في الزندقة والشعوبية

 في الزندقة والشعوبية0%

 في الزندقة والشعوبية مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

 في الزندقة والشعوبية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد فرج الله
تصنيف: الصفحات: 111
المشاهدات: 37444
تحميل: 8900

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37444 / تحميل: 8900
الحجم الحجم الحجم
 في الزندقة والشعوبية

في الزندقة والشعوبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في الزندقة والشعوبية

أحمد فرج الله

١

المقدّمة:

يعالج هذا الكتاب موضوعين شغلا جزءاً كبيراً من التأريخ العربي الإسلامي، الذي قلّما تفتح كتاباً فيه دون أن يواجهك حديث الزندقة والشعوبية، متلازمين أحياناً ومنفصلين أحياناً، ولكنّهما يشيران في كل الأحيان إلى نزعة معادية للعرب أو للإسلام أو لكليهما.

هذا هو مفهوم اللفظين عند مَن يستعملهما وعند مَن يسمعهما، منذ بدأ استعمالهما في القرن الثاني الهجري، ثم اتّسع بعد ذاك خلال القرن الثالث.

ولم أكن لأحفل بالوقوف عند هذين الموضوعين، ولا بالكتابة فيهما لو أنّهما اقتصرا على الماضي، وانحصرت آثارهما فيه، وفي الحاضر أكثر من موضوع يستحق الوقوف عنده والكتابة فيه.

كنت أريد أن أنصرف إلى ما هو أولى بالانصراف إليه من مواضيع الحاضر وقضاياه، لولا ما رأيت من أنّ هذا الذي تصورته - خطأ - جزءاً من ماضٍ انتهى، قد عاد، ونحن في نهايات القرن العشرين، إلى قوّته وأكثر من قوّته: يجرح ويتهم ويهاجم. يَدفع به ويَدفع إليه، مَن كان يَدفَع به ويَدفع إليه في الماضي، مِن قوى ذات نفوذ ومصالح تريد أن تشغل الناس، وتشعل الفتنة وتثير البغضاء والكره بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد؛ لتضمن لنفسها البقاء: مبدأ ليس جديداً، وإن كان له في كل عصر لباس جديد وشعار جديد.

وإذا كانت تهمة الزندقة قد خفّت وقلَّ المهاجمون بها والراكضون إليها، فإنّ الشعوبية (1) ، مع غلبة النزعة القومية ، عادت إلى الظهور ، سلاحاً ضد الفكر الحر الذي يرفض التخلّف والجمود ، والخضوع لمسلّمات كانت وراء ما نعاني مِن تخلّف وجمود ، مع أنّ الفكر الحر هذا ليس شعوبياً ، ولم يكن يوماً شعوبياً ، بحكم طبيعته الحرة ، وليس بين مهاجميه مَن هو أوضح عروبة وأغير عليها ، منه ومن حامليه والمدافعين عنه .

ولا أُريد أن أسبق القارئ، ولا أُريد أن أعرض عليه الكتاب مختصراً في هذه المقدّمة، لكنّي أريد أن أُبدي ملاحظتين سريعتين قبل أن أتركه للكتاب، أو أترك الكتاب له يحكم فيه.

أمّا أُولاهما: فأُلاحظ أنّ الزندقة - وسيلاحظ القارئ ذلك - مفهوم بالغ الغموض عديم الملامح، أو - وهذا ما أذهب إليه - أُريد له أن يكون كذلك، ليسهل استخدامه مِن قِبل السلطة في البطش بمن تشاء، دون حاجة للبحث عن سبب ومبرّر، غير تهمة الزندقة التي تحتمل ألف شكل، مع أنّ هذه السلطة لم تكن يوماً عبر تأريخها، في حاجة إلى السبب والمبرّر لما تفعل.

وأمّا الثانية من الملاحظتين فتخص الشعوبية: هذه (الحركة) التي أُسيء فهمها فأُسيء النظر إليها. ضخمت حتى صُوِّرت وكأنّها كادت أن تهدّ ما بناه العرب من حضارة ومجد، وربّما ما تزال وراء ضعف العرب وتفكّكهم. وما كانت الشعوبية في أي من مراحلها بالقوة والتأثير الذي يمنحونه لها، وما كانت في أي من مراحلها بقادرة على القيام ببعض ما نُسب إليها. لقد كانت (تنفيساً) إذا جاز التعبير، عند بعض الأفراد والجماعات غير العربية، الفارسية على وجه الخصوص، يواجهون به الاستعلاء والازدراء عند بعض العرب، فكان ردّهم على ذلك، أن رجعوا إلى ماضيهم الثري القريب، يتغنّون مآثره، ويتأسّون به عن حاضر لا يعترف بهم.

وبعد فهذا هو الكتاب بين يدي القارئ، وهو وحده مَن يحكم فيه.

____________________

(1) لا أقصد الثورات التي قامت بها شعوب للمطالبة باستقلالها عن الدولة العربية كثورة بابك الخرمي، فليست تلك ممّا يُعالَج تحت اسم الشعوبية، ولم يعالجها المؤرّخون العرب أنفسهم تحت هذا الاسم.

أحمد

8/ 1 / 2008

مونتريال - كندا

٢

الإهداء:

إلى الذين دفعوني إلى الكتابة في موضوع الزندقة والشعوبية ممّن لم يقرؤوا التأريخ أو قرؤوه ولم يفهموه أو فهموه وزوّروه.

أهدي هذا الجهد...

أحمد / بغـداد في 11/3/2003

٣

القسم الأوّل:

فـي الزندقة

أذكر أنّني تساءلت وأنا أكتب عن المرجئة، عمّا هو مقصود بهذا الاصطلاح الذي بلغ من السعة أنّك تستطيع أن تعد ستة أو سبعة وجوه أو أكثر، كلها تصلح أن تسمّى إرجاء، ويسمّى مَن يأخذ بها، وبأي منها، مرجئاً، دون الوقوع في خطأ.

وأراني اليوم أواجه نفس القضية، أو نفس المشكلة وأنا أريد الكتابة عن الزندقة. فما المقصود بالزندقة التي أشغلت الرأي العام الإسلامي، فترة ليست بالقصيرة، وتعرّض بسببها أو بسبب الاتهام بها، عدد من المفكّرين للقتل أو التعذيب أو التشريد.

ما الذي يجمع الوليد بن المغيرة إلى عبد الله بن المقفّع، والعاص بن وائل إلى أبي حيان التوحيدي، والوليد بن يزيد إلى أبي العلاء المعرّي، وكلهم متهمون بالزندقة مشمولون بالانتساب إليها.

ما الذي يجمع هؤلاء أو يقرّب بينهم من نسب أو فكر أو مذهب، ليمكن للمؤرّخين وأصحاب المقالات من المسلمين، أن يطلقوا عليهم جميعاً، اسم الزنادقة، دون أن يجدوا في ذلك حرجاً أو مأثماً، يمنعهم من هذا التخليط الذي كان خيراً لهم منه، سكوت لا يضر صاحبه ولا يضلل قارئه.

عليّ إذن أن أُحدّد مفهوم الزندقة أوّلاً، وهل أراد المؤرّخون وأصحاب المقالات من ذلك، مذهباً بعينه أو اخترعوا هم مذهباً بعينه، اسمه الزندقة واسم أتباعه الزنادقة، ليصح بعد، أن نصف شخصاً ما بأنّه زنديق. أم أنّ الزندقة كانت تهمة تتسع حتى تلحق أي شخص ترى فيه السلطة - آنذاك - تهديداً لها بأيّ شكلٍ ظهر هذا التهديد.

٤

الفصـل الأوّل:

مفهوم الزندقة عند المسلمين

لكي نعرف ما هو مفهوم الزندقة عند المؤلّفين من المسلمين، سأضع أمامك سيدي القارئ، ثبتاً بأسماء عدد، ممّن يعتبرهم هؤلاء: زنادقة.

وأنا لا أدعي أنّ مَن ذكرتهم هم كل الزنادقة. وإنّما هم الذين تتردّد في الغالب أسماؤهم في المصادر التي تتناول الموضوع، والذين عثرت عليهم فيها، وأنا أعد لهذا الكتاب.

وإذا كنت ترى أنّي أثقلت عليك بكل هذه الأسماء. فعذري أنّ ذلك قد يكون ضرورياً، لتتمّ المناقشة في حدود العلم، دون شطط أو اجتهاد.

1ـ الوليد بن المغيرة (والد الصحابي خالد بن الوليد).

2ـ أبو سفيان (قبل إسلامه).

3ـ عقبة بن أبي معيط

4ـ العاص بن وائل السهمي (والد الصحابي عمرو بن العاص).

5ـ أُبي بن خلف

6ـ منبّه بن الحجاج

7ـ نبيه بن الحجاج

8ـ يحيى بن زياد

9ـ بشّار بن برد

10ـ أبو نواس

11ـ آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

12ـ والبة بن الحباب

13ـ مطيع بن إياس

14ـ يعقوب بن الفضل الهاشمي

15ـ علي بن داود العباسي

16ـ داود بن روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة

17ـ عبد الله بن المقفّع

18ـ منقذ بن زياد الهلالي

19ـ حماد عجرد

20ـ صالح بن عبد القدوس

21ـ معن بن زائدة

22ـ ابن الراوندي

23ـ حماد الراوية

24ـ حماد بن الزبرقان

25ـ محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط

26ـ إسحاق بن خلف

٥

27ـ أبو حيان التوحيدي

28ـ عبد الكريم بن أبي العوجاء

29ـ أبو العلاء المعري

30ـ أبو زيد البلخي

31ـ ديك الجن

32ـ الوليد بن يزيد

33ـ عبد الكريم بن نويرة الذهلي

34ـ الجعد بن درهم

35ـ خالد بن عبد الله القسري

36ـ أبو طالوت

37ـ أبو شاكر

38ـ ابن أخي أبي شاكر

39ـ نعمان بن أبي العوجاء

40ـ ابن الأعدى الحريزي

41ـ ابن سيابة

42ـ سلم الخاسر

43ـ علي بن الخليل

44ـ علي بن ثابت

45ـ أبو عيسى الوراق

46ـ أبو العباس الناشئ

47ـ محمد بن أحمد الجبهاني

48ـ محمد بن عبيد الله

49ـ محمد بن عبد الملك الزيات

50ـ أنس بن أبي شيخ

51ـ أبو دلامة

52ـ علي بن عبيدة الريحاني

٦

53ـ الحسين بن الصباح الإسماعيلي

54ـ منقذ بن عبد الرحمان الهلالي

55ـ حفص بن أبي وردة

56ـ يونس بن أبي فروة

57ـ عمارة بن حمزة

58ـ يزيد بن الفيض

59ـ جميل بن محفوظ

60ـ أبان بن عبد الحميد اللاحقي

61ـ علي بن ثابت

62ـ أبو العتاهية

63ـ علان الشعوبي

64ـ شريك القاضي

65ـ علي بن الخليل

66ـ جهم بن صفوان

67ـ أبو يحيى

68ـ أبو علي سعيد

69ـ أبو علي رجا

70ـ نرد أنبحت

71ـ زائدة بن معن بن زائدة

72ـ عمار ذي كناز الهمداني

73ـ مروان بن محمد (الخليفة الأموي).

74ـ أبو حفص الحداد

75ـ مطر بن أبي الغيث

76ـ الصيمري

77ـ أبو سعيد الحصيري

78ـ جرير بن حازم الأزدي

٧

79ـ الثغوري

80ـ أبو إسحاق النصيبي

81ـ الشلمغاني

82ـ المغيرة بن سعيد

83ـ محمد بن زكريا الرازي

84ـ ابن ذر الصيرفي

85ـ الحسن بن الصباح

86ـ ابن أبي الوليد

87ـ الشيخ محمد عبدة الإمام (المصلح المصري الكبير).

هذا عن الأفراد الذين يضاف إليهم أُسَر كاملة: كالبرامكة، وآل سهل، أو فرق مذهبية كاملة: كالمعتزلة، وأصحاب الكلام، وكالفاطميين العبيديين أصحاب مصر.

والآن، بعد استعراض كل هذه الأسماء، التي قد نجد الكثير ممّا يفرّق بينها، ولا تجد شيئاً ممّا يجمعها؛ أظنّ من حقّك أن تتساءل عمّا تعني الزندقة والزنادقة. وهل هناك مذهب مهما جررت من أطرافه ووسعت فيه، يستطيع أن يضم هؤلاء جميعاً، ويبقى مع ذاك مذهباً واحداً، دون أن تسخر من التاريخ والمؤرّخين، ودون أن تشك، لا فيما تناولوا من موضوع الزندقة والزنادقة، بل من كل المواضيع التي تناولوها.

ستجد في هؤلاء الزنادقة، المشرك الوثني والمسلم الموحّد.

ستجد العربي الصليبة، والعربي المغموز النسب، والمولى، والفارسي.

ستجد الجاهلي، والمخضرم، ومَن عاش في ظل الإسلام.

ستجد الملحد الدهري، والثنوي، والشاك، والمتحيّر.

ستجد الماجن الخليع الراكض وراء لذّات الحياة، والزاهد المتعفّف الذي ترك الحياة ولذّاتها.

ستجد مَن يؤمن بالاثنين، ومَن ينكر الواحد.

ستجد مَن جعل مذهبه اللواط ونكاح المحارم، ومَن حرّم على نفسه حتى الزواج الذي حلّله الله ودعا إليه.

٨

ستجد المفكّر صاحب الرأي، والهازل الذي لا يريد أن يفكّر أو يكون له رأي.

ستجد مَن تبع مزدك، ومَن قاتل مزدك.

كيف أصبح كل هؤلاء إذن أتباع مذهب واحد، هو الذي اصطلح على تسميته زندقة. وهم لو سألتهم لأنكر كل منهم صاحبه، وبرئ منه ولعن مذهبه.

وهكذا أراني سأتجاوز ما تعارف عليه الكتّاب في الزندقة من محاولة التمهيد لكتاباتهم، بالوقوف عند أصل الكلمة (زندا أوفستا) كتاب زرادشت، وتطوّرها بعد ذاك , فليس علمياً ولا مجدياً أن تحاول جمع ما لا يجتمع، ثم ترجعه، خلافاً لأبسط قواعد المنطق، إلى لفظ قديم لا صلة له مطلقاً بما تريده منه، ولا يحدّد شيئاً ممّا استعمل فيه.

أيّة صلة بين زندا أوفستا وبين بعض من رأينا، ممّن لا يؤمن بزرادشت ولم يسمع به ولا بكتابه، ومَن لم يعرف أنّ في الدنيا كان يعيش شخص اسمه زرادشت.

سأتجاوز إذن أصل اللفظ، وما كان يعنيه في البدء لأنتقل إلى ما كان الناس يفهمون منه، وما كانت السلطة تريد به، وما كان المؤلّفون يقصدون إليه، وهم يبررون عمل السلطة وأحياناً يسبقونه ويمهّدون إليه.

ولكن قبل أن أصل إلى ذلك الموضع، رأيت هؤلاء المؤلّفين يتحدثون عن زندقة وزنادقة في الجاهلية، محدّدين أشخاصاً وقبائل عرفوا بالزندقة.

ولهذا آثرت أن أبدأ من هنا. فزندقة الجاهلية أمر فيه طرافة تثير الفضول. فأنا لم أكن أعرف مثلاً أنّ في الجاهلية زنادقة. وإذا عرفت فأنا أجهل ماذا كانت تعني الزندقة عندهم، ولا العلاقة التي تربط هؤلاء بزنادقة الإسلام: فيم يلتقون و فيم يفترقون! وهل من سبيل إلى تحديد مذاهبهم واتجاهاتهم. وهل تعرّضوا أو بعضهم للقتل كما حصل ذلك في الإسلام؟!

٩

الفصـل ا لثاني:

الزندقـة في الجاهليـة

1 - الزندقة وقريش:

عند الحديث عن أديان العرب في الجاهلية توقّفت طويلاً، وأنا أقرأ ما يذكره ابن قتيبة ويتابعه آخرون (1) عن الزندقة في قريش، والمجوسية أو الزندقة في تميم. فاللفظان، وألفاظ كثيرة أُخرى سنصادفها فيما بعد، يستعملها المؤرّخون المسلمون ويردّدونها في كتبهم، وهم لا يريدون غير الشيء نفسه وإن كان كلامهم هنا عن الزندقة في قريش والمجوسية في تميم؛ يشير إلى أنّ هؤلاء المؤلّفين يميّزون بين ديانتين جاهليتين مختلفتين لكل من قريش ومن تميم.

ويضيف ابن قتيبة، وكأنّه يجيب على سؤال حول مصدر الزندقة عند قريش أنّهم (أخذوها من الحيرة).

وأول ما ألاحظه هنا. أنّ الحيرة كانت نصرانية، وكان أهلها أو غالبيتهم نصارى كما هو معروف. فدورها، إذا قبلت أن يكون لها دور ديني في المحيط العربي، لن يتجاوز النصرانية ولن يتعدّاها.

لقد كانت عاصمة المناذرة على آلاف الكيلومترات من مكّة. وكانت قبائل عربية كثيرة أقرب من قريش ومكّة، إلى الحيرة وأوثق صلة بها وبأهلها. لكنّها لم تعرف الزندقة ولم تدن بها، وهي أولى باعتناقها من قريش التي كان اتصالها وخط رحلاتها إلى الشام واليمن. في الصيف إلى الأُولى، وفي الشتاء إلى الثانية. وليس بينهما الحيرة أو مكان قريب منها.

____________________

(1) المعارف لابن قتيبة طبعة سنة 1960 تحقيق الدكتور ثروت عكاشة ص621 والحور العين لنشوان بن سعيد تحقيق كمال مصطفى ط1972 ص136 والأعلاق النفيسة ط ليدن 1892 ص217.

١٠

كنت ترى في الحيرة، وعند ملوكها من المناذرة، وفود العرب من كل القبائل: تميم وغطفان وهوازن وبكر وتغلب وسواها. وقلّما رأيت فيها أو عند ملوكها وفوداً من قريش.

ترى حاجب بن زرارة، وأكثم بن صيفي، وحذيفة بن بدر، والحارث بن ظالم، والربيع بن زياد، وعامر بن مالك، وخالد بن جعفر، وقيس بن مسعود، والحوفزان بن شريك، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم.

ولا ترى أحداً من سادات قريش وزعمائها، لا عبد المطلب، ولا أبا طالب، ولا أبا سفيان، ولا عتبة بن ربيعة، ولا الوليد ابن المغيرة، ولا أمية بن خلف، ولا مَن هو في منزلتهم، ولا مَن هو دونهم إلاّ في النادر القليل من المناسبات.

فأيّة صلة هذه التي يتحدث عنها المؤرّخون، أو أيّة زندقة هذه التي قطعت مسافة بين الحيرة ومكّة، دون أن تتوقّف أو تنزل في قبيلة من قبائل العرب المنتشرة على طول الطريق، وكأن طائرة حملتها من مطار الحيرة لتحط بها في مطار مكّة.

وكيف سنوفِّق بين زندقة قريش، وبين تحمّسها لدينها وتشدّدها في التمسّك به والدفاع عنه، حتى أطلقوا عليها وعلى بعض القبائل التي سلكت سبيلها اسم الحمس المأخوذ من الحماس أو الحماسة، أي التشدّد في الدين ورعايته والحفاظ عليه، وهو ما يتفق عليه المؤرّخون.

ثم ماذا يعني المؤرّخون بالزندقة، وهم يتحدثون عن زندقة قريش في الجاهلية؟!

حين يتحدث هؤلاء عن الزندقة في الإسلام. فإنّ تهم الكيد للعروبة والسعي لإعادة مجد فارس، ومحاولة هدم الإسلام، ترهقك من كثرة ما تتردّد عند أي واحد منهم، وهو يريد أن ينال من عدو له، أو مذهب يراه عدواً له، أو رأي يخالف ما ألّف واعتاد.

والآن، في حديثهم عن زندقة قريش، ماذا يريدون وأيّة تهمة سيوجّهونها لقريش، والزندقة هي الزندقة، قرشية كانت أم غير قرشية.

لا مجال للحديث عن الكيد للعروبة والسعي لإعادة مجد فارس، فهذه التهمة لا يمكن طبعاً إثارتها أو التعلّق بها هنا، ونحن في بطاح مكّة وبين رؤوس العرب وقادتها.

ولا مجال للحديث عن الإسلام ومحاولة هدمه؛ لأنّ الأمر يخص الجاهلية قبل أن يولد الإسلام، وربّما قبل أن يولد نبي الإسلام. فهذه التهمة ساقطة بالضرورة، ولا يمكن اللجوء إليها كما يفعلون عادةً حين يهاجمون مَن يسمّونهم الزنادقة في العصور الإسلامية.

١١

ولا يمكن الحديث عن إلحاد قريش، وهي المتمسّكة بأوثانها، والمقاتلة عنها حتى مجيء الإسلام وانتصاره.

كما لا يراد بالزندقة، الكفر فهي غيره ولا تلازم بينهما، وإلاّ لكان العرب كلهم قبل الإسلام زنادقة، لا قريش وحدها. ولكان غير المسلمين من أتباع الديانات الأُخرى كلهم زنادقة أيضاً عند المسلمين؛ لأنّهم كلهم كفّار في نظرهم.

فماذا كانت زندقة قريش إذن؟!

هل كانت قريش مانوية تؤمن بالأصلين: النور والظلمة اللذين جاء بهما ماني، وبتعاليمه من تحريم النكاح وقطع النسل، وعدم ذبح الحيوان أو إيلامه.

لا أحد يقول بهذا ولا بما هو قريب منه، وقد ملأ نسلهم الأرض. كما كانت غاية الفخر عندهم أن ينحروا لمن ينزل عندهم ويضيفهم. بل إنّ الإنسان وهو كائن ذو روح لم يكن قتله إلاّ أمراً معتاداً كلما نشبت حرب أو ثار قتال، وما أكثر ما تنشب الحرب أو يثور القتال.

هل كانت قريش مزدكية آمنت بمزدك واعتنقت ما كان يدعو إليه من إباحة المال والنساء مثلاً، بعد ما تركنا الكيد للعروبة، والسعي لإعادة مجد فارس، ومحاولة هدم الإسلام والطعن بنبوّة محمد، وتركنا الإلحاد والكفر والمانوية التي تحرّم النكاح وذبح الحيوان.

أيمكن لأحدنا أن يتصوّر ذلك؟! ولكن هل ترك ابن قتيبة ومَن تبعوه من خيارٍ أمامنا غير الذي اختاروه لنا، جهلاً منهم وسوء تقدير لما يترتّب على كلامهم.

١٢

وأظن ابن حبيب (1) والثعالبي (2) كانا أدق وأوضح حين ذكروا أشخاصاً معيّنين من قريش وصفاهم بالزندقة.

وهؤلاء الأشخاص هم:

1 - أبو سفيان (قبل أن يسلم).

2 - الوليد بن المغيرة المخزومي (والد الصحابي خالد بن الوليد).

3 - العاص بن وائل السهمي (والد الصحابي عمرو بن العاص).

4 - عقبة ابن أبي معيط الأموي (والد الوليد بن عقبة بن أبي معيط).

5 - أُمية بن خلف الجمحي المقتول ببدر.

6 - نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان المقتولان ببدر.

فحين ينحصر الأمر في أشخاص محدّدين: ستة أو سبعة أو أقل أو أكثر، فإنّ تفسير اعتناقهم الزندقة أو غير الزندقة سيكون أسهل، ولا يثير الصعوبات التي يثيرها الادعاء بنسبة قبيلة كاملة مثل قريش إلى الزندقة.

لكنّه سيثير على كل حال نفس السؤال الذي أُثير قبل قليل: ما هي طبيعة الزندقة التي اعتنقها هؤلاء الستة أو السبعة، أو الأقل أو الأكثر من سادات قريش ورجالها؟

هل كانوا من أتباع مزدك في شيوعية المال والنساء؟!

وأسفت ألاّ يكون في المكتبات شيء من مؤلّفات الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل في الفرق والعقائد، ولا في كشف الظنون اسم واحد من مؤلّفاتهم، ولعلّها غرقت فيما غرق من كتبهم في العقائد والفلسفة وحرب الفجار، عند هجوم التتار على بغداد، وهو ما منعني من معرفة الوجه في زندقتهم، والفرق بينها وبين مجوسية تميم. وهل أنّ الزندقة في قريش تستحلّ نكاح المحارم كما يستحلّها المجوسية في تميم؟!

ومع ضياع مؤلّفات الوليد والعاص وأصحابهما. رأيت أن ألقى أحدهم وأسأله عن صحّة ما يقوله المؤلّفون عنهم. وقد فضّلت أن يكون لقائي مع الوليد فهو كبير القوم وشيخهم، وليس لي أن أتجاوزه بالسؤال من غيره.

وتوجهت إليه بالسؤال الذي حملته معي عن صحّة ما يزعمه المؤرّخون عنهم من نكاح البنات، كما اتهموا حاجب بن زرارة سيد تميم بذلك.

____________________

(1) المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب ت 245، رواية أبي سعيد السكري، تحقيق الدكتورة ايلزة شنيتر نشر المكتب التجاري بيروت ص161.

(2) لطائف المعارف لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ت 429، تحقيق إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي، نشر دار إحياء الكتب العربية ص104.

١٣

وما بدأت سؤالي حتى اربدّ وجهه وكان بجنبه سيف قاطع رأيت يده قد امتدت إليه فعرفت أيّة حماقة ارتكبت. وانسحبت مسرعاً قبل أن أندم على هذا اللقاء الذي لن ينفعني فيه، لو حصل المكروه - وقد كاد أن يحصل - لا ابن حبيب ولا ابن قتيبة، ولا جميع الذين كتبوا ممّن كذبوا عليهم.

وعلى كلٍّ، فإنّ ابن حبيب والثعالبي يقعان في خطأ آخر حين ينصّان على أنّ هؤلاء الزنادقة (تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة) (1) فأنا أفهم أن يتعلّم الزنديق زندقته من الزنادقة، ويأخذ النصراني نصرانيّته من النصارى. أمّا أن يتعلّم الزنادقة زندقتهم من النصارى، فهذا ما لا أفهمه ولا أظن أحداً غيري يفهمه. فالمرء يأخذ عقيدته عادةً أو يتعلّمها إن لم يكن قد نشأ عليها، من أصحابها لا من الغرباء عنها؛ الإسلام من المسلمين، والمسيحية من المسيحيين، والزندقة من الزنادقة. وأحسب هذا من الأُمور التي لا مجال للنقاش فيها.

أمّا أن يأخذ المسيحي مسيحيّته من المسلم، والزنديق زندقته من المسيحي، فهذا ما لا نجد جوابه إلاّ عند ابن حبيب.

ولو تجاوزنا عن ذلك فكيف صبأ هؤلاء، وتركوا دينهم ودين آبائهم فتزندقوا، ولم تعترضهم قريش ولم تمسّهم بسوء، ولم تمنعهم أو تؤذهم كما فعلت مع محمد. ولم تعادِ وتقاطع عشائرهم كما عادت وقاطعت عشيرة محمد، خصوصاً وأنّ ما يدعون إليه من إشاعة المال والنساء كما تذهب إلى ذلك المزدكية، أجلب للخطر والعار وأحرى أن يلغي نفوذ قريش وهيبتها بين قبائل العرب.

أليست الزندقة رفضاً للأوثان وإنكاراً لعبادتها؟

وعلى ماذا قامت دعوة محمد، أوّل ما قامت، غير رفض الأوثان وإنكار عبادتها واستبدال عبادة الله وتوحيده بها.

فلِم تشدّدت قريش هنا وتسامحت هناك؟!

هذا هو السؤال. إلاّ أن يكون المؤرّخون أخطأوا في حديثهم عن زندقة قريش. أو أن يكونوا قصدوا بالزندقة، غير ما نعرف. وليس هذا ممّا نؤاخذ عليه، في أيّة حال.

____________________

(1) المحبر لابن حبيب ص161 ولطائف المعارف للثعالبي ص102.

١٤

١٥

2 - المجوسيّة في تميم:

لا أدري من هذا الذي حدّد لأول مرة أديان العرب في الجاهلية، ووزّعها بين قبائلهم، أو وزع قبائلهم بينها؟ وكيف وصل هذا التوزيع مؤرّخينا فأخذوا به وردّدوه وتداولوه في كتبهم، دون تفكير فيه أو محاولة لتصحيح ما كان بيّن الخطأ منه.

كيف قبلوا ونقلوا مثلاً أنّ تميماً: هذه القبيلة التي إذا غضبت حسبت الناس كلهم غضابا، يمكن أن تدين بالمجوسية أو تدنو منها، وهو رأي مؤرّخينا حين يعرضون لأديان العرب في الجاهلية ويخوضون في حديثها.

يقول ابن قتيبة (1) ونشوان (2) وابن رستة (3) : (وكانت المجوسية في تميم) ثم يضيفون: (منهم زرارة بن عدس وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته وندم …) كأنّهم بذلك يريدون أن يؤكّدوا ما يقولون عن تميم.

فمجوسية تميم إذن هي المزدكية على وجه التخصيص من بين مذاهب الفرس الأُخرى. فهذا المذهب وحده خلافاً لتلك المذاهب، هو الذي يقوم على إباحة النساء وتحليل المحارم من بنت وغير بنت، وهو كما سترى ليس من المجوسية في شيء.

وما أظنّني، منذ مدة قد تكون طويلة، ضحكت من شيء قدر ضحكي من هذا الغباء الذي يريد أن يكون علماً، وهو لن يكون ذلك، حتى لو ألبسوا صاحبه ألف جبّة، ووضعوا على رأسه ألف عمامة.

وتذكّرت جريراً وأسفت ألاّ يكون العمر قد امتد به حتى يقرأ كتاب ابن قتيبة، فيستغني بما ورد فيه عن حاجب وفعلته مع ابنته دختنوس عن كل ما سواه ممّا هجا به الفرزدق.

ماذا كان سيجد أوجع وأقسى وأهدم لمجد الفرزدق ومجد أهله وعشيرته من أن يكون أحد مفاخره الكبيرة: سيد دارم وسيد تميم كلها قد نكح ابنته.

إذن لن يبخل على ابن قتيبه بقصيدة مديح من عالي شعره، وقد جنّبه الكثير من السهر والجهد والتعب وهو يقارع الفرزدق ويهاجيه، ويفتّش عن مثالب قومه من بني دارم.

أين يقع الهجاء بيوم تهزم فيه بنو دارم، يقابله يوم أو أيام ينتصرون فيها، كما يجري لجميع قبائل العرب، في جنب نكاح سيّدهم لابنته، وهو ما لم يعرفه العرب.

____________________

(1) المعارف، تحقيق الدكتور ثروت عكاشة، ط 1960 ص621.

(2) الحور العين: ص136.

(3) الأعلاق النفيسة، ط ليدن 1892 ص217.

١٦

لا يوم رحرحان ولا شعب جبلة، ولا غيرهما من الأيام التي هزمت فيها بنو دارم، تعدل فضيحة الفرزدق في عميد قومه حاجب الذي لم يعرف العرب فداءً أغلى من فدائه، أي هجاء أمض وأقطع للفرزدق ممّا فعله حاجب مع ابنته؟!

ولكن إذا كان جرير لم يمتد به العمر ليقرأ (معارف) ابن قتيبة فإنّ ابن قتيبة لا بد أنّه بلغه شعر جرير وسمعه وقرأه وهو يهجو دارماً، ويذكر في بعضه دختنوس هذه، ولكنّه لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما وصمها به ابن قتيبة. وما أظن جريراً الذي أقذع وتجاوز الحد في هجاء الفرزدق، سيغفل عن هذا ولا ما يكون دونه، وهو قد مزق عرض جعثن أخت الفرزدق، وهي تميمية حنظلية مثله لن يسلم هو، لا الفرزدق وحده، من العار لو صحّ ما نسبه إليها، اسمع إليه وهو يقول:

أو دختنوس غداة حز قرونها

ودعت بدعوة ذلة وثبور

فهل سمعت شيئاً ممّا يعيب المرأة؟ هل سمعت غير أنّها جزّت شعرها حزناً على أبيها الذي قُتل في المعركة كأيّة امرأة عربية حين يبلغها مقتل أبيها، وهو سيّد القوم وفارسهم.

ولنترك جريراً التميمي الحنظلي الذي قد يكون كفّه عن ذلك نسب واحد يجمعه بدختنوس وحاجب، وهو ما أقطع بخلافه كما ذكرت قبل قليل، فما بال الشعراء الآخرين من غير تميم سكتوا عن هذه الحادثة، فلم يتعلقوا بها ولم يرددوها في شعرهم وهم يهاجمون الفرزدق وغير الفرزدق من شعراء تميم.

وبعد جرير والفرزدق وحديث الشعر والشعراء، أعود مرة أُخرى إلى رواية ابن قتيبة لأسأل: مَن تكون دخنتوس هذه التي جعلها صاحب المعارف، بنتاً لحاجب بن زرارة، ونسب إليها وإلى حاجب ما أستنتج منه المجوسية في تميم؟

دختنوس هذه باتفاق المؤرّخين لم تكن بنت حاجب كما ادعى، بل بنت أخيه لقيط بن زرارة سيد تميم وفارسها يوم الشعب، وكانت متزوّجة من عمرو بن عمرو بن عدس الدارمي أحد فرسان تميم المعدودين.

١٧

هذا ما يقوله أبو عبيدة معمر بن المثنى المعروف بتطلبه لمثالب العرب في النقائض (1) ومحمد بن حبيب في المحبر (2) وابن عبد ربه في العقد الفريد (3) وأبو الفرج في الأغاني (4) وبين هؤلاء مَن هو أسبق من ابن قتيبة، ومَن عاصره، ومَن جاء بعده. لم ينسبها لحاجب منهم أحد ولم يذكر الحادثة منهم أحد.

ويؤكّده ما ينقله هؤلاء المؤرّخون ومؤرّخون غيرهم من الذين كتبوا عن أيام العرب، ومنها يوم شعب جبله بين تميم وذبيان وبين عامر وعبس أنّ لقيطا قال في ذلك اليوم:

يا ليت شعري كيف دختنوس

إذا أتاها الخبر المرموس

وما قالته دختنوس نفسها وقد وردها مقتل أبيها وضرب بني عبس له وهو قتيل:

ألا يا لها الويلات ويلة مَن بكى

لضرب بني عبسٍ لقيطاً وقد قضى

ولأترك هذا كله، فكيف تكون المجوسية واستحلال المحارم في تميم، ولم تعرف قبيلة من قبائل العرب بوأد البنات، كما عرفت تميم التي انتشر الوأد فيها اتقاءً للعار وهرباً ممّا تجرّه البنت عليها، وهم معرّضون للغزو والغارة والنصر والهزيمة، وليس أجلب للعار ممّا يمكن أن يحصل للبنت في أثناء ذلك.

لقد جاء الإسلام وصعصعة بن ناجية المجاشعي الدارمي جد الفرزدق، ومن رهط حاجب، قد أحيى مئات الموءودات وكان ذلك من أكبر مفاخر الفرزدق التي انفرد بها وهو يهاجي جريراً.

فلمَ الوأد إذن وقتل البنت وهي طفلة لم يصدر عنها ما يشين، إذا كانت تميم نفسها تبيح نكاح البنت ولا تجد فيه عاراً، وإذا كان سيّدهم حاجب بن زرارة قد استحل ذلك ونكح هو ابنته؟!

لقد حرم قيس بن عاصم المنقري التميمي الخمر على نفسه؛ لأنّه فيما يروى غمز ابنته وهو سكران، فحين أُخبر بما فعل أقسم ألاّ يذوق الخمر بعدها، وكان ممّن حرّمها على نفسه في الجاهلية.

____________________

(1) النقائض لأبي عبيدة، ط ليدن 1907 ج2 ص665.

(2) المحبر: ص436.

(3) العقد الفريد لابن عبد ربّه، تحقيق محمد سعيد العريان ج6 ص10.

(4) الأغاني، ط دار الكتب ج11 ص144.

١٨

ثم لماذا حاجب وحده فلا يذكر ابن قتيبة آخر أو آخرين من تميم شاركوه فعله فتزوّجوا بناتهم، ما دامت تميم مجوسية تستحل نكاح البنات وتقبله ولا تتحرّج منه، سابقة بمئات السنين بعض مَن يسمّونهم طوائف الغلاة والقرامطة، الذين يتهمهم أعداؤهم باستحلال المحارم ونكاح البنات، وينسبون إليهم لتثبيت التهمة، أبيات يرددونها، أذكر منها بيتين يتعلقان بموضوعنا هذا هما:

وكيف حللت لهذا الغريب

وصرت محرمـة للأبِ

أليس الغراس لمن ربّه

وروّاه في عامه المجدبِ

وإذا كنت لا أفهم هذا كله، فمن الأحرى ألا أفهم لماذا ندم حاجب على نكاح ابنته كما يقول ابن قتيبة، وهو مجوسي لم يخرج على دينه فيما فعله ولم يخالف تعاليمه.

وأخيراً فأراني مضطراً أن أعود إلى النصوص التي تذهب إلى مجوسية تميم، وأقارن بينها مبتدئاً بنص ابن قتيبة الذي يقول: (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة، وكان تزوّج ابنته ثم ندم. ومنهم: الأقرع بن حابس وكان مجوسياً، وأبو سود جد وكيع بن حسان (1) كان مجوسياً).

وإليك نصّ ابن رسته (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي، وابنه حاجب بن زرارة، وكان تزوّج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسياً، وأبو سود جد وكيع بن حسان كان مجوسياً).

وهذا أخيراً نص نشوان بن سعيد: (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسيا وأبو سود جد وكيع بن حسان كان مجوسيا).

فهل وجدت أي فرق بين ثلاثة نصوص لثلاثة مؤرّخين مختلفين في ثلاثة عهود مختلفة متباعدة.

ألم يهتد أحدهم إلى ما يخالف الآخر في شيء: إضافة أو حذفاً أو تغييراً في عرض وترتيب المعلومات بتقديم بعض أو تأخير بعض باستثناء (ندم) التي لم ترد عند نشوان، وما أظنها سقطت إلاّ عن سهوٍ من الناسخ.

أيّ تاريخ هذا التي تستطيع أن تستغني فيه عن كل المصادر بمصدر واحد؛ لأنّها كلها تنقل عنه وتعتمد عليه. لم تبحث ولم تناقش ولم تراجع ولم تستقل برأي. فعلى كثرة ما ترى في هوامش الكتب أحياناً من أسماء مصادر، قد توهمك بأنك أمام حقيقة لا مجال للشك فيها لكثرة الناقلين أو المنقول عنهم، فإنّك لا تنقل في الواقع إلاّ عن واحد. وليس الباقون إلاّ نقلة عنه - مثلك - سبقوك في الزمن وتأخّرت.

____________________

(1) الفاتك المشهور، وقاتل قتيبة بن مسلم بخراسان في خلافة سليمان بن عبد الملك.

١٩

الفصل الثا لث:

الزندقـة فـي الإسلام

وبعد حديث الزندقة في الجاهلية الذي أعترف أنّي لم أصل فيه إلى شيء، غير مجموعة من علامات الاستفهام التي ستبقى تفتّش عن جواب حتى يأذن الله به.

أصلُ الآن إلى حديث الزندقة في الإسلام، حيث يختلط الفكر باللافكر، والزهد بالمجون، والإلحاد بمذهب الاثنين.

والعربي الصليبة بالشعوبي المتعصب ضد العرب، وحامل السيف والرمح بحارس بيت النار في معابد المجوس.

و ما أظنني سأكون أسعد حظاً في الوصول إلى نتائج مُرضية مع هذا الخليط الغريب، ممّا اصطلح على تسميته بالزندقة، وإن كان هذا لا يعفيني ولا يعفي غيري من المضي في الحديث عنها، حتى لو لم أتجاوز علامات الاستفهام التي أشرت إليها آنفاً؛ بل ربّما كان ذلك أحرى أن يغري بمحاولة، قد تلقي بعض الضوء في طريقٍ ظلّ شديد الظلام فترة غير قصيرة، ونقطة ضوء فيه ليست عديمة الفائدة إن كانت قليلة الغناء.

ولعلّ ممّا يساعد في ذلك أن نعرف متى استعمل هذا اللفظ في الوجوه، التي مثلت الزندقة عند المسلمين أو بعضها في الأقل، ومن هناك نستطيع أن نتابع تطوّره واتساعه ليتناول غيرها من الوجوه؛ إذ ليس من المعقول أن يطلق اللفظ ابتداء ليدل على ما أصبح يدل عليه، أو ما أريد منه أن يدل عليه.

٢٠