الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 418
المشاهدات: 93143
تحميل: 6417


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93143 / تحميل: 6417
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبعض هذا يكفي في الدلالة علي تشيّعه للطالبيِّين واتِّخاذه التشيّع مذهباً في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء ولا سيَّما التشيّع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليّاً في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيديَّة الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العبّاس، فهم لا يقولون في نصرة آل عليّ أشدَّ ممّا قال إبن الرومي، ولا يتمنّون لهم أكثر ممّا تمنّاه.

ويلوح لنا أنّ إبن الرومي ورث التشيّع وراثة من أُمِّه وأبيه لأنّ أُمّه كانت فارسيَّة الأصل فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويِّين، ولأنَّ أباه سمّاه عليّاً وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنَّبها المتشدِّدون من أنصار الخلفاء، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيَّع وهو في خدمة بيت من بيوت العبّاسيِّين، لأنَّ مواليه كانوا أناساً بعيدين مِن الخلافة وولاية العهد وهما علّة البغضاء الشديدة بين العباسيِّين والعلويِّين، وقد اتَّفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنّهم كانوا يكرمون عليّاً وأبناءه كما كان مشهوراً عن «المعتضد» الخليفة الذي أكثر إبن الرّومي من مدحه، كما كان مشهوراً عن «المنتصر» وليّ العهد الذي قيل: إنَّه قتل أباه «المتوكِّل» جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذبِّ عن حرمة عليٍّ وآله (ثمَّ قال بعد إستظهار تشيّع بني طاهر ص ٢٠٧ - ٢٠٩»:

وإنَّ أحق عقيدة أن يجدَّ المرء فيها لعقيدةٌ تُجرِّؤه إذا خاف، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث، وتمهِّد له الأمل في مقبل خير من الحاضر، وأدنى منه إلى كشف الظلمات وردِّ الحقوق، وكلّ أولئك كان إبن الرّومي واجده على أوفاه في التشيّع للعلويِّين أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب على العباسيِّين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنّى زواله، فلهذا كان متشيِّعاً في الهوى، متشيِّعاً في الرَّجاء، وكان على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب غيره من سائر المتشيِّعين.

أمّا الإعتزال فإبن الرّومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره إظهار معتزٍّ به حريصٍ عليه فمن قوله في إبن حريث:

معتزلي مسرُّ كفر

يُبدي ظهوراً لها بطونُ

أأرفض الإعتزال رأياً

كلّا لأنّي به ضنينُ

٤١

لو صحَّ عندي له اعتقادٌ

ما دنتُ ربّي بما يدينُ

وكان مذهبه في الإعتزال مذهب القدريَّة الذين يقولون بالإختيار وينزِّهون الله عن عقاب المجبِّر على ما يفعل، وذلك واضحٌ من قوله يخاطب العبّاس بن القاشي و يناشده صلة المذهب:

إن لا يكن بيننا قربى فآصرةٌ

للدين يقطع فيها الوالد الولدا

مقالة العدل والتوحيد تجمعنا

دون المضاهين مَن ثنّى ومَن جحدا

وبين مستطرفي غيٍّ مرافقة

ترعى فكيف اللذان استطرفا فارشدا

كن عند أخلاقك الزهر التي جعلت

عليك موقوفةً مقصورةً أبدا

ما عذر (معتزليٍّ) موسر منعت

كفّاه معتزليّاً مقتراً صفدا؟!

أيزعم القدر المحتوم أثبطه؟!

إن قال ذاك فقد حلَّ الذي عقدا

أم ليس مستأهلاً جدواه صاحبه؟!

أنّى؟! وما جار عن قصدٍ ولا عندا

أم ليس يمكنه ما يرتضيه له؟!

يكفي أخاً من أخ ميسور ما وجدا

لا عذر فيما يُريني الرأي أعلمه

للمرء مثلك ألّا يأتيَ السَّددا

فواضحٌ من كلامه هذا أنَّه (معتزليٌّ) وأنَّه من أهل العدل والتوحيد وهو الإسم الذي تسمّى به القدريَّة لأنَّهم ينسبون العدل إلى الله فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى له وسبق إليه، ولأنَّهم يوحِّدون الله فيقولون: إنَّ القرآن من خلقه و ليس قديماً مضاهياً له في صفتي الوجود والقِدم، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الإسم ليردّوا به على الَّذين سمّوهم القدريَّة ورووا فيهم الحديث (القدريَّة مجوس هذه الأُمّة) فهم يقولون: ما نحن بالقدريَّة لأنَّ الذين يعتقدون القدَر أولى بأن ينسبوا إليه، إنَّما نحن من أهل العدل والتوحيد لأنَّنا ننزّه الله عن الظلم وعن الشريك.

وواضحٌ كذلك من كلامه أنَّه يعتقد حرِّيَّة الإنسان فيما يأتي من خير وشرّ، ويحتجُّ على زميله بهذه الحجَّة فيقول له: لِمَ لا تثيبني؟! إن قلتَ: إنَّ القدر يمنعك؟! فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الإنسان في أفعاله، وإن قلتَ: إنَّك لا تريد؟! فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة. وله عدا هذا أبياتٌ صريحةٌ في إعتقاد (الإختيار) وخلق الإنسان لأفعاله كقوله:

٤٢

لولا صروف الإختيار لأعنقوا

لهوى كما اتَّثقت جمال قطار

وقوله:

أنّى تكون كذا وأنت مخَيَّرٌ

متصرِّفٌ في النقض والإمرارِ؟!

وقوله:

الخير مصنوعٌ بصانعه

فمتى صنعت الخير أعقبكا

والشرُّ مفعولٌ بفاعله

فمتى فعلت الشرَّ أعطبكا

إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن:

الرزق آتٍ بلا مطالبةٍ

سيّان مدفوعهُ ومجتذبهْ

ويقول:

أما رأيت الفجاج واسعةً

والله حيّاً والرزق مضمونا؟!

*(قال الأميني)*: هذا في الرِّزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصَّله الحديث، ولا تناقض عند القدريَّة في هذا، لأنَّهم يقولون بالإختيار فيما يُعاقب عليه الإنسان ويُثاب لا فيما يناله من الرِّزق وحظوظ الحياة.

أمَّا القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله:

فينا وفيك طبيعةٌ أرضيَّةٌ

تهوي بنا أبداً لشرِّ قرارِ

هبطت بآدم قبلنا وبزوجه

من جنَّة الفردوس أفضل دارِ

فتعوَّضا الدنيا الدنيَّة كاسمها

من تلكم الجنّات والأنهارِ

بئست لعمر الله تلك طبيعةٌ

حرمت أبانا قرب أكرم جارِ

واستأسرت ضعفى بنيه بعده

فهمُ لها أسرى بغير إسارِ

لكنَّها مأسورةٌ مقصورةٌ

مقهورة السلطان في الأحرارِ

فجسومهم من أجلها تهوي بهم

ونفوسهم تسمو سموَّ النارِ

لولا منازعة الجسوم نفوسهم

نفزوا بسورتها من الأقطارِ

أو قصَّروا فتناولوا بأكفّهم

قمر السماء وكلّ نجمٍ سارِ

*(قال الأميني)*: لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجَم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشأ ذلك بُعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقّله معنى الشعر، فحبسه

٤٣

منافياً للتوحيد الذي جاء به نبيُّ الإسلام، لكن العارف بأساليب الكلام، العالم بما جبل به الإنسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشكُّ في صحَّة معنى الشعر، وهو يُعرب عن إلمام إبن الرومي بالأخلاق، والمتكفِّل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.

قال: وإبن الرومي كان مفطوراً على التديّن لأنَّه كان مفطوراً على التهيّب والإعتماد على نصير، وهما منفذان خفيّان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثَمَّ كان مؤمناً بالله خوفاً من الشكّ، مقبلاً على التسليم بسيطاً في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أيِّ شيء، وبلغ من بساطته أنَّه كان يُنكر على الحكماء الذين يشكّون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوَّق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:

يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا

بعد التقادم منهمُ بدواءِ

بيِّنتَ عن رعةٍ وصدق أمانةٍ

لولا اتِّهامك خالق الأشياءِ

أحسبتَ أنَّ الله ليس بقادرٍ

أن يجعل الأموات كالاحياءِ؟!

وظننتَ ما شاهدتَ من آياته

بلطيفة من حيلة الحكماءِ؟!

ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة:

ألا أنّ لقاء اللّـ

ـه هولٌ دونه الهولُ

وما كانت الطير عنده إلّا شعبة من ذلك التهيّب الدينيّ الغريزيّ، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدودٍ من الشعور لا في حدودٍ من التفكير، ولهذا كان الفنّان ولم يكن الفيلسوف.

*(قال الأميني)*: الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن إليها أيُّ خاضع له وملأ مسامعه قول الصّادع به صلى الله عليه وآله وسلم: لا طيرة ولا حام. وإنَّما هي بين ضعف النفس غير المتقوِّية بنور اليقين والتوكّل على الله في ورد وصَدَر، ولذا كانت شايعة في الجاهليَّة ونفاها الإسلام.

قال: وليس من الإجتراء أنَّه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأياً غير ما اصطلح

٤٤

عليه السواد فإنّه كان يحيل الذنب على الإنسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب، ويتصوَّر الله على أحسن ما يتصوَّر المتفلسف مثله إلهه؟؟، فكأنَّما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الإجتراء عليه، وإنّما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتّى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي فيها إلى برِّ الأمان، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمَّته.

ويدمج أسباب المودَّة بيننا

مودَّتنا الأبرار من آل هاشمِ

وإخلاصنا التوحيد لله وحدهُ

وتذييبنا؟ عن دينه في المقاومِ

بمعرفةٍ لا يقرع الشكّ بابها

ولا طعن ذي طعن عليها بهاجمِ

وإعمالنا التفكير في كلِّ شبهة

بها حجَّة تعيي دهاة التراجمِ

يبيت كلانا في رضى الله ماحضاً

لحجَّته صدراً كثير الهماهمِ

بيد أنّ الإيمان شيءٌ وأداء الفرايض الدينيَّة شيءٌ آخر، فقصارى الإيمان عنده أنّه يؤمِّنه بقرب آل البيت وتنزيه ربِّه والإطمينان إلى عدله ورحمته، ثمَّ يدع له سبيله يلعب ويمرح كلّما لذَّ له اللعب والمرح، ولا أهلاً بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذَّة وأرب.

فلا أهلاً بمانع كلِّ خير

وأهلاً بالطعام وبالشَّراب

بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبِّهها بليلة المعراج:

رفعتنا السعود فيها إلى الفو

ز فكانت كليلة المعراج

ذلك أنَّه كان في تقواه طوع الإحساس الحاضر، كما كان في كلِّ حالة من حالاته يلعب، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجونٌ، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يُباريه أحدٌ من المتعبِّدين، ويخيِّل إليك أنَّك تستمع إلى متعبِّد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:

تتجافى جنوبهم

عن وطئ المضاجعِ

كلّهم بين خائفٍ

مستجيرٍ وطامعِ

تركوا لذّة الكرى

للعيون الهواجعِ

ورعوا أنجم الدُّجى

طالعاً بعد طالعِ

٤٥

لو تراهم إذا همُ

خطروا بالأصابعِ

وإذا هم تأوَّهوا

عند مرِّ القوارعِ

وإذا باشروا الثرى

بالخدود الضوارعِ

واستهلّت عيونهم

فائضات المدامعِ

ودعوا: يا مليكنا

يا جميل الصنائعِ

اعف عنّا ذنوبنا

للوجوه الخواشعِ

اعف عنّا ذنوبنا

للعيون الدوامعِ

أنت إن لم يكن لنا

شافعٌ خير شافعِ

فأُجيبوا إجابة

لم تقع في المسامعِ

: ليس ما تصنعونه

أوليائي بضائعِ

أبذلوا لي نفوسكم

أنَّها في ودائعي

وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثيرٌ لا تسمعه من إبن الفارض ولا محيي الدّين.

*(قال الأميني)*: ليس ما ارتئاه إبن الرومي في باب الإختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه (المترجم) وإنَّما هي وليدة البرهنة الصادقة، وإنَّه لم يعط القدَر حقَّه محاباةً له، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الإنسان كلِّف بتحرّي الأسباب الظاهريَّة جرياً على النواميس الإلهيَّة المطَّردة في النظام العالميِّ الأتمّ، وهذه مسائل كلاميَّة لا يروقنا الخوض فيها إلّا هنالك.

وأمّا إعتماد إبن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربِّه فهو شأن كلِّ مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلاليَّة، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السَّلام إلّا نتيجة مودَّتهم التي هي أجر الرسالة بنصّ من الذكر الحكيم، وإنَّما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلَّف عنها غرق، وهم عِدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده وقال: ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، فأحرِ بهم أن يكون القرب منهم مؤمِّناً للإنسان نشأته الأُخرى، وأمّا ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعريّة لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء الأعفّاء أمثالها.

٤٦

هجاؤه

أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجّائين هما أشهر الهجّائين في أدب العصور الإسلاميَّة عامَّة: أحدهما إبن الرومي. والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعاً وقال:

إنّي لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير ولكن لا أرى أحدا

وقد جمع المعرّي بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:

لو أنصف الدهر هجا أهله

كأنَّه الروميُّ أو دعبلُ

وليس للمؤرِّخ الحديث أن يضيف إسماً جديداً إلى هذين الإسمين فإنَّ العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوَّة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوعٌ فذٌّ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.

فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب (لا يهمّنا ما ذكره في دعبل).

أمّا إبن الرومي فلم يكن مطبوعاً على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنَّه كان فنّاناً بارعاً أوتي ملكة التصوير ولطف التخيّل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال، فإذا قصد شخصاً أو شيئاً بهجاء صوَّب إليه «مصوِّرته» الواعية فإذا ذلك الشيء صورةٌ مهيَّأةٌ في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدَّبة، فكلّ هجوه تصويرٌ مستحضرٌ لأشكاله، أو لعبٌ بالمعاني على حساب من يستثيره.

وإبن الرومي يسلب مهجوَّه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كلَّ عيوب الحضارة التي يجمعها التبذّل والتهالك على اللذَّات، فإذا حذفت من هجوه كلَّ ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شرَّ ما فيه ولم يبق منه إلّا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

وكان لصاحبنا فنّاً واحداً من الهجاء لا ترتاب في أنَّه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتُلجأه النقمة إليه، ونعني به فنَّ التصوير الهزليِّ والعبث بالأشكال المضحكة والمناظرة الفكاهيَّة والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوعٌ على هذا كما يطبع المصوِّر على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقَّه من الإتقان والإختراع، و

٤٧

ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفنّ أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيِّئة، وقدرةٌ تُطلب وليس بخلَّة تُنبذ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذِّبه وتهديه ماهراً فيه خبيراً بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين، ويهجو مَن يستهدف غرضه للهجاء؛ لأنَّك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزليَّة وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسَّته الصادقة فيه أن تصدِّقه وتفقه ما تقع عليه، أمّا إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنَّك تمنع خلقاً يستغنى عنه، وميلاً لا بدَّ له من التقويم.

ذلك هو فنُّ إبن الرّوميِّ الذي لا عذر له منه ولا موجب للإعتذار، فأمّا ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوقٌ فيه لا سائق، ومدافعٌ لا مهاجم، ومستثارٌ عن عمد في بعض الأحيان لا مستثيرٌ، وإنَّك لتقرأ له قوله:

ما استبَّ قطُّ اثنان إلّا غلبا

شرّهما نفساً وأُمّاً وأبا

فلا تصدِّق أنَّ قائله هو إبن الرّوميّ هجّاء اللغة العربيَّة وقاذف المهجوّين بكلِّ نقيصة لكنَّ الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنَّه كان يسكن إلى رشده أحياناً فيتسأم الهجاء ويعافه ويودُّ الخلاص منه حتّى لو كان مهجوّاً معدوّاً عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسماً:

آليت لا أهجو طوا

ل الدَّهر إلّا مَن هجاني

لا بل سأطَّرح الهجا

ءَ وإن رماني مَن رماني

أمن الخلايق كلّهم

فليأخذوا منّي أماني

حلمي أعزُّ عليَّ من

غضبي إذا غضبي عراني

أولى بجهلي بعد ما

مكَّنت حلمي من عناني

وهذا أشبه بابن الرومي لأنَّه في صميمه خلق مسالماً سهلاً، ولم يخلق شريراً مطويّاً على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريراً لما اضطرَّ إلى كلِّ هذا الهجاء، أو هو لو كان أكبر شرّاً لكان أقلُّ هجاءً، لأنَّه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلّا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشفُّ عن

٤٨

الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشرِّ المستقرِّ في الغريزة، كما كان يشفُّ عن الحرج والتبرّم والشعور بالظلم الّذي لا طاقة له باحتماله ولا بإتِّقائه، وكثيرٌ من الأشرار الَّذين يقتلون ويعتدون ويُفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذمٍّ في إنسان، وكثيرٌ من النّاس يذمّون ويتسخَّطون لأنَّهم على ذلك مطبوعون.

ومن قرأ مراثي إبن الرومي في أولاده وأُمّه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنَّها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأُنس بالأصدقاء و الإخوان، فمراثيه هي التي تدلُّ عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلّة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البارّ، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرؤف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثمَّ يكون مع ذلك شريراً مغلق الفؤاد مطبوعاً على الكيد والإيذاء.

وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدِّق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدِّق كلامهم فيه، لأنَّهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعوَّد الناس أن يصدِّقوا كلَّ ما يُرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنّه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الإساءة بعد الإساءة مخافةً من كثرة الشكاية و علماً منه بقلّة الإنصاف.

أتاني مقالُ من أخٍ فاغتفرته

وإن كان فيما دونه وجه معتبِ

وذكّرت نفسي منه عند امتعاضها

محاسن تعفو الذنب عن كلّ مذنبِ

ومثلي رأى الحسنى بعين جليَّة

وأغضى عن العوراء غير مؤنّبِ

فيا هارباً من سخطنا متنصِّلاً

هربت إلى أنجى مفرٍّ ومهربِ

فعذرك مبسوطٌ لدينا مقدَّمٌ

وودُّك مقبولٌ بأهلٍ ومرحبِ

ولو بلغتني عنك أُذني أقمتها

لديّ مقام الكاشح المتكذِّبِ

ولست بتقليب اللسان مصارماً

خليلي إذا ما القلب لم يتقلَّبِ

فالرَّجل لم يكن شريراً ولا ردئ النفس ولا سريعاً إلى النقمة، فلِماذا إذن كثر هجاؤه واشتدَّ وقوعه في أعراض مهجوّيه؟! نظنُّ أنَّه كان كذلك لأنَّه كان قليل الحيلة

٤٩

طيِّب السريرة خالياً من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقاً في فنّه يحسب أنَّ الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلةٌ بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرآسة، لأنّه كان في زمن يتولّى فيه الوزارة الكتّاب والرُّواة ويجمعون في مناصبهم أُلوف الأُلوف ويحظون بالزلفى عند الأُمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعراً كاتباً، وكان خطيباً واسع الرِّواية مشاركاً في المنطق والفلك واللغة، وكلّ ما تدور عليه ثقافة زمان، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقلّ أدواته وكان الشعر وحده كافياً لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا بعد أن يعرف الناس إنَّه شاعرٌ وإنَّه كاتبٌ وإنَّه راويةٌ مطّلعٌ على الفلسفة والنجوم؟! إلّا أن تجيه الوزارة ساعيةً إليه تخطب ودَّه، كما جاءت إلى أُناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه، ألم يصل إبن الزيَّات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسَّرها للمعتصم وفصَّل له تفسيرها وهي كلمة (الكلاء) التي يعرفها عامَّة الأُدباء؟! بلى، وإبن الرّومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أُدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة؟ وما أظلم الدنيا؟ إذ هي ضنَّت عليه بحقِّه من المناصب والثراء.

فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتّاب المبرَّزين؟! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبنٌ أصعب على النفس من هذا الغبن؟! وهل تقصيرٌ من الزمان ألأم من هذا التقصير؟!

ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: (أنت للشرف) أيذهب هذا كلّه هباءً لا يقبض منه اليدين على شيءٍ؟! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محوٌ لغوٌ مطموسٌ لا يبين أولا يبين منه إلّا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيّام بالسقم والفقر والكساد؟! وكيف يمحى؟! إلّا وقد محى القلب الذي طبعت فيه، وكيف ينعكس معناه؟! إلّا وقد إنعكس في القلب كلّ قائم والتوى فيه كلّ قويم، ذلك صعبٌ على النفوس وليس بالسهل إلّا على مَن يلهو به وهو بعيدٌ.

وهكذا كان إبن الرومي يسأل نفسه مرَّة بعد مرَّة ويوماً بعد يوم:

مالي أسلّ من القراب وأغمد؟!

لِمَ لا أُجرَّد؟! والسيوف تجرَّدُ

٥٠

لِمَ لا أُجرَّب في الضرائب مرَّة

يا للرجال وأنَّني لَمهنّدُ؟!

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لأنَّه لم يكن يدري أنَّ فضائله كلّها لا تساوي فتيلاً بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين النّاس، وإنَّ الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعاً ولو كان صاحبها لا ينظم شعراً، ولا ينظر في كتب الفلسفة و الرِّواية والنجوم.

حسن إذن تدع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة ولكنَّه لا يسهل على من يعالجه ويشفي بمحنته في ساعةٍ من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمّال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟!

لا. لأنَّ الحيلة لازمةٌ في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كلِّ غرض من أغراض المعاش ولا سيَّما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنةٌ واحدةٌ بغير مكيدة خبيئة تؤدّي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان و اللعب بمغامز النفوس الخفيَّة وإضحاك هؤلاء، وهؤلاء، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

وبسط الكلام في الموضوع إلى ص ٢٣٥ فقال:

هو وشعراء عصره

عاصر إبن الرومي في بيئته كثيرٌ من الشعرآء أشهرهم في عالم الشعر الحسين بن الضحّاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعليُّ بن الجهم، وإبن المعتزّ، وأبو عثمان الناجم.

وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممَّن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثرٌ يُذكر في تكوينه غير إثنين فيما نظنّ هما: الحسين بن الضحّاك، ودعبل الخزاعي

*(قال الأميني)* وكان بين إبن الرّومي والشاعر المفلق إبن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودَّة وجرت بينهما نوادر منها: أنَّ إبن الحاجب سأله إبن الرومي زيارته في يوم معلوم فصاروا إليه فلم يجدوه فقال إبن الرومي فيه شعراً أوّله:

٥١

نجّاك يا بن الحاجب الحاجبُ

وليس ينجو منّي الهاربُ

وأجابه إبن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني ٤٥٣.

قال: فكان إبن الرومي معجباً بالحسين بن الضحاك يروي شعره ويستملح أخباره ويذكرها لأصحابه، وكان إبن الرومي يافعاً يحضر مجالس الأدب ويتلقّى دروسه و الحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أُدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق (ثمَّ ذكر بعض ما رواه إبن الرّوميِّ من شعر إبن الضحّاك نقلاً عن الأغاني) فقال:

وقد مات الحسين بن الضحّاك وإبن الروميِّ في التاسعة والعشرين ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يُشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل إبن الضحّاك.

أمّا دعبل فإبن الرّومي عارضه في موضعين أحدهما القصيدة الطائيَّة التي نظمها دعبل حين اتَّهم خالداً بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه وقال في مطلعها:

أسر المؤذِّن خالدٌ وضيوفه

أسر الكميِّ هفا خلال الماقط(١)

ولآخر في قصيدة لدعبل مطلعها:

أتيت ابن عمرو فصادفته

مريض الخلايق ملتائها

وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيِّعاً لآل عليٍّ غالياً في تشيّعه(٢) فجذب ذلك كلّه نفس إبن الرومي الفتى نحوه وحبَّب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء، ومات دعبل وإبن الرّومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنَّهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

وأمّا البحتري وأبو عثمان الناجم فالثابت أنَّ إبن الرّومي كان على معرفة و صحبة معهما، عرف البحتري في بيت الناجم وكان هذا صديقاً له بقي على صداقته إلى يوم موته.

*(قال الأميني)* لابن الرومي قصيدةٌ في البحتري وأدبه وشعره توجد منها أبيات في ثمار القلوب للثعالبي ص ٢٠٠ و٣٤٢.

_____________________

١ - راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣٧٩ ط ثاني.

٢ - عزو باطل لا يشوَّه به قدس تشيع مثل دعبل.

٥٢

وأمّا عليٌّ بن الجهم المتوفّى ٢٤٩ فقد كان بينه وبين إبن الرومي برزخٌ واسعٌ من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فإبن الرومي متشيِّع، وإبن الجهم ناصبٌ يذمُّ عليّاً وآله «ولا يلتقي الشيعيُّ والناصب» كما يقول إبن الرومي. وكان إبن الجهم شديد النقمة على المعتزلة وعلى أهل العدل والتوحيد منهم خاصَّة يهجوهم ويدسُّ لهم ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي داود:

ما هذه البدع التي سمَّيتها

بالجهل منك العدل والتوحيدا

وإبن الرومي كما مرَّ بك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره إبن الجهم ولا يرغبه في مجاراته، ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاح والنزعة، لقد يهون هذا الفارق ويسهل على إبن الرّومي الإغضاء عنه، وهو ناشيءٌ يتلمَّس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنَّك تقرء شعر إبن الجهم في فخره ومزاحه فيخيَّل إليك أنَّك تقرأ كلام جنديٍّ يتنفَّج أو يُعربد لخلوِّه من كلِّ عاطفة غير عواطف الجند يقضون أوقاتهم بين الفجر والضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة إبن الرومي مسرب للقدوة أو للمقاربة في الميل والإحساس.

وأمَّا ابن المعتز فقد ولد في سنة سبع وأربعين ومأتين فلمّا أيفع وبلغ السنَّ التي يقول فيها الشعر كان إبن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولَمّا بلغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأُدباء كان إبن الرّومي قد أوفى على الستِّين وفرغ من التعلّم والإقتباس، ولو انعكس الأمر وكان إبن المعتزّ هو السابق في الميلاد لما أخذ منه إبن الرومي شيئاً، أو لكان أفسده سليقته بالأخذ عنه، لأنّ إبن المعتزّ إنَّما إمتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي: البديع. والتوشيح. والتشبيه بالتحف والنفائس. وإبن الرومي لم يُرزق نصيباً معدوداً من هذه المزايا ولم يكن قطُّ من أصحاب البديع أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.

تاريخ وفاته

قال إبن خلكان: توفّي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث و

٥٣

ثمانين. وقيل: وسبعين ومأتين ودفن في مقبرة باب البستان. والذين جاؤا بعد إبن خلكان تابعوه في هذا الشكّ ولا مسوِّغ لهذا الشكِّ بأمور(١) الأوّل قوله:

طربت ولم تطرب على حين مطرب

وكيف التصابي بابن ستّين أشيب؟!

فبملاحظة تاريخ ولادته المتسالم عليه بين أرباب المعاجم يوافق ستّين مع سنة ٢٨١ فهو لم يمت في سنة ٢٧٦ على التحقيق. ولا يُظنّ أنَّ الستّين هنا تقريبيَّة لضرورة الشعر فإنَّه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال.

كبرت وفي خمس وخمسين مكبر

وشبت فألحاظ المها عنك نُفَّر(٢)

الثاني: ما في مروج الذهب (ج ٢ ص ٤٨٨) للمسعودي من أنَّ قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السَّلام إبن الجصّاص في ذي الحجَّة سنة إحدى وثمانين ففي ذلك يقول إبن الرومي.

يا سيِّد العرب الذي زُفَّت له

باليمن والبركات سيِّدة العجم

*(قال الأميني)* قال الطبري في تاريخه ١١ ص ٣٤٥: كان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرَّم سنة ٢٨٢.

الثالث: مقطوعاته التي نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة إثنتين وثمانين.

*(قال الأميني)* وممّا ينفي الشكَّ عن عدم وقوع وفاة المترجم سنة ٢٧٠ قصيدته التي يمدح بها المعتضد بالله أبا العباس أحمد في أيّام خلافته وقد بويع له في شهر رجب بعد عمِّه المعتمد سنة ٢٧٩ قال فيها:

هنيئاً بني العبّاس إنَّ إمامكم

إمام الهدى والبأس والجود أحمدُ

كما بأبي العبّاس أُنشيء ملككم

كذا بأبي العبّاس أيضاً يُجدّدُ

قال العقّاد: وأمّا التاريخين الآخرين: أي سنة ثلاث وأربع وثمانين فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما وليس عندنا مثل ذلك من الثانية وهذا ممّا يرجِّح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.

_____________________

١ - نحن نذكر ملخصها.

٢ - ذكر الخمس والخمسين في هذا البيت لا ينافي تقريبية الستين في سابقه.

٥٤

*(قال الأميني)* لم نعرف وجه الترجيح يذكر تاريخ اليوم والشهر لمجرَّده مع قطع النظر عمّا ذكره بعدُ من مضاهاة التاريخ بقوله:

ويقوي هذا الترجيح أنَّ مضاهاة التواريخ تُثبت لنا أنَّ جمادي الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى في تلك السنة كما جاء في تاريخ الوفاة، وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الإفرنجي فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي يوافق أبان الصيف في العراق، وإبن الرومي مات في الصيف كما يُؤخذ من قول الناجم أنَّه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماءٌ مثلوجٌ فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأنَّ أصحَّ التواريخ الأوَّل و هو: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث وثمانين.

شهادته

الأقوال بعد ذلك مجمعةٌ على موت إبن الرّومي بالسمّ وأنَّ الذي سمَّه هو القاسم بن عُبيد الله أو أبوه قال إبن خلكان في وفيات الأعيان (ج ١ ص ٣٨٦): إنَّ الوزير أبا الحسين القاسم بن عُبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه و فلتات لسانه بالفحش فدسَّ عليه إبن فراش فأطعمه خشكنامجه مسمومة وهو في مجلسه فلمّا أكلها أحسَّ بالسمّ فقام فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟! فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلِّم على والدي. فقال له: ما طريقي على النّار.

وقال الشريف المرتضى في أماليه (ج ٢ ص ١٠١): إنَّه قد اتصل بعبيد الله ابن سليمان بن وهب أمر عليِّ بن العبّاس الرّومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى إبن روميِّك هذا فدخل يوماً عُبيد الله إلى أبي الحسين وإبن الرّومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه فرآه مضطرب العقل جاهلاً فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إنّ لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقار به عند أوّل عتب ولا يفكَّر في عاقبته، فأخرجه عنك. فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكّننا. فقال: يا بنيَّ؟ إنّي لم أُرد بإخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حيَّة النميري:

٥٥

فقلن لها سرّاً: فديناك لا يرح

سليماً، وإلّا تقتليه فألممي

فحدَّث القاسم بن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرّومي وقد هجاه بأهاج قبيحة فقال له: الوزير أعزَّه الله أشار بأن يغتال حتّى يُستراح منه وأنا أكفيك ذلك. فسمّه في الخشكنانج فمات. قال الباقطاني: والنّاس يقولون: ما قتله إبن فراس وإنَّما قتله عبيد الله.

ثمَّ ضعّف الرواية الأولى بأنّ عُبيد الله بن سليمان مات سنة ٢٨٨ بعد وفات إبن الرّومي فلا معنى لقول القاسم له: سلّم على والدي. ووالده بقيد الحياة

واستشكل في الرواية الثانية بأنّ عبيد الله كانت له سوابق معرفة مع إبن الرّومي فلا يتمُّ ما فيها من طلبه رؤيته.

وأنت ترى أنَّ التضعيف الثاني ليس في محلّه إذ الرؤية المطلوبة لعبيد الله كما يظهر من نفس الرّواية رؤية إختبار لا مجرَّد رؤية حتّى تنافي التعارف والإجتماع قبلها، فيحتمل عندئذ أنَّ عبيد الله هو القائل: سلّم على والدي. لا إبنه، والله العالم.

٥٦

١٤ - الحماني الأفوه(١)

المتوفى ٣٠١

إبن الّذي رُدَّت عليه الشمـ

ـس في يوم الحجابِ

وابن القسيم النّار في

يوم المواقف والحسابِ

مولاهمُ يوم «الغدير»

برغم مرتابٍ وآبي(٢)

وله:

قالوا: أبو بكر له فضله

قلنا لهم: هنّأه الله

نسيتمُ خطبة «خمّ» وهل

يُشبَّه العبد بمولاه؟!

إنَّ «عليّاً» كان مولى لمن

كان «رسول الله» مولاه(٢)

*(الشاعر) *

أبو الحسين عليُّ بن محمد بن جعفر محمد بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم السَّلام الكوفي الحِمّاني المعروف بالأفوه. وفي لباب الأنساب: يُلقَّب هو ووالده محمد بالحمّال. ويقال لأولاده: بنو الحمّال.

حِمّان بكسر المهملة وتشديد الميم محلّةٌ بالكوفة والنسبة إلى حِمّان قبيلة من تميم وهم: بنو حِمّان بن عبد العزيز بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. واسم حِمّان: عبد العزّى. وقد سكن هذه المحلّة مَن نسب إليها وإن لم يكن منها(٤) فما في بعض المعاجم ضبطه بالمعجمة تصحيفٌ.

_____________________

١ - تبعا على المؤرخين ذكرناه في هذا القرن.

٢ - امتدح بها بعض أهل البيت الطاهر، ذكرها إبن شهر آشوب في المناقب ١ ص ٤٦٢.

٣ - ذكرها البياضي في صراطه المستقيم.

٤ - معجم البلدان ٣ ص ٣٣٥، اللباب ١ ص ٣١٦.

٥٧

المترجَم له في الرعيل الأوَّل من فقهاء العترة ومدرِّسيهم في عاصمة التشيّع بالعراق في القرون الأولى «الكوفة» وفي السنام الأعلى من خطباء بني هاشم وشعرائهم المفلقين، وقد سار بذكره وبشعره الركبان، وعرفه القريب والبعيد بحسن الصياغة وجودة السرد، أضف إلى ذلك علمه الغزير، ومجده الأثيل، وسؤدده الباهر، ونسبه العلويّ الميمون، وحسبه الوضاح إلى فضايل جمَّة تسنَّمت به إلى ذروة الخطر المنيع.

سأل المتوكّل إبن الجهم من أشعر الناس؟ فذكر شعراء الجاهليَّة والإسلام، ثمَّ إنَّه سأل أبا الحسن (الإمام عليّ بن محمد الهادي) فقال: الحِمّاني حيث يقول:

لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ

بمدِّ خدودٍ وامتداد أصابعِ

فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما يهوى نداء الصوامعِ

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كلِّ جامعِ

فإنَّ رسول الله أحمد جدُّنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالعِ

قال: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟! قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، جدّي أم جدّك؟! فضحك المتوكِّل ثمَّ قال: هو جدُّك لا ندفعك عنه.

هذا الحديث ذكره الجاحظ في [المحاسن والأضداد] ص ١٠٤، والبيهقي في [المحاسن والمساوي] ١ ص ٧٤ غير أنَّ فيها: الرضى. مكان أبي الحسن. وأحسبه تصحيف «المرتضى» وهو لقب الإمام الهادي سلام الله عليه.

ورواه شيخ الطايفة في أماليه ص ١٨٠، وبهاء الدين في [تاريخ طبرستان] ص ٢٢٤، وإبن شهر آشوب في «المناقب» ٥ ص ١١٨ ط هند.

وأثنى عليه المسعودي في «مروج الذهب» ٢ ص ٣٢٢ في كلام يأتي له وقال: كان عليُّ بن محمد الحِمّاني مفتيهم بالكوفة وشاعرهم ومدرّسهم ولسانهم، ولم يكن أحدٌ بالكوفة من آل عليِّ بن أبي طالب يتقدّمه في ذلك الوقت.

وذكره النسّابة العمري في «المجدي» وأطراه بما ملخَّصه: كان مشهوراً بالشعر رثى يحيى بن عمرو كان أشعر ولد أبيه يكنّى أبا الحسين. وقال في ترجمة الشريف الرضي: هو أشعر قريش إلى وقتنا وحسبك أن يكون قريش في أوّلها الحرث بن هشام والعبلي وعمر بن أبي ربيعة وفي آخرها بالنسبة إلى زمانه محمد بن صالح الموسوي وعليّ بن محمد الحِمّاني.

٥٨

وذكره الرفاعي في «صحاح الأخبار» ص ٤٠ وقال: كان شهماً شجاعاً شاعراً مفلقاً وخطيباً مصقعاً. وأثنى عليه بالعلم وجودة الشعر سهل بن عبد الله البخاري النسّابة في «سرِّ السلسلة» وصاحب (بحر الأنساب المشجَّر) والبيهقي في «لباب الأنساب» وإبن المهنَّا في «عمدة الطالب» ٢٦٩ وذكر الأخير: إنَّ له ديوان شعر مشهور.

وقال الحموي في «معجم الأدباء» ٥ ص ٢٨٥ في ترجمة محمد بن أحمد الحسيني العلوي بعد ما أثنى عليه بأنَّه شاعرٌ مفلقٌ، وعالمٌ محقِّقٌ، شائع الشعر، نبيه الذكر، ليس في ولد الحسن من يشبهه، بل يُقاربه عليُّ بن محمد الأفوه.

وحكى صاحب «نسمة السحر» عن الحموي أنَّه قال: كان المترجم في العلويَّة من الشهرة والأدب والطبع كعبد الله بن المعتزّ في العبّاسيَّة وكان يقول: أنا شاعرٌ وأبي شاعرٌ وجِّدي شاعرٌ إلى أبي طالب.

كان سيِّدنا الحِمّاني، في جانب عظيم من الإباء والحماسة وقوَّة القلب، ورباطة الجاش، وصراحة اللهجة، والجرأة على مناوئيه. كلُّ ذلك وراثةً من سلفه الطاهر وبيته الرفيع، قال المسعودي: لَمّا دخل الحسن بن إسماعيل الكوفة وهو صاحب الجيش الذي لقي يحيى بن عمر (الشهيد سنة ٢٥٠) قعد على سلامه ولم يمض إليه ولم يتخلّف عن سلامه أحدٌ من آل عليِّ بن أبي طالب الهاشميِّين، وكان عليُّ بن محمد الحِمّاني مفتيهم بالكوفة (إلى أن قال): فتفقَّده الحسن بن إسماعيل وسأل عنه وبعث بجماعة فأحضروه فأنكر الحسن تخلّفه فأجابه عليُّ بن محمد بجواب مستقتلٍ آيسٍ من الحياة فقال: أردتُ أن آتيك مهنِّأً بالفتح وداعياً بالظفر. وأنشد شعراً لا يقوم على مثله من يرغب في الحياة:

قتلت أعزَّ من ركب المطايا

وجئتك أستلينك في الكلامِ

وعزَّ عليَّ أن ألقاك إلّا

وفيما بيننا حدُّ الحسامِ

ولكنَّ الجناح إذا أُهيضت

قوادمه يرفُّ على الأكامِ

فقال له الحسن بن إسماعيل: أنت موتورٌ فلست أنكر ما كان منك. وخلع عليه وحمله إلى منزله(١)

_____________________

١ - مروج الذهب ٢ ص ٣٢٢ وفي طبعة ٤١١.

٥٩

حبسه أبو أحمد الموفَّق بالله المتوفّى ٢٧٨ مرَّتين مرَّة لكفالته بعض أهله. ومرَّة لسعاية عليه من أنَّه يريد الخروج على الخليفة فكتب إليه من الحبس:

قد كان جدّك عبد الله خير أب

لإبني عليّ حسين الخير والحسنِ

فالكفّ يوهن منها كلّ أنملة

ما كان من أختها الأُخرى من الوهنِ

فلمّا وصل إليه الشعر كفل وخلّى سبيله، فلقيه أبو عليّ وقال له: قد عدت إلى وطنك الذي تلذّه، وإخوانك الَّذين تحبّهم. فقال: يا أبا علي؟ ذهب الأتراب والشباب والأصحاب وأنشد:

هبني بقيتُ على الأيّام والأبدِ

ونلتُ ما شئتُ من مالٍ ومن ولدِ

من لي برؤية من قد كنت آلفه

وبالشَّباب الَّذي ولّى ولم يعدِ

لا فارق الحزن قلبي بعد فرقتهم

حتّى تفرَّق بين الروح والجسدِ(١)

ومن نماذج شعره قوله:

بين الوصيِّ وبين المصطفى نسبٌ

تختال فيه المعالي والمحاميد

كانا كشمس نهار في البروج كما

أدارها ثَمَّ أحكام وتجويدُ

كسيرها انتقلا من طاهرٍ علَم

إلى مطهَّرة آبائها صيدُ

تفرَّقا عند عبد الله واقترنا

بعد النبوَّة توفيقٌ وتسديدُ

وذرَّ ذو العرش ذرّاً طاب بينهما

فانبثَّ نورٌ له في الأرض تخليدُ

نورٌ تفرَّع عند البعث فانشعبت

منه شعوبٌ لها في الدين تمهيدُ

هم فتيةٌ كسيوف الهند طال بهم

على المطاول آباءٌ مناجيدُ

قومٌ لماء المعالي في وجوههمُ

عند التكرُّم تصويبٌ وتصعيدُ

يدعون أحمد إن عدَّ الفخار أباً

والعود ينسب في أفنائه العودُ

والمنعمون إذا ما لم تكن نعمٌ

والذائدون إذا قلَّ المذاويدُ

أوفوا من المجد والعلياء في قلل

شمٍّ قواعدهنَّ الفضل والجودُ

ما سوَّد الناس إلّا من تمكّن في

أحشائه لهمُ ودٌّ وتسويدُ

سبط الأكفّ إذا شيمت مخايلهم

أُسد اللقاء إذا صيد الصناديدُ

_____________________

١ - مروج الذهب ٢ ص ٣٢٣، وفي طبعة ٤١٤، أنوار الربيع ص ٤٨١.

٦٠