة، التي لا تمسّ حياة الانسان من قريب أو بعيد، وليس لها مجال في التطبيق ولا أثر عمليّ، ولا ثمرة في الدين أو الدنيا. ومن ذلك ما اُقحم في علم الاُصول من المباحث البعيدة عن واقع العلوم المنقولة وفرض آرأ ونظريّات لا يوافق عليها العرف ولا العقلا، ويرفضها حتى أصحاب الفنون أنفسهم، فكم من بحثٍ لغوي يرفضه اللغويون وكم من رأي فلسفي لا يرضاه الفلاسفة، وقد أتعب المتأخرون، والجدد المتعلّمون أنفسهم في اقتحامها بلا طائل يعود على العلم وطلابه سوى التطويل، وتوغّلوا في صياغة المصطلحات التي لا تعود على الدراسات سوى التعقيد، وليس الغرض منها سوى عرض العضلات بزيادة القال والقيل. بينما علوم شريفة من صميم الشريعة، كالحديث وفقهه وشرحه، وآيات الأحكام وتفسيرها، واللغة ومتونها، متروكة مهملة لا يرعاها إلا القلائل.

وينسحبُ مثلُ هذا الكلام على المؤلّفات التي يغلب على الجديد منها الهراء والفضول وكبر الحجم، وزيادة المجلّدات، وكأنّ الاهتمام بالوزن والكمّ فقط، وهذا على خلاف المؤلّفات القديمة المبتنية على تصغير الأحجام وبذل غاية الاهتمام بالكيف والعمق والإحكام، فقد كانوا يزنون العلم بالمؤدى وما يُفيد في مجال الأعمال، لا كما آل إليه الأمر من وزن العلم بالأرطال.

ثمّ إنّ انتهاج هذه السيرة الجديدة في العلوم تدريسا وتأليفا وتفكيرا هو المؤدي إلى ما وصل إليه الطلاّب من الحيرة في الانتخاب، أو اليأس من الاستيعاب، لكثرة الاحتمالات والاَرأ وكثرة المؤلّفات في كلّ موضوع وباب، ولا يمكن التخلّص من هذه الحالة المتردّية إلا باللجو إلى الاُصول في كلّ شي من نص أو فكر أو رأي أو كتاب، حتى يختصر الزمان ونسبق حوادثه التي تجتاحُ الكونَ والإنسان.

والله الموفّق وهو المستعان.

٥١

[١٣ - اختيار المتون]

ويختارُ المُتُونَ.

كما قيلَ: (عليكُم بالمُتُوْنِ).

[١٤ - اختيار الاُستاذ]

وأما اخْتيارُ الاُسْتاذ، فينبغي أَنْ يختارَ الأعْلَمَ، والأوْرَعَ، والأسَنَ.

٥٢

وينبغي أنْ يُشاوِرَ في طَلَب أيّ عِلْمٍ يُرادُ في المشي إلى تحصيله(٣١) .

وإذا وَصَلَ((٣٢) ) المتعلّمُ إلى بِلادٍ يُريدُ أنْ يتعلّمَ فيها، فلْيكُنْ إلا يَعْجَلَ في الاخْتلاطِ مَعَ العلماء، وأنْ يَصْبِرَ شَهرَيْنِ، حتّى كانَ اخْتيارُه لِلاُستاذ لَمْ

يُؤَد إلى تركِه والرجُوعِ إلى الاَخَر، فلا يُبارَكْ له

[١٥ - الثَبات على ما يختار]

فينبغي أنْ يَثْبُتَ ويَصْبِرَ:

على اُسْتاذٍ.

وعلى كِتابٍ، حتّى لا يكون - بتركِه - أبْتَرَ.

وعلى فَن، حتّى لا يشتغلَ بفَن آخَرَ قَبْلَ أنْ يصيرَ ماهرا فيه.

وعلى بَلَدٍ، حتّى لا يَنْتَقِلَ إلى بَلَدٍ آخَر، من غَيْر ضَرُورة(٣٣) .

____________________

(٣١) روى الماوردي في أدب الدنيا والدين (ص٢٩١) قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: (الاستشارةُ عينُ الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه).

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال: (المشورةُ حِصن من الندامة، وأمان من الملامة) نزهة الناظر (ص٣).

وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: (نعم المؤازرة المشاورةُ، وبئس الاستعداد الاستبداد) ورواهما في أدب الدنيا والدين (ص٢٨٩).

وروى الزرنوجي (ص١٤): قال جعفر الصادق عليه السلام لسفيان الثوري: (شاوِرْ في أمْرِك مَعَ الذين يخشونَ الله تعالي).

في الاعتماد على الاُستاذ في اختيار العلم.ولاحظ الفقرة [ ٢٠ ]

(٣٢) كذا في أكثر النسخ وفي بعضها: دَخَلَ.

(٣٣) عن الرحلة إلى البلاد وفوائدها، راجع كتاب: الرحلة إلى طلب الحديث، للخطيب البغدادي.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

تغرَبْ عن الأوطانِ في طلب العُلى * وسافِرْ ففي الأسفار خَمْسُ فوائدِ

تَفرجُ هم , واكْتِسابُ معيشةٍ , * وعلم، وآداب وصحبة ماجِدِ

وهو في الديوان (ص٦١).

٥٣

فإنّ ذلك كلَه يُفَرّقُ الاُمورَ المُقَربة إلى التحصيل، ويُشْغل القَلْبَ، ويُضَيّعُ الأوقات.

[١٦ - اختيار الشريك]

وأما اخْتيار الشريك، فينبغي أن يختارَ الُمجِدَ، والوَرِعَ(٣٤) وصاحبَ الطبعِ المستقيمِ.

ويفرّ ويحترزُ((٣٥) ) من الكسْلانِ، والمُعَطَلِ، ومِكْثارِ الكلامِ، والمُفْسِدِ، والفتّانِ.

كما قيل - في الحكمة الفارسيّة - نَظْما:

يارِ بَدْ بدْتَرْ بُوَدْ أزْ مارِ بَدْ * تا تَوَانِيْ مِيُْرِيْزْ أزْ يارِ بَدْ

مارِ بَدْ تَنْها تُو را بَرْ جانْ زَنَد * ْيارِ بَدْ بَرْ جانُ وبَرْ إيمانْ زَنَدْ(٣٦)

____________________

(٣٤) كذا في النسخ والزرنوجي، وفي الخشاب وبعض النسخ: المتورّع.

(٣٥) في (ب، د): يفرّ وفي سائر النسخ: (يحترز) وقد جمع بينهما في (ع).

(٣٦) وقد نظمتُ معنى البيتين بالعربية، فقلتُ:

لئنْ كانَ خل السوء أعتى مضرَة * ًمن الحيّة السوداء فاهجُرْه بالبَيْنِ

فإنْ كانَتْ السوداء للجسم سمها * فضرّ صديق السو للجسم والدِيْنِ

وقد أثبت الخشاب معنى البيتين نثرا في المتن، وذكر الشعر الفارسي في

أمّا الزرنوجي فقد أورد الشعر هكذا:

يارِ بَدْ بَدْتَرْ بُوَد أزْ مارِ بَدْ بحق ذاتِ اكِ الله الصَمَدْ

يارِ بَدْ آرَدْ تو را سُويِ جَحِيمْ يارِ نيكُو كِيْرْ تا يابي نَعِيْمْ

٥٤

وقيل:

فاعْتَبِرِ الأرْضَ بأسْمائِها(٣٧) * واعْتَبِرِ الصاحبَ بالصاحِبِ(٣٨)

____________________

(٣٧) كذا في الزرنوجي والنسخ، لكن في الخشاب: بإنمائِها.

(٣٨) جاء في الزرنوجي، قبل هذا البيت، قوله:

إنْ كُنْتَ تبغي العِلْمَ من أهلِه * أوْ شاهدا يُخْبِرُ عن غائبِ

ولاحظ نهاية الفقرة[٣٣] ففيها كلام حول الشخص الذي يُنتخب للمذاكرة.

وأنشد الماوردي، لأبي بكر الخوارزمي:

لا تَصْحَب الكسلان في حالاته * كم صالحٍ بفساد آخَرَ يفسدُ

عدوى البليد إلى الجليد سريعة * والجَمْرُ يُوضَعُ في الرمادِ فيخمُدُ

أدب الدنيا والدين (ص١١٢).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

فلا تَصْحَبْ أخا الجهل * و إيّاكَ و إيّاه

فكم من جاهلٍ أرْدى * حليما حينَ آخاه

يُقاسُ المَرْءُ بالمَرْءِ * إذا ما هو ماشاه

ولِلقَلْبِ على القَلْب * دليل حين يَلْقاه

وللشيء من الشي * ء مقاييس وأَشْباه

وهو في الديوان (ص١٢٢) ورواه القُضاعي في دستور معالم الحكم (ص١٥٧).

٥٥

[١٧ - تعظيم العلم وأهله]

وينبغي أنْ يُعَظّمَ العلمَ وأهلَه بالقَلْبِ غايةَ التعظيم.

قيل: (الحُرْمَةُ خَيْر من الطاعَةِ).

حتّى لَمْ يأخُذ الكتابَ، ولَمْ يُطالِعْ، ولَمْ يَقْرأ الدَرْسَ، إلا مَعَ الطَهارة(٣٩) .

[١٨ - أَدَبُ الكِتابة]

وينبغي أنْ يُجَودَ كتابة الكتاب(٤٠) ،

____________________

(٣٩) لا سيّما الكتب المحتوية على النصوص المقدّسة، كالقرآن الكريم، وتفاسيره، فإنّ ما يؤدّي إلى الاستهانة بها حرام.

وكذلك كتب الحديث الشريف والسُنّة المطهرة، بل يلزم تعظيمها كما نقل عن العلاّمة الفاضل الدربنديّ أنّه كان يُوْلي كتب الحديث الشريف تعظيما

بالغا، حتى كانَ إذا أخذ بيده كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي: قبّلَه ووضعه على رأسه، كما يُصْنَعُ بالقرآن الكريم، ويقول: (إنّ كتُب الحديث لها عَظَمةُ القرآن).

لاحظ: المنتقى النفيس من درر القواميس (ص١٥٨).

وأمّا الكون على الطهارة فقد رووا فيه عن مالك بن أنس، أنه قال: كانَ لا يحدّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ وهو طاهر. جعفر بن محمّد [ عليه السلام]جامع بيان العلم (١٩٩٢).

(٤٠) روى الخطيبُ والسمعانيّ، مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (الخطّ الحسنُ يزيدُ الحقَ وضوح) الجامع لأخلاق الراوي (ج١، ص٣٩٩) رقم ٥٣٢،

وأدب الإملاء والاستملا ء(ص١٦٦)، وفيه: (وضح) بدل (وضوح) وفي هذا المصدر كلام عن آداب الكتابة.

وانظر: تدوين السُنّة الشريفة (ص١٠١) فقد أوردنا له تخريجا أوسع.

وأسند الخطيبُ إلى أبي عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ قال: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب [عليه السلام]: (الخطّ علامة، فكلّما كانَ أبْيَنَ كانَ أحْسَنَ).الجامع لأخلاق الراوي (ج١، ص٤٠٠) رقم ٥٣٥.

وقال عليه السلام : (الخطّ لسان اليد). معجم ألفاظ غرر الحكم (خطط).

٥٦

ولا يُقَرْمِطَ(٤١) ويترك الحاشية(٤٢) إلا عند الضرورة، لاِضنّه إنْ عاشَ

____________________

(٤١) قال ابن منظور: قَرْمَطَ في خَطْوِه: إذا قارب ما بين قَدَمَيْه والقرمَطَةُ في الخطّ: دقّة الكتابة وتداني الحروف، وقرمَطَ الكاتبُ إذا قارب بين كتابته. لسان العرب (٢٥٢٩) مادّة (قرمط).

فالنّهي عن القرمطة، بمعنى عدم الكتابة الدقيقة، التي يصعب قرأتها عند الحاجة. وأما ما ورد من الأمر بالقرمطة فيما رواه الخطيب عن عليّ أميرالمؤمنين أنّه قال لكاتبه عُبَيْد الله بن أبي رافع: (ألِقْ دِواتَك، وأطِلْ سِنَ قَلمِكَ، وأفْرِجْ بين السّطور، وقَرْمِطْ بينَ الحروف). الجامع لأخلاق الراوي (٤٠٣١) رقم ٥٤٠. وأرسله في لسان العرب (قَرْمَطَ) وفيه: (فَرجْ ما بين السّطور وقرْمط ما بين الحروف).

فالمراد التقريب بين حروف الكلمة الواحدة، فإنّ الفصل الكثير بينها مؤد إلى الوهم والتصحيف، كما لا يخفي.

(٤٢) المقصود من (ترك الحاشية) عدم كتابة شي على هوامش الكتاب، بعنوان التوضيح أو التعليق، فإنّ فِعْل الطالب المتعلّم ذلك، يؤدّي إلى تشويه الكتاب، مَعَ أن ما يكتبه ليس بالجودة والقوّة اللازمة، بحيث يُرْتضى - حتى من قبله هو - بعدَ هذه المرحلة.

فالأولى اجتناب ذلك، والكتابة في دفتر منفصل.

٥٧

نَدِمَ، وإنْ ماتَ شُتِمَ(٤٣) .

[١٩ - أَدَبُ السماع]

وينبغي أنْ يستمع العِلْمَ بالتعظيم والحرمة، لا بالاسْتهزاء.

[٢٠ - الاعتماد على الاُستاذ]

ولا يختارُ نَوْعا من العِلْم بنفسِه، بَلْ يُفَوضُ أمْرَه إلى اُسْتاذِه، لأنَ الاُسْتاذَ قد حَصَلَ له التجاربُ في ذلك عند التحصيل، وعَرَفَ ما ينبغي

لكُلّ واحدٍ، وما يليقُ بطبيعتِه(٤٤) .

[٢١ - التأدبُ مَعَ الاُستاذ]

وينبغي لِطالبِ العلم أنْ لا يجلسَ قريبا من الاُستاذ عند السبق، بغير (عذر إلاّ للضّرورة)(٤٥) ، بَلْ ينبغي أنْ يكونَ بينَه وبينَ الاُستاذِ قَدَرُ القوسِ، لاِنَه أقربُ إلى التعظيم(٤٦) .

____________________

(٤٣) ومن اَداب الكتابة :تركها بعد العصر، وقد روي:( من اكرمَ حبيبتيه فلايكتبْ بعد العصر ) رواه السخاويفيالمقاصد الحسنة،وقال : ليس فيالمرفوع

اقول : ذكر المولى صدرالمتالّهين في تفسيره (١ ٣٥٨) في الحديث :( من احب ّ كريمتاه لايكتبنّ بالعصر) كذا فيه :(كريمتاه) بالألف ويمكن تخريجه على اسنعمال المثنى بالألف دائماً كما هي لغة ، لكنّ احتمال التحريف وارد، والمشهور عندنا: ( من احب ّ كريمتيه فلا يقرا بعد العصر).

وقال في تذكرة الموضوعات (ص ١٦٢): اوصى احمد ان لا ينظر بعده - اي بعد العصر - فيكتاب، وعن الشافعيّ: الورّاق إنّما باكل من دية عينيه.

(٤٤) لاحظ الفقرة [١٥] وما نقلنا في هامشها.

(٤٥) ما بين القوسين من (ف) وفي النسخ: بغير ضرورة.

(٤٦) ذكر الزرنوجي ما يرتبط بهذه الفقرة في بداية الفقرة [١٩]فقال: ومن تعظيم العلم: تعظيمُ المعلّم.

قال علي عليه السلام: (أنا عَبدُ مَنْ علّمني حرفا واحدا، إنْ شاءَ باع، وإنْ شاءَ أعْتَقَ، وإنْ شاء اسْترقّ).

٥٨

____________________

ولم أقف على هذا الحديث في غير هذا الكتاب، إلاّ أنّ المشهور على ألْسِنة المشايخ رحمهم الله يتداولونه مرسلا عنه عليه السلام أنّه كان يقول: (مَن علّمني حرفا فقد صيّرني عبد).

وأرسل الشهيد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (مَنْ علَمَ أحدا مسألةً ملك رِقَه). قيل له: أيبيعه ويشتريه

قال: [ لا ] بل يأمُرُه وينهاه). في منية المريد (ص٢٤٣) ونقله محقّقه عن إجازة ابن أبي جمهور الأحسائي، بلفظ: قال سيّدُ العالمين: (مَنْ علّمَ ...) وفيه وردت كلمة [ لا ] التي وضعناها بين المعقوفين. نقل ذلك عن بحار الأنوار (ج١٠٨، ص١٦).

وبالنسبة إلى تعظيم الاُستاذ المعلّم:

روى الخطيب بسنده إلى محمّد بن سلام الجمحي قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام : (من حقّ العالم عليك:

أنْ تُسَلمَ على القوم عامَةً، وتخصّه دونَهم بالتحيّة.

وأنْ تجلس أمامه.

ولا تُشيرَنَ عنده بيدك.

ولا تغمِزَنّ بعينيك.

ولا تقولَنَ (قال فلان) خلافا لقوله.

ولا تغتابنَ عنده أحَدا.

ولا تسارّ في مجلسه.

ولا تأخذ ثوبَه.

٥٩

____________________

ولا تلحَ عليه إذا كَسَلَ.

ولا تعرض من طول صُحبته، فإنّما هو بمنزلة النخلة تنتظرُ متى يسقطُ عليك منها شي.

وإنّ المؤمنَ العالم لأعظمُ أجْرا من الصائم، القائم، الغازي في سبيل الله.

وإذا مات العالِمُ انثلَمَتْ في الإسلام ثُلمة لا يَسُدها شي إلى يوم القيامة). الجامع لأخلاق الراوي (٣٠٠١ - ٣٠١) رقم ٣٥٠.

ورواه القاضي القضاعي في دستور معالم الحكم في بداية الباب السابع (ص١٠٧ - ١٠٨) بتقديم وتأخير في بعض الفقرات.

ورواه من أصحابنا البرقي في المحاسن (ص٢٣٣) في كتاب مصابيح الظلم، باب (١٩) حقّ العالم، الحديث (١٨٥) بسنده عن الصادق عليه السلام قال: كان

علي عليه السلام يقول: (إنّ من حقّ العالم أنْ ...). ورواه الكليني في الكافي (٢٩١) كتاب فضل العلم، باب حقّ العالم، إلى

قوله: (في سبيل الله). وأرسله باختلاف في منية المريد (ص٢٣٤).

وأسند ابنُ عبد البرّ إلى سعيد بن المسيّب، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: (إنّ من حقّ العالم:

أنْ لا تُكثر عليه بالسؤال.

ولا تعنّتْه في الجواب.

وأن لا تلحَ عليه إذا كسل.

ولا تأخذ بثوبه إذا نهضَ.

ولا تُفْشِينَ له سرّا.

ولا تغتابنَ عنده أحدا.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الصفحة ٥٢٣

معذور، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الاثار، بمعنى أن شيئا من آثار الشئ المجهول عقابا أو غيره من الاثار المترتبة على ذلك الشئ في حق العالم لا يرتفع عن الجاهل لاجل جهله.

وقد إستثنى الاصحاب من ذلك القصر والاتمام والجهر والاخفات، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين.

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي، وهي الصحة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة.

وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا.

فحينئذ يقع الاشكال في أنه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الاحكام المجهولة للمكلف المقصر، فيكون تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا.

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا، إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب، وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الامر به مع فرض وجود الامر بالقصر.

ودفع هذا الاشكال، إما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك، وإما بمنع تعلقه بالمأتي به، وإما بمنع التنافي بينهما.

فالاول: إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم، وكذا الجهر والاخفات.

وإما بمعنى معذوريته فيه، بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع، يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا، بخلاف الحكم الواقعي.

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري، كما في الجاهل بالموضوع، إلا أن مستغنى عنه بإعتقاده لوجوب هذا الشئ عليه في الواقع.

وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلم، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه.

نعم يعاقب على عدم إزالة الغفلة، كما تقدم إستظهاره من صاحب المدارك و من تبعه.

وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع، إلا أن الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة لقبح خطاب العاجز.

وان كان العجز بسوء إختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر، لكنه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الامر بالاتمام.

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور، حيث أن الظاهر منهم كما تقدم بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

والثاني: منع تعلق الامر بالمأتي به وإلتزام أن غير الواجب مسقط عن الواجب، فإن قيام ما

١٢١

الصفحة ٥٢٤

اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع.

نعم قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب فيحرم، بناء على دلالة الامر بالشئ على النهي عن الضد، كما في آخر الوقت، حيث يستلزم فعل التمام فوت القصر.ويرد هذا الوجه أن الظاهر من الادلة كون المأتي به مأمورا به في حقه.

مثل قوله عليه السلام في الجهر والاخفات: (تمت صلاته)، ونحو ذلك.

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع عدم وجوب البدل، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الامر الواقعي وثبوت الامر بالبدل، فتأمل.

والثالث: بما ذكره كاشف الغطاء، رحمه الله، من أن التكليف بالاتمام مرتب على معصية الشارع بترك القصر، فقد كلفه بالقصر والاتمام على تقدير معصية في التكليف بالقصر.

وسلك هذا الطريق في مسألة الضد في تصحيح فعل غير الاهم من الواجبين المضيقين، إذا ترك المكلف الامتثال بالاهم.

ويرده: أنا لا نعقل الترتب في المقامين، وإنما يفعل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصية الاول.

كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة الترابية فكلف لضيق الوقت بالبراء‌ة.

الثالث إن وجوب الفحص إنما هو في إجراء الاصل في الشبهة الحكمية الناشية من عدم النص أو إجمال بعض ألفاظه او تعارض النصوص.

أما إجراء الاصل في الشبهة الموضوعية: فإن كانت الشبهة في التحريم، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص.

ويدل عليه إطلاق الاخبار، مثل قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم)(١)، وقوله: (حتى يستبين لك غير هذا او تقوم به البينة)(٢)، وقوله: (حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة)(٣)، وغير ذلك، السالم عما يصلح لتقييدها.

وإن كانت الشبهة وجوبية، فمقتضى أدلة البراء‌ة حتى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضا وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد.

مثل قول المولى لعبده: (أكرم العلماء أو المؤمنين)، فإنه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين، إلا أنه قد يترا اى أن بناء

____________________

(١) الكافي (الفروع) ج ٦، ص ٣٣٩.

(٢) الكافي، ج ٥، ص ٣١٣.

(٣) الكافي (الفروع)، ج ٦، ص ٣٣٩: (كل شئ كل حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة).

ص ٢٢٤.

١٢٢

الصفحة ٥٢٥

العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط.

كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها أو إضافتهم أو إعطاء كل واحد منهم دينارا.

فإنه قد يدعى أن بناء‌هم على الفحص عن أولئك وعدم الاقتصار على المعلوم إبتداء مع إحتمال وجود غيرهم في البلد.

قال في المعالم، في مقام الاستدلال على وجوب التبين في خبر مجهول الحال بآية التثبت في خبر الفاسق: (إن وجوب التثبت فيها متعلق بنفس الوصف، لا بما تقدم العلم به منه.

ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه.

ألا ترى أن قول القائل: (أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلا درهما)، يقتضي إرادة السؤال والفحص عمن جمع الوصفين، لا الاقتصار على من سبق العلم بإجتماعهما فيه)(١)، إنتهى.

وأيد ذلك المحقق القمي، رحمه الله، في القوانين ب‍ (أن الواجبات المشروطة بوجود شئ إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده.فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط.مثل أن من شك في كون ماله بمقدار إستطاعة الحج، لعدم علمه بمقدار المال.

لا يمكنه أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع ولا يجب علي شئ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم لو شك بعد المحاسبة في أن هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا، فالاصل عدم الوجوب حنيئذ)(١).

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه(٢).

وأما كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة: فقد أفتى جماعة منهم، كالشيخ والفاضلين وغيرهم، بأنه لو كان له فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشك في مقداره وجب التصفية، ليحصل العلم بالمقدار أو الاحتياط بمقدار ما تيقن معه البراء‌ة.

نعم إستشكل في التحرير في وجوب ذلك، وصرح غير واحد من هؤلاء، مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب، بأنه لا يجب التصفية، والفرق بين المسألتين مفقود إلا ما ربما يتوهم من أن العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب، بخلاف ما لم يعلم به.

وفيه: أن العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدرة المتيقن ودوران الامر بين الاقل والاكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا.ألا ترى أنه لو علم بالدين وشك في قدره، لم

____________________

(١) معالم الدين، ص ٢٠١.

(٢) القوانين المحكمة، ص ٢٢٤.

١٢٣

الصفحة ٥٢٦

يوجب ذلك الاحتياط والفحص، مع أنه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراء‌ة قبل الفحص لمنع منها بعده، إذ العلم الاجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراء‌ة ولو بعد الفحص.

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات: (ولو شك في البلوغ، ولا مكيال هنا ولا ميزان، ولم يوجد، سقط الوجوب دون الاستحباب)(١) إنتهى.وظاهره جريان الاصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم.

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكن في بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل.

وأشكل منه فرقهم بين الموارد، مع ما تقرر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الامر بين الاقل والاكثر.

وما ما ذكره صاحب المعالم، رحمه الله، وتبعه عليه المحقق القمي، رحمه الله، من تقريب الاستدلال بآية التثبت على رد خبر مجهول الحال من جهة إقتضاء تعلق الامر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم(٢) فلا يخفي ما فيه، لان رد خبر مجهول الحال ليس مبنيا على وجوب الفحص عند الشك وإلا لجاز الاخذ به ولم يجب التبين فيه بعد الفحص واليأس عند العلم بحاله، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم بإجتماع الوصفين فيه، بل وجه رده قبل الفحص وبعده أن وجوب التبين شرطي، ومرجعه إلى إشتراط قبول الخبر في نفسه من دون إشتراط التبين فيه بعدالة المخبر.

فإذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه، والمرجع في هذا الشك والمتعين فيه عدم قبول، لان عدم العلم بحجية شئ كاف في عدم حجيته.

ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا تعين هنا بحكم العقلاء إعتبار الفحص ثم العمل بالبراء‌ة، كبعض الامثلة المتقدمة.فإن إضافة جميع علماء البلد أو أطبائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلا بالفحص.

فإذا حصل العلم ببعض، واقتصر على ذلك نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراء‌ة من غير تفحص زائد على ما حصل به المعلومين عد مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد.ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم: إن العلم بالاستطاعة في أول ازمنة حصولها

____________________

(١) تحرير الاحكام، ص ٦٢.

(٢) معالم الدين، ص ٢٠١.

١٢٤

الصفحة ٥٢٧

يتوقف غالبا على المحاسبة.فلو بنى الامر على تركها ونفي وجوب الحج بأصالة البراء‌ة لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الاشخاص، لكن الشأن في صدق هذه الدعوى.

وأما ما استند إليه المحقق المتقدم من أن الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ففيه: أنه مسلم، ولا يجدي، لان الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجوب المشروط وثبوت التكليف والاصل عدمه.

غاية الامر الفرق بين إشتراط التكليف بوجود الشئ وإشتراطه بالعلم به، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية نقطع بإنتفاء التكليف من دون حاجة إلى الاصل وفي الصورة الاولى يشك فيه، فينفى بالاصل.

١٢٥

الصفحة ٥٢٨

وأما الكلام في مقدار الفحص

فملخصه أن حد الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فما بأيدينا من الادلة ويختلف ذلك بإختلاف الاعصار.

فإن في زماننا هذا إذا ظن المجتهد بعدم وجود دليل التكليف في الكتب الاربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر، على وجه صار مأيوسا، كفى ذلك منه في إجراء البراء‌ة.

أما عدم وجوب الزائد، فللزوم الحرج وتعطيل إستعلام سائر التكاليف، لان إنتهاء الفحص في واقعة إلى حد يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع.

فيجب فيها إما الاحتياط، وهو يؤدي إلى العسر، وإما لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيها.

وجوازه ممنوع، لان هذا المجتهد المتفحص ربما يخطئ ذلك المجتهد في كثير من مقدمات إستنباطه للمسألة.

نعم لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنه أطلع على ما لم يطلع هذا، أمكن أن يكون قوله حجة في حقه.

لكن اللازم حينئذ أن يتفحص في جميع المسائل إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد.فإن كان مذهبه مطابقا للبراء‌ة كان مؤيدا لما ظنه من عدم الدليل.وإن كان مذهبه مخالفا للبراء‌ة كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف.

فإن لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسية أو العقلية من الاخبار، أخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته.

ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد، من أن القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عن إعواز النصوص.

والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النص المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى.

وإن احتمل في حقه إبتناء فتواه على الحدس والعقل، لم يكن دليل على إعتباره في حقه وتعين العمل بالبراء‌ة.

١٢٦

الصفحة ٥٢٩

تذنيب ذكر الفاضل التوني لاصل البراء‌ة شروطا أخر الاول: أن لا يكون إعمال الاصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، مثل أن يقال، في أحد الانائين المشتبهين: الاصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الاخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا و عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة، فإن إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الاناء الاخر أو الملاقي أو الماء.

أقول: توضيح الكلام في هذا المقام أن إيجاب العمل بالاصل لثبوت حكم آخر إما بإثبات الاصل المعمول به لموضوع أنيط به حكم شرعي، كأن يثبت بالاصل براء‌ة ذمة الشخص الواجد لمقدار الدين مانع عن الاستطاعة، فيدفع بالاصل ويحكم بوجوب الحج بذلك المال.

ومنه المثال الثاني، فإن أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا يوجب الحكم بقلته التي أنيط بها الانفعال.

وإما لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم عقلا أو شرعا أو عادة ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين.

فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الاول، كالمثال الثاني، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الاصل، لجريان أدلته من العقل والنقل من غير مانع.ومجرد إيجابه حكما وجوديا آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلته.كما لا يخفى على من تتبع الاحكام الشرعية والعرفية.ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع.

فإذا إنحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحه بحيث لو كان محرم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين.

فلا مانع من إجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور فيجب عليه الصلاة.

١٢٧

الصفحة ٥٣٠

ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده: (إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا).

فإن العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شئ على نفسه من قبل المولى.

وإن كان على الوجه الثاني الراجح إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردد بين حكمين: فإن أريد بإعمال الاصل في نفي أحدهما إثبات الاخر، ففيه: أن مفاد أدلة أصل البراء‌ة مجرد نفي التكليف دون إثباته وإن كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي.

فإن الاحكام الظاهرية إنما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت، إلا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالاصل موضوعا لذلك الحكم الاخر، كما ذكرنا في مثال براء‌ة الذمة عن الدين والحج، وسيجئ توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين.

وإن أريد بإعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الاثبات، فهو جار، إلا أنه معارض بجريانه في الاخر.

فاللازم إما إجراؤه فيهما، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لاجل العمل بالاصل، وإما إهماله فيهما، فهو المطلوب، وإما إعمال أحدهما بالخصوص، فترجيح بلا مرجح.نعم لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام مما يضر طرحه لزم العمل بهما.كما تقدم أنه أحد الوجهين فيما إذا دار الامر بين الوجوب والتحريم.

وكيف كان، فسقوط العمل بالاصل في المقام لاجل المعارض، ولا إختصاص لهذا الشرط بأصل البراء‌ة، بل يجري في غيره من الاصول والادلة.

ولعل مقصوده صاحب الوافية ذلك، وقد عبر هو، رحمه الله، [ عن هذا الشرط ] في باب الاستصحاب بعدم المعارض.

وأما أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا، فقد عرفت أنه لا مانع من إستلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي، فإنه نظير أصالة البراء‌ه من الدين المستلزم لوجوب الحج.

وقد فرق بينهما المحقق القمي، رحمه الله، حيث إعترف بأنه لا مانع من إجراء البراء‌ة في الدين وإن إستلزم وجوب الحج، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرية، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء.

ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا.(١)

____________________

(١) القوانين المحكمة، ص ٢٧٢

١٢٨

الصفحة ٥٣١

ثم إن مورد الشك في البلوغ كرا الماء المسبوق بعدم الكرية.وأما المسبوق بالكرية، فالشك في نقصانه من الكرية والاصل هنا بقاؤها.

ولو لم يكن مسبوقا بحال، ففي الرجوع إلى طهارة الماء، للشك في كون ملاقاته مؤثرة في الانفعال، فالشك في رافعيتها للطهارة، أو إلى النجاسة، لان الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرية مانعة عنها بمقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، ونحوه، مما دل على سببية الكرية، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه، وجهان.

وأما أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الاصل، نعم نفس الكرية حادثة، فإذا شك في تحققها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها.وهذا معنى عدم تقدم الكرية على الملاقاة.

لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية، وهو معنى عدم تقدم الملاقاة على الكرية فيتعارضان.

ولا وجه لما ذكره من الاصل.

وقد يفصل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرية والملاقاة معلوما، فإنه يحكم بأصالة تأخر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه فيلحقه حكمه من الطهارة والنجاسة، وقد يجهل التأريجاه بالكلية.

وقضية الاصل في ذلك التقارن، ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمان يحتمل وقوعه فيه، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما وكر حال الملاقاة فلا يتنجس به)(١)، إنتهى.

وفيه: أن تقارن ورود النجاسة والكرية موجب لانفعال الماء، لان الكرية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرية على ما هو مقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، فإن الضمير المنصوب راجع إلى الكر المفروض كريته، فإذا حصلت الكرية حال الملاقاة كان المفروض الملاقاة غير كر، فهو نظير ما إذا حصلت الكرية بنفس الملاقاة فيما إذا تمم الماء النجس كرا بطاهر والحكم فيه النجاسة، إلا أن ظاهر المشهور فيما نحن فيه الحكم بالطهارة.

بل إدعى المرتضى، قدس سره، عليه الاجماع حيث استدل بالاجماع على طهارة كر رأى فيه نجاسة لم يعلم تقدم وقوعها على الكرية على كفاية تتميم النجس كرا في زوال نجاسته.

ورده الفاضلان وغيرهما بأن الحكم بالطهارة هنا لاجل الشك في حدوث سبب النجس، لان الشك مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة لوقوعها قبل الكرية أو غير مؤثرة، لكنه يشكل، بناء

____________________

(١) الفصول الغروية، ص ٣٥٤.

١٢٩

الصفحة ٥٣٢

على أن الملاقاة سبب للانفعال والكرية مانعة.

فإذا علم بوقوع السبب في زمان لم يعلم فيه وجود المانع، وجب الحكم بالمسبب، إلا أن الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالاصل محل تأمل، فتأمل.

الثاني: أن لا يتضرر بأعمالها مسلم.كما لو فتح قفس طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهرب دابته.

فإن إعمال البراء‌ة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل إندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله: (لا ضرر و لا ضرار).

فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير منفي، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصه، فلا يتحقق شرط التمسك بالاصل من فقدان النص، بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد التغزير أو الضمان أو هما معا، فينبغي له تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح(١).

ويرد عليه: أنه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الاصل، كان دليلا، كسائر الادلة الاجتهادية الحاكمة على البراء‌ة، وإلا فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراء‌ة، ومجرد إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الاصل.

والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو الاثم والتعزير إن كان متعمدا، وإلا فلا يعلم وجوب شئ عليه، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح.

وبالجملة، فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الاصل بما إذا لم يكن جزء عبادة، بناء على أن المثبت لاجراء العبادة هو النص، لان النص قد يصير مجملا وقد لا يكون نص في المسألة.

فإن قلنا بجريان أصل عدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الاقل والاكثر فلا مانع منه، وإلا فلا مقتضي له، وقد قدمنا ما عندنا في المسألة.

____________________

(١) الوافية، ص، مخطوط.

١٣٠

الصفحة ٥٣٣

[ قاعدة لا ضرر ] وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة فنقول: قد إدعى فخرالدين في الايضاح، في باب الرهن، تواتر الاخبار على نفي الضرر والضرار.

فلا نتعرض من الاخبار الواردة في ذلك إلا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة.وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الانصاري.

وهي ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: (إن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الانصار، وكان يجئ إلى عذقه بغير إذن من الانصاري.

فقال الانصاري: يا سمرة ! لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن تفجأنا عليها، وإذا دخلت فاستأذن.

فقال: لا أستأذن في طريقي إلى عذقي.

فشكاه الانصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

فأتاه، فقال: إن فلانا قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل.

فقال: يا رسول الله ! أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله " ص ": خل عنه ولك عذق في مكان كذا.

قال: لا.

قال: فلك إثنان.

فقال: لا أريد.

فجعل " ص " يزيد حتى بلغ عشر أعذق.

فقال " ص ": خل عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا، فأبى، فقال: خل عنه ولك بها عذق في الجنة.

فقال: لا أريد.

فقال له روسول الله " ص ": إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

قال عليه السلام: ثم أمر بها رسول الله " ص " فقلعت، ثم رمي بها إليه.

وقال له رسول الله " ص " إنطلق

١٣١

الصفحة ٥٣٤

فاغرسها حيث شئت)(١)، الخبر.

وفي رواية أخرى موثقة: (إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الانصار وكان منزل الانصاري بباب البستان وفي آخرها -: قال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)(٢)، الخبر.

وأما معنى اللفظين، فقال في الصحاح: (الضر خلاف النفع.وقد ضره وضاره بمعنى.والاسم الضرر ثم قال: والضرار المضارة)(٣).

وعن النهاية الاثيرية: (في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).الضر ضد النفع.

ضره يضره ضرا وضرار. وأضر به يضره إضرار. فمعنى قوله: لا ضرر: لا يضر الرجل أخاه بنقصه شيئا من حقه. والضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر إبتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه. وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به. والضرار أن تضره بغير أن تنفع. وقيل: هما بمعنى. والتكرار للتأكيد)(٤) إنتهى.

وعن المصباح: (ضره يضره)، من باب قتل: إذا فعل به مكروها، وأضر به. يتعدى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيا.

والاسم الضرر.

وقد يطلق على نقص في الاعيان.

وضاره مضارة وضرارا بمعنى ضره)(٥)، إنتهى.

وفي القاموس: (الضر ضد النفع، وضاره يضاره ضرارا.

ثم قال: والضرر سوء الحال ثم قال: الضرار الضيق)(٦) إنتهى.

إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر.

بمعنى أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد، تلكيفيا كان أو وضعيا.

فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر.

وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك.وكذلك وجوب

____________________

(١) الكافي، ج ٥، ص ٢٩٤.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٧، ص ١٤٦.

(٣) الصحاح، ج ٢، ص ٧١٩.

(٤) النهاية، ج ٣، ص ٨٢.

(٥) المصباح، ج ٢، ص ٤٩٢.

(٦) القاموس، ج ٢، ص ٧٧

١٣٢

الصفحة ٥٣٥

الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير.وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون إستيذان من الانصاري.وكذلك حرمة الترافع عند حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه.ومنه براء‌ة ذمة الضار من تدارك ما أدخله من الضرر.

إذ كما أنه تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث.

إلا أنه قد ينافي هذا قوله (لا ضرار)، بناء على أن معنى الضرار المجازاة على الضرر.

وكذا لو كان بمعنى المضارة التي هي من فعل الاثنين، لان فعل البادي منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاولى فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنما يحصل بفعل الثاني.

وكأن من فسره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى، لا على أنه معنى مستقل.

ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن إضرار النفس أو الغير إبتداء أو مجازاة.

لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف.فالنهي نظير الامر بالوفاء في الشروط والعقود.فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره.وهذا المعنى قريب من الاول، بل راجع إليه.

والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الاول.

ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع المعلومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري، كأدلة لزوم العقود، وسلطنة الناس على أموالهم، ووجوب الوضوء على واجدإ الماء، وحرمة الترافع إلى حكام الجور، وغير ذلك.

وما يظهر من غير واحد من التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة، ثم ترجيح هذه، إما بعمل الاصحاب وإما بالاصول، كالبراء‌ة في مقام التكليف وغيرها في غيره، فهو خلاف ما يقتضيه التدبر في نظائرها، من أدله رفع الحرج، ورفع الخطأ والنسيان، ونفي السهو على كثير السهو، ونفي السبيل على المحسنين، ونفي قدرة العبد على شئ، ونحوها.مع أن وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشئ أو نفيه عنه.

فالاول مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دل على أنه لا صلاة إلا بطهور، فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما

١٣٣

الصفحة ٥٣٦

ثبت من الاحكام للطهارة، في مثل لا صلاة إلا بطهور وغيرها، ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.

والثاني مثل الامثلة المذكورة.

وأما المتعارضان فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الاخر من حيث العموم خصوص، وإنما يفيد حكما منافيا لحكم الاخر.

وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحققهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعين إن كان الاخر أقوى منه.

فهذا الاخر الاقوى قرينة عقلية على المراد من الاخر.وليس في مدلوله اللفظي تعرض لبيان المراد منه.

ومن هنا ملاحظة الترجيح في القرينة، لان قرينيته بحكم العقل بضميمة المرجح.

أما إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الاخر، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجح له بل هو متعين للقرينة بمدلوله له، وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستحصابين، إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يظهر مما ذكرنا من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان نظير أدلة نفي الحرج والاكراه أن مصلحة الحكم الضرري المجعول بالادلة العامة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر، حتى يقال إن الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرر وإن الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ليس بمنفي، بل ليس ضررا.

توضيح الفساد: أن هذه القاعدة تدل على عدم جعل الاحكام الضررية وإختصاص ادلة الاحكام بغير موارد الضرر.

نعم لولا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهم المذكور مجال.

وقد يدفع: بأن العمومات الجاعلة للاحكام إنما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر.

وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده، فإن الامر بالحج والصلاة مثلا يدل على عوض ولو مع عدم الضرر.

ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهم، لانه إن سلم عموم الامر بصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد.

مع أنه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الاجر المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: (أفضل الاعمال أحمزها)(١)، وما اشتهر في الالسن وارتكز في العقول من: (أن الاجر على قدر المشقة)، فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من (الحكومة) و (الورود) في مقام الامتنان.

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكم ٢٤٩: (أفضل الاعمال ما أكرهت نفسك عليه).

١٣٤

الصفحة ٥٣٧

ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا أنه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة.

إلا أن الذي يوهن فيها هي كثيرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي.كما لا يخفى على المتتبع.

خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه، كما تقدم، بل لوبني عى العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.

ومع ذلك فقد إستقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للاحكام وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوي في غاية الاعتبار، بحيث يعلم منهم إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.

ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر، بناء على أن لزوم تخصيص الاكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك.

غاية الامر تردد بين العموم وإرادة ذلك المعنى، وإستدلال العلماء لا يصلح معينا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة إلا أن يقال مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلمت كثرته -: إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل.

وقد تقرر أن تخصيص الاكثر لا إستهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لافراد هي أكثر من الباقي.

كما إذا قيل: (أكرم الناس)، ودل دليل على إعتبار العدالة، خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب.ومن هنا ظهر وجه صحة التمسك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها.

كما في قوله عليه السلام: (المؤمنون عن شروطهم)(١) وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)(٢)، بناء على إرادة العهود، كما في الصحيح.

ثم إنه يشكل الامر من حيث أن ظاهرهم في الضرر المنفي الضرر النوعي لا الشخصي، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون وإن فرض عدم تضرره في خصوص مقام.

كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البائع، لكونه في معرض الاباق أو التلف أو الغصب.

وكما إذا لم يترتب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع.

وبالجملة، فالضرر عندهم في بعض الاحكام حكمة لا يعتبر إطرادها، وفي بعض المقامات يعتبرون إطرادها، مع أن ظاهر الرواية إعتبار الضرر الشخصي، إلا أن يستظهر منها إنتفاء الحكم

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٥، ص ٤٠٤ وسائل الشيعة، ج ٦ ص ٣٢٥.

(٢) المائدة: ١

١٣٥

الصفحة ٥٣٨

رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجب دائما، كما قد يدعى نظير ذلك في أدلة نفي الحرج.

ولو قلنا بأن التسلط على ملك الغير بإخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا، صار الامر أشكل.

إلا أن يقال: إن الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار، فتأمل.

ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرجح يرجع إلى الاصول والقواعد الاخر.

كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للاضرار على الناس، فإنه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج، لا إلزام الشخص تحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج.وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب.

ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: (الناس مسلطون على أموالهم)(١)، ولو عد مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا، لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم التسلط.

ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج، لان منع المالك لدفع الضرر الغير حرج وضيق عليه، إما لحكومته إبتداء على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الاصل.

ولعل هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار: بأن يبني داره مدبغة أو حماما أو بيت القصارة أو الحدادة بل حكي عن الشيخ والحلبي وإبن زهرة دعوى الوفاق عليه.

ولعله أيضا منشأ ما في التذكرة من: (الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح بإخراج روشن أو جناح وبين تصرفه في ملكه) حيث اعتبر في الاول عدم تضرر الجار بخلاف الثاني، فإن المنع من التصرف في المباح لا يعد ضررا بل فوات إنتفاع.

نعم ناقش في ذلك صاحب الكفاية - مع الاعتراف بأنه المعروف بين الاصحاب بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر، قال في الكفاية: (ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا.

كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير، أو جعل حانوته في صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة)(٣)، إنتهى.

واعترض عليه تبعا للرياض بما حاصله: (إنه لا معنى للتأمل بعد إطباق

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٣، ص ٢٠٨.

(٢) تذكرة الفقهاء، ج ٢، ص ١٨٢.

(٣) كفاية الاحكام، ص ٢٤١.

١٣٦

الصفحة ٥٣٩

الاصحاب نقلا وتحصيلا والخبر المعمول عليه بل المتواتر من: (أن الناس مسلطون على أموالهم)، وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الادلة محمولة على ما إذا لم يكن له غرض إلا الاضرار، بل فيها كخبر سمرة إيماء إلى ذلك.

سلمنا، لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور للاصل والاجماع)(١)، إنتهى.

ثم فصل المعترض بين أقسام التصرف بأنه إن قصد به الاضرار من دون ان يترتب عليه جلب نفع أو دفع ضرر، فلا ريب في أنه يمنع.

كما دل عليه خبر سمرة بن جندب، حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله: (إنك رجل مضار) وإذا ترتب عليه نفع أو دفع ضرر وعلى جاره ضرر يسير، فإنه جائز قطعا.وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا يتحمل عادة، فإنه جائز على كراهية شديدة.وعليه بنوا كراهة التولي من قبل الجائز لدفع ضرر يصيبه.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا لا يتحمل عادة لنفع يصيبه، فإنه لا يجوز له ذلك.وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك.وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير والشهيد في اللمعة الضمان إذا أجج نارا بقدر حاجته مع ظنه التعدي إلى الغير.

وأما إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك، فإنه يجوز له دفع ضرره وإن تضرر جاره أو أخوه المسلم.

وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر إلى أن قال والحاصل: أن أخبار الاضرار فيما يعد إضرار معتدا به عرفا، والحال أنه لا ضرر بذلك على المضر، لان الضرر لا يزال بالضرر)(٢)، إنتهى.

أقول: الاوفق بالقواعد تقديم المالك، لان حجر المالك عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج، نعم في الصورة الاولى التي يقصد المالك مجرد الاضرار من غير غرض في التصرف يعتد به لا يعد فواته ضررا.

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل، إما لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما سيجئ، وإما لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر.

فإن تحمل الغير على الضرر ولو يسيرا، لاجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا، حرج وضيق.

ولذا إتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون

١٣٧

الصفحة ٥٤٠

القتل، دفع الضرر عن نفسه، ولو كان أقل من ضرر الغير.هذا كله في تعارض ضرر المالك و ضرر الغير.

وأما في غير ذلك فهل يرجع إبتداء إلى القواعد الاخر أو بعد الترجيح بقلة الضرر؟ وجهان بل قولان.

يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة وبعض موارد الدروس ورجحه غير واحد من المعاصرين.

ويمكن أن ينزل عليه ما عن المشهور، من أنه لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابة، معللا بأن الكسر لمصلحته، فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب، من أن ما يدخل من الضرر على مالك الدابة، إذا حكم عليه بتلف الدابة وأخذ قيمتها، أكثر مما يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته.

وبعبارة أخرى: تلف إحدى العينين وتبدلها بالقيمة أهون من تلف الاخرى.

وحينئذ فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحة صاحب الدابة، بما في المسالك من (أنه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط يكون المصلحة مشتركة بينها).

وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا تخرج إلا بهدمها، معللا بأنه لمصلحة صاحب الدابة.

فإن الغالب أن تدارك المهدوم أهون من تدراك الدابة.

والله العالم.

قد تمت الكتاب بعون الملك الوهاب وباعانة جناب المستطاب ميرزا محمد هادي سلمه الله طالقاني الاصل وطهراني المسكن بيد أقل الطلاب [..] تحريرا في شهر ذي حجة الحرام سنة ١٢٦٧.

[ وقد كتب المصنف، عليه الرحمة، في الهامش: ](بسم الله الرحمن الرحيم) (قد قوبل بنسخة صححها بيده الجانية العبد الاحقر مرتضى الانصاري) [ وفي أدناه نقش خاتمة الشريف: ] (لا إله إلا الله الملك الحق المبين، عبده مرتضى الانصاري)

١٣٨

الصفحة ٥٤١

المقام الثاني في الاستصحاب وهو، لغة، أخذ الشئ مصاحبا.

ومنه: إستصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

وعند الاصوليين عرف بتعاريف، أسدها وأخضرها: (إبقاء ما كان).

والمراد بالابقاء الحكم بالبقاء.ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم.

فعلة الابقاء هو أنه كان، فيخرج إبقاء الحكم لاجل وجود علته او دليله.

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في الزبدة ب‍ (أنه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الاول)(١).

بل نسبه شارح الدروس إلى القوم، فقال: (إن القوم ذكروا أن الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه)(٢).

وأزيف التعاريف تعريفه ب‍ (أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق)(٣).

إذ لا يخفى أن كون حكم أو وصف كذلك هو محقق مورد الاستصحاب ومحله، لا نفسه.

ولذا صرح في المعالم كما عن غاية المأمول ب‍ (أن أستصحاب الحال، محله أن يثبت حكم في وقت ثم يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على إنتفاء ذلك الحكم، فهل يحكم ببقائه على ما كان، وهو الاستصحاب)(٤)، إنتهى.

ويمكن توجيه التعريف المذكور: بأن المحدود هو الاستصحاب المعدود من الادلة.

وليس الدليل إلا ما أفاد العلم أو الظن بالحكم، والمفيد للظن الحكم في الان اللاحق ليس إلا

____________________

(١) زبدة الاصول، ص ٧٢.

(٢) مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٧٦.

(٣) القوانين المحكمة، ص ٢٧٥.

(٤) معالم الدين، ص ٢٣١

١٣٩

الصفحة ٥٤٢

كونه يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان ا للاحق، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الامارات إلا بما ذكره، قدس سره.

لكن فيه: أن الاستصحاب كما صرح به هو، قدس سره، في أول كتابه -: (إن أخد من العقل كان داخلا في الدليل العقلي، وإن أخذ من الاخبار فيدخل في السنة)(١).

وعلى كل تقدير فلا يستقيم تعريفه بما ذكره، لان دليل العقل هو حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي.

وليس هنا إلا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان.

والمأخوذ من السنة ليس إلا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، فكون الشئ معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين.

نعم ذكر المختصر: (أن معنى إستصحاب الحال أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء)(٢).

فإن كان الحد هو خصوص الصغرى على التعريف المذكور، وإن جعل خصوص الكبرى إنطبق على تعاريف المشهور.

وكأن صاحب الوافية إستظهر منه كون التعريف مجموع المقدمتين، فوافقه في ذلك، فقال: (إن الاستصحاب هو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال، فيقال: إن الامر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه، وكل ما كان كذلك فهو باق)(٣)، إنتهى.ولا ثمرة مهمة في ذلك.

____________________

(١) القوانين المحكمة، ج ٢ ص ١٣.

(٢) شرح مختصر الاصول، ج ٢، ص ٢٨٤.

(٣) الوافية، ص مخطوط

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149