المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى42%

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137

  • البداية
  • السابق
  • 137 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72204 / تحميل: 6911
الحجم الحجم الحجم
المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

مؤلف:
العربية

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

للدعاء شروط ...

منها : أن يبتدئ الداعي بتمجيد الله وذكره باسمائه الحسنى.

فالدعاء يرتبط بالاسماء الحسنى من جهتين :

١ ـ معرفة عدد الاسماء الحسنى لله تعالى.

٢ ـ معرفة معنى الاسماء الحسنى لله تعالى.

وهذا الكتاب : المقام الاسنى في تفسير الاسماء الحسنى الّذي نقدّمه إلى قرّائنا الأعزّاء يتكفّل ببيان هاتين الجهتين.

وهو من تأليف شيخ العرفاء ـ الذي سلك في عرفانه منهج أهل البيتعليهم‌السلام ـ العالم الخبير ابراهيم بن علي الكفعمي ، تغمّده الله برحمته.

وقد طبع الكتاب ولأوّل مرّة في نشرة تراثنا العدد (٢٠) سنة ١٤١٠ ه‍ بتحقيق الشيخ فارس الحسون.

ولأهميّة الكتاب وسهولة عبارته وحسن ترتيبه ارتأت مؤسسة قائم آل محمّد عجّل الله فرجه الشريف إعادة طبعه مع إضافة الفهارس إليه.

مؤسسة قائم آل محمّد (عج)

٣

٤

ب سم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين ، واللعن على اعدائهم أجمعين.

وبعد ، غير خفيّ على اُولي الألباب : أنّ الدعاء هو الرابط الروحي بين العبد والمولى ، وأنّه من أحبّ الأعمال إلى الله ، لأنّه مخّ العبادة وسلاح المؤمن ، ومفاتيح الجنان ، ومقاليد الفلاح ، وشفاء من كلّ داء ، وهو يردّ ما قدّر وما لم يقدّر حتّى لا يكون.

وتبلغ أهمّية الدعاء درجة بحيث يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بالدعاء ويضمن لهم الإجابة ، ويجعل الّذين لا يدعونه من المستكبرين فيدخلون جهنّم داخرين.

ولكن أيّ دعاء هذا بحيث يتّصف بهذه الصفات ؟ وأيّ دعاء هذا بحيث يأمر المولى به ويضمن الإجابة عليه ؟

نعم هو الدعاء الخارج من قلبٍ مملوءٍ حبّاً للمولى ، من قلبٍ مجروحٍ ، من قلبٍ عاشقٍ ، من قلبٍ طاهرٍ ...

هو الدعاء الذي تسبقه العبرة والدمعة الدالّة على الاشتياق إلى لقاء المحبوب ...

٥

هو الدعاء الذي يرقّ قلب داعيه ويقشعرّ جلده ...

هو الدعاء في جنح الليل المظلم ، إذا نامت العيون وهدأت الأصوات وسكنت القلوب ...

هو الدعاء الذي يسبقه الإقرار بالذنب ...

هو الدعاء الذي يكون داعيه كأنّه يرى نفسّه واقفة بين يدي المولى ...

هو الدعاء الذي يسبقه الثناء على الله والمدح والتمجيد له ، والصلاة على النبي وآله ، فالدعاء محجوب حتى يُصلّى على محمد وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

فيثني الداعي على الله قبل الدعاء ويمدحه ويمجّده بذكر اسمائه الحسنى التي نَعَتَ بها نفسه ، أو نَعَتَه بها أولياؤه وخلفاؤه وحججه ، فاسماء الله سبحانه توقيفية ، والعبد لا يستطيع أن يتجرّأ على المولى ويسمّيه باسمٍ ما أو يصفه بصفةٍ ما ، ولولا رخصة الله تعالى لعباده بالدعاء ، بل أمرُه إيّاهم به ، لما استطاع أحد من العباد أن يتجرّأ على المولى ويقف بين يديه ويعبده ويطلب منه حاجته لكن وسعت رحمته كل شيء.

وعلى كل حال فالثناء والمدح بذكر اسمائه الحسنى إذا كان خارجاً من قلب عارف عالم بها واقف على معانيها أفضل بكثير من غيره ، إذ المعرفة بها والوقوف على معانيها تهيّئ للعبد شرائط الدعاء وتجلب الدمعة وترقّ القلب.

وهذه الرسالة التي نحن بصددها ، تتكفّل ببيان هذا الأمر وتوضيحه ، اُقدّمها إلى القرّاء الكرام ، راجياً منهم أن لا ينسوني من صالح الدعوات.

المؤلف :

الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح بن إسماعيل الكفعمي مولداً ، اللويزي محتداً ، الجبعي أباً(١) .

__________________

(١) فالكفعمي : نسبة إلى « كفر عيما » ، قرية من ناحية الشقيف في جبل عامل قرب جبشيت ، واقعة في سفح الجبل مشرفة على البحر ، واللويزي : نسبة إلى اللويزة ، قرية في جبل عامل ، ويقال : اللويزاوي

٦

أحد أعيان القرن التاسع الجامعين بين العلم والأدب ، والكمال والعرفان ، والزهد والعبادة. ويُحكى في كثرة عبادته : أنّه كان يقوم بجميع العبادات المذكورة في مصباحه ، وتقوم زوجته بما لا يتّسع له وقته منها.

مشايخ إجازته الّذين يروي عنهم :

يروي الشيخ الكفعمي عن :

والده الشيخ زين الدين علي بن الحسن ، وكان من أعاظم الفقهاء والورعين ، وقد ينقل عنه في كتابيه الكبيرين ، معبّراً عنه : بالفقيه الأعظم الأورع.

أخيه الشيخ شمس الدين محمد ، صاحب كتاب « زبدة البيان في عمل شهر رمضان ».

السيد الشريف الفاضل حسين بن مساعد الحسيني الحائري ، صاحب كتاب « تحفة الأبرار في مناقب الأئمّة الأطهار ».

الشيخ زين الدين البياضي ، صاحب كتاب « الصراط المستقيم ».

السيد الحسيب علي بن عبد الحسين الموسوي الحسيني ، صاحب كتاب « رفع الملامة عن علي في ترك الإمامة » وكان بينهما مكاتبات ومراسلات بالنظم والنثر.

أقوال العلماء في حقّه :

المحدّث الحرّ العاملي : كان ثقة فاضلاً شاعراً عابداً زاهداً ورعاً [ أمل الآمل ١ / ٢٨ ].

العلاّمة المجلسي : من مشاهير الفضلاء والمحدّثين والصلحاء المتورّعين [ أعيان الشيعة ٢ / ١٨٥ نقلاً عن « تكملة الرجال » لعبد النبي الكاظمي حيث ذكر أنّه نقله عن خطّ الشيخ المجلسي ].

__________________

أيضاً من باب زيادات النسب ، والجبعي نسبة إلى جبع ، ويقال : جباع ـ بالمد ـ وهي قرية على رأس جبل عامل ، ويقال أيضاً : الجباعي من باب زيادات النسب.

٧

العلاّمة المجلسي : وكتبُ الكفعمي أغنانا اشتهارها وفضل مؤلفها عن التعرّض لحالها وحاله [ البحار ١ / ٣٤ ].

المولى عبدالله الأفندي : العالم الفاضل الكامل الفقيه المعروف بالكفعمي ، من أجلّة علماء الأصحاب له يد طولى في أنواع العلوم سيما العربية والأدب ، جامع حافل كثير التتبّع في الكتب [ رياض العلماء ١ / ٢١ ].

العلاّمة الخوانساري : الشيخ العالم الباذل الورع الأمين والثقة النقة الأديب الماهر المتقن المتين [ روضات الجنّات ١ / ٢٠ ].

القمي : كان ثقة فاضلاً أديباً شاعراً زاهداً عابداً ورعاً [ الكنى والألقاب ٣ / ٩٥ ].

العلاّمة المامقاني : من مشاهير الفضلاء والمحدّثين والصلحاء والمتورّعين ، وكان بين زماني الشهيدين ـ رحمهما الله ـ ، ووصفه في فهرست الوسائل بالورع ، وعدالته لا تكاد تحتاج إلى بيان [ تنقيح المقال : ١ / ٢٧ ].

السيد الأمين : وكان واسع الاطّلاع طويل الباع في الأدب ، سريع البديهة في الشعر والنثر كما يظهر من مصنّفاته خصوصاً من شرح بديعيته ، حسن الحظّ [ أعيان الشيعة ٢ / ١٨٥ ].

السيد الصدر : هو العالم الكامل المعروف بالكفعمي [ تكملة الأمل : ٧٦ ].

العلاّمة الأميني : أحد أعيان القرن التاسع الجامعين بين العلم والأدب ، الناشرين لألوية الحديث والمستخرجين كنوز الفوائد والنوادر وقد استفاد الناس بمؤلفاته الجمّة وأحاديثه المخرجة وفضله الكثير ، كل ذلك مشفوع منه بورع موصوف وتقوى في ذات الله إلى ملكات فاضلة ونفسيّات كريمة ، حلّى جِيد زمنه بقلائدها الذهبية وزيّن معصمه بأسورتها وجلّل هيكله بأبرادها القشيبة ، وقبل ذلك كلّه نسبه الزاهي بأنوار الولاية المنتهي إلى التابعي العظيم الحارث بن عبدالله الأعور الهمداني ، ذلك العلوي المذهب العليّ شأنه الجليّ برهانه الذي هو من فقهاء الشيعة [ الغدير ١١ / ٢١٣ ].

٨

المقري : وما رأيت مثله في سعة الحفظ [ أعيان الشيعة ٢ / ١٨٥ نقلاً عن نفح الطيب ٤ / ٣٩٧ ].

الزركلي : أديب من فضلاء الإمامية له نظم ونثر [ الأعلام ١ / ٥٣ ].

كحّالة : مفسّر محدِّث فقيه أديب وشاعر [ معجم المؤلفين ١ / ٦٥ ].

مولده ووفاته :

لم يذكر أحد ممّن ترجم الشيخ الكفعمي من الأوائل تاريخ ولادته ووفاته ، على عادة أصحابنا في التهاون بتاريخ المولد والوفاة ومعرفة الطبقات بل مطلق التاريخ ، مع حافظة غيرهم على ذلك ، مع ما فيه من الفوائد.

وما حدّده بعض العلماء من تاريخ ولادته ووفاته استناداً إلى بعض القرائن، فهو إلى الحدس أقرب منه إلى الحسّ.

بل ما ذكره السيد الأمين في الأعيان ٢ / ١٨٤ من أنّه : ولد سنة ٨٤٠ كما استفيد من اُرجوزة له في علم البديع ذكر فيها أنّه نظمها في سنّ الثلاثين ، وكان الفراغ من الاُرجوزة سنة ٨٧٠ فهو بعيد عن الصواب جدّاً ، لأنّ السيد الأمين نفسه قال في الأعيان ٢ / ١٨٥ : وجد بخطّه ـ أي الكفعمي ـ كتاب دروس الشهيدقدس‌سره فرغ من كتابته سنة ٨٥٠ وعليه قراءته وبعض الحواشي الدالّة على فضله. وعدّ في ص ١٨٦ من تآليفه كتاب حياة الأرواح ، وقال : فرغ من تأليفه سنة ٨٤٣.

قال السيد حسن الصدر في تكملة الأمل ص ٨١ : وفرغ من نسخ كتاب الدروس للشهيد ـ وهو عندي بخطّه وعليه قراءته وبعض حواشيه ـ ٨٥٠ ، ولا أظنّه ينقص عن الثلاثين عند فراغه من الدروس ، فيكون يوم فراغه من المصباح في حدود ٧٥.

وقال المولى الأفندي في الرياض ١ / ٢٢ : وله مجموعة كثيرة الفوائد مشتملة على مؤلفات عديدة رأيتها بخطّه في بلدة إيروان من بلاد آذربايجان ، وكان تاريخ إتمام

٩

كتابة بعضها سنة ٨٤٨ لخمس بقين من شهر رمضان ، وتاريخ بعضها سنة ٨٤٩ ، وتاريخ بعضها ٨٥٢.

وعلى قول السيد الأمين يكون الشيخ الكفعمي عند فراغه من تأليف المصباح ابن ٥٥ سنة ، مع أنّا نراه في قصيدته الرائية في مدح الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام المذكورة في المصباح : ٧١٠ ، يقول :

بحقّك مولايَ فاشفع لِمَن

أَتاكَ بمدح شفاء الصدورِ

هو الجبعي المسيء الفقيرُ

إلى رحماتِ الرحيمِ الغفور

من الحسناتِ خلا قدحُهُ

فما من فتيلٍ ولا من نقيرِ

خطاياهُ تحكي رمالَ الفلاة

ووزن اللكامِ واُحد وثَورِ

وشيخ كبير له لمّةٌ

كساها التعمرُ ثوب القتير

فجموع ما ذكرناه يعطينا خبراً أنّ المترجم له كان في سنة ٨٤٣ مؤلفاً صاحب رأي ونظر ، يثني على تآليفه الأساتذة الفطاحل ، وأنّه حينما ألّف المصباح سنة ٨٩٤ كان شيخاً هرماً كبيراً.

وما استظهره العلاّمة الطهراني من القرائن في الذريعة ٣ / ٧٣ و١٤٣ من أنّه ولد سنة ٨٢٨ ، فلا يخلو من بعد.

وذكر الحاج خليفة في كشف الظنون ٢ / ١٩٨٢ أنّه توفي سنة ٩٠٥ ، وكذا ذكره العلاّمة الطهراني في الذريعة ٧ / ١١٥ و ٣ / ٧٣ و ١٤٣ تبعاً لصاحب كشف الظنون. وفي الأعيان ٢ / ١٨٤ : وفي الطليعة أنّه توفّي في سنة ٩٠٠.

وعلى كل حال فالقدر المتيقّن أنّه ولد أوائل القرن التاسع في قرية كفر عيما ، وكان عصره متّصلاً بزمن خروج الشاه إسماعيل الصفوي.

وأقام الشيخ الكفعمي مدّة في كربلاء المقدّسة ، وعمل لنفسه في كربلاء أزجاً لدفنه بأرض الحسينعليه‌السلام تسمّى « عقيراً » فأنشد وهو وصية منه إلى أهله وإخوانه في ذلك :

١٠

سألتكم بالله أن تدفنوني

إذا متّ في قبرٍ بأرض عقيرِ

فإنّي به جار الشهيد بكربلا

سليل رسول الله خير مجيرِ

فإنّي به في حفرتي غير خائف

بلا مرية من منكر ونَكيرِ

أمنت به في موقفي وقيامتي

إذا الناس خافوا من لظى وسعيرِ

فإنّي رأيتُ العرب يحمي نزيلها

ويمنعه من أن ينال بضيرِ

فكيف بسبطِ المصطفى أن يذودَ

مَن بحائره ثاوٍ بغير نصيرِ

ثم عاد إلى جبل عامل وتوفي بها ، ووفاته إمّا في آخر القرن التاسع أو أوائل القرن العاشر ، والله أعلم. ودفن في قرية جبشيت ، من قرى جبل عامل ، ثم خربت القرية فنزح أهلها منها وأصبحت محرثاً ، فلمّا خربت اختفى قبره بما تراكم عليه من التراب ، ولم يزل مستوراً بالتراب إلى ما بعد المائة الحادية عشر لا يعرفه أحد ، فظهر عند حرث تلك الأرض وعرف بما كتب عليه ، وهو : هذا قبر الشيخ إبراهيم بن علي الكفعميرحمه‌الله .

قال المولى الأفندي في الرياض ١ / ٢٢ : وحكى لي بعض أفاضل الثقات من سادات جبل عامل ـ متّعنا الله بدوام عمره وإفضاله ـ عن بعض ثقات أهل تلك النواحي من عجيب ما اتّفق فيهم قريباً من هذه الأعصار : أنّ حرّاثاً منهم كان يكرب الأرض بثوره ، فاتّفق أن اتّصل رأس جارّته حين الكراب بصخرة عظيمة اقتلعها من الأرض ، فإذا هو من تحتها بجمثان مكفون قد رفع رأسه من التراب كالمتحيّر الفَرِق المستوحش ، ينظر مرّة عن يمينه واُخرى عن شماله ويسأل من كان عنده : هل قامت القيامة ؟ ثمّ سقط على وجهه في موضعه ! فاُغمي على الراعي من عظم الواقعة ، فلمّا أفاق من غشيته وجعل يبحث عن حقيقة الأمر رأى مكتوباً على وجه تلك الصخرة صفة صاحب العنوان : هذا [ قبر ] إبراهيم بن علي الكفعميرحمه‌الله .

وقال السيد حسن الصدر في تكملة الأمل ص ٧٦ : وحدّثني بعض الأجلّة الثقات أنّ قبره كان مخفيّاً وظفر به في المائة الحادية عشر ، وله حكاية غريبة

١١

مشهورة ، وأيضاً قد روى هذه الحكاية سيّدنا آية الله العلاّمة صدر الدين العاملي عن بعض الثقات من أهل البلاد.

وقال السيد الأمين في الأعيان ٢ / ١٨٤ : وبعض الناس يروي لظهوره حديثاً لا يصحّ ، وهو : أنّ رجلاً كان يحرث فعلقت جارّته بصخرة فانقلعت فظهر من تحتها الكفعمي بكفنه غضّاً طريّاً فرفع رأسه من القبر كالمدهوش والتفت يميناً وشمالاً ، وقال : هل قامت القيامة ؟ ثمّ سقط فاُغمي على الحارث ، فلمّا أفاق أخبر أهل القرية فوجدوه قبرَ الكفعمي وعمّروه ، وقد سرى تصديق هذه القصة إلى بعض مشاهير علماء العراق ، والحقيقة ما ذكرناه ، ويمكن أن يكون الحارث الذي عثر على القبر زاد هذه الزيادة من نفسه فصدّقوه عليها. إنتهى.

وحكمه هذا ـ أي : عدم صحّة الواقعة ، وإمكان أن يكون الحارث زاد هذه الزيادة من نفسه ـ في غير محلّه ، إذ لا استبعاد من وقوع مثل هذه الواقعة ، بالأخصّ من الشيخ الكفعمي شيخ العارفين ، فهل يستبعد العقل أن يجعل الله هذه الكرامة للشيخ الكفعمي ليبيّن فضله للناس ؟ وما حاجة الحارث إلى اختلاق هذه القصة !

آثاره :

قال المولى الأفندي في الرياض ١ / ٢١ : ثمّ له ـ عفى الله عنه ـ يد طولى في أنواع العلوم سيما العربية والأدب ، جامع حافل ، كثير التتبّع في الكتب ، وكان عنده كتب كثيرة جدّا ، وأكثرها من الكتب الغريبة اللطيفة المعتبرة ، وسماعي أنّهقدس‌سره ورد المشهد الغرويّ وأقام به وطالع في كتب خزانة الحضرة الغروية ، ومن تلك الكتب ألّف كتبه الكثيرة في أنواع العلوم المشتملة على غرائب الأخبار ، وبذلك صرّح في بعض مجاميعه التي رأيتها بخطّه. إنتهى.

فمن مؤلفاته القيّمة :

(١) البلد الأمين والدرع الحصين ، كتاب كبير ، أكبر من المصباح ، ألّفه

١٢

قبله ، ينقل منه العلاّمة المجلسي في البحار ، وضمّنه مضافاً إلى الأدعية والعوذ والأحراز والزيارات والسنن والآداب وغيرها أدعية الصحيفة السجّادية ، وألحق به عدّة رسائل منها : محاسبة النفس ، والمقام الأسنى.

(٢) تاريخ وفيات العلماء.

(٣) تعليقات على كشف الغمّة.

(٤) التلخيص في مسائل العويص ، والمسائل العويص للشيخ المفيد.

(٥) الجُنّة الواقية والجَنّة الباقية ، المعروف بمصباح الكفعمي لسبقه بمصباح المتهجّد وعلى منواله نسج الكفعمي ، وهو كبير كثير الفوائد ، وعليه حواش لطيفة للمصنّف يشرح بها ما أجمله من البين ، وضمّنه عدّة رسائل منها المقام الأسنى ، فرغ منه سنة ٨٩٥ ه‍.

(٦) الجُنّة الواقية ، وهو مختصر للمصباح لطيف ، وتردّد الشيخ المجلسي في نسبة الكتاب للكفعمي ، فقال في البحار ١ / ١٧ : وكتاب الجُنّة الواقية لبعض المتأخّرين ، وربّما ينسب إلى الكفعمي ، وكذا تأمّل المولى الأفندي في الرياض ١ / ٢٣ في نسبة الكتاب للكفعمي.

(٧) حجلة العروس.

(٨) حديقة أنوار الجِنان الفاخرة وحدقة أنوار الجَنان الناظرة.

(٩) الحديقة الناضرة.

(١٠) حياة الأرواح ومشكاة المصباح ، مجموع لطيف لا يملّ أحد من دوام مطالعته ، فهو بالحقيقة حياة الأرواح ، مشتمل على ٧٨ باباً في اللطائف والأخبار والآثار والآداب والمواعظ والأوامر والنواهي ، فرغ من تأليفه سنة ٨٤٣ وقيل ٨٥٤.

(١١) الرسالة الواضحة في شرح سورة الفاتحة.

(١٢) زهر الربيع في شواهد البديع.

(١٣) صفوة ـ صفو ـ الصفات في شرح دعاء السمات ، ذكر فيه سند هذا

١٣

الدعاء وروايته وفضله ، ثمّ ذكر جملة من ألفاظ الدعاء ثم شرحها ، فرغ منه سنة ٨٧٥ ، وذكر السيد الأمين اسم الكتاب : سفط الصفات ، واستظهر أنّ صفوة الصفات تصحيف.

(١٤) العين المبصرة.

(١٥) فرج الكرب وفرح القلب ، في علم الأدب بأقسامه يقرب من عشرين ألف بيت ـ والبيت : السطر المحتوي خمسين حرفاً ـ وذكر العلاّمة الطهراني في الذريعة ١٤ / ٣١ أنّ كتاب فرج الكرب هو شرح البديعية في مدح خير البريّة لصفيّ الدين الحلي المتوفى سنة ٧٥٠.

(١٦) الفوائد الطريفة ـ الشريفة ـ في شرح الصحيفة.

(١٧) قراضة النضير في التفسير ، ملخّص من مجمع البيان للطبرسي.

(١٨) الكوكب الدُرّيّ ، وقيل : الكواكب الدُرّية.

(١٩) اللفظ الوجيز في قراءة الكتاب العزيز.

(٢٠) لمع البرق في معرفة الفرق ، وهو نفس فروق اللغة ، كتاب جليل في موضوعه يدلّ على تبحّر مصنّفه في علم اللغة.

(٢١) مجموع الغرائب وموضوع الرغائب ، على نمط الكشكول ، قال في آخره : جمعته من كتابنا الكبير الذي ليس له نظير ، جمعته من ألف مصنّف ومؤلّف.

(٢٢) محاسبة النفس اللوّامة وتنبيه الروح النوّامة ، مشتمل على مواعظ حسنة ومخاطبة النفس بعبارات مؤثّرة ، ألحقه المصنّف بالبلد الأمين مختصراً ، وطبع هذا المختصر مستقلاًّ ، وقمت منذ زمن بتحقيق كامله معتمداً على أربع نسخ ، وسيطبع عن قريب إن شاء الله تعالى.

(٢٣) مشكاة الأنوار ، وهو غير مشكاة الأنوار لسبط الشيخ الطبرسي.

(٢٤) المقام الأسنى في تفسير الاسماء الحسنى ، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.

١٤

(٢٥) ملحقات الدروع الواقية.

(٢٦) المنتقى في العوذ والرقى.

(٢٧) النخبة.

(٢٨) نهاية الأرب ـ الأدب ـ في أمثال العرب ، كبير في مجلّدين لم ير مثله في معناه.

(٢٩) نور حدقة البديع ونور حديقة الربيع ، في شرح بديعيته.

قال المولى الأفندي في الرياض ١ / ٢٢ : وله مجموعة كبيرة كثيرة الفؤائد مشتملة على مؤلفات عديدة ، رأيتها بخطّه في بلدة إيروان من بلاد آذربايجان ، وكان تاريخ إتمام كتابة بعضها سنة ٨٤٨ لخمس بقين من شهر رمضان ، وتاريخ بعضها سنة ٨٤٩ ، وتاريخ بعضها سنة ٨٥٢ ، وكان فيها عدّة كتب من مؤلفاته أيضاً ، منها :

كتاب اختصار الغريبين ، للهروي.

وكتاب اختصار مغرب اللغة ، للمطرزي.

واختصار كتاب غريب القرآن ، لمحمد بن عزيز السجستاني.

وكتاب اختصار جوامع الجامع ، للشيخ الطبرسي.

واختصار كتاب تفسير علي بن إبراهيم.

واختصار زبدة البيان مختصر مجمع البيان للطبرسي ، للشيخ زين الدين البياضي.

واختصار علل الشرائع ، للصدوق.

واختصار القواعد الشهيدية.

واختصار كتاب المجازات النبوية ، للسيد الرضي.

واختصار كتاب الحدود والحقائق في تفسير الألفاظ المتداولة في الشرع وتعريفها ...

ثم من مؤلفاته أيضاً : كتاب مختصر نزهة الألبّاء في طبقات الاُدباء ، تأليف

١٥

كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن سعيد الأنباري.

وله أيضاً : اختصار كتاب لسان الحاضر والنديم. إنتهى.

وله أيضاً شعر كثير وقصائد طوال وأراجيز جيدة وخطب مسجعة.

فله القصيدة البديعة الميمية المشتملة على أنواع المحسّنات الشعرية المذكورة في علم البديع اللفظية منها والمعنوية ، وقد شرحها شرحاً يظهر منه كماله في الأدب ، وختمها بخطبة غرّاء في مدح سيّد البريةصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وله قصيدة في مدح أمير المؤمنينعليه‌السلام تبلغ ١٩٠ بيتاً أنشدها عند قبره الشريف لمّا زاره يذكر فيها يوم الغدير.

وله اُرجوزة في ١٣٠ بيتاً في الأيام المستحبّ صومها.

وله اُرجوزة ألفية في مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه بأسمائهم وأشعارهم.

قال في كتاب فرج الكرب وفرح القلب : لم يصنّف مثلها في معناها ، مأخوذة من كتب متعدّدة ومظانّ متبدّدة.

حول الرسالة :

وقع اختلاف في اسم هذه الرسالة بين الأعلام ، فبعض ذكرها باسم : المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى ، وبعض ذكرها باسم : المقام الأسنى في شرح الأسماء الحسنى ، والصحيح هو ما ذكرناه في عنوان الرسالة ، وهو : المقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى ، كما هو الموجود في نسختنا الخطّية المعتمدة المنقولة من نسخة منقولة من نسخة خطّ المصنّف.

وهذه الرسالة ألفّها الشيخ الكفعمي ـ نوّر الله ضريحه ـ ثم ألحقها بكتابيه البلد الأمين والمصباح ، ولم أجد نسخة الرسالة التي ألّفها مستقلاً بعد البحث عنها ، فاعتمدت على الرسالة التي ألحقها بالبلد الأمين والمصباح ، ولا أعلم هل ألحق الرسالة بأكملها في كتابيه أم بعضها ؟ وعلى كل حال فخطبة الرسالة غير

١٦

موجودة في النسخ المعتمدة.

وإنمّا اخترت هذه الرسالة في شرح الأسماء الحسنى دون غيرها ، للطافتها وسلاسة عبارتها ، فهي شرح قرآني حديثيّ عرفاني لغويّ أدبيّ ، وفيها من المباحث اللطيفة التي لا يستغنى عنها ، فنفعها يعمّ الجميع.

عملنا في الرسالة :

بما أنّنا لم نحصل على نسخة مستقلّة لهذه الرسالة ، والمصنّف ألحقها بالبلد الأمين والمصباح ، فاعتمدت في ضبط الرسالة على عدّة نسخ ملحقة بالبلد الأمين والمصباح ، وهي :

(١) النسخة الرضوية للبلد الأمين تحت رقم ٦٩٥٢ ، جاء في آخرها : آخر ما كتبت من الكتاب المترجم بالبلد الأمين والدرع الحصين من نسخة نسخ من خطّ مصنّفه ـ قدّس الله روحه ـ ، وكتب في أواسط شهر رجب الأصبّ من السنة التسعين بعد الألف في دار العلم شيراز ـ صانها الله عن الاعواز ـ في المدرسة النظامية ـ رحم الله بانيها ـ ، وأنا العبد المستوثق بعفو ربّه الجلي ابن أحمد بن علي حسن علي ...

وجاء في جانب الصفحة : وقد وفّقني الله بعد كتابته للمقابلة من أول الصفحة إلى آخره بقدر الاقتدار مع نسخة نسخ من خطّ مصنّفه ـ رحمه الله تعالى ـ ، وكان ذلك في غرّة شهر جمادى الآخرة من سنة تسعين بعد الألف ثمّ وفّقني سبحانه لمقابلته من أوله إلى حيث قابلته أولاً مبذولاً فيه وسعي وسعيي مع النسخة الشريفة المشار إليها إنتهى.

وفي هذه النسخة حواش للمصنّف نفسه أدرجتُها بأكملها في الهامش ، وجعلت حرف (ر) رمزاً لهذه النسخة.

(٢) النسخة الحجرية المطبوعة للبلد الأمين ، تاريخ طباعتها سنة ١٣٨٢ ، وجعلت حرف (ب) رمزاً لها.

١٧

(٣) النسخة الحجرية المطبوعة للمصباح ، تاريخ طباعتها ١٣٢١ ، وجعلت حرف (م) رمزاً لها.

فقابلت الرسالة على هذه النسخ الثلاث ، وأثبتّ ما هو الأرجح في المتن مع الإشارة إلى الاختلافات التي لها وجه.

ثم خرجّت الآيات والأحاديث والأقوال الواردة في هذه الرسالة من مصادرها ، وجعلت لكل واحد من الأعلام المذكورين في هذه الرسالة ترجمة صغيرة.

وفي الختام اُقدّم جزيل شكري إلى المكتبة الرضوية في مشهد الإمام الرضاعليه‌السلام بالأخص قسم المخطوطات وغرفة المحقّقين ، لإتاحتهم الفرصة لي لمقابلة الرسالة مع المخطوطة ، وتوفير المصادر التي احتجتها في تحقيق هذه الرسالة.

وكذا أتقدم بجزيل الشكر والتقدير إلى الاُستاذ الشيخ أسد مولوي الذي أتحفني بملاحظاته القيّمة.

سائلاً المولى الجليل أن يوفّق كلّ العاملين لخدمة هذا المذهب المظلوم.

فارس الحسّون

١٥ جمادى الثانية ١٤٠٨

حرم أهل البيت ـ قم

١٨

مصادر الترجمة

الأعلام ، للزركلي

بيروت / دار العلم للملايين

أعيان الشيعة ، للسيد الأمين

بيروت / دار التعارف للمطبوعات

أمل الآمل ، للحرّ العاملي

قم / دار الكتاب الإسلامي

إيضاح المكنون ، للبغداي

بيروت / دار الفكر

بحار الأنوار ، للمجلسي

طهران / دار الكتب الإسلامية

تكملة أمل الآمل، للسيد الصدر

قم / مكتبة آية الله المرعشي العامة

تنقيح المقال ، للمامقاني

النجف / المطبعة المرتضوية

الذريعة ، للعلاّمة الطهراني

بيروت / دار الأضواء

روضات الجنّات ، للخوانساري

قم / مكتبة إسماعيليان

رياض العلماء ، للأفندي

قم / مكتبة آية الله المرعشي العامة

الغدير، للعلاّمة الأميني

بيروت / دار الكتاب العربي

الكافي ، للكليني

طهران / دار الكتب الإسلامية

كشف الظنون ، للحاج خليفة

بيروت / دار الفكر

الكنى والألقاب ، للقمي

قم / مكتبة بيدار

المصباح ، للكفعمي

قم / مكتبة إسماعيليان

معجم المؤلفين ، لعمر رضا كحّالة

بيروت / دار إحياء التراث العربي

١٩

٢٠

لاحظنا طبيعة القوم في أول الدعوة ، والظروف المحيطة بالمنطقة العربية مما كان يستدعي هذا الحث ، وهذا التأكيد.

لقد أطل الاسلام بنوره على الجزيرة العربية والقوم غارقون في ظلمات تقاليدهم الموحشة من الغزو ، والنهب ، وتقديم القوي على الضعيف ليكون هذا طعمة سائغة له فيرزح تحت الضغط الذي يواجهه من الطبقة المتجاوزة.

المنطقة المتكالبة لا عمل لها سوى الغزو ، والنهب والحروب المستعرة تجرها النعرات القبلية لتعيش على أسمال الغنيمة المغتصبة ولذلك كان الضعيف طعمة للقوي فكيف باليتيم ، والذي يأتي في الرعيل الاول من مسيرة الضعفاء والبائسين.

مجتمع قاسٍ لا يرى كرامة الانسان مهما كانت شخصيته ما دام لا يتمكن من حفظ نفسه أمام تيارات القوة والتعدي.

مجتمع يضفي على نفسه شكل مرير من التقوقع القبلي فتتخذ كل قبيلة لها شاعراً يمجد بها ، ويصوغ من غزوها ، ونهبها درراً يشب الصغير على ترتيلها ليكبر ، وتكبر معه روح التجاوز والانتقام.

في هذا الجو المليء بالشجون ، والمآسي يقبع اليتيم يندب حظه العاثر ليخضع لتجاوز الاولياء ، والاقوياء فلم يجد له من يمد له العون ليحفظ له حقوقه ، ويراعي شؤونه ، وقد بقي وحيداً في معركة الحياة ولكن الاسلام :

دين العدل ، والمساواة ، ومبدأ الرحمة ، والعطف جاء ليأخذ بيد الضعفاء فيرفع بهم إلى المستوى الذي يجدون فيه حقوقهم كاملة غير منقوصة مهما كلف الثمن فالقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق ، والضعيف في نظره قوي حتى يأخذ له حقه.

٢١

بهذا المنطق القويم جاء الاسلام ليحل بين ظهراني تلك القبائل المتمردة على العرف الانساني لذلك لا نجد غرابة لو كانت حصة اليتيم وافرة في مقام التشريع فيلقى الاهمية البالغة من جانبه سواءاً في الكتاب المجيد ، أو في السنة على لسان أمناء الوحي النبي الاكرم ، وأهل بيته ومن تبعه على حق.

اليتيم والتقييم التشريعي :

تناولت الموسوعة التشريعية تقييم اليتيم من الجهتين : الاجتماعية والمالية.

فشرعت له في هذين المجالين ما يحقق رعايته كفرد فقد كفيله ، فأصبح إلى من يبادله العطف ، والحنان ، والتربية الصالحة ليكون فرداً صالحاً لا تؤثر على نفسيته حياة اليتيم ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافاً يسقطه عن المستوى الذي يتحلى به بقية الافراد ممن يتنعم بحنان الابوة ، وعطفها.

ومن جهة أخرى أحكمت له حقوقه المالية حيث يكون ـ والحالة هذه ـ عرضة للاستيلاء من جانب الاقوياء.

١ ـ اليتيم وحقوقه الاجتماعية:

لقد تنوع الاسلوب التشريعي في بيان حقوق اليتيم الاجتماعية : ولكنه شرع معه من حين الطفولة المبكرة لما لهذه المرحلة من الاهمية البالغة في احتضان اليتيم ، وإيوائه ليعيش في جو من الحنان الدافىء لينسيه مرارة اليتم ، وليعوض عليه ما فاته من عواطف الابوة.

ولذلك نرى الكتاب الكريم يسلك طريقاً جديداً للوصول إلى بيان

٢٢

حقوق اليتيم الاجتماعية ذلك هو توجيه الخطاب إلى النبي الاكرم متخذاً من الواقع المرير الذي مر به وهو طفل خير درس يوجهه إلى الأفراد لرعاية هذه الزهور الذابلة.

من هذه النقطة سيكون المنطلق لمسيرة الاسلام مع الحملة التوجيهية لليتيم.

لقد مرت هذه الادوار بالرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فقد أباه وهو طفل فقيض الله له جده عبد المطلب ( شيخ الابطح ) ليقوم برعايته ، وتربيته فقد شاءت الحكمة الإِلهية أن يذوق المنقذ الاول للانسانية مرارة اليتم ، فيفقد الحنان الابوي لولا أن يعوضه الله بمن سد له هذه الخله ليطبق الدرس تطبيقاً عملياً فتسير الامة على هداه ، وتنحو هذا النحو من السلوك الذي تتمخض نتائجه بالتوجيه الصالح للافراد.

١ ـ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

٢ ـ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ ) .

٣ ـ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

٤ ـ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) (١) .

هذه الآيات الكريمة جمعت بين طياتها درساً كاملاً لكل ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية.

فهي الدستور الذي لا بد من تطبيقه للوصول إلى الغاية السامية من رعاية حقوق الضعفاء.

وهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لابد للكبار من اجتيازها للوصول بهذا الانسان إلى الهدف المنشود.

__________________

(١) سورة الضحى : الآيات ( ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ).

٢٣

فالمشاكل التي يواجهها اليتيم في بداية الشوط ثلاث :

ـ المسكن الذي يلجأ إليه.

ـ والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم.

ـ والمال الذي ينفق عليه منه.

١ ـ إيواء اليتيم :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

أول ما يحتاجه اليتيم في هذه الحياة هو :

الحضن الذي يضمه.

والصدر الذي يغمره بدفئه.

والبيت الذي يمرح فيه.

فإذا تهيأت هذه الثلاث كان بالامكان أن يحفظ هذا الطفل المهمل ليقوم بالانفاق عليه مادياً ، ومعنوياً.

ومن هنا جاءت فكرة الملاجيء للأيتام ومدى ما تسديه من خدمة للمجتمع في محافظتها على هذه الفئة من الاطفال.

لذلك يبدأ الكتاب المجيد بتذكير المشرع الاعظم بأولى مراحل احتياجاته وهو طفل يتيم فيخاطبه بهذا الاسلوب الهاديء لينقله إلى ذلك الدور الذي مر عليه.

أنت أيها المشرّع أحسست بهذا الشعور يوم ودع أبوك هذه الدنيا وهو في ريعان شبابه فكنت مشتبكاً لهذه الحوادث القاسية فأواك الله ، وعطف عليك قلوب الحواضن ، وإذا بجدك عبد المطلب يحتضنك فيوليك من حنانه ما يعوضك عن حنان الابوة ، ويوصي بك لعمك أبي طالب فيكفلك ويفضلك على أولاده وليكن بعد ذلك خير ساعد لك على دعوتك المقدسة ووسط هذا العطف تنعمت بما أنساك مرارة الوحدة الابوية وذل اليتم.

٢٤

هذا العم الحنون الذي جاهد ، وكافح في سبيل رعاية ابن أخيه في الوقت الذي كانت العرب تنظر إليه كسير الجناح مهيض الجانب يتيماً لا أب له.

ان أبناء الجزيرة ـ كما أسلفنا ـ كانوا قد فقدوا القيم الرفيعة بتكالبهم الوحشي على اغتصاب الآخرين.

لذلك كانت الشريعة المقدسة قد غيرت المفاهيم الخاطئة وأصلحت ما كان منها فاسداً ، فاختارت من بين هذه المجموعة الضعيفة يتيماً كان محطاً للرحمة الإِلهية في تبليغ رسالة السماء إلى أبناء الارض ليعطي صورة واضحة عن القيم ، والاخلاق وليزيل عن الاذهان الصور الخاطئة ، والتي كانت تعبر عن الانحراف الذهني لابناء الجزيرة العربية في عصورها المظلمة.

إذاً فلا بد من المأوى لليتيم ، ولا بد من تهيئة الملجأ لليتيم فبلا مأوىً سيصبح هذا الطفل متسولاً تتلاقفه ارصفة الشوارع ، ومنعطفات الأزقة ، فيكون عالة على بلده ، ويكون هذا التسيب مبدأ مسيرته الاجرامية ، فلا مخدع يؤيه ، ولا رقيب ينتظره يقطع ساعات الليل متسكعاً ليلحقها في نهارة منبوذاً تحتضنه تكايا الرذيلة فاذا به عضو فاسد تخسره الامة ، ويكون وبالاً عليها وعلى أبنائها.

وقد جاء في الخبر عن النبي (ص) قوله « خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه »(١) .

فلماذا هذه الاساءة لطفل لا ذنب له ، ولا دخل له في تحقق اليتم ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة تحت رقم (٣٦٧٩).

٢٥

وإنطباقه عليه. إنه كبقية الاطفال ، وقد شاءت الاقدار أن تخطف منه من يحنو عليه ، فهل يكون ذلك سبباً في تسويغ الاساءة إليه.

إن العطف الانساني ، واللطف ، والرعاية ليدعو كل ذلك إلى تقديم هذا المحروم على بقية الاولاد ممن يضمهم البيت لئلا يشعر اليتيم بذل الوحدة ، ومرارة الوحشة. وإلا فإن البيت الذي لا يجد هذا الصغير فيه المعاملة الحسنة هو شر البيوت كما يحدث عنه الخبر ، وبالعكس إن وجد اليتيم اليد الحانية في ذلك البيت ، والعطف الذي يدغدغ قلبه الكسير كان ذلك البيت خير بيت تحوطه البركة ، وتشمله الرعاية الإِلهية.

٢ ـ الانفاق على اليتيم :

( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

وسواء كان الغنى المقصود هو الانفاق من أبي طالب ، أو الاموال التي صرفتها خديجة على النبي الاكرم فان المال هو العصب الذي يقوم بحفظ حياة الانسان ليحقق له احتياجاته كإنسان يأكل ، ويشرب ، ويلبس.

ان الغنى هو ما يقابل الفقر على كل حال ، ولذلك أخذت الآية الكريمة تذكر نبي الرحمة بهذه النقطة الحساسة لتدفع في نفسه الهمة على مساعدة الضعفاء ممن مروا بهذه المرحلة العسيرة.

فاليتيم وهو فقير بحاجة إلى من يمد له يد العون فيشبع له بطنه ، ويستر له عريه ولذلك تنوعت دعوة القرآن إلى مساعدة الضعفاء ، والاخذ بأيديهم لتأمين احتياجاتهم المعاشية.

ولنستعرض معاً هذه الطرق التي سلكها الكتاب الكريم لحث الناس على الانفاق والعطاء.

٢٦

التجارة مع الله

ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني.

وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :

في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله. وفي الآخرة بالثواب الجزيل.

وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه.

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (١) .

( آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٢) .

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٤) .

__________________

(١) سورة فاطر : آية (٢٩).

(٢) سورة الحديد : آية (٧).

(٣) سورة البقرة : آية (٢٦١).

(٤) سورة البقرة : آية (٢٦٥).

٢٧

ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير.

وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم.

ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب.

فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه.

( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (١) .

وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) .

أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست

__________________

(١) سورة محمد : آية (٣٨).

٢٨

عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير.

ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية.

وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق.

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد.

أنها حياة الزراعة ، والنمو.

وحياة الربح ، والاستفادة.

ومن منّا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والنسبة الحسابية لهذه العملية هي.

واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٦١).

٢٩

وليقارن الفرد بين العمليتين الحبة يزرعها في الارض فيجني من وراء هذه النبتة سبعمائة حبة.

والدرهم ينفقه الانسان في سبيل الله يجني من ورائه سبعمائة درهم ، أو بمقدار هذه النسبة من الأجر عند الله.

فما ينفقه الملي لانتشال الضعيف من برائن المرض ، والجهل والفقر يساعده على السير إلى الامام ، ومن ثم تحويله إلى المجتمع عضواً صالحاً تستفيد الامة من مواهبه ينتج له بالاضافة إلى هذه الخدمة التي ترضي ضميره ربحاً من الثواب ينتفع به يوم لا ينفع مال ، ولا بنون ، ومن ثم فلطف الله لم يقف عند حد ورحمته أوسع من أن تقدر بقدر ، وبعد كل هذا الربح المعاوضي.

( وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ) .

وليقدر العبد هذه المضاعفة حيث لم تحدها الآية الكريمة إلى مرة ، أو مرتين بل الله يضاعف ، ولتقر عين العبد إذا كان ربه أحد طرفي هذه العملية ، وليس كأحد التجار يحسب معه الحساب الدقيق ، بل هو كريم بلطفه ، ورحيم بعطفه.

ولربما يستكثر البعض أن يكون هذا العمل الانساني مثمراً بهذه الكثرة كمثل الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وبعد كل ذلك فالله يضاعف لمن يشاء.

ويجاب عن ذلك : وهل يحد فضل الله ، وإحسانه ، أو تقف رحمته عند حد أنها العناية الإِلهية هي التي تؤلف بين هذه القلوب الانسانية فتهب الخير ، والثواب ازاء عمل يخدم به مصلحة الآخرين ليكون أداة لتشجيع الباقين.

وتتوالى الصور الحية يعرضها القرآن الكريم ليهيج مشاعر الانسان

٣٠

لتوجيهه نحو عمل الخير ، ومن جملة هذه الصور المعروضة.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ) .

ويحاول القرآن الكريم أن يعيش مع الافراد ليدخل إلى قلوبهم ، ويعرض عليهم صوراً من الدروس الحية فيمثل لهم أمثلة نابعة من صميم حياتهم اليومية ليكون ذلك أبلغ في الوصول إلى المقصود.

فمرة يمثل الانفاق بالتجارة.

وأخرى يمثله بالزراعة.

وثالثة يعرض أمام القارىء صوراً لحبة على ربوة وإذا بالمطر يغمرها فتقدم نتاجها المضاعف.

كل ذلك ليصل ممن وراء هذه الصور الى القلوب ليغرس فيها حُب الخير بالانفاق الى الضعفاء ، والمعوزين لئلا يبقى فقير جائع بين المجموعة.

وإذا ما أذكى نغم القرآن العذب لهب العزم على الخير في تلك القلوب التي استجابت لنداء الحق ، وقرب إلى أذهانهم نتائج أعمالهم الطيبة كحبة أثمرت سبعمائة حبة ، أو كحبة أتت أكلها ضعفين.

وأنهم بذلك يربحون صفقة تجارية رابحة أحد طرفيها ـ الله عز وجل ـ هرع الناس إلى النبي الاكرم يسألونه عن بنود هذه العملية الرابحة ، ويتكشفون منه حقيقة هذا الانفاق الذي يريده الله.

ماذا ولمن ؟.

فنوعية الانفاق ، وكيفيته ، وجنس ما ينفق ، ولمن يكون الانفاق ، وعلى من يلزمهم الصرف ، والعطاء.

٣١

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (١) .

والسؤال في ظاهر الآية عما ينفق بينما جاء الجواب عمن ينفق عليه ولرفع هذا الالتباس يقول علماء التفسير.

فان قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله( مَا أَنفَقْتُم ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف.

قلت : قد تضمن قوله( مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبين الكلام على ما حداهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها »(٢) .

وقال الطبرسي : « السؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عمله فانهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق »(٣) .

لقد كان التحضير من الآيات الكريمة السابقة في الترغيب والتشويق الى الانفاق هو الذي دعاهم للسؤال عن كيفية الإِنفاق.

لذلك بدأ القرآن يبين لهم مراحل الإِنفاق بجهتيه :

نوعيته ، ومصرفه.

فعن النوعية لم يحدد لهم شيئاً يفرض فيه الانفاق ، بل ترك ذلك إلى تقديرهم.

فالاطعام خير ، والكساء خير ، والمال خير.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

(٢) الكشاف للزمخشري : في تفسيره لهذه الآية.

(٣) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

٣٢

وهكذا نرى الشارع المقدس يترك الباب مفتوحاً ، فلم يحدد نوعية الانفاق ، بل يصفه بالخير جاء ذلك في آيات عديدة قال تعالى فيها :

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ) (١) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) (٢) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (٣) .

وعن المصرف ، وهو المنفق عليه : بدأ الكتاب الكريم بأسرتي الإِنسان الخاصة ، والعامة ليحيط بره جميع الاطراف التي تضم الانسان.

فالاسرة الخاصة : وتتألف من الابوين العمودين ومن ثم الحواشي ، وهم الاطراف النسبية قال تعالى :

( قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) .

واذا ما تجاوزنا أسرة الانسان الخاصة رأينا القرآن الكريم يلحق بهذه الاسرة المكونة من الوشائج النسبية الاسرة العامة ، وتتألف من :

اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل.

وهذا التدرج هو الذي تقتضيه طبيعة الاجتماع في هذه الحياة ، وقوانينه.

فالوالدان عمودا الانسان ، ومن ثم حواشيه وهم أطرافه وكلالته على حد تعبير الفقهاء لهم حصة في الميراث حسب التدرج في الطبقات لانهم يحيطون بالرجل كالاكليل الذي يحيط بالرأس.

ومن ثم يتعدى في المراحل إلى الجماعة العامة من أصناف المعوزين.

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) سورة البقرة : الآيات ( ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ).

٣٣

ولا بد للمنفق من السير على هذا الخط الذي رسمته الآية الكريمة فانه من الايحاءات في البيئة المتقاربة ، والتي هي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما يقوله الحديث الشريف.

واذا ما عرضنا فقرات الآية الكريمة على هذا النحو من الاجمال فلا بد لنا من الاحاطة بكل فقرة على نحو من التفصيل لنصل من وراء ذلك إلى ما يعطيه هذا التموج التدريجي في التركيب الفني الجميل.

الأسرة الخاصة :

وقد قلنا بانها تتكون من الوالدين ، والاقربين حسبما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى :

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) (١) .

الوالدان :

الابوة : لفظة بنفسها تعطي ما تحمله هذه الكلمة بين طياتها من الحنان ، والعطف نحو زهرة الحياة ، وبراعم العمر.

والامومة : أنها الشمعة الزاهية باضوائها الحلوة تذيب نفسها لتنير الطريق إلى الآخرين.

ولا يمكن لاي وليدٍ أن يؤدي بعض الحق المفروض عليه تجاه أبويه ، فلطالما سهر الليالي لينعم الوليد بلذة النوم ، ولكم ضمه صدر أم

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

٣٤

حنون ليشعر بدفء لذيذ حتى قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يخاطب ولده الامام الحسن (ع).

« وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى لو أن شيئاً أصابك أصابني »(١) .

هذا الانصهار في الكيان بين الوليد ، ووالده ، وهذه الوحدة في الذات هما اللذان أوجبا أن يصور لنا الامام (ع) هذا الانشداد ليبين أن ما يصيب الولد يصيب الوالد لانهما شيء واحد بفارق يميز أحدهما أنه فرع ، والآخر أنه الأصل ، والنبتة التي كانت منشأ ، لذلك الفرع الجميل.

وإنما أولادنا في الورى

أكبادنا تمشي على الارض

وإذا ما أردنا أن نتبع هذه العواطف الجياشة الكامنة في قلب الاب تجاه وليده لوجدنا مشهداً من هذه المشاهد حيث تنعكس على صفحاته آيات الحب ، والعطف الابوي بين وليد يتمتع بنظارة الشباب ، وشيخ أحنت عليه السنون.

ففي خضم من القلق ، والاضطراب يتجه الشيخ الكبير يحمل فوق كتفيه متاعب القرون الماضية ليستعطف ربه بلهجة كلها الرقة ، والكلمات تتكسر بين شفتيه :

( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) .

إنه نوح ( نبي الله ) أبو البشر الثاني كما تعتبر عنه كتب التأريخ والعبد الصالح المجاهد في سبيل الله. دعى قومه إلى عبادة الله والتوحيد به ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً.

__________________

(١) مقطع من وصية الامير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أوصى بها ولده الامام الحسن (ع) قالها عند رجوعه من صفين.

٣٥

وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فلما يفيق يتجه إلى ربه وبفمٍ تتصاعد منه الحسرات يناجي ربه قائلاً :

« اللهم إهدِ قومي فانهم لا يعلمون ».

وتشاء القدرة الإِلهية أن ينزل العذاب على هؤلاء المعاندين ويكتب لهم الغرق.

( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) .

وانتهى كل شيء وأصبحت السفينة ، وهي سفينة الامان ، جاهزة ووقت اليوم المعلوم لينفذ العذاب في هؤلاء.

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) .

وكانت هذه العلامة ساعة الصفر. ولندع المفسرين ، وخلافاتهم في هذا التنور أين كان ، وفي أي بقعة من الأرض كان قابعا. المهم أنه كان مصدر نبع الماء ، وإندفعت المياه من السماء ضباباً بلا قطرات ، وتفجرت الأرض عيوناً منهمرة ، وفاضت البحار ، وطفحت الانهار ، وكان نوح قد أمر أن يحمل في سفينته :

( مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

من كل جنس من الحيوان زوجين أي ذكراً ، وأنثى.

( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

أي من سبق الوعد بإهلاكه ، والمقصود بذلك أمرئته الخائنة وأضيف إلى أسرة السفينة من الراكبين فيها.

( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

٣٦

واقصر ما قيل في عدد من آمن به ثمانين نفر.

وتكامل العدد ، وسارت السفينة وسط دنياً من المياه المنهمرة من كل حدب ، وصوب.

( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ) .

والرياح العاتية تهبط بالسفينة ، وترفعها ، وكسفت الشمس.

تمر تلك اللحظات ، ويتفقد ربان السفينة ، نبي الله نوح فلم يجد إبنه كنعان من ضمن الراكبين ، وحانت منه التفاتة وإذا بالولد يهرب صوب الجبال التي بعد لم يصل إليها الماء والهلع يأخذ منه مأخذه.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) .

يا بني : إنه نداء الابوة الحنون ينبثق من القلب العطوف يرتل هذا النغم الهاديء ليصل إلى مسامع الولد المذهول من هذا المنظر المخيف يطلب إليه أن يلحتق بسفينته لينجو من عذاب الله المحتم.

ولكن الولد المذعور يهرب من هذا النداء الابوي ليطلقها صيحة مدوية تضيع بين زمجرة الامواج العالية.

( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) .

فهو يحاول عبثاً أن يأوي إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، ويبعد عنه شبح الموت الذي يتراءى له من بين هذه المياه المتدفقة من جميع الجهات.

وعلى العكس فلم ييأس الشيخ الوقور ، وأعاد الكرة ، وظن أنه سيفلح في إقناع ولده ، فعاد إليه ، والحسرة تأكل قلبه متوسلاً وهو يقول :

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) .

٣٧

وضاعت التوسلات وسط الامواج ، وبعد الشبح ، وذهب الولد هارباً ، وأسدل الستار على الحوار العاطفي.

( وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ ) .

وابتلعت المياه كل شيء ، ولم يبق من مخلوقات الله إلا :

( مَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

وهم ركاب السفينة.

وصدرت الأوامر الإِلهية :

( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وتنفس الشيخ الهرم الصعداء ، فلقد أخذت المياه كل أولئك الذين كفروا برسالته ، واذاقوه ألوان العذاب.

ولم تشغل هذه المناظر المرعبة ، والنتائج التي حصل عليها في التغلب على الاعداء من التفكير في ولده بعد أن ضاعت توسلاته بابنه المغرور لذلك اتجه إلى ربه يذكره بوعده بأن أهله من ضمن الناجين من العذاب إلا إمرأته التي خانته في الإِيمان به ، وولده من أهله.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) .

أنه بهذا التضرع يعترف من طرف خفي بحقيقة العاطفة الطاغية على مركز النبوة ، والعصمة.

وماتت البسمة ، وانطفأ الأمل ، ومات شبح الابن حينما جاءه النداء :

( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا

٣٨

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) .

لقد أرخى الشيخ الكبير لعاطفته العنان فتجاوز الحد المرسوم ، وطالب بما ليس له أن يطالب فيه ، وها هو يتلقى التهديد بالترك عما يطلب ، وإذا به يعود إلى لطفه وعطفه فيتضرع من أجل هذا الالحاح قائلاً :

( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

بماذا تجازى هذه العواطف الجياشة من الآباء.

وما هو الاسلوب الذي يلزمنا تجاه هذا البركان المتفجر من العطف أنه القرآن الكريم حدد لنا ، وتكفل ببيان هذه الكيفية التي لا بد من تطبيقها نحو هذين الملاكين في المجالين التربوي ، والمالي.

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ،وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (٢) .

درس بليغ في الادب نستوضحه من خلال هذه الآية الكريمة حيث تدرج الشارع المقدس ببيان المراحل السلوكية مع الابوين على النحو التالي :

الاولى :

بيان مكانة الابوين ، وقيمتهما المعنوية ، ويبدو هذا واضحاً في اعتبار الاحسان اليهما بالدرجة التالية مباشرة لعبادة

__________________

(١) الآيات المتقدمة من سورة هود : ( ٣٦ ، ٤٧ ).

(٢) سورة الاسراء آية ( ٣٣ ـ ٣٤ ).

٣٩

الله ، وبذلك نعرف مدى الواجب على الابناء في تقدير الابوين ، وقد جاء مثل هذا الايصاء في آيات أخرى فقد قال تعالى :

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) (١) .

( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ ) (٢) .

لقد أتى رجل إلى رسول الله (ص) فقال : ( يا رسول الله : أوصني فقال : لا تشرك بالله شيئاً ، وإن حرقت بالنار ، وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك ، فأطعمهما ، وبرهما حيين كانا ، أو ميتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ، ومالك فافعل ، فان ذلك من الايمان »(٣) .

إن هذه الوصية من النبي (ص) تعطينا مدى اهتمام المشرع بالوالدين ، فقد قرن الايصاء بالاحسان إليهما بعبادة الله وعدم الشرك به ، وجعل ذلك من الايمان ، ثم أنه لم يكتف بالايصاء بالبر بهما في حياتهما بل أمر بذلك بعد موتهما. ولما يتسائل عن كيفية البر بالوالدين بعد الموت ذلك لأن الاحسان إنما يكون لمن هو حي يتقبل ما يجود به الانسان عليه ، أما إذا مات الانسان فقد انقطعت عنه الحياة ومات فيه الشعور فكيف يكون الاحسان إليه ؟

لقد أوضح الامام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) هذه الجهة عندما قال :

« من يمنع الرجل منكم أن يبر بوالديه حيين ، وميتين يصلي عنهما ، ويتصد عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع

__________________

(١) سورة : آية (٣٦).

(٢) سورة لقمان آية (١٤).

(٣) اصول الكافي : حديث (٢) باب البر بالوالدين.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137