المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى42%

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137

  • البداية
  • السابق
  • 137 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72293 / تحميل: 6936
الحجم الحجم الحجم
المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

المقام الاسنى في تفسير الأسماء الحُسنى

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

المانع :

الذي يمنع أولياءه ويحوطهم وينصرهم ، من المنعة. أو : يمنع من يستحق المنع(١٤٦) ، من المنع ، أي : الحرمان ، لأنّ منعه سبحانه حكمة وعطاؤه جود ورحمة ، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

وقد يكون المانع : الذي يمنع أسباب الهلاك والنقصان بما يخلقه في الأبدان والأديان من الأسباب المعدة للحفظ.

الوالي :

هو المالك للأشياء المتصرف فيها المتولي عليها ، وقد يكون بمعنى المنعم ، عوداً على بدء. وقوله تعالى :( وما لهم من دونهِ من والٍ ) (١٤٧) أي : من ولي ، أي : من ناصر ، والمولى والولي يأتيان بمعنى الناصر أيضاً ، وقد مرّ شرحهما.

والولاية بفتح الواو : النصرة ، وبكسرة : الإمارة ، وقيل : هما لغتان كالدّلالة. والدلالة ، والولاية أيضاً الربوبية ، ومنه :( هنالك الولاية لله الحقّ ) (١٤٨) يعني : يومئذ يتولّون الله ويؤمنون به ، ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون.

المتعالي :

قال البادرائي : هو المتنزّه عن صفات المخلوقين.

وقال الهروي : المتعالي الذي جلّ عن إفك المفترين. وقد يكون المتعالي بمعنى العالي ، ومعنى :( تعالى الله ) (١٤٩) أي : جلّ عن أن يوصف.

__________________

(١٤٦) في (ر) ورد بعد لفظ المنع : « والحكمة في منعه اشتقاقه » ولم نثبته لاختلال المعنى به.

(١٤٧) الرعد ١٣ : ١١.

(١٤٨) الكهف ١٨ : ٤٤.

(١٤٩) النمل ٢٧ : ٦٣.

٦١

التوّاب :

من أبنية المبالغة ، وهو : الذي يقبل التوبة من عباده ويسهّل لهم أسباب التوبة ، وكلّما تكررت التوبة من العبد تكرر منه القبول. والتوّاب من الناس : التائب ، والتوبة والتوب : الرجوع عن الذنب ، وقيل : التوب جمع توبة.

المنتقم :

هو الذي يبالغ في العقوبة لمن يشاء ، وانتقم الله من فلان : عاقبه.

وفي عبارة الشهيد : هو قاصم ظهور العصاة(١٥٠) .

الرؤوف :

هو الرحيم العاطف برحمته على عباده ، وقيل : الرأفة أبلغ الرحمة وأرقّها ، وقيل : الرأفة أخصّ والرحمة أعمّ.

مالك الملك :

معناه أنّ الملك بيده ، وقد يكون معناه : مالك الملوك. والملكوت من الملك ، كالرهبوت من الرهبة ، وتملّك كذا أي : ملكه قهراً.

ذو الجلال والإكرام :

أي : ذو العظمة والغنى المطلق والفضل العامّ ، قاله الشهيد(١٥١) .

وقيل : معناه أي : يستحق أن يجلّ ويكرم ، فلا يجحد ولا يكفر به ، قاله البادرائي.

__________________

(١٥٠) القواعد والفوائد ٢ : ١٦٩.

(١٥١) القواعد والفوائد ٢ : ١٧٢.

٦٢

ذو الطول :

أي : المتفضل بترك العقاب المستحق عاجلاً وآجلاً لغير الكافر.

والطول بفتح الطاء : الفضل والزيادة ، وبضمها : في الجسم ، لأنه زيادة فيه ، كما أن القصر قصور فيه ونقصان ، وقولهم : طلت فلاناً ، أي : كنت أطول منه ، من الطول والطول جميعاً.

ذو المعارج :

أي : ذو الدرجات التي هي مصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح ، أو التي يترقّى فيها المؤمنون في الجنة ، وقوله تعالى :( ومعارج عليها يظهرون ) (١٥٢) أي : درج عليها يعلون ، واحدها معرج ومعراج ، وعرج في الدرجة أو السلم : ارتقى.

النور :

قال البادرائي : هو الذي بنوره يبصر ذو العماية وبهدايته ينظر ذو الغواية ، وعلى هذا يتناول قوله تعالى :( الله نور السماوات والأرضِ ) (١٥٣) أي : منورهما.

وقال الشهيد : النور المنّور مخلوقاته بالوجود والكواكب والشمس والقمر واقتباس النار ، أو نوّر الوجود بالملائكة والأنبياء ، أو دبّر الخلق بتدبيره(١٥٤) .

الهادي :

الذي هدى الخلق إلى معرفته بغير واسطة ، أو بواسطة ما خلقه من الأدلة على معرفته ، وهدى سائر الحيوان إلى مصالحها ، قال تعالى :( الذي أعطى كلّ

__________________

(١٥٢) الزخرف ٤٣ : ٣٣.

(١٥٣) النور ٢٤ : ٣٥.

(١٥٤) القواعد والفوائد ٢ : ١٧٣.

٦٣

شيء خلقهُ ثم هدى ) (١٥٥) .

البديع :

هو الذي فطر الخلق مبتدعاً لا على مثال سبق ، وهو فعيل بمعنى مفعل كأليم بمعنى مؤلم. والبديع يقال على الفاعل والمنفعل ، والمراد هنا الأول ، والبدع الذي يكون أولاً في كلّ شيء ، ومنه قوله تعالى :( ما كنت بدعاً من الرسل ) (١٥٦) أي : لست بأول مرسل.

الباقي :

قال الشهيد : هو الموجود الواجب وجوده لذاته أزلاً وأبداً(١٥٧) .

وقال البادرائي وصاحب العدة : هو الذي بقاؤه غير متناه ولا محدود ، ولا تعرض عليه عوارض الزوال ، وليست صفة بقائه ودوامه كبقاء الجنة والنار ودوامهما ، لأن بقاءه أزليّ أبديّ وبقاؤهما أبديّ غير أزليّ ، ومعنى الأزليّ : ما لم يزل ، والأبديّ : ما لا يزال ، والجنة والنار مخلوقتان كائنتان بعد أن لم تكونا(١٥٨) .

الوارث :

هو الباقي بعد فناء الخلق ، فترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاّك.

الرشيد :

الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم. أو ذو الرشد ، وهو الحكمة ، لاستقامة تدبيره. أو الذي ينساق بتدبيراته إلى غايتها.

__________________

(١٥٥) طه ٢٠ : ٥٠.

(١٥٦) الأحقاف ٤٦ : ٩.

(١٥٧) القواعد والفوائد ٢ : ١٧٤.

(١٥٨) عدّة الداعي : ٣٠١ ، باختلاف.

٦٤

الصبور :

هو الذي لا تحمله العجلة على المنازعة إلى الفعل قبل أوانه. أو الذي لا تحمله العجلة بعقوبة العصاة ، لاستغنائه عن التسرع ، إذ لا يخاف الفوت.

والصبور من أبنية المبالغة ، وهو في صفة الله تعالى قريب من معنى الحليم ، إلاّ أن الفرق بينهما : أنهم لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور ، كما يسلمون منها في صفة الحليم.

الربّ:

هو في الأصل بمعنى التربية ، وهي : تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل.

وقيل : هو نعت من ربّه يربّه فهو ربّ ، ثم سمّي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربّيه. ولا يطلق على غير الله تعالى إلاّ مقيداً ، كقولنا : ربّ الضيعة ، ومنه :( ارجع إلى ربكَ ) (١٥٩) .

واختلف في اشتقاقه على أربعة أوجه :

أ : أنّه مشتقّ من المالك ، كما يقال : ربّ الدار ، أي : مالكها ، قال بعضهم : لئن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن ، أي : يملكني.

ب : أنّه مشتقّ من السيد ، ومنه :( أما أحدكما فيسقي ربّه خمراً ) (١٦٠) أي : سيّده.

ج : أنّه المدبّر ، ومنه قوله :( والربّانيّون ) (١٦١) وهم : العلماء ، سمّوا بذلك

__________________

(١٥٩) يوسف ١٢ : ٥٠.

(١٦٠) يوسف ١٢ : ٤١.

(١٦١) المائدة ٥ : ٤٤.

٦٥

لقيامهم بتدبير الناس وتعليمهم ، ومنه : ربّة البيت ، لأنها تدبرّه.

د : أنّه مشتقّ من التربية ، ومنه قوله تعالى :( وربائبكمُ ) (١٦٢) سمّي ولد الزوجة ربيبة لتربية الزوج له.

فعلى هذا إن قيل : بأنّه تعالى ربّ لأنّه سيّد أو مالك ، فذلك من صفات ذاته ، وإن قيل : لأنّه مدبّر لخلقه أو مربّيهم ، فذلك من صفات أفعاله.

السيّد :

الملك ، وسيّد القوم ملكهم وعظيمهم.

و قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي سيّد العرب ، فقالت عائشة(١٦٣) : أولست سيّد العرب ؟! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ، فقالت : وما السيد ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : هو من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي(١٦٤) . فعلى هذا الحديث السيد هو : الملك الواجب الطاعة ، قال صاحب العدّة(١٦٥) .

قال الشهيد في قواعده : ومنع بعضهم من تسميته تعالى بالسيد(١٦٦) .

قلت : وهذا المنع ليس بشيء.

أمّا أولاً : فلما ذكرناه من قول صاحب العدة ، وقد أثبته(١٦٧) في الأسماء الحسنى في عبارته.

__________________

(١٦٢) النساء ٤ : ٢٣.

(١٦٣) اُمّ عبدالله عائشة بنت أبي بكر ، روت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أبيها وعمر وغيرهم ، روت عنها اُختها اُمّ كلثوم وأخوها من الرضاعة عوف ابن الحارث وغيرهما ، ماتت سنة ( ٥٨ ه‍ ) وقيل ( ٥٧ ه‍ ).

اُسد الغابة ٥ : ٥٠١ ، تهذيب التهذيب ١٢ : ٤٣٥.

(١٦٤) اُنظر إحقاق الحق ٤ : ٣٦.

(١٦٥) عدّة الداعي : ٣٠٥ ، باختلاف.

(١٦٦) القواعد والفوائد ٢ : ١٧٧ ، باختلاف.

(١٦٧) أي : صاحب العدّة.

٦٦

وأمّا ثانياً : فلأنه قد جاء في الدعاء كثيراً ، وورد أيضاً في بعض الأحاديث : قال السيد الكريم.

و أمّا ثالثاً : فلأن هذا الاسم لا يوهم نقصاً ، فيجوز إطلاقه على الله تعالى إجماعاً.

الجواد :

هو الكثير الإنعام والإحسان ، والفرق بينه وبين الكريم : أن الكريم الذي يعطي مع السؤال ، والجواد يعطي من غير سؤال ، وقيل : بالعكس ، ورجل جواد أي : سخي ، ولا يقال : الله تعالى سخيّ ، لأن أصل السخاوة راجع إلى اللين ، و [ يقال : ](١٦٨) أرض سخاوية وقرطاس سخاويّ إذا كان ليّناً ، وسمّي السخيّ سخيّاً للينه عند الحوائج. هذا آخر كلام صاحب العدة(١٦٩) .

قلت : وقوله ولا يقال الله تعالى سخيّ ، ليس بشيء ، لأنّ السخاء مرادف للجود(١٧٠) ، وهو صفة كمال ، فيجوز إطلاقه عليه تعالى ، مع أنه قد ورد به الإذن ، ففي دعاء الصحيفة المذكور في مهج ابن طاووس(١٧١) قدس الله سره :

__________________

(١٦٨) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ر) و (ب) وأثبتناه من المصدر وهو الأنسب.

(١٦٩) عدّة الداعي : ٣١٢ ، باختلاف.

(١٧٠) في هامش (ر) : « في كثير من الأدعية ، وإضافة السخاء فيها إليه كما في دعاء الجوشن الكبير المروي عن السجاد زين العابدين عن أبيه عن جدّه عن عليعليهم‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في قوله : يا ذا الجود والسخاء ، ففرق بين السخاء والجود لترادفهما على اسم الكريم. منهرحمه‌الله ».

انُظر : المصباح ـ للمصنف ـ : ٢٤٨.

(١٧١) أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحسيني ، السيد الأجلّ الأورع ، ويظهر من مواضع من كتبه خصوصاً كشف المحجة أن باب لقائه الإمام المنتظر روحي له الفدا كان مفتوحاً ، وكان من عظماء المعظمين لشعائر الله ، يروي عنه العلامة الحلي وغيره ، له عدة مصنفات ، منها : مهج الدعوات ومنهج العنايات ، ذكر فيه الأحراز والقنوتات والحجب والدعوات والتعقيبات وأدعية الحاجات ، توفي سنة ( ٦٦٤ ه‍ ).

الكنى والألقاب ١ : ٣٢٧ ، أعيان الشيعة ٨ : ٣٥٨ ، الذريعة ٢٣ : ٢٨٧ ، معجم رجال الحديث

٦٧

سبحانه من تواب ما أسخاه وسبحانه من سخي ما انصره. فإذا كان اسم السخاء لا يوهم نقصاً وقد ورد في الدعوات ، فما المانع من إطلاقه عليه تعالى.

قلت : أن المانع أن أصل السخاوة راجع إلى اللين إلى آخره ، كما ذكره صاحب العدة.

إن قلت : إنّ اللين هنا بمعنى الحلم لا بمعنى ضدّ الخشونة ، وفي دعوات المصباح(١٧٢) : ولنت في تجبرك(١٧٣) ، أي : حلمت في عظمتك. وليس صفاته تعالى كصفات خلقه ، لأنّ التوّاب من الناس : التائب ، والصبور : كثير حبس النفس عن الجزع ، وهما في صفته تعالى كما مرّ في شرحهما ، إلى غير ذلك من صفاته تعالى المخالفة لصفات خلقه(١٧٤) .

__________________

١٢ : ١٨٨.

(١٧٢) كتاب المصباح لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، المعروف بشيخ الطائفة يروي عن الشيخ المفيد وغيره ، يروي عنه والده الشيخ حسن وغيره ، له عدّة مصنّفات ، منها : هذا الكتاب ـ مصباح المتهجد وسلاح المتعبد ـ وهو من أجل الكتب في الأعمال والأدعية وقدوتها ، ذكر فيه ما يتكرر من الأدعية ومالا يتكرر ، وقدّم فصولاً في أقسام العبادات وما يتوقف منها على شرط وما لا يتوقّف وذكر في آخره أحكام الزكاة والأمر بالمعروف ، توفي سنة ( ٤٦٠ ه‍ ) ودفن في دارة التي كان يقطنها بوصية منه.

تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ ، أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩ ، الذريعة ٢١١ : ١١٨.

(١٧٣) مصباح المتهجّد : ٣٨٧.

(١٧٤) في هامش (ر) : « مع أنّا نقول : إنّ أصل السخاء راجع إلى الاتساع والسهولة ، وأرض سخواء : سهلة واسعة ، ويسمّى السخي سخياً لسهولة عطائه وسعته ، فالله تعالى أحق باسم السخاء ، لأنه وسع بعطائه المعطين وعمّ ببره المبرّين. مع أنّا لو سلّمنا للشيخرحمه‌الله صحة الاشتقاق في الأسماء الحسنى ، لوجب أن نترك كلّ اسم منها يحصل [ في ] اشتقاقه مالا يناسب عنده ، وهو باطل بالإجماع ، وأظنّ أنّهرحمه‌الله قلّد القاضي عبد الجبّار في شرحه الأسماء الحسنى في صحّة الإشتقاق ، لأنّه منع في شرحه أن يوصف الله تعالى بالحنّان ، قال : لأنّه يفيد معنى الحنين ، وهو لا يجوز عليه سبحانه وتعالى ، قلت : فكلام عبدالجبار أيضاً غير صحيح ، لاشتقاق الحنّان من غير الحنين ، قال الجوهري في صحاحه : الحنّان بالتخفيف : الرحمة ، والحنّان بالتشديد : ذوم الرحمة. وقال الهروي في الغريبين في قوله تعالى :( وحناناً من لدنّا [ ١٩ : ١٣ ]) أي : رحمة ، قال : والحنّان من صفات الله بالتشديد : الرحيم ، وبالتخفيف : العطف والرحمة. وفي الحديث : أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ على رجل يعذب ، فقال : لأتخذنه حناناً ، أي : لأتعطفن عليه ولأترحّمن. ثم نرجع ونقول : على ما ذهب إليه صاحب العدة وعبد الجبار لا يجوز

٦٨

و هنا فائدة يحسن بهذا المقام أن نسقر قناعها ونحدر لفاعها ، وهي :

ان الاسماء التي ورد بها السمع ولا شيء منها يوهم نقصاً ، يجوز إطلاقها على الله تعالى إجماعاً ، وما عدا ذلك فأقسامه ثلاثة :

أ : ما لم يرد به السمع ويوهم نقصاً ، فيمتنع إطلاقه عليه تعالى إجماعاً ، كالعارف والعاقل والفطن والذكي ، لأن المعرفة قد تشعر بسبق فكره ، والعقل هو المنع عما لا يليق ، والفطنة والذكاء يشعران بسرعة الإدراك لما غاب عن المدرك ، وكذا المتواضع لأنه يوهم الذلة ، والعلاّمة لأنه يوهم التأنيث ، والداري لأنه يوهم تقدّم الشك. وما جاء في الدعاء من قول الكاظمعليه‌السلام في دعاء يوم السبت يا من لا يعلم ولا يدري كيف هو إلا هو(١٧٥) ، يعطي جواز هذا ، فيكون مرادفاً للعلم.

ب : ما ورد به السمع ، ولكن إطلاقه في غير مورده يوهم النقص ، فلا يجوز ، كأن يقول : يا ماكر أو يا مستهزئ ويحلف به. قال الشهيد : ومنع بعضهم أن يقال : اللّهم امكر بفلان ، وقد ورد في دعوات المصباح : اللهم استهزئ به ولا تستهزئ بي(١٧٦) .

__________________

أن يسمّى الله تعالى شاكراً ، وقد ورد به في القرآن في قوله :( فإنّ الله شاكرٌ عليم [ ٢ : ١٥٨ ]) لأن الشاكر في الأصل كما ذكره الإمام الطبرسي : هو المظهر للإنعام عليه ، والله يتعالى عن أن يكون لأحد عليه نعمة ، وإنما وصف سبحانه بأنه شاكر مجازاً وتوسعاً. قال الإمام الطبرسيرحمه‌الله : ومعنى أنه شاكر أي : مجاز عبده على طاعته بالثناء والثواب ، وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفاً لعباده ومظاهرة في الإحسان والإنعام عليهم ، كما قال :( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً [ ٢ : ٢٤٥ ]) والله تعالى لا يستقرض من عوز ، لكنه ذكر هذا اللفظ على طريق اللطف ، أي : يعامل عباده معاملة المستقرض ، من حيث أن العبد ينفق من حال غناه فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته ، وكذلك لما كان يعامل عبده معاملة الشاكر [ من حيث أنّه ] يوجب الثناء له الثناء له والثواب سمّى نفسه شاكراً. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : الصحاح ٥ : ١٢٠٤ حنن ، مجمع البيان ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(١٧٥) المصباح ـ للمصنّف ـ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(١٧٦) القواعد والفوائد ٢ : ١٧٧ ، باختلاف.

٦٩

ج : ما خلا عن الإيهام إلاّ أنّه لم يرد [ به ] السمع ، كالنجيّ والأريحي. قال الشهيد : والأولى التوقف عمّا لم تثبت التسمية به ، وإن جاز أن يطلق معناه عليه إذا لم يكن فيه إيهام(١٧٧) .

إذا عرفت ذلك فنقول :

قال الشيخ نصير الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي(١٧٨) قدّس الله سره في فصوله : كلّ اسم يليق بجلاله ويناسب كماله مما لم يرد به إذن جاز إطلاقه عليه تعالى ، إلاّ أنه ليس من الأدب ، لجواز أن لا يناسبه من وجه آخر(١٧٩) .

قلت : وعنده يجوز أن يطلق عليه تعالى الجوهر ، لأن الجوهر قائم بذاته غير مفتقر إلى الغير ، والله تعالى كذلك.

وقال الشيخ علي بن يوسف بن عبد الجليل في كتابه منتهى السؤول في شرح الفصول : لا يجوز أن يطلق على الواجب تعالى صفة لم يرد الشرع المطهّر إطلاقها عليه وإن صح اتصافه بها معنى ، كالجوهر مثلاً بمعنى القائم بذاته ، لجواز أن يكون في ذلك مفسدة خفية لا نعلمها ، فإنه لا يكفي في إطلاق الصفة على الموصوف ثبوت معناها له ، فإن لفظتي عزّوجلّ لا يجوز إطلاقها على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان عزيزاً جليلاً في قومه ، لأنّهما يختصّان بالله تعالى ، ولولا

__________________

(١٧٧) المصدر السابق.

(١٧٨) أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي ، كان رأساً في العلوم العقلية فيلسوفاً علاّمة بالأرصاد ، انتهت إليه رئاسة الإمامية في زمانه ، يروي عن أبيه وعن الشيخ ميثم البحراني ، يروي عنه العلاّمة الحلي والسيد عبد الكريم بن طاووس صاحب فرحة الغري والمولى قطب الدين اُستاذ الشهيد وغيرهم ، له عدّة مصنّفات لم ير عين الزمان مثلها ، منها : فصول العقائد ، مرتّب على أربعة فصول : في التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وفصول العقائد أصله فارسي معروف : بالاُصول النصيرية ، ترجمه المولى ركن الدين محمد بن علي الجرجاني ـ من تلامذة العلاّمة ـ إلى العربية ، توفي سنة ( ٦٧٣ ه‍ ).

الذريعة ١ : ٢٦ ، ٤ : ١٢٢ ، ١٦ : ٢٤٦ ، معجم رجال الحديث ١٧ : ١٩٤ ، أعلام الزركلي ٧ : ٣٠.

(١٧٩) فصول العقائد : ٩.

٧٠

عناية الله ورأفته بعباده في إلهام أنبيائه أسماءه وصفاته لما جسر أحد من الخلق ولا تهجّم في إطلاق شيء من هذه الأسماء والصفات عليه سبحانه.

قلت : وهذا الكلام أولى من قول صاحب الفصول ، لأنّه إذا جاز عدم المناسبة ولا ضرورة داعية إلى التسمية ، وجب الامتناع من جميع ما لم يرد به نص شرعي من الأسماء ، وهذا معنى قول العلماء : إن اسماء الله تعالى توقيفية ، أي : موقوفة على النص والإذن.

ولقد خرجنا في هذا الباب بالإكثار عن حدّ الاختصار ، غير أن الحديث ذو شجون.

شديد العقاب :

أي للطغاة ، والشديد : القوي ، ومنه :( وشددنا ملكهُ ) (١٨٠) أي : قوّيناه ، وشدّ الله عضده أي : قوّاه ، واشتدّ الرجل : إذا كان معه دابة شديدة ، أي : قويّة ، والمشدّ : الذي دوابه شديدة قوية ، والمضعف : الذي دوابه ضعيفة.

الناصر :

هو النصير ، والنصير مبالغة في الناصر ، والنصرة : المعونة ، والنصير والناصر : المعين ، ونصر الغيث البلد : إذا أعانه على الخصب والنبات ، وقوله تعالى :( ولا هم ينصرون ) (١٨١) أي : يعاونون.

العلاّم :

مبالغة في العلم ، وهو الذي الذي لا يشذ عنه معلوم ، وقالوا رجل علاّمة ، فألحقوا الهاء لتدل على تحقيق المبالغة ، فتؤذن بحدوث معنى زائد في الصفة ، ولا يوصف

__________________

(١٨٠) ص ٣٨ : ٢٠.

(١٨١) البقرة ٢ : ٤٨ و ٨٦  و ١٢٣ ، الأنبياء ٢١ : ٣٩ ، الدخان ٤٤ : ٤١ ، الطور ٥٢ : ٤٦.

٧١

سبحانه بالعلاّمة ، لأنه يوهم التأنيث.

المحيط :

هو الشامل علمه ، وأحاط علم فلان بكذا أي : لم يعزب عنه.

الفاطر :

أي المبتدع ، لأنّه فطر الخلق أي : ابتدعهم وخلقهم من الفطر وهو الشقّ ، ومنه :( إذا السماء انفطرت ) (١٨٢) كأنه تعالى شقّ العدم بإخراجنا منه. وقوله( فاطر السماوات والأرض ) (١٨٣) أي : مبتدئ خلقهما ، قال ابن عباس(١٨٤) ما كنت أدري ما فاطر السماوات ، حتى احتكم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها(١٨٥) . وقوله( إلاّ الذي فطرني ) (١٨٦) أي : خلقني.

الكافي :

هو الذي يكفي عباده جميع مهامهم ويدفع عنهم مؤذياتهم ، فهو الكافي لمن توكّل عليه ، فيكفيه ما يحتاج إليه ، والكفية : القوت ، والجمع الكفا.

__________________

(١٨٢) الإنفطار ٨٢ : ١.

(١٨٣) الأنعام ٦ : ١٤ ، يوسف ١٢ : ١٠١ ، إبراهيم ١٤ : ١٠ ، فاطر ٣٥ : ١ ، الزمر ٣٩ : ٤٦ ، الشورى ٤٢ : ١١.

(١٨٤) أبو العبّاس عبدالله بن العبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كُنّي بأبيه العباس وهو أكبر ولده ، كان يسمّى « البحر » لسعة علمه ويسمّى « حبر الاُمة » ، شهد مع عليعليه‌السلام صفّين وكان أحد الاُمراء فيها ، توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله ثلاث عشرة سنة ، وقيل : خمس عشرة سنة ، توفي سنة ( ٦٨ ه‍ ) وقيل : ( ٧١ ه‍ ) وقيل غير ذلك.

الإصابة ٢ : ٣٣٠ ، طبقات الفقهاء : ٣٠ اُسد الغابة ٣ : ١٩٢.

(١٨٥) مجمع البيان ٢ : ٢٧٩.

(١٨٦) الزخرف ٤٣ : ٢٧.

٧٢

الأعلى :

الغالب ، ومنه :( لا تخف إنكَ أنتَ الأعلى ) (١٨٧) أي : الغالب ، وقوله :( وأنتم الأعلون ) (١٨٨) أي : الغالبون المنصورون بالحجة والظفر ، وعلوت قرني : غلبته ، وقوله :( إن فرعون علا في الأرض ) (١٨٩) أي : غلب وتكبّر وطغى. وقد يكون بمعنى المتنزه عن الأمثال والأضداد والأنداد والأشباه.

الأكرم :

معناه الكريم : وقد يجيء أفعل بمعى فعيل ، كقوله تعالى :( وهو أهون عليه ) (١٩٠) أي : هيّن( لا يصلاها إلاّ الأشقى ) (١٩١) ( وسيجنّبها الأتقى ) (١٩٢) يعني : الشقي والتقي.

قال :

إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا

بَيتاً دعائمه أعَزُّ وأطــولُ

أي : عزيزة طويلة.

الحفيّ :

أي : العالم ، ومنه :( يسئلونك كأنك حفيٌّ عنها ) (١٩٣) أي : عالم بوقت

__________________

(١٨٧) طه ٢٠ : ٦٨.

(١٨٨) آل عمران ٣ : ١٣٩. محمد ٤٧ : ٣٥.

(١٨٩) القصص ٢٨ : ٤.

(١٩٠) الروم ٣٠ : ٢٧.

(١٩١) الليل ٩٢ : ١٥.

(١٩٢) الليل ٩٢ : ١٧.

(١٩٣) الأعراف ٧ : ١٨٧ ، وفي النسخ : يسئلونك عن الساعة كأنك حفيّ عنها ، والظاهر أن المصنف أورد لفظ عن الساعة تفسيرا.

٧٣

مجيئها. وقد يكون الحفيّ بمعنى اللطيف ، ومعناه : المحتفي بك ، أي : الذي يبرك ويلطف بك ، ومنه :( إنه كان بي حفياً ) (١٩٤) أي : باراً معيناً.

الذارئ :

الخالق ، والله ذرأ الخلق وبرأهم ، أي : خلقهم ، وأكثرهم على ترك الهمزة ، وقوله :( ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً ) (١٩٥) أي : خلقنا.

الصانع (١٩٦) :

فاعل الصنعة ، والله تعالى صانع كلّ مصنوع وخالق كلّ مخلوق ، فكل موجود سواه فهو فعله. وفي الحديث أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم اصطنع خاتماً من ذهب(١٩٧) ، أي : سأل أن يصنع له ، كما تقول : اكتتبَ ، أي : سأل أن يكتب له. وامرأة صناع اليدين ، أي : حاذقة ماهرة بعمل اليدين ، وخلافها الخرقاء ، وامرأتان صناعان ، ونسوة صنع ، ورجل صنيع اليدين وصنع اليدين ، وصنع اليدين بفتحتين ، أي : حاذق ، والصنعة والصناعة : حرفة الصانع.

الرائي :

العالم ، والرؤية : العلم ، ومنه :( ألم تر كيف فعل ربك ) (١٩٨) أي : ألم تعلم. والرؤية بالعين تتعدّى إلى مفعول واحد وبمعنى العلم إلى مفعولين ، تقول :

__________________

(١٩٤) مريم ١٩ : ٤٧.

(١٩٥) الأعراف ٧ : ١٧٩.

(١٩٦) في هامش (ر) : « والفرق بين الخالق والصانع والبارئ : أن الصانع هو : الموجد للشيء المخرج له من العدم إلى الوجود ، والخالق هو : المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته سواء اُخرجت إلى الوجود أولا ، والبارئ هو : الموجد لها من غير تفاوت ، أو المميز لها بعضاً عن بعض بالصور والأشكال ، قاله الشيخ العلاّمة شرف الدين المقداد في لوامعه. منهرحمه‌الله ».

(١٩٧) صحيح البخاري ٨ : ١٦٥ ، مسند أحمد ٣ : ١٠١.

(١٩٨) الفجر ٨٩ : ٦. الفيل ١٠٥ : ١.

٧٤

رأيت زيداً عالماً ، والأمر من الرؤية : إرء ورء. وقوله :( وأرنا مناسكنا ) (١٩٩) أي : علّمنا ، وقوله :( أعنده علم الغيب فهو يرى ) (٢٠٠) أي : يعلم ، وقوله :( ولو نشاءُ لأريناكهم ) (٢٠١) أي : عرّفناكهم.

السبّوح :

المنزّه عن كلّ سوء ، وسبّح الله : نزّهه ، وقوله :( سبحانك ) (٢٠٢) أي : اُنزهك من كلّ سوء.

وقال المطرزي(٢٠٣) : وقولهم : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، معناه : سبحتك بجميع آلائك وبحمدك سبحتك(٢٠٤) .

وسمّيت الصلاة تسبيحاً ، لأنّ التسبيح تعظيم الله وتنزيهه من كلّ سوء ، قال تعالى :( وسبح بحمد ربّك بالعشيّ والابكار ) (٢٠٥) أي : وصلّ ، وقوله :( فلولا انه كان من المسبحين ) (٢٠٦) أي : المصلين.

قال الجوهري : سبوح من صفات الله ، وكل اسم على فعول مفتوح الأول ، إلاّ سبّوح قدّوس ذرّوح(٢٠٧) ، وسبحات ربنا بضم السين والباء أي

__________________

(١٩٩) البقرة ٢ : ١٢٨.

(٢٠٠) النجم ٥٣ : ٣٥.

(٢٠١) محمد ٤٧ : ٣٠.

(٢٠٢) البقرة ٢ : ٣٢ ، آل عمران ٣ : ١٩١ ، المائدة ٥ : ١١٦ ، الأعراف ٧ : ١٤٣ ، يونس ١٠ : ١٠ ، الأنبياء ٢١ : ٨٧ ، النور ٢٤ : ١٦ ، الفرقان ٢٥ : ١٨ ، سبأ ٣٤ : ٣٤.

(٢٠٣) أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي ، الفقيه الحنفي النحوي ، قرأ على أبيه وعلى أبي المؤيّد الموفق بن أحمد ، سمع الحديث من أبي عبدالله محمد بن علي التاجر ، له عدّة مصنّفات ، منها : المغرب ، تكلّم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب ، مات سنة ( ٦١٠ ه‍ ).

وفيات الأعيان ٥ : ٣٦٩ ، مرآة الجنان ٤ : ٢٠.

(٢٠٤) المغرب في ترتيب المعرب ١ : ٢٤٠ سبح.

(٢٠٥) غافر ٤٠ : ٥٥.

(٢٠٦) الصافّات ٣٧ : ١٤٣.

(٢٠٧) في هامش (ر) وردت حاشية مضطربة الأول والآخر فلم نثبتها.

٧٥

جلالته(٢٠٨) .

الصادق :

الذي يصدق في وعده ولا يبخس ثواب من يفي بعهده ، والصدق خلاف الكذب ، وقوله :( مبوّأ صدقٍ ) (٢٠٩) أي : منزلاً صالحاً ، وكلّما نسب إلى الخير والصلاح اُضيف إلى الصدق ، فقيل : رجل صدق ودابة صدق.

الطاهر :

المنّزه عن الأشباه والأضداد والأمثال والأنداد ، وعن صفات الممكنات ونعوت المخلوقات ، من الحدوث والزوال والسكون والإنتقال وغير ذلك.

والتطهير : التنّزه عما لا يحل ، ومنه :( انهم اُناسٌ يتطهرون ) (٢١٠) أي : يتنزهون عن أدبار الرجال والنساء.

الغياث :

معناه المغيث ، سمّي تعالى باسم المصدر توسعاً ومبالغة ، لكثرة إغاثته الملهوفين وإجابته دعوة المضطّرين.

الفرد الوتر :

هما بمعنى ، وهو المتفرّد بالربوبية وبالأمر دون خلقه.

والوتر بالكسر : الفرد ، وبالفتح الذحل ، والحجازيون عكسوا ، وتميم كسروها. وفي الحديث : إنّ الله وتر يحبّ الوتر فأوتروا(٢١١) .

__________________

(٢٠٨) الصحاح ١ : ٣٧٢ سبح ، باختلاف.

(٢٠٩) يونس ١٠ : ٩٣.

(٢١٠) الأعراف ٧ : ٨٢ ، النمل ٢٧ : ٥٦.

(٢١١) سنن الترمذي ٢ : ٣١٦ حديث ٤٥٣.

٧٦

وقوله :( والشفع والوتر ) (٢١٢) فيه اثنا عشر قولاً(٢١٣) ، ذكرناها على

__________________

(٢١٢) الفجر ٨٩ : ٣.

(٢١٣) في هامش (ر) : « قلت : هذه الأقوال الاثنا عشر ذكرها الإمام الطبرسي ـ طاب ثراه ـ في تفسيره مجمع البيان ، ونحن ذكرناها كلّها في كتابنا نور حدقة البديع ونور حديقة الربيع ، وزدنا على هذه الاثني عشر عدّة أقوال اُخر ، من أرادها فعليه بالكتاب المذكور ، منقولة من تفسر الثعلبي ، وذكرناها أيضاً في كتابنا جُنّة الأمان الواقية وجَنّة الإيمان الباقية ، وجملة الأقوال من هاتين اللفظتين ثلاثة وعشرون قولاً فافهم ذلك. منه ; ».

والأقوال الثلاثة والعشرون كما في المصباح ص ٣٤٢ هي :

« الأول : قال الحسن : هي الزوج والفرد من العدد ، وهي تذكير بالحساب ، لعظم نفعه وما يضبط به من المقادير.

الثاني : قال ابن زيد والجبائي : هو كلما خلقه الله ، لأن جميع الأشياء إما زوج أو فرد.

الثالث : جماعة من علماء التفسير : الشفع هو الخلق ، لكونه كلّه أزواجاً ، كما قال سبحانه تعالى :( وخلقناكم أزواجاً [ ٧٨ : ٨ ]) كالكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والبرّ والبحر والشمس والقمر والجنّ والإنس ، والوتر هو الله وحده ، وهو في حديث الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الرابع : أنّ الشفع صفات الخلق ، لتبديلها بأضداها كالقدرة بالعجز ونحو ذلك ، والوتر صفات الله سبحانه ، لتفرّده بصفاته دون خلقه ، فهو عزيز بلا ذلّ وغنّي بلا فقر وعلم بلا جهل وقوة بلا ضعف وحياة بلا موت ونحو ذلك.

الخامس : أنّ الشفع والوتر الصلاة ، فمنها شفع ووتر ، وهو في حديث ابن حصين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

السادس : أنّ الشفع النحر ، لأنّه عاشر أيام الليالي العشرة المذكورة من قبل في قوله( وليال عشر [ ٨٩ : ٢ ]) والوتر يوم عرفة ، لأنه تاسع أيامها ، وقد روي مثل هذا الحديث أيضا في حديث جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لأن يوم النحر شفع بيوم نفر ، وانفرد عرفه بالموقف.

السابع : أنّ الشفع شفع الليالي العشرة المذكورة ، وهي عشرة ذي الحجة ، وقيل : العشرة الأخيرة من شهر رمضان ، وقيل : هي العشرة التي أتمّ الله بها ليالي موسىعليه‌السلام والوتر وترها.

الثامن : أنّ الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة ، وروي ذلك عن الباقرينعليهما‌السلام .

التاسع : أن الوتر آدم شفع بحوّاء.

العاشر : أنّ الشفع والوتر في قوله تعالى :( فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه [ ٢ : ٢٠٣ ]) فالشفع النفر الأول والوتر من تأخّر إلى اليوم الثالث.

الحادي عشر : أنّ الشفع الليالي والأيام والوتر الذي لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة.

الثاني عشر : أنّ الشفع عليّ وفاطمةعليهما‌السلام والوتر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الثالث عشر : أنّ الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام.

٧٧

حاشية دعاء يوم عرفة من أدعية الصحيفة ، أحدها : أن الشفع هو الخلق لكونه كله أزواجاً ، كما قال :( وخلقناكم أزواجاً ) (٢١٤) والوتر هو الله وحده ، وهو في حديث الخدري(٢١٥) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢١٦) .

الفالق :

الذي فلق الأرحام فانشقت عن الحيوان ، وفلق الحبّ والنوى فانفلقت

__________________

الرابع عشر : أنّ الشفع آدم وحوّاء والوتر هو الله سبحانه.

الخامس عشر : أنّ الشفع الركعتان من صلاة المغرب والوتر الركعة الثالثة.

السادس عشر : أنّ الشفع درجات الجنان لأنها كلها شفع ، والوتر دركات النار لأنها كلّها سبع وهي وتر ، كأنّه سبحانه أقسم بالجنة والنار.

السابع عشر : أنّ الشفع هو الله سبحانه وهو الوتر أيضاً ، لقوله تعالى :( ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم [ ٥٨ : ٧ ]) الآية.

الثامن عشر : أنّ الشفع مسجد مكة والمدينة والوتر مسجد بيت المقدس.

التاسع عشر : أن الشفع القران في الحج والتمتع فيه والوتر الإفراد فيه.

العشرون : أنّ الشفع الفرائض والوتر السنن.

الحادي والعشرون : أنّ الشفع الأفعال والوتر النيّة وهو الإخلاص.

الثاني والعشرون : أنّ الشفع العبادة التي تتكّرر كالصلاة والصوم والزكاة ، والوتر العبادة التي لا تكرّر كالحجّ.

الثالث والعشرون : أنّ الشفع الجسد والروح إذا كانا معاً ، والوتر الروح بلا جسد ، فكأنّه سبحانه أقسم بهما في حالتي الاجتماع والافتراق.

فهذه ثلاثة وعشرون قولاً ، ذكر الإمام الطبرسيرحمه‌الله في تفسيره الكبير منها اثني عشر قولاً ، والأقوال الباقية أخذناها من تفسير الثعلبي وغيره ».

اُنظر : مجمع البيان ٥ : ٤٨٥.

(٢١٤) النبأ ٧٨ : ٨.

(٢١٥) أبو سعيد سعد بن مالك بن شيبان ـ سنان ـ بن عبيد بن ثعلبة بن الأبحر الخدري ، مشهور بكنيته ، روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ؛ روى عنه جابر وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم ، مات سنة ( ٧٤ ه‍ ) وقيل ( ٦٤ ه‍ ) وقيل غير ذلك.

اُسد الغابة ٢ : ٢٨٩ ، الإصابة ٢ : ٣٥.

(٢١٦) مجمع البيان ٥ : ٤٨٥.

٧٨

عن النبات ، وفلق الأرض فانفلقت عن كلما اُخرج منها ، وهو قوله :( والأرض ذات الصدع ) (٢١٧) وفلق الظلام عن الصباح والسماء عن القطر ، وفلق البحر لموسىعليه‌السلام .

القديم :

هو المتقدّم للأشياء وليس لوجوده أول ، أو الذي لا يسبقه عدم.

القاضي :

الحاكم على عباده ، ومنه :( وقضى ربّك ألاّ تعبدو إلاّ إياه ) (٢١٨) أي : حكم ، وقيل : أي أمر ووصّى ، وقوله :( والله يقضي بالحقّ ) (٢١٩) أي : يحكم.

والقضاء يقال على وجوه كثيرة ، ذكرناها على حاشية الصحيفة في دعاء زين العابدينعليه‌السلام في الإلحاح على الله(٢٢٠) .

__________________

(٢١٧) الطارق ٨٦ : ١٢.

(٢١٨) الاسراء ١٧ : ٢٣.

(٢١٩) غافر ٤٠ : ٢٠.

(٢٢٠) وهي كما في المصباح ص ٣٤٥ :

« الأول : قضاء الوصية والأمر( وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه [ ١٧ : ٢٣ ]) أي : أمر ووصّى ، ومنهم من سماه قضاء الحكم ، كصاحب العدّة وصاحب الغريبين ، ومنهم من سمّاه قضاء العهد ، أي : عهد ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ، ومثله :( قضينا إلى موسى الأمر [ ٢٨ : ٤٤ ]) أي عهدنا.

الثاني : قضاء الإعلام( وقضينا إلى بني إسرائيل [ ١٧ : ٤ ]) أي : أعلمناهم.

الثالث : الفراغ( فإذا قضيتم الصلاة [ ٤ : ١٠٣ ]) أي : فرغتم من أدائها ، وقوله تعالى :( فلمّا حضروا قالوا انصتوا فلمّا قضى [ ٤٦ : ٢٩ ] ) أي : فرغ من تلاوته ، وقوله : ( فإذا قضيتم مناسككم [ ٢ : ٢٠٠ ] ) أي : فرغتم منها ، وسمّي القاضي قاضياً ، لأنّه إذا حكم فقد فرغ ما بين الخصمين.

الرابع : الفعل( فاقض ما أنت قاض [ ٢٠ : ٧٢ ]) أي : افعل ما أنت فاعل ، وامض ما أنت ممض من أمر الدنيا.

الخامس : الموت( ليقض علينا ربّك [ ٤٣ : ٧٧ ]) ومثله :( لا يقضى عليهم فيموتوا [ ٣٥ : ٣٦ ]) .

السادس : وجوب العذاب( وأنذرهم يوم الحسبرة إذا قضي الأمر [ ١٩ : ٣٩ ] ) أي : وجب العذاب ، ومثله في يوسف : ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ ١٢ : ٤١ ] ) .

٧٩

المنان :

المعطي المنعم ، ومنه :( فامن أو أمسك بغير حساب ) (٢٢١) أي : اعط وأنعم.

وقيل : المنّان الذي يبتدئ بالنوال قبل السؤال ، والحنّان : الذي يقبل على من أعرض عنه.

المبين :

المظهر حكمته بما أبان من تدبيره وأوضح بيناته ، وبان الشيء وأبان :

__________________

السابع : الكتب( وكان أمراً مقضيّاً [ ١٩ : ٢١ ]) أي : مكتوباً.

الثامن : الإتمام( فلما قضى موسى الأجل [ ٢٨ : ٢٩ ]) أي : أتمّ( أيمّا الأجلين قضيت [ ٢٨ : ٢٨ ]) أي : أتممت.

التاسع : الحكم( وقضى بينهم بالحق [ ٣٩ : ٧٥ ]) أي : حكم( والله يقضي بالحقّ [ ٤٠ : ٢٠ ]) أي : يحكم.

العاشر : الجعل( فقضاهنّ سبع سماوات [ ٤١ : ١٢ ]) أي : جعلهن ، قاله الطبرسي ; وسمّاه الصدوق ; قضاء الخلق ، وقال في معنى فقضاهنّ : أي خلقهنّ ، وسمّاه الهروي : قضاء الفراغ ، وقال : معنى فقضاهنّ أي : فرغ من خلقهنّ.

الحادي عشر : العلم( إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها [ ١٢ : ٦٨ ]) أي علمها.

الثاني عشر : القول( والله يقضي بالحق [ ٤٠ : ٢٠ ]) أي : يقول الحقّ ، قاله الصدوق ، وذكر ذلك أيضاً في باب الحكم.

الثالث عشر : التقدير( فلمّا قضينا عليه الموت [ ٣٤ : ١٤ ]) أي : قدّرناه.

الرابع عشر : قضاء الفصل في الحكم( ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمّى لقضي بينهم [ ٤٢ : ١٤ ]) يقال : قضى الحاكم أي : فصل الحكم ، وكلّما أحكم عمله فقد قضى ، وقضيت هذه الدار : أحكمت عملها.

قال ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داوُدُ أو صَنّعُ السوابغِ تُبَّعُ »

اُنظر : عدّة الداعي : ٣٠٩ ، مجمع البيان ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤ باختلاف ، التوحيد : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٢٢١) سورة ص ٣٨ : ٣٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

درهم ، فقبض الكندي المال وانحاز الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته ، فبلغ الحسن (ع) ذلك فتأثر وقام خطيبا وهو متذمر ومتألم أشد الألم من ذلك المجتمع الذي جرفته الخيانة ، وصار فريسة للباطل والضلال فقالعليه‌السلام :

« هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلا آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم ».

وبعثعليه‌السلام رجلا آخر من مراد في أربعة آلاف ، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتأكد عليه ، ولكنه أخبره انه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان الموثقة أنه لا يفعل ذلك ، فلم يطمئن منه الحسن وقال متنبئا : « إنه سيغدر ».

وسار حتى انتهى الى الأنبار ، فلما علم معاوية به أرسل إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسة آلاف ولعلها خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن وأخذ طريقه الى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود(1) .

وارتكب هذه الخيانة جمع غفير من الأشراف والوجوه. وقد أدّى ذلك الى زعزعة كيان الجيش واضطرابه ، وتفلل جميع وحداته.

4 ـ نهب أمتعة الامام :

وانحطت نفوس ذلك الجيش انحطاطا فظيعا ، واستولت على ضمائره

__________________

(1) البحار 10 / 110.

١٠١

سحب قاتمة لا بصيص فيها من نور الكرامة والشرف ، فارتكبوا كل جريمة وموبقة. ومن انحطاط نفوسهم ان بعضهم جعل ينهب بعضا ، ولم يكتفوا بذلك حتى عدوا الى أمتعة الإمام وأجهزته فنهبوها ، وأكبر الظن أن للخوارج ضلعا كبيرا في هذا الإجرام ، فانهم لا يرون حرمة للإمام ، ولا حرمة لأموال غيرهم ، فقد أباحت خططهم الملتوية أموال من لا يدين بفكرتهم ولا يخضع لدينهم ، وقد وقعت جريمة نهب الإمام فى موردين هما :

1 ـ حينما دس معاوية عيونه في جيش الإمام ليذيعون أن الزعيم قيس بن سعد قد قتل فانهم حينما سمعوا ذلك نهب بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن(1) وتنص بعض المصادر انهم نزعوا بساطا كان الإمام جالسا عليه واستلبوا منه رداءه(2) .

2 ـ لما أرسل معاوية المغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الرحمن بن الحكم الى الإمام ليفاوضونه في أمر الصلح ، فلما خرجوا من عنده أخذوا يبثون بين صفوف الجيش لإيقاع الفتنة فيه قائلين : « إن الله حقن الدماء بابن بنت رسول الله (ص) وقد أجابنا الى الصلح » ولما سمعوا بمقالتهم اضطربوا اضطرابا شديدا ووثبوا على الإمام فانتهبوا مضاربه وأمتعته(3) .

5 ـ تكفيره :

وخيم الجهل على قلوب ذلك الجيش المصاب بأخلاقه وعقيدته ، فراح يسرح في ميادين الشقاء والغواية متماديا في الإثم والضلال ، وبلغ

__________________

(1) الطبري 4 / 122 ، البداية والنهاية 8 / 14.

(2) البحار ، أعيان الشيعة ، تأريخ اليعقوبي.

(3) البحار ، شرح ابن أبي الحديد.

١٠٢

من طيشه وجهله أن بعضهم حكم بتكفير حفيد نبيهم ، فلقد انبرى له الجراح بن سنان الذي أراد قتله قائلا :

« أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!! ».

إن مجتمعا يرى هذا الاعتداء الصارخ على حفيد نبيهم ولا يقومون بنجدته لجدير بأن ينبذ ويترك لأنه لا ينفعه النصح ، ولا يثوب الى الحق والرشاد ، وأغلب الظن أن الذين حكموا بكفر الإمام كانوا من الخوارج إذ لا يصدر هذا الاعتداء إلا من هؤلاء الأشرار.

6 ـ اغتياله :

ولم تقف محنة الحسن وبلاؤه في جيشه الى هذا الحد فلقد عظم بلاؤه الى أكثر من ذلك فقد قدم المرتشون والخوارج على قتله ، وقد اغتيل (ع) ثلاث مرات وسلم منها وهي :

1 ـ انه كان يصلي فرماه شخص بسهم فلم يؤثر شيئا فيه.

2 ـ طعنه الجراح بن سنان في فخذه ، وتفصيل ذلك ما رواه الشيخ المفيدرحمه‌الله قال : « إن الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره ، فأمر (ع) أن ينادى ( بالصلاة جامعة ) فلما اجتمع الناس قامعليه‌السلام خطيبا فقال :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق وائتمنه على وحيه.

أما بعد : فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ، ولا غائلة وإن ما تكرهون فى الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفون أمري ،

١٠٣

ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ».

ونظر الناس بعضهم الى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد؟

واندفع بعضهم يقول :

« والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه!!! »

وما سمعوا بذلك إلا وهتفوا :

« كفر الرجل!!! »

وشدوا على فسطاطه فانتهبوه ، حتى أخذوا مصلاه من تحته ، وشدّ عليه الأثيم عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه من عاتقه ، فبقى الإمام جالسا متقلدا سيفه بغير رداء ، ودعا (ع) بفرسه فركبه ، وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته محافظين عليه ، وطلبعليه‌السلام أن تدعى له ربيعة وهمدان فدعيتا له ، فطافوا به ودفعوا الناس عنه ، وسار موكبه ولكن فيه خليطا من غير شيعته ، فلما انتهى (ع) الى مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته ، وبيده مغول(1) فقال له :

« الله أكبر ، اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ».

ثم طعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرّا جميعا الى الأرض ، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن يقال له عبد الله بن حنظل الطائي ، فانتزع المغول من يده فخضض به جوفه ، وأكب عليه شخص آخر يدعى بظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثم حمل الإمام (ع) جريحا على سرير الى المدائن في المقصورة البيضاء لمعالجة جرحه(2) .

__________________

(1) المغول : آلة تشبه السيف.

(2) الارشاد ص 170.

١٠٤

3 ـ طعنه بخنجر فى أثناء الصلاة(1) .

واتضحت للإمام (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة نوايا هؤلاء الأجلاف وانه سيبلغ بهم الاجرام والشر الى ما هو أعظم من ذلك وهو تسليمه الى معاوية أسيرا فتهدر بذلك كرامته أو يغتال ويضاع دمه الشريف من دون أن تستفيد الأمّة بتضحيته شيئا.

الموقف الرهيب :

وكان موقف الإمام الحسنعليه‌السلام من هذه الزعازع ، والفتن السود التي تدع الحليم حيرانا ، موقف الحازم اليقظ ، فقد كان من حنكته وحسن تدبيره ، وبراعة حزمه فى مثل الانقلاب الذي مني به جيشه أن جمع الزعماء والوجوه ، فأخذ يبين لهم النتائج المرة والأضرار الجسيمة التي تترتب على مسالمة معاوية قائلا :

« ويلكم ، والله إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي فى يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي ، وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ، ولكن كأني أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ».

ولم تنفع جميع المحاولات التي بذلها الإمام من أجل استقامتهم وصلاحهم فقد أخذ الموقف تزداد حراجته ، ويعظم بلاؤه ، وتشتد فيه الفتن والخطوب وقد وجد زعماء الجيش انشغال الإمام بمعالجة جرحه فرصة إلى الاتصال

__________________

(1) ينابيع المودة ص 292.

١٠٥

المفضوح بمعاوية ، والتزلف إليه بكل وسيلة ، وقد علم الإمام (ع) جميع ما صدر منهم من الخذلان والاتصال بالعدو.

حقا لقد كان موقف الإمام موقفا تمثلت فيه الحيرة والذهول ، ينظر الى معاوية فيرى حربه ضروريا يقضي به الدين ويلزم به الشرع وينظر الى الانقلاب والتفكك الذي أصيب به جيشه ، والى المؤمرات المفضوحة على اغتياله فينفض يده منهم وييأس من صلاحهم ، ومع ذلك أرادعليه‌السلام أن يمتحنهم ليرى موقفهم من الحرب لو اندلعت نارها ، فأمر (ع) بعض أصحابه أن ينادى في الناس ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الجمهور فقام فيهم خطيبا فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم فى مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، وأما الباقي فخاذل وثائر ».

وأعرب (ع) بهذا الخطاب البليغ عن بعض العوامل التي أدت الى تفككهم وانحلالهم ، وعرض عليهم بعد هذا دعوة معاوية في الصلح قائلا :

« ألا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ، ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه بظبات السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذناه بالرضا ».

وما انتهى (ع) من هذه الكلمات إلا وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الجمع وهي ذات مضمون واحد :

١٠٦

البقية ، البقية(1) .

ورأى (ع) بعد هذا الموقف أنه إن حارب معاوية حاربه بيد جذاء إذ لا ناصر له ولا معين ، ولم يكن هناك ركن شديد حتى يأوي إليه ، واستبانت له الخطط المفضوحة التي سلكها زعماء الجيش من تسليمه الى معاوية أسيرا أو اغتياله ، رأى بعد هذا كله ان الموقف يقضي بالسلم واستعجال الصلح.

وحدث يزيد بن وهب الجهني عن مدى استياء الامام وتذمره من أجلاف الكوفة وأوباشهم ، قال : دخلت عليه لما طعن فقلت له :

« يا ابن رسول الله ، ان الناس متحيرون ».

فاندفع الامام يقول بأسى بالغ وحزن عميق :

« والله أرى معاوية خيرا لي ، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمى وآمن به أهلي وشيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتى ، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن اسالمه وأنا عزيز أحب من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منّا والميت ».

وأعرب الإمام فى حديثه عن مدى ما لاقاه من الاعتداء الغادر على حياته وكرامته من هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم شيعة له ، وانه سيبلغ بهم التفسخ الى أقصى حد فسيقتلونه أو يسلمونه أسيرا الى معاوية فيقتله أو يمن عليه فيسجل له بذلك يدا على الإمام وتكون سبة وعارا على بني هاشم الى آخر الدهر.

__________________

(1) حماة الاسلام 1 / 123 ، المجتنى لابن دريد ص 36 ،

١٠٧

وأخذ (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة يجيل النظر ويقلب الرأي على وجوهه ، فى حرب معاوية وتصور المستقبل الملبد بالزعازع والاضطرابات التي تقرر المصير المخوف والنهاية المحتومة لدولته وحياته معا بل وعلى حياة الإسلام أيضا لأن القلة المؤمنة التي يحويها جيشه كانت بين ذرية النبي الأعظم (ص) وبين حملة الدين الإسلامى المقدس ، من بقايا الصحابة وتلامذة أمير المؤمنين (ع) وهؤلاء إن طحنتهم الحرب تفنى معنويات الإسلام ، ويقضى على كيانه وتحطم عروشه ، لأنهم هم القائمون بنشر طاقاته ، ومضافا الى ذلك ان الإسلام لا يستفيد بتضحيتهم شيثا لأن معاوية بمكره سوف يلبسهم لباس الاعتداء ، ويوصمهم بالخروج عن الطاعة والإخلال بالأمن العام والقضاء عليهم أمر ضروري حفظا لحياة المسلمين من القلق والاضطراب.

حقا لقد تمثلت الحيرة والذهول في ذلك الموقف الرهيب والخروج من مأزقه يحتاج الى فكر ثاقب والى مزيد من التضحية والإقدام ، رأى الامامعليه‌السلام أن المصلحة التامة تقضي أن يصالح معاوية ويعمل بعد ذلك على تحطيم عروش دولته ، ويعرب للناس عاره وعياره ، ويظهر لهم الصور الإجرامية التي تتمثل فيه! لقد سالم (ع) وكانت المسالمة أمرا ضروريا يلزم بها العقل ويوجبها الشرع المقدس ، وتقتضيها حراجة الموقف ، واضافة لهذه الأحداث سوف نقدم أسبابا أخرى توضح المقام وترفع أثر الشك وترد شبهات الناقدين

١٠٨

اسباب الصّلح

١٠٩
١١٠

تحوم حول صلح الامام الحسن (ع) مع خصمه معاوية كثير من الظنون والأقوال ، ويستفاد منها حكمان متباينان بكل ما للتباين من معنى والحق أن أحدهما خطأ وبعيد عن الصواب كما هو الشأن في كل حكمين متباينين :

« الأول » من هذين الحاكمين تبرير موقف الامام في صلحه وموفقيته فيه الى أبعد الحدود ، ويختلف مبنى التعليل فيه ، فطائفة من العلماء والبحاث عللته بأنه إمام والإمام معصوم من الخطأ ، فلا يفعل إلا ما هو الصالح العام لجميع الأمّة ، وسنذكر في أواخر هذا البحث الذاهبين الى هذا القول وتعليل آخر يكشف عن مناط القول الأول ، ويوضح مدركه وهو يستند الى العلل المادية التي اضطرت الامام الى الصلح كخذلان جيشه ، وفساد مجتمعه ، وخيانة الزعماء والمبرزين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل ،

« الثاني » من هذين الحاكمين تعود خلاصته الى ضعف ارادة الامام وعدم احاطته بشئون السياسة العامة وعجزه عن ادارة دفة الدولة ، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين ، فان نال الظفر فذاك وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين ، وهدف المصلحين ، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمت الى الواقع بصلة ولا تلتقي معه بطريق وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالامام ، وعدم الوقوف على اتجاه شعبه الذي اصيب بأخلاقه وعقيدته ، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع ، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :

1 ـ الصفدي :

قال الصفدي فى شرحه لهذا البيت من لامية العجم :

١١١

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وقد رضى بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم ، وأخلوا الدسوت من تصديرهم ، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :

« وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال لمعاوية : إن عليّ دينا فأوفوه عني وأنتم فى حل من الخلافة ، فأوفوا دينه وترك لهم الخلافة »(1) .

2 ـ الدكتور فيليب حتى :

قال الاستاذ فيليب حتى : « وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت أعني اعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي ، ولعلمهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته ، ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف ، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها »(2) .

3 ـ العلائلي :

قال الاستاذ العلائلي : « ولكنه ( يعني الحسن ) كان قديرا على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس ، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال « نابليون » الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب ، وزاد هو فى انهاكه بالحروب

__________________

(1) شرح لامية العجم 2 / 27 وقد خبط الصفدي خبط عشواء ، فان الامام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ بالله من هذا الافتراء.

(2) العرب ص 78.

١١٢

المتتالية المستمرة التي اخذ بها أوربا ، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس »(1) .

4 ـ المستشرق « روايت م رونلدس » :

قال هذا المستشرق : « فان الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح »(2) .

5 ـ لامنس :

قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامى شيئا : « وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة الى قتال أهل الشام ، وقلب هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة ، فلم يعد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية ، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق ، وانتهى بهم الأمر إلى اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الى اتفاق مع الأمويين ، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى ، ودخل كورة فى فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بيد انه اجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم

__________________

(1) الحلقة الثانية من حياة الحسين ص 283.

(2) عقيدة الشيعة تعريب ع م ص. وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام ، وقد شحن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين وقد تعرض الاستاذ السيد عبد الهادي المختار في مجلة البيان الزاهرة في عددها الخاص بسيد الشهداء من السنة الثانية عدد 35 ـ 39 إلى تزيفه وعرض أكاذيبه.

١١٣

يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة »(1)

وهؤلاء الناقدون لصلح الامام كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام ، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن

__________________

(1) دائرة المعارف الاسلامية ج 7 ص 400 وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الاسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث ( لامنس ) عن الشيعة وعن أئمتهم فانها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم ، والسبب في ذلك ان لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الاسلام والكيد له ، مضافا الى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المستشرقين زار ( طهران ) عاصمة إيران بعد أن تعلم اللغة الفارسية في مدارس الألسنة الشرقية وقد حاول أن يضع تأريخا عن حالة إيران الاجتماعية والأخلاقية كما يشاهدها فرأى حمالين وعلى رءوسهم أوانيا وأسبابا فاخرة ، وأمامهم الدفوف والمزامير فسأل عن ذلك فقال له بعض الحاضرين إنهم يحملون جهاز عروس ، ثم سأل عن اسم الزوج فقال له بعض الحاضرين ( ما ذا يهمك؟ ) ، وفي المساء رأى هذا المستشرق رجلا يضرب امرأة في الشارع فسأل بعض الحاضرين عن القصة فأخبره أن الضارب زوجها وقد تركته بغير حق ، ثم سأل عن أسم الزوج فقال له ( ما ذا يهمك؟ ) فظن المستشرق ان اسم الرجل ما ذا يهمك ، وإنه العريس الذي رأى جهازه صباحا ، فكتب هذا المستشرق في كتابه تاريخ ايران انه رأى في عاصمتها عريسا يقترن صباحا ويضرب عروسه في الشارع مساء وان اسمه ما ذا يهمك ، هذا حال المستشرقين في الأمور الظاهرة البديهية فكيف حالهم في النظريات الدقيقة الغامضة هذا إذا لم يعتمدوا على التحريف فكيف إذا اعتمدوا عليه ومن المؤسف ان شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في اطروحاتهم مع انها لا نصيب لها من الصحة والواقع.

١١٤

قولهم الدليل فى جميع أحواله ، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته إلى مسالمة خصمه ، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يمثل للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا الى الصواب وبعيدا عن الخطأ وبما أنا وقفنا بعض الوقوف أو أقله على بعض العلل والعوامل التي دعت الامام لمسالمة عدوه ، وهي تتلخص في أمور استنبطنا بعضها من الابحاث السالفة والبعض الآخر استنتجناه من دراسة نفسية معاوية وملاحظة أعماله ، ومن الوقوف على أضواء سيرة الامام الرفيعة ، ومعرفة سياسة أهل البيت (ع) التي لا تتذرع بالوسائل التي شجبها الاسلام في سبيل الوصول الى الحكم وقبل أن نعرض أسباب الصلح نود أن نبين انا قد نعيد نماذج بعض المواضيع السالفة لأجل الاستدلال على ما نذهب إليه فان في الاعادة ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، فان تفصيل هذا الموضوع والاحاطة به أهم من غيره ، ولعل نظر القراء إليه وهي كما يلي :

1 ـ تفلل الجيش :

إن أعظم ما تواجهه الدولة فى جميع مجالاتها مسبب ـ على الأكثر ـ من خبث الجند ، وشدة خلافه ، وعصيانه لقيادته العامة ، وقد مني الجيش العراقي آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يبتل به جيش معاوية فانه ظل محتفضا بالولاء لحكومته ولم يصب بمثل هذه الرجات والانتكاسات ، أما العلل التي أدت الى اضطراب الجيش العراقي وانشقاقه فهي :

أ ـ تضارب الحزبية فيه :

إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم

١١٥

القائم ، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها ، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به ، فان الدولة لا تلبث أن تلاقي النهاية المحتومة إن عاجلا أو آجلا ، وقد ابتلي الجيش العراقي في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها ، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها ، وهما :

الحزب الاموي :

وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوتات الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية ، والظفر بالمال والسلطان وهم كعمر بن سعد ، وقيس ابن الأشعث ، وعمرو بن حريث ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة ، وكانوا أهم عنصر مخيف فى الجيش ، فقد وعدوا معاوية باغتيال الامام أو بتسليمه له أسيرا كما قاموا بدورهم باعمال بالغة الخطورة وهي :

1 ـ إنهم سجلوا كل ظاهرة أو بادرة فى الجيش فارسلوها الى معاوية للاطلاع عليها.

2 ـ كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.

3 ـ قاموا بنشر الأراجيف والارهاب فى نفوس الجيش بقوة معاوية وضعف الحسن.

وأدت هذه الأعمال الى انهيار الجيش ، وزعزعة كيانه ، وضعف معنوياته في جميع المجالات.

١١٦

الحزب الحروري :

وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم ، ومحاربته بجميع الوسائل ، وقد انتشرت مبادئه في الجيش العراقي انتشارا هائلا لأن المبشرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابلياتهم بقوله : « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع »(1) ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثر يهم في النفوس بقوله : « إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كل من خالطهم »(2) وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به « لا حكم إلا لله » ولم يقصد بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن(3)

لقد قضت خطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتم إليهم وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عسر عليهم مقاومتهم. وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية لأنها قد وترتهم بأعلامهم ، وقضت على الكثيرين منهم فى واقعة النهروان ، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم ، كما اغتالوا الإمام الحسن (ع) وطعنوه في فخذه ، وحكموا بتكفيره ، وكانت كمية هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نصت بعض المصادر أن أكثرية الجيش

__________________

(1) اليراع : القصب.

(2) الطبري 6 / 109.

(3) السيادة العربية ص 69.

١١٧

كانت من الخوارج(1) .

وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش ، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء ، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة منه كان موقفها موقفا سلبيا في قضية الإمام الحسن (ع) لأنها لا تفقه الأهداف الأصيلة التي ينشدها الامام ، ولضيق تفكيرها ترى أن الامام كل من ارتقى دست الحكم من أي طريق كان فالحسن ومعاويه سيان ، وإن حارب الحسن معاوية على الدين ، وحارب معاوية الحسن على الدنيا.

ولم يعد بعد ذلك من يناصر الحكومة الهاشمية ، ويقف الى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحجر ابن عدي ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (ع) وهم الأقلية عددا كما قال الله تعالى « وقليل ما هم » وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها فانهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الامام أمير المؤمنين على قبول التحكيم ولما التجأ الامام الحسن الى الصلح.

ب ـ السأم من الحرب :

ان من طبيعة الكوفة التي جبلت عليها نفوس أهلها السأم والملل « ولا رأي لملول » ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته وهما :

__________________

(1) أعيان الشيعة 4 / 42.

١١٨

1 ـ الحروب المتتالية :

ومما سبب شيوع الملل والسأم فى نفوس الجيش العراقي الحروب المتتالية فان الدولة كانت تستعمله فى الفتوحات والدفاع عنها ، وزاد في ضعف أعصابه وانهياره حرب صفين والنهروان ، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويؤثرون السلم ويحبون العافية.

2 ـ اليأس من الغنائم :

ولم يربح الجيش العراقي في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال ، لأن الامام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار فيقسم غنائمهم على المسلمين ، وإنما أمر بارجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة(1) وقد علم الجيش أن الامام الحسن (ع) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه ، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية فاعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.

إن كراهية الجيش العراقي للحرب وإيثاره للعافية لم يكن ناشئا في « مسكن » وإنما كان عقيب رفع المصاحف وواقعة النهروان فقد خلد بجميع كتائبه إلى السلم ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب صورا من الاعتداءات الغادرة التي قامت بها قوات معاوية على الحدود العراقية وغزوهم لمدن العراق ، وترويعهم للآمنين ، وقتلهم الأبرياء ، وهم متخاذلون متقاعسون عن ردها لا تحركهم العواطف الدينية ولا يهزهم الشعور الانساني لدفع الضيم والذل عنهم ، يأمرهم الامام أمير المؤمنين بالجهاد فلا يطيعونه ، ويدعوهم إلى مناصرته فلم يستجيبوا له ، وقد ترك ذلك أسى مريرا وشجى مقيما في نفسه ، وقد اندفع فى كثير من خطبه إلى انتقاصهم وذمهم يقول (ع) :

__________________

(1) علي وبنوه ص 55.

١١٩

« لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ».

ويستمر في تقريعه ولومه لهم ، وإبداء تأثره على تخاذلهم ونكوصهم عن الحرب فيقول :

« وما أنتم بركن يمال بكم ، وأيم الله إني لأظن أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت قد انفرجتم من ابن أبي طالب انفراج الرأس ».

ويصف (ع) فى خطاب آخر عدم اندفاعهم للجهاد في سبيل الله ، ومدى محنته وبلائه فيهم فيقول :

« ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدء فمنهم الآتي كرها ، ومنهم المعتل كاذبا. ومنهم القاعد خاذلا ، واسأل الله أن يجعل منهم فرجا عاجلا والله لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة لا حببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا »(1) .

ويقول (ع) في خطاب آخر له :

« المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل(2) أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم! ما دواؤكم

__________________

(1) النهج محمد عبده 3 / 67.

(2) الأفوق من السهام : مكسور الفوق وهو موضع الوتر من السهم ، الناصل : العاري عن النصل أي : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137