قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 25%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54698 / تحميل: 7790
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقد أخرج نعيم بن حماد بسنده عن علي عليه السلام انه قال: «المهدي رجل منّا من ولد فاطمة»(1) كما اخرج عن الزهري انه قال: «المهدي من ولد فاطمة»(2) ، وعن كعب مثله أيضاً(3) .

هذا، وقد ورد حديث جامع لمعظم الاخبار المتقدمة، وهو المروي عن قتادة، - كما تقدم - قال: قلت لسعيد: أحقٌ المهدي؟ قال: نعم هو حق. قلت: ممن هو؟ قال: من قريش، قلت: من أي قريش؟ قال: من بني هاشم. قلت: من أي بني هاشم؟ قال: من ولد عبد المطلب. قلت: من أي ولد عبدالمطلب؟ قال: من أولاد فاطمة(4) .

وعلى الرغم من الاقتراب بهذه النتيجة من جواب السؤال: مَنْ هو المهدي الموعود المنتظر؟ إلاّ أنَّ العائق ما يزال موجوداً في تشخيص نسبه الشريف بنحو لايقبل الترديد بين أولاد فاطمة عليها السلام، لوضوح أنّ هذا النسب - بهذا الاطلاق - ينتهي إلى السبطين الحسن والحسين عليهما السلام.

ولهذا فنحن أمام احتمالات ثلاثة وهي:

الاَول: أن يكون المهدي من أولاد الاِمام الحسن السبط عليه السلام.

الثاني: أن يكون من أولاد الاِمام الحسين السبط عليه السلام.

الثالث: أن يكون من أولاد السبطين معاً.

أما الاحتمال الثالث فلا يحتاج قبوله أو ردّه أكثر من النظر في نتائج البحث في الاخبار المؤيدة للاحتمالين الاَولين.

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1117، وعنه في كنز العمال 14: 591/39675.

(2) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1114 وعنه في التشريف بالمنن: 176/237 باب 189.

(3) الفتن لنعيم بن حماد 1: 374/1112، وعنه في التشريف بالمنن: 157/202 باب 163.

(4) عقد الدرر: 44 من الباب الاول، والفتن لنعيم بن حماد 1: 368 - 369/1082، وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 157/201 باب 163.

٦١

وأما فرض احتمال رابع، وهو: كون المهدي من أولاد غير السبطين، فهو باطل بالضرورة وغير معقول في نفسه؛ لثبوت صحة أحاديث المهدي وتواترها بخصوص كونه من أهل البيت عليهم السلام، ومن ولد فاطمة عليها السلام.

اذن لم يبقَ سوى التحقيق في مثبتات الاحتمالين الاَولين. ويجب التنبيه قبل ذلك إلى أنه: لو ثبت كذب ما يؤيد الاحتمال الاَول، فلا نحتاج أصلاً إلى التحقيق في مثبتات الاحتمال الثاني، اذ سيصدق بالضرورة، ويكون هو المتيقن، المقطوع به، المطابق للواقع، لما مرَّ من استحالة كذب الاحتمالين معاً؛ لهذا سوف نستفرغ الوسع بدراسة وتحقيق مثبتات الاحتمال الاَول، فنقول:

حديث المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام:

لم أجد مايدل على ان المهدي الموعود المنتظر هو من ولد الاِمام الحسن عليه السلام في كتب أهل السنة غير حديث واحد فقط وربما لايوجد في تراث الاِسلام حديث غيره، وهو ما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه، واليك نصه:

قال: « حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال علي رضي الله عنه - ونظر إلى ابنه الحسن - فقال: ( إنّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولايشبهه في الخَلْق).

ثم ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً »(1) انتهى بعين لفظه.

____________

(1) سنن أبي داود 4: 108/4290، وأخرجه عنه في جامع الاَصول 11: 49 - 50/7814، وكنز العمال 13: 647/37636، كما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن 1: 374 - 375/1113.

٦٢

بطلان الحديث من سبعة وجوه:

من دراسة سند الحديث ومتنه، ومقارنة ذلك بأحاديث كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام، يطمئن الباحث بوضعه، وذلك من سبعة وجوه وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:

الوجه الاَوّل: اختلاف النقل عن أبي داود في هذا الحديث، فقد أورد الجزري الشافعي (ت/833 هـ) هذا الحديث بسنده عن أبي داود نفسه وفيه اسم: (الحسين) مكان (الحسن)، فقال: « والاَصح انه من ذرية الحسين بن علي لنصّ أمير المؤمنين علي على ذلك، فيما أخبرنا به شيخنا المسند رحلة زمانه عمر بن الحسن الرّقي قراءة عليه، قال: أنبأنا أبو الحسن بن البخاري، أنبأنا عمر بن محمد الدارقزي، أنبأنا أبو البدر الكرخي، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أنبأنا أبو عمر الهاشمي، أنبأنا أبو علي اللؤلؤي، أنبأنا أبو داود الحافظ قال: حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي اسحاق قال: قال علي عليه السلام - ونظر إلى ابنه الحسين - فقال: « إنَّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق، ولايشبهه في الخَلْق ». ثم ذكر قصة يملأ الاَرض عدلاً.

هكذا رواه أبو داود في سننه وسكت عنه »(1) ، انتهى بعين لفظه.

وأخرجه المقدسي الشافعي في عقد الدرر ص 45 من الباب الاَول، وفيه اسم: (الحسن)، وأشار محققه في هامشه إلى نسخة باسم: (الحسين)

____________

(1) اسمى المناقب في تهذيب اسنى المطالب/الجزري الدمشقي الشافعي: 165 - 168/61.

٦٣

ويؤيد وجود هذه النسخة نقل السيد صدر الدين الصدر عنها إذ أورد الحديث عن عقد الدرر وفيه اسم: (الحسين)(1) .

وهذا الاختلاف ينفي الوثوق بترجيح أحد الاسمين ما لم يعتضد بدليل من خارج الحديث، وهو مفقود في ترجيح (الحسن) ومتوفر في (الحسين).

الوجه الثاني: سند الحديث منقطع لاَنّ من رواه عن علي عليه السلام هو أبو إسحاق والمراد به السبيعي، وهو ممن لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن علي عليه السلام كما صرح بهذا المنذري في شرح هذا الحديث(2) ، وقد كان عمره يوم شهادة أمير المؤمنين عليه السلام سبع سنين؛ لاَنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان في قول ابن حجر(3) .

الوجه الثالث: إن سنده مجهول أيضاً؛ لاَن أبا داود قال: (حُدِّثت عن هارون بن المغيرة) ولايُعْلَم من الذي حدّثه، ولا عِبرة في الحديث المجهول اتفاقاً.

الوجه الرابع: ان الحديث المذكور أخرجه أبو صالح السليلي - وهو من أعلام أهل السنة - بسنده عن الاِمام موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد الصادق، عن جده علي بن الحسين، عن جده علي بن أبي طالب عليهم السلام، وفيه اسم: (الحسين) لا: (الحسن) عليهما السلام(4) .

الوجه الخامس: انه معارض بأحاديث كثيرة من طرق أهل السنة تصرح بأنّ المهدي من ولد الاِمام الحسين منها حديث حذيفة بن اليمان

____________

(1) المهدي/السيد صدر الدين الصدر: 68.

(2) مختصر سنن أبي داود/المنذري 6: 162/4121.

(3) تهذيب التهذيب 8: 56/100.

(4) التشريف بالمنن للسيد ابن طاووس: 285/413 ب 76، أخرجه عن فتن السليلي باختلاف يسير.

٦٤

قال: « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرنا بما هو كائن، ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطول الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي، اسمه اسمي. فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! من أي ولدك؟ قال: من ولدي هذا، وضرب بيده على الحسين »(1) .

الوجه السادس: احتمال التصحيف في الاسم من (الحسين) إلى (الحسن) في حديث أبي داود غير مستبعد بقرينة اختلاف النقل، ومع عكس الاحتمال فإنه خبر واحد لايقاوم المتواتر كما سنفصله في محلّه.

الوجه السابع: يحتمل قوياً وضع الحديث لما فيه من العلل المتقدمة، ويؤيد هذا الاحتمال أن الحسنيّين وأتباعهم وأنصارهم زعموا مهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى ابن الاِمام الحسن السبط عليه السلام، الذي قتل سنة (451 هـ) في زمن المنصور العباسي، نظير ما حصل - بعد ذلك - من قبل العباسيين وأتباعهم في ادعاء مهدوية محمد بن عبدالله المنصور الخليفة العباسي الملقب بالمهدي (158 - 169 هـ) لما في ذلك من تحقيق اهداف ومصالح سياسية كبيرة لايمكن الوصول اليها بسهولة من غير هذا الطريق المختصر.

____________

(1) المنار المنيف لابن القيم: 148/329 فصل/50، عن الطبراني في الاوسط، عقد الدرر: 45 من الباب الاَول وفيه: (أخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي)، ذخائر العقبى/المحب الطبري: 136، وفيه: (فيحمل ماورد مطلقاً فيما تقدم على هذا المقيد)، فرائد السمطين 2: 325/575 باب/61، القول المختصر لابن حجر: 7/37 باب/1، فرائد فوائد الفكر: 2 باب/1، السيرة الحلبية 1: 193، ينابيع المودة 3: 63 باب/94، وهناك أحاديث أُخرى بهذا الخصوص في مقتل الاِمام الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي 1: 196، وفرائد السمطين 2: 310 - 315/الاحاديث 561 - 569، وينابيع المودة 3: 170/212 باب 93 وباب 94.

ومن مصادر الشيعة أُنظر: كشف الغمة 3: 259، وكشف اليقين: 117، واثبات الهداة 3: 617/174 باب 32، وحلية الابرار 2: 701/54 باب/41، وغاية المرام: 694/17 باب/141، وفي منتخب الاَثر الشيء الكثير من تلك الاحاديث المخرجه من طرق الفريقين، فراجع.

٦٥

الحديث غير معارض لاَحاديث: المهدي من ولد الحسين عليه السلام:

مع فرض صحة الحديث - على الرغم مماتقدم فيه - فإنّه لاتعارض بينه وبين الاحاديث الاُخرى المصرحة بكون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام ويمكن الجمع بينه وبينها، بأن يكون الاِمام المهدي عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم؛ وذلك لاَنّ زوجة الاِمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أُم الاِمام الباقر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام هي فاطمة بنت الاِمام الحسن المجتبى عليه السلام.

وعلى هذا يكون الاِمام الباقر عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم، وذريته تكون من ذرية السبطين حقيقة.

وهذا الجمع له مايؤيده من القرآن الكريم قال تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيـسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الانعام: 6/84 - 85.

فعيسى عليه السلام أُلحق بذراري الانبياء من جهة مريم عليها السلام، فلا مانع اذن في ان تُلحق ذرية الإمام الباقر بالامام الحسن السبط من جهة الاُم كما أُلحق السبطان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة فاطمة الزهراء عليها السلام.

وهذا الجمع بين الاخبار لاينبغي الشك فيه مع افتراض صحة حديث أبي داود وان كان مخالفاً للصحة من كل وجه كما تقدم.

وإلى هنا اتضح لنا أن الاحتمال الثاني - أعني كون الاِمام المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام - لم يكن مجرد احتمال، وإنما هو الواقع بعينه، سواء قلنا بصحة حديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام أو لم نقل بذلك.

أمّا مع فرض القول بصحة الحديث، فلا تعارض بينه وبين أحاديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام، بل هو مؤيد لها كما تقدم.

وأمّا مع القول بعدم صحته - وهو الحق لما تقدم في الوجوه السبعة

٦٦

- فالحال أوضح من أن يحتاج إلى بيان؛ لما قلناه سابقاً من أن إثبات بطلان أحد الاحتمالين يعني القطع بمطابقة الآخر للواقع لاستحالة بطلانهما معاً، إذ المتيقن هو كون المهدي الموعود من ولد فاطمة عليها السلام حقاً.

ما ورد معارضاً لكون المهدي من أولاد الحسين عليه السلام:

لقد اتضح من خلال البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، أنه لابدّ وأن يكون من أولاد الاِمام الحسين عليه السلام، وقبل بيان مثبتات هذه النتيجة - التي يترتب عليها اعتقاد الشيعة الامامية بأنّ المهدي هو التاسع من صلب الاِمام الحسين عليه السلام، وأنه قد وُلد حقاً وهو محمد بن الحسن العسكري عليه السلام، لا بدّ من التوقف برهة مع ما ورد معارضاً لذلك في لسان بعض الروايات - من طريق أهل السنّة - التي عينت اسم أبي المهدي بـ: (عبدالله)، مما نجم عنها اعتقاد بعضهم بأنّ المهدي هو محمد بن عبدالله، وأنه لم يولد بعد، وإنما سيولد قبيل ظهوره في آخر الزمان.

ولما كان التواتر حاصلاً لمهديٍّ واحد، فلابدّ وأن يكون أحد الفريقين ينتظر مهدياً لا واقع له، وهذا ما يستدعي وجوب مراجعة كل فريق لاَدلّته بمنظار أنها خطأ يحتمل الصواب، والنظر لما عند الآخر باعتبار انه صواب يحتمل الخطأ، وهذا وإن عزّ، فلا يعدم عند من يسعى لادراك الصواب - قبل فوات الاَوان - أينما كان.

ولاَجل معرفة الصحيح في اسم أبي المهدي أهو: عبدالله، أو الحسن؟ نقول:

أحاديث: «اسم أبيه اسم أبي» (عبدالله):

نودُّ الاشارة قبل دراسة هذه الاَحاديث إلى أنّ بعض علماء الشيعة

٦٧

أوردوا بعضها، لا إيماناً بها، لمخالفتها لاُصول مذهبهم، وإنما لاَمانتهم في نقلها من كتب أهل السنة دون تحريف أو حذف؛ إمّا لاِمكان تأويلها بما لايتعارض وأُصول المذهب، وإمّا للبرهنة على الاَمانة في النقل، وإيقاف المسلمين على مناقشاتهم لها، وهي:

1 - الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني، والحاكم، كلّهم من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لاتذهب الدنيا حتى يبعث الله رجلاً يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

2 - الحديث الذي أخرجه أبو عمرو الداني، والخطيب البغدادي كلاهما من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يملك الناس رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(2) .

3 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد، والخطيب، وابن حجر، كلهم من طريق عاصم أيضاً، عن زرّ، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: «المهدي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(3) .

4 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد بسنده عن أبي الطفيل قال:

____________

(1) المصنف لابن أبي شيبة 15: 198/19493، المعجم الكبير للطبراني 10: 163/10213 و 10: 166/10222، مستدرك الحاكم 4: 442. وأورده من الشيعة المجلسي في بحار الانوار 51: 82/21، عن كشف الغمة للاربلي 3: 261، والاخير نقله عن كتاب الاربعين لابي نعيم.

(2) سنن أبي عمرو الداني: 94 - 95، تاريخ بغداد 1: 370 ولم يروه احد من الشيعة.

(3) تاريخ بغداد 5: 391، كتاب الفتن لنعيم بن حماد 1: 367/1076 و 1077 وفيه يقول ابن حماد: «وسمعته غير مرّة لايذكر اسم ابيه»، وأخرجه في كنز العمال 14: 268/38678 عن ابن عساكر، ونقله السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن 156/196 و 197 باب/163 عن فتن ابن حماد، كما أورده ابن حجر في القول المختصر: 40/4 مرسلاً.

٦٨

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهدي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

حقيقة هذا التعارض وبيان قيمته العلمية:

هذه هي الاَحاديث التي جعلت مبرراً لاختيار (محمد بن عبدالله) كمهديٍّ في آخر الزمان، وكلها لاتصحّ حجة ومبرراً لهذا الاختيار. وقد علمت أن الثلاثة الاُولى منها كلّها تنتهي إلى ابن مسعود من طريق واحد وهو طريق عاصم بن أبي النجود. وسوف يأتي ما في هذا الطريق مفصّلاً.

وأما الحديث الرابع، فسنده ضعيف بالاتفاق اذ وقع فيه رِشْدِينُ بن سعد المهري وهو: رِشْدِينُ بن أبي رِشْدِين المتّفق على ضعفه بين أرباب علم الرجال من أهل السُنّة.

فعن أحمد بن حنبل: أنه ليس يبالي عمّن روى، وقال حرب بن إسماعيل: « سألت أحمد بن حنبل عنه، فضعّفه »، وعن يحيى بن معين: لا يكتب حديثه. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال الجوزجاني: عنده معاضيل، ومناكير كثيرة، وقال النسائي: متروك الحديث لا يُكتَب حديثه.

وبالجملة فإنّي لم أجد أحداً وثّقه قطّ إلاّ هيثم بن ناجة فقد وثّقه وكان أحمد بن حنبل حاضراً في المجلس، فتبسّم ضاحكاً، وهذا يدلّك على تسالمهم على ضعفه(2) .

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 368/1080 وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 257/200.

(2) راجع: تهذيب الكمال 9: 191/1911، وتهذيب التهذيب 3: 240 ففيهما جميع ماذكر بحق رِشْدِين بن أبي رِشْدِين.

٦٩

ولا شك، أنَّ من كان حاله كلما عرفت فلا يؤخذ عنه مثل هذا الامر الخطير.

وأما الاَحاديث الثلاثة الاُولى، فهي ليست بحجة من كل وجه، ومما يوجب وهنها وردها هو ان عبارة: (واسم أبيه اسم أبي) لم يروها كبار الحفّاظ والمحدّثين، بل الثابت عنهم رواية: (واسمه اسمي) فقط من دون هذه العبارة كما سنبرهن عليه، هذا مع تصريح بعض العلماء من أهل السنة الذين تتبعوا طرق عاصم بن أبي النجود بأن هذه الزيادة ليست فيها، كما سيأتي مفصلاً.

ومن ثم، فإن إسناد هذه الاَحاديث الثلاثة ينتهي إلى ابن مسعود فقط، بينما المروي عن ابن مسعود نفسه كما في مسند أحمد - وفي عدة مواضع - (واسمه اسمي) فقط(1) ، وكذلك الحال عند الترمذي فقد روى هذا الحديث من دون هذه العبارة، مشيراً إلى أنّ المروي عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة هو بهذا اللفظ (واسمه اسمي) ثم قال - بعد رواية الحديث عن أبن مسعود بهذا اللفظ -: (وفي الباب: عن علي، وأبي سعيد، وأُم سلمة، وأبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح »(2)

وهكذا عند أكثر الحفاظ، فالطبراني مثلاًأخرج الحديث عن ابن مسعود نفسه من طرق أُخرى كثيرة، وبلفظ: ( اسمه اسمي )، كما في أحاديث معجمه الكبير المرقمة: 10214 و10215 و10217 و10218 و10219 و10220 و10221 و10223 و10225 و10226 و10227 و10229 و10230.

____________

(1) مسند أحمد 1: 376 و 377 و 430 و 448.

(2) سنن الترمذي 4: 505/2230.

٧٠

وكذلك الحاكم في مستدركه أخرج الحديث عن ابن مسعود بلفظ: (يواطئ اسمه اسمي) فقط، ثم قال: « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(1) وتابعه على ذلك الذهبي، وكذلك نجد البغوي في مصابيح السنّة يروي الحديث عن ابن مسعود من دون هذه الزيادة مع التصريح بحسن الحديث(2) .

وقد صرح المقدسي الشافعي بأن تلك الزيادة لم يروها أئمة الحديث، فقال - بعد أن أورد الحديث عن ابن مسعود بدون هذه الزيادة -: « أخرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم، منهم الاِمام أبو عيسى الترمذي في جامعه، والاِمام أبو داود في سننه، والحافظ أبو بكر البيهقي، والشيخ أبو عمرو الداني، كلهم هكذا »(3) أي: ليس فيه: (واسم أبيه اسم أبي) ثم أخرج جملة من الاَحاديث المؤيدة لذلك مشيراً إلى من أخرجها من الاَئمة الحفاظ كالطبراني، وأحمد بن حنبل، والترمذي، وأبي داود، والحافظ أبي داود، والبيهقي، عن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر، وحذيفة.(4)

هذا زيادة على ما مرّ من اشارة الترمذي إلى تخريجها عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة؛ كلهم بلفظ: (واسمه اسمي) فقط.

ولا يمكن تعقّل اتفاق هؤلاء الاَئمة الحفاظ بإسقاط هذه الزيادة (واسم أبيه اسم أبي) لو كانت مروية حقاً عن ابن مسعود مع أنّهم رووها من طريق عاصم بن أبي النجود، بل ويستحيل تصور إسقاطهم لها لما فيها من أهمية

____________

(1) مستدرك الحاكم 4: 442.

(2) مصابيح السنة 492/4210.

(3) عقد الدرر: 51/باب 2.

(4) عقد الدرر: 51 - 56/باب 2.

٧١

بالغة في النقض على مايدعيه الطرف الآخر.

ومن هنا يتضح أنّ تلك الزيادة قد زيدت على حديث ابن مسعود من طريق عاصم إما من قِبَل أتباع الحسنيين وأنصارهم ترويجاً لمهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى، أو من قبل أتباع العباسيين ومؤيديهم في ما زعموا بمهدوية محمد بن عبدالله - أبي جعفر - المنصور العباسي.

وقد يتأكد هذا الوضع فيما لو علمنا بأنّ الاَول منهما كانت رتّة في لسانه، مما اضطر أنصاره على الكذب على أبي هريرة، فحدّثوا عنه أنه قال: « إن المهدي اسمه محمد بن عبدالله في لسانه رتّة »(1) .

ولما كانت الاَحاديث الثلاثة الاُولى من رواية عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش عن عبدالله بن مسعود، مخالفة لما أخرجه الحفاظ عن عاصم من أحاديث في المهدي - كما مر -، فقد تابع الحافظ أبو نعيم الاَصبهاني (ت/430هـ) في كتابه (مناقب المهدي) طرق هذا الحديث عن عاصم حتى أوصلها إلى واحد وثلاثين طريقاً، ولم يُرْوَ في واحد منها عبارة (واسم ابيه اسم أبي) بل اتفقت كلها على رواية (واسمه اسمي) فقط. وقد نقل نص كلامه الكنجي الشافعي (ت/638 هـ) ثم عقّب عليه بقوله: «ورواه غير عاصم، عن زر، وهو عمرو بن حرة، عن زر كل هؤلاء رووا (اسمه اسمي) إلاّ ما كان من عبيد الله بن موسى، عن زائدة، عن عاصم، فإنّه قال فيه: (واسم أبيه اسم أبي). ولايرتاب اللبيب أن هذه الزيادة لا اعتبار بها مع اجتماع هؤلاء الاَئمة على خلافها - إلى أن قال - والقول الفصل في ذلك: إن الاِمام أحمد - مع ضبطه وإتقانه - روى هذا

____________

(1) هذا الحديث الموضوع منقول في معجم أحاديث الاِمام المهدي عن مقاتل الطالبيين: 163 - 164.

٧٢

الحديث في مسنده [ في ] عدة مواضع: واسمه اسمي»(1) .

ومن هنا يُعلم أنّ حديث: (.. واسم أبيه اسم أبي) فيه من الوهن ما لايمكن الاعتماد عليه في تشخيص اسم والد المهدي المباشر.

وعليه، فان من ينتظر مهديّاً باسم (محمد بن عبدالله) إنما هو في الواقع - وعلى طبق ما في التراث الاسلامي من أخبار - ينتظر سراباً يحسبه الضمآن ماء.

ولهذا نجد الاستاذ الاَزهري سعد محمد حسن يصرّح بأن أحاديث (اسم أبيه اسم أبي) أحاديث موضوعة، ولكن الطريف في تصريحه أنّه نسب الوضع إلى الشيعة الامامية لتؤيد بها وجهة نظرها على حد تعبيره(2) !!

ويتضح مما تقدم أنَّ نتيجة البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، قد انتهت إلى كونه من ولد الاِمام الحسين عليه السلام؛ لضعف سائر الاَحاديث التي وردت مخالفة لتلك النتيجة، مع عدم وجود أية قرينة تشهد بصحة تلك الاَحاديث، بل توفرت القرائن الدالة على اختلاقها.

واذا عدنا الى نتيجة البحث في الطوائف المتقدمة نجدها مؤيدة بما تواتر نقله عند المسلمين.

مؤيدات كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام

هناك أحاديث كثيرة عند الشيعة الامامية عيّنت الاَئمة الاثني عشر بأسمائهم واحداً بعد آخر ابتداءً بالامام علي وانتهاء بالمهدي عليهم السلام، مع مجموعة من الاَحاديث في تعيين كل إمام لاحق بنصّ من الاِمام السابق.بق.بق.

____________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان/الكنجي الشافعي: 482.

(2) المهدية في الاِسلام/الاستاذ الازهري سعد محمد حسن: 69.

٧٣

وأُخرى عند أهل السنة مصرحة بعدد الاَئمة تارة كما في الصحاح، ومشخصة لاَسمائهم كما في كتب المناقب وغيرها وإلى جانب هذا توجد جملة من الاَحاديث المتّفق على صحّتها تدلّ على حياة المهدي ما بقي في الناس اثنان، وهذا لايتمّ إلاّ بتقدير كونه التاسع من ولد الاِمام الحسين عليه السلام. وسوف لن نذكر من تلك الاحاديث إلاّ ما احتُجَّ به في كتب الفريقين.

حديث الثقلين:

مما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتقل إلى الرفيق الاَعلى والسنة لم تدوّن بكل تفاصيلها في عهده، وهو منزّه عن التفريط برسالته المحكوم ببقائها إلى يوم القيامة، ومنزّه أيضاً عن إهمال أُمته مع نهاية رأفته بهم وشفقته عليهم، فكيف يوكلهم إلى القرآن الكريم وحده مع ما فيه من محكم ومتشابه، ومجمل ومفصّل، وناسخ ومنسوخ، فضلاً عمّا في آياته من وجوه ومحامل استخدمت للتدليل على صحة الآراء المتباينة كما نحسّ ونلمس عند أرباب المذاهب والفرق الاسلامية.

هذا، مع علمه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قد كُذِب عليه في حياته فكيف الحال إذن بعد وفاته، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتخذ بكتب الدراية مثالاً على التواتر اللفظي: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

فمن غير المعقول إذن أن يدع النبي شريعته مسرحاً لاجتهادات الآخرين من دون أن يحدد لهم مرجعاً يعلم ما في القرآن حق علمه، وتكون السنة معلومة بكل تفاصيلها عنده.

وهذا هو القدر المنسجم مع طبيعة صيانة الرسالة، وحفظها، ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقاً في الحياة.

٧٤

ومن هنا تتضح أهمية حديث الثقلين (القرآن والعترة)، وقيمة إرجاع الاَمّة فيه إلى العترة لاَخذ الدين الحق عنهم، كما تتضح أسباب التأكيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرقة، منها في يوم الغدير، وآخرها في مرضه الاَخير.

فعن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كأنني قد دُعِيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن. من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(1) .

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2) ، هذا فضلاً عن تأكيده صلى الله عليه وآله وسلم المستمر على الاقتداء بعترته أهل بيته، والاهتداء بهديهم، والتحذير من مخالفتهم، وذلك بجعلهم تارة كسفن للنجاة، وأُخرى أماناً للاُمّة، وثالثة كباب حطّة.

وفي الواقع لم يكن الصحابة بحاجة إلى سؤال واستفسار من النبي لتشخيص المراد بأهل البيت، وهم يرونه وقد خرج للمباهلة وليس معه غير أصحاب الكساء وهو يقول: «اللّهم هؤلاء أهلي» وهم من أكبر الناس معرفة بخصائص هذا الكلام، وإدراكاً لما ينطوي عليه من قصر

____________

(1) مستدرك الحاكم 3: 109.

(2) سنن الترمذي 5: 662/3786، وحديث الثقلين قد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً، وبلغ عدد رواته عبر القرون المئات. راجع حديث الثقلين تواتره، فقهه، للسيد علي الحسيني الميلاني: 47 - 51. فقد ذكر فيه بعض الرواة وفيه الكفاية.

٧٥

واختصاص. وإلا فتسعة أشهر وهي المدّة التي أخبر عنها ابن عباس في وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة صباح كل يوم وهو يقرأ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) كافية لاَن يعرف الجميع من هم أهل البيت عليهم السلام.

ومع هذا فلا معنى لسؤالهم واستفسارهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّن يعصموا الاُمّة بعده من الضلالة إلى يوم القيامة فيما لو تمسكت بهم مع القرآن.

فحاجة الاُمّة - والصحابة أيضاً - ليس أكثر من تشخيص أولهم ليكون المرجع للقيام بمهمته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يأخذ دوره في عصمة الاُمّة من الضلالة، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمة، وهكذا حتى يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن على النبي الحوض.

وإذا علمت أن علياً عليه السلام قد تعيّن بنصوص لاتحصى، ومنها في حديث الثقلين نفسه، فليس من الضروري إذن أن يتولّى النبي بنفسه تعيين من يلي أمر الاُمّة باسمه في كل عصر وجيل، إن لم نقل إنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

فالقياس إذن في معرفة إمام كل عصر وجيل: إمّا أن يكون بتعيينهم دفعة واحدة، أو بنص السابق على إمامة اللاحق وهو المقياس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الاَنبياء والاَوصياء عليهم السلام، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا.

وإذا ما عدنا إلى واقع أهل البيت عليهم السلام نجد النصّ قد توفر على إمامتهم بكلا طريقيه، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوكهم علم يقيناً بأنهم ادعوا لانفسهم الاِمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما

____________

(1) الاحزاب: 33/33. وانظر روايات وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة وهو يقرأ الآية في تفسير الطبري: 22/6.

٧٦

اتخذهم الملايين من أتباعهم أئمة وقادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمانهم، مع إرشاد كل إمام أتباعه على من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، وعلى هذا جرت سيرتهم، فكانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة، وفي سوح الجهاد تارة أُخرى وعلى أيدي القائمين بالحكم أنفسهم.

ثم لو فرض أنّ أحدهم لم يعيّن لاَتباعه من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، مع فرض توقف النص عليه، فإنّ معنى ذلك بقاء ذلك الاِمام خالداً مع القرآن في كل عصر وجيل؛ لاَنّ دلالة «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» على استمرار وجود إمام من العترة في كل عصر كاستمرار وجود القرآن الكريم ظاهرة واضحة، ولهذا ذهب ابن حجر إلى القول: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لاَهل الاَرض، ويشهد لذلك الخبر:«في كلِّ خَلَفٍ من أُمتي عدول من أهل بيتي»(1) .

حديث: (من مات ولم يعرف إمام زمانه):

سُجّل هذا الحديث - بألفاظٍ مختلفةٍ وكلّها ترجع إلى معنىً واحدٍ ومقصدٍ فارد -: في أُمهات كتب الحديث السنية والشيعية، ويكفي على ذلك اتفاق البخاري ومسلم - من أهل السنة - على روايتهايتهايته(2) ، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفار - من الشيعة الاِمامية - على

____________

(1) الصواعق المحرقة: 149.

(2) صحيح البخاري 5: 13 باب الفتن، صحيح مسلم 6: 21 - 22/1849.

٧٧

روايته أيضاً(1) ، وقد أخرجه كثيرون بطرق لا طاقة على استقصائها(2) .

اذن الحديث مما لامجال لاحد ان يناقش في سنده، وان توهم الشيخ أبو زهرة فعدّه من روايات الكافي فحسب!(3) .

والحديث كما ترى في تخريجه لايبعد القول بتواتره، وهو لايحتمل التأويل ولاصرف دلالته الواضحة على وجوب معرفة الاِمام الحق على كل مسلم ومسلمة، وإلاّ فإنّ مصيره ينذر بنهاية مهولة.

ومن ادعى ان المراد بالامام الذي من لايعرفه سيموت ميتة جاهلية هو السلطان أو الحاكم، أو الملك، ونحو ذلك وان كان فاسقاً ظالماً!! فعليه ان يثبت بالدليل ان معرفة الظالم الفاسق من الدين أولاً، وان يبين للعقلاء الثمرة المترتبة على وجوب معرفة الظالم الفاسق بحيث يكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية.

وعلى أية حال، فالحديث يدل على وجود امام حق في كل عصر وجيل، وهذا لايتم إلاّ مع القول بوجود الاِمام المهدي الذي هو حق ومن ولد فاطمة عليها السلام كما تقدم. ومما يؤيده:

____________

(1) أُصول الكافي 1: 303/5 و 1: 308/1 - 3 و 1: 378/2، وروضة الكافي 8: 129/123، كمال الدين 2: 412 - 413/10 و 11 و 12 و 15 باب 39، الاِمامة والتبصرة: 219/69 و 70 و 71، قرب الاسناد: 351/1260، بصائر الدرجات: 259 و 509 و 510.

(2) انظر: مسند احمد 2: 83 و 3: 446 و 4: 96، مسند أبي داود الطيالسي: 259، المعجم الكبير للطبراني 10: 350/10687، مستدرك الحاكم 1: 77، حلية الاولياء 3: 224، الكنى والاسماء 2: 3، سنن البيهقي 8: 156، 157، جامع الاصول 4: 70، شرح صحيح مسلم للنووي 12: 440، تلخيص المستدرك للذهبي 1: 77 و 177، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 218 و 219 و 223 و 225 و312، تفسير ابن كثير 1: 517. كما أخرجه الكشي في رجاله: 235/428 في ترجمة سالم بن أبي حفصة.

(3) الاِمام الصادق/أبو زهرة: 194.

٧٨

حديث: (إنَّ الارض لاتخلو من قائم لله بحجة):

وهذا الحديث قد احتج به الطرفان أيضاً وأوردوه من طرق عدّة(1) .

وقد رواه كميل بن زياد النخعي الجليل الثقة عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في نهج البلاغة، قال عليه السلام - بعد كلام طويل -: «اللّهم بلى! لا تخلو الارض من قائم لله بحجة».

وعدم خلو الارض من قائم لله بحجة لايتم مع فرض عدم ولادة الاِمام المهدي عليه السلام، وقد تنبه لهذا ابن أبي الحديد حتى قال في شرح هذه العبارة: (كي لايخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده، ومسيطر عليهم. وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الامامية، إلاّ أن اصحابنا يحملونه على ان المراد به الابدال)(2) .

وقد فهم ابن حجر العسقلاني منه انه اشارة إلى مهدي أهل البيت عليهم السلام فقال ما نصه: « وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الاُمّة مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الاقوال: ان الاَرض

____________

(1) أورد هذا الحديث الاسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة: 81، وابن قتيبة في عيون الاخبار: 7، واليعقوبي في تاريخه 2: 400، وابن عبد ربه في العقد الفريد 1: 265، وأبو طالب المكي في قوت القلوب في معاملة المحبوب 1: 227، والبيهقي في المحاسن والمساوئ: 40، والخطيب في تاريخه 6: 479 في ترجمة اسحاق النخعي، والخوارزمي الحنفي في المناقب: 13، والرازي في مفاتيح الغيب 2: 192 وابن أبي الحديد في شرح النهج كما سيأتي، وابن عبد البر في المختصر: 12 والتفتازاني في شرح المقاصد 5: 241 وابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

وقد أخرجه الكليني من طرق عن أمير المؤمنين عليه السلام في أُصول الكافي 1: 136/7 و 1: 270/3 و 1: 274/3، والصدوق في كمال الدين 1: 287/4 ب 25 و 1: 289 - 294/2 ب 26 من طرق كثيرة و 1: 10302 ب 26.

(2) شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 18: 351.

٧٩

لاتخلو من قائم لله بحجة)(1) .

أقول: ومما يقرب دلالة العبارة في النهج على الاِمام المهدي هو ما اتصل بها من كلام أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا نصه: «يا كميل بن زياد، ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربانيّ، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق - إلى ان قال عليه السلام - اللّهم بلى! لاتخلو الارض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، واما خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(2) .

ومن هنا جاء في الحديث الصحيح عن الحسين بن أبي العلاء الخفاف قال: «قلت لابي عبدالله عليه السلام: تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا... الحديث»(3) .

واذا ما أضيف هذا إلى حديث الثقلين، وحديث من مات، وحديث (الخلفاء اثنا عشر) الآتي، علم ان الاِمام المهدي لو لم يكن مولوداً حقاً لوجب ان يكون من سبقه حيا إلى قيام الساعة، ولكن لا أحد يقول من المسلمين بحياة امام غير المهدي عليه السلام ثاني عشر أهل البيت وهم من عينت الصحاح عددهم، وبينت كتب المناقب اسماءهم.

أحاديث: (الخلفاء اثنا عشر):

أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي

____________

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

(2) شرح نهج البلاغة/الشيخ محمد عبده 4: 691/85، وشرح ابن أبي الحديد 18: 351.

(3) أُصول الكافي 1: 136/1 باب ان الارض لاتخلو من حجة وسند الحديث هو: «عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء عن الاِمام الصادق عليه السلام».

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قريب الوضع من وضع الروم، فقد كان الاجتماع المدني - وكذا الاجتماع البيتي - عندهم متقوّماً بالرجال، والنساء تبع لهم؛ ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولا فعل إلاّ تحت ولاية الرجال، لكنّهم جميعاً ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإنّ قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال ولا تحكم لهنّ إلاّ بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تُعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تُثاب لحسناتها ولا يراعى جانبها إلاّ بالتبع وتحت ولاية الرجل.

وهذا بعينه من الشواهد الدالّة على أنّ جميع هذه القوانين، ما كانت تراها جزءاً ضعيفاً من المجتمع الإنساني، ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدّر أنّها كالجراثيم المضرّة، مفسدة لمزاج المجتمع مضرّة بصحّتها، غير أنّ للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يُعتنى بشأنها، وتُذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درّها إذا أحسنت أو نفعت، ولا تُترك على حيال إرادتها صوناً من شرّها، كالعدوِّ القويّ الذي يُغلب فيؤخَذ أسيراً مسترقّاً، يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها، وإن جاء بالحسنة لم يُشكر لها.

وهذا الذي سمعته - إنّ الاجتماع كان متقوّماً عندهم بالرجال - هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أنّ الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأنّ بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبنّي والإلحاق بينهم، فإنّ البيت الذي ليس لربّه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب، والنسل مكتوباً عليه الفناء والانقراض، فاضطرّ هؤلاء إلى اتّخاذ أبناء؛ صوناً عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناءً لأنفسهم، فكانوا أبناء رسماً، يرثون ويورثون ويرتّب عليهم آثار الأبناء الصُلبيين، وكان الرجل منهم إذا زعم أنّه عاقر لا يولَد منه

١٠١

ولد، عمد إلى بعض أقاربه، كأخيه وابن أخيه، فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولداً يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته.

وكان الأمر في التزويج والتطليق في اليونان قريباً منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدُّد الزوجات، غير أنّ الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية، والباقية غير رسمية.

- ٤ -

حال المرأة عن العرب ومُحيط حياتهم (محيط نزول القرآن)

وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة، وهي منطقة حارّة جدبة الأرض، والمعظم من أُمّتهم قبائل بدوية، بعيدة عن الحضارة والمدنية، يعيشون بشنّ الغارات، وهم متّصلون بإيران من جانب، وبالروم من جانب، وببلاد الحبشة والسودان من آخر.

ولذلك؛ كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحّش، وربّما وجِد خلالها شيء من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحياناً.

كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالاً في الحياة، ولا حرمة ولا شرافة، إلاّ حرمة البيت وشرافته، وكانت لا تورّث النساء، وكانت تجوِّز تعدُّد الزوجات من غير تحديد بعدد معيّن كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات ابتداء بذلك بنو تميم؛ لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أُسرت فيه عدّة من بناتهم، والقصّة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثمّ سرت السجية في غيرهم، وكانت العرب تتشاءم إذا ولِدت للرجل منهم بنت يعدُّها عاراً لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به، لكن يسرُّه الابن مهما كثر ولو بالدعاء والإلحاق، حتى إنّهم كانوا يتبنُّون الولد لزنا مُحصنة ارتكبوه، وربّما نازع رجال من صناديدهم وأُولي الطول منهم في ولد ادّعاه كل لنفسه.

١٠٢

وربّما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في أمر الازدواج، فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها، فيُشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.

وكيف كان، فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركّبة من معاملة أهل المدنية من الروم وإيران، كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الأمور العامة الاجتماعية، كالحكم والحرب وأمر الازدواج إلاّ استثناءً، ومن معاملة أهل التوحّش والبربرية، فلم يكن حرمانهنّ مستنداً إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القويّ واستخدامه للضعيف.

وأمّا العبادة، فكانوا يعبدون جميعاً (رجالاً ونساءً) أصناماً، يُشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين، أصحاب الكواكب وأرباب الأنواع، وتتميّز أصنامهم بحسب تميّز القبائل وأهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه بزعمهم) ، ويتّخذونها على صور صوّرتها لهم أوهامهم، ومن أشياء مختلفة، كالحجارة والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نُقل عن بني حنيفة، أنّهم اتّخذوا لهم صنماً من الحيس فعبدوه دهراً طويلاً، ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقيل فيهم:

أكلت حنيفة ربَّها

زمن التقحُّم والمجاعة

لم يحذروا من ربِّهم

سوء العواقب والتباعة

وربّما عبدوا حجراً، حتى إذا وجدوا حجراً أحسن منه، طرحوا الأول وأخذوا بالثاني، وإذا لم يجدوا شيئاً جمعوا حفنة من تراب، ثم جاؤوا بغنم فحلبوه عليها، ثمّ طافوا بها يعبدونها.

وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفاً في الفكرة، يُصوّر لها أوهاماً وخرافات عجيبة، في الحوادث والوقائع المختلفة، ضبطتها

١٠٣

كُتب السير والتاريخ.

فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني، من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التامّ، ويستنتج من جميع ذلك:

أولاً: إنّهم كانوا يرونها إنساناً في أُفق الحيوان العُجَم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطّاً، لا يؤمَن شرُّه وفساده لو أُطلق من قيد التبعية، واكتسب الحرّية في حياته، والنظر الأول أنسب لسيرة الأُمم الوحشية والثاني لغيرهم.

وثانياً: إنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركّب غير داخلة فيه، وإنّما هي من شرائطه التي لا غناء عنها، كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنّها كالأسير المسترقِّ الذي هي من توابع المجتمع الغالب، يُنتفع من عمله ولا يؤمَن كيده على اختلاف المسلكين.

وثالثاً: إنّهم كانوا يرون حرمانها من عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها، إلاّ بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيِّمين بأمرها.

ورابعاً: إنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا، هو غلبة القويّ على الضعيف، وبعبارة أُخرى: قريحة الاستخدام، هذا في الأُمم غير المتمدّنة.

وأمّا الأُمم المتمدّنة فيُضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخِلقة، لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمَن شرُّها، وربّما اختلف الأمر اختلاطاً باختلاف الأُمم والأجيال.

١٠٤

- ٥ -

ماذا أبدعه الإسلام في أمرها؟

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان، حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها، وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المُترادفة، بعدما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط، بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أُمّة من الأُمم - وحشيها ومدنيها - إلاّ وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع، من الاستعارة والكناية والتشبيه، مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجَبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويُلام بها المخذول المُستهان والمُستذلِّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليتَ أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئات وألوف من النَّظم والنثر في كل لغة.

وهذا - في نفسه - كافٍ في أن يحصل للباحث ما كان يعتقده المجتمع الإنساني في أمر المرأة، وإن لم يكن هناك ما جمعته كُتب السير والتواريخ من مذاهب الأُمم والمِلل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها ويهمّ بأمرها، إلاّ بعض ما ورد في التوراة، وما وصّى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

وأمّا الإسلام - أعني الدين الحنيف النازل به القرآن - فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بُنية فطرية، عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت

١٠٥

تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً، وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيَّن أنّ المرأة كالرجل إنسان، وأنّ كل إنسان ذكر أو أُنثى، فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر وأُنثى، ولا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى.

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... ) (١) .

فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلّفاً من إنسانين، ذكر وأُنثى، هما معاً، وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو - سواء كان ذكراً أم أنثى - مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما أمّهات الناس أوعية

.....................................

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعد

بل جعل تعالى كُلاّ ًمخلوقاً مؤلّفاً من كل، فعاد الكل أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى: ( ... أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (٢) .

فصرَّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مُضيَّع عند الله، وعلّل ذلك بقوله: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) ، فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: ( ... إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى... ) ، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد

____________________

(١) سورة الحجرات، الآية: ١٣.

(٢) سورة آل عمران، الآية: ١٩٥.

١٠٦

من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بَيّن بذلك أنّ عمل كل واحدٍ من هذين الصنفين غير مُضيّع عند الله، لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنَّ عليهن سيِّئاتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ. وسيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلٍّ منهما ما عمل ولا كرامة إلاّ بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخُلق الحسن، والصبر والحِلم، فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خُلقاً أكرم ذاتاً، وأسمى درجة ممَّن لا يُعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان مَن كان، فلا كرامة إلاّ للتقوى والفضيلة.

وفي معنى الآية السابقة، وأوضح منها قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (١) .

وقوله تعالى: ( ... وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (٣) .

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله، وهو من أبلغ

____________________

(١) سورة النحل، الآية: ٩٧.

(٢) سورة المؤمن، الآية: ٤٠.

(٣) سورة النساء، الآية: ١٢٤.

١٠٧

الذمّ: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) (١) .

ولم يكن تواريهم إلاّ لعدهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات / وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه، حيث قال: ( وَإِذَا المًوءودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (٢) . وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدُّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت، دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

____________________

(١) سورة النحل، الآيتان: ٥٨ - ٥٩.

(٢) سورة التكوير، الآيتان: ٨ - ٩.

١٠٨

الوزن الاجتماعي للمرأة في الإسلام:

فالإسلام ساوى بينها وبين الرجل، من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل، فإنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البُنية الإنسانية، في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (١) ، فلها أن تستقلّ بالإرادة، ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما، كما للرجل ذلك، من غير فرق ( ... لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... ) ، فهما سواء فيما يراه الإسلام ويُحقّه القرآن، والله يُحق الحق بكلماته، غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصُّنع الإلهي.

إحداهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوُّن النوع ونمائه، فعليها يعتمد النوع من بقائه، فتختصُّ من الأحكام بمثل ما يختصُّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.

والثانية: أنّ وجودها مبنيٌّ على لطافة البُنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها الوظائف الاجتماعية المحولّة إليها.

فهذا وزنها

____________________

(١) سورة آل عمران، الآية: ١٩٥.

١٠٩

الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما، وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى: ( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (١) .

يريد أنّ الأعمال التي يُهديها كلٌّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وإنّ من هذا الفضل ما تعيَّن لحوقه بالبعض دون البعض، كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه مُتمنٍّ، ومنه ما لم يتعيّن إلاّ بعمل العامل، كائناً مَن كان، كفضل الله يؤتيه مَن يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ... ) على ما سيجيء بيانه.

مُساواة في الأحكام:

وأمّا الأحكام المشتركة والمختصّة، فهي تُشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الاجتماعية، فلها أن تستقلّ فيما يستقلُّ به الرجل، من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة، ولا تعليم وتعلُّم، ولا اقتناء حق، ولا دفاع عن حق وغير ذلك، إلاّ في موارد يقتضي طباعها ذلك.

وعمدة هذه الموارد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة، لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها الحجاب وستر

____________________

(١) سورة النساء، الآية: ٣٢.

١١٠

مواضع الزينة، وعليها أن تُطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتُّع منها، وتُدرِك ما فاتها بأنَّ نفقتها في الحياة على الرجل - الأب أو الزوج - وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حق تربية الولد وحضانته.

وقد سهَّل الله لها أنّها محميّة النفس والعرض حتى عن سوء الذِّكْر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحول.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلاّ العلم بأُصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل، فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة الفردية - بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت - وكذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العام، كتعلُّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها، فلا يجب عليها شيء من ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد، من علم أو كسب، أو شغل أو تربية، ونحو ذلك، كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام، بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبوية تؤيّد ما ذكرناه، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام، لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مع زوجته خديجة، ومع بنته سيد النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومع نسائه، ومع نساء قومه وما وصّى به في أمر النساء، والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم، كزينب بنت علي، وفاطمة وسكينة بنتي الحسين، وغيرهن على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء، ولعلَّنا نُوفَّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية

١١١

المتعلِّقة بآيات النساء، وإنَّما الأساس الذي بُنيت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد عُلِم من الكلام في وزنها الاجتماعي، كيفية هذا البناء، ونزيده هاهنا إيضاحات، فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتَّصل بها من المباحث العلمية، أنَّ الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرِّعة عليها، يجب انتهائها - بالآخرة - إلى الطبيعة، فخصوصية البُنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي، الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يُخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يُخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخِلقة، أو عن صحّته الطبيعية إلى القسم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤونه وجهاته - سواء كان اجتماعاً فاضلاً أم اجتماعاً فاسداً - ينتهي في النهاية إلى الطبيعة، وإن اختلف القسمان، من حيث إنّ المجتمع الفاسد يُصادف في طريق الانتهاء ما يُفسده في آثاره، بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها - تصريحاً أو تلويحاً - الباحثون من هذه المباحث، وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي، فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى: ( ... الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (١) .

وقال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (٢).

وقال تعالى: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا

____________________

(١) سورة طه، الآية: ٥٠.

(٢) سورة الأعلى، الآيتان: ٢ - ٣.

١١٢

وَتَقْوَاهَا ) (١) .

إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء - ومن جملتها الإنسان - إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خُلقت له، وجُهِّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيِّمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً، وهذا هو الذي يُشير إليه قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... ) (٢) .

والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يُساوي بينهم في الحقوق والوظائف، من غير أن يُحبا بعض ويُضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية، التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبي - مثلاً - على صباوته والسفيه على سفاهته، ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر في الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لما لهما معاً.

بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي، ويُفسّر به معنى التسوية، أن يُعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه ويُنزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كل ذي حقٍّ خصوص حقَّه، من غير أن يُزاحم حقٌّ حقَّاً، أو يُهمَل أو يُبطَل حقٌّ بغياً أو تحكُّماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يُشير إليه قوله تعالى: ( ... وَلَهُنَّ

____________________

(١) سورة الشمس، الآيتان: ٧ - ٨.

(٢) سورة الروم، الآية: ٣٠.

١١٣

مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ... ) (الآية)، كما مرَّ بيانه، فأنّ الآية تُصرِّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.

ثمَّ إنّ اشتراك القبيلين، أعني الرجال والنساء، في أصول المواهب الوجودية - أعني الفكر والإرادة المولِّدتين للاختيار - يستدعي اشتراكها مع الرجل، في حرِّية الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرُّف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية، عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرِّية على أتمِّ الوجوه، كما سمعت فيما تقدّم، فصارت - بنعمة الله سبحانه - مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها، وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: ( ... فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ... ) (١) .

لكنَّها - مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها - تختلف مع الرجال من جهة أُخرى، فإنّ المتوسِّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال، في الخصوصيات الكمالية من بُنيتها، كالدماغ والقلب، والشرايين والأعصاب، والقامة والوزن - على ما شرحه فَنُّ وظائف الأعضاء - واستوجب ذلك أنَّ جسمها ألطف وأنعم، كما أنَّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة، كالحبِّ ورقَّة القلب والميل إلى الجمال والزينة، أغلب عليها من الرجل، كما أنّ التعقُّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية، كما أنّ حياة الرجل حياة تعقُّلية.

ولذلك؛ فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية، التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين: أعني التعقُّل، العواطف (الإحساسات)

____________________

(١) سورة البقرة، الآية: ٢٣٤.

١١٤

فخصَّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال؛ لاحتياجها المُبرم إلى التعقُّل، والحياة التعقلية إنَّما هي للرجل دون المرأة، وخصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وعوّض ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين، ثمَّ تُعطي المرأة ثُلث سهمها للرجل، في مقابل نفقتها، أي للانتفاع بنصف ما في يده، فيرجع بالحقيقة إلى أنَّ ثُلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثُلثيها للنساء انتفاعاً، فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقُّلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء؛ لغلبة إحساسهن، وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة، مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذُكِر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب تعطُّلها عن العمل، فإن ارتفعت الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل، يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمُّل مشاقِّ الأعمال والأشغال، فتنمو على ذلك نماءً رديّاً، وتنبت نباتاً سيِّئاً غير صالح لتكامل المجتمع، وقد أيَّدت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرٌ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تُنبت الإنسان نباتاً حسناً أمرٌ آخر. والذي أُصيب به الإسلام في مدَّة سيرها الماضي، هو فقد الأولياء الصالحين، والقوَّام المجاهدين، فارتدَّت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقَّفت التربية ثمَّ رجعت القهقري.

ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يُثمر أثره، ما لم يُثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحَين، والمسلمون - في غير بُرهة يسيرة - لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيِّمين بأمورهم تربية صالحة، يجتمع فيها العلم والعمل.

فهذا معاوية، يقول على

١١٥

منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنِّي ما كنت أُقاتلكم لتُصلُّوا أو تصوموا، فذلك إليكم، وإنَّما كنت أقاتلكم لأتأمَّر عليكم، وقد فعلت.

وهذا غيره من الأُمويّين والعباسيين فمَن دونهم، ولولا استغاثة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ، والله مُتمُّ نوره ولو كره الكافرون، لقضي عليه منذ عهد قديم.

حرّية المرأة في المدنية الغربية:

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدُّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسر، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ أُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنَّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثِّرة أتمَّ التأثير في سلسلة السير الاجتماعية، وهي متوسّطة مُتخلِّلة، ومن المُحال أن يتَّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة؛ فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة، بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين، مع ما في المرأة من التأخُّر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت (إجماله).

والرأي العام عندهم تقريباً: أنّ تأخُّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية، التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا، مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوُّنه قضى على تأخُّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه، ولو في بعض الأحيان، ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

١١٦

ويؤيِّد ذلك أنّ المدنية الغربية - مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال - تُقدِّم الرجال وتؤخُّر النساء، وأمّا ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل المجتمع الحاضر، فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إن شاء الله تعالى.

قوانين الإسلام الاجتماعية وقوانين العرب:

عمل النكاح في أصول الأعمال الاجتماعية، والبشر منذ أول تكوُّنه وتكثُّره حتى اليوم لم يخلُ عن هذا العمل الاجتماعي، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعي ترجع إليه، ابتداءً أو أنتهاءً.

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والإناث؛ إذ من البيِّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والإناث - لم يوضع هباءً باطلاً، ومن البيِّن - عند كلِّ مَن أجاد التأمُّل - أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريدُّ إلاّ الإناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلاّ إنتاج المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة، وجميع الأحكام المتعلِّقة به تدور مدارها؛ ولذلك وضِع التشريع على ذلك - أي على البُضع - ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة، واختصاص الزوجة بالزوج، وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الأُخر الحاضرة، فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوعُ اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك؛ ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة

١١٧

متعرّضة لشيء ممّا تعرّض له الإسلام، من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية - على ما سنُبيّن إن شاء الله العزيز - لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان، من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي، هو أنّ بُنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتّى، لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً، إلاَّ بالاجتماع والتعاون، فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصة المتعلِّق كل واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال، متفرِّقة في الأفراد، يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنَّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيَّا ما كانا، وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة، فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء الازدواج على أساس التعاون الحيوي، انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد، إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا - أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة - كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج في الأحكام الاجتماعية بشيء أصلاً، إلاّ الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً، وإبطال أحكام الأنساب والمواريث - كما التزمه الشيوعية - وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية، التي جُهِّز بها الذكور والإناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلٍّ يُناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح.

وأمّا الطلاق، فهو من مخافر هذه الشريعة الإسلامية، وقد وضع جوازه على الفطرة؛ إذ لا دليل من الفطرة يدلُّ

١١٨

على المنع عنه، وإمّا خصوصيات القيود المأخوذة من تشريعه، فسيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وقد اضطرّت المِلل المُعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

١١٩

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233