• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27553 / تحميل: 6404
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

بسيط هو أن الكبيرة مسألة إيمانية تتعلق بالجنة والنار والمؤمن والكافر والثورة عمل سياسي دنيوي يتعلق بالسلطة والموقف منها.

على ان الكبيرة، وهي كما قلت، مسألة إيمانية فردية، قد تبدو وكأنها اكتسبت طابعا مختلفا آخر ترتكبها السلطة وتصدر عنها.

وربما كان هذا وراء ما ذهب إليه بعض الكتاب من الربط بين الكبيرة وبين الثورة(١) .

وقد يعزز رأينا في طبيعة الكبيرة أن نعود الى الرواية التي يذكرها المؤرخون والمؤلفون في الفرق عن السؤال الذي وجه الى الحسن البصري بشأن مرتكب الكبيرة، لنرى ان كانت تمثل موقفا أو فكرا سياسيا أو أمرا يتصل بالسلطة والحكم.

وسأثبت نصها كما أوردته المصادر ( دخل واحد على الحسن البصري فقال يا إمام الدين لقد ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً(٢) ).

فالسؤال في هذه الرواية يبدأ بعبارة ( يا إمام الدين ) وهو نداء لا سياسة فيه ولا ما هو قريب من السياسة أنه استغاثة دينية تعبر عن قلق السائل من أمر يتعرض له الدين أو يوشك أن يتعرض له، ولهذا مهد له

____________________

(١) ومن هؤلاء الدكتور احمد محمود صبحي الذي يرى أن الخوارج أعلنوا تكفير فاعل الكبيرة، لتبرير ثوراتهم ضد الحكم الأموي، مع إن ثورات الخوارج لم تنقطع منذ خرجوا في صفين على الإمام علي - وقبل حكم الأمويين - واستمرت مشتعلة على امتداد ذلك الحكم ابتداء من أول خلفائهم معاوية فهم لم يكونوا أبدا بحاجة الى الكبيرة، يتوسلون بها لتبرير ثوراتهم ضد السلطة، وهي قد سبقت الكبيرة واختلاف آراء الفرق في مرتكبها أنظر كتاب الدكتور صبحي ( في علم الكلام - المعتزلة ) نشر دار الثورة العربية للطباعة والنشر بيروت ط خامسة ١٩٨٥ ص٩١.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج١ ص٤٨ والمنية والأمل لقاضي القضاة ص٨ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص٣ والأخيران يبدآن النص ب- ( روي ) بينما النص عند الشهرستاني الذي ينقلان عنه يبدأ ب- ( دخل واحد ) دون ( روي ) وأكرر ما سبق أن لاحظته من تأخر الشهرستاني من حيث الزمان بالنسبة لقاضي القضاة واستحالة أن ينقل هذا عن الشهرستاني المتأخر عنه.

٨١

بهذا النداء الذي يشعرك، لا بصفة المسؤول فقط ( إمام الدين ) وإنما بطبيعة القضية المسؤول عنها أيضا.

ثم يمضي السؤال هكذا ( لقد ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم يخرج بها عن الملة وهم وعيدية الخوارج ) فالسؤال إذن وكما مهد له النداء، يدور حول تكفير أصحاب الكبائر من المسلمين، وهو أمر يخص الدين في الصميم، حتى في الألفاظ المستعملة ( تكفير وكبيرة وملة ) فإنها ألفاظ قلما تصادفها في غير ميدان الدين.

( وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا).

هنا أيضا لا نصادف غير ألفاظ ( الإيمان وأركان الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ) التي هي من أخص شؤون الدين حتى لكأنك تقرأ كتابا في العقائد.

ولكن بين الذين يكفرون والذين يرجئون، يبدو واضحا اتجاه السائل في رفض ما يذهب إليه الطرفان، والرأي الذي يريد استصداره من الحسن، حين يستصرخ ( الإمام ) ان يظهر حكم الدين الذي يتهم الطرفين بالخروج عليه: الخوارج المتشددين بتكفيرهم صاحب الكبيرة، والمرجئة المتساهلين بتصحيحهم إيمانه.

٨٢

ولم يكن الحكم الذي يطمع فيه السائل ويرجوه إلا الوسط بين أولئك وهؤلاء.

فصيغة السؤال كما أوردتها المصادر، وكما رأينا، صيغة بعيدة عن السياسة، بقدر قربها من الدين واتصالها به ويؤكد هذا ان السائل عرض رأيين لفرقتين من المسلمين في مرتكب الكبيرة، ليس بينهم السلطة، ولو كان السؤال يتضمن معنى أو اتجاها سياسيا، مع السلطة أو ضدها، لاكتفى بعرض أحد الرأيين ولم يجمع بينهما، مع رفضهما معاً، أو لكان رأي السلطة أحد الرأيين في الأقل ذلك ان صيغة السؤال بالجمع بين فرقتين مسلمتين ومقابلة رأييهما، توحي بان الاختلاف محصور بينهما في أمر يخص العقيدة.

هذا عن صيغة السؤال، أما الذي وجه إليه السؤال فهو الحسن البصري، أحد أئمة الدين وأعلامه في وقته رجل عرف بورعه وزهده وبعده عن السياسة ذكروا انه كان يقول بالقدر ثم تركه.

فالمسؤول لم يكن سياسيا إذن ولا السؤال، والفرق الإسلامية لم تكن في حاجة الى تلك ( الكبيرة ) لتسييس مواقفها وأفكارها لقد كان لديها ما هو ( أكبر ) في ساحة الصراع على امتداد الأرض الإسلامية كلها.

فمسألة الكبيرة والسؤال عنها والاختلاف في مرتكبها لم يكن كما ذكرنا، منطلقا من موقف سياسي ولا راجعا لموقف سياسي بالنسبة للفرق والمذاهب الإسلامية.

٨٣

فهل يختلف الأمر بالنسبة للمعتزلة ؟ هل تحول الموقف من مرتكبها من موقف إيماني بحت، الى موقف سياسي أو يمثل رأيا أو اتجاها سياسيا ؟

لا أظن ذلك، فليس لدى المعتزلة موقف في مسألة مرتكب الكبيرة غير ما رأينا عند الفرق الإسلامية الأخرى بل ربما كان الجانب الإيماني لها أوضح لدى المعتزلة منه لدى الفرق الأخرى.

وما إخالنا نطمع في بيان ذلك، بأكثر مما قاله قاضي القضاة، وهو يعرض للكبيرة والموقف من مرتكبها ( واعلم ان هذه - مسألة مرتكب الكبيرة - مسألة شرعية لا مجال للعقل فيها لأنها كلام في مقادير الثواب والعقاب وهذا لا يعلم عقلا.)(١) .

أرأيت أوضح من هذا الكلام يصدر عن إمام من أئمة المعتزلة، وهو لا ينفي الجانب السياسي للكبيرة والموقف من مرتكبها فقط، بل ينفي ان تكون هذه المسألة خاضعة للعقل أصلا، فهي مسألة تخص الثواب والعقاب، في الآخرة طبعا.

والحق ان قاضي القضاة لم ينفرد بموقفه هذا من مرتكب الكبيرة، وإنما كان يؤكد الأصل الذي قام عليه الاعتزال.

فهذا واصل بن عطاء، زعيم المعتزلة ومؤسس مذهبهم، هل قال وهو يحاج عمرو بن عبيد في مسألة الكبيرة قبل انضمام الأخير إليه، شيئا يتجاوز فيه المؤمن والكافر والفسق الى ما يخص السياسة أو يتعلق بالسلطة والموقف منها(٢) .

____________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص١٣٨.

(٢) طبقات المعتزلة ص٣٨ والمنية والأمل ص٤٠.

٨٤

وهل تجاوز المعتزلة، منذ واصل وحتى قاضي القضاة الذي عرضنا رأيه، حديث المؤمن والكافر والفاسق ؟!

ولن أتحدث عن المعتزلة بعد قاضي القضاة، فليس هناك ما يستحق الحديث عندهم.

الى هنا أنتهى من حديث الكبيرة لأنتقل الى حديث آخر يرتبط بها ولا يكاد ينفك عنها، هو حديث هذا ( الفاسق ) الذي ارتكبها.

فمن هو الفاسق، ما تعريفه، ما حكمه، ما هو موقف الفرق والمذاهب الإسلامية منه ؟

لغة، يعرف الفسق بأنه الخروج عن الشيء، فيقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة عن حجرها إذا خرجت عنه.

أما اصطلاحا، فان الفسق يعني الخروج عن طاعة الله بكفر أو بعصيان، والفاسق هو الخارج عن طاعته بأي منهما، فالفسق بهذا الاعتبار أعم من الكفر وأشمل، لأنه يتناول الكفر فيما يتناول من معاصٍ وآثام.

وإذا نحن تركنا الكفر الذي يمثل الطرف الأبعد للفسق ويخضع لحكم خاص من بين مصاديقه، وإذا نحن تركنا صغار الذنوب التي لم يتفق على معيار واضح لها فان الفسق سيشغل عندئذ كل هذه المسافة الطويلة بين الكفر وبين صغار الذنوب، مما اصطلح على تسميته بالكبائر، ويكون الفاسق بالتالي هو مرتكب اي منها.

وأظننا لم ننس بعد الصعوبات التي واجهتنا، ونحن نحاول تحديد الكبيرة، سواء عن طريق تعريفها أو عن طريق تعداد الكبائر، فربط الفسق

٨٥

بالكبيرة وتعريف الفاسق بأنه مرتكبها، مع عدم اتفاقنا على تعريف الكبيرة التي ارتبط بها، لن يكون إلا تعريف مجهول أو بما يشبه المجهول.

ومع التسمية طرحت الكبيرة، أو بالأحرى ارتكبها قضيتين أخريين، تتعلق الأولى بمكان مرتكب الكبيرة بين المؤمن والكافر، أي هل يبقى في منزلة المؤمن بعد ارتكابه الكبيرة، أم ينتقل الى منزلة الكافر، أم الى منزلة أخرى بينهما، وهو ما عرف ب- ( المنزلة بين المنزلتين ) الذي تعتبره غالبية الروايات سبب انفصال واصل وقيام المعتزلة كما ذكرنا.

وتتعلق الثانية بحكم هذا الذي ارتكب الكبيرة، هل هو حكم المؤمن أم حكم الكافر، أم حكم آخر بين الاثنين.

أصبح لدينا إذن ثلاث قضايا مرتبطة ببعضها، ومرتبطة كلها بالكبيرة: الاسم والمنزلة والحكم، فما هو موقف المسلمين منها ؟

وسنبدأ بأولى تلك القضايا وهي المتعلقة بالاسم، وقد سبق أن قلنا: أن المسلمين ربطوا بين الفسق وبين الكبيرة، وإنهم أطلقوا اسم الفاسق على مرتكبها لكن هذا القول لن يكون دقيقا على إطلاقه، فهناك فرقة من المسلمين على الأقل هم الخوارج، لا يعرفون هذه التسمية ولا يحتاجون إليها، لسبب بسيط هو أنهم يعتبرون جميع المسلمين من المذاهب الأخرى كفاراً، حتى من لم يرتكب الكبيرة منهم، فكيف يسمون من ارتكبها باسم دون اسم الكافر(١) .

____________________

(١) يكفي لتأييد رأينا في استغناء الخوارج عن اسم الفاسق والمنزلة بين المنزلتين أن تقرأ ما يقوله طالب الحق عبد الله بن يحيى الكندي من زعماء الاباضية إحدى الفرق غير المتشددة من الخوارج، بعد استيلائه على اليمن سنة ١٢٩ (.من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر ومن شكل في أنه كافر فهو كافر . )

٨٦

ولقد سبق أن قلنا أن المسافة بين الإيمان والكفر هي من الضيق عند الخوارج بحيث لا تسمح بمحطة بينهما اسمها الفسق، هذا من ناحية، ومن ناحية الثانية فان فرقا كبيرا بين موقف الشيعة الامامية والسنة أكبر الفرق الإسلامية وأهمها، وبين موقف المعتزلة في موضوع الاسم، رغم اتفاق الطرفين على الأخذ به، فالسنة والشيعة الامامية لا يطلقون اسم الفاسق إلا مضافا لاسم المؤمن، فليس الفاسق عندهم صنفا ثالثا الى جانب المؤمن والكافر، ليستقل باسم خاص به، كما يذهب المعتزلة انه مؤمن وباق في منزلته من الإيمان، لم يتركها ولم يفارقها الى غيرها، لكنه مؤمن ارتكب معصية فهو فاسق بمعصيته، يعاقب بقدرها يوم القيامة لهذا بقي اسمه كما كان، مؤمنا مع إضافة ما يشير الى صدور المعصية عنه وهو اسم الفاسق.

أما المعتزلة فيرون في الفاسق صنفا ثالثا مستقلا عن المؤمن وعن الكافر، ويجعلونه في منزلة وسط بينهما ولهذا فقد اقتصروا في تسميته على الفاسق وحده دون إضافته الى المؤمن، مما يشير الى استقلاله عندهم، خلافا للسنة والامامية من الشيعة.

وها نحن قد وصلنا الى القضية الثانية المتعلقة بمكان مرتكب الكبيرة ومنزلته الوسط بين المنزلتين: منزلة المؤمن ومنزلة الكافر.

وأول ما يلاحظ هنا، أن فكرة الوسط هذه ( المنزلة بين المنزلتين ) لم يبتدعها المعتزلة أو واصل على وجه التحديد، ولم يسبقوا إليها، وإنما تبعوا فيها الأباضية من الخوارج الذين كانوا يعتبرون ( كفار هذه الأمة -

٨٧

يعنون بذلك مخالفيهم من المسلمين - براءً من الشرك والإيمان وانهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار )(١) .

فالأباضية كما ترى، سبقوا واصلا والمعتزلة الى القول بالمنزلة بين المنزلتين، حين قرروا ان المخالف لهم من المسلمين ليس مؤمناً ولا مشركا لكنه كافر، أي في منزلة وسط بين المؤمن والمشرك كل ما هناك ان واصلا وهو يتبنى الفكرة، قد بدل الذين يشغلون مراكزها إذ كانوا عند الاباضية المشرك والمؤمن والكافر، فاصبحوا عند واصل المؤمن والكافر والفاسق أما فكرة الوسط في ذاتها، والمنزلة بين المنزلتين، فقد بقيت كما هي لم يطرأ عليها تغيير.

لكن الأهم من الاسم الذي نطلقه على مرتكب الكبيرة ومن مكانه الذي جعلناه وسطا بين المؤمن والكافر، هو الحكم الذي سنخصصه له، وإلا فأية قيمة تبقى للاسم إذا جردناه من أخص لوازمه وهو الحكم.

وهذا ما يقودنا الى البحث في القضية الثالثة والأخيرة وهي المتعلقة بحكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة.

فإذا كان للمؤمن حكم معروف، وللكافر حكم معروف، فما هو الحكم الذي سيحدد لمن أسميناه فاسقا وقبلنا أن يكون صنفا مستقلا، مع كثرة المعاصي التي يضمها الفسق واختلاف خطورتها كما ذكرنا ؟ هل هو حكم القاتل مثلا أم حكم شارب الخمر أم حكم الناشز أم حكم لابس الحرير والذهب أم حكم مرتكبي الكبائر الأخرى، وكل ذاك يسمى فسقا ومرتكبه فاسقا، ولكل حكم يختلف عن الآخر ذلك أننا لو وافقنا ان يكون الفاسق

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص٦١ وأصول الدين للبغدادي أيضا ط أولى ١٩٢٨ استانبول ج١ ص٣٣٢ وفيه ينسب ذلك الى النجدات من الخوارج لا الى الاباضية ومقالات الإسلاميين ج١ ص١٧١ وتأريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة ص٧٨ والملل والنحل ج١ص١٣٤ وكشاف اصطلاح الفنون للتانوي المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر ١٩٦٣ بتحقيق الدكتورين لطفي عبد البديع وعبد المنعم محمد حسنين ص١١٣ ورغبة الآمل من كتاب الكامل لسيد بن علي المرصفي ط أولى ١٩٢٩ ج٧ ص٢٤٠ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص٣٨٥.

٨٨

الحالة أكثر من حكم واحد على معصية واحدة: حكم الكافر الذي نعرفه، وحكم الظالم الذي نجهله، وحكم الفاسق الذي اخترعه المعتزلة.

أمامنا إذن نتيجتان يقودنا إليهما نظر المعتزلة للفاسق واعتباره صنفا مستقلا في مقابل المؤمن والكافر: أن يكون لمعاصِ مختلفة حكم واحد وان يكون لمعصية واحدة أكثر من حكم وكلا النتيجتين مرفوضة.

فهل هناك من سبيل نتجاوز به هذا الإشكال الذي دفعنا إليه المعتزلة ؟

يبدو لي إننا نستطيع ذلك إذا قلنا ان لفظ الفاسق، شأنه شأن الألفاظ المشابه الأخرى كالظالم والفاجر والخاسر، يفيد مجرد الذم الناشئ عن ارتكاب الكبيرة، ولكن دون تحديد حكم لمرتكبها.

فهذه الألفاظ لا تتضمن حكما محددا كالمؤمن والكافر، وإلا لتعددت الأحكام بتعددها، مع انه ليس هناك بإجماع غير الجنة والنار، يحكم بأولاهما للمؤمن وبالثانية على الكافر، ولا أماكن أخرى للآخرين من فاسق وفاجر وضال الخ.

ولأنها كذلك في دلالتها على المعصية مع عدم تحديد الحكم عليها، جاز ان تضاف الى غيرها دون خوف من الوقوع في التعارض، فيقال مثلا كافر فاجر، وذلك لأن الفاجر لا حكم محددا له فيخشى من تعارضه مع حكم الكافر، وفي نفس الوقت فانه يتضمن الذم المتلازم لاقتراف المعاصي الذي يشارك فيه الكافر(١) .

وبخصوص الفاسق فانه لا يخرج عما قدمنا فهو لا يتضمن حكما محددا ولا يؤلف صنفا مستقلا الى جانب المؤمن والكافر، خلافا للمعتزلة

____________________

(١) يلاحظ أن هذه الألفاظ قد استعملها المسلمون لا للدلالة على ارتكاب معصية معينة، بل للدلالة في غالب الأحيان على سلوك مذموم دينا أو أخلاقا، فكثيرا ما ترى ألفاظ ( الظالم والفاسق والفاجر ) تتردد في مخاطباتهم مفردة أو متتابعة، موجهة لمن تقال له فردا كان أو جماعة دون أن يقصدوا كبيرة بذاتها، بل إنها الى السب والذم أقرب، حتى أنك تستطيع.

الاستغناء عن أي لفظ منها من غير أن يتأثر المعنى المطلوب ولا يستقيم ذلك فيما يتعلق بالفاسق، إلا في حالة واحدة هي أن نأخذ بالحد الأعلى للكبائر والذي يصل الى السبعمائة كما رأينا فهذا العدد يمكن أن يضم أكثر ما يستوجب الذم من أفعال الإنسان دينا وأخلاقا ويصحح بالتالي استعمال لفظ الفاسق فيها ولقد رأينا بعض ذلك عند ابن حجر في كتباه ( الزواجر عن ارتكاب الكبائر ) الذي عد فيه أربعمائة وسبعا وستين كبيرة، وبقي عندنا مائتان وثلاث لإكمال السبعمائة، وما أظن الأفعال التي تستوجب الذم ستتجاوز كثيرا هذا العدد.

٨٩

الذين أعطوه اسما وحكما خاصين، فانتهوا من ذلك الى النتائج الغريبة التي رأينا.

والقرآن الكريم خير ما يعزز رأينا ذاك، حين يجمع بين الكفر والفسق والكافر والفاسق في موضع واحد، ولو كان الأمر خلافة لما جمع بينهما.

استمع مثلا الى الآية ٨٠ من سورة التوبة ( استغفر لهم أو لا تستغفر إن تستغفر سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ).

فالآية تبدأ بوصفهم بالكفر وتنتهي بوصفهم بالفسوق، ولو كان الفاسق صنفا مستقلا عن الكافر والمؤمن، ينفرد بحكم خاص، كما يذهب المعتزلة، لما جاز أن يسمى الذين كفروا، بالفاسقين، مع اختلافهم في الصنف وفي الحكم.

وكذلك الآية ٨٤ من نفس السورة ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره أنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ).

فهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله، تسميهم الآية فاسقين لا كافرين، مع أنهم كما تنطق الآية نفسها، كفروا بالله ورسوله، والاسم الذي يستحقونه بفعلهم ذاك هو الكفر لا الفسق، فإذا افترضنا، مع المعتزلة، ان الفاسق يمثل صنفا مستقلا وحكما مستقلا، لاجتمع في شخص واحد صنفان مختلفان، وتعرض لحكمين مختلفين، وهو نفس الفاعل ونفس الفعل، ولكنا بالتالي أمام متعارض يقودنا إليه مذهب المعتزلة كما رأينا.

٩٠

ولا خلاص لنا من هذا التعارض إلا بما قدمنا من أن الفسق لفظ ذم لا يستقل بحكم خاص، شأنه شأن غيره من ألفاظ الذم الأخرى، ولذا جازت إضافة الفاسق الى الكافر، دون خشية الوقوع في تعارض بين حكمين مختلفين لكل منهما ولنفس السبب يصدق على المؤمن أيضا، فيقال للمؤمن الذي يرتكب كبيرة: أنه مؤمن فاسق بكبيرته.

لكن عدم تحديد الحكم لا يعني عدم وجوده، فهذا لا يمكن تصوره، إلا ساوينا بين المؤمن الذي لم يرتكب معصية وبين المؤمن المرتكب لها، وهذا ظلم في أحد جانبيه وتشجيع على المعاصي في جانبه الآخر كل ما يعنيه ذلك، ان الحكم هنا ليس محددا ولا واحدا بل يقدر بقدر المعصية، فلكل معصية ( كبيرة ) حكمها الذي يناسبها، مع ملاحظة ان هذا الحكم لا يمكن أن يكون في أية حال الخلود في النار وهو ما أعد للكافرين، و إلا ساوينا هذه المرة، بين المؤمن الذي لم يرتكب إلا معصية واحدة في حياته وبين الكافر الذي لم يعرف الإيمان فقط وهذا أيضا ظلم في أ؛د جانبيه بمساواة المؤمن بالكافر، وأغراء في جانبه الآخر بالمعاصي فماذا سيمنعك الآن من الاستمرار فيها والدوام عليها، ما دام الخلود في النار مصيرك حتى لو ارتكبت في حياتك كلها كبيرة واحدة، ولن يتغير هذا المصير، سواء اقتصرت عليها أم أضفت إليها كبائر أخرى(١) .

وقد سبق أن قلنا: ان السنة والشيعة الامامية يذهبون الى خلاف هذا، فالإيمان عندهم هو الأصل بالنسبة للمؤمن العاصي، وهذا الأصل لا يلغيه إلا الكفر(٢) أما المعصية التي تصدر عن المؤمن ولا تبلغ الكفر

____________________

(١) انظر فيما يخص خلود الكافر في النار وانقطاع عقاب المؤمن العاصي وخروجه منها، نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص٤٧٦ وأوائل المقالات في المذاهب المختارات للمفيد ص٤٧ وتصحيح الاعتقاد المطبوع مع أوائل المقالات للمفيد أيضا ص٢٠٨ - ٢٠٩ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأمام الحرمين الجويني ص٣٨٥ وما بعدها والاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد للشيخ الطوسي ص١٩٢ و ٢٠٦ وأصول الدين لعبد القاهر البغدادي المجلد الأول ص٢٤٢ - ٢٤٣ وص ٢٦٨- ٢٦٩ وأصول الدين للبزدوي ص١٣١ و ١٣٨ و ٢٤٣ وشرح مواقف الايجي للجرجاني ج٣ ص ٢٣٣- ٢٣٦ وشرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي ص٢٦١ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين أحد أكبر علماء الإمامية في العصور الحديثة ت ١٩٥٧ مطبعة الفرقان صيدا ١٣٣٠ه- ص٣٥ وشرح النسفية للدكتور عبد المللك السعدي ط أولى بغداد ١٩٨٨ ص١٦٠ واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم تعليق زكريا علي يوسف ص١١٤. ورغم اتفاق أهل السنة والإمامية على أن التأبيد في النار هو للكافرين خاصة دون المؤمنين من مرتكبي الكبائر، فيلاحظ أن أهل السنة يجيزون أن يعاقب المطيع بإدخاله النار وإثابة العاصي بإدخاله الجنة، كما يظهر ذلك من الأشعري في مقالات الإسلاميين ج١ ص٣٢٢ والجويني في الإرشاد ص٣٨١ والإيجي في المواقف شرح الجرجاني ج٣ ص٢٣٦ وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص١١٤.

بينما يقتصر الامامية على جواز العفو عن العاصي وإدخاله الجنة، وذلك ما يظهر من الاقتصاد في الاعتقاد للطوسي ص٢٠١ و ٢٠٦ وشرح تجريد الاعتقاد للحلي ص٢٦٢ والفصول المهمة لعبد الحسين شرف الدين ص٣٥.

(٢) مقالات الإسلاميين ص٣٢٢ والفرق بين الفرق ص٢١٢ وأصول الدين للبزدوي ص٢٤٤ ومختصر شرح العقيدة الطحاوية ص٧٥ وشرح النسفية ص١٤٩ واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص١١٦.

٩١

فتقابلها العقوبة التي ستوقع عليه، فهو فاسق بما ارتكب من معصية، تمييزا له عمن لم يرتكبها، ولكنه يبقى ضمن أحد صنفين لا ثالث لهما هو صنف المؤمنين.

وإخال مذهب السنة والشيعة في موضوع الفاسق أقرب الى الحق والعدل، وأولى ألا يفرط بإيمان المؤمن لكبيرة تصدر منه، والإيمان لا يعني العصمة من الذنوب، فإهدار ايمان المؤمن لأنه ارتكب معصية، حتى لو أسميتها كبيرة، سوف لن يبقى عندك في دائرة الإيمان إلا الصفوة من المسلمين ثم ان العدل يقتضيك ألا تلغي إيمان سنين طوال، جاهد فيها المؤمن وصبر وعمل كل ما هو مطلوب منه، بمعصية صدرت عنه وإن لم يتب عنها.

وفيما يخص الخوراج، فقد سلفت الإشارة الى انهم لا يعرفون تسمية الفاسق للأسباب التي بيناها هناك، ولهذه الأسباب أيضا فانهم لا يعترفون له بحكم خاص، غير ما يخضع له الكافر من ذلك.

أما المرجئة، فلا يحكمون على الفاسق بغير حكم المؤمن، إذ المعصية لا تضر عندهم مع الإيمان.

ونصل الآن الى المعتزلة الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار كالكافر، ولكنهم يخففون عليه العقاب فلا يخضعونه لنفس عذاب الكافر وإنما لعذاب أخف.

٩٢

ويظهر أن المعتزلة أخفقوا هنا أيضاً، فان الحكم الذي قرروه لمرتكب الكبيرة لا يقابل المنزلة بين المنزلتين التي وضعوه فيها ولا يتناسب معها.

فمرتكب الكبيرة الفاسق هو عندهم في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر، وهذا يقتضي أن يكون حكمه كذلك بين حكمي المؤمن والكافر، لكن ما قرره المعتزلة في هذا الشأن أمر آخر: أنهم يخلدون الفاسق في النار ويساوونه بالكافر من هذه الجهة، أما قولهم بان عذاب الفاسق أخف من عذاب الكافر فما أظنه سيغير كثيرا بعدما خلدوه في النار.

لماذا لا يعكسون الوضع فيذهب مرتكب الكبيرة الفاسق، والذي هو مؤمن أصلاً، الى الجنة، لكنه يحرم من التمتع بكل نعيم أهل الجنة ممن لم يرتكبوا معصية في حياتهم أو ارتكبوها وتابوا عنها قبل الموت، بدلاً من تخليده في النار كالكافرين مع تخفيف عذابه عن عذابهم.

أو أن يساق الفاسق الى النار، ولكن لا على سبيل الخلود فيها، وإنما للمدة التي تستلزمها المعصية، حتى إذا أمضاها يخرج منها الى الجنة، إذ ان الفاسق مؤمن في الأصل كما قلنا، لكنه مؤمن ارتكب معصية، فالعدل يفرض أن تكون العقوبة بقدر المعصية، حتى إذا ما استوفيت، عاد الفاسق الى الجنة، ولن تكون كذلك مع تخليده في النار.

أليس هذا أقرب الى الحق والعدل الذي يؤلف الأصل الثاني للمعتزلة، والذي يستمدون اسمهم الآخر منه فيقال ( العدلية ) أو ( أهل العدل والتوحيد ).

٩٣

أما الخلود في النار، فلا يمكن أن يكون مقابلا للمنزلة بين المنزلتين التي أخذ بها المعتزلة، واعتبرت من أروع ما وصل إليه الفكر الإسلامي في هذا الميدان.

لقد انطلق المعتزلة من خطأ، حين سموا مرتكب الكبيرة فاسقا وأخرجوه بمعصية واحدة من دائرة الإيمان، ليجعلوا منه صنفا مستقلا عن المؤمنين، في منزلة بينهم وبين الكافرين، مع ان تلك المعصية أو الكبيرة قد لا تكون ذات خطر رغم الاسم، فالكبيرة كما رأينا، اصطلاح يضم من المعاصي والآثام ما لا حصر له.

وهذا الخطأ في الاسم جرهم الى خطأ في الحكم، والى ظلم كبير ألحقوه بمن سموه فاسقاً، عندما خلدوه في النار بمعصيته تلك وساووه بالكافر من حيث الخلود فيها.

أخطأ المعتزلة اذن من جهتين: أخطأوا ابتداء حين جعلوا مرتكب الكبيرة الواحدة في منزلة بين منزلتي المؤمن والكافر، واخطأوا انتهاء حين تجاوزا في الحكم عليه، حتى هذه المنزلة التي خصصوها له، ليخلدوه في منزلة في النار هي الى الكفر والكافرين أقرب كثيرا منها الى الإيمان والمؤمنين.

ثم ما هي حدود تخفيف العقوبة ؟ وهل سيطبق نفس التخفيف على أصحاب الكبائر كلهم ؟ وهذه تختلف خطورة وشدة ولا يجمعها إلا ما ذكرنا من توسطها بين حدي الكفر وصغار الذنوب أم سيصنف الفساق من أصحاب الكبائر في النار أصنافاً أخرى، تختلف عقوبة كل صنف من الصنف الآخر، مع انهم يؤلفون صنفا واحدا عند المعتزلة باسم واحد وفي منزلة واحدة(١) .

____________________

(١) وألاحظ أن المعتزلة في موضوع تنزيه الله وتأويل الآيات التي توهم التشبيه بينه وبين الإنسان، قد أصابوا في المنهج ولكنهم لم يصيبوا دائماً في التطبيق.

أنظر إليهم وهم يحاولون أن يفسروا الاستواء في قول الله تعالى في سورة طه - ٥ ( الرحمن على العرش استوى )

لقد أرادوا أن يفروا من التشبيه الذي يعنيه الاستواء بالمعنى الحسي المعروف، كاستوى على فرسه أو على دابته، فوقعوا في التشبيه وفيما هو شر من التشبيه.

لقد قالوا: أن معنى الاستواء هنا، هو الاستيلاء وضربوا مثلاً لذلك.

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مراق

ورغم أنهم لم يجدوا في كل اللغة العربية، على سعتها، غير بيت واحد يستشهدون به في تأييد رأيهم فإني لا أدري ما الفرق من حيث التشبيه بين الاستواء الحسي الذي يجده المعتزلة في الآية القرآنية السابقة وبين الاستواء بمعنى الاستيلاء الذي يريد المعتزلة تفسير الآية به، ففي كل منهما تشبيه ومعنى حسي، ليس الثاني المعتزلي منهما بأقل وضوحاً من الأول.

ولكن المعتزلة أضافوا الى هذا التشبيه، ما لا يجوز أن يوصف به الله فالاستيلاء على الشيء يعني أنه كان لغيري أو مع غيري فاغتصبته أو أخذته، كما تفتح مدينة في حرب فهم بهذا، ينتقصون من قدرة الله، ويثبتون أنداداً له أقدم منه، كانوا يملكون ما لا يملك، منه - العرش - فاستولى عليه وأخذه منهم.

أليس هذا ما يقودنا إليه تفسير المعتزلة، وهو تشبيه يضاف إليه انتقاص من قدرة الله، وأن هناك ما لم يكن يملكه أولاً، وما كان في سلطان غيره ممن هو أسبق في الوجود منه، وهذا ما يخالف، كما أظن، لا أصل المعتزلة فحسب، بل الأصل المشترك لكل الفرق الإسلامية ولكل المسلمين؟!

٩٤

وهكذا تجد المعتزلة قد أخطأوا في المنهج ثم أخطأوا في التطبيق.

وأظنني أترك الحكم الآن للقارئ بعد أن أوضحت رأيي في موضوع يستحق أن يناقشه أصحاب الرأي ويدلوا بما لديهم فيه.

٩٥

الفصل الثالث

الدور السياسي للمعتزلة

عاصر المعتزلة، ابتداء من نشأتهم أوائل القرن الثاني الهجري، عدداً كبيراً من الثورات.

وفي هذا الفصل الذي خصصته للحديث عن نشاطهم السياسي، أحاول أن أتبين دور المعتزلة في تلك الثورات، قيادة أو مشاركة.

وقبل الاسترسال في هذا الحديث، أرى من الضروري أن أحدد ما أعنيه بالدور السياسي، حين أتحدث عن دور سياسي لجماعة ما فمن شأن هذا التحديد أن يجنبنا الكثير من الخلط، والكثير من الخطأ الذي سقط فيه بعض الذين كتبوا في هذا الموضوع.

فأنا أقصد بالدور السياسي، التعامل مع أحداث العصر والمشاركة فيها واتخاذ موقف منها.

ذلك هو الدور الذي أعنيه، حين أتحدث عن دور سياسي للمعتزلة أو لغيرهم أما تقييم حدث سياسي سابق وإصدار حكم فيه، تأييدا أو رفضا، فهذا مجرد رأي في حدث لا مشاركة فيه، يوشك أن يكون عمل مؤرخ، محايد أو متعصب بحسب الظروف.

٩٦

والآن، وبعد هذا التحديد، ما هو دور المعتزلة فيما عاصروا من ثورات كانت تمثل أضخم أحداث ذلك العصر الهائج المضطرب.

وسأكتفي من تلك الثورات بما ذكره أحد أشهر مؤرخي المعتزلة والمدافعين عنهم في وقتنا هذا: الدكتور محمد عمارة الذي نسب إليهم في تلك الثورات دورا مهما وأحيانا حاسما ووحيداً(١) .

سأكتفي إذن بهذه الثورات أما الثورات الأخرى، على خطورتها، فأن أشد المتعصبين للمعتزلة، بل حتى المعتزلة أنفسهم لا يجرؤون على ادعاء دور لهم فيها أو القول بمشاركة في أحداثها.

وسأتناولها بحسب تسلسها التاريخي مبتدئا بثورة زيد بن علي(٢) .

ثورة زيد:

وأبدأ كما قلت بثورة زيد بن علي(٣) عام ١١٢ ضد السلطة الأموية وعلى رأسها هشام بن عبد الملك وهي الثورة التي حاول الدكتور عمارة أن يخلع عليها من عنده رداء لم تلبسه ولم تعرفه، ولم يعرفه لها كل من كتب عنها على امتداد تأريخ طويل.

وأسارع فأبين: أننا لكي نحدد هوية ثورة من الثورات، لا بد أن نستند إلى بعض الحقائق الأساسية لها فهذه الحقائق وحدها هي التي تسمح بان نصف ثورة ما بوصف ما، وإلا فلن يكون حيدثنا غير ضلال نخدع به الآخرين وفي ذلك من مسؤولية التأريخ ما لا طاقة بحمله إلا لمن يتساوى لديه أن يقال: صادق أو كاذب.

____________________

(١) أنظر الجزء الثالث من موسوعة ( الإسلام وفلسفة الحكم ) عن ( المعتزلة والثورة ) الطبعة الثانية - نشر وتوزيع المكتبة العالمية ببغداد ١٩٨٤.

(٢) وهو ما أخذ به الدكتورة عمارة في كتابه المذكور وان كان قدم ثورة عبد الله بن معاوية على ثورة يزيد بن الوليد ربما لاستمرار الأولى الى عام ١٢٩ أي بعد ثورة يزيد التي لم تستمر غير أشهر ز

(٣) أبن الحسين بن علي بن أبي طالب من أباة الضيم المعروفين في الإسلام ومن أفضل الهاشميين في عصره دينا وزهدوا وشجاعة ونبلا ولد في المدينة عام ٧٩ وفيها أمضى حياته قبل أن ينتقل الى الكوفة ليعلن فيها ثورته ضد الحكم الأموي في زمن هشام بن عبد الملك وقد انتهت الثورة بقتله وصلبه عام ١٢٢ه-.

٩٧

ذلك هو المقياس، وهو ما سنلتزمه هنا في محاولة التعرف على هوية ثورة زيد، وبعدها بالنسبة للثورات الأخرى.

فما هي الحقائق في الثورة الزيدية ؟

من هذه الحقائق ما يتعلق برجال الثورة وقادتها ثم جماهيرها التي تحركت وثارت وقاتلت.

ومن هذه الحقائق ما يتعلق بالأهداف والمبادئ التي نادت بها وقامت لتحقيقها.

ومنها ما يتصل بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك.

فهذه الحقائق وغيرها هي التي تمنح الثورة سمتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من الثورات.

وفي ضوء ذلك سنناقش ثورة زيد.

ولنبدأ أولا بقادة الثورة ورجالها الذين وردت أسماؤهم فيها(١) فأنا لا أجد بين كل الذين ترددت أسماؤهم في هذه الثورة، واحدا من المعتزلة، مع أن وجود شخص أو شخصين في صفوفهم - على افتراض ذلك - لا يغير من طبيعة الثورة ولا يفسر بأكثر من أن هذا الشخص ( المعتزلي ) قد شارك فيها، لا بوصفه معتزلياً في ثورة معتزلية، بل كمسلم عانى الظلم وكره أهله، ثم رأى ثورة قامت لمحاربته فانضم إليها، دون أن يدفعها للانضمام إليها غير سمتها العامة في محاربة الظلم، ممثلاً بالسلطة القائمة آنذاك.

____________________

(١) تجد أسماء هؤلاء في الكتب التي تعرضت لثورة زيد وأنظر على الخصوص ( ثورة زيد بن علي ) لناجي حسن نشر مكتبة النهضة ببغداد ط أولى ١٩٦٦ ص١٠٦ وما بعدها والحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية مخطوط ج١ ص١٥٢ في مكتبتنا ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج شرح وتحقيق السيد عبد الرزاق المقرم الموسوي ط أولى النجف ١٩٣٧ ص١٢٠ وما بعدها.

٩٨

وليس هذا بدعاً في ثورة زيد ففي كل الثورات التي قامت في الإسلام وغير الإسلام قديماً وحديثاً، لم يكن من شروط الثورات - الكبيرة منها على الخصوص - أن يكون جميع المنضمين إليها والثائرين تحت لوائها من مذهب واحد وفكر واحد، هو مذهب الثورة وفكرها.

ولكن مالنا نذهب بعيدا في التماس الحجج والأسباب لتحديد هوية ثورة زيد ونفي السمة المعتزلية عنها، وبين أيدينا الدليل الذي يغنينا عن سواه، فهذا مؤسس الاعتزال وزعيم المعتزلة: واصل بن عطاء، وقد عاصر الثورة منذ بداياتها الأولى وحتى القضاء عليها بمقتل زيد هل ادعى واحد من المؤرخين فقط، أنه اسهم فيها بسيف أولسان أو دعا اليها أو أيدها بأي شكل، ولم يكن بعيدا عنها إلا بقدر المسافة بين البصرة وبين الكوفة.

وهذا عمرو بن عبيد شيه المعتزلة وزعيمها الثاني بعد واصل، وقد عاصر هو الآخر ثورة زيد ولم يكن بعيدا عنها أين دوره فيها ؟ ماذا كان ينتظر للانظمام إليها أو - في الأقل - للإعلان عن موقف واضح في تأييدها والدعوة للالتحاق بها، إذا تعذر عليه هو، الالتحاق بها تحت أي عذر وأية حجة.

كيف سنفسر موقف زعيمي المعتزلة من ثورة معتزلية، ومعتزلية خالصة كما يقول الدكتور عمارة . إلا إذا أراد أنها خالصة من أي أثر معتزلي، فهل ذلك أراد ؟! ثم أي وصف سيدخره للثورة، لو شارك فيها واصل وعمرو، بعدما جعلها معتزلية خالصة دون مشاركة منهما ولا دعم ولا تأييد.

٩٩

هذا عن رجال الثورة وقادتها وليس فيهم معتزلي واحد كما رأينا(١) فإذا انتقلنا الى جماهيرها، الذين ثبتوا منهم وقاتلوا فقتلوا أو شردوا أو الذين نكثوا أو تخلفوا وغدروا فأنهم لم يكونوا غير جماهير الكوفة العلوية.

ثاروا قبل زيد، وقبل واصل وعمرو والمعتزلة ثاروا مع الحسين وثاروا بعد الحسين واتصلت ثوراتهم منذ ذاك تشتد وتشتعل حيناً، وتضعف وتخمد حينا.

والكوفة قاعدة الثورة ومسرح أحداثها، هل ذكر أنها عرفت الاعتزال يوما في تأريخا، حتى عندما قوي أمر الاعتزال واشتد وتبنته السلطة الحاكمة في وقت ما.

وكما لم يكن بين الثائرين ولا بين قادتهم من هو معتزلي، فإننا لا نجد بين المبادئ التي نادت بها ثورة زيد ودعت إليها ما يمكن أن يعكس نظراً معتزلياً من قريب أو بعيد.

فهذه الثورة، شأنها في ذلك شأن الثورات الإسلامية الأخرى، كانت تتبنى بعض المبادئ العامة ن كالدعوة الى العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وهي مبادئ يتطلع إليها ويسعى لتطبيقها المسلمون كافة على اختلاف مذاهبهم وفرقهم ولهذا كانت شعارا - صادقا أو كاذبا - ترفعه كل الثورات، تحشد به الناس وتجمع حوله المسلمين من جميع الطوائف، لأنه شعار جميع الطوائف.

____________________

(١) يكفي إن قاضي القضاة في المنية والأمل وابن المرتضى في طبقات المعتزلة لم يذكرا في طبقاتهما واحدا من قادة الثورة ورجالها مع انهما وسعا دائرة الاعتزال لتضم من لم يكن معتزليا ولم يعرف الاعتزال في حياته ولم يصفه أحد به.

١٠٠