الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء ٢

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب0%

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 388

الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 388
المشاهدات: 87162
تحميل: 7358


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87162 / تحميل: 7358
الحجم الحجم الحجم
الغدير  في الكتاب والسُنّة والأدب

الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الّذين إصطفى

نجز الجزء الأوَّل (ولله الحمد) من هذا الكتاب بعد أنَّ ألمسك باليد حقيقةٌ ناصعةٌ هي من أجلى الحقايق الدينيَّة. ألا؟ وهي: مغزى نصِّ الغدير ومفاده، ذلك النصُّ الجليُّ على إمامة مولانا أمير المؤمنين، بحيث لم يدع لقائل كلمةً، ولا لمجادل شبهة في تلك الدلالة، وقد أوعزنا في تضاعيف ذلك البحث الضافي إلى أنَّ هذا المعنى من الحديث هو الذي عرفته منه العرب منذ عهد الصحابة الوعاة له وفي الأجيال من بعدهم وإلى عصرنا الحاضر؛ فهو معنى اللفظ اللغويُّ المراد لا محالة قبل القراين المؤكِّدة له وبعدها، وقد أسلفنا نزراً من شواهد هذا المدَّعى، غير أنَّه يروقنا هيهنا التبسّط في ذلك بإيراد الشعر المقول فيه، مع يسيرٍ من مكانة الشاعر وتوغّله في العربيَّة، ليزداد القارئ بصيرةً على بصيرته.

ألا؟ إنَّ كلّاً من أولئك الشعراء الفطاحل (وقل في أكثرهم: العلماء) معدودٌ من رواة هذا الحديث، فإنَّ نظمهم إيّاه في شعرهم القصصي ليس من الصور الخياليَّة الفارغة، كما هو المطَّرد في كثير من المعاني الشعريّة، ولدى سواد عظيم من الشعراء، ألم ترهم في كلِّ واد يهيمون؟ لكن هؤلاء نظموا قصَّةً لها خارجٌ، وأفرغوا ما فيها من كلِم منثورة أو معان مقصودة، من غير أيِّ تدخّل للخيال فيه، فجاء قولهم كأحد الأحاديث المأثورة، فتكون تلكم القوافي المنضَّدة في عقودها الذهبيَّة من جملة المؤكِّدات لتواتر الحديث.

ومن هنا لم نعتبر في بعض ما أوردناه أن يكون من عليَّة الشعر، ولا لاحظنا تناسبه لأوقات نبوغ الشاعر في القوَّة، لما ذكرناه من أنَّ الغاية هي روايته للحديث وفهمه المعنى المقصود منه، ولن تجد أيَّ فصيح من الشعراء والكتّاب تشابهت ولائد فكرته في القوَّة والضعف في جميع أدواره وحالاته.

١

*(الشعر والشعراء)*

ونحن لا نرى شعر السلف الصالح مجرَّد ألفاظ مسبوكة في بوتقة النظم، أو كلمات منضَّدة على أسلاك القريض فحسب، بل نحن نتلقّاه بما هناك من الأبحاث الراقية في المعارف من علمي الكتاب والسنَّة، إلى دروس عالية من الفلسفة والعِبر والموعظة الحسنة والأخلاق، أضف إليها ما فيه من فنون الأدب، وموادِّ اللغة، و مباني التاريخ، فالشعر الحافل لهذه النواحي بغية العالم، ومقصد الحكيم، ومأرب الأخلاقيِّ، وطلبة الأديب، وأُمنيَّة المؤرِّخ وقل: مرمى المجتمع البشريِّ أجمع.

وهناك للشعر المذهبيِّ مآرب أُخرى هي من أهمِّ ما نجده في شعر السلف. ألا؟ وهي الحجاج في المذهب، والدعوة إلى الحقِّ، وبثِّ فضايل آل الله، ونشر روحيّات العترة الطاهرة في المجتمع، بصورةٍ خلّابة، وأُسلوب بديع، يُمازج الأرواح، و ويُخالط الأدمغة، فيبلغ هتافه القاصي والداني، وتلوكه أشداق الموالي والمناوئ مهما علت في الكون عقيرته، ودوّخت الأرجاء شهرته، وشاع وذاع وطار صيته في الأقطار، وقرِّطت به الآذان.

مهما صار أُحدوَّة تحدو بها الحُداة، وأغاني تغنيّ بها الجواري في أندية الملوك والخلفاء والأُمراء، وتُناغي بها الأُمَّهات الرضع في المهود، ويرقصنها بها بعد الفطام في الحجور، ويُلقِّنها الآباء أولادهم على حين نعومة الأظفار، فينمو ويشبُّ وفي صفحة قلبه أسطرٌ نوريَّة من الولاء المحض بسبب تلك الأهازيج، وهذه الناحية (الفارغة اليوم) لا تسدّها خطابة أيِّ مفوَّهٍ لَسِن، ولا تلحقه دعاية أيِّ متكلّم، كما يقصر دون إدراكها السيف والقلم.

وأنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيَّتك فوق أيِّ دعاية وتبليغ، فأيُّ أحد يتلو ميميَّة الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقاً إلى الممدوح وحبّاً له؟ أو ينشد هاشميّات الكميت فلا يمتلئ حِجاجاً لِلحقّ؟ أو يترنَّم بعينيَّة الحميري فلا يعلم أنّ الحقَّ يدور علي الممدوح بها؟ أو تُلقى عليه تائيَّة دعبل فلا يستاء لإضطهاد أهل الحقِّ؟ أو تصكُّ سمعه ميميّة الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جلدته؟ ثمَّ لا يجد كلَّ عضو من يخاطب

٢

القوم بقوله:

يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم

لِعصبةٍ بيعهم يوم الحياج دمُ

وكم وكم لهذه من أشباه ونظاير في شعراء أكابر الشيعة، وسوف تقف عليها في طيّات أجزاء كتابنا هذا إنشاء الله تعالى.

وبهذه الغاية المهمَّة كان الشعر في القرون الأولى مدحاً وهجاءاً ورثاءاً كالصارم المسلول بيد موالي أئمَّة الدين، وسهماً مغرقاً في أكباد أعداء الله، ومجلّة دعاية إلى ولاء آل الله في كلِّ صقع وناحية، وكانوا صلوات الله عليهم يُضحّون دونه ثروةً طايلة ويبذلون من مال الله للشعراء ما يُغنيهم عن التكسّب والإشتغال بغير هذه المهمَّة، وكانوا يُوجّهون الشعراء إلى هذه الناحية، ويحتفظون بها بكلِّ حول وطَوْل، ويُحرِّضون الناس عليها، ويُبشِّرونهم عن الله و (هم أُمناء وحيه) بمثل قولهم: مَن قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنَّة. ويحثّونهم على تعلّم ما قيل فيهم وحفظه بمثل قول الصادق الأمين عليه السلام. علّموا أولادكم بشعر العبدي. وقوله: ما قال فينا قائلٌ بيت شعر حتى يؤيَّد بروح القدس(1) . وروى الكشي في رجاله ص 160 عن أبي طالب القمي قال: كتبت إلى أبي جعفر بأبيات شعر وذكرت فيها أباه وسألته أن يأذن لي في أن أقول فيه، فقطع الشعر وحبسه وكتب في صدر ما بقي من القرطاس: قد أحسنت فجزاك الله خيراً. وعنه في لفظ آخر: فأذن لي أن أرثي أبا الحسن أعني أباه وكتب إليَّ: أن اندبه واندب لي.

(الشعر والشعراء في السنّة والكتاب)

كلّ ما ذكرنا عنهم صلوات الله عليهم كان تأسِّياً بقدوتهم النبيِّ الطاهر صلّى الله عليه وآله فإنَّه أوَّل فاتح لهذا الباب بمصراعيه مدحاً وهجاءاً بإصاخته لِلشعراء المادحين له ولأُسرته الكريمة، وكان ينشد الشعر ويستنشده ويجيز عليه ويرتاح له ويكرم الشاعر مهما وجد في شعره هذه الغاية الوحيدة كإرتياحه لشعر عمّه شيخ الأباطح أبي طالب سلام الله عليه لَمّا استسقى فسقي قال: لله درُّ أبي طالب

____________________

1 - عيون أخبار الرضا، رجال الكشي ص 254.

٣

لو كان حيّاً لقرَّت عيناه، مَن يُنشدنا قوله؟ فقام عمر بن الخطاب فقال: عسى أردتَ يا رسول الله؟.

وما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبرّ وأوفى ذمَّةً من محمّدِ

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ليس هذا من قول أبي طالب هذا من قول حسّان بن ثابت. فقام علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: كأنَّك أردتَ يا رسول الله؟

وأبيضُ يُستسقى الغمام بوجهه

ربيع اليتامى عصمةٌ للأراملِ

تلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهل عنده في نعمةٍ وفواضلِ

فقال رسول الله: أجل فقام رجل من بني كنانة فقال:

لك الحمدُ والحمدُ ممَّن شكر

سُقينا بوجه النبيِّ المطر

دعا الله خالقه دعوةً

وأشخص منه إليه البصر

فلم يك إلّا كإلقا الردا

وأسرع حتى أتانا الدّرر

دفاق العزالي جمّ البُعاق (1)

أغاث به الله عليا مضر

فكان كما قاله عمّه

أبو طالب ذا رواءٍ غزر

به الله يسقي صيوب الغمام

فهذا العيان وذاك الخبر

فقال رسول الله: يا كناني؟ بوَّأك الله بكلِّ بيت قلته بيتاً في الجنَّة(2) .

ولَمّا نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم بدر إلى القتلى مصرَّعين قال لأبي بكر: لو أنّ أبا طالب حيٌّ لعلم أنَّ أسيافنا أخذت بالأماثل وذلك لقول أبي طالب:

وإنّا لعمر الله إن جدَّ ما أرى

لتلتبسن أسيافنا بالأماثل

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لشعر عمِّه العبّاس بن عبد المطلب لَمّا قال: يا رسول الله؟ أريد أن أمتدحك. فقال رسول الله: قل لا يفضض الله فاك. فأنشأ يقول:

من قبلها طبتَ في الظلال وفي

مستودع حيث يخصف الورقُ

ثمَّ هبطتَ البلاد لا بشرٌ

أنت ولا مضغةٌ ولا علقُ

____________________

1 - العزالي جمع العزلاء: مصب الماء. والبعاق بالضم: السحاب الممطر بشدة.

2 - أمالي شيخ الطايفة ص 46.

٤

بل نطفةٌ تركب السفين وقد

ألجم نسراً وأهله الغرقُ

تُنقل من صالبٍ إلى رحمٍ

إذا مضى عالمٌ بدا طبقُ

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطقُ

وأنت لَمّا وُلدتَ أشرقت الأ

رض وضاءت بنورك الأُفقُ

فنحن في ذلك الضياء وفي

النور وسبل الرشاد نخترقُ(1)

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لشعر عمرو بن سالم وقوله له: نصرت يا عمرو بن سالم لَمّا قدمه وأنشده أبياتاً أوّلها(2) :

لا همَّ إنّي ناشدٌ محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أباً وكنّا ولدا

ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر رسول الله نصراً عتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

إلخ

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لِشعر النابغة الجعدي ودعائه له بقوله: لا يفضض فاك، لَمّا أنشده أبياتاً من قصيدته مائتي بيت أوّلها:

خليليَّ غضّا ساعة وتهجَّرا

ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا

وممّا أنشده رسول الله صلّى الله عليه وآله:

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

ويتلو كتاباً كالمجرَّة نيِّرا

وجاهدت حتى ما أحسُّ ومن معي

سهيلاً إذا ما لاح ثمّ تحوّرا

أُقيم على التقوى وأرضى بفعلها

وكنت من النار المخوفة أحذرا

ولَمّا بلغ إلى قوله:

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: الجنَّة. قال: أجل إن شاء الله تعالى. ثمَّ قال:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له

بوادر تحمي صفوه أن يُكدَّرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له

حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا

____________________

1 - مستدرك الحاكم 3 ص 327، أسد الغابة 1 ص 119.

2 - تاريخ الطبري 3 ص 111 أسد الغابة 4 ص 104.

٥

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أجدتَ لا يفضض الله فاك. مرّتين فكانت أسنانه كالبَرد المنهل ما انفصمت له سنٌّ ولا انفلتت وكان معمَّراً(1) .

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لِشعر كعب بن زهير لَمّا أنشده في مسجده الشريف لاميَّته التي أوّلها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ

مُتيَّمٌ أثرها لم يفد مكبولُ

فكساه النبيُّ صلّى الله وآله بردة إشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين(2) وفي مستدرك الحاكم 3 ص 582: لَمّا أنشد كعب قصيدته هذه رسول الله وبلغ قوله:

إنَّ الرَّسول لسيفٌ يُستضاء به

وصارمٌ من سيوف الله مسلولُ

أشار صلّى الله عليه وآله بكمّه إلى الخلق ليسمعوا منه. ويُروى أنَّ كعباً أنشد (من سيوف الهند) فقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله: من سيوف الله(3) .

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لِشعر عبد الله بن رواحة، قال البراء بن عازب: رأيت النبيَّ صلّى الله عليه وآله ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلد بطنه وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة.

لاهُمَّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدَّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينةً علينا

وثِبِّت الأقدام إن لاقينا

إنَّ أولآء قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنةً أبينا(4)

ويظهر من رواية ابن سعد في طبقاته وابن الأثير إنّ الأبيات لعامر بن الأكوع روى الثاني في أُسد الغابة 3 ص 72 إنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله قال لعامر في مسيره إلى خيبر: انزل يا بن الأكوع واحد لنا من هناتك(5) قال: نزل يرتجز رسول الله صلّى الله عليه وآله:

لا هُمَّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدَّقنا ولا صلّينا

إلخ

____________________

1 - الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 96، الاستيعاب 1 ص 311، الإصابة 3 ص 539.

2 - الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 62، الامتاع للمقريزي 494، الإصابة 5 ص 296.

3 - شرح قصيدة: بانت سعاد. لجمال الدين الأنصاري ص 98.

4 - مسند أحمد 4 ص 302.

5 - أي كلماتك وأراجيزك وفي رواية: هنيأتك. على التصغير، وفي أخرى: هنيهاتك.

٦

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يرحمك ربّك. وفي لفظ: رحمك الله. وفي الطبقات لابن سعد 3 ص 619: غفر لك ربّك.

وكإرتياحه صلّى الله عليه وآله لِشعر حسّان بن ثابت يوم غدير خمّ ودعائه له بقوله: لا تزال يا حسّان؟ مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وكان صلّى الله عليه وآله يضع لحسّان منبراً في مسجده الشريف يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله، ويقول رسول الله: إن الله يؤيِّد حسّان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله(1)

وكإرتياحه لشعر أبي كبير الهذلي. قالت عايشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يخصف نعله وكنت جالسةً أغزل فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وعرقه يتولّد نوراً قالت: فبهتُّ فنظر إليّ فقال: مالكِ بهتِّ؟ فقلت يا رسول الله؟ نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وعرقك يتولّد نوراً، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنّك أحقُّ بشعره، قال: وما يقول أبو كبير؟ قلت: يقول:

ومبرِّئٌ من كلِّ غبِّر حيضة

وفساد مرضعة وداءٍ معضلِ

وإذا نظرت إلى أسرَّة وجهه

برقت كبرق العارض المتهللِ

قالت: فوضع رسول الله صلّى الله عليه وآله ما كان بيده وقام وقبَّل ما بين عينيَّ وقال: جزاكِ الله خيراً يا عايشة؟ ما سررت منّي كسروري منك(2) .

وكان صلّى الله عليه وآله يحثُّ الشعراء إلى هذه الناحية، ويأمرهم بالإحتفاظ بها، ويُرشدهم إلى أخذ حديث المخالفين له وأحسابهم وتأريخ نشئاتهم ممَّن يعرفها وهجاءهم كما كان يأمرهم بتعلّم القرآن العزيز، وكان يراه نصرةً للإسلام، وجهاداً دون الدين الحنيف؛ وكان يصوِّر للشاعر جهاده وينصّ به ويقول: إهجوا بالشعر إنّ المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والّذي نفس محمد بيده كأنّما تنضحونهم بالنبل. وفي لفظ آخر: فكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل. وفي ثالث: والّذي نفس محمد بيده فكأنّما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر(3) .

____________________

1 - مستدرك الحاكم 3 ص 477 وصححه هو والذهبي في تلخيصه.

2 - حلية الأولياء لأبي نعيم 2 ص 45، تاريخ الخطيب البغدادي 13 ص 253.

3 - مسند أحمد 3 ص 460، 456، ج 6 ص 387.

٧

وكان صلّى الله عليه وآله يثوِّر شعراءه إلى الجدال بنبال النظم وحسام القريض ويحرِّضهم إلى الحماسة في مجابهة الكفّار في قولهم المضادِّ لمبدءه القدسيِّ، ويبثُّ فيهم روحاً دينيّاً قويّاً، ويؤكِّد فيهم حميّةً تجاه الحميّة الجاهليّة، وكان يوجِد فيهم هياجاً ونشاطاً في النشر والدعاية، وشوقاً مؤكّداً إلى الدفاع عن حامية الإسلام المقدَّس، ورغبةً في المجاهدة بالنظم بمثل قوله صلّى الله عليه وآله للشاعر: إهج المشركين فإنَّ روح القدس معك ما هاجيتهم(1) وقوله: إهجهم فإنَّ جبريل معك(2)

قال البراء بن عازب: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قيل له: إنّ أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله؟ إئذن لي فيه فقال: أنت الذي تقول: ثبّت الله؟ قال: نعم يا رسول الله؟:

فثبَّت الله ما أعطاك من حسن

تثبيت موسى ونصرا مثل ما نُصروا

قال صلّى الله عليه وآله: وأنت يفعل الله بك خيراً مثل ذلك. قال: ثُمَّ وثب كعب فقال: يا رسول الله؟ إئذن لي فيه. قال: أنت الذي تقول: هَمت؟ قال: نعم، قلت يا رسول الله؟:

همت سخينة أن تغالب ربّها

فليغلبنَّ مغالب الغلّابِ

قال صلّى الله عليه وآله: إنّ الله لم ينس ذلك لك. قال ثمَّ قام حسّان فقال: يا رسول الله؟ إئذن لي فيه وأخرج لساناً له أسود فقال: يا رسول الله؟ إئذن لي إن شئت أفريت به المزاد(3) فقال: إذهب إلى أبي بكر ليحدِّثك حديث القوم وأيّامهم وأحسابهم ثمَّ إهجهم وجبريل معك(4) .

وهذه الطائفة من الشعراء هم المعنيّون بقوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) . وهم المستثنون في صريح القرآن من قوله تعالى:( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) . الآية سورة الشعراء. ولَمّا نزلت

____________________

1 - مسند أحمد 4 ص 298، مستدرك الحاكم 3 ص 487.

2 - مسند أحمد 4 ص 299، 302، 303.

3 - أي شفقته. كناية عن إسقاطه بالفضيحة.

4 - مستدرك الحاكم 3 ص 488.

٨

هذه الآية جاءت عدّةٌ من الشعراء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وهم يبكون قائلين إنّا شعراء والله أنزل هذه الآية فتلا النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم( إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) . قال: أنتم.( وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيراً ) ، قال: أنتم.( وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) ، قال: أنتم(1) .

وإنّ كعب بن مالك أحد شعراء النبيِّ الأعظم حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت وكيف ترى فيه؟ فقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه(2)

على أنّ في وسع الباحث أن يقول: إنّ المراد بالشعراء في الآية الكريمة كلُّ من يأتي بكلا شعريّ منظوماً أو منثوراً فتكون مصاديقها أحزاب الباطل وقوّالة الزور، فعن مولانا الصادق عليه السلام: إنَّهم القصّاصون. رواه شيخنا الصدوق في عقايده، وفي تفسير علي بن إبراهيم ص 474 أنَّه قال: نزلت في الّذين غيّروا دين الله وخالفوا أمر الله، هل رأيتم شاعراً قطّ تبعه أحد؟ إنّما عني بذلك الذين وضعوا ديناً بآرائهم فتبعهم على ذلك الناس، ويؤكِّد ذلك قوله: ألم ترهم في كلِّ واد يهيمون. يعني يُناظرون بالأباطيل ويُجادلون بالحجج وفي كلِّ مذهب يذهبون. وفي تفسير العيّاشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هم قومٌ تعلَّموا وتفقَّهوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا.

فليس في الآية حطٌّ لمقام الشعر بما هو شعر وإنّما الحطُّ على الباطل منه و من المنثور، وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وآله عند فريقي الإسلام قوله: إنّ من الشعر لحكمة. م - وإنّ من البيان لسحرا(3) ].

(الهواتف بالشعر)

وهناك هتافاتٌ غيبيَّة شعريَّة في الدعاية الدينيَّة، خوطبَ بها أُناسٌ في بدء

____________________

1 - تفسير ابن كثير 3 ص 354.

2 - مسند أحمد 3 ص 456.

م 3 - مسند أحمد 1 ص 269، 273، 303، 332، سنن الدارمي 2 ص 296، صحيح البخاري كتاب الطب، باب: إن من البيان سحرا، المجني لابن دريد ص 22، تاريخ بغداد للخطيب 3 ص 98، 258، و ج 4 ص 254، و ج 8 ص 18، 314، البيان والتبيين للجاحظ 1 ص 212، 275، رسائل الجاحظ ص 235، مصابيح السنة للبغوي 2 ص 149، الروض الأنف 2 ص 337، تاريخ ابن كثير 9 ص 45، تاريخ ابن عساكر 1 ص 348، و ج 6 ص 423، الإصابة 1 ص 453، و ج 4 ص 183، تهذيب التهذيب 9 ص 453 ).

٩

الإسلام فاهتدوا بها، وهي معدودةٌ من معاجز النبيِّ صلّى الله عليه وآله وتنمُّ عن أهميَّة الشعر في باب الإلقاء والحجاج وإفهام المستمع، وإنَّ أخذه بمجامع القلوب والأفئدة آكد من الكلام المنثور، فليتَّخذ دستوراً في إصلاح المجتمع، وبثِّ الدعاية الروحيَّة. ومنها:

1 - سمعت آمنة بنت وهب في ولادة النبيِّ صلّى الله عليه وآله هاتفاً يقول:

صلّى الإله وكلُّ عبد صالح

والطيّبون على السراج الواضحِ

المصطفى خير الأنام محمد

الطاهر العلم الضياء اللايحِ

زين الأنام المصطفى علم الهدى

الصادق البرّ التقيّ الناصحِ

صلّى عليه الله ما هبت الصبا

وتجاوبت ورق الأحمام النايحِ(1)

2 - هتف هاتفٌ من صنم بصوم جهير ليلة مولد النبيِّ صلّى الله عليه وآله وقد خرّت فيها الأصنام وهو يقول:

تردّى لمولودٍ أنارت بنوره

جميع فجاج الأرض بالشرق والغربِ

وخرَّت له الأوثان طُرّاً وأرعدت

قلوب ملوك الأرض طُرّاً من الرعبِ

ونارُ جميع الفرس باخَت وأظلمت

وقد بات شاه الفرس في أعظم الكربِ

وصدَّت عن الكهّان بالغيب جنّها

فلا مخبرٌ منهم بحقٍّ ولا كذبِ

فيال قصيٍّ إرجعوا عن ضلالكم

وهبّوا إلى الإسلام والمنزل الرحبِ(2)

3 - قال ورقة: بتُّ ليلة مولد النبيِّ صلّى الله عليه وآله عند صنم لنا إذ سمعت من جوفه هاتفاً يقول:

وُلد النبيُّ فذلَّت الأملاكُ

ونأى الضلالُ وأدبر الإشراكُ

ثمَّ إنتكس الصنم على رأسه(3) .

4 - قال العوام بن جُهيل (مصغّراً) الهمداني سادن (يغوث): بتُّ ليلاً في بيت الصنم: وسمعت هاتفاً من الصنم يقول: يا ابن جُهيل؟ حلَّ بالأصنام الويل، هذا

____________________

1 - بحار الأنوار 6 ص 73.

2 - تاريخ ابن كثير 2 ص 341، الخصايص الكبرى للسيوطي 1 ص 52.

3 - الخصايص الكبرى 1 ص 52.

١٠

نورٌ سطع من الأرض الحرام، فودِّع يغوث بالسّلام. فكلّمت قومي ما سمعت فإذا هاتفٌ يقول:

هل تسمعنَّ القول يا عوام؟

أم أنت ذو وقرٍ عن الكلامِ؟

قد كشف دياجر الظلامِ

وأصفق الناس على الإسلامِ

فقلت:

يا أيّها الهاتف بالعوامِ

لست بذي وقرٍ عن الكلام

فبيِّنن عن سنَّة الإسلامِ

قال: وما كنت والله عرفت الإسلام قبل ذلك فأجابني يقول:

أرحل على اسم الله والتوفيق

رحلةَ لا وانٍ ولا مَشيقِ

إلى فريق خير ما فريقِ

إلى النبيِّ الصادقِ المصدوقِ

فرميت الصنم وخرجت أُريد النبيَّ صلّى الله عليه وآله فصادفت وفد همدان يدور بالنبيِّ فدخلت عليه فأخبرته خبري فسرَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله ثمّ قال: أخبر المسلمين: وأمرني بكسر الأصنام فرجعت إلى اليمن وقد امتحن الله قبلي بالإسلام وقلت في ذلك:

من مبلغٌ عنّا شآم قومنا

ومن حلَّ بالأجواف سرّاً وجهرا

بأنّا هدانا الله لِلحقِّ بعدها

تهوَّد منّا حائرٌ وتنصَّرا

وإنّا سرينا من يغوث وقربه

يعوق وتابعناك يا خيِّر الورى(1)

5 - أخرج أبو نعيم في دلايل النبوَّة 1 ص 34 عن العباس بن مرداس السلمي قال: دخلت على وثن يقال له (الضمار) فكنست ما حوله ومسحته وقبَّلته فإذا بصايحٍ يصيح يا عبّاس بن مرداس؟

قل للقبايل من سليم كلّها

:

هلك الأنيس وفاز أهل المسجدِ

أودى «ضمار» وكان يعبد مرَّة

قبل الكتاب إلى النبيِّ محمَّدِ

إنّ الذي ورث النبوَّة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مُهتدِ

فخرج العبّاس في ثلثمائة راكب من قومه إلى النبيِّ صلّى الله عليه وآله فلمَّا

____________________

1 - أسد الغابة 4 ص 193، الإصابة 3 ص 41.

١١

رآه النبيُّ تبسَّم ثمَّ قال: يا عبّاس بن مرداس كيف كان إسلامك؟ فقصَّ عليه القصَّة فقال: صدقت وسرَّ بذلك(1) .

6 - أخرج أبو نعيم في دلايله 1 ص 33 عن رجل خثعميّ قال: إنّ قوماً من خثعم كانوا مجتمعين عند صنم لهم إذ سمعوا بهاتف يهتف:

يا أيّها الناس ذَوو الأجسامِ

ومسندوا الحكم إلى الأصنامِ

ما أنتمُ وطائش الأحلامِ

هذا نبيٌّ سيِّدُ الأنامِ

أعدل ذي حُكم من الحكّامِ

يصدع بالنور وبالإسلامِ

ويردع الناس عن الآثامِ

مستعلنٌ في البلد الحرامِ

وأخرج أبو نعيم عن عمر قال: سمعت هاتفاً يهتف ويقول:

يا أيّها الناس ذَوو الأجسامِ

ومسندوا الحكم إلى الأصنام

ما أنتمُ وطائش الأحلامِ

فكلّكم أوره كالنعامِ(2)

أما ترون ما أرى أمامي؟

قد لاح للناضر من تهامِ

أكرم به لله من إمامِ

قد جاء بعد الكفر بالإسلامِ

والبرّ والصِّلات للأرحام (3)

ورواه الخرائطي كما في تاريخ ابن كثير 2 ص 343 بإسناده واللفظ فيه:

يا أيّها الناس ذَوو الأجسامِ

من بين أشياخ إلى غلامِ

ما أنتمُ وطائش الأحلامِ

ومسند الحُكم إلى الأصنامِ

أكلّكم في حير النيامِ؟

أم لا ترون ما الَّذي أمامي؟

من ساطعٍ يجلو دُجى الظلامِ

قد لاح للناظر من تهام

ذاك نبيٌّ سيِّد الأنامِ

قد جاء بعد الكفر بالإسلام

أكرمه الرَّحمن من إمامِ

ومن رسول صادق الكلام

____________________

1 - ابن شهر آشوب في المناقب 1 ص 61، تاريخ ابن كثير 2 ص 341.

2 - في البحار 6 ص 319. فكلكم أوره كالكهام. وروه فهو أوره. أي حمق. الكهام: الكليل. البطئ. المسن.

3 - الخصايص الكبرى 1 ص 133.

١٢

أعدل ذي حُكم من الحكّامِ

يأمر بالصَّلاة والصيامِ

والبرِّ والصّلات للأرحامِ

ويزجر الناس عن الآثامِ

والرجس والأوثان والحرامِ

من هاشم في ذروة السنامِ

مستعلناً في البلد الحرامِ

7 - أخرج أبو نعيم عن يعقوب بن يزيد بن طلحة التيمي عن رجل قال: كنّا بقفرة من الأرض إذا هاتفٌ من خلفنا يقول:

قد لاح نجمٌ فأضاء مشرقة

يخرج من ظلماء عسوف موبقه

ذاك رسولٌ مفلحٌ مَن صدَّقه

الله أعلى أمره وحقّقه(1)

8 - أخرج البيهقي وابن عساكر عن ابن عبّاس إنَّ رجلاً قال: يا رسول الله؟ خرجت في الجاهليَّة أطلب بعيراً شرد فهتف بي هاتفٌ في الصبح يقول:

يا أيّها الراقد في اللّيل الأجمْ

قد بعث الله نبيّاً في الحرمْ

من هاشمٍ أهل الوفاء والكرمْ

يجلو دجنّات الدياجي والظلمْ

فأدرت طرفي فما رأيت له شخصاً فقلت:

يا أيّها الهاتف في داجي الظُلمْ

أهلاً وسهلاً بك مِن طيف ألمْ

بيِّن هداك الله في لحن الكَلِمْ

ماذا الذي يدعو إليه؟ يغتنمْ

فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول:

ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمداً بالخيور. ثمّ أنشأ يقول:

الحمد لله الّذي

لم يخلق الخلق عبثْ

أرسلَ فينا أحمداً

خير نبيٍّ قد بَعثْ

صلّى عليه اللهُ ما

حجَّ لهُ ركبٌ وحثّْ(2)

9 - أخرج أبو سعد في (شرف المصطفى) عن الجعد بن قيس المرادي قال: خرجنا أربعة أنفس نريد الحجَّ في الجاهليَّة فمررنا بواد من أودية اليمن إذا بهاتف يقول:

ألا أيّها الراكب المعرّس بلِّغوا

إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما

____________________

1 - الخصايص الكبرى 1 ص 104.

2 - الخصايص الكبرى 1 ص 109.

١٣

محمَّدٍ المبعوث منّا تحيّةً

تُشيِّعه من حيث سار ويمَّما

وقولوا له: إنّا لدينك شيعةٌ

بذلك أوصانا المسيح بن مريما(1)

10 - أخرج الحاكم في المستدرك 3 ص 253 عن عيش بن جبر قال: سمعت قريش في ليلة قائلاً يقول على أبي قبيس:

فإن يسلم السعدان يصبح محمَّدٌ

بمكّة لا يخشى خلافَ مخالف

فظنَّت قريش أنّهما سعد تميم، وسعد هذيم، فلمّا كانت الليلة الثانية سمعوه يقول:

أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً

ويا سعد سعد الخزرجين الغطارفِ

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنَّيا

على الله في الفردوس منية عارفِ

فإنَّ ثواب الله يا طالب الهدى؟

جنانٌ من الفردوس ذات رفارفِ

فلمّا أصبحوا قال سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة(2)

11 - روى ابن سعد في طبقاته الكبرى 1 ص 215 - 219 ما ملخّصه: لَمّا هاجر سول الله صلّى الله عليه وآله من مكّة إلى المدينة ومرَّ هو ومن معه بخيمتي أُمّ معبد الخزاعيَّة وهي قاعدة بفناء الخيمة فسألوها تمراً أو لحماً يشترون، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وإذا القوم مرملون(3) مسنتون(4) فقالت: والله لو كان عندنا شيءٌ ما أعوزكم القِرى، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أُمّ معبد؟ قالت: هذه شاة خلّفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي أنت وأُمي إن رأيت بها حلباً، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: أللهمَّ؟ بارك لها في شاتها. قال: فتفاجّت(5) ودرت واجترّت(6) فدعا بإناء لها يربض(7) الرهط فحلب فيه ثجّاً(8)

____________________

1 - الخصايص الكبرى 1 ص 109.

2 - ورواه ابن شهر آشوب في المناقب 1 ص 59.

3 - نفد زادهم وافتقروا.

4 - مجدبون.

5 - من التفاج هو المبالغة في تفريج ما بين الرجلين، وهو من الفج أي الطريق.

6 - من الجرة وهي: ما يخرجه البعير من بطنه فيمضغه ثانيا.

7 - أي يرويهم حتى يناموا ويأخذوا راحتهم.

8 - ثج الماء ثجوجا: سال.

١٤

حتى غلبه الثُمال(1) فسقاها فشربت حتّى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب صلّى الله عليه وآله آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل(2) حتّى أراضوا(3) ثمّ حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندها ثمَّ إرتحلوا عنها. الحديث. وأصبح صوت بمكّة عالياً بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون مَن يقول وهو يقول:

جرى الله ربُّ الناس خير جزائه

رفيقين حلّا خيمتي أُمّ معبدِ

هما نزلا بالبرِّ وارتحلا به

فأفلح مَن أمسى رفيق محمَّدِ

فيالَ قُصيٍّ ما زوى الله عنكُم

به من فعالٍ لا يجازى وسؤددِ

سلوا أُختكم عن شاتها وإنائها

فإنَّكمُ إن تسألوا الشاة تشهدِ

دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلّبت

له بصريحٍ ضرَّة الشاة مزبدِ(4)

فغادره رهناً لديها لحالبٍ

تدرُّ بها في مصدر ثمَّ موردِ(5)

12 - أخرج ابن الأثير في أُسد الغابة 5 ص 188 عن أبي ذؤيب الهذلي الشاعر إنَّه سمع ليلة وفاة النبيِّ صلّى الله عليه وآله هاتفاً يقول:

خطبٌ أجلّ أناخ بالإسلام

بين النخيل ومعقد الآطامِ(6)

قُبض النبيُّ محمَّدٌ فعيوننا

تذري الدموع عليه بالتسجامِ

وهناك هواتف في شؤون العترة النبويّة منها:

13 - أخرج الحافظ الكنجي في كفايته ص 261: لَمّا وُلد في الكعبة علي «أمير المؤمنين» دخل أبو طالب الكعبة وهو يقول:

يا ربَّ هذا الغسق الدُجيّ

والقمر المنبلج المضيِّ

بيِّن لنا من أمرك الخفيِّ

ماذا ترى في إسم ذا الصبيِّ

____________________

1 - الثمال بضم الثاء واحدة ثمالة: الرغوة. وما بقي في الإناء من ماء غيره.

2 - عللا. بالتحريك: شربا بعد شرب. نهل بالتحريك: أوَّل الشرب.

3 - من أراض إراضة: روى.

4 - الصريح: الخالص. الضرة: أصل الثدي. المزبد: القاذف بالزبد.

5 - ورواها أبو نعيم في دلايل النبوة 2 ص 118.

6 - واحده الأطم بالضم: الأبنية المرتفعة كالحصون.

١٥

قال: فسمع صوت هاتف وهو يقول:

يا أهل بيت المصطفى النبيِّ

خُصصتمُ بالولد الزكيِّ

إنَّ اسمه من شامخ العليِّ

عليٌّ اشتقَّ من العليِّ

ثمّ قال: هذا حديثٌ تفرَّد به مسلم بن خالد الزنجي وهو شيخ الشافعيِّ.

14 - ذكر الشبلنجي في نور الأبصار ص 47: إنّ عليّاً «أمير المؤمنين» كان يزور قبر فاطمة في كلِّ يوم فأقبل ذات يوم فانكبَّ على القبر وبكى وأنشأ يقول:

مالي مررت على القبور مسلّماً

قبر الحبيب فلا يردّ جوابي

يا قبرُ ما لك لا تجيب منادياً؟

أمللت بعدي خُلّة الأحبابِ؟

فأجابه هاتفٌ يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول:

قال الحبيب: وكيف لي بجوابكم

وأنا رهين جنادل وترابِ؟

أكل التراب محاسني فنسيتكم

وحُجبت عن أهلي وعن أترابي

فعليكمُ منّي السَّلام تقطَّعت

منّي ومنكم خُلّة الأحباب

15 - روى ابن عساكر في تاريخه 4 ص 341، والكنجي في الكفاية عن أُمّ سلمة قالت: لَمّا كانت ليلة قتل الحسين (الإمام السبط) سمعت قائلاً يقول:

أيّها القاتلون جهلاً حسيناً

أبشروا بالعذاب والتنكيلِ

كلُّ أهل السماء يدعو عليكم

من نبيٍّ ومرسلٍ وقبيلِ

قد لُعنتم على لسان بن داود

وموسى وحامل الأنجيلِ(1)

(موكب الشعراء)

فمن هنا وهنا جاء بيمن السنَّة والكتاب من الصحابة الواكبين على الشعر مواكب بعين سيِّدهم نبيِّ العظمة كالأُسود الضارية تفترس أعراض الشرك والضلال، وصقور جارحة تصطاد الأفئدة والمسامع، وتلك المواكب كانت ملتفَّة حوله في حضره، وتسري معه في سفره، ورجالها فرسان الهيجاء ومعهم حسام الشعر ونبل القريض، يُجادلون دون مبدء الإسلام المقدَّس، ويُجاهدون بألسنتهم في سبيل الله،

____________________

1 - ذكر ابن حجر منها بيتين، ورواها شيخنا ابن قولويه المتوفّى 367 ر 8 في كامله ص 30.

١٦

وفيهم نظراء:

العبّاس عمّ النبيّ

النابغة الجعدي

قيس بن صرمة

طفيل الغنوي

قيس بن بحر

كعب بن مالك

ضرار الأسدي

أُميَّة بن الصلت

كعب بن نمط

عبد الله بن حرب

عبد الله بن رواحة

ضرار القرشي

نعمان بن عجلان

مالك بن عوف

بُحير بن أبي سلمى

حسّان بن ثابت

كعب بن زهير

العبّاس بن مرداس

صرمة بن أبي أنس

سراقة بن مالك

وقد أخذت هذه الروح الدينيَّة بمجامع قلوب أفراد المجتمع، ودبّت في النفوس ودبّجتها، وخالطت الأرواح، حتى مازجت نفوس المسلمات، فأصبحت تغار على الدين وتكلأه، وهنَّ ربَّات الحجال تذبُّ عن نبيِّ الأُمَّة ببديع النظم وجيِّد الشعر نظيرات:

1 - أُمّ المؤمنين (المِلكة) خديجة بنت خويلد زوج النبيِّ الطاهر صلّى الله عليه وآله وكانت رقيقة الشعر جدّاً، ومن شعرها في تمريغ البعير وجهه على قدمي النبيِّ ونطقه بفضله كرامةً له صلّى الله عليه وآله قولها:

نطق البعير بفضل أحمد مخبراً

هذا الّذي شرفت به أُمُّ القرى

هذا محمد خير مبعوث أتى

فهو الشفيع وخير من وطئ الثرى

يا حاسديه تمزَّقوا من غيضكم

فهو الحبيب ولا سواه في الورى(1)

2 - سعدى بنت كريز خالة عثمان بن عفان، ومن شعرها في الدعاية الدينيَّة:

عثمان يا عثمانُ يا عثمانُ؟

لك الجمالُ ولك الشانُ

هذا نبيٌّ معه البرهانُ

أرسله بحقِّه الديّان

وجاءه التنزيل والبرهانُ

فاتبعه لا تغيا بك الأوثانُ

فقالت: إنّ محمد بن عبد الله رسول الله، جاء إليه جبريل يدعوه إلى الله.

مصباحه مصباحُ

لِقرنه نطاحُ

وقوله صلاحُ

ذلَّت له البطاحُ

وسُلّت الصفاحُ

ودينه فلاحُ

ما ينفع الصياحُ

ومُدّت الرماحُ

وأمره نجاحُ

لو وقع الرماحُ

____________________

1 - بحار الأنوار 6 ص 103.

١٧

وتقول في إسلام عثمان:

هدى الله عثمان الصفيَّ بقوله

فأرشده والله يهدي إلى الحقِّ

فتابع بالرأي السديد محمداً

وكان ابن أروى لا يصدُّ عن الحقِّ

وأنكحه المبعوث إحدى بناته

فكان كبدر م ازج الشمس في الأُفقِ

فداءك يا بن الهاشميِّين؟ مهجتي

فأنت أمين الله أُرسلت في الخلقِ(1)

3 - الشيماء بنت الحارث بن عبد العزّى أُخت النبيِّ الأقدس من الرضاعة، تقول في النبيِّ صلّى الله عليه وآله:

يا ربَّنا؟ أبق لنا محمدا

حتى أراه يافعاً وأمردا

ثمَّ أراه سيِّداً مسدَّدا

وأكبتْ أعاديه معاً والحسَّدا

وأعطه عزّاً يدوم أبدا (2)

4 - هند بنت أبان(3) بن عباد بن المطلب، لها عدّة قواف في النبيِّ الطاهر صلّى الله عليه وآله توجد في الطبقات الكبرى لإبن سعد 4 ص 148 وهي تجابه هند بنت عتبة في وقعة أُحد في قولها تفتخر بقتل حمزة ومن أُصيب من المسلمين:

نحن جزيناكم بيوم بدرِ

والحرب بعد الحرب ذات سعرِ

ما كان عن عتبة لي من صبرِ

أبي وعمّي وشقيق بكري

شفيت وحشّي؟ غليل صدري

شفيت نفسي وقضيت نذري

فأجابتها هند بنت أبان بقولها:

جزيت في بدر وغير بدر

يا بنت وقّاع عظيم الكفرِ

صبَّحك الله غداة الفجرِ

بالهاشميّين الطوال الزهرِ

بكلِّ قَطّاع حسام يفري

حمزة ليثي وعليٌّ صقري(4)

5 - خنساء بنت عمرو حفيدة إمرؤ القيس، قد أكثرت من الشعر، وأجمع أهل

____________________

1 - الإصابة 4 ص 372 و 328.

2 - الإصابة 4 ص 344.

3 - في الطبقات الكبرى لابن سعد وأسد الغابة: أثاثة بن عباد.

4 - أسد الغابة 5 ص 559، الإصابة 4 ص 421.

١٨

العلم بالشعر أنَّه لم تكن إمرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها وكان النبيُّ صلّى الله عليه وآله يعجبه شعرها ويستنشده(1) .

6 - رُقيقة (بقافين مصغَّرة) بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد المطلب بن هاشم هي التي أخبرت رسول الله بأنَّ قريشاً قد إجتمعت تريد شأنك الليلة فتحوَّل رسول الله صلّى الله عليه وآله عن فراشه وبات فيه عليٌّ أمير المؤمنين(2) لها شعرٌ جيِّد منها قولها في إستسقاء عبد المطلب لقريش ومعه رسول الله صلّى الله عليه وآله يافعاً أوّله:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

وقد فقدنا الحيا واجلوّذ المطرُ(3)

7 - أروى بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وصاحبة الإحتجاج المشهور على معاوية يأتي في ترجمة عمرو بن العاص، ولها شعر في رثاء النبيِّ صلّى الله عليه وآله منه أبيات أوّلها.

ألا يا عين ويحكِ أسعديني

بدمعكِ ما بقيتِ وطاوعيني

ومنها أبيات مستهلّها:

ألا يا رسول الله؟ كنتَ رجاءنا

وكنتَ بنا برّاً ولم تك جافيا

وتقول فيها:

أفاطم؟ صلّى الله ربُّ محمد

على جدث أمسى بيثرب ثاويا

أبا حسن؟ فارقته وتركته

فبكّ بحزن آخر الدهر شاجيا(4)

8 عاتكة بنت عبد المطلب

11 زوج النبيِّ أُمّ سلمة

9 صفيَّة بنت عبد المطلب

12 عاتكة بنت زيد بن عمرو

10 هند بنت الحارث

13 خادمة النبيِّ أُمُّ أيمن(5)

وكانت عايشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله تحفظ الشعر الكثير، وكانت تقول:

____________________

1 - الاستيعاب (هامش الإصابة) 4 ص 295، 296، أسد الغابة 5 ص 441.

2 - الإصابة 4 ص 303.

3 - أسد الغابة 5 ص 455، الخصايص الكبرى 1 ص 80.

4 - توجد بقية الأبيات في الطبقات الكبرى لابن سعد 4 ص 142، 143.

5 - تجد شعر هؤلاء في طبقات ابن سعد 4 ص 144 - 148، مناقب ابن شهر آشوب 1 ص 169 وغيرهما.

١٩

أُرويت للبيد اثنى عشر ألف بيت(1) وكان صلّى الله عليه وآله يستنشدها الشعر ويقول: أبياتكِ. وممّا أنشدت:

إذا ما التّبرُ حُكَّ على محكِّ

تبيَّن غشّه من غير شكِّ

وبان الزيف والذهب المصفّى

«عليٌّ» بيننا شبه المحكِّ(2)

(الشعر والشعراء عند الأئمة)

هذه الدعاية الروحيَّة، والنصرة الدينيَّة، المرغّب فيها بالكتاب والسنَّة، والمجاهدة دون المذهب بالشعر ونظم القريض، كانت قائمة على ساقها في عهد أئمَّة العترة الطاهرة تأسِّياً منهم بالنبيِّ الأعظم، وكانت قلوب أفراد المجتمع تلينِ لشعراء أهل البيت فتتأثَّر بأهازيجهم حتى تعود مزيجة نفسيّاتهم.

وكان الشعراء يقصدون أئمَّة العترة من البلاد القاصية بقصايدهم المذهبيَّة، وهم صلوات الله عليهم يحسنون نزل الشاعر وقِراه، ويرحِّبون به بكلِّ حفاوة وتبجيل، و يحتفلون بشعره ويدعون له، ويُزوِّدونه بكلِّ صلة وكرامة، ويُرشدونه إلى صواب القول إن كان هناك خللٌ في النظم، ومن هنا أخذ الأدب في تلك القرون في التطوُّر و التوسّع حتى بلغ إلى حدّ يقصر دونه كثيرٌ من العلوم والفنون الإجتماعيَّة.

وقد يكسب الشعر بناحيته هذه أهميَّة كبرى عند حماة الدين أهل بيت الوحي حتى يُعدُّ الإحتفال به، والإصغاء إليه، وصرف الوقت النفيس دون سماعه وإستماعه من أعظم القربات وأولى الطاعات، وقد يُقدَّم على العبادة والدعاء في أشرف الأوقات وأعظم المواقف، كما يُستفاد من قول الإمام الصادق عليه السلام وفعله بهاشميّات الكميت لَمّا دخل عليه في أيّام التشريق بمنى فقال له: جعلت فداك ألا أُنشدك؟ قال: إنّها أيّام عظام قال: إنّها فيكم، فلمّا سمع الإمام عليه السلام مقاله بعث إلى ذويه فقرَّ بهم إليه وقال: هات فأنشده لاميّته من الهاشميّات فحظي بدعائه عليه السلام له وألف دينار وكسوة. وسنوقفك على تفصيل هذا الإجمال في ترجمة كميت والحميري ودعبل.

ونظراً إلى الغايات الإجتماعيَّة كان أئمَّة الدين يغضّون البصر من شخصيّات الشاعر

____________________

1 - الاستيعاب (هامش الإصابة) 3 ص 328.

2 - الكنز المدفون للسيوطي 236.

٢٠