في الزندقة والشعوبية

 في الزندقة والشعوبية33%

 في الزندقة والشعوبية مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39542 / تحميل: 10026
الحجم الحجم الحجم
 في الزندقة والشعوبية

في الزندقة والشعوبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في الزندقة والشعوبية

أحمد فرج الله

١

المقدّمة:

يعالج هذا الكتاب موضوعين شغلا جزءاً كبيراً من التأريخ العربي الإسلامي، الذي قلّما تفتح كتاباً فيه دون أن يواجهك حديث الزندقة والشعوبية، متلازمين أحياناً ومنفصلين أحياناً، ولكنّهما يشيران في كل الأحيان إلى نزعة معادية للعرب أو للإسلام أو لكليهما.

هذا هو مفهوم اللفظين عند مَن يستعملهما وعند مَن يسمعهما، منذ بدأ استعمالهما في القرن الثاني الهجري، ثم اتّسع بعد ذاك خلال القرن الثالث.

ولم أكن لأحفل بالوقوف عند هذين الموضوعين، ولا بالكتابة فيهما لو أنّهما اقتصرا على الماضي، وانحصرت آثارهما فيه، وفي الحاضر أكثر من موضوع يستحق الوقوف عنده والكتابة فيه.

كنت أريد أن أنصرف إلى ما هو أولى بالانصراف إليه من مواضيع الحاضر وقضاياه، لولا ما رأيت من أنّ هذا الذي تصورته - خطأ - جزءاً من ماضٍ انتهى، قد عاد، ونحن في نهايات القرن العشرين، إلى قوّته وأكثر من قوّته: يجرح ويتهم ويهاجم. يَدفع به ويَدفع إليه، مَن كان يَدفَع به ويَدفع إليه في الماضي، مِن قوى ذات نفوذ ومصالح تريد أن تشغل الناس، وتشعل الفتنة وتثير البغضاء والكره بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد؛ لتضمن لنفسها البقاء: مبدأ ليس جديداً، وإن كان له في كل عصر لباس جديد وشعار جديد.

وإذا كانت تهمة الزندقة قد خفّت وقلَّ المهاجمون بها والراكضون إليها، فإنّ الشعوبية (١) ، مع غلبة النزعة القومية ، عادت إلى الظهور ، سلاحاً ضد الفكر الحر الذي يرفض التخلّف والجمود ، والخضوع لمسلّمات كانت وراء ما نعاني مِن تخلّف وجمود ، مع أنّ الفكر الحر هذا ليس شعوبياً ، ولم يكن يوماً شعوبياً ، بحكم طبيعته الحرة ، وليس بين مهاجميه مَن هو أوضح عروبة وأغير عليها ، منه ومن حامليه والمدافعين عنه .

ولا أُريد أن أسبق القارئ، ولا أُريد أن أعرض عليه الكتاب مختصراً في هذه المقدّمة، لكنّي أريد أن أُبدي ملاحظتين سريعتين قبل أن أتركه للكتاب، أو أترك الكتاب له يحكم فيه.

أمّا أُولاهما: فأُلاحظ أنّ الزندقة - وسيلاحظ القارئ ذلك - مفهوم بالغ الغموض عديم الملامح، أو - وهذا ما أذهب إليه - أُريد له أن يكون كذلك، ليسهل استخدامه مِن قِبل السلطة في البطش بمن تشاء، دون حاجة للبحث عن سبب ومبرّر، غير تهمة الزندقة التي تحتمل ألف شكل، مع أنّ هذه السلطة لم تكن يوماً عبر تأريخها، في حاجة إلى السبب والمبرّر لما تفعل.

وأمّا الثانية من الملاحظتين فتخص الشعوبية: هذه (الحركة) التي أُسيء فهمها فأُسيء النظر إليها. ضخمت حتى صُوِّرت وكأنّها كادت أن تهدّ ما بناه العرب من حضارة ومجد، وربّما ما تزال وراء ضعف العرب وتفكّكهم. وما كانت الشعوبية في أي من مراحلها بالقوة والتأثير الذي يمنحونه لها، وما كانت في أي من مراحلها بقادرة على القيام ببعض ما نُسب إليها. لقد كانت (تنفيساً) إذا جاز التعبير، عند بعض الأفراد والجماعات غير العربية، الفارسية على وجه الخصوص، يواجهون به الاستعلاء والازدراء عند بعض العرب، فكان ردّهم على ذلك، أن رجعوا إلى ماضيهم الثري القريب، يتغنّون مآثره، ويتأسّون به عن حاضر لا يعترف بهم.

وبعد فهذا هو الكتاب بين يدي القارئ، وهو وحده مَن يحكم فيه.

____________________

(١) لا أقصد الثورات التي قامت بها شعوب للمطالبة باستقلالها عن الدولة العربية كثورة بابك الخرمي، فليست تلك ممّا يُعالَج تحت اسم الشعوبية، ولم يعالجها المؤرّخون العرب أنفسهم تحت هذا الاسم.

أحمد

٨/ ١ / ٢٠٠٨

مونتريال - كندا

٢

الإهداء:

إلى الذين دفعوني إلى الكتابة في موضوع الزندقة والشعوبية ممّن لم يقرؤوا التأريخ أو قرؤوه ولم يفهموه أو فهموه وزوّروه.

أهدي هذا الجهد...

أحمد / بغـداد في ١١/٣/٢٠٠٣

٣

القسم الأوّل:

فـي الزندقة

أذكر أنّني تساءلت وأنا أكتب عن المرجئة، عمّا هو مقصود بهذا الاصطلاح الذي بلغ من السعة أنّك تستطيع أن تعد ستة أو سبعة وجوه أو أكثر، كلها تصلح أن تسمّى إرجاء، ويسمّى مَن يأخذ بها، وبأي منها، مرجئاً، دون الوقوع في خطأ.

وأراني اليوم أواجه نفس القضية، أو نفس المشكلة وأنا أريد الكتابة عن الزندقة. فما المقصود بالزندقة التي أشغلت الرأي العام الإسلامي، فترة ليست بالقصيرة، وتعرّض بسببها أو بسبب الاتهام بها، عدد من المفكّرين للقتل أو التعذيب أو التشريد.

ما الذي يجمع الوليد بن المغيرة إلى عبد الله بن المقفّع، والعاص بن وائل إلى أبي حيان التوحيدي، والوليد بن يزيد إلى أبي العلاء المعرّي، وكلهم متهمون بالزندقة مشمولون بالانتساب إليها.

ما الذي يجمع هؤلاء أو يقرّب بينهم من نسب أو فكر أو مذهب، ليمكن للمؤرّخين وأصحاب المقالات من المسلمين، أن يطلقوا عليهم جميعاً، اسم الزنادقة، دون أن يجدوا في ذلك حرجاً أو مأثماً، يمنعهم من هذا التخليط الذي كان خيراً لهم منه، سكوت لا يضر صاحبه ولا يضلل قارئه.

عليّ إذن أن أُحدّد مفهوم الزندقة أوّلاً، وهل أراد المؤرّخون وأصحاب المقالات من ذلك، مذهباً بعينه أو اخترعوا هم مذهباً بعينه، اسمه الزندقة واسم أتباعه الزنادقة، ليصح بعد، أن نصف شخصاً ما بأنّه زنديق. أم أنّ الزندقة كانت تهمة تتسع حتى تلحق أي شخص ترى فيه السلطة - آنذاك - تهديداً لها بأيّ شكلٍ ظهر هذا التهديد.

٤

الفصـل الأوّل:

مفهوم الزندقة عند المسلمين

لكي نعرف ما هو مفهوم الزندقة عند المؤلّفين من المسلمين، سأضع أمامك سيدي القارئ، ثبتاً بأسماء عدد، ممّن يعتبرهم هؤلاء: زنادقة.

وأنا لا أدعي أنّ مَن ذكرتهم هم كل الزنادقة. وإنّما هم الذين تتردّد في الغالب أسماؤهم في المصادر التي تتناول الموضوع، والذين عثرت عليهم فيها، وأنا أعد لهذا الكتاب.

وإذا كنت ترى أنّي أثقلت عليك بكل هذه الأسماء. فعذري أنّ ذلك قد يكون ضرورياً، لتتمّ المناقشة في حدود العلم، دون شطط أو اجتهاد.

١ـ الوليد بن المغيرة (والد الصحابي خالد بن الوليد).

٢ـ أبو سفيان (قبل إسلامه).

٣ـ عقبة بن أبي معيط

٤ـ العاص بن وائل السهمي (والد الصحابي عمرو بن العاص).

٥ـ أُبي بن خلف

٦ـ منبّه بن الحجاج

٧ـ نبيه بن الحجاج

٨ـ يحيى بن زياد

٩ـ بشّار بن برد

١٠ـ أبو نواس

١١ـ آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

١٢ـ والبة بن الحباب

١٣ـ مطيع بن إياس

١٤ـ يعقوب بن الفضل الهاشمي

١٥ـ علي بن داود العباسي

١٦ـ داود بن روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة

١٧ـ عبد الله بن المقفّع

١٨ـ منقذ بن زياد الهلالي

١٩ـ حماد عجرد

٢٠ـ صالح بن عبد القدوس

٢١ـ معن بن زائدة

٢٢ـ ابن الراوندي

٢٣ـ حماد الراوية

٢٤ـ حماد بن الزبرقان

٢٥ـ محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط

٢٦ـ إسحاق بن خلف

٥

٢٧ـ أبو حيان التوحيدي

٢٨ـ عبد الكريم بن أبي العوجاء

٢٩ـ أبو العلاء المعري

٣٠ـ أبو زيد البلخي

٣١ـ ديك الجن

٣٢ـ الوليد بن يزيد

٣٣ـ عبد الكريم بن نويرة الذهلي

٣٤ـ الجعد بن درهم

٣٥ـ خالد بن عبد الله القسري

٣٦ـ أبو طالوت

٣٧ـ أبو شاكر

٣٨ـ ابن أخي أبي شاكر

٣٩ـ نعمان بن أبي العوجاء

٤٠ـ ابن الأعدى الحريزي

٤١ـ ابن سيابة

٤٢ـ سلم الخاسر

٤٣ـ علي بن الخليل

٤٤ـ علي بن ثابت

٤٥ـ أبو عيسى الوراق

٤٦ـ أبو العباس الناشئ

٤٧ـ محمد بن أحمد الجبهاني

٤٨ـ محمد بن عبيد الله

٤٩ـ محمد بن عبد الملك الزيات

٥٠ـ أنس بن أبي شيخ

٥١ـ أبو دلامة

٥٢ـ علي بن عبيدة الريحاني

٦

٥٣ـ الحسين بن الصباح الإسماعيلي

٥٤ـ منقذ بن عبد الرحمان الهلالي

٥٥ـ حفص بن أبي وردة

٥٦ـ يونس بن أبي فروة

٥٧ـ عمارة بن حمزة

٥٨ـ يزيد بن الفيض

٥٩ـ جميل بن محفوظ

٦٠ـ أبان بن عبد الحميد اللاحقي

٦١ـ علي بن ثابت

٦٢ـ أبو العتاهية

٦٣ـ علان الشعوبي

٦٤ـ شريك القاضي

٦٥ـ علي بن الخليل

٦٦ـ جهم بن صفوان

٦٧ـ أبو يحيى

٦٨ـ أبو علي سعيد

٦٩ـ أبو علي رجا

٧٠ـ نرد أنبحت

٧١ـ زائدة بن معن بن زائدة

٧٢ـ عمار ذي كناز الهمداني

٧٣ـ مروان بن محمد (الخليفة الأموي).

٧٤ـ أبو حفص الحداد

٧٥ـ مطر بن أبي الغيث

٧٦ـ الصيمري

٧٧ـ أبو سعيد الحصيري

٧٨ـ جرير بن حازم الأزدي

٧

٧٩ـ الثغوري

٨٠ـ أبو إسحاق النصيبي

٨١ـ الشلمغاني

٨٢ـ المغيرة بن سعيد

٨٣ـ محمد بن زكريا الرازي

٨٤ـ ابن ذر الصيرفي

٨٥ـ الحسن بن الصباح

٨٦ـ ابن أبي الوليد

٨٧ـ الشيخ محمد عبدة الإمام (المصلح المصري الكبير).

هذا عن الأفراد الذين يضاف إليهم أُسَر كاملة: كالبرامكة، وآل سهل، أو فرق مذهبية كاملة: كالمعتزلة، وأصحاب الكلام، وكالفاطميين العبيديين أصحاب مصر.

والآن، بعد استعراض كل هذه الأسماء، التي قد نجد الكثير ممّا يفرّق بينها، ولا تجد شيئاً ممّا يجمعها؛ أظنّ من حقّك أن تتساءل عمّا تعني الزندقة والزنادقة. وهل هناك مذهب مهما جررت من أطرافه ووسعت فيه، يستطيع أن يضم هؤلاء جميعاً، ويبقى مع ذاك مذهباً واحداً، دون أن تسخر من التاريخ والمؤرّخين، ودون أن تشك، لا فيما تناولوا من موضوع الزندقة والزنادقة، بل من كل المواضيع التي تناولوها.

ستجد في هؤلاء الزنادقة، المشرك الوثني والمسلم الموحّد.

ستجد العربي الصليبة، والعربي المغموز النسب، والمولى، والفارسي.

ستجد الجاهلي، والمخضرم، ومَن عاش في ظل الإسلام.

ستجد الملحد الدهري، والثنوي، والشاك، والمتحيّر.

ستجد الماجن الخليع الراكض وراء لذّات الحياة، والزاهد المتعفّف الذي ترك الحياة ولذّاتها.

ستجد مَن يؤمن بالاثنين، ومَن ينكر الواحد.

ستجد مَن جعل مذهبه اللواط ونكاح المحارم، ومَن حرّم على نفسه حتى الزواج الذي حلّله الله ودعا إليه.

٨

ستجد المفكّر صاحب الرأي، والهازل الذي لا يريد أن يفكّر أو يكون له رأي.

ستجد مَن تبع مزدك، ومَن قاتل مزدك.

كيف أصبح كل هؤلاء إذن أتباع مذهب واحد، هو الذي اصطلح على تسميته زندقة. وهم لو سألتهم لأنكر كل منهم صاحبه، وبرئ منه ولعن مذهبه.

وهكذا أراني سأتجاوز ما تعارف عليه الكتّاب في الزندقة من محاولة التمهيد لكتاباتهم، بالوقوف عند أصل الكلمة (زندا أوفستا) كتاب زرادشت، وتطوّرها بعد ذاك , فليس علمياً ولا مجدياً أن تحاول جمع ما لا يجتمع، ثم ترجعه، خلافاً لأبسط قواعد المنطق، إلى لفظ قديم لا صلة له مطلقاً بما تريده منه، ولا يحدّد شيئاً ممّا استعمل فيه.

أيّة صلة بين زندا أوفستا وبين بعض من رأينا، ممّن لا يؤمن بزرادشت ولم يسمع به ولا بكتابه، ومَن لم يعرف أنّ في الدنيا كان يعيش شخص اسمه زرادشت.

سأتجاوز إذن أصل اللفظ، وما كان يعنيه في البدء لأنتقل إلى ما كان الناس يفهمون منه، وما كانت السلطة تريد به، وما كان المؤلّفون يقصدون إليه، وهم يبررون عمل السلطة وأحياناً يسبقونه ويمهّدون إليه.

ولكن قبل أن أصل إلى ذلك الموضع، رأيت هؤلاء المؤلّفين يتحدثون عن زندقة وزنادقة في الجاهلية، محدّدين أشخاصاً وقبائل عرفوا بالزندقة.

ولهذا آثرت أن أبدأ من هنا. فزندقة الجاهلية أمر فيه طرافة تثير الفضول. فأنا لم أكن أعرف مثلاً أنّ في الجاهلية زنادقة. وإذا عرفت فأنا أجهل ماذا كانت تعني الزندقة عندهم، ولا العلاقة التي تربط هؤلاء بزنادقة الإسلام: فيم يلتقون و فيم يفترقون! وهل من سبيل إلى تحديد مذاهبهم واتجاهاتهم. وهل تعرّضوا أو بعضهم للقتل كما حصل ذلك في الإسلام؟!

٩

الفصـل ا لثاني:

الزندقـة في الجاهليـة

١ - الزندقة وقريش:

عند الحديث عن أديان العرب في الجاهلية توقّفت طويلاً، وأنا أقرأ ما يذكره ابن قتيبة ويتابعه آخرون (١) عن الزندقة في قريش، والمجوسية أو الزندقة في تميم. فاللفظان، وألفاظ كثيرة أُخرى سنصادفها فيما بعد، يستعملها المؤرّخون المسلمون ويردّدونها في كتبهم، وهم لا يريدون غير الشيء نفسه وإن كان كلامهم هنا عن الزندقة في قريش والمجوسية في تميم؛ يشير إلى أنّ هؤلاء المؤلّفين يميّزون بين ديانتين جاهليتين مختلفتين لكل من قريش ومن تميم.

ويضيف ابن قتيبة، وكأنّه يجيب على سؤال حول مصدر الزندقة عند قريش أنّهم (أخذوها من الحيرة).

وأول ما ألاحظه هنا. أنّ الحيرة كانت نصرانية، وكان أهلها أو غالبيتهم نصارى كما هو معروف. فدورها، إذا قبلت أن يكون لها دور ديني في المحيط العربي، لن يتجاوز النصرانية ولن يتعدّاها.

لقد كانت عاصمة المناذرة على آلاف الكيلومترات من مكّة. وكانت قبائل عربية كثيرة أقرب من قريش ومكّة، إلى الحيرة وأوثق صلة بها وبأهلها. لكنّها لم تعرف الزندقة ولم تدن بها، وهي أولى باعتناقها من قريش التي كان اتصالها وخط رحلاتها إلى الشام واليمن. في الصيف إلى الأُولى، وفي الشتاء إلى الثانية. وليس بينهما الحيرة أو مكان قريب منها.

____________________

(١) المعارف لابن قتيبة طبعة سنة ١٩٦٠ تحقيق الدكتور ثروت عكاشة ص٦٢١ والحور العين لنشوان بن سعيد تحقيق كمال مصطفى ط١٩٧٢ ص١٣٦ والأعلاق النفيسة ط ليدن ١٨٩٢ ص٢١٧.

١٠

كنت ترى في الحيرة، وعند ملوكها من المناذرة، وفود العرب من كل القبائل: تميم وغطفان وهوازن وبكر وتغلب وسواها. وقلّما رأيت فيها أو عند ملوكها وفوداً من قريش.

ترى حاجب بن زرارة، وأكثم بن صيفي، وحذيفة بن بدر، والحارث بن ظالم، والربيع بن زياد، وعامر بن مالك، وخالد بن جعفر، وقيس بن مسعود، والحوفزان بن شريك، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم.

ولا ترى أحداً من سادات قريش وزعمائها، لا عبد المطلب، ولا أبا طالب، ولا أبا سفيان، ولا عتبة بن ربيعة، ولا الوليد ابن المغيرة، ولا أمية بن خلف، ولا مَن هو في منزلتهم، ولا مَن هو دونهم إلاّ في النادر القليل من المناسبات.

فأيّة صلة هذه التي يتحدث عنها المؤرّخون، أو أيّة زندقة هذه التي قطعت مسافة بين الحيرة ومكّة، دون أن تتوقّف أو تنزل في قبيلة من قبائل العرب المنتشرة على طول الطريق، وكأن طائرة حملتها من مطار الحيرة لتحط بها في مطار مكّة.

وكيف سنوفِّق بين زندقة قريش، وبين تحمّسها لدينها وتشدّدها في التمسّك به والدفاع عنه، حتى أطلقوا عليها وعلى بعض القبائل التي سلكت سبيلها اسم الحمس المأخوذ من الحماس أو الحماسة، أي التشدّد في الدين ورعايته والحفاظ عليه، وهو ما يتفق عليه المؤرّخون.

ثم ماذا يعني المؤرّخون بالزندقة، وهم يتحدثون عن زندقة قريش في الجاهلية؟!

حين يتحدث هؤلاء عن الزندقة في الإسلام. فإنّ تهم الكيد للعروبة والسعي لإعادة مجد فارس، ومحاولة هدم الإسلام، ترهقك من كثرة ما تتردّد عند أي واحد منهم، وهو يريد أن ينال من عدو له، أو مذهب يراه عدواً له، أو رأي يخالف ما ألّف واعتاد.

والآن، في حديثهم عن زندقة قريش، ماذا يريدون وأيّة تهمة سيوجّهونها لقريش، والزندقة هي الزندقة، قرشية كانت أم غير قرشية.

لا مجال للحديث عن الكيد للعروبة والسعي لإعادة مجد فارس، فهذه التهمة لا يمكن طبعاً إثارتها أو التعلّق بها هنا، ونحن في بطاح مكّة وبين رؤوس العرب وقادتها.

ولا مجال للحديث عن الإسلام ومحاولة هدمه؛ لأنّ الأمر يخص الجاهلية قبل أن يولد الإسلام، وربّما قبل أن يولد نبي الإسلام. فهذه التهمة ساقطة بالضرورة، ولا يمكن اللجوء إليها كما يفعلون عادةً حين يهاجمون مَن يسمّونهم الزنادقة في العصور الإسلامية.

١١

ولا يمكن الحديث عن إلحاد قريش، وهي المتمسّكة بأوثانها، والمقاتلة عنها حتى مجيء الإسلام وانتصاره.

كما لا يراد بالزندقة، الكفر فهي غيره ولا تلازم بينهما، وإلاّ لكان العرب كلهم قبل الإسلام زنادقة، لا قريش وحدها. ولكان غير المسلمين من أتباع الديانات الأُخرى كلهم زنادقة أيضاً عند المسلمين؛ لأنّهم كلهم كفّار في نظرهم.

فماذا كانت زندقة قريش إذن؟!

هل كانت قريش مانوية تؤمن بالأصلين: النور والظلمة اللذين جاء بهما ماني، وبتعاليمه من تحريم النكاح وقطع النسل، وعدم ذبح الحيوان أو إيلامه.

لا أحد يقول بهذا ولا بما هو قريب منه، وقد ملأ نسلهم الأرض. كما كانت غاية الفخر عندهم أن ينحروا لمن ينزل عندهم ويضيفهم. بل إنّ الإنسان وهو كائن ذو روح لم يكن قتله إلاّ أمراً معتاداً كلما نشبت حرب أو ثار قتال، وما أكثر ما تنشب الحرب أو يثور القتال.

هل كانت قريش مزدكية آمنت بمزدك واعتنقت ما كان يدعو إليه من إباحة المال والنساء مثلاً، بعد ما تركنا الكيد للعروبة، والسعي لإعادة مجد فارس، ومحاولة هدم الإسلام والطعن بنبوّة محمد، وتركنا الإلحاد والكفر والمانوية التي تحرّم النكاح وذبح الحيوان.

أيمكن لأحدنا أن يتصوّر ذلك؟! ولكن هل ترك ابن قتيبة ومَن تبعوه من خيارٍ أمامنا غير الذي اختاروه لنا، جهلاً منهم وسوء تقدير لما يترتّب على كلامهم.

١٢

وأظن ابن حبيب (١) والثعالبي (٢) كانا أدق وأوضح حين ذكروا أشخاصاً معيّنين من قريش وصفاهم بالزندقة.

وهؤلاء الأشخاص هم:

١ - أبو سفيان (قبل أن يسلم).

٢ - الوليد بن المغيرة المخزومي (والد الصحابي خالد بن الوليد).

٣ - العاص بن وائل السهمي (والد الصحابي عمرو بن العاص).

٤ - عقبة ابن أبي معيط الأموي (والد الوليد بن عقبة بن أبي معيط).

٥ - أُمية بن خلف الجمحي المقتول ببدر.

٦ - نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان المقتولان ببدر.

فحين ينحصر الأمر في أشخاص محدّدين: ستة أو سبعة أو أقل أو أكثر، فإنّ تفسير اعتناقهم الزندقة أو غير الزندقة سيكون أسهل، ولا يثير الصعوبات التي يثيرها الادعاء بنسبة قبيلة كاملة مثل قريش إلى الزندقة.

لكنّه سيثير على كل حال نفس السؤال الذي أُثير قبل قليل: ما هي طبيعة الزندقة التي اعتنقها هؤلاء الستة أو السبعة، أو الأقل أو الأكثر من سادات قريش ورجالها؟

هل كانوا من أتباع مزدك في شيوعية المال والنساء؟!

وأسفت ألاّ يكون في المكتبات شيء من مؤلّفات الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل في الفرق والعقائد، ولا في كشف الظنون اسم واحد من مؤلّفاتهم، ولعلّها غرقت فيما غرق من كتبهم في العقائد والفلسفة وحرب الفجار، عند هجوم التتار على بغداد، وهو ما منعني من معرفة الوجه في زندقتهم، والفرق بينها وبين مجوسية تميم. وهل أنّ الزندقة في قريش تستحلّ نكاح المحارم كما يستحلّها المجوسية في تميم؟!

ومع ضياع مؤلّفات الوليد والعاص وأصحابهما. رأيت أن ألقى أحدهم وأسأله عن صحّة ما يقوله المؤلّفون عنهم. وقد فضّلت أن يكون لقائي مع الوليد فهو كبير القوم وشيخهم، وليس لي أن أتجاوزه بالسؤال من غيره.

وتوجهت إليه بالسؤال الذي حملته معي عن صحّة ما يزعمه المؤرّخون عنهم من نكاح البنات، كما اتهموا حاجب بن زرارة سيد تميم بذلك.

____________________

(١) المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب ت ٢٤٥، رواية أبي سعيد السكري، تحقيق الدكتورة ايلزة شنيتر نشر المكتب التجاري بيروت ص١٦١.

(٢) لطائف المعارف لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ت ٤٢٩، تحقيق إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي، نشر دار إحياء الكتب العربية ص١٠٤.

١٣

وما بدأت سؤالي حتى اربدّ وجهه وكان بجنبه سيف قاطع رأيت يده قد امتدت إليه فعرفت أيّة حماقة ارتكبت. وانسحبت مسرعاً قبل أن أندم على هذا اللقاء الذي لن ينفعني فيه، لو حصل المكروه - وقد كاد أن يحصل - لا ابن حبيب ولا ابن قتيبة، ولا جميع الذين كتبوا ممّن كذبوا عليهم.

وعلى كلٍّ، فإنّ ابن حبيب والثعالبي يقعان في خطأ آخر حين ينصّان على أنّ هؤلاء الزنادقة (تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة) (١) فأنا أفهم أن يتعلّم الزنديق زندقته من الزنادقة، ويأخذ النصراني نصرانيّته من النصارى. أمّا أن يتعلّم الزنادقة زندقتهم من النصارى، فهذا ما لا أفهمه ولا أظن أحداً غيري يفهمه. فالمرء يأخذ عقيدته عادةً أو يتعلّمها إن لم يكن قد نشأ عليها، من أصحابها لا من الغرباء عنها؛ الإسلام من المسلمين، والمسيحية من المسيحيين، والزندقة من الزنادقة. وأحسب هذا من الأُمور التي لا مجال للنقاش فيها.

أمّا أن يأخذ المسيحي مسيحيّته من المسلم، والزنديق زندقته من المسيحي، فهذا ما لا نجد جوابه إلاّ عند ابن حبيب.

ولو تجاوزنا عن ذلك فكيف صبأ هؤلاء، وتركوا دينهم ودين آبائهم فتزندقوا، ولم تعترضهم قريش ولم تمسّهم بسوء، ولم تمنعهم أو تؤذهم كما فعلت مع محمد. ولم تعادِ وتقاطع عشائرهم كما عادت وقاطعت عشيرة محمد، خصوصاً وأنّ ما يدعون إليه من إشاعة المال والنساء كما تذهب إلى ذلك المزدكية، أجلب للخطر والعار وأحرى أن يلغي نفوذ قريش وهيبتها بين قبائل العرب.

أليست الزندقة رفضاً للأوثان وإنكاراً لعبادتها؟

وعلى ماذا قامت دعوة محمد، أوّل ما قامت، غير رفض الأوثان وإنكار عبادتها واستبدال عبادة الله وتوحيده بها.

فلِم تشدّدت قريش هنا وتسامحت هناك؟!

هذا هو السؤال. إلاّ أن يكون المؤرّخون أخطأوا في حديثهم عن زندقة قريش. أو أن يكونوا قصدوا بالزندقة، غير ما نعرف. وليس هذا ممّا نؤاخذ عليه، في أيّة حال.

____________________

(١) المحبر لابن حبيب ص١٦١ ولطائف المعارف للثعالبي ص١٠٢.

١٤

١٥

٢ - المجوسيّة في تميم:

لا أدري من هذا الذي حدّد لأول مرة أديان العرب في الجاهلية، ووزّعها بين قبائلهم، أو وزع قبائلهم بينها؟ وكيف وصل هذا التوزيع مؤرّخينا فأخذوا به وردّدوه وتداولوه في كتبهم، دون تفكير فيه أو محاولة لتصحيح ما كان بيّن الخطأ منه.

كيف قبلوا ونقلوا مثلاً أنّ تميماً: هذه القبيلة التي إذا غضبت حسبت الناس كلهم غضابا، يمكن أن تدين بالمجوسية أو تدنو منها، وهو رأي مؤرّخينا حين يعرضون لأديان العرب في الجاهلية ويخوضون في حديثها.

يقول ابن قتيبة (١) ونشوان (٢) وابن رستة (٣) : (وكانت المجوسية في تميم) ثم يضيفون: (منهم زرارة بن عدس وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته وندم …) كأنّهم بذلك يريدون أن يؤكّدوا ما يقولون عن تميم.

فمجوسية تميم إذن هي المزدكية على وجه التخصيص من بين مذاهب الفرس الأُخرى. فهذا المذهب وحده خلافاً لتلك المذاهب، هو الذي يقوم على إباحة النساء وتحليل المحارم من بنت وغير بنت، وهو كما سترى ليس من المجوسية في شيء.

وما أظنّني، منذ مدة قد تكون طويلة، ضحكت من شيء قدر ضحكي من هذا الغباء الذي يريد أن يكون علماً، وهو لن يكون ذلك، حتى لو ألبسوا صاحبه ألف جبّة، ووضعوا على رأسه ألف عمامة.

وتذكّرت جريراً وأسفت ألاّ يكون العمر قد امتد به حتى يقرأ كتاب ابن قتيبة، فيستغني بما ورد فيه عن حاجب وفعلته مع ابنته دختنوس عن كل ما سواه ممّا هجا به الفرزدق.

ماذا كان سيجد أوجع وأقسى وأهدم لمجد الفرزدق ومجد أهله وعشيرته من أن يكون أحد مفاخره الكبيرة: سيد دارم وسيد تميم كلها قد نكح ابنته.

إذن لن يبخل على ابن قتيبه بقصيدة مديح من عالي شعره، وقد جنّبه الكثير من السهر والجهد والتعب وهو يقارع الفرزدق ويهاجيه، ويفتّش عن مثالب قومه من بني دارم.

أين يقع الهجاء بيوم تهزم فيه بنو دارم، يقابله يوم أو أيام ينتصرون فيها، كما يجري لجميع قبائل العرب، في جنب نكاح سيّدهم لابنته، وهو ما لم يعرفه العرب.

____________________

(١) المعارف، تحقيق الدكتور ثروت عكاشة، ط ١٩٦٠ ص٦٢١.

(٢) الحور العين: ص١٣٦.

(٣) الأعلاق النفيسة، ط ليدن ١٨٩٢ ص٢١٧.

١٦

لا يوم رحرحان ولا شعب جبلة، ولا غيرهما من الأيام التي هزمت فيها بنو دارم، تعدل فضيحة الفرزدق في عميد قومه حاجب الذي لم يعرف العرب فداءً أغلى من فدائه، أي هجاء أمض وأقطع للفرزدق ممّا فعله حاجب مع ابنته؟!

ولكن إذا كان جرير لم يمتد به العمر ليقرأ (معارف) ابن قتيبة فإنّ ابن قتيبة لا بد أنّه بلغه شعر جرير وسمعه وقرأه وهو يهجو دارماً، ويذكر في بعضه دختنوس هذه، ولكنّه لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما وصمها به ابن قتيبة. وما أظن جريراً الذي أقذع وتجاوز الحد في هجاء الفرزدق، سيغفل عن هذا ولا ما يكون دونه، وهو قد مزق عرض جعثن أخت الفرزدق، وهي تميمية حنظلية مثله لن يسلم هو، لا الفرزدق وحده، من العار لو صحّ ما نسبه إليها، اسمع إليه وهو يقول:

أو دختنوس غداة حز قرونها

ودعت بدعوة ذلة وثبور

فهل سمعت شيئاً ممّا يعيب المرأة؟ هل سمعت غير أنّها جزّت شعرها حزناً على أبيها الذي قُتل في المعركة كأيّة امرأة عربية حين يبلغها مقتل أبيها، وهو سيّد القوم وفارسهم.

ولنترك جريراً التميمي الحنظلي الذي قد يكون كفّه عن ذلك نسب واحد يجمعه بدختنوس وحاجب، وهو ما أقطع بخلافه كما ذكرت قبل قليل، فما بال الشعراء الآخرين من غير تميم سكتوا عن هذه الحادثة، فلم يتعلقوا بها ولم يرددوها في شعرهم وهم يهاجمون الفرزدق وغير الفرزدق من شعراء تميم.

وبعد جرير والفرزدق وحديث الشعر والشعراء، أعود مرة أُخرى إلى رواية ابن قتيبة لأسأل: مَن تكون دخنتوس هذه التي جعلها صاحب المعارف، بنتاً لحاجب بن زرارة، ونسب إليها وإلى حاجب ما أستنتج منه المجوسية في تميم؟

دختنوس هذه باتفاق المؤرّخين لم تكن بنت حاجب كما ادعى، بل بنت أخيه لقيط بن زرارة سيد تميم وفارسها يوم الشعب، وكانت متزوّجة من عمرو بن عمرو بن عدس الدارمي أحد فرسان تميم المعدودين.

١٧

هذا ما يقوله أبو عبيدة معمر بن المثنى المعروف بتطلبه لمثالب العرب في النقائض (١) ومحمد بن حبيب في المحبر (٢) وابن عبد ربه في العقد الفريد (٣) وأبو الفرج في الأغاني (٤) وبين هؤلاء مَن هو أسبق من ابن قتيبة، ومَن عاصره، ومَن جاء بعده. لم ينسبها لحاجب منهم أحد ولم يذكر الحادثة منهم أحد.

ويؤكّده ما ينقله هؤلاء المؤرّخون ومؤرّخون غيرهم من الذين كتبوا عن أيام العرب، ومنها يوم شعب جبله بين تميم وذبيان وبين عامر وعبس أنّ لقيطا قال في ذلك اليوم:

يا ليت شعري كيف دختنوس

إذا أتاها الخبر المرموس

وما قالته دختنوس نفسها وقد وردها مقتل أبيها وضرب بني عبس له وهو قتيل:

ألا يا لها الويلات ويلة مَن بكى

لضرب بني عبسٍ لقيطاً وقد قضى

ولأترك هذا كله، فكيف تكون المجوسية واستحلال المحارم في تميم، ولم تعرف قبيلة من قبائل العرب بوأد البنات، كما عرفت تميم التي انتشر الوأد فيها اتقاءً للعار وهرباً ممّا تجرّه البنت عليها، وهم معرّضون للغزو والغارة والنصر والهزيمة، وليس أجلب للعار ممّا يمكن أن يحصل للبنت في أثناء ذلك.

لقد جاء الإسلام وصعصعة بن ناجية المجاشعي الدارمي جد الفرزدق، ومن رهط حاجب، قد أحيى مئات الموءودات وكان ذلك من أكبر مفاخر الفرزدق التي انفرد بها وهو يهاجي جريراً.

فلمَ الوأد إذن وقتل البنت وهي طفلة لم يصدر عنها ما يشين، إذا كانت تميم نفسها تبيح نكاح البنت ولا تجد فيه عاراً، وإذا كان سيّدهم حاجب بن زرارة قد استحل ذلك ونكح هو ابنته؟!

لقد حرم قيس بن عاصم المنقري التميمي الخمر على نفسه؛ لأنّه فيما يروى غمز ابنته وهو سكران، فحين أُخبر بما فعل أقسم ألاّ يذوق الخمر بعدها، وكان ممّن حرّمها على نفسه في الجاهلية.

____________________

(١) النقائض لأبي عبيدة، ط ليدن ١٩٠٧ ج٢ ص٦٦٥.

(٢) المحبر: ص٤٣٦.

(٣) العقد الفريد لابن عبد ربّه، تحقيق محمد سعيد العريان ج٦ ص١٠.

(٤) الأغاني، ط دار الكتب ج١١ ص١٤٤.

١٨

ثم لماذا حاجب وحده فلا يذكر ابن قتيبة آخر أو آخرين من تميم شاركوه فعله فتزوّجوا بناتهم، ما دامت تميم مجوسية تستحل نكاح البنات وتقبله ولا تتحرّج منه، سابقة بمئات السنين بعض مَن يسمّونهم طوائف الغلاة والقرامطة، الذين يتهمهم أعداؤهم باستحلال المحارم ونكاح البنات، وينسبون إليهم لتثبيت التهمة، أبيات يرددونها، أذكر منها بيتين يتعلقان بموضوعنا هذا هما:

وكيف حللت لهذا الغريب

وصرت محرمـة للأبِ

أليس الغراس لمن ربّه

وروّاه في عامه المجدبِ

وإذا كنت لا أفهم هذا كله، فمن الأحرى ألا أفهم لماذا ندم حاجب على نكاح ابنته كما يقول ابن قتيبة، وهو مجوسي لم يخرج على دينه فيما فعله ولم يخالف تعاليمه.

وأخيراً فأراني مضطراً أن أعود إلى النصوص التي تذهب إلى مجوسية تميم، وأقارن بينها مبتدئاً بنص ابن قتيبة الذي يقول: (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة، وكان تزوّج ابنته ثم ندم. ومنهم: الأقرع بن حابس وكان مجوسياً، وأبو سود جد وكيع بن حسان (١) كان مجوسياً).

وإليك نصّ ابن رسته (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي، وابنه حاجب بن زرارة، وكان تزوّج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسياً، وأبو سود جد وكيع بن حسان كان مجوسياً).

وهذا أخيراً نص نشوان بن سعيد: (وكانت المجوسية في تميم، منهم: زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسيا وأبو سود جد وكيع بن حسان كان مجوسيا).

فهل وجدت أي فرق بين ثلاثة نصوص لثلاثة مؤرّخين مختلفين في ثلاثة عهود مختلفة متباعدة.

ألم يهتد أحدهم إلى ما يخالف الآخر في شيء: إضافة أو حذفاً أو تغييراً في عرض وترتيب المعلومات بتقديم بعض أو تأخير بعض باستثناء (ندم) التي لم ترد عند نشوان، وما أظنها سقطت إلاّ عن سهوٍ من الناسخ.

أيّ تاريخ هذا التي تستطيع أن تستغني فيه عن كل المصادر بمصدر واحد؛ لأنّها كلها تنقل عنه وتعتمد عليه. لم تبحث ولم تناقش ولم تراجع ولم تستقل برأي. فعلى كثرة ما ترى في هوامش الكتب أحياناً من أسماء مصادر، قد توهمك بأنك أمام حقيقة لا مجال للشك فيها لكثرة الناقلين أو المنقول عنهم، فإنّك لا تنقل في الواقع إلاّ عن واحد. وليس الباقون إلاّ نقلة عنه - مثلك - سبقوك في الزمن وتأخّرت.

____________________

(١) الفاتك المشهور، وقاتل قتيبة بن مسلم بخراسان في خلافة سليمان بن عبد الملك.

١٩

الفصل الثا لث:

الزندقـة فـي الإسلام

وبعد حديث الزندقة في الجاهلية الذي أعترف أنّي لم أصل فيه إلى شيء، غير مجموعة من علامات الاستفهام التي ستبقى تفتّش عن جواب حتى يأذن الله به.

أصلُ الآن إلى حديث الزندقة في الإسلام، حيث يختلط الفكر باللافكر، والزهد بالمجون، والإلحاد بمذهب الاثنين.

والعربي الصليبة بالشعوبي المتعصب ضد العرب، وحامل السيف والرمح بحارس بيت النار في معابد المجوس.

و ما أظنني سأكون أسعد حظاً في الوصول إلى نتائج مُرضية مع هذا الخليط الغريب، ممّا اصطلح على تسميته بالزندقة، وإن كان هذا لا يعفيني ولا يعفي غيري من المضي في الحديث عنها، حتى لو لم أتجاوز علامات الاستفهام التي أشرت إليها آنفاً؛ بل ربّما كان ذلك أحرى أن يغري بمحاولة، قد تلقي بعض الضوء في طريقٍ ظلّ شديد الظلام فترة غير قصيرة، ونقطة ضوء فيه ليست عديمة الفائدة إن كانت قليلة الغناء.

ولعلّ ممّا يساعد في ذلك أن نعرف متى استعمل هذا اللفظ في الوجوه، التي مثلت الزندقة عند المسلمين أو بعضها في الأقل، ومن هناك نستطيع أن نتابع تطوّره واتساعه ليتناول غيرها من الوجوه؛ إذ ليس من المعقول أن يطلق اللفظ ابتداء ليدل على ما أصبح يدل عليه، أو ما أريد منه أن يدل عليه.

٢٠

ليس من المعقول أن يطلق اللفظ ابتداء على الملحد واللواط ومستحل المحارم والمجاهر بشرب الخمر ومعتقد الاثنين ومنكر النبوّات ومحرم الزواج و … و (1)

فمتى استعمل هذا اللفظ؟

هنا أيضاً لا تمدّنا المصادر بما يحل إشكالنا أو يساعد على حلّه. ولم أجد بين الذين تعرّضوا للموضوع وكتبوا فيه مَن تجاوز (الزندافستا) (2) الزرادشتي، أو اشتقاقات منسوبة إلى عصور ليست أقرب من الزندافستا، الذي قفز عبر الزمن ليحط في القرن الثاني الهجري، محمّلاً بكل تلك الآثام التي عرفها ذلك القرن والقرون التالية له.

____________________

(1) ويمكنك أن تضيف إلى كل أولئك: مَن ينتقص الصحابة أو طعن في عدالتهم عند أصحاب الحديث و(من طلب الدين بالكلام) عند أبي يوسف. والمعتزلة عنده أيضاً، ربّما للسبب السابق والجهمية عند الأصمعي. ومَن يشرب الخمر ويضرب بالطنبور كما يذكر صاحب العقد الفريد ج4 ص105 والعبيديين الفاطميين. وحتى الإمام الشيخ محمد عبدة لم يسلم من الاتهام بالزندقة هو وجماعة من أصحابه، كما يذكر الدكتور محمد حسين هيكل في (حياة محمد) ط1 القاهرة 1354هجري ص15.

(2) أنظر في ذلك ص 75 وما بعدها من كتاب عبد الله بن المقفّع للسيد محمد غفراني الخراساني، نشر الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1965.

٢١

لقد كانت بعض وجوه الزندقة معروفة قبل الإسلام وبعده، لكنّها كانت تسمّى بأسمائها ولم تكن الزندقة بين هذه الأسماء.

كان الكفر معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

وكان الزنا واللواط معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

وكانت الخمر ومعاقرتها والتمدّح بشربها معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

لكنّها كانت كفراً وزنا ولواطاً وخمراً. هذه أسماؤها في الجاهلية وهي أسماؤها في الإسلام الذي فرض على ارتكابها عقوبات محدّدة، ولم يكن هناك ما يسمّى زندقة.

هذا يزيد بن معاوية المتوفّى عام 64 والذي ارتكب من الذنوب والمعاصي ما يخرج به على كل دين لا الإسلام وحده لم أجد مَن وصفه بالزندقة. لقد وصفوه بأنّه: فاسق فاجر وحتى كافر لكنّه لم يوصف في عصره بالزنديق، وما أظن ذلك إلاّ لأنّ اللفظ كتهمة منافية للإسلام لم يكن قد عرف بعد. لا إشفاقاً على يزيد، ولا لأنّ الأفعال التي ارتكبها لا توجب له هذا الوصف، الذي لحق في زمن تال من لم يرتكب بعض ما ارتكبه.

وهكذا يمر القرن الأوّل ولم أعرف مَن استعمل لفظ الزنديق في واحد من الوجوه التي شملها فيما بعد.

وأحسب أنّ أوّل إشارة إلى الزندقة كفكر أو سلوك مخالف للإسلام جاءت في بدايات القرن الثاني مع الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخليفة السيئ الصيت.

فأبو الفرج يورد اللفظ في موضعين عند الحديث عنه أما أوّلهما فهذا نصّه:

(وكتب - يعني هشام بن عبد الملك - إلى الوليد: ما تدع شيئاً من المنكر إلاّ أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر فليت شعري ما دينك؟! أعلى الإسلام أنت أم لا؟! فكتب إليه الوليد بن يزيد ويقال بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى، ونحله إيّاه:

يا أيّها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكرِ

نشربها صرفاً وممزوجة

بالسخن أحياناً وبالفاتـرِ

فغضب هشام على ابنه مسلمة وقال: يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة فالزم الأدب واحضر الصلوات وولاّه الموسم سنة سبع عشرة ومائة، فأظهر النسك وقسم بمكّة والمدينة أموالاً فقال رجل من موالي أهل المدينة:

٢٢

يا أيّها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكرِ

الواهب البزل بأرسانها

ليس بزنديقٍ ولا كافـرِ (1)

هذا أحد النصّين وفيه كما ترى يرد لفظ الزنديق، وفيه كما ترى أيضاً ما يحدّد بعض ملامحه بربطه بالكافر الذي لا يدين بالإسلام.

أمّا النص الثاني فصريح لو صح، في تحديد الوجه الذي بدأ يعنيه اللفظ وهو المانوية.

فيروي صاحب الأغاني عن العلاء بن بندار أنّه قال: (كان الوليد زنديقاً وكان رجل من كلب يقول بمقالته مقالة التنويه، فدخلت على الوليد يوماً وذلك الكلبي عنده وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه فإذا ما يبدو منه حرير أخضر، فقال: أدن يا علاء، فدنوت فرفع الحريرة فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه فجفنه يطرف كأنّه يتحرك فقال: يا علاء هذا ماني لم يبتعث الله نبياً قبله ولا يبتعث نبياً بعده، فقلت: يا أمير المؤمنين اتق الله ولا يغرنّك هذا الذي ترى عن دينك. فقال له الكلبي: يا أمير المؤمنين ألم أقل لك: إنّ العلاء لا يحتمل هذا الحديث، قال العلاء: ومكثت أياماً ثم جلست مع الوليد على بناءٍ كان بناه في عسكره يشرف به والكلبي عنده إذ نزل من عنده وقد كان الوليد حمله على برْذَون هملاج أشقر من أفْرِهَ ما سُخِّرَ، فخرج على بِرْذَونِه ذلك فمضى به في الصحراء حتى غاب عن العسكر، فما شعر إلاّ وأعراب قد جاؤوا به يحملونه منفسخة عنقه ميتاً وبِرْذَونَه يقاد حتى أسلموه. فبلغني ذلك، فخرجت متعمداً حتى أتيت أولئك الأعراب، وقد كانت لهم أبيات بالقرب منه في أرض البَخْراء لا حجر فيها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصة هذا الرجل؟ قالوا: أقبل علينا على بِرْذَون، فو الله لكأنّه دُهْن يسيل على صفاةٍ من فَراهَتِه، فعجبنا لذلك، إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض فأخذ بضَبْعَيْه فاحتمله ثم نكسه وضرب برأسه الأرضَ فدقَّ عنقه، ثم غاب عن عيوننا، فاحتملناه فجئنا به (2) .

وأنا أشك في هذه الرواية لأسباب منها: أنّ ما هو معروف من أخلاق الوليد ومجونه وانغماسه في الملذّات، يتعارض تماماً مع ما كان يدعو إليه ماني من نسك وزهد ودعوة إلى عدم الزواج وقطع النسل.

____________________

(1) الأغاني طبعة دار الكتب ج7 ص4.

(2) الأغاني ج7 ص72 - 73.

٢٣

ومنها أنّ شخصاً مثل هذا الكلبي الذي لا يشاركه أحد مجلسه مع الخليفة الوليد، ويلعب في حياته هذا الدور ويضلّه عن سبيل الإسلام إلى دين آخر، وهو يعرف العلاء معرفة تامة كما يظهر من الرواية. أفمن المعقول ألاّ يعرفه العلاء ولا يذكر اسمه ويكتفي في كل موضع يريد أن يذكره فيه بأنّه رجل من كلب أو الكلبي، مع أنّه رآه أكثر من مرة عند الخليفة.

ومنها أنّ ماني نفسه الذي يدين بما جاء به الوليد وهذا (الكلبي) يعترف بنبوّة عيسى. ودينه (المانوية) مزيج من النصرانية والمجوسية، فليس للوليد ولا لغيره أن يقول (لم يبتعث الله نبيّاً قبله …) إذا كان يدين حقاً أو يعرف ملّة ماني.

وأخيراً فإنّ هذه الرواية، خصوصاً في نهايتها، أشبه بالأساطير التي لا يمكن قبولها والاطمئنان إليها؛ ولهذا تحفّظت عليها منذ البداية بـ (لو صح).

على أنّ شكّي في الرواية لا ينفي أنّ هذا اللفظ قد بدأ تداوله في ذلك التاريخ أو تاريخ قريب منه، مع توسّع العرب بالفتح واختلاطهم بالفرس واطلاعهم على ما كانوا يدينون به، وانتقال بعض ذاك إليهم بسبب الاختلاط.

وممّا سبق، يظهر بوضوح ارتباط الزندقة في الأصل بأديان الفرس القديمة. ومن هنا وجب الإلمام ولو سريعاً بهذه الأديان، لمعرفة العلاقة بين الاثنين، ثم افتراق الزندقة وتوسّع مدلولها الذي شمل فيما بعد، ما لا علاقة له بتلك الأديان بل وما خالفها وعارضها.

ولنبدأ بأوّل هذه الأديان.

٢٤

الفصـل ال رابع:

المجوسيّة

وهي أقدم ما عرف من مذاهب الفرس، وقد ورد ذكر المجوس في القرآن الكريم إلى جانب اليهود والنصارى والصابئة في سورة الحج:

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .

وهم كما يظهر من الآية الكريمة ليسوا مشركين، ويعتبرهم المسلمون ممّن لهم كتاب أو شبهة كتاب (1) .

كما أنّهم ليسوا من القائلين بالاثنين، وهذا ما يبدو بوضوح من الشهرستاني في الملل والنحل حيث يعالجهم في فصل خاص، ويجعل للثنوية فصلاً آخر خاصاً بهم (2) .

ومن شعائر المجوس تعظيم النار وبناء البيوت لها.

وأهم مذاهبهم الزرادشتية (أتباع زرادشت) التي غلبت على سائر مذاهب المجوسية الأُخرى حتى أنّك لتستطيع، مع شيء من التجوز، أن تعتبر الزرادشتية هي الممثّلة للمجوسية، وهي المقصودة حين يجري الكلام عن المجوس والمجوسية.

ولا يعنيني أن يكون زرادشت من نسل نوشهر الملك أو أنّه من أهل فلسطين، كان خادماً لبعض تلامذة أرميا النبي فكذب عليه وخانه فأصابه البرص ولحق بأذربيجان. فأنا لا أريد أن أترجم له وما يعنيني هنا تعاليمه التي أتى بها أو التي تناقلها المسلمون، ومدى علاقتها بما اصطلح عليه بالزندقة.

يقول صاحب الملل والنحل: (وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث) (3) .

هذه إذن هي تعاليم زرادشت تاركاً ما يذكره المؤلّفون عن المجوسية ممّا لا علاقة له بالزندقة، وإنّما بقضايا أُخرى تتصل بالسياسة وبغير السياسة من شؤون الحياة.

____________________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص208، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج1 ص197.

(2) الملل والنحل ج1 ص233.

(3) الملل والنحل ج1 ص237.

٢٥

الفصل ال خامس:

المانويّـة

أصحاب ماني الذي ظهر في زمان سابور بن اردشير. كان يقول بنبوّة عيسى ابن مريم، ودينه مزيج من النصرانية والمجوسية.

اتبعه سابور أوّلاً وترك المجوسية، لكنّه عاد إليها فيما بعد وقتل ماني وأتباعه. ويقال إنّ الذي تولّى ذلك بهرام بن هرمز بن سابور، أو بهرام بن بهرام.

(وفي أيام ماني هذا - كما يقول المسعودي - (1) ظهر اسم الزندقة الذي إليه أضيف الزنادقة، وذلك أنّ الفرس حين أتاهم زرادشت بن اسبيمان بكتابهم المعروف بالبستاه باللغة الأُولى من الفارسية وعمل له التفسير وهو الزند.. وكان الزند بياناً لتأويل المتقدم المنزل، وكان مَن أورد في شريعتهم شيئاً بخلاف المنزل الذي هو البستاه وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا: هذا زندي فأضافوه إلى التأويل، وأنّه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلمّا أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس وقالوا زنديق، وعرّبوه والثنوية هم الزنادقة …)

أمّا الخوارزمي في مفاتيح العلوم (2) فينسب كتاب الزند - تأويل الابستا - إلى مزدك ويربط الزندقة به وبأصحابه.

ولقد أورد الأُستاذ غفراني في كتابه عبد الله بن المقفع الآراء المختلفة في لفظ زنديق (3) لمَن أراد الزيادة.

ويذكر المؤلّفون أنّ تعاليم ماني كانت تقوم على ترك الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر وعبادة الأوثان وقتل ذي الروح أو أذاه.

هذا من ناحية سلوك الإنسان في حياته.

أمّا خارج هذا فإنّ المانوية تقوم على الأصلين الأزليين: النور والظلمة وأنّ العالم مصنوع ومركّب منهما.

____________________

(1) مروج الذهب ج1 ص275.

(2) مفاتيح العلوم للخوارزمي ص25 - 26.

(3) عبد الله بن المقفّع ص 75 وما بعدها.

٢٦

الفصـل ا لسـادس:

المزدكيّـة

وهم أتباع مزدك الذي ظهر في أيام الملك قباذ ودعاه إلى دينه فأجابه. وحين تملك كسرى انوشروان فتك بمزدك والمزدكية، وقطع رؤوسهم وأعاد الناس إلى المجوسية.

وليس بين المزدكية والمانوية كبير اختلاف فيما يخص تركيب العالم من أصلين اثنين: النور والظلمة.

لكن الاختلاف الكبير يخص الجانب السلوكي من حياة الإنسان، ففي حين تقوم المانوية على النسك وقتل الشهوات والدعوة إلى قطع النسل تقوم المزدكية على شيوعية المال والنساء.

ومن هذا ترى أنّ ما بين الاثنين في هذا الجانب أكثر من مجرّد اختلاف، وإنّما هو العكس تماماً.

هذه هي أهم مذاهب الفرس القدماء، ثلاثة: المجوسية والمانوية والمزدكية. لا يجوز الخلط بينها والحديث عن أحدها وكأنّه يمثّلها كلها، إلاّ فيما يخص الأصلين الأزليين للعالم، الذي تشترك فيه المانوية والمزدكية، مع اختلافهما أو تعارضهما فيما عدا ذاك ممّا يخص سلوك الإنسان حسب ما قدّمنا.

ولم يفت المؤلّفين المسلمين أن يميّزوا بينهما، كما يتجلّى ذلك فيما كتبه: الطبري والمسعودي وابن النديم وابن حزم والشهرستاني.

أمّا البغدادي في الفرق بين الفرق، فيميّز أحياناً ويخلط أحياناً، فهو لا يثبت على رأي يمكن اعتماده والركون إليه، مع نبرة حادة هي سلاحه دائماً عندما يتعرّض لخصومه: مسلمين كانوا أم غير مسلمين.

فعلى أيٍّ من أتباع هذه المذاهب الثلاثة أطلق لفظ الزنادقة كجريمة يفرض على مَن يرتكبها أقسى أنواع العذاب؟

٢٧

أمّا المجوس فقد لاحظنا أنّ أحداً من المؤلّفين لم يطلق عليهم هذا اللفظ، بل إنّ الخليفة العباسي المأمون ينفيه عنهم بكل وضوح في محاورة ينقلها لنا ابن النديم.

قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين في عصرنا بالصابة: إنّ المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مضر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقّاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيّهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات كوفرة قرة جد سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيّهم، وقال لهم: مَن أنتم من الذمّة؟ فقالوا: نحن الحرنانية! فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا لا! قال فيهود أنتم؟ قالوا لا! قال فمجوس أنتم؟ قالوا لا! قال لهم أفلكم كتاب أم نبي؟ فمجمجوا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة، عبدة الأوثان، وأصحاب الرأس في أيام الرشيد والدي! وأنتم حلال دماؤكم، لا ذمّة لكم! فقالوا: نحن نؤدّي الجزية! فقال لهم إنّما تؤخذ الجزية ممّن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ في كتابه، ولهم كتاب وصالحه المسلمون عن ذلك، فأنتم ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء، فاختاروا الآن أحد أمرين: إمّا أن تنتحلوا دين الإسلام أو ديناً من الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلاّ قتلتكم عن آخركم! فإنّي قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه، فإن أنتم دخلتم في الإسلام أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلاّ أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم! ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيّروا زيّهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الأقبية، وتنصّر كثير منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم قد وجدت لكم شيئاً تنجون به وتسلمون من القتل، فحملوا إليه مالاً عظيماً من بيت مالهم، أحدثوه منذ أيام الرشيد إلى هذه الغاية، وأعدوه للنوائب. وأنا أشرح لك، أيّدك الله، السبب في ذلك، فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره، فقولوا له: نحن الصابئون! فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحلوه فأنتم تنجون به. وقضى أنّ المأمون توفّى في سفرته تلك بالبذندون، وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنّه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر مَن كان تنصّر منهم، ورجع إلى الحرنانية، وطوّلوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم، على أنّهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لبس الأقبية؛ لأنّه من لبس أصحاب السلطان، ومن أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفاً من أن يقتل فأقاموا متستّرين بالإسلام، فكانوا يتزوّجون بنساء حرانيات، ويجعلون الولد الذكر مسلماً، والأنثى حرنانية، وهذه كانت سبيل كل أهل ترعوز وسلمسين القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران، إلى منذ نحو عشرين سنة، فإنّ الشيخين المعروفين بأبي زرارة وأبي عروبة علماء شيوخ أهل حران بالفقه، والأمر بالمعروف، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم، احتسبوا عليهم، ومنعوهم من أن يتزوّجوا بنساء حرانيات، أعني صابئات، وقالوا لا يحل للمسلمين نكاحهم؛ لأنّهم ليسوا من أهل الكتاب.

٢٨

وبحران أيضاً منازل كثيرة إلى هذه الغاية، بعض أهلها حرنانية ممّن كان أقام على دينه في أيام المأمون وبعضهم مسلمون، وبعضهم نصارى ممّن كان دخل في الإسلام وتنصّر في ذلك الوقت إلى هذه الغاية، مثل قوم يقال لهم بنو ابلوط، وبنو قيطران وغيرهم مشهورين بحران (1) .

ومن هذا يتبيّن أنّ الزنادقة من الناحية الدينية في نظر المأمون والمؤلّفين المسلمين هم غير المجوس.

ماذا يبقى لدينا بعد إسقاط المجوسية، غير المانوية والمزدكية من أديان الفرس القدماء؟

وبين هذين الاثنين فإنّ المانوية (المنانية) هي الأشهر والأكثر اتباعاً، والأحرى أن ينصرف الذهن إليها وإلى معتنقيها عند الحديث عن الزندقة.

فقد كان المأمون إذا أراد أن يمتحن الزنادقة يظهر صورة ماني لهم ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرؤوا فمَن فعل منهم ذلك نجا ومَن رفض قُتل.

إذن كانت الزندقة هي المانوية أو المانوية والمزدكية. والزنادقة هم أتباع ماني ومزدك، على افتراض صحّة التهمة.

فكيف اتسع اللفظ هذه السعة، حتى أنّك لا تستطيع أن تظفر له بحد أو تعريف، وحتى تحوّل إلى شبح مخيف وإرهاب لا يكتفي برؤوس القائلين بالاثنين. وإنّما يجمع إليهم المسلم الموحّد والملحد الذي ينكر الواحد والاثنين، والشاك الحائر بينهما، والسياسي والثائر واللواط وصاحب الخمرة … ومَن يكره المانوية والمزدكية ويتعصّب ضدّهما ويحاربهما.

كيف تعرّض كل هؤلاء للاتهام بنفس التهمة: الزندقة. فنجا مَن احتال لنفسه ووجد سبيل النجاة، وقُتل مَن عُدم الحيلة لتجنّب القتل؟

____________________

(1) الفهرست لابن النديم، نشر دار المعرفة - بيروت ص445.

٢٩

أي إرهاب هذا الذي يفقد معه الناس حياتهم على الظن والتهمة، كما كان يفعل المهدي باتفاق المؤرّخين باسم الدين ومعاونة (حراسه) في تهمة لا أحد يعرفها لكي يتجنّبها؟!

يبدو لي أنّ السياسة - كما هي في كثير من الحالات المشابهة الأُخرى - كانت وراء هذا التمييع لمفهوم الزندقة. لا لأنّ هذا المفهوم غير قابل بطبيعته للتحديد، بل لأنّها لا تريد تحديده، وتحرص على إبقائه واسعاً مبهما تستطيع أن تلجأ إليه وتستخدمه كلما أرادت التخلص من خصومها بتهمة ما أسهلها وأسهل اللجوء إليها: تعرض الدين للخطر. ولو كان الدين فعلاً هو المقصود أو لو كان القول بالاثنين فعلاً هو السبب. فلم اقتصر القتل على عدد من الناس مع أنّ القائلين بالاثنين وبأكثر من اثنين من عبدة أوثان ومشركين كانوا يملأون الأرض الإسلامية بكل أقطارها، لا العراق وبغداد وحدهما.

ومع السلطة كان النزاع بين المذاهب الإسلامية المختلفة يلعب في نفس الاتجاه دوراً أقل ما يوصف به أنّه دور المبرّر والمؤيّد للسلطة في القتل وسفك دماء (الزنادقة) تقرّباً إلى الله.

هذا أبو يوسف القاضي، يسأل عن المعتزلة فيجيب بأنّهم الزنادقة (1) وما أظن أبا يوسف وأصحابه حاربوا الزنادقة كما حاربهم المعتزلة. لكنّ أبا يوسف كان جزءاً من السلطة التي لم تكن تقتصد في البطش بخصومها وسفك دمائهم بحجّة الزندقة، وتحت ستار الدين الذي لم يسخر منه أحد كما سخرت السلطة، ولم يتجاوزه ويبتذله أحد كما تجاوزته وابتذلته السلطة. حتى لقد كانت هذه السلطة نفسها بما ارتكبت من أفعال مخالفة للدين، من بين أهم الأسباب التي شجّعت على الزندقة وساعدت على انتشارها وسهّلت الطريق أمام دعاتها.

ولم يكن هم حرّاس الدين وشغلهم إلاّ تبرير ما تفعله السلطة، والدفاع عنه، والتحريض عليه في كثير من الأحيان، عداءً وكرهاً لهذا المذهب أو ذاك من المذاهب الإسلامية المخالفة.

____________________

(1) الفرق بين الفرق ص103.

٣٠

ولكي تعرف أكثر، الدوافع السياسية لما تعرّض له مَن يسمّون زنادقة، وأنّ هذه الدوافع لا صلة لها بالدين ولا بخطر يتعرض له أو يوشك أن يتعرض له، فسأستعرض الذين قُتلوا وأرى معك هل كان قتلهم لقولهم بالاثنين - على افتراض صحّته - أو اللواط أو الزنا، أو لمجاهرتهم بما يخالف تعاليم وأحكام الإسلام، أم أنّ ذلك قد تمّ لأسباب أخرى غير ما ذكرنا.

وسأبدأ بالبرامكة: أكبر وأخطر مركز من مراكز الزندقة بكل وجوهها في رأي كثير من المؤلّفين.

٣١

الفصـل السـا بع:

البـرامكـة

والحديث عن البرامكة كأُسرة كانت في فترةٍ ما ذات سلطان ونفوذ، لا ينازعهما ولا يعلو عليهما إلاّ سلطان الخليفة , أمر معروف لا أراني بحاجة إلى ترداده هنا.

ولذا فسأقتصر في الحديث عنهم على ما يتعلّق بالأسباب التي كانت وراء نكبتهم، وهي الزندقة موضوع بحثنا. فهل كانوا زنادقة حقّاً؟ وهل كان قتلهم وسجنهم بسبب الزندقة وعلى الزندقة؟

ولا أكتمك أيّها القارئ أنّني تردّدت، بل تحرّجت، بل خفت وأنا أهم بالكتابة فيه. ذلك أنك تستطيع ودون أي تردد أو حرج أو خوف، أن تتهم البرامكة وترميهم بكل ما شئت من تهم دون أن تتعرّض لشيء ممّا يسوء، بل ربّما ستكون به العربي المسلم المدافع عن العروبة والإسلام.

أمّا أن تحاول تبرئة قوم من غير العرب، ومتهمين بالزندقة ولا يتحدث عنهم المؤرّخون منذ أكثر من اثني عشر قرناً إلاّ كذلك، فهذا ما عليك أن تحسب له ألف حساب، وتضع أمامك نتائج تراها ونتائج لا تراها، قد يكون من بينها التهم التي لحقت بهم، ولا أريد أن أبعد، فأقول المصير الذي لحقهم.

٣٢

لكن لمن سنترك كتابة التأريخ إذن؟ إذا كان الكاتب يخاف أن يكتب، والناشر يخاف أن ينشر، والقارئ يخاف أن يقرأ أو لا يقرأ إلاّ ما يسمح له بقراءته.

أيّ تأريخ هذا الذي يكتبه الخائفون وينشره الخائفون ويقرأه الخائفون؟!

إنّ التأريخ هو أمانة النفوس الحرّة والعقول المفتوحة والضمائر التي تسبق القلم وترده كلما أراد أن يحيد عن الحق أو يداهن في الحق، بـ (لا) قوية، هي التعبير عن الاحترام للحقيقة وكاتبها وناشرها وقارئها. لا مجموعة الأكاذيب التي تُقدّم على أنّها تأريخ، صنعه تعصّب وحمق وغباء، وفرضه أصحاب السلطة ورجالها ومتعهّدوها.

وهل يخيف السلطة شيء أكثر من هذا الفكر الحر، وهل يرهبها شيء أكثر من هذا الضمير الحر الذي لا يباع ولا يشترى، وهذا القلم الحر الذي يفضّل صاحبه أن يكسره بيده على أن يجعل منه أداة بيد الحاكمين، أو سلعة يمتلكها مَن يملك ومَن يدفع.

وأعود الآن إلى التأريخ وإلى موضوع البرامكة منه.

فهل كان البرامكة زنادقة؟ وهل كانت الزندقة سبب نكبتهم؟

يقول الجهشياري في الوزراء والكتاب: (ويحيى بن خالد - ابن برمك - وهو أوّل مَن زاد في الكتب (وأسأله أن نصلّي على محمد عبده ورسوله). (وأمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وتقدّم بحمله من مصر إليهم، وأجرى على المهاجرين والأنصار وعلى وجوه أهل الأمصار وعلى أهل الدين والآداب والمروءات) (1) .

ويقول (حج يحيى وسأل الرشيد الأذن في المقام بمكّة فأذن له فانصرف إلى مكّة سنة 181) (2) .

وفي عام 185 استأذن يحيى الرشيد في العمرة والجوار فأذن له فخرج في شعبان واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج ثم حج (3) هذا عن يحيى، أمّا عن ابنه الفضل فيقول الجهشياري: (وقلد - يعني الرشيد - الفضل المغرب كله … ولمّا صار الفضل إلى خراسان أزال سيرة الجور وبني الحياض والمساجد والرباطات … وأمر بهدم البيت المعروف بالنوبهار - وهو بيت للبرامكة في بلخ كانوا يضاهون به بيت الله - فلم يقدر على هدمه لوثاقته وعظم المؤونة عليه فهدم منه قطعة وبنى فيها مسجداً …) (4) .

وكان الفضل لا يشرب النبيذ ويقول: (لو علمت أنّ الماء ينقص مروءتي ما شربته أبداً) (5).

فهل رأيت فيما فعله يحيى أو ابنه الفضل شيئاً ممّا يفعله الزنادقة أو شبيهاً به أو قريباً منه، على أي وجه أخذت الزندقة وبأي وجه فهمها المؤرّخون وأصحاب المقالات؟!

هل رأيت فيه إلاّ ما يفعله المسلم الملتزم البعيد عن الزندقة والزنادقة؟! وفيما دون ما عمله يحيى والفضل ما يبعد عنهما الزندقة والاتهام بها.

أمّا جعفر فاسمع قول الجهشياري فيه (وغلب جعفر على الرشيد غلبة شديدة حتى صار لا يقدّم عليه أحداً، وأنس به كل الأُنس، وأنزله بالخلد بالقرب من قصره) (6) .

فهل يمكن أن يكون جعفر زنديقاً، وهو يلازم الرشيد منذ كان طفلاً حتى صار أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، فلا يكتشفه ولا تكتشفه عيون المهدي أبيه الذي تجرّد لملاحقة الزنادقة. ولا يزداد من الرشيد مع الأيام إلاّ قرباً ولا علاقته به إلاّ وثوقاً؟!

____________________

(1) الوزراء والكتّاب ص177.

(2) تأريخ الطبري ج8 أحداث سنة 181 ص268.

(3) تأريخ الطبري ج8 أحداث سنة 185 ص273.

(4) الوزراء والكتّاب ص191.

(5) الوزراء والكتّاب ص194 والطبري ج8 ص299.

(6) الوزراء والكتّاب للجهشياري ص189.

٣٣

أكان الرشيد صديقاً للزنادقة ولا أقول زنديقاً، أم كان جعفر بريئاً من الزندقة التي يعالجها المؤرّخون وكأنّها السبب في نكبة البرامكة؟!

ولكي لا أبدأ تأريخ البرامكة من حيث انتهى، فسأعود قليلاً إلى الوراء حيث بداية هذا التأريخ، لتكون نهايته واضحة في دوافعها وأسبابها، بعيدة عن نوازع الحقد والاتهام المعتادين.

أبدأ إذن بأول مَن عُرف من رجالهم، وهو خالد بن برمك والد يحيى وجد الفضل وجعفر. والذي كان من النابهين في الدعوة العباسية قبل أن تصبح دولة، وكان من النابهين فيها بعد أن أصبحت دولة، حتى تولّى ديوان الخراج لأبي العباس السفاح أوّل خليفة عباسي، ثم تولّى الري وطبرستان وديناوند للمنصور وأقام فيها سبع سنين.

وبعد السفاح والمنصور، أنفذ المهدي خالداً إلى فارس عاملاً عليها، وكانت وفاته عام 163 في زمن المهدي.

وما أظن خالداً، حين انضمّ إلى الدعوة العباسية وحارب في صفوفها وحاز ثقة قادتها، كان زنديقاً.

وما أظن قادة الدعوة، وقد رفعوا مكانه وأعلوا منزلته، وهم يعلمون أنّه زنديق.

ولأفترض أنّهم فعلوا ذلك لحاجتهم إليه خلال فترة الدعوة، وبعد الدعوة وقيام الدولة العباسية؟ فهل كانت هذه الدولة تحتاج زنديقاً أو تقرّب زنديقاً؟ وهي التي ما قامت إلاّ باسم أهل بيت النبوّة، لإعادة مجد الإسلام الذي عبث به الأمويون، وعطّلوا أحكامه وقرّبوا مَن هو متّهم في دينه، بل كان بين خلفائهم مَن اتهم هو بالزندقة كالوليد بن يزيد، وما كانت الدعوة لتنجح، وما كانت الدولة لتقوم لولا ما أُحيطت به من هالة دينية قوية.

هل كان السفّاح وبعده المنصور وبعدهما المهدي، الذي جرّد السيف في الزنادقة، وكان يقتل على التهمة والظنة فيها، سيبقي على زنديق معروف، ثم لا يكتفي بذاك حتى يولّيه فارس عاملاً عليها؟!

٣٤

هذا من حيث العقيدة والعمل وما يتصل بهما. أمّا من حيث الأخلاق فيقول عنه الجاحظ (وحدثني تمامة - ابن أشرس كما أرى - قال: كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد دار إلاّ وخالد بناها له، ولا ضيعة إلاّ وخالد ابتاعها له …) (1) .

(وكان خالد أوّل مَن سمّى المستميحين ومن يقصد العمال لطلب البر الزوار وكانوا يسمون قبل ذلك السؤال فقال خالد أنا استقبح لهم هذا الاسم وفيهم الأحرار والأشراف …) (2) .

وكان سخيّاً جليلاً ثريّاً نبيلاً كثير الإحسان كما يصفه الجهشياري (3) .

وبعد خالد يأتي ابنه يحيى الذي كان الرشيد يخاطبه بالأُبّوة، والذي قلّده أمر الرعية حين ولي الخلافة عام 170 قائلاً: (وقد قلّدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك …) (4) .

ثم يجدد ذلك بعد ثمان سنوات من خلافته فيفوّض أُموره كلها إلى يحيى بن خالد.

وكان يحيى مختصاً بالرشيد منذ حياة أبيه، وهو الذي مهّد له أمر الخلافة وتحمّل في سبيل ذلك الكثير من العناء، حتى عرّض حياته للخطر حين عزم الهادي على عزل الرشيد من ولاية العهد وجعلها في ابنه. فلم يترك يحيى وسيلة يصرف بها الهادي عمّا عزم عليه، ويقنع بها الرشيد بألاّ يتنازل عن حقّه في الخلافة إلاّ توسّل بها. وقد نجح في مسعاه فعدل الهادي عن عزمه وأعاد للرشيد حقّه في الخلافة بعده (5) .

وحين تولّى الرشيد الخلافة بعد وفاة الهادي. كان طبيعياً أن يتقلّد يحيى ما قلّده الرشيد من أُمورها. وبقي يحيى حتى حصول النكبة مناصحاً للرشيد قائماً بما أوكل إليه خير قيام، لم تعرف عنه خيانة أو غدر.

____________________

(1) الوزراء والكتّاب ص150.

(2) نفس المصدر والصفحة، والأغاني ط دار الكتب ج3 ص173.

(3) نفس المصدر والصفحة، وفي تأريخ بغداد للخطيب البغدادي ج12 ص336 ترجمة الفضل بن يحيى أنّ الذي سمّاهم كذلك هو الفضل لا جدّه خالد.

(4) الوزراء والكتّاب ص177، ومروج الذهب ج3 ص337، والطبري ج8 أحداث سنة 170 ص233.

(5) تاريخ الطبري ج8 أحداث سنة 170 ص230، ومروج الذهب ج3 ص333، والوزراء والكتّاب ص170.

٣٥

ولقد كان يحيى حليماً جواداً عاقلاً وفيّاً، ما شئت من صفات النبل إلاّ وجدتها فيه.

يقول عنه الجهشياري: (وكان يحيى يهضم نفسه إذا استكثر شيء يكون منه من الجود) (1) .

ويقول عنه عبد الصمد بن علي (2) (ما رأيت أكرم من يحيى نفساً، ولا أحلم منه، جعل على نفسه ألاّ يكافئ أحداً بسوءٍ فوفّى) (3) .

ومع يحيى وإلى جانبه كان ابناه الفضل وجعفر يتوليان أعلى المناصب ويتمتعان بما لم يعرف لغيرهما من النفوذ والسلطة. تولّى الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وجعفر المغرب كله من الأنبار إلى أفريقيا.

وبقي يحيى وأبناؤه يتقلّدون أعلى الوظائف حتى جاءت نكبة عام 187.

سبعة عشر عاماً والبرامكة يحكمون. وأربعون عاما قبلها وهم يعملون مع العباسيين، فلم يعرفوا عنهم زندقة ولم يعرفها عنهم الناس - والحاسدون لهم كثير - ولم يتهموهم بها.

بل إنّ الرشيد نفسه الذي نكبهم وقتل جعفر بن يحيى لم يتهمهم، ولم يتهم مَن قتل منهم بالزندقة.

كيف استطاع البرامكة أن يكتموا أنفسهم وعقيدتهم طول تلك المدّة، فلم يكتشفها المعاصرون لهم، مع علوّ مقامهم وكثرة أعدائهم والحاسدين والطامعين في إزاحتهم والحلول محلّهم.

____________________

(1) الوزراء والكتّاب ص164.

(2) ابن عبد الله بن عباس عم السفّاح والمنصور وأحد كبار العباسيين وممّن صحب السفّاح في رحلته من الحميمة إلى الكوفة بعد مقتل إبراهيم الإمام.

(3) الوزراء والكتّاب ص203.

٣٦

هل قفز البرامكة عبر الزمان فظهروا فجأة في تاريخ العباسيين؟ أم أنّ علاقتهم بهم امتدت عقوداً من السنين من خليفة إلى خليفة، وكلهم متشدّد في أمر الدين يدعم به أركان حكمه. وكانت الزندقة هي أشدّ التهم وأخطرها في ذلك العهد، حتى كان المهدي يقتل فيها على الظنة والتهمة كما ذكرنا، وحتى عيّن شخصاً عهد إليه بملاحقة المتهمين بالزندقة سمي (صاحب الزنادقة).

فكيف أفلت البرامكة من كل هؤلاء فلم يرمهم واحد بالزندقة، ولم يقل عنهم واحد بأنّهم زنادقة، وقد أتهم مَن لا يقاس بهم ومَن لم يكن له من الأعداء والحاسدين ما كان لهم.

ثم يأتي بعد ذلك من (يزندقهم) تبريراً لما جرى عليهم واعتذاراً عمّا فعلته السلطة معهم. ويطلب منك أن تقتنع بما يقول!

أمّا أنا فلا أريد أن أخسر عقلي، فأقبل ما يقال عن زندقة البرامكة وأنّها كانت وراء نكبتهم والسبب فيها.

وإذا كنت أرفض الزندقة كتهمة جرت على البرامكة ما نزل بهم، فإنّ هذا لا يعني مطلقاً عدم وجود أسباب أُخرى لنكبتهم. منها ما اتصل بالبرامكة أنفسهم، ومنها ما اتصل بالرشيد، ومنها ما اتصل بهؤلاء الكثر من الحاسدين والمتربّصين والساعين لإزالة ما كان البرامكة ينعمون به من مجد وسلطان، ومحاولة الحلول محلّهم.

لقد كان البرامكة ناساً من الناس. ليسو ملائكة ولم يكن من بين أسلافهم أبو ذر أو عمار، فتحت لهم الدنيا أبوابها كما لم تفتحها لأحد، ووجدوا بين أيديهم المال والجاه والسلطان.

وكانوا قوماً ذوي فضل ونبل وسخاء، فلم يبخلوا بمالهم أو جاههم أو سلطانهم.

وكان الشعراء، وهم الراكضون في ذلك العصر وراء المال والجوائز، يتزاحمون على أبوابهم أكثر ممّا يتزاحمون على باب الخليفة. ينظمون فيهم أروع ما يستطيع الشعراء أن يأتوا به من عالي الشعر ورفيعه، حتى أضطر البرامكة إلى تخصيص واحد يرفع إليه الشعراء قصائدهم فيهم، لتكون الجوائز حسب ما يرى من جودة الشعر.

٣٧

وإلى جانب الشعراء كان ذوو الحاجات من الناس، ومن العاملين في وظائف الدولة، يتزاحمون هم أيضاً على أبوابهم لقضاء حوائجهم.

ولم يكن البرامكة يردون من يمكنهم إجابة طلبه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

ومع الأيام كان نفوذ البرامكة يقوى ويتّسع حتى لكأنّ الدولة هي دولة البرامكة، يساعدهم على ذاك وفرة المال في أيديهم وسخاؤهم به وبذلهم له.

وكان هذا وحده كان كافياً لأن يثير حفيظة الكثيرين وحسد الكثيرين، وسعيهم للإطاحة بهم كما هي الحال في كل زمان.

وبين هؤلاء من لم يكن يرى نفسه دونهم كالفضل بن الربيع الذي حجب أبوه لأوائل الخلفاء العباسيين، والذي لم يحسن البرامكة التعامل معه ولم يقدروه قدره.

ولهذا كان الفضل، بالأضافة إلى الآخرين ممن يكره البرامكة ويحقد عليهم، يسعى بهم وينال منهم ويكشف أسرارهم وأخبارهم إلى الرشيد أو من يوصلها إليه.

ولم يكن الرشيد مغمض العينين عمّا يجري. كان يرى اتساع نفوذ البرامكة وغلبتهم على الناس.

وما أظنّه إلاّ قد فكّر فيما يمكن أن ينتهي إليه وضع كهذا، وأمامه مثال أبي مسلم وجدّه المنصور وهو غير بعيد.

وما أظنه إلا كان يعد ويهيّئ للتخلّص ممّن شركوه في سلطته وربّما تجاوزوها أحيانا فقطعوا بالأُمور دون الرجوع إليه وأخذ رأيه.

ويبدو أنّ البرامكة، خصوصاً جعفر، قد تعاملوا مع الرشيد مطمئنين معتمدين على سابق دالتهم عليه، وماضيهم في خدمته ومكانهم منه، فأمنوا وأساؤوا تقدير الظروف المحيطة بهم والدسائس التي تحاك ضدهم. ولم يفكروا في بطش السلطان الذي لا يوقفه سابق خدمة، ولا قديم ود، ولا يتسامح في ركوب أي أمر إذا رأى فيه ما يهدّد عرشه أو يعرّضه لخطر التهديد يوماً ما.

وكان على البرامكة أن يعرفوا ذلك فيكونوا أكثر حذراً، وأشد احتراساً ولا يقعوا فيما وقعوا فيه، مع تحذير يحيى الأب المجرب العاقل، ومع ما كان يبدو في سلوك الرشيد إزاءهم خلال الفترة التي سبقت نكبتهم، ممّا يثير الريبة ويدفع إلى الحذر والاحتراس.

وهكذا جاء اليوم الذي كان لا بد أن يجئ. وأخذ البرامكة فيه بداية عام 187 بتدبير حازم على غفلة منهم، وعلم أو ما يشبه العلم ممّن كان يرقب الأحداث ويحسب نتائجها.

٣٨

تلك هي أسباب نكبة البرامكة، سياسية تتصل بالحكم والحاكمين ولصراع السياسي بين أطراف، يغلب فيه اليوم طرف وغداً آخر، في دولة الفرد التي يكاد تأريخنا لا يعرف غيرها من أشكال الحكم.

إنّها سياسية بعيدة عن الزندقة وما يتصل بها، بعيدة عن الدين وما يتصل به، وإلاّ فكيف أُفسّر سكوت الرشيد سبع عشر سنة وسكوت مَن قبله عنهم كما ذكرت؟!

أكان الرشيد قد عرف زندقة البرامكة طول تلك المدة وسكت، فلم يعرض لهم ولم يمسّهم بسوء؟ أم لم يكتشفها ويكتشفهم إلاّ في اليوم الذي جرت نكبتهم فيه.

وكيف أُفسّر حج بيت الله وبناء الرباطات والمساجد وهدم النوبهار؟ أكان ذلك رياء ونفاقاً؟ لكن هذا الجواب الميسور لمَن أراده، سيصدق على كل الحالات المشابهة الأُخرى، ولن يقتصر على البرامكة وحدهم، وهم لم يكونوا مجبرين ولا مكرهين على ما فعلوا، ولم ينجهم بعد ما فعلوه من تهمة الزندقة.

ثم أي مقياس سنتخذ في الحكم على الناس، إذا نحن تركنا ظواهرهم وأعمالهم وما يدل على صدق نواياهم؟!

وكيف أُفسّر إسراع الرشيد إلى قبض ضياعهم وأموالهم في نفس اليوم الذي تمّ فيه القبض عليهم. ذلك أن أموال البرامكة كانت ولا شك من بين أهم أسباب قوّتهم. والقضاء عليهم لا بد أن يرافقه القضاء على أسباب تلك القوّة: المال.

يؤكّد ذلك الحوار الذي جرى عقب سجنهم بين الرشيد وبين يحيى والذي ينقله لنا الجهشياري في الوزراء والكتاب (1) فهذا الحوار ينصب كله على المال وطرق إنفاقه. لم يشر فيه الرشيد إلى شيء من عقيدة البرامكة ولم يذكرها ولم يلمح لها. وكان حرياً بالرشيد أن يذكرها ويتخذ منها ذريعة لتبرير ما أوقعه بهم في حواره ذاك.

وكيف أُفسّر اختلاف الحكم فيهم وهم أهل بيت واحد: أب وأبناؤه، فيتناول القتل بعضهم دون بعض. يتناول أقربهم للرشيد وأحبّهم إليه وأمكنهم منزلة في قلبه، ومَن لم يكن يصبر على فراقه ساعة من ليل أو نهار.

____________________

(1) الوزراء والكتّاب ص243.

٣٩

ثم لماذا لم يعلن الرشيد اتهام البرامكة بالزندقة على المسلمين، ولم تجر مناظرتهم عليها في مجلس يحضره العلماء ورجال الدين، كما جرت العادة قبله وبعده، حيث كان المتّهم بالزندقة يحضر وتتم مناظرته ويستتاب فينجو مَن تثبت براءته أو توبته. ولا يقتل مَن يقتل إلاّ بعد بيّنة وإصرار ورفض التوبة عنها، ما لم يكن الاتهام بالزندقة ستاراً لدوافع سياسية لا يراد الكشف عنها.

ما الذي منع الرشيد من مواجهة جعفر ومساواته بالآخرين ممّن اتهموا بالزندقة حين يطلبون مواجهة الخليفة لإثبات أو إعلان البراءة ممّا اتهموا به؟! وكان جعفر قد سأل مَن جاء لأخذ رأسه وألحّ في السؤال، أن يواجه الرشيد ويراه أو يراجعه في أمره.

أكان الرشيد خائفاً من مواجهة متهم بالزندقة يريد أن يثبت براءته منها أمامه؟ وماذا في ذلك من ضرر لو أثبت أنّه غير زنديق؟ بل في ذلك كسب للدين وصيانة لدم مسلم لم يرتكب جرماً، أو تاب عن جرمٍ ارتكبه.

لقد أرسل الرشيد مَن يأتي برأس جعفر لا مَن يأتي بجعفر. ولم يكن جعفر محارباً ولم يُؤسر في ساحة حرب، ولم يتهم في شأن من شؤونها فتقتضي ضرورات الأمن سرعة قتله والتخلّص منه.

ولم يكن هناك هياج أو فتنة فيخاف منه أو من الانتظار به حتى اليوم التالي.

ثم كيف أفسّر أخيراً هذه القسوة أو هذا التمثيل الذي أعقب مقتل جعفر، إذ ينقل المؤرّخون أنّ الرشيد أمر بقطع جثّته ونصب كل قطعة على أحد جسري بغداد، ونصب رأسه على الجسر الثالث فيها (1) . وأنّ جثته بقيت معلّقة من بداية صفر حتى نهاية ذي الحجّة حيث أمر الرشيد بإحراقها (2) .

وهذا ما لم يرو ولم ينقل عن كل الذين اتهموا بالزندقة وقتلوا فيها. وهو يعكس حقدا شخصيا عميقا تملك الرشيد فتصور أن ذلك مما يشفي غيظه من جعفر.

وهنا قد يرد إلى ذهني ما يشير إليه بعض المؤرّخين من زواج جعفر بالعباسة أخت الرشيد، وشرط الرشيد ألاّ يدنو منها جعفر ولا يخلو بها. وأنّ هذا الشرط لم يتحقق بفعل جعفر أو العباسة أو كليهما، فحملت العباسة سرّاً من جعفر ووضعت غلاماً بعثت به إلى مكّة مع مَن يخدمه ويرعاه هناك، وأنّ الرشيد قد علم بالأمر من بعض الجواري، وهو ما أحنقه على جعفر خصوصاً.

____________________

(1) تاريخ الطبري ج8 أحداث سنة 187 ص 296 والوزراء والكتاب ص234.

(2) الطبري ج8 أحداث سنة 187 ص317.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111