الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96025 / تحميل: 7392
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بقية شعراء الغدير

في القرن الثالث

١١ - أبو إسماعيل العلوي

وجدّي وزير المصطفى وابن عمِّه

عليٌّ شهاب الحرب في كلِّ ملحمِ

أليس ببدر كان أوّل قاحم

يطير بحدّ السيف هام المقحَّمِ!؟

وأوَّل صلّى ووحَّد ربَّه

وأفضل زوّار الحطيم وزمزمِ

وصاحب يوم الدوح إذ قام أحمد

فنادى برفع الصوت لا بتهمهمِ

: جعلتك منّي يا عليُّ؟ بمنزل

كهارون من موسى النجيب المكلّمِ

فصلّى عليه الله ما ذرَّ شارقٌ

وأوفت حجور البيت أركب محرمِ(١)

(الشاعر)

أبو إسماعيل محَّمد بن عليِّ بن عبد الله بن العبّاس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن الإمام أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم.

هو من فروع دوح الخلافة، ومن مفاخر العترة الطاهرة، كان يرفل في حلّة المجد الضافية، طافحاً عليه الشرف الظاهر، والسؤدد المعلوم، بين حسبٍ زاكٍ، و ونسبٍ وضئٍ، أحمديُّ المأثرة، علويُّ المنقبة، عبّاسيُّ الشهامة، إلى فضائل كثيرة ينحسر عنها البيان.

قال المرزباني في (معجم الشعراء) ص ٤٣٥: شاعرٌ يكثر الإفتخار بآبائه رضوان الله عليهم، وكان في أيّام المتوكّل وبعده دهراً، وهو القائل:

_____________________

١ - معجم الشعراء للحافظ المرزباني ص ٤٣٥.

١

وإنّي كريمٌ من أكارم سادةٍ

أكفّهمُ تندي بجزل المواهبِ

همُ خير من يحفى وأفضل ناعلٍ

وذروة هضب العرب من آل غالبِ

همُ المنُّ والسلوى لدانٍ بودّهم

وكالسمِّ في حلق العدوِّ المجانبِ

وله:

بعثت إليهم ناظري بتحيَّةٍ

فأبدت لي الأعراض بالنظر الشزرِ

فلمّا رأيت النفس أوفت على الرَّدى

فزعت إلى صبري فأسلمني صبري

أمّا إذا افتخر أبو إسماعيل بآبائه فأيُّ أحد يولده أولئك الأكارم من آل هاشم فلا يكون حقّاً له أن يطأ السماء برجله؟ وأيّ شريف يكون المحتبي بفناء بيته قمر بني هاشم أبو الفضل ثمّ لا تخضع له قمَّة الفلك مجداً وخطراً؟ فإن افتخر المترجم بهؤلاء فقد تبجَّح بنجوم الأرض وأعلام الهدى، ومنار الفضل وسُوى الإيمان.

مَن تلق منهم تلق كهلاً أو فتىً

علم الهدى بحر الندى المورودا

وهذا جدُّه أبو الفضل العبّاس الثاني كان كما قال الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ ص ١٣٦: عالماً شاعراً فصيحاً من رجال بني هاشم لساناً وبياناً وشعراً، ويزعم أكثر العلويَّة: إنّه أشعر ولد أبي طالب؛ وكان في صحابة هارون ومن شعره يذكر إخاء أبي طالب (عم النبيِّ) لعبد الله (أبي النبيِّ لأبيه وأمِّه) من بين إخوته:

إنّا وإنَّ رسول الله يجمعنا

أبٌ وأُمٌّ وجدٌّ غير موصومِ

جاءت بنا ربَّة من بين أسرته

غرّاء من نسل عمران بن مخزومِ

حزنا بها دون من يسعى ليدركها

قرابة من حواها غير مسهومِ

رزقاً من الله أعطانا فضيلته

والناس من بين مرزوق ومحرومِ

جاء إلى باب المأمون فنظر إليه الحاجب ثمَّ أطرق فقال له: لو أذن لنا لدخلنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، ولو صرَّفنا لانصرفنا، فأمّا اللفتة بعد النظرة لا أعرفها(١) ثمَّ أنشد:

وما عن رضاً كان الحمار مطيَّتي

ولكنَّ من يمشي سيرضى بما ركب

ومن درر كلمه الحكميَّة قوله:

_____________________

١ - هذه الجملة حكيت عن تاريخ الخطيب في تذكرة السبط ٣٢ بغير هذه الصورة.

٢

إعلم أنَّ رأيك لا يتَّسع لكلِّ شيئ، ففرِّغه للمهمِّ.

وأنَّ مالك لا يغني الناس كلّهم، فخصَّ به أهل الحقِّ.

وأنَّ كرامتك لا تطيق العامَّة، فتوخَّ بها أهل الفضل.

وأنَّ ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك من ذلك.

فإنَّ ما شغلك من رأيك في غير المهمِّ إزراءٌ بالمهمِّ.

وما صرفت من مالك في الباطل فقدته حين تريده للحقِّ.

وما عمدت من كرامتك إلى أهل النقص أضرّك في العجز عن أهل الفضل.

وما شغلك من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.

وأخو العبّاس هذا: الفضل بن الحسن الذي يأبِّن جدَّه أبا الفضل شهيد الطفِّ سلام الله عليه بقوله:

أحقّ الناس أن يُبكى عليه

فتىً أبكى الحسين بكربلاءِ

أخوه وابن والده عليٍّ

أبو الفضل المضرَّج بالدِّماءِ

ومن واساه لا يثنيه شيءٌ

وجاد له على عطشٍ بماءِ

ذكرها له المؤرِّخ الهندي أشرف علي في كتابه المطبوع [روض الجنان في نيل مشتهى الجنان] وشطَّرها زميلنا العلّامة المتضلّع الشيخ محمد علي الأوردبادي حيِّاه الله فقال:

أحقٌّ الناس أن يُبكى عليه

بدمع شابه علق الدماءِ

بجنب العلقميِّ سريّ فهرٍ

فتىً أبكى الحسين بكربلاءِ

أخوه وابن والده عليٍّ

هزير الملتقى ربُّ اللواءِ

صريعاً تحت مشتبك المواضي

أبو الفضل المضرَّج بالدماءِ

ومن واساه لا يثنيه شيءٌ

عن ابن المصطفى عند البلاءِ

وقد ملك الفرات فلم يذقه

وجاد له على عطشٍ بماءِ

وكان شاعرنا المترجم من رجاحة العقل، ورصافة العارضة، في جانب عظيم

٣

مثيل جدِّه تجري كلماته مجرى الحكم والأمثال منها قوله في رجل من أهله:

إنّي لأكره أن يكون لعلمه فضلُ على عقله، كما أكره أن يكون للسانه فضلٌ على علمه(١) .

١٢ - الوامق النصراني

أليس بخمٍّ قد أقام «محمَّدٌ»

«عليّاً» بإحضار الملا في المواسمِ

فقال لهم: مَن كنت مولاه منكُمُ

فمولاكمُ بعدي «عليّ بن فاطمِ»

فقال: إلهي كن وليَّ وليِّه

وعاد أعاديه على رغم راغمِ

ويقول فيها:

أما ردّ عمراً يوم سلع بباتر

كأنَّ على جنبيه لطخ العنادمِ(٢)

وعاد ابن معدي نحو أحمد خاضعاً

كشارب أثل في خطام الغمايمِ(٣)

وعاديت في الله القبايل كلّها

ولم تخش في الرَّحمن لومة لايمِ

وكنت أحقّ الناس بعد محمد

وليس جهول القوم في حكم عالمِ(٤)

(ما يتبع الشعر)

ربما يستغرب القارئ ما يجده من مدايح النصارى لأمير المؤمنين عليه السلام وهم لا يعتنقون الإسلام فضلاً عن الإعتقاد بالخلافة الإسلاميَّة، ولا غرابة في ذلك فإنَّه جريٌ منهم مع الحقايق الراهنة، وسيرٌ مع التاريخ الصحيح، فإنّ المنصف مهما اعتنق

_____________________

١ - كامل المبرد ١ ص ٥٦.

٢ - السلع: جبل بالمدينة. العندم: الدم والبقم.

٣ - أثل: شجر عظيم لا ثمر له ج أثلة. الخطام: كل ما وضع في فم البعير ليقتاد به. الغمايم جمع الغمامة: خريطة فم البعير. كناية عن نهاية الذلة والخضوع.

٤ - مناقب إبن شهر آشوب ١ ص ٢٨٦، ٥٣٢.

٤

مبدءً غير الإسلام فإنَّه لا يسعه إنكار ما اكتنف مولانا من الفضايل: من نفسيّات كريمة، وعلوم جمَّة، وخوارق لا تحصى؛ وبطولة وبسالة، وما قال فيه نبيُّ الإسلام، الذي لا يعدو عند غير المسلم أن يكون عظيماً من عظماء العالم، وحكيماً من حكمائه، بل أعظم رجالات الدهر كلّهم، لا يرمي القول على عواهنه، فلا بدَّ أن يكون من يثبت له هو صلى الله عليه وآله وسلم تلك الفضايل عظيماً كمثله أو دونه بمرقاة.

كما أنّك تجد الثناء المتواصل على النبيِّ الأعظم أو وصيِّه في كتب لفيف من النصارى واليهود ككتاب.

١ - أقوال محمد تأليف المستر ستنلي لين بول.

٢ - محمد والقرآن تأليف المستر جون وانتبورت.

٣ - محمد والقرآن تأليف الأستاذ مونته.

٤ - عقيدة الإسلام تأليف غولد يسهر.

٥ - العالم الإسلامي تأليف ماكس مايرهوف.

٦ - تاريخ العرب تأليف الأستاذ هوار.

٧ - مفكّري الإسلام تأليف كاداود وفو الافرنسي.

٨ - مهد الإسلام تأليف ألاب لامنس.

٩ - خلاصة تاريخ العرب تأليف سديو الافرنسي.

١٠ - حياة محمد تأليف السير ويليام ميور الانكليزي.

١١ - سيرة محمد تأليف السير وليم موير.

١٢ - مدنيّات الشرق تأليف ألمسيو غروسه.

١٣ - الكياسة الإجماعيَّة تأليف الدكتور وغسطون كرسطا الايطالي.

١٤ - محمد والإسلام تأليف حنادا قنبرت.

١٥ - حياة محمد تأليف المستر دكالون سل.

١٦ - محمد والإسلام تأليف المستر بوسرت اسمت.

١٧ - عرب اسبانيا تأليف ألمسيو دوزي.

١٨ - عن الشرع الدولي تأليف الدكتور نجيب ارمنازي.

٥

١٩ - المعلّم الأكبر تأليف المستر هر برت وايل

٢٠ - الابطال تأليف توماس كارليل الانكليزي

٢١ - الإسلام خواطر وسوانح تأليف هنري دي كاستري الفرنسي

٢٢ - حاضر العالم الإسلامي تأليف لوتروب ستو دارد الاميركي

٢٣ - حِكَم النبيِّ محمد تأليف تولستوي الروسي

٢٤ - مصير المدنيَّة الإسلاميَّة تأليف هو كنيك الفيلسوف الاميركي

٢٥ - سرّ تطوّر الإسلام تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٦ - الآراء والمعتقدات تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٧ - الحضارات تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٨ - التمدّن الإسلامي(١) تأليف غوستاف لوبون الفرنسي

٢٩ - الإسلام ومحمد تأليف والافتنرت

٣٠ محمد والحضارة(٢) تأليف عبد المسبيح أفندي وزير

وغير ذلك مئات من كتبهم حول الإسلام أو نبيّه. وما ذلك إلّا أنّ ما وصفوه من صفات الفضيلة حقايق ناصعة لا يسترها التمويه، ولا يأتي على ذكرها الحدثان، و ذكريات خالدة يحدَّث بها الملوان، ما قام للدهر كيان، وبما أنَّ حديث «الغدير» من هاتيك الحقايق تجد الناس إلباً واحداً في روايته، يهتف به الموالي، ويعترف به الناصب، وينشده المسلم، ويشدو به الكتابيّ.

(الشاعر)

بُقراط بن أشوط الوامق الأرميني النصراني، بطريق(٣) بطارقة أرمينيَّة، و قائدهم الأكبر، وأميرهم المقدَّم في القرن الثالث، عدَّه إبن شهر آشوب في «معالم العلماء» من مقتصدي المادحين لأهل البيت عليهم السَّلام.

قال اليعقوبي في تاريخه ٣ ص ٢١٣، وابن الأثير في الكامل ٧ ص ٢٠: إنَّه

_____________________

١ - طبعت ترجمته بالفارسية بطهران في ٨٠٤ صحيفة.

٢ - مقال نشر في جريدة الاستقلال سنة ١٩٢٧ م.

٣ - البطريق: القائد الحاذق بالحرب وشيء ونها. معرب.

٦

وثب في سنة ٢٣٧ أهل آرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه، وكان سبب ذلك أنَّ يوسف لما سار إلى أرمينية خرج إليه بطريقٌ يقال له: بقراط بن أشوط. ويقال له: بطريق البطارقة. يطلب الأمان فأخذه يوسف وابنه نعمة فسيَّرهما إلى باب الخليفة «المتوكّل» فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي بقراط بن أشوط وتحالفوا على قتل يوسف ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة وهو صهر بقراط على ابنته فأتى الخبر يوسف ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه فلم يقبل فلمّا جاء الشتاء ونزل الثلج مكثوا حتّى سكن الثلج ثمَّ أتوه وهو بمدينة «طرون»(١) فحصروه بها فخرج إليهم من المدينة فقاتلهم فقتلوه وكلَّ من قاتل معه، وأمّا من لم يقاتل معه فقالوا: له انزع ثيابك وانج بنفسك عرياناً ففعلوا ومشوا حفاةً عراةً فهلك أكثرهم من البرد وسقطت أصابع كثير منهم ونجوا، وكان ذلك في رمضان، وكان يوسف قبل ذلك قد فرَّق أصحابه في رساتيق عمّاله فوجَّه إلى كلِّ طائفة منهم طائفة من البطارقة فقتلوهم في يوم واحد، فلمّا بلغ المتوكّل خبره ووجَّه بغا الكبير إليهم طالباً بدم يوسف فسار إليهم على الموصل والجزيرة فبدأ بأرزن(٢) وبها موسى بن زرارة و له إخوته إسماعيل وسليمان وحمد وعيسى ومحمد وهرون فحمل بغا موسى بن زرارة إلى المتوكّل وأباح على قتله يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً وسبى منهم خلقاً كثيراً فباعهم.

وهناك جمعٌ آخرون من النصارى مدح أمير المؤمنين عليه السلام منهم: شاعرهم زينبا إبن إسحق الرسعني الموصلي النصراني.

ذكر له البيهقي في [المحاسن والمساوي] ١ ص ٥٠، والزمخشري في [ربيع الأبرار]، وأبو حيّان في تفسيره [البحر المحيط] ٦ ص ٢٢١، وأبو العبّاس القسطلاني في [المواهب اللدنيَّة]، وأبو عبد الله الزرقاني المالكي في [شرح المواهب] ٧ ص ١٤، والمقري المالكي في [نفح الطيب] ١ ص ٥٠٥. والشيخ محمد الصبّان في [إسعاف الراغبين] ١١٧ نقلاً عن إمامهم أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي(٣) قوله(٤) :

_____________________

١ - موضع بأرمينية.

٢ - أرزن: مدينة من أرباض أرمينية.

٣ - رضي الدين المولود ٦٠١ والمتوفى ٦٨٠ والمترجم في نفح الطيب ١ ص ١٥٠٥.

٤ - وذكره له شيخنا الفتال في «روضة الواعظين» ١٤٣، وإبن شهر آشوب في «المناقب» ٢ ص ٢٣٧.

٧

عديُّ وتيمُ لا اُحاول ذكرها

بسوءٍ ولكنّي محبٌّ لهاشمِ

وما تعتريني في عليّ ورهطه

إذا ذكروا في الله لومة لائمِ

يقولون: ما بال النصارى تحبّهم

وأهل النهى من أعرب وأعاجمِ؟!

فقلت لهم: إنّي لأحسب حبَّهم

سرى في قلوب الخلق حتى البهايمِ

وذكر الخطيب الخوارزمي في المناقب ٢٨، وإبن شهر آشوب في مناقبه ١ ص ٣٦١، والأربلي في كشف الغمّة ٢٠ لبعض النصارى قوله:

عليٌّ أمير المؤمنين صريمة

وما لسواه في الخلافة مطمعُ

له النسب الأعلى وإسلامه الذي

تقدَّم فيه والفضايل أجمعوا

بأنَّ عليّاً أفضل الناس كلّهم

وأورعهم بعد النبيّ وأشجعُ

فلو كنت أهوى ملّة غير ملّتي

لما كنت إلّا مسلماً أتشيَّعُ

وذكر شيخنا عماد الدين الطبري في الجزء الثاني من كتابه «بشارة المصطفى» لأبي يعقوب النصراني قوله:

يا حبَّذا دوحة في الخلد نابتةٌ

ما في الجنان لها شبهٌ من الشجرِ

المصطفى أصلها والفرع فاطمةٌ

ثمَّ اللقاح عليُّ سيِّد البشرِ

والهاشميّان سبطاها لها ثمرٌ

والشيعة الورق الملتفّ بالثمرِ

هذا مقال رسول الله جآء به

أهل الروايات في العالي من الخبرِ

إنّي بحبِّهمُ أرجو النجاة غداً

والفوز مع زمرة من أحسن الزمرِ

أشار بها إلى ما أخرجه الحفّاظ(١) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنَّه قال: أنا الشجرة، وفاطمة فرعها، وعليٌّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، وأصل الشجرة في جنَّة عدن وسائر ذلك في سائر الجنَّة.

هذا لفظه عند العامَّة وأمّا عند مشايخنا فهو: خُلق الناس من أشجار شتّى و خُلقتُ أنا وعليُّ بن أبي طالب من شجره واحدة، فما قولكُم في شجرة أنا أصلها، وفاطمة

_____________________

١ - الحاكم في «المستدرك» ٣ ص ١٦٠، وإبن عساكر في تاريخه ج ٤ ص ٣١٨، ومحب الدين في «الرياض» ٢ ص ٢٥٣، وابن الصباغ «في الفصول» ص ١١، والصفوري في «نزهة المجالس» ٢ ص ٢٢٢.

٨

فرعها، وعليُّ لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وشيعتنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها ساقته إلى الجنَّة، ومن تركها هوى في النار.

وممَّن مدحه عليه السلام من متأخِّري النصارى عبد المسيح الأنطاكي المصري بقصيدته العلويَّة المباركة ذات ٥٥٩٥ بيتاً ومنها قوله ص ٥٤٧ فيما نحن فيه:

للمرتضى رتبةٌ بعد الرَّسول لدى

أهل اليقين تناهت في تعاليها

ذو العلم يعرفها ذو العدل ينصفها

ذو الجهل يسرفها ذو الكفر يكميها

وإنَّ في ذاك إجماعاً بغير خلا

ف في المذهب مع شتّى مناحيها

وإن أقرَّبها الإسلام لا عجب

فإنَّه منذ بدء الوحي داريها

وإن تنادى جموع المسلمين بها

فقد وعت قدرها من هدي هاديها

بل جاوزتهم إلى الأغيار فانصرفت

نفوسهم نحوها بالحمد تطريها

وذي فلاسفة الجحّاد معجبة

بها وقد أكبرت عجباً تساميها

وردَّدت بين أهل الأرض مدحتها

فيه وقد صدقت وصفاً وتشبيها

كذا النصارى بحبِّ المرتضى شغفت

ألبابُها وشدت فيه أغانيها

فلست تسمع منها غير مدحته الغـ

ـرّاء ما ذكرته في نواديها

فارجع لقسّانها بين الكنائس مع

رهبانها وهي في الأديار تأويها

تجد محبَّته بالإحترام أتت

نفوسها وله أبدت تصبّيها

وانظر إلى الديلم الشجعان خائضة الحـ

ـروب والترك في شتّى مغازيها

تلف استعاذتها بالمرتضى ولقد

زانت بصورته الحسنا مواضيها

وآمنت أنّ ترصيع السيوف بصو

رة الوصيِّ ينيل النصر منضيها

م - وفي الآونة الأخيرة نظم الأستاذ بولس سلامة قاضي أمّة المسيح ببيروت بعد ما قرأ كتابنا هذا «الغدير» قصيدته العصماء تحت عنوان «عيد الغدير» في ٣٠٨٥ بيتاً، و فيها تحليلٌ وتدقيق، وإعرابٌ عن حقايق ناصعة. وجريٌ مع التاريخ الصحيح، طبعت في ٣١٧ صفحة).

٩

نعرات الجاهلية الأولى

( إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى‏ أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ

الْهُدَى‏ الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى‏ لَهُمْ )

ربما يجد الباحث في بعض تآليف المستشرقين في التاريخ الإسلامي رمزاً من النزاهة في الكتابة والأمانة في النقل وخلوَّ كلِّ محكيٍّ عن أيِّ مصدر (هبه غير وثيق) من التحريف والتصرُّف فيه، وتجرُّده عن سوء صنيع الكتبة، وبعده من الإستهتار، وهذا جمال كلّ تأليف وشأن كلّ مؤلِّف مهما كان شريف النفس، وهو حقُّ كلِّ رائد، و الرائد لا يكذب أهله.

غير أنَّ في القوم من ألّف وسخف فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذا كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. فكأنَّ الجهل لم يمت بعدُ وقد مات أبو جهل، ولهب الضلال لم يخمد بعدُ وقد اتَّقد أبو لهب في درك الجحيم، وكأنَّ الدنيا ترجع إلى ورائها القهقري، وعاد الإسلام كشمس كادت تكون صلاءً(١)

جاء من القوم بعد لأي مِن الدهر مَن يدعو الناس إلى الجاهليَّة الأولى وإلى حميَّتها البائدة، ولا بُقيا للحميَّة بعد الحرائم(٢) نهض يبشِّر عن مسيح مركَّب من طبيعتين: (إلهيَّة وبشريَّة) ويحسب نفسه قد أبهر في تأليفه وأتى بأمر جديد، فأخذ كالمتفلسف يتتعتع ويتلعثم، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، ويُؤوِّل الكتاب الكريم برأيه الضئيل، ويتحكَّم في الحديث بفكرته الخائرة، ويرى النبيَّ الأعظم من المبشِّرين بنصرانيَّته الصحيحة التي ليست هي إلّا الضَّلال المحض، وهو مع ذلك مائنٌ في نقله، خائنٌ في حكايته، غاشٌّ في نصحه، مدنِّسٌ في كتابته، مهاجمٌ على قدس صاحب الرِّسالة

_____________________

١ - مثل يضرب في قلة الانتفاع بالشيء

٢ - الحريمة ما فات من كل مطموع فيه.

١٠

مجانبٌ عن الحقِّ والحقيقة، كلّ ذلك باسم كتاب «حياة محمد»

ألا؟ وهو الأستاذ إميل در منغم.

إنَّ الرجل لَمّا شاهد أنَّ الإسلام علا هتافه اليوم، ودوَّخ أرجاء العالم صيته، وأطَّلت سمائه على الأرض كلّها شرقاً وغرباً، وشعَّ نوره في كلِّ طللٍ ووَهَد، وعمَّت أشعَّته كلّ طارفٍ وتليد، وملأ الكون صراخ قومه بالثناء البالغ على الإسلام المقدَّس ونبيِّه الأقدس، وكثر إعجابهم بكتابه السماويِّ، وقانونه الإجتماعيِّ، وشرعه السويِّ، وحكمه السياسيِّ، ودستوره الإصلاحيِّ، ومشعبه الحقِّ المشعب.

عزَّ عليه كما عزَّ على سلفه الغوغاء أن يشاهد هذا السلطان العالميَّ العظيم، وهذه السيطرة الباهرة، وهذه الشرعة العادلة الجبّارة القاهرة للأكاسرة والتابعة والقياصرة والفراعنة، الحاكمة على آراء الأقباط والأقسَّة وآباء الكنائس وزعماءِ البيع ومعتقداتهم.

عزَّ عليه أن يرى في بيئته الغربيَّة بزوغ الإسلام الشرقيِّ، وتنوُّر أفكار المثقَّفين من قومه بلمعات القرآن العربيِّ المجيد، وانتشار معارف الإسلام الخالدة في عواصم أوروبا كالسيل الجارف لأُصول الضَّلال، وأهواء الغرب، وما هناك من فساد الخلايق، ومضلّات البدع.

عزَّ عليه أن يسمع بأُذنيه من قلب العالم الأوربيِّ بألسنة فلاسفتها نداء أنَّ محمداً قاوم الوثنيَّة بعزم واحد طول الحياة ولم يتردَّد لحظة واحدة بينها وبين عبادة الواحد الأحد(١) .

أو أن يسمع عن آخر منهم وهو ينادي: إنَّ القرآن هو القانون العامّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو صالحٌ لكلِّ مكان وزمان(٢)

أو أن يسمع عن ثالث من قومه وقد ملأ الدنيا صوته وهو يقول: استقرَّت قواعد الإسلام على أساس مكين من الآيات البيِّنات التي أنزلت تباعا وكان ختامها:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٣)

_____________________

١ - كلمة الكونت هنري دي كاستري.

٢ - كلمة مسيو سنايس.

٣ - كلمة الدكتور نجيب الارمنازى.

١١

أو أن يسمع بأُذنيه القرآن العزيز وهو يُتلى في الإذاعات كلّ يوم بكرةً وعشيّا، وتقرع آية مسامع خلق الدنيا دون كتاب قومه وكتاب أيِّ ملّة.

م - ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً

عقيرته في الخافقين ومنشدا

: أعبّاد عيسى إنَّ عيسى وحزبه

وموسى جميعاً يخدمون محمدا(١)

فهناك تعصَّب الرجل وتشزَّر، وشزر إلى الإسلام وكتابه ونبيِّه، ونظر إليها بصدر عينه(٢) وتشذَّر للدفاع عن نحلته والذبِّ عن مبدءه الباطل؛ فعلى نحيمه بصدرٍ واغرٍ على الحقِّ، وهو يشوب ولا يروب(٣) وشرع يدعو إلى النصرانيَّة باسم الإسلام وحياة محمد، ويرى النبيَّ محمداً جاء بكتاب عربيٍّ كما لو كان نصرانيّاً ذاكراً أنَّه واحداً من الأنبياء ص ١٠٠.

ويرى للنصرانيَّة أثراً في محمد ويزعم أنَّ النصارى قد أيقظت شعور النبيِّ الدينيِّ قبل بعثه ص ١٠٠. ويجد في القرآن أُصول النصرانيَّة ص ١٠٦.

ويرى تأييد روح القدس لعيسى ذاتيّاً دون موسى ومحمد.

ويعتقد لعيسى من عصمة ما لم تكن لمحمَّد ويراه قد جاء في القرآن(٤) ١٠٧ ويرى النصرانيَّة تشمل الإسلام وتضيف إليه بعض الشيء ١١٨.

ويرى المسيح ابن الله الوحيد بمعنىً عرفانيٍّ يُلائم الذوق الخرافيَّ ١١٠.

ويرى القرآن يدعو إلى النصرانيَّة الصحيحة وهو القول بألوهيَّته وبشريَّته و كون الطبيعين في شخص واحد ١٠٧، ١١٢.

ويعزو آراءه السخيفة جلّها إلى القرآن المقدّس، ويرى القرآن لم يحط بكلِّ ما هو حقٌ في الأمر ١٠٩.

ويرى آخر مصحف اعتمد عليه صنع الحجّاج بن يوسف الثقفي، وإمكان تلاوة المصحف الشريف على غير ما هو عليه.

_____________________

١ - من أبيات للشاعر المفلق أبي الوفاء راجح الحلي المتوفى ٦٢٧).

٢ - مثل مشهور يضرب.

٣ - الشوب: الخلط. والروب: الاصلاح. مثل يضرب.

٤ - ليته دلنا على الآية الدالة عليه.

١٢

ويرى علماء التوحيد قائلين بأُلوهيَّة المسيح ١٠٩.

ويرى الهوَّة بين المسلمين والنصارى نتيجة سوء التفاهم.

ويرى التباعد بين الملّتين من فكرة مفسِّري القرآن وعلماء الإسلام.

ويرى العقل والتاريخ يستغربان عدم صلب المسيح.

ويرى اعتقاد المسلمين بعدم صلب المسيح باطلاً والآية الدالّة عليه غامضة ١١١.

ويؤوِّل قوله تعالى:( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) . بما يلائم تعاليم النصرانيَّة ١١٢.

ويعدّ من ضلال جزيرة العرب إنكار ألوهيَّة المسيح والقول ببشريَّته فحسب ١١٣.

ويرى النبيَّ قد وضع نفسه فوق جميع المعتقدات ما دام على غير علم بالنصرانيَّة الصحيحة ١١٤.

ويعبِّر عن النبيِّ الأعظم بــ (البدويِّ الحمس) ١١٥.

فهذه جملةُ من خرافاته الراجعة إلى التبشير والدعوة إلى النصرانيَّة، وبها يقف الباحث على غاية الكاتب وقيمة كتابه، ويعرف أنَّه يحطُّ في هواه، ويحطب في حبله(١) جاهلاً يأنّ حماة الدين (دين البدويِّ الحمس) نابهون يحومون حول الحمى، ويعرفون حول الصلبان الزمزمة(٢) ويدافعون عن بيضة الإسلام المقدَّسة كلَّ سخبٍ وصخبٍ ولغطٍ وكذبٍ وإفكٍ وقول زور؛ وينزِّهون ساحته عن أرجاس الجاهليَّة وأنجاسها،( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) .

ولو أردت الوقوف على الحقيقة في كلِّ ما لفَّقه الرجل من إفكٍ شائنٍ فعليك بكتاب الهدى إلى دين المصطفى، وكتاب الرحلة المدرسيَّة وغيرهما من تآليف شيخنا العلم المجاهد الحجَّة الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي وما ألفَّه غيره من أعلام الأُمَّة.

تسافل الشرق أو انحطاط العرب

لا أحسب أنَّ بسطاء الأُمَّة الإسلاميَّة فضلاً عن أعلامها تخفى عليهم الغايات المتوخّاة في أمثال هذه الكتب المزوَّرة، ولا تأمرهم أحلامهم قطُّ بنشر ما خطِّته تلكم

_____________________

١ - مثل ساير.

٢ - مثل يضرب لمن يروم الشيء ولا يظهر مرامه.

١٣

الأقلام المستأجرة لزعانفة الجاهليَّة، ولا يحسب أيُّ حامل حساسات الحيابين جنبيه إنَّ في تلكم التآليف فائدة طائلة قصرت عنها يد الشرق التي هي عاصمة علم الدنيا، و مرتكز لواء كلِّ فضيلة ومحمدة إجتماعيَّة.

ولا يهجس في خلد أيَّ محنَّك أنَّ في طيِّ تلكم الكلم مقيلاً من ظلِّ الحقيقة، أو أنَّ أحداً من أولئك الأساتذة المستشرقين قد أتى بفكرةٍ صالحةٍ جديدةٍ في إصلاح المجتمع من شؤون إجتماعيَّة. أخلاقيَّة. سياسيَّة. أدبيَّة. روحيَّة لم يأت بها نبيُّ الإسلام في كتابه وسنّته، حاشا نبيّ الإصلاح المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق.

فما حاجة الأُمَّة العربيَّة الآخذة بناصية الشرق إلى ترجمة هذه التآليف الفارغة عن أدب الدين، أدب العلم. أدب النزاهة. أدب العفَّة. أدب الصدق والأمانة. أدب الحقِّ والحقيقة؟!

وما هذا الأنحطاط والتسافل البالغ في العروبة، وقد أصبحت «العياذ بالله» في مسيس الحاجة إلى هذه الكتب المخزية تأليف كلِّ خائرٍ بائرٍ، تأليف من صفرت يداه عن كلِّ خير، والضلال سجيَّته وقرواه؟!

كيف تفتقر الأُمَّة الإسلاميَّة (ولا تفتقر ولن تفتقر) إلى تلك الكتب!؟ ولها كتابها العربيُّ المقدَّس، كتابها الإجتماعيُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتابها الذي لا ريب فيه، هدىً للمتَّقين، كتابها الباحث عن الآداب الاجتماعيَّة وشؤون الصالح العام التي قوامها الحكمة، وأساسها العدل والإحسان، وجامعها العفَّة و القداسة والحنان.

وكيف تفتقر وهي حاملة السنَّة النبويَّة؟! تلك السنَّة الطافحة بغرر الحكم الإجتماعيَّة، والأحكام الحقوقيَّة، والجزائيَّة، والمدنيَّة، والدفاعيَّة، وما به انتظام الكون في قمع المظالم، وصيانة الحقوق، ودستور المعاش والمعاد، وحفظ الصحَّة، والمصالح العامَّة، ومباني الترقّي، ومنقذات البشر من مخالب الجهل والضلال، ودروس التقدُّم في عالم الرشد والصلاح.

تلك السنَّة المؤسَّسة للحياة السياسيَّة، وروح الوحدة الإجتماعيَّة، والجوامع الأخلاقيَّة، والفضايل النفسيَّة، والحقوق النوعيَّة والشخصيَّة التي عليها مدار نظام حياة

١٤

النوع الأنسانيِّ، وتدبير شؤون المجتمع البشريِّ في جميع أدوار الدنيا، وقرونها المتكثِّرة.

وكيف تفتقر؟! وبين يديها برنامج الأصلاح الحيويِّ المشتمل لموجبات الأمن والدعة والسلام والوءام والنزوع إلى كلِّ صالح، والإنحياز عن كلِّ ما يفكّك عُرى المدنيَّة الصحيحة، والحضارة الراقية، والدين المبين، ألا وهو كتاب نهج البلاغة (للإمام أمير المؤمنين تأليف الشريف الرضي) الذي تراه فلاسفة الدنيا دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

يا أمه اثكليه

هلمَّ معي أيّها الشرقيُّ الإسلاميُّ نسائل أستاذ فلسطين محمد عادل زعيتر [وهو يدبُّ مع القراد(١) وقد أساء القول وأساء العمل] عن ترجمة هذا الكتاب [حياة محمد] الطافح بالضَّلال.

نسائله عن جنايته الكبيرة على الأُمَّة العربيَّة بقوله في مقدِّمة ترجمته: قد تجنّى المستشرقون على الحقائق في سيرة الرسول الأعظم لا ريب، وقد كان تجنّيهم هذا عاملاً في زهد كتّاب العرب عن نقل ما ألَّفوه إلى العربيَّة على ما يحتمل، ولكن عطل اللغة العربيَّة من ذلك يُعدُّ نقصاً في حركتنا العلميَّة على كلِّ حال.

كيف عطل اللغة العربيَّة ممّا جنته يد الجاهليَّة وقد تجنَّت على الحقائق يُعدُّ نقصاً في حركتنا العلميَّة التي تدور مع الكتاب والسنَّة؟! وهما مدار علم العالم، و بصيرة كلّ متنوِّر، ومرمى كلّ مثقَّف، وضالَّة كلّ حكيم، ومقصد كلّ فيلسوف شرقيّ أو غربيّ. وهذا نفس المؤلِّف يقول في مقدِّمة الكتاب: وأهمّ المصادر لتبيان حياة محمد هو القرآن وكتب الحديث والسيرة، والقرآن أصحّ هذه المصادر وإن كان أو جزها.

ليته كان يتبع كتّاب العرب في زهدهم عن نقل ما ألَّفته يد الضلال إلى العربيَّة، ويتوقّى قلمه عن نشر كلم الفساد في المجتمع الإسلاميِّ من دون أيّ تعليق عليها، وأيّ تنبيه للقارئ بفسادها وهو يقول: لا يظنّ القارئ أنَّني أُشاطر المؤلِّف جميع ما ذهب إليه من الأُمور التي أرى الحقيقة غابت عنه في كثير منها.

_____________________

١ - مثل يضرب للرجل الشرير.

١٥

اُثكليه يا أُمَّه؟ بأيّ ثمن بخس أو خطير باع شرف أُمَّته، وعزَّ نحلته، و عظمة قومه، وقداسة كتابه وسنَّته؟!.

ولأيِّ مرمىً بعيد جعل نفسه مع [إميل در منغم] في بردة أخماس(١) ؟! وجاء يعاند الإسلام بنشر تلكم الأباطيل والأضاليل المضادَّة مع نحلته، ويشوِّه سمعة مصره العزيزة، وجامعها الأزهر، وأساتذتها النزهاء، وكتّابها القادرين بنشر تلك التافهات المضلّة في مطابعها المأسوف عليها وهو يقول في المقدِّمة: المؤلِّف مع ما ساده من حسن النيّة لم تخل سوانحه وآراؤه من زلّات.

ليتني أدري وقومي: ما حاجتنا إلى حسن نيّة مؤلِّه المسيح عيسى بن مريم وجاعله إبن الله الوحيد؟! وما الّذي يُعرب عن حسن نيّته؟! وكلّ صحيفة من كتابه أهلك من ترَّهات البسابس(٢) وقلّت صحيفة ليست فيها هنات تنمّ عن سوء طويَّته، وفساد نيَّته، وخبث رأيه.

نعم: والّذي أراه «والمؤمن ينظر بنور الله» إنَّ المترجم راقه ما في الكتاب من الأكاذيب والمخاريق المعربة عن النزعات والأهوآء الأمويّة فبذلك غدا الذئب للضبع(٣) وجاء وقد أدبر غَريره وأقبل هريرة(٤) ووافقَ شنٌّ طبقة.

نعم: راقه سلقه أهل بيت النبيِّ الطاهر بسقطات القول وكذب الحديث وسرد تاريخ مفتعل يمسُّ كرامة النبيِّ الأقدس وناموس عترته ممّا يلائم الروح الأمويَّة الخبيثة، ويمثِّل آل الله للملأ بصورة مصغَّرة، ويشوِّه سمعتهم بما لا يتحمَّله ناموس الطبيعة، وشرف الإنسانيَّة، من شراسة الخلق، وسيّئ العشرة، وقبح المداراة. قال:

كانت فاطمة عابسةً دون رقيَّة جمالاً، ودون زينب ذكاءً، ولم تدار فاطمة حينما أخبرها أبوها من وراء الستر أنَّ عليَّ بن أبي طالب ذكر اسمها، وكانت فاطمة تعدُّ عليّاً دميماً محدوداً مع عظيم شجاعته، وما كان عليٌّ أكثر رغبة فيها من رغبتها فيه مع ذلك ص ١٩٧.

_____________________

١ - ضرب من برود اليمن. وهو مثل يضرب للرجلين تحابا وتقاربا وفعلا فعلاً واحداً.

٢ - الترهات: الطرق الصغار، البسابس جمع بسبس: الصحراء الواسعة.

٣ - مثل يضرب لقريني سوء.

٤ - الغرير: الخلق الحسن. الهرير ما يكره من سوء الخلق.

١٦

وكان عليٌّ غير بهيِّ الوجه لعينيه الكبيرتين الفاترتين وانخفاض قصبة أنفه و كبر بطنه وصلعه، وذلك كلّه إلى أنَّ عليّاً كان شجاعاً تقيّاً صادقاً وفيّاً مخلصاً صالحاً مع توانٍ وتردّد..

وكان عليٌّ ينهت فيستقي الماء لنخيل أحد اليهود في مقابل حفنة تمر فكان إذا ما عاد بها قال لزوجته عابساً: كلي وأطعمي الأولاد..

وكان عليٌّ يحرد بعد كلِّ منافرة ويذهب لينام في المسجد وكان حموه يُربِّته على كَتفه ويعظه ويُوفِّق بينه وبين فاطمة إلى حين، وممّا حدث أن رأى النبيّ إبنته في بيته ذات مرَّة وهي تبكي من لكم عليٍّ لها.

إنَّ محمداً مع امتداحه قدم عليّ في الإسلام إرضاءً لإبنته كان قليل الإلتفات إليه. وكان صهر النبيِّ الأمويّان: عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر مدارةً للنبيِّ من عليٍّ. وكان عليٌّ يألم من عدم عمل النبيِّ على سعادة إبنته، ومن عدّ النبيِّ له غير قَوّامٍ بجليل الأعمال، فالنبيُّ وإن كان يفوِّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنَّب تسليم قيادةٍ إليه. ص ١٩٩.

وأسوأ من ذلك ما كان يقع عند مصاقبة عليٍّ وفاطمة لعدوّاتهما أزواج النبيِّ وتنازع الفريقين، فكانت فاطمة تعتب على أبيها متحسّرةً لأنّه كان لا ينحاز إلى بناته.

إلى غير ذلك من جنايات تاريخيَّة سوَّد بها الرجل صحيفة كتابه.

ما أساء من أعقب

أنا لا ألوم المؤلِّف - جدع الله مسامعه - وإن جاء بأُذني عناق(١) إذ هو من قوم حناق على الإسلام، وهو مع ذلك جرفٌ منهال وسحابٌ منجال(٢) ينمُّ كتابه عن عُجَره وبُجَره. وإنَّما العتب كلّ العتب على المترجم الجاني على الإسلام والشرق والعرب - وهو يحسب نفسه منها - نعم: جدب السوء يلجئ إلى نجعة سوء(٣) والجنس إلى الجنس يميل.

_____________________

١ - أي جاء بالكذب والباطل، مثل ساير.

٢ - مثل يضرب. يراد أنه لا يطمع في خيره

٣ - مثل دائر. يعني أن الأمور كلها تنشأ كل في الجودة والرداءة.

١٧

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، والنسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضادّ ما أصفقت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقوّلاته في فاطمة مع قول أبيها صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة حورآء إنسيّة كلّما اشتقتُ إلى الجنَّة قبَّلتها؟!(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ابنتي فاطمة حورآء آدميَّة؟!(٢) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة هي الزهرة؟!(٣) .

أو قول أُمّ أنس بن مالك؟!: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماماً، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة، لها شعرُ أسود، من أشدِّ الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شبهاً، والله كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرها

وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمُ(٤)

فكأنَّها فيه نهارٌ مشرقٌ

وكأنَّه ليلٌ عليها مظلمُ(٥)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليَّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكّمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أُمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها: كانت فاطمة تحدِّث في بطن أُمِّها، ولَمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً رافعةً إصبعها؟!(٦)

أو يلائمها قولٌ عايشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها فقبَّلها ورحَّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟!(٧) .

_____________________

١ - تاريخ الخطيب البغدادي ٥ ص ٨٦.

٢ - الصواعق ص ٩٦، إسعاف الراغبين ص ١٧٢ نقلاً عن النسائي.

٣ - نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٢.

٤ - جثل الشعر: كثر والتف واسود فهو جثل. سحم فهو أسحم: أسود.

٥ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٦١.

٦ - سيرة الملا، ذخاير العقبى ٤٥، نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٧.

٧ - أخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخاير العقبى ٤٠ م - والحافظ الترمذي وحسنه، والحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له ولابنه ١ ص ١٥٠، وابن عبد ربه في العقد الفريد ٢ ص ٣، وابن طلحة في مطالب السئول ص ٧)، إسعاف الراغبين ١٧١.

١٨

م - وفي لفظ البيهقي في السنن ٧ ص ١٠١: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الحديث ].

وهل توافق مخاريقه في الإمام عليّ صلوات الله عليه، وعدم بهاء وجهه، وعدُّ فاطمة له دميماً وكونه عابساً مع ما جاء في جماله البهيِّ: أنَّه كان حسن الوجه كأنَّه قمر ليلة البدر، وكأنَّ عنقه إبريق فضَّة(١) ضحوك السنِّ(٢) فإن تبسَّم فعن مثال اللؤلؤ المنظوم؟!(٣) .

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!

إذا استقبلتَ وجه أبي ترابِ

رأيتَ البدر حار الناظرينا(٤)

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله

فالناس أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغضاً: إنّه لدميمُ

أوَ يخبرك ضميرك الحرّ في عليّ ما سلقه الرجل به من (التواني والتردُّد)؟! و عليٌّ ذلك المتقحّم في الأحوال، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؛ وهو الذي كشف الكرب عن وجه رسول الله في كلِّ نازلة وكارسة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرَّه الأخير.

أليس عليٌّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ) . وقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ ) ؟!(٥)

فمتى خلى عليٌّ عن مقارعة الرجال والذبِّ عن قدس صاحب الرِّسالة حتى يصحّ أن يُعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الأمور؟! غير أنَّ القول الباطل لأحدَّ له ولا أمد.

_____________________

١ - كتاب صفين ٢٦٢، الاستيعاب ٢ ص ٤٦٩، الرياض النضرة ٢ ص ١٥٥، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٤.

٢ - تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي.

٣ - حلية الأولياء ١ ص ٨٤، تاريخ إبن عساكر ٧ ص ٣٥، المحاسن والمساوي ١ ص ٣٢.

٤ - تذكرة السبط ص ١٠٤.

٥ - راجع الجزء الثاني من كتابنا ص ٤٧، ٥٣ ط ثاني.

١٩

وهل يتصوَّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيِّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيُّ يقول له: أشبهتَ خَلقي وخُلقي وأنت من شجرتي الّتي أنا منها(١)

وكيف يراه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أُمَّته أعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، ويقول: عليٌّ خير أُمَّتي أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً؟!(٢)

ويقول لفاطمة: إنّي زوَّجتكِ أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً؟!(٣)

ويقول لها: زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً؟!(٤)

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرئى منه ومسمع، أفك الدجّالون، كان عليٌّ عليه السلام كما أخبر به النبيُّ الصّادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرَّجل [فضَّ الله فاه] عليّاً بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليٌّ هو ذاك المقتصّ أثر الرَّسول وملأ مسامعه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: إنَّ الله يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاكِ(٥)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيدها: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعةٌ منّي، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني(٦)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها(٧)

_____________________

١ - تاريخ بغداد للخطيب ١١ ص ١٧١.

٢ - الطبري، الخطيب، الدولابي. كما في كنز العمال ٦ ص ١٥٣، ٣٩٢، ٣٩٨.

٣ - مسند أحمد ٥ ص ٢٦، الرياض النضرة ٢ ص ١٩٤، ذخاير العقبى ص ٧٨، مجمع الزوائد ٩ ص ١٠١، ١١٤ وصحّحه ووثق رجاله.

٤ - أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة ٢ ص ١٨٢.

٥ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٤ وصحّحه، ذخاير العقبى ص ٣٩، تذكرة السبط ١٧٥ مقتل الخوارزمي ١ ص ٥٢، كفاية الطالب ص ٢١٩، شرح المواهب للزرقاني ٣: ٢٠٢، كنوز الدقائق للمناوي ص ٣٠، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل ١ ص ١٨٥، كنز العمال ٧ ص ١١١ عن الحاكم وابن النجار، تهذيب التهذيب ١٢ ص ٤٤٣، الإصابة ٤ ص ٣٧٨، الصواعق ١٠٥، الاسعاف ١٧١ عن الطبراني، ينابيع المودة ١٧٣.

٦ - الفصول المهمة ١٥٠، نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٨، نور الأبصار ص ٤٥.

٧ - صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ٤ ص ٣٢٨، الخصايص للنسائي ص ٣٥، الإصابة ٤ ص ٣٧٨.

٢٠

ولماذا لم يتدخل احد الا ايران الاسلامية الشيعية؟ اليس هذا دليل علي صحة ما اقول؟

قال: نعم، ولكن هولاء رافضة ينبغي الا نتعاون معهم، ثم استدرك وقال: ينبغي ان يكون التعامل معهم من خلال هيئة امم اسلامية. سكت... وسكت الشيخ وتكلم الصمت.

عدت الى بيتي، وانا في قمة الاستفزاز والانفعال. قلت لنفسي: ان كان حقا ما يقولون ان المسلمين الشيعة بكل هذه الدناءة فلعنة اللّه عليهم، وان كانت كل هذه اكاذيب موجهة اليهم فتلك النازلة الكبرى التي ما بعدةا نازلة.

مضت ايام. كان هناك معرض للكتاب في كلية الطب بالمنصورة. مررت به فوجدت كتابا بعنوان (الامام جعفر الصادق) تالىف المستشار عبد الحليم الجندي، طبعة مجمع البحوث الاسلامية ١٩٧٧م، قلت: هذا كتاب عن الامام جعفر الصادق من تالىف كاتب مصري سني، وصادر من قبل موسسة رسمية قبل قيام الثورة الاسلامية في ايران، فاخذته وقراته وتزلزل كياني لما فيه من معلومات عن اهل البيت (ع) طمستها الانظمة الجائرة وكتمها علماء السوء، فان القوم - كما روى علي لسان الزهري راوية بني امية - لا يطيقون ان يذكر آل محمد بخير.

عدت الى الكتابين السابقين، واخرجت ما فيهما من

٢١

المعلومات، ووجدتها جميعها من مصادر سنية قلت: لعل المسلمين الشيعة كذبوا فاوردوا على الناس ما لم يقولوه! فلنعد الى هذه المصادر بنفسنا، قمت بعمليه جرد دقيقة لجميع هذه الكتب، سواء منها ما كان في مكتبتي الخاصة، ام ما كان في مكتبه جمعية الشبان المسلمين، وتحققت فعلا من صحة هذه المعلومات، وعرفت مدى المصداقية التي يتمتع بها الزنداني وابو اسماعيل واحسان آلةي ظهير..!! وهنا نقطة هامة، وهي: ان كتب الحديث عند اهل السنة كالبخاري ومسلم وغيرهما، تكاد تكون مقدسة عند القوم لان صحة خلافة الخلفاء الثلاثة الاول مستمدة.. اولا من الامر الواقع، وثانيا من الروايات التي وردت في هذه الكتب، فاذا كان القوم يسلمون بصحة الروايات الواردة في فضائل الثلاثة الاول وجب عليهم التسليم بكل ما عداها ومنها فضائل اهل البيت(ع) وامامتهم.(١)

اما اذا قالوا: بل ننظر في صحة الروايات والرواة، فقد فتحوا باب النقد في مسلماتهم وصار من حقنا النقاش في صحة اسانيدهم وترجيح الدليل الاقوى، وهو عين ما يتوخاه كل باحث عن الحق

____________________

(١) أنظر في ذلك باب مناقب علي بن أبي طالب، و باب مناقب قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزء الرابع من (صحيح البخاري) ص ٢٤٨ و ما بعدةا.

طباعة دار الفكر – بيروت ١٤١٤ه/١٩٩٤م.

٢٢

وعندئذ ستكتسب الروايات الواردة في امامة اهل البيت(ع) قوة مضاعفة، اولا من قوة اسانيدها وثانيا من اعتراف مخالفيها بصحتها، والفضل ما شهدت به الاعداء والخصوم.

لم تمض الا اسابيع قليلة الا وكانت المسالة محسومة تماما من الناحية العقيدية، ثم التقيت بواحد من الاصدقاء القدامى وجدته علي هذا الامر، وبدانا في تدارس بعض الاحكام الفقهية اللازمة لتصحيح العبادات. وكنت مشغولا في هذا الوقت في انهاء رسالة الدكتوراه حتى اننى اقفلت عيادتي للتفرغ للعمل بهذه الرسالة، وقبلت في نيسان /ابريل عام ١٩٨٦ وبدات اتاهب لدخول امتحانات الدكتوراه في تخصص (الباطنة العامة). كنت منكبا علي القراءة العلمية وكانت راحتي ومتعتي الوحيدة اذا اصابني الملل من القراءة في الطب، هي اللجوء الى كتب اهل البيت(ع)، وبدا النبا يتسرب الى الذين تعاهدوا فيما بينهم وقرروا مقاطعة العبد الفقير لا كلام ولا سلام ولا معاملة، وبدات حلقات الضيق تتكاثر حول شخصي المتهم بالانحراف الفكري والخلل العقلي.. لماذا؟.. كنت اتساءل بيني وبين نفسي عن سر هذا العداء والشراسة في مواجهة كل من ينتمي الى خط آل بيت النبوة، وما هي الجريمة التي ارتكبها اولئك المنتمون؟.. تاره يقولون (انه انحراف عقائدي.. اى عقائدي هذا؟ هل صار الايمان بخلافة ابي بكر وعمر وعثمان جزءا متمما لكلمة لا اله الا اللّه، محمد رسول اللّه، ام ماذا؟).

٢٣

هل يقصدون ضرورة اثبات الىد والرجل والاصابع والصعود وآلهبوط للذات الآلهية؟ وهو ما يومن به السلفيون ومن يدينون بمذهبهم، تعالى اللّه عما يقول الواصفون والجاحدون علوا كبيرا.

لم يحاول احد منهم ان يقنعني بركائز هذه العقيدة ومعالم الانحراف العقيدي التي حلت بالعبد الفقير، ولم اكن في حاجة الى من يعرفني، فكتبهم موجودة في الساحة توزع من دون مقابل، وهي موجودة لدى ايضا.

اعتقال عام (١٤٠٨هر١٩٨٧م)

في ايار/مايو ١٩٨٧، انطلقت عدة رصاصات على وزير الداخلية المصري السابق حسن ابو باشا، وعلى الفور بدات حملة اعتقالات على طريقة (عناقيد الغضب الاسرائيلية) فتوجست من هذه الحادثة. وبعد ثلاثة اسابيع من بدء (حملة عناقيد الغضب) جاء زوار الفجر واخذوني مرة اخرى الى سجن الاستقبال ومنه مباشرة الى ساحات الاستجواب والتعذيب، جرى تعصيبي وتقييدي من الخلف ويبدو انها تكنولوجيا امريكية جديده لم ارها في المرة السابقة، القوا بى في العراء علي هذه الطريقة لمدة يومين وكعادتهم اللآدميه اخذوا ملابسي. ثم اعادوني الى السجن، ورموني في زنزانة في الطابق الرابع، بلا ماء ولا شبابيك ولا فراش، ولم يونس

٢٤

وحدتي الا اسراب البعوض، ثم اعادوني الى ساحة التعذيب والاستجواب بعد اسبوعين، حيث بدات حفلة تعذيب بالكهرباء، كان الاستجواب فيها مجرد غطاء لممارسة التعذيب بالكهرباء وتوجيه صدمات كهربائية للمخ وباقي الاماكن الحساسة ثم اطلقوا سراحي بعد يومين آخرين. كان آلهدف واضحا من حفلة التعذيب هذه حيث لا تهمة ولا حتى معلومات يريدون الحصول عليها ومنذ اللحظة الاولى قال لي المحقق السفاح: (سندفعك الى الجنون( وَ يَمْکُرُونَ وَ يَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْمَاکِرِينَ‌ ) «الانفال/٣٠».

خرجت من المعتقل مريضا بالفعل، ومضت علي عدة شهور حتى استطعت استعادة قدرتي علي التركيز الى سابق عهدها، ولكن التامر اخذ شكلا آخر كان الهدف منه اخراجي من عملي بالجامعة بكل ما لديهم من وسائل، وهكذا تم تاخير حصولي على الدكتوراه من عام ١٤٠٨ه/١٩٨٧م حتى ١٤١٣ه/١٩٩٢م ست سنوات كاملة من الضغوط الوظيفية والمعاشية كي يجبروني على تغيير (عقيدتي الفاسدة) حتى جاء الحق وظهر امر اللّه وهم كارهون.

التنظيم الاسلامي الشيعي ١٩٨٩م

من الواضح ان النفوذ البعثي العراقي قد امتد الى كافة انحاء المنطقة وخاصة مع نهاية الحرب العراقية الايرانية التي نصب فيها صدام حسين نفسه زعيما للامة العربية وحامى البوابة الشرقية، الى

٢٥

آخر هذه الالقاب التي منحها له الاعلام الماجور والحاقد في نفسه. وكان آلهجوم على المسلمين الشيعة في كل مكان احد ملامح هذا التمدد الذي لم تكشف تفاصيله بعد، والدليل علي هذا تقلص هذا العداء بتقلص دور المغرور سياسيا صدام حسين. لم تكن الاصابع البعثية بعيدة عن تمويل الحملة الاعلامية التي انطلقت لمهاجمة المسلمين الشيعة وتشويه معتقداتهم، ولا كانت بعيدة عن تلفيق القضايا للشيعة في الاعوام ١٩٨٧، ١٩٨٨، ١٩٨٩م ومنها هي القضية التي زج باسمى فيها. والغريب في هذه الامور ان قضية (مفبركة) من هذا النوع تحتوي قرابة الثلاثين شخصا تم جمعهم من الشرق والغرب تحظى بتغطية اعلامية في الصحف والمجلات القوميه وقد تم اعداد المتهمين من اللحظة الاولي لتصويرهم تماما كافلام السينما، لها منتج يتحمل التكاليف ويجني المكاسب، ومخرج، ومجموعة من الممثلين كانت هذه هي الطريقة التي يتم التصرف بها في مصائر المسلمين على مذابح الزعامات الزائفة والانتصارات الموهومة.

وانفض الجمع كما بدا، بل وكانت النتائج عكسية تماما حيث وجدنا من احرار الامة من يدافع عنا سواء من رجال الجامعة ام من رجال الصحافة. وفشلت الحملة السوداء التي كانت تتصور انه بمجرد اتهامنا بكلمة (الشيعة والتشيع) سيقف المجتمع ضدنا وقفة رجل واحد، لم يحدث هذا ولن يحدث ان شاء اللّه في (مصر

٢٦

الازهر الشريف) الذي بناه المسلمون الفاطميون الشيعة، مصر التسامح المذهبي التي وسعت بين ارجائها المسلمين والمسيحيين بل وحتى اليهود، فكيف يتخيل بعضهم ان هذا الشعب العظيم يمكن ان يحقق لهولاء اغراضهم؟ لم تتوقف المضايقات ولكن حدتها قد خفت كثيرا في الوقت الراهن.

حوارات مع السلفيين

لم يكن احد يعرف من هم المسلمون الشيعة ولا التشيع قبل الثورة الاسلامية الايرانية، وربما كان من الممكن التماس العذر لكل من وقفوا من الشيعة موقفا سلبيا، فالحقيقة غائبة ولا سبيل اليها الا بمصادفة كالتي تعرضت لها، فالشيعة مسلمون يومنون باللّه خالقا تجب عبادته واطاعة اوامرة وحده لا شريك له، والانتهاء عن معاصيه، ويومنون بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيا مرسلا هاديا، ويومنون بيوم المعاد(القيامة)، ويومنون بالقرآن الموجود بين ايدينا اليوم كتابا منزلا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان اللّه سبحانه وتعالى قد حفظ هذا الكتاب من اي تحريف او نقص او زيادة، والمنصف هو من يعود الى كتبهم العقيدية ليطلع على افكارهم وعقائدهم، لا ان يقرا كتب خصومهم، التي تحتوي على الافتراءات والاكاذيب بما لا يرتضيه دين، ولا يقر به عاقل منصف.

لو قرا اولئك الناس كتب التراث الاسلامي لتغيرت نظرتهم

٢٧

وصارت اكثر عمقا، ولكن هيهات..! لماذا يقروون وقد صاروا زعماء سياسيين ودينيين لمجرد انهم قرووا الصحف والمجلات وبعض قصاصات، ولو ساروا في الارض كما امرهم اللّه عز وجل لوجدوا المسلمين الشيعة في طول الارض وعرضها يحملون المصحف نفسه يقروونه ويتعبدون به للّه الواحد الاحد، ولكن الهوى لا دواء له.

اسلام واحد ام اسلامان؟

لم ولن اغير موقعي المدافع عن الاسلام في مواجهة اعدائه، ولن يصبح هذا الموقع يوما ما موقع المدافع عن طائفة ضد اخرى او مذهب ضد مذهب آخر، وما زال الصراع الحقيقي هو بين الاسلام والكفر وليس بين السنة والشيعة او حتى بين الاسلام والمسيحية او بين الاسلام واليهودية، سيبقى الصراع بين الحق والباطل، بين العدل والبغي، بين المستضعفين والمستكبرين، ولكن شيئا من هذا لا ينافي قراءة الاسلام في العمق، ولا معرفة حقائق التاريخ.

كيف يمكن لامة ان تحلم باقامة دولة اسلامية، وهي لا تمتلك مشروعا فقهيا او فقهاء مجتهدين؟! الجميع يعلمون ان المسلمين الشيعة وحدهم هم الذين يمتلكون هذا البناء الفقهي وهذه المدرسة المتكاملة التي اقاموها على مدى التاريخ عبر العذابات

٢٨

والجراحات، وهي مدرسة تستند الى فهم آل البيت المعصومين للكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، ودائما كان دليلةم الاقوى وكانت فتاواهم هي الاصوب.

مثلا: اجمع فقهاء اهل البيت علي ان(حج التمتع)(١) افضل وانه فرض للبعيد عن المسجد الحرام اخذا بقوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَکُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ کَانَ مِنْکُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْکَ عَشَرَةٌ کَامِلَةٌ ذٰلِکَ لِمَنْ لَمْ يَکُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) «البقره/١٩٦».

اهل البيت يرون ذلك فرضا، اما الشيخ سيد سابق، فيرى

____________________

(١) يتألف حج التمتع من العمرة و الحج معا، و فيه إحرامان، وسعيان، و ثلاثة أطوفة: الأول للعمرة، و الثاني للحج، و الثالث للنساء، و هو للبعيد عن مكة. قال الإمام جعفر الصادق (ع): (من حج فليتمتع، إنا لا تعدل بكتاب الله و سنة نبيه. و قال: ما تعلم حجا لله غير المتعة، إنا إذا لقينا ربنا قلنا: عملنا بكتابك و سنة نبيك، و قال القوم: عملنا يرأينا، فليجعنا الله و إياهم. انظر: محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق (ع). دار التبار الجديد- بيروت ط. الساىسة ١٤١٣ه/١٩٩٢م.

٢٩

ذلك (مجرد مذهب) لابن عباس وابي حنيفة(١) استدل عليه باية في كتاب اللّه، وهو بهذا يجعل الدليل القرآني مساويا لاراء الصحابة والتابعين، هل هذا دين؟! ثم يقولون لنا ان المسائل الفقهية محسومة وان لا اجتهاد مع النص، اليس هذا استهزاء بالنص القرآني؟!.

منذ عدة سنوات، اقترح الكاتب الصحفي احمد بهاء الدين تعديل قوانين الميراث والاخذ بالمذهب الجعفري الذي ينص على ان الانثى تحجب كالذكر، وقال ان الاخذ بهذه المادة القانونية يحل الكثير والكثير من المصائب والمشاكل الاجتماعية، فقامت الدنيا ولم تقعد، وانهال آلهجوم على الرجل والكل يتحدث بمنطق العصبيه البغيض (مذهبنا ومذهبهم) و رحمة اللّه على رجال من نوعية الشيخ محمد ابو زهرة والشيخ محمد شلتوت الذين حاولوا تحريك هذه البرك الراكدة، فلم يفلحوا.

يروون عن ائمة المذاهب الاربعة انهم قالوا: (اذا صح الدليل فهو مذهبي) فهل استثنى هولاء وقالوا: (الا ما جاء من ناحية اهل البيت وشيعتهم فلا تاخذوا به فهو باطل وان صح)؟ اين هي حرية الفكر وحرية العقل؟.

____________________

(١) أنظر: السيد سابق: فقه السنة، المجلد الأول، ص ٥٨٠ الطبعة الثامنة دار الكتاب اللبناني (١٤٠٧ه/١٩٨٧م) بيروت-لبنان.

٣٠

لماذا ضاعت هذه الشعارات وسط بريق النفط الاسود؟

وهل للنفط بريق الا لمن عميت بصائرهم وماتت ضمائرهم فانها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.

في النهاية، اسجل رويتى لقضية الامامة: اولا، روية نقدية لمرويات اهل السنة في هذا الموضوع، ثانيا قراءة عقلية للنص القرآني والاحاديث الواردة في مسالة الامامة.

***

٣١

٣٢

على طريق الامامة

في الصميم:

لم تكن قضية الامامة تحظى بقدر كبير من الاهتمام في صفوف الحركات الاسلامية المعاصرة في العالم الاسلامي، بيد ان قيام الثورة الاسلامية في ايران، بقيادة آية اللّه العظمى روح اللّه الموسوي الخمينيرحمه‌الله ، قد القى عدة احجار في البحيرة الراكدة، وفرض على الكثيرين من العلماء والمفكرين واصحاب القلم اعادة التفكير والنظر في مسلمات الامس القريب، في حين اختار بعضهم موقف المعاداة لكل ما جهلوا، وصدق اللّه العلي العظيم، حيث يقول:( بَلْ کَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) «يونس /٣٩».

وهناك من قام باعمال فكرة وعقله في النصوص وفي الواقع، بهدف الحصول على الحقيقة بغض النظر عن الاستنتاج النهائي، وبغض النظر عن قوى الواقع التي تمارس بشكل عملي الاسلوب الذي تتحدث عنه الآية القرآنية المباركة وتذمه( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) «الزخرف /٢٢». تمارس تلك القوى ذلك من دون ان تعلنه باللسان.

٣٣

على ان قضية(الامامة)، وان تعددت الدراسات حولها وكثرت الا ان غالبية ما كتب لم يكن ليكتب في اطار عقلي، بل ان السائد ان كل طرف ياتي بما يويد وجهة نظره من الروايات، ويتحدث عن اسانيدها ورواتها ووثاقتهم، الامر الذي دفعني لاستخدام المنطق العقلي في هذه الدراسة لان ما يتناقض مع العقل هو المستحيل بعينه وهو المرفوض دراية ومن ثم رواية، من دون ما حاجة لسرد اسماء الرواة والمحدثين، وما يتفق مع العقل ينبغي قوله والتسليم به، لان احكام الدين وشرائعة تتكامل ولا تتناقض، وما نعنيه بالعقل هنا هو عرض ادلة المسائل الفرديه علي الادلة الكلية، الجامعة. فاذا كان اللّه تبارك وتعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) «النحل /٩٠»، فلا يعقل ان يامر بطاعة (فاقد العقل)، والا لامر سبحانه بالشيء وضده (العدل - الجور). وهذا محال علي اللّه سبحانه وتعالى.

والى جانب ايماننا بذلك، فاننا نومن بالتكامل في الشريعة الاسلامية الغراء، بمعنى ان قواعد الاسلام العظيم مرتبة بعضها على بعض، فالقرآن الكريم تحدث عدة مرات عن قاعدة (الاصطفاء)، وانها محصورة في الذرية والال( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ‌ ) «آل عمران /٣٣». ثم نص سبحانه وتعالى على تحميل هولاء المصطفين الابرار مسوولية

٣٤

هداية البشر، وتعريفها بالحق:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا الىکَ مِنَ الْکِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) «فاطر/٣١ - ٣٢». وهذه قاعدة عامة لم تشذ عنها امة من الامم، فلماذا تشذ الامة الاسلامية؟( قُلْ مَا کُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) «الاحقاف /٩».

واخيرا: هناك قضية حجية السنة(١) ؟ فالمعارضون لمدرسة اهل البيت(ع)، حينما تضيق بهم السبل يلجاون الى حجة في غآية الغرابه، وهي الدفع بعدم ورود امامة اهل البيت(ع) وخلافتهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم، وهو ما لا سبيل الى القبول بمناقشته ونحن نعلم ان حجية السنة المتواترة تماما كحجية الكتاب، فصاحب السنة هو متلقي الوحي من رب السموات والارض ولعنة اللّه على من كذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليموه على الناس دينهم، وهذا الكذب هو الذي ادى الى القاء بعض الظلال علي حجية السنة المطهرة، وهي اوامر اللّه ونواهيه التي جاء بها النبي المعصوم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتشكيك في حجية السنة لا يختلف في شيء عن التشكيك في حجية القرآن.

___________________

(١) يعرف علماء أصول الفقه الحجة بأنها: (كل شيء يكشف عن شيء أخر، و يحكي عنه على وجه يكون مثبتا له). أما السنة فهي (قول المعصوم أو فعله أو تقريره)

للتوسع أنظر: أحمد البهادلي: مفتاح الوصول الى علم الأصول٢/٣١.

٣٥

نقول ايضا: ان انتقال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الرفيق الاعلى عام (١١ه /٦٣٢م) كان من المفترض ان يصاحبه انتقال السلطة والنظرية الى يد امينة قادرة على التعبير عن الامرين وجعل السلطة والقوة في خدمة النظرية وليس العكس ان تكون النظرية في خدمة السلطة فتتشكل النظرية وفقا لقدرات اصحاب السلطة الذهنية والعقلية ولمدى امانتهم في التطبيق، ومن هنا كان عهد النبي الاكرم لعلي سلام اللّه عليه يوم غدير خم بقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه)(١) ، وقوله يوم سار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى غزوة تبوك وكانت يومها الدولة قائمة: (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي)(٢) .

____________________

(١) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير، و قد روي في صحاح أهل السنة بألفاظ متقاربة، و معني واحد أنظر: سنن الترمذي ٢/٢٩٨. مطيعة بولاق-مصر١٢٩٢ه- سنن ابن ماجه ص ١٢. مطيعة حيدر اباد- الدكن١٣٢٤ه- سند احمد بن حنيل ١/٤٨، المطيعة الميمتية- مصر١٣١٣ه- الخصائص للنسائي ص٢٢و ٤٠مطيعة التقدم العلمية- مصر١٣٤٨ه- الإمام و السياسة لابن قتية، ص ٩٣. طباعة الفتوح الأىبية١٣٣١ه.

(٢) روي هذا الحديث في:

-صحيح البخاري (كتاب بده الخلق، باب عزوة تبوك) ٣/١٣٥٩،حديث=

٣٦

ولكن الذي حدث كان غير ذلك، فالخلافة النبوية انتقلت الى من انتقلت اليه براي بعض المسلمين وليس بالنص، واولئك الخلفاء تفاوتت قدراتهم في استيعاب النصوص ومعرفتها ومن ثم تعبيرهم عن النظرية، وان امسكوا بالسلطة في ايديهم، وكانت ثمرة الخلفاء الثلاثة الاول ان انتقال السلطة الى الامام علي(ع) لم يكن انتقالا هادئا ولا مستقرا الى (امام منصوب من اللّه عز وجل) ما اسهم في تفلت خيوط القوة من بين يديه ووصولها غنيمة باردة الى بني امية بقيادة ابن (آكلة الاكباد)(١) ، وهو انتقال رسخ الوضع الاتي:

١ - سلطة لم تستمد قوتها من شرعية آلهيه، وانما من الغصب والعدوان، وهو ما عبر عنه معاوية في خطاب تسلم السلطة: (اني واللّه ما قاتلتكم لتصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا،

____________________

= ٣٥٠٣،المطيعة الخيرية- مصر١٣٢٠ه.

- صحيح مسلم(كتاب فضائل الصحابة) ٥/٢٣ حديث ٢٤٠٤. طباعة بولاق ١٢٩٠ه.

(١) آكلة الأكباد هي هند بنت عُتبة، أمّ معاوية بنت أبي سفيان سُمّيت بآكلة الأكباد لأنّها بقرت بطن (حمزة) عم النبي و أخرجت كبده و لاكته، و ذلك في معركة(أحد) التي دارت بين المسلمين و مشركي قريش بقيادة أبي سفيان، فجرح الرسول فيها، و قتل عمّه حمزة، و ذلك سنة ٣ه/٦٢٥م.

٣٧

ولا لتزكوا، انكم تفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لاتامر عليكم، وقد اعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون).(١)

٢ - نظرية يفترض انها (الاسلام)، ولكنه من الناحية الواقعية (الاسلام الاسير) في ايدي اقوام جعلوا احدى شعائر صلاة الجمعة لعن امير المومنين علي(ع) علي المنابر، وهذه مسالة متواترة ناهيك عن باقي موبقاتهم وجرائمهم.

في ظل هذا الواقع السلطوي، والنظرية الاسلامية التي تتلقى الطعنات صباح مساء من اصحاب السلطة، صيغت نظريات السلطة، ورويت الروايات ودونت الكتب، فكتب الصحاح التي يتحدثون عنها كتبت بعد قرنين من رحيل النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا جاءت مدونات هذه الكتب خليطا من النصوص المبتوره عن مواضعها علي الرغم من صحتها، وتلك النصوص المكذوبة علي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلك النصوص المنتقاة لبعض الاشخاص اصحاب المواقف المتمشية مع اهواء كل النظم الحاكمة الى يومنا هذا. والاهم من هذا وذاك تلك المساحات البيضاء التي تركت

____________________

(١) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيّن ص٧٧، ط. الأعملي، بيروت – لبنان (١٤٠٨ه/١٩٨٧م).

و ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ٤/١٦، ط. دار الهدى الوطنية، بيروت - لبنان (غير المورخ).

٣٨

فارغة ولم يدون شيء بشانها في كتب (الاحاديث) واقتصر تدوينها علي كتب التاريخ، ولذا فاننا سنقوم بتجميع بعض هذه النصوص والتعليق عليها، سعيا لايضاح الحقيقة، والانتصار للحق.

حدود الامامة

يقول الامام علي(ع): (لا بد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المومن).(١)

يقول ابن ابي الحديد في شرح النهج: (فاما طريق وجوب الامامة ما هي، فان مشايخنا البصريينرحمهم‌الله يقولون طريق وجوبها الشرع، وقال البغداديون وابو عثمان الجاحظ من البصريين: ان العقل يدل علي وجوب الرئاسة، وهو قول الامامية.

الا ان الوجه الذي منه يوجب اصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب منه الامامية الرئاسة، وذاك ان اصحابنا يوجبون الرئاسة علي المكلفين من حيث ان في الرئاسة مصالح دنيويه ودفع مضار دنيوية، والامامية يوجبون الرئاسة من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية).

وايا كان طريق وجوب الامامة او الامرة فالحقيقة انها واجبه

____________________

(١) كاظم محمدي/محمد دشتي: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، خطبة (٤٠) ص٢٤. دار الأضراء-بيروت(١٤٠٦ه/١٩٨٦م).

٣٩

ولكن هناك تباين حول الوجه الذي يوجب الامامة، هل هو قاصر او مرتكز على حفظ المصالح الدنيوية، ام ان المسالة اعمق واشمل من وانها كما يرى المسلمون الامامية لطف من اللّه وبعد للمكلفين عن ممارسة القبائح العقلية.(١)

وفي اعتقادنا ان طبيعة الرئاسة او الامرة وهل هي معنية اساسا بحفظ المصالح الدنيوية ام انها ينبغي ان تكون اكثر اعتناء بحفظ المصالح الدينية، هذه الطبيعة تفاوتت بتفاوت الامة موضع الرئاسة وطبيعة الرسالة التي تحملها هذه الامة، وبالتالى فان مهام الرئاسة في الامة الاسلامية لا يمكن ان تتشابه مع مهام الرئاسة في الامة الامريكية مثلا( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ کَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ کَالْفُجَّارِ ) «ص/٢٨».

ومن هنا فاننا نرى ان طبيعة رئاسة الامة الاسلامية تكتسي وتعنون بالعناوين المدونة في كتاب اللّه وفي سنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسها، وان المواصفات المطلوبة في امامة الامة الاسلامية هي القدرة على حمل هذه الاعباء، وان اي خلل في قدرات القيادة المسلمة على اداء هذه المهام الجسام تطرح العديد من التساولات حول اهلية هذه القيادة واحقيتها لهذا الدور، ودونكم بعض الامثلة من كتاب اللّه:

____________________

(١) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ٤/١٦.م.س.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418