الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٤

الغدير في الكتاب والسنة والأدب13%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 423

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201786 / تحميل: 8832
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ألجزء الرابع

بقية شعراء الغدير فى القرن

الرابع و شعراءه فى القرن الخامس و شطر من

السادس و هم واحدو ثلثون شاعراً

و الله مستعان

١

بسم الله الرحمن الرحيم

ألحمد لِلَّه على ما عرَّفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربّوبيَّته، ودلَّنا عليه من الإخلاص في توحيده، وجنَّبنا من الإلحاد والنفاق والشِّقاق والشكِّ في أمره، ومنَّ علينا بسيِّد رُسله صلّى الله عليه وآله، و أكرمنا بالثَّقلين خليفتي نبيِّه:كتاب الله العزيز. والعترة الطاهرة سلام الله عليهم، وأسعد حظَّنا بتواصل أشواطنا في السعي وراء صالح المجتمع، ووفَّقنا لِلسير في سبيل الخدمة لِلمِلأ وفي مقدَّمهم روّاد العلم والفضيلة، وأثبت أقدامنا في جدَد الحقِّ والحقيقة، وتعالى في تلك الجدةَ جدّنا، وتوالت بسعد الجدّ صحائف أعمالنا وآثار يراعنا، ونحن نستثبت في الأمر ولا نتفوَّه إلّا بثبت، والله وليُّ التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النَّصير.

عبد الحسين أحمد

الامينى

٢

بقية شعراء الغدير

في لقرن الرابع

٢٢

أبو الفتح كشاجم

ألمتوفى ٣٦٠

له شغلٌ عن سؤال الطللْ

أقام الخليط به ؟ أم رحلْ ؟

فما ضمنته لحاظ الظبا

تطالعه من سجوف الكللْ

ولا تستفزُّ حجاه الخدود

بمصفرَّة واحمرار الخجلْ

كفاه كفاه فلا تعذلاه

كرّ الجديدين كرّ العذلْ

طوى الغيّ مشتعلاً في ذراه

فتطفى الصبابةُ لمّا اشتغلْ

له في البكاءِ على الطاهرين

مندوحةُ عن بُكاء الغزلْ

فكم فيهمُ من هِلالٍ هوى

قُبيل التمام وبدرٍ أفلْ

همُ حجج الله في خلقه

ويوم المعاد على من خذلْ

ومَن أنزل الله تفضيلهم

فردَّ على الله ما قد نزلْ

فجدّهمُ خاتم الأنبياء

ويعرف ذاك جميع المللْ

ووالدهم سيِّد الأوصياء

ومُعطي الفقير ومردي البطلْ

ومن علّم السّمر طعن الحلي

لدى الروع والبيض ضرب القللْ

ولو زالت الأرض يوم الهياج

من تحت أخمصه(١) لم يزلْ

ومن صدَّ عن وجه دنياهمُ

وقد لبست حليها والحللْ

وكان إذا ما اُضيفوا إليه

فأرفعهم رتبةً في المَثَلْ

سماءٌ اُضيف إليها ألحضيض

وبحرٌ قرنت إليه الوَشَلْ(٢)

____________________

(١) أخمص القدم:ما لا يصيب الارض من باطنها، ويراد به القدم كلها.

(٢) الوشل كما مر:الماء القليل يتحلب من صخر أو جبل.

٣

بجودٍ تعلّم منه السحاب

و حلمٍ تولَّد منه الجبَلْ

وكم شبهة بهُداه جلا

وكم خُطّة بحجاه فصلْ

وكم أطفأ الله نار الضَّلال

به وهي ترمي الهدى بالشعلْ

و مَن رَدَّ خالقنا شمسه

عليه وقد جنحت للطفلْ(١)

و لو لم تعد كان في رأيه

و في وجهه من سناها بدلْ

و من ضَرب الناس بالمرهفات

على الدين ضربّ عراب الإبلْ

و قد علموا أنّ يوم الغدير

بغدرهمُ جرَّ يوم الجملْ

فيا معشر الظالمين الّذين

أذا قوا النبيَّ مضيض الثكلْ

إلى أن قال:

يُخالفكم فيه نصُّ الكتاب

وما نصَّ في ذاك خير الرُّسلْ

نبذتم وصيَّته بالعراء

و قلتم عليه الَّذي لم يقلْ

إلى آخر قصيدته الموجودة في نسخ ديوانه المخطوط ٤٧ بيتاً وقد أسقط ناشر ديوانه من القصيدة ما يخالف مذهبه وليست هذه بأوَّل يد حرَّفت الكلّم عن مواضعها.

( الشاعر )

أبو الفتح محمود بن محمَّد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي(٢) ألمعروف بكشاجم. هو نابغةٌ من رجالات الاُمَّة، وفذُّ من أفذاذها، وأوحديُّ من نياقدها، كان لا يُجارى ولا يُبارى، ولا يُساجل ولا يُناضل، فكان شاعراً كاتباً متكلّماً منجِّماً منطقيّاً محدِّثاً، ومن نُطس الأواسيِّ محقِّقاً مدقِّقاً مجادلاً جواداً.

فهو جمُاع الفضايل وإنَّما لقّب نفسه بكشاجم إشارةً بكلِّ حرف منها إلى علم فبالكاف إلى أنَّه كاتب، وبالشين إلى أنَّه شاعر، وبالألف إلى أدبه أو إنشاده، و بالجيم إلى نبوغه في الجدل أو جوده، وبالميم إلى أنَّه متكلّم أو منطقيُّ أو منجِّمٌ، و لمّا ولع في الطلبِّ وبرع فيه زاد على ذلك حرف الطاء فقيل:طكشاجم. إلّا أنَّه

____________________

١ - طفلت الشمس:دنت للغروب. مر حديث رد الشمس في الجزء الثالث ١٢٦ - ١٤١.

٢ - نسبة إلى الرملة من أرباض فلسطين.

٤

لم يشتهر به، هذا ما طفحت به المعاجم(١) في تحليل هذا اللقب على الخلاف الّذي أوعزنا إليه في الإشارة، لكن الرجل بارع في جميع ما ذكر من العلوم ولعلّه هو المنشأ للإختلاف في التحليل.

ادبه وشعره

إنَّ المترجَم قدوةٌ في الأدب وأسوةٌ في الشعر، حتّى انَّ الرفاء السري الشاعر المفلق على تقدُّمه في فنون الشعر والأدب كان مغرى بنسخ ديوانه، وكان في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب(٢) ولشهرته بهذا الجانب قال بعضهم:

يا بؤس من يمنى بدمع ساجم

يهمى على حجب الفؤاد الواجمِ(٣)

لولا تعلّله(٤) بكأس مُدامة

ورسائل الصّابي وشعر كشاجمِ(٥)

دوَّن شعره أبو بكر محمَّد بن عبد الله الحمدوني، ثمَّ ألحق به زيادات أخذها من أبي الفرج إبن كشاجم.

وشعره كما تطفح عنه شواهد تضلّعه في اللغة والحديث، وبراعته في فنون الأدب والكتاب والقريض، كذلك يقيم له وزناً في الغرائز الكريمة النفسيَّة، ويمثِّله بملكاته الفاضلة كقوله:

شهرت نداي مناصبٌ لي

في ذرى كسرى صريحهْ

وسجيَّةٌ لي في المكا

رم إنَّني فيها شحيحهْ

متحيِّزاً فيها معلّى المجـ

ـد مجتنباً منيحهْ

ولقد سننت فيها من الكتا

بة للورى طرقاً فسيحهْ

وفضضت من عذر المعا

ني الغرِّ في اللغة الفصيحهْ

وشفعت مأثور الروا

ية بالبديع من القريحهْ

و وصلت ذاك بهمَّةٍ

في المجد سائبةٍ طموحهْ

____________________

١ - راجع شذرات الذهب ج ٣ ص ٣٧، والشيعة وفنون الاسلام ص ١٠٨.

٢ - تاريخ إبن خلكان ج ١ ص ٢١٨.

٣ - يمنى:يبتلى ويصاب. يهمى:يسيل. الواجم:العبوس من شدة الحزن.

٤ - علل فلاناً بكذا:شغله. أو:لهاه به.

٥ - معجم الادباء ج ١ ص ٣٢٦.

٥

عزيمةٍ لا بالكليلـ

ـة في الخطوب ولا الطليحه

كلتاهما لي صاحبٌ

في كلِّ داميةٍ جموحهْ

ويحكي القارئ عن نبوغه وسرده المعاني الفخمة في أسلاك نظمه، ورقّة لطائفه، وقوَّة أنظاره، ودقَّة فكرته، ومتانة رويَّته قوله:

لو بحقٍّ تناول النجمِ خلقٌ

نلت أعلى النجوم باستحقاقِ

أو لَيس اللسان منّي أمضى

من ظبات المهنّدات الرقاقِ ؟

ويدي تحمل الأنامل منها

قلماً ليس دمعه بالراقي

أفعواناً تهاب منه الأعادي

حيَّة يستعيذ منها الرّاقي

وتراهُ يجود من حيث تجري

منه تلك السموم بالدِّرياقِ

مطرقاً يهلك العدوّ عقاباً

ويريش الوليّ ذا الأخفاقِ

وسطورٌ خططتها في كتاب

مثل غيم السحابة الرَّقراقِ

صغت فيه من البيان حليّاً

باختراع البعيد لا الاشفاقِ

وقوافٍ كأنَّهن عقود الد

رّ منظومة على الأعناقِ

غررٌ تظهر المسامع تيهاً

حين يسمعنها على الأحداقِ

ويحار الفهم الرَّقيق إذا ما

جال منهنَّ في المعاني الرِّقاقِ

ثاويات معي وفكري قد

سيَّرها في نوازح الآفاقِ

وإذا ما ألمَّ خطبٌ فرأسي

فيه مثل الشهاب في الأعناقِ

وإذا شئت كان شعري أحلي

من حديث الفتيان والعشّاقِ

حلف مشمولة وزير عوان

أسدٌ في الحروب غير مطاقِ

إصطباحي تنفيذ أمرٍ ونهي

ومن الراح بالعشيِّ اغتباقي

ووقور الندى ولا اُخجل الشا

رب منه ولا أذمُّ الساقي

أنزع الكأس إن شربت وأ

سقيه دهاقاً صحبي وغير دهاقِ

و معدٌّ لِلصيد منتخبات

من اُصول كريمة الأعراق

مضمرات كأنَّها الخيل تطوى

كلّ يوم بطونها للسِّباق

رايقات الشباب مكتسبات

حللاً من صنيعة الخلاق

٦

تصف البيض والجفون إذا ما

أخرجت ألسناً من الأشداقِ

وكأنَّ المها إذا ما رأتها

حذرت واستطامنت في وثاقِ

مع ندامي كأنَّهم والتَّصافي

خُلقوا من تألّفٍ واتِّفاقِ

والباحث يجد شاعرنا عند شعره معلِّماً أخلاقيّاً فذّاً بعد ما يرى أمثلة خلايقه الكريمة، ونفايس سجاياه، وصدقه في ولاءه، وقيامه بشؤون الإنسانيَّة نصب عينيه مهما وقف على مثل قوله:

ولدينا لذي المودَّة حفظٌ

و وفاءٌ بالعهد والميثاقِ

أتواخى رضاه جهدي فلمّا

مسَّه الضرُّ مسَّه إرفاقي

تلك أخلاقنا ونحن اُناسٌ

همّنا في مكارم الأخلاقِ

وقوله:

اُناسٌ أعرضوا عنّا

بلا جُرم ولا معنى

أساؤا ظنّهم فينا

فهلّا أحسنوا الظنّا

وخلّونا ولو شاؤا

لعادوا كالَّذي كنّا

فإن عادوا لنا عُدنا

وإن خانوا لَما خُنّا

وإن كانوا قد اشتغلوا

فإنّا عنهمُ أغنى

وقوله من قصيدة يمدح بها إبن مقلة:

كم فيَّ من خلّة لوانَّها امتحنت

أدَّت إلى غبطةٍ أو سدَّت الخلّه

وهمَّةٍ في محلِّ النجم موقعها

وعزمة لم تكن في الخطب منجلّه

وذلَّةٍ أكسبتني عزّ مكرمةٍ

وربّما يُستفاد العزُّ بالذّله

صاحبت سادات أقوام فما عثروا

يوماً على هفوة منّي ولا زلّه

واستمتعوا بكفاياتي وكنت لهم

أوفى من الدرع أو أمضى من الاله

خطُّ يروق وألفاظٌ مهذَّبة

لا وعرة النظم بل مختاره سهله

لو أنَّني منهلٌ منها أخا ظمأ

روت صداه فلم يحتج إلى غلّه

وكم سننتُ رسوماً غير مشكلةٍ

كانت لمن أمَّها مُسترشداً قبله

عمت فلا منشيء الديوان مكتفياً

منها ولم يغن عنها كاتب السلّه

٧

وصاحبتني رجالاتٌ بذلت لها

مالي فكان سماحي يقتضي بذله

فأعمل الدهر في ختلي مكائده

والدهر يعمل في أهل الهوى ختله

لكن قنعت فلم أرغب إلى أحد

والحرُّ يحمل عن أخوانه كلّه

وتراه متى ما أبعده الزَّمان عن أخلاّئه وحجبهم عنه، عزَّ عليه البين، وعظمت عليه شُقَّته، وثقل عليه عبءه، فجاء في شكواه يفزع ويجزع، ويأنُّ ويحنُّ، فيصوِّر على قاريء شعره حنانه وحنينه، ويمثِّل سجاح عينه لوعة وجده، ولهب هواه بمثل قوله:

يا مَن لعين ذرفتْ

و مَن لروحٍ تلفتْ

مُنهلّة عبرتها

كأنَّها قد طرفتْ(١)

إن أمنت فاضت وإن

خافت رقيباً وقفتْ

و إنما بكاؤها

على ليالٍ سلفتْ

وقوله:

يا مُعرضاً لا يلتفتْ

بمثل ليلي لا تبتْ

برَّح هجرانك بي

حتّى رثى لي من شمتْ

علقت قلبي بالمنى

فأحيه أو فأمت

وبما كان [ كشاجم ] مجلوباً بالحنان ولين الجانب، وسجاحة الخلايق، و حسن الأدب، مطبوعاً بالعطف والرأفة، مفطوراً على عوامل الإنسانيَّة، والغرائز الكريمة، ولم يكن شريراً، ولا رديء النفس، ولا بذيَّ اللسان، ولا مسارعاً في الوقيعة في أحد، كان يرى الشعر إحدى مآثره الجمَّة، ويعدُّه من فضايله، وما كان يتَّخذه عدَّةً للمدح، ولا جنَّةً في الهجاء، وما يُهمّه التوجّه إلى الجانبين، لم ير لأيٍّ منهما وزناً، لعدم تحرِّيه التحامل على أحد، وعدم اتِّخاذه مكسباً ليدرّ له أخلاف الرِّزق، ولا آلةً لدنياه وجمع حطامها، وكان يقول:

ولئن شعرتُ لما قصد

ت هجاء شخص أو مديحهْ

لكن وجدت الشعر للـ

ـآداب ترجمةً فصيحهْ

____________________

١ - طرفت عينه:أصابها شيئ فدمعت.

٨

هجاؤه

أخرج القرن الرابع شعراء هجّائين قد اتَّخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقة خاصَّةً من فنون الهجاء، وكلُّ فنّ مع هذه نوعٌ فذُّ في الهجاء، يظهر ميزه متى قرن بالآخر و منهم مُكثرٌ و منهم من استقلَّ، وشاعرنا من الفرقة الثانية، وله فنُّ خاصُّ من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.

ولعلّك تجده في فنِّه المختار مجلوب خلايقه الحسنة، ونفسيّاته الكريمة، وملكاته الفاضلة، فكأنّه قد خمرت بها فطرته، ومزجت بها طينته، أو جرت منه الدم، واستولت على روحه، وحكمت في كلِّ جارحةٍ منه، حتّى ظهرت آياتها في هجاؤه النادر الشاذّ، فيخيَّل إليك مهما يهجو أنَّه واعظٌ بارُّ يخطب، أو نصوحٌ يُودِّد و يُعاتب، أو مجادلٌ دون حقِّه يُجامل، لا أنَّه يغمز ويعيب، ويغيظ في الوقيعة ويُناضل، ويثور ويثأر لنفسه، وتجده قد اتَّخذ الهجاء شكَّة دفاع له لا شكَّة هجوم، وترى كلَّ هجاؤه خليّاً عن لهجةٍ حادَّة، وسُبابٍ مُقذع، عارياً عن قبيح المقال وخبث الكلام، بعيداً عن هتك مهجوِّه، ونسبته إلى كلِّ فاحشة، وقذفه بكلِّ سيِّئة، غير مُستبيح إيذاء مُهجوِّه، ولا مُستحلّ حرمته، ولا مجوِّز عليه الكذب والتهمة، خلاف ما جرت العادة بين كثير من اُدباء العصور المتقادمة، فعليك النظر إلى قوله في بعض إبناء رؤساء عصره وقد أنفذ إليه كتابا فلم يجبه عنه:

هاقد كتبتُ فما رددتَ جوابي

و رجَّعتَ مختوماً عليَّ كتابي

وأتى رسولاً مستكيناً يشتكي

ذلَّ الحجاب ونخوة البوّابِ

وكأنّني بك قد كتبت معذِّراً

وظلمتني بملامةٍ وعتابِ

فارجع إلى الإنصاف و أعلم أنَّه

أولى بذي الآداب والأحسابِ

يا رحمة الله التي قد أصبحت

دون الأنام عليَّ سوط عذابِ

بأبي و اُمّي أنت من مستجمع

تيه القيان ورقَّة الكتّابِ

وقوله الآخر في هجاء جماعة من الرؤساء:

عدمت رئاسة قوم شقوا

شباباً ونالوا الغنى حين شابوا

حديثٌ بنعمتهم عهدهم

فليس لهم في المعالي نصابُ

٩

يرون التكبّر مُستصوباً

من الرأي والكبر لاُ يستصابُ

وإن كاتبوا صارفوا في الدعاء

كأنَّ دعاؤهُم مُستجابُ

ومن لطيف شعره في الهجاء قوله:

إنَّ مظلومة التي

زوّجت من أبي عمرْ

ولدت ليلة الزفا

ف إلى بعلها ذَكَرْ

قلت:من أين ذا الغلا

م و ما مسَّها بشرْ ؟

قال لي بعلها:ألم

يأت في مسند الخبرْ ؟

ولد المرأ للفرا

ش وللعاهر الحجَرْ

قلت:هنَّيته على

رغم مَن أنكر الخبرْ

كشاجم والرياسة

وبما كان المترجَم كما سمعت مطبوعاً بسلامة النَّفس، وقداسة النَفَس، و طيب السريرة، متحلّياً بمكارم الأخلاق، خالياً من المكيدة و المراوغة والدسيسة، مزاولاً عن البذاء والايذاء والإعتساف، كان مترفِّعاً نفسه عن الرتبة وإشغال المنصَّة في أبواب الملوك والولاة، وما كان له مطمعٌ في شأن من الوزراء والولاية والكتابة و العمالة عند الاُمراء والخلفاء، وما أتَّخذ فضايله الجمَّة لها شرَكاً، ولنيل الآمال وسيلةً، وكان يرى التقمّص بالرَّياسة من مرديات النَّفس ويقول:

رأيت الرّياسة مقرونةً

بلبس التكبّر والنخوهْ

إذا ما تقمَّصها لابسٌ

ترفَّع في الجهر والخلوهْ

ويقعد عن حقّ إخوانه

ويطمع أن يهرعوا نحوهْ

و ينقصهم من جميل الدعاء

ويأمل عندهم الحظوهْ

فذلك إن أنا كاتبته

فلا يسمع الله لي دعوهْ

ولستُ بآتٍ له منزلاً

و لو انَّه يسكن المروهْ

وكان بالطبع والحال هذه ينهي أوليائه عن قبول الوظايف السلطانيّة، والتولّي بشيءٍ من المناصب عند الحُكّام، ويحذِّرهم عن التصدّي بوظيفةٍ من شؤون الملك والمملكة، ويمثِّل بين يديهم شنعة الايتمار، وينبِّههم بما يقتضيه الترأس من الظلم

١٠

والوقيعة في النفوس، ونصب العداء لمخالفيه، وما يوجب من دحض الحقِّ، وإضاعة الحقوق، ورفض مكارم الأخلاق. وحسبك ما كتبه إلى صديق له وكان قد تقلَّد البريد من قوله:

صرت لي عامل البريد مقينا(١)

وقديماً إليَّ كنت حبيبا

كنت تستثقل الرقيب فقد صر

ت علينا بما وليت رقيبا

كرهتك النفوس وانحرفت عنك

قلوبٌ وكنت تسبي القلوبا

أفلا يعجب الأنام بشخصٍ

صار ذئباً وكان ظبياً ربيبا؟!

حكمه ودرر كلمه:

فياله في شعره من شواهد صادقة تمثِّله بهذا الجانب العظيم، وتُعرب عن قَدم صدقه في حثِّ اُمَّته إلى المولى سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبتِّ الدَّعوة إليه بدُرر الكلم وغُرر الحِكَم، وإصلاح اُمَّته ببيان بحقيقة، وتشريح دعوة النَّفس الأمّارة بالسّوء، وهن حكميّاته قوله:

ليس خلقٌ إلّا وفيه إذا ما

وقع الفحص عنه خيرٌ وشرٌّ

لازمٌ ذاك في الجبلَّة لا يد

فعه مَن له بذلك خبرُ

حكمة الصانع المدبِّر أن لا

شيىء إلّا وفيه نفعٌ وضرٌّ

فاجتهد أن يكون أكبر قسمـ

ـيك من النفع والاقل الأضرٌّ

وتحمَّل مرارة الرأي واعلم

أنّ عقبى هواك منه أمرٌّ

رُض بفعل التدبير نفسك واقصر

ها عليه ففيه فضلٌ وفخرُ

لا تُطعها على الذي تبتغيه

وليرعها منك اعتسافٌ وقهرُ

إنَّ مِن شأنَّها مجانبة الخـ

ـير وإتيان كلَ ما قدَ يغرُّ

وقوله:

عجبي ممَّن تعالت حاله

وكفاه الله زّلات الطلبْ

كيف لا يقسم شطري عمره

بين حالين:نعيم وأدبْ ؟!

فإذا ما نال دهراً حظّه

فحديثٌ ونشيدٌ وكتبْ

مرَّة جِدّاً و اُخرى راحةً

فإذا ما غسق الليل انتصبْ

____________________

١ - مذكر المقينة:الماشطة.

١١

يقتضي الدنيا نهاراً حقّها

وقضى لِلَّه ليلاً ما يجبْ

تلك أقسامٌ متى يعمل بها

عاملٌ يسعد ويرشد ويصبْ

ومن كلمه الذهبيَّة في تحليل معنى الرضا عن النَّفس وما يوجب ذلك من سخطها وجموحها ورفض الآداب قوله:

لم أرض عن نفسي مخافة سخطها

ورضى الفتى عن نفسه اغضابها

لو أنَّني عنها رضيت لقصَّرت

عمّا تُريد بمثلها آدابها

وببيننا آثارُ ذاك وأكثرت

عذلي عليه وطال فيه عتابها

ومن حكمه قوله:

بالحرص في الرِّزق يذلُّ الفتى

والصبر فيه الشَّرفُ الشامخُ

ومُستزيدٌ في طلاب الغنى

يجمع لحماً ما له طابخُ

يضيع ما نال بما يرتجي

والنّار قد يطفئها النافخُ

وقوله:

حُلل الشبيبة مستعارهْ

فدع الصّبا واهجر ديارهْ

لا يشغلنك عن العلا

خودٌ تمنِّيك الزيارهْ

خودٌ تطيِّب طيبها

ويزين ساعدها سوارهْ

يحلو أوائل حبّها

ويشوب آخره مرارهْ

ما عذر مثلك خالعاً

في سكر لذِّته عذارهْ

من بعد ما شدَّ الأشدّ

على تلابيه ازارهْ

من ساد في عصر الشبا

ب غدت لسودده غفارهْ

ما الفخر أن يغدو الفتى

متشبِّعاً ضخم الحرارهْ

كلفاً بشرب الراح مشـ

ـغوفاً بغزلان الستارهْ

مهجورةً عرصاته

لا تقرب الأضياف دارهْ

ألفخر أن يُشجي الفتي

أعداؤه و يُعزُّ جارهْ

و يَذبُّ عن أعراضه

ويَشبُّ لِلطرّاق نارةْ

ويروح إمّا للإمـ

رة سعيه أو لِلوزارهْ

١٢

فرد الكتابة والخطا

بة والبلاغة والعبارهْ

متيقّظ العزمات يجـ

ـتنب الكرى إلّا غرارهْ

فكأنَّه مِن حدَّةٍ

ونفاذ تدبيرٍ شرارهْ

حتّى يُخاف ويُرتجى

ويُرى له نشبٌ وشارهْ

في موكب لجب كأنَّ

الليل ألبسه خمارهْ

تزهي به عصبٌ تنفِّض

عن مناكبه غبارهْ

و يُطيل إبناء الرغا

ـئب في مشاكلّه انتظارهْ

فادأب لمجدٍ حادثٍ

أو سالف يعلي منارهْ

واعمر لِنفسك في العلا

حالاً وكن حسن العمارهْ

و اقمر لها سوقاً يُنـ

فِّقها وتاجرها تجارهْ

لا تَغدُ كلّاً واجتنب

أمراً يخاف الحرُّ عارهْ

وإذا عدمت عن المآ

كلّ خيرها فكلّ الحجارهْ

رحلة كشاجم

غادر المترجم بيئة نشأته [ الرملة ] إلى الأقطار الشرقيَّة، وساح في البلاد، ورحل رحلة بعد اُخرى إلى مصر وحلب والشام والعراق، وكان كما كان في قصيدته التي يمدح بها إبن مقلة بالعراق:

هذا على أنَّني لا أستفيق ولا

أفيق من رحلة في إثرها رحله

وما على البدر نقصٌ في إضاءته

أن ليس ينفكُّ من سيرو من نقله

وقال وهو في مصر:

قد كان شوقي إلى مصر يُؤرِّقني

فاليوم عدتُ وغادت مصر لي دارا

أغدو إلى الجيزة الفيحاء مُصطحباً(١)

طوراً وطوراً اُرجِّي السير أطوارا

بينا اُسامي رئيساً في رياسته

إذ رحتُ أحسب في الحانات خمّارا

فللد و اوين اصباحي ومُنصرفي

إلى بيوت دُمى يعلمن أوتارا

أمَّا الشباب فقد صاحبت شرَّته

وقد قضيت لبانات وأوطارا

____________________

١ - ألجيزة:بليدة في غربّي فسطاط مصر.

١٣

من شادنٍ من بني الأقباط يعقدما

بين الكثيب وبين الخضر زنّارا

وكأنَّه في بعض آناته يرى نفسه بين مصر والعراق، ويتذكّر أدواره فيهما، و ما ناله في سفره إليهما من سرّاء أو ضرّاء، أو شدَّة أو رخاء، وما حظي من الأهلين من النِّعمة والنقمة، والإكبار والإستحقار، فيمدح هذا ويذمُّ ذلك فيقول:

يا هذا قلت فاسمعي لفتى

في حاله عبرةٌ لمعتبره

أمرت بالصبر والسلوِّ ولو

عشقت ألفيت غير مصطبره

من مبلغ إخوتي ؟ وإن بعدوا

: إنَّ حياتي لبعدهم كدِره

قد همتُ شوقاً إلى وجوههم

تلك الوجوه البهيَّة النضره

إبناء ملك علاهُم بهُم

على العلا والفخار مفتخره

ترمي بهم نعمة تُزيِّنها

مروءةٌ لم تكن ترى نزره

ما أنفك ذا الخلق بين منتصر

على الأعادي بهم ومنتصره

جبال حلمٍ بدور أنديةٍ

اُسد وغى في الهياج مُبتدره

بيض كرام الفعال لا بخل الاً

يدي وليست من الندى صفره

للناس منهم منافعٌ ولهم

منافعٌ في الأنام مُشتهره

متى أراني بمصر جارهم

نسبي بها كلَّ غادةٍ خضره

والنيل مستكملٌ زيادته

مثل دروع الكماة منتثره

تغدو الزواريق فيه مُصعدةً

بنا وطوراً تروح منحدره

والراح تسعى بها مذكّرة

أردانها بالعبير مُختمره

بكران لكن لهذه مائة

وتلك ثنتان وثنتا عشره

يا ليتني لم أرَ العراق ولم

أسمع بذكر الأهواز والبصره

ترفعني تارةً وتُخفضني

اُخرى فمن سهلة ومن وعره

فوق ظهر سلهبة(١)

قطانها والبدار مُغتفره

وتارةً في الفرات طامية

أمواجه كالخيال معتكره

حتّى كأنَّ العراق تعشقني

أو طالبتني يد النوى بتره

____________________

١ - السلهبة:الجسيمة.

١٤

وكان يجتمع في رحلاته مع الملوك والاُمراء والوزراء ويحظىء بجوائزهم، و يستفيد من صِلاتهم، ويتَّصل بمشيخة العلم والحديث والأدب، ويقرأ عليهم، ويسمع عنهم، ويأخذ منهم، وجرت بينه وبينهم محاضرات ومناظرات ومكاتبات، إلى أن تضلّع في العلوم، وحاز قصب السبق في فنون متنوِّعة، وتقدَّم في الكتابة والخطابة، وحصل له من كلِّ فنّ حظّه الأوفى، ونصيبه الأعلى حتّى عرَّفه المسعودي في ( مروج الذهب ) ٢ ص ٥٢٣ بأنَّه كان من أهل العلم والرواية والأدب.

عقيدته

إنَّ عصر المترجَم من العصور التي زاعت فيه النحل والمذهب، وشاعت فيه الأهواء والآراء، وقلَّ فيه من لا يرى في العقايد رأياً يفسِّر به إسلامه وهو ينصُّ به على خبيئة قلبه تارةً ويضمرها اُخرى، وأمّا شاعرنا فكان في جانبٍ من ذلك، إماميّاً صادق التشيّع، موالياً لأهل بيت الوحي، متفانياً في ولائهم، ويجد الباحث في خلال شعره بيِّنات تظاهره بالتهالك في ولاء آل الله، وبثِّه الدعوة إليهم بحججه القويَّة، والتفجّع في مصابهم والذبِّ عنهم، والنيل من مناوئيهم، واعتقاده فيهم أنَّهم وسايله إلى المولى في الحاضرة، وواسطة نجاحه في الآخرة.

وكان من مصاديق الآية الكريمة:يُخرج الحيّ من المَيت. فإنَّ نصب جدِّه السندي إبن شاهك وعدائه لأهل البيت الطاهر وضغطه وإضطهاده الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه في سجن هارون ممّا سار به الرُّكبان، وسوَّدت به صحيفة تاريخه، إّلا أنَّ حفيده هذا باينه في جميع نزعاته الشيطانيّة، فهو من شعراء أهل البيت المجاهرين بولائهم، المتعصِّبين لهم، الذابِّين عنهم ولا بدع فإنَّ الله هو الذي يخرج الدُّر من بين الحصى، ويُنبت الورد محتفّاً بالأشواك، فمَن نمازج شعره في المذهب قوله:

بكاءٌ وقلَّ غناء البكاءِ

على رزء ذريَّة الأنبياءِ

لئن ذلَّ فيه عزيز الدُّموع

لقد عزَّ فيه ذليل العزاءِ

أعاذلتي إنَّ برد التّقى

كسانيه حبّي لأهل الكساءِ

سفينة نوح فمن يعتلق

بحبِّهمُ يعتلق بالنجاءِ

١٥

لعمري لقد ضلَّ رأي الهوى

بأفئدة من هواها هوائي

وأوصى النبيُّ ولكن غدت

وصاياه مُنبذةً بالعراءِ

ومن قبلها أمر الميِّتون

بردِّ الاُمور إلى الأوصياءِ

ولم ينشر القوم غلّ الصدو

ر حتّى طواه الرَّدى في رداءِ

ولو سلّموا لإمام الهدى

لقوبل معوجّهم باستواءِ

هلالٌ إلى الرشد عالي الضيا

وسيفٌ على الكفر ماضي المضاءِ

وبحرٌ تدفَّق بالمعجزات

كما يتدفَّق ينبوع ماءِ

علومٌ سماويَّةٌ لا تُنال

ومَن ذا ينال نجوم السماء ؟

لعمري الاولى جحدوا حقَّه

وما كان أولاهُم بالولاءِ

وكم موقف كان شخص الحمام

من الخوف فيه قليل الخفاءِ

جلاه فإن أنكروا فضله

فقد عرفت ذاك شمس الضحاءِ

أراها العجاج قُبيل الصَّباح

وردَّت عليه بُعيد المساءِ

وإن وتر القوم في بدرهم

لقد نقض القوم في كربلاءِ

مطايا الخطايا خذي في الظلام

فما همَّ إبليس غير الحداءِ

لقد هتكت حرم المصطفى

وحلَّ بهنَّ عظيم البلاءِ

وساقوا رجالهمُ كالعبيد

وحادوا نساءهمُ كالإماءِ

فلو كان جدُّهمُ شاهداً

ليتبع أظعانهم بالبكاءِ

حقودٌ تضرَّم بدريَّةٌ

وداءُ الحقود عزيزُ الدواءِ

تراه مع الموت تحت اللوا

ء والله والنصَّر فوق اللواءِ

غداة خميس إمام الهدى

وقد غاث فيهم هزبر اللقاءِ

وكم أنفس في سعيرٍ هوت

وهام مطيَّرة في الهواءِ

بضربٍ كما انقدَّ جيب القميص

وطعن كما انحلَّ عقد السقاءِ

وخيرة ربّي من الخيرتين

وصفوة ربّي من الأصفياءِ

طهرتم فكنتم مديح المديح

وكان سواكم هجاء الهجاءِ

قضيت بحبِّكمُ ما عليَّ

إذا ما دُعيت لفصل القضاءِ

_١_

١٦

وأيقنت أنَّ ذنوبي به

تساقط عنّي سقوط الهباءِ

فصلّى عليكم إ~له الورى

صلاةً توازي نجوم السماءِ

وقوله في مدحهم صلوات الله عليهم:

آل النبيِّ فضلتمُ

فضل النجوم الزاهره

وبهرتمُ أعدائكم

بالمأثرات السائره

ولكم مع الشَّرف البلا

غة والحلوم الوافره

وإذا تفوخر بالعلا

منكم علاكم فاخره

هذا وكم أطفأتمُ

عن أحمد من نائره

بالسّمر تخضب بالنجـ

ـيع(*) وبالسيوف البائره

تشفى بها أكبادكم

من كلِّ نفسٍ كافره

ورفضتمُ الدنيا لذا

فزتم بحظِّ الآخره

وقوله في ولاء أمير المؤمنينعليه‌السلام مشيراً إلى ما رويناه ص ٢٦ في الجزء الثالث ممّا ورد في حبِّ أمير المؤمنين:

حبُّ الوصيِّ مبرَّةٌ وصله

وطهارةٌ بالأصل مكتفله

والنّاس عالمهم يدين به

حبّاً ويجهل حقَّه الجهله

ويرى التشيّع في سراتهمُ

والنّصب في الأرذال والسفله

وقوله في المعنى:

حبُّ عليٍّ علوّ همَّه

لأنّه سيِّد الأئمَّه

ميِّز محبِّيه هل تراهم

إلّا ذوي ثروة ونعمه؟!

بين رئيس إلى أديب

قد أكمل الطرف واستتمَّه

وطيّب الأصل ليس فيه

عند امتحان الاُصول تُهمه

فهم إذا خلصوا ضياء

والنصب الظالمون ظلمه

هذه الأبيات ذكرها له الثعالبي في ( ثمار القلوب ) ص ١٣٦ في وجه إضافة السواد إلى وجه الناصبي، ويأتي مثله في ترجمة الناشي الصغير.

____________________

* - النجيع:من الدم ما كان مائلا الى السواد.

١٧

ولكشاجم يرثي آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله:

أجل هو الرزء فادحهُ

باكره فاجعُ ورائحهُ

لاربع دارٍ عفا ولا طلل

أوحش لمّا نأت ملاقحهُ

فجائعٌ لو درى الجنين بها

لعاد مبيضَّةً مسالحهُ

يا بؤس دهرٍ على آل رسو

ل الله تجتاحهم جوائحهُ(١)

إذا تفكّرت في مصابهمُ

أثقب زند الهموم قادحه

بعضهمُ قربّت مصارعه

وبعضهم بوعدت مطارحهُ

أظلم في كربلاء يومهمُ

ثمَّ تجلّى وهم ذبائحهُ

لا يبرح الغيث كلّ شارقة

تهمى غواديه أو روائحهُ

على ثرى حلّة غريب رسو

ل الله مجروحةٌ جوارحه

ذلَّ حماه وقلَّ ناصره

ونال أقصى مناه كاشحهُ

وسيق نسوأنَّه طِلاح(٢)

أحسن أن تهادى بهم طلائحهُ

وهنَّ يمنعن بالوعيد من النـ

ـوح والملأ الأعلى نوائحه

عادى الأسى جدّه ووالده

حين استغاثتهما صوائحهُ

لو لم يُرد ذو الجلال حربهم

به لضاقت بهم فسائحهُ

وهو الذي اجتاح حين ما عقر

ت ناقته إذ دعاه صالحهُ

يا شيع الغيِّ والضَّلال ومن

كلّهمُ جمَّة فضائحهُ

غششتم الله في أذيَّة مَن

إليكُم اُدِّيت نصائحهُ

عفرتمُ بالثرى جبين فتىً

جبريل قبل النبيِّ ماسحهُ

سيّان عند الإله كلُكمُ

خاذله منكمُ وذابحهُ

على الذي فاتهم بحقِّهم

لعنٌ يغاديه أو يُراوحهُ

جهلتمُ فيهم الذي عرفه البيـ

ـت وما قابلت أباطحهُ

إن تصمتوا عن دعائهم فلكم

يوم وغى لا يُجاب صائحهُ

____________________

م - ١ - جاحه واجاجه واجتاحه:استأصله وأهلكه. جوائح جمع جائحة:البلية والداهية العظيمة )

م - ٢ - طلاح:معيية من السفر ).

١٨

في حيث كبش الرِّدي يُناطح من

أبصر كبش الورى يُناطحهُ

وفي غدِ يعرف المخالف من

خاسر دينِ منكم و رابحهُ

وبين أيديكُم حريق لظى

يلفح تلك الوجوه لافحهُ

إن عبتموهم بجهلكم سفهاً

ما ضرَّ بدر السَّماء نائحهُ

أو تكتموا الحق فالقرآن مشكله

بفضلهم ناطقٌ و واضحهُ

ما أشرق المجد من قبورهم

إلّا و سكّانها مصابحهُ

قومٌ أبى حدُّ سيف والدهم

للدين أو يستقيم جامحهُ

وهو الذي استأنس الزَّمان به

والدين مذعورةٌ مسارحهُ

حاربه القوم وهو ناصره

قِدما وغشّوه وهو ناصحهُ

وكم كسى منهم السيوف دماً

يوم جلاد يطيح طائحهُ

ما صفح القوم عندما قدروا

لمّا جنت فيهمُ صفائحهُ

بل منحوه العناد واجتهدوا

أن يمنعوه والله مانحهُ

كانوا خفافاً إلى أذيّته

وهو ثقيل الوقار راجحهُ

وله قوله:

زعموا أنَّ من أحبَّ عليّاً

ظلَّ لِلفقر لابساً جلبابا

كذبوا من أحبَّه من فقيرٍ

يتحلّى من الغنى أثوابا

حرّفوا منطق الوصيِّ بمعنى

خالفوا إد تأوَّلوه الصَّوابا

إنَّما قال:ارفضوا عنكم الد

نيا إذا كنتمُ لنا أحبابا

مشايخه وتآليفه

لم نقف في المصادر التي بين أيدينا على ما يفيدنا في التنقيب عن أيّام صباه، و كيفيَّة تعلّمه، وأساتذته في فنونه، ومشايخه في علومه، والمصادر برمَّتها خاليةٌ من البحث عن هذا الجانب إلّا أنَّ شعره يُفيدنا تلمّذه على الأخفش الأصغر عليِّ بن سليمان المتوفّى سنة ٣١٥ فهو إمّا قرأ عليه في مصر أيَّام الأخفش بها وقد ورد الأخفش مصر سنة ٢٨٧ وخرج منها إلى حلب سنة ٣٠٦، وإمّا في بغداد قبل أن غادرها الأخفش إلى مصر، إذ يذكر قرائته عليه في قصيدة يمدحه بها في الشام حينما نزل بها الأخفش

١٩

إما في رواحه إلى مصر، إمّا في أوبته عنها فقال:

فلمّا خُيِّل الصبح

ولمّا يبدُ تبليجه

واتبعت العرا وجهاً

كسى البشر تباهيجه

إلى كعبة آداب

بأرض الشام محجوجه

إلى معدن بالحكمة

والآداب ممزوجه

سماعيٌّ قرائيٌّ

له في العلم مرجوجه

ومَن يعدل بالعلم

من المنآد تعويجه

إذ الأخبار حاجته

ثناها وهي محجوجه

به تغدو من الشكِّ

قلوب القوم مثلوجه

و يلقى طرق الحكمة

للأفهام منهوجه

لكي يفرج عنّي الخطـ

ـب لا أسطيع تفريجه

وكي يمنحني تأديبـ

ـه المحض وتخريجه

ومَن أولى بتقريب

خلا من كنت ضرِّيجه

ومن توَّجني من علـ

ـمه أحسن تتويجه

له أدب النديم كما في فهرست إبن النديم.

٢ - كتاب الرسائل.

٣ - ديوان شعره.

٤ - كتاب المصايد والمطارد(١) .

٥ - خصايص الطرف.

٦ - ألصبيح.

٧ - البيرزة في علم الصيد.

ولادته ووفاته

ما عثرنا في الكتب والمعاجم على ما يفيدنا تاريخ ولادته لكن يلوح من شعره الذي يذكر فيه شيبه وهرمه في أوايل القرن الرابع انَّه ولد في أواسط القرن الثالث

____________________

١ - ينقل عنه ابن خلكان في تاريخه ج ٢ ص ٣٧٩.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قاعدةٌ آلية أُخرى

وهي معرفتهم بالخِلْقَة النوريّة

وهي أنّه تعالى أوّل ما بدأ بخلْق نورهم، ثمّ خَلَق جميع الأشياء بعد ذلك. وهذه القاعدة في المعرفة متطابقة المعنى مع الإطار السابق: نزلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم . من الكرامة الوجودية التي حَبَاها اللَّه تعالى لهم، ولن تبلغوا كنه ذلك. وبسبب تطابق المعنى بين الإطارين فهما قاعدة واحدة، ذُكِرا في الرواية الخامسة - المتقدّمة - في لسان الإطار الأوّل.

وقد عقدت أكثر المجامع الحديثية، من الفريقين، باباً لذكر روايات الإطار الثاني، وهي أنّ بدأ الخلقة كان نور النبيّ، ثمّ أنوار أهل بيته، ومن ثمّ بقية الخلق، من العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والجنّة، والسماوات، والأرضين، وعالم الأرواح، وعالم الأجسام....

وقد تعدّدت ألفاظ الحديث بسطاً واختصاراً، واللفظ الجامع لها. ثمّ نعقّبه بالمصادر من الفريقين، ثمّ إشارة مقتضبة لمفاد الحديث وأُمومته لبقية أبواب المعارف.

فأمّا لفظ الحديث من بعض طرقنا، ما روي في الكافي:

( أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد اللَّه، عن محمّد بن عيسى ومحمّد بن عبد اللَّه، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال ، قال اللَّه تبارك وتعالى: يا محمّد، إنّي خلقتك وعليّاً نوراً، يعني روحاً بلا بدن، قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهلِّلُني وتمجِّدني، ثمّ جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت

٤١

تمجّدني وتقدّسني وتهلِّلُني، ثمّ قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة: محمّد واحد، وعليّ واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق اللَّه فاطمة من نور ابتدأها روحاً بلا بدن، ثمّ مَسَحَنا بيمينه فأفضى نوره فينا) (1) .

وكذلك ما رواه الكافي في نفس الباب:

( الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلى بن محمّد، عن أبي الفضل عبد اللَّه بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألْف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون، ويحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلاّ أن يشاء اللَّه تبارك وتعالى.

ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد) (2) .

____________________

1) الكافي، ج1، ص 440، كتاب ‏الحجّة ح3. وكذلك في ‏البحار، ج 15، ح18. وأورد كذلك في ج54، ص193 ح14. ونقلها الصدوق في كتابه التوحيد، باب 15، تفسير آية النور، ص 155.

2) الكافي، ج 1، ص 441، كتاب الحجة، ح 5. وقد ورد مضمون هذا الحديث بألفاظ مختلفة، متواتراً، ومستفيضاً.

وإليك جملة من المصادر:

منها ما روي في الكافي، ج 1، ص 389، باب خلقة أبدان الأئمّة وأرواحهم، وكذلك في نفس الجلد، ص 194، وفيه باب أنّ الأئمّة ( عليهم‌السلام ) نور اللَّه عزّ وجلّ، وكذلك، ج1، ص 442، باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته.

وكتاب (ترتيب الأمالي للصدوق والمفيد والطوسي)، كتاب النبوّة، ج 1، باب تاريخ نبينا سيّد المرسلين، باب 1، بدء الخلق، وفيه 12 حديثاً. وكتاب توحيد الصدوق، باب 15، تفسير آية النور، ص 155. وفي الخصال، الخصلة ألف. ومعاني الأخبار ص 306 وعلل الشرائع، ج1، ص 198. وإكمال الدين للصدوق، ص 193 - 184. ومنتخب بصائر الدرجات. وكذلك في كتاب الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر - للخزاز القمّي. وكذلك في البحار، ج 1، ص 103، أبواب تاريخ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب 1، بدء خلقه وما جرى له في الميثاق، وبدء نوره، =

٤٢

وذكر المجلسي في ضمن شرحه للرواية: فأشهدهم خلقها، أي: خَلَقها بحضرتهم وبعلْمِهم، وهم كانوا مطّلعين على أطوار الخلق وأسراره، فلذا صاروا مستحقّين للإمامة؛ لعلمهم الكامل بالشرائع والأحكام، وعلل الخلق وأسرار الغيوب. وأئمّة الإمامية كلّهم موصوفون بتلك الصفات دون سائر الفرق فيه.

ولا ينافي هذا قوله تعالى: ( مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) (1) ، بل يؤيّده؛ فإنّ الضمير في (ما أشهدتهم) راجع إلى الشيطان وذرّيته، أو إلى المشركين؛ بدليل قوله تعالى سابقاً: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي ) (2) وقوله بعد ذلك: ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (3) ، فلا ينافي إشهاد الهادين للخلق.

قال الطبرسي (رحمه الله): قيل، معنى الآية أنّكم اتّبعتم الشياطين كما يُتّبع من يكون عنده علم لا يُنال إلاّ من جهته، وأنا ما أطْلَعتهم على خلق السماوات والأرض، ولا على خلق أنفسهم، ولم أعطهم العلم بأنّه كيف يُخلق الأشياء، فمن أين يتبعونهم؟ انتهى.

وأجرى طاعتهم عليها: أي أوجب، وألزم على جميع الأشياء طاعتهم، حتّى الجمادات من السماويات والأرضيات، كشقّ القمر، وإقبال الشجر، وتسبيح

____________________

= وكذلك في، ج 15، ص 19 و141. وفي: ج 57، ص 65، حديث 43. وفي مجلد 35، تاريخ أمير المؤمنين، حديث 1. وفي مجلد 54، ص 195، ص 141. وفي مجلد 25، ص 340، ص 24. وفي البحار أيضاً، مجلد 57، كتاب السماء والعالم.

وهناك مصادر كثيرة أُخرى في كتب المتقدمين، كالكليني، والصدوق، وغيرهما. والمتأخرين، كصاحب البحار، والسيد هاشم البحراني، وغيرهما. وكذلك نقل النمازي - صاحب مستدرك سفينة البحار، ج 10، ص 163 - روايات أُخرى في مادة: (ن و ر). وفي مجمع البيان للطبرسي، في ذيل تفسير آية النور. وكذلك في تفسير البرهان.

1) سورة الكهف: 51.

2) سورة الكهف: 50.

3) سورة الكهف: 51.

٤٣

الحصى، وأمثالها ممّا لا يحصى، وفوّض أُمورها إليهم من التحليل، والتحريم، والعطاء، والمنع. وإن كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون، ظاهره تفويض الأحكام كما سيأتي تحقيقه... إلخ (4) .

وكذلك ذكر (قدس سره) في ذيل روايات: أوّل ما خلق من الروحانيين العقل. وذكر له ستّة تفاسير، وقال عقب تفسير الفلاسفة:

فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر، فإنّهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدّم في الخلق لأرواحهم، إمّا على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة. وأيضاً، أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد، أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهم‌السلام علّة غائية لجميع المخلوقات، وأنّه لولاهم لما خلق اللَّه الأفلاك وغيرها. وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الأخبار أنّ جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض على سائر الخلق، حتّى الملائكة والأنبياء.

والحاصل، إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم‌السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات، والعلوم، والكمالات، على جميع الخلق. فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر، كان فيضان الكمالات من اللَّه أكثر... فعلى قياس ما قالوا، يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي انشعبت منه أنوار الأئمّة عليهم‌السلام ، وحمل استنطاقه على الحقيقة. أو بجعله محلاً للمعارف غير المتناهية.

والمراد بالأمر بالإقبال: ترقّيه على مراتب الكمال، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوِصال. وبإدباره: إمّا إنزاله إلى البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال،

____________________

1) البحار، ج 25، ص 343، باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام .

٤٤

فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويشير إليه قوله تعالى: ( قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً ) (1) ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال: الإقبال إلى الخلق، وبالإدبار: الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ؛ ويؤيّده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار على الإقبال وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى (ولا أكْمِلك) يمكن أن يكون المراد ولا أكمِل محبّتك والارتباط بك وكونك واسطة بينه وبيني، إلّا فيمن أحبّه، أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم عليهم‌السلام ، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة، أي هذا النور بعد تشعّبه بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلى اللَّه تعالى. انتهى (2) .

وأمّا في طرق العامّة، فقد ذكر صاحب عبقات الأنوار، السيّد حامد حسين اللكهنوي، عن حديث النور، قال:

الحديث الثامن: ما رووا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، ولمّا خلق اللَّه آدم، قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب...) الحديث.

قال صاحب العبقات: لقد نسب الدهلوي - صاحب التحفة الاثني عشرية - رواية حديث النور إلى الإمامية فقط، وادّعى إجماع أهل السنّة على كونه موضوعاً، ونحن نكشف عن كذب هذه الدعاوى، وعن مدى تعصّب صاحبها وعناده للحق وأهله، بذكر رواة الحديث من الصحابة، والتابعين، وكبار علماء أهل السنّة. ثمّ ذكر أسماء رواة حديث النور من الصحابة وعدّتهم ثمانية، كما ذكر رواة حديث النور من التابعين وعدّتهم ثمانية أيضاً،

____________________

81) سورة الطلاق: 10 - 11.

82) البحار، ج 1، ص 103 - 104.

٤٥

وذكر العلماء والمحدّثين والحفّاظ الذين رَوَوا الحديث في مجاميعهم، وعدّتهم واحد وأربعون، بطرقهم المختلفة. منهم: ابن حنبل، وابنه عبد اللَّه، وابن مرْدَويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عبد البرّ القرطبي، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي المكّي، وابن عساكر الدمشقي، والمحبّ الطبري، والحمويني، والگنجي الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.

ثمّ أخذ (رضوان اللَّه عليه) في إثبات تواتر الحديث، ثمّ ذكر مصادر الحديث واحداً واحداً، وذكر صحّة أسانيد الحديث لديهم، ثمّ ذكر كلام الشيخ ابن عربي في تفسير الحديث، بأنّه: لم يكن أقرب إلى اللَّه تعالى في عالم الهباء - وهو عالم النور - من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب، إمام العالَم بأسره، والجامع لأسرار الأنبياء أجمعين.

ثمّ نَقَل عن ابن عربي في الفتوحات: إنّ جميع الأنبياء يأتيهم الإمداد من تلك الروح الطاهرة لسيّد الأنبياء، في ما يظهرون فيه من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رُسُلاً، وتشريعهم الشرائع.

ونَقَل عنه قوله أيضا ً: إنّ اللَّه لمّا جعل منزِل محمّد (صلّى الله عليه وسلم) السيادة فكان سيداً ومن سواه سوقة، علمنا أنّه لا يُقاوَم؛ فإنّ السَوَقة لا تقاوم ملوكها، فله منزل خاصّ، وللسوقة منزل، ولمّا أُعطي هذه المنزلة وآدم بين الماء والطين، عَلِمنا أنّه الممدّ لكلّ إنسان مبعوث بناموس إلهي أو حكمي، وأوّل ما ظهر من ذلك في آدم؛ حيث جعله اللَّه خليفة عن محمّد (صلّى الله عليه وسلم)، فأمدّه بالأسماء كلّها من مقام جامع الكلم التي لمحمّد (صلّى الله عليه وسلم) (1) .

ثمّ نَقَل كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني، من كتابه اليواقيت والجواهر، وتقريره

____________________

1) الفتوحات المكّية الباب السادس في بدء الخلق.

٤٦

لكلام ابن عربي. ثمّ نَقَل كلام شمس الدين القناري وتقريره لكلام ابن عربي في مصباح الأنس (1) .

ثمّ نَقَل مصادر حديث النور عند الإمامية، فذكر جملة من الروايات عن الكُليني في الكافي، وعن الصدوق في جملة من كتبه، وعن الشيخ المفيد في الاختصاص، والشيخ الطوسي في الأمالي، والراوندي في الخرائج والجرائح، والعلاّمة الحلّي في كشف اليقين، وتفسير فرات الكوفي، وجملة غفيرة أُخرى من علماء الإمامية (2) .

هذا، وقد روي بألفاظ متعدّدة أيضاً، فمنها: ما رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه، كما حكاه عنه صاحب كشف الخفاء (3) ، بسنده، عن جابر بن عبد اللَّه، قال:

(قلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأُمّي، أخبرني عن أوّل شي‏ء خلقه اللَّه قبل الأشياء؟ قال: يا جابر، إنّ اللَّه تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيِّك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللَّه، ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ، ولا جنّة ولا نار، ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جنّي ولا إنسي، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل حَمَلَة العرش، ومن الثاني الكُرسي، ومن الثالث باقي الملائكة.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل السموات، ومن الثاني الأرضين،

____________________

1) مصباح الأُنس، ص 175.

2) عبقات الأنوار، ج 4، ولاحظ الجزء 5؛ فإنّه أطنب في ذلك أيضاً.

3) كشف الخفاء، لإسماعيل بن محمّد العجلوتي الجراحي، المتوفّى سنة 1162، ج 1، ص 311 و 312، مؤسّسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405هـ.

٤٧

ومن الثالث الجنّة والنار. ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم، وهي المعرفة باللَّه، ومن الثالث نورانيتهم، وهو التوحيد لا إله إلاّ اللَّه محمّد رسول اللَّه) الحديث.

كذا في المواهب، وقال فيها أيضاً: واختُلف، هل القلم أوّل المخلوقات بعد النور المحمّدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصحّ أنّ العرش قبل القلم؛ لِمَا ثبت في الصحيح عن ابن عمر، قال: (قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): قدّر اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). فهذا صريح في أنّ التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أوّل خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: (أوّل ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب. فقال: ربّ، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شي‏ء)، رواه أحمد والترمذي وصحّحه.

وروى أحمد والترمذي، وصحّحه أيضاً من حديث أبي رزين مرفوعاً: (إنّ الماء خُلق قبل العرش). وروى السدِّي بأسانيد متعدّدة: (أنّ اللَّه لم يخلق شيئاً ممّا خلق قبل الماء). فيجمع بينه وبين ما قبله؛ بأنّ أوّلية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوّي المحمديّ، والماء، والعرش. انتهى.

وقيل: الأوّلية في كلّ شي‏ء بالإضافة إلى جنسه، أي أوّل ما خلق اللَّه من الأنوار نوري، وكذا باقيها.

وروي في كشف الخفاء - أيضاً - عن كتاب الأحكام لابن القطّان، فيما ذكره ابن مرزوق، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه: (أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) قال: كنت نوراً بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام). انتهى ما في المواهب.

ونبّه الشبراملسي قائلاً: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره، من أنّ اللَّه تعالى له نور قائم

٤٨

بذاته؛ لاستحالته عليه تعالى، لأنّ النور لا يقوم إلاّ بالأجسام، بل المراد خُلِق من نورٍ مخلوقٍ له، قبل نور محمّد، وأضافه إليه تعالى لكونه تولّى خَلْقه. ثمّ قال: ويحتمل أنّ الإضافة بيانية، أي خَلَق نورَ نبيّه من نورٍ هو ذاته تعالى، لكن، لا بمعنى أنّها مادّةٌ خَلَق نور نبيّه منها، بل بمعنى أنّه تعالى تعلّقت إرادته بإيجاد نورٍ بلا توسّط شي‏ء في وجوده. قال: هذا أولى الأجوبة، نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) (1) ، حيث قال: أضافه إلى نفسه تشريفاً، وإشعاراً بأنّه خلقٌ عجيب، وأنّ له مناسبة إلى حضرة الربوبية. انتهى ملخّصاً (2) .

وكذا ما رواه أحمد بن حنبل (3) بسنده عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وروى سبط ابن الجوزي: (قال أحمد في الفضائل: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه تعالى قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، فلما خُلق آدم قُسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا، وجزءٌ عليّ) (4)

وروى العاصمي: (أخبرنا الحسين بن محمّد، حدّثنا عبد اللَّه بن أبي منصور، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا محمّد بن إدريس الرازي، حدّثنا محمّد ابن عبد اللَّه بن المثنى، حدّثنا حمدي الطويل، عن أنس بن مالك، قال، قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): خُلقت وعليّ بن أبي طالب من نور واحد يسبّح اللَّه عزّ وجلّ في يمنة العرش قبل خلق الدنيا) (5) .

وروى القطيعي: (حدّثنا الحسن، حدّثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدّثنا الفضيل بن عياض، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت

____________________

1) سورة السجدة: 9.

2) نفس المصدر، الرواية المتقدّمة.

3) كما رواه في البحار، ج 15، ص 24، تاريخ النبيّ باب بدء خلقه، أخرجه عن كتاب رياض الجنان لفضل اللَّه بن محمود الفارسي، والظاهر أنّه رواه عن فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل.

4) تذكرة الخواص، ص 46.

5) تهذيب زين الفتى، ص 133، ح 38.

٤٩

حبيبي رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه عزّ وجلّ قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين: فجزءٌ أنا، وجزءٌ عليّ) (1) .

وروى الخوارزمي: (بسند متّصل إلى زياد بن المنذر، عن محمّد بن علي ابن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، قال، قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالى قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة) (2) .

وروى الكنجي الشافعي: (أخبرنا إبراهيم بن بركات الخشوعي... عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): خلق اللَّه قضيباً من نور قبل أن يخلق الدنيا بأربعين ألف عام، فجعله أمام العرش، حتّى كان أوّل مبعثي، فشقّ منه نصفاً فخلق منه نبيّكم، والنصف الآخر عليّ بن أبي طالب) (3) .

وروى ابن المغازلي: (أخبرنا أبو طالب محمّد بن أحمد بن عثمان...، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذرّ، قال: سمعت رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: كنت أنا وعليّ نوراً عن يمين العرش، يسبّح اللَّهَ ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلم أزل أنا وعليّ في شي‏ء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب) (4) .

وروى ابن المغازلي: (أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي... عن سعيد بن عبد العزيز، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم، فساقها حتّى قسّمها جزئين: جزءً في صلب عبد اللَّه وجزءً في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّاً، وأخرج عليّاً وصيّاً) (5) .

وروى الحمويني: (أخبرني الشيخ الصالح جمال الدين أحمد... عن العلاء بن عبد

____________________

1) فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، ج 2، ص 662، ح 1130.

2) المناقب، ص 88.

3) كفاية الطالب، ص 324.

4) المناقب، ص 87.

5) المصدر السابق.

٥٠

الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: لمّا خلق اللَّه تعالى أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في النور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً، قال آدم: هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا يا آدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك، لولاهم لما خلقتك...) (1) .

والحاصل: إنّ مضمون هذه القاعدة - وهي خلقتهم النورانية وإبداعها قبل كلّ الخلائق - مروية بألفاظ مختلفة عند الفريقين، وبطرق متعدّدة في المصادر الكثيرة، ويدلُّ على مضمون هذه القاعدة من الآيات قوله تعالى:

( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَة وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .

فنورهُ تعالى المضاف إليه بالإضافة التشريفية هو نور السماوات والأرض، اشتقّ منه وجودها - كما ورد في أحاديث الفريقين، في أنّه أوّل ما خلق اللَّه نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - وهذا النور مرتبط في تركيب الآيات بجملة ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) ، وهذه البيوت هي رجالٌ عُصِموا عن اللهو بالتجارة والبيع، لا يفترون عن ذكر اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء

____________________

1) فرائد السمطين، ج 1، ص 36. ورواه أحمد في المسند أيضاً، وصاحب كتاب الفردوس الديلمي، والرياض النضرة، ج 2، ص 164، ولسان الميزان، ج 2، ص 229، وميزان الاعتدال، ج 1، ص 507، عن تاريخ ابن عساكر، ومناقب الخوارزمي، ص 46، وينابيع المودّة، ص 256، و ص 10، ومناقب المغازلي، ص 89، وكفاية الطالب، ص 314، و ص 315، ومنتخب كنز العمّال، في هامش مسند أحمد، ج 5، ص 32، وشرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 2، ص 430.

٥١

الزكاة، فهذا النور مرتبط بأرواحهم، فحقيقة معرفة هؤلاء الرجال هو معرفتهم بمبدأ خلقتهم وهو النور.

وبعبارة أُخرى: إنّ في صدر آيات النور ذكر مبتدأ، وهو قوله: ( مَثَلُ نُورِهِ ) ، أي النور المضاف إلى اللَّه تعالى بالإضافة الخلقية، ثمّ بعد ذلك أخبر عنه بأخبار متعدّدة تباعاً، فأخبر عن ذلك النور:

أوّلاً: بتشبيهه بخمسة أُمور ( كَمِشْكَاةٍ... ) .

ثانياً: تعاقب هذا النور بعد الخمسة وتعدده ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) .

ثالثاً: هداية اللَّه لنوره من يشاء ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) .

رابعاً: كون هذا النور في بيوت معظَّمة مبجَّلة، رفعها اللَّه بإذنه، ووصف هذه البيوت التي فيها النور بعدّة أوصاف، وإنّ تلك البيوت رجالٌ لا بيوت حَجَرٍ ومدر: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ... ) .

ويتحصّل من هذه الأخبار المتعدّدة عن نور اللَّه، أنّ هذا النور المخلوق للَّه المشرَّف بالإضافة التشريفية والتكريم إلى الذات المقدّسة، هو في رجالٍ معصومين عن اللهو، لا يفترون عن ذكر اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، أي إنَّهم دائماً في مقام العبودية والطاعة.

وكون هذا النور فيهم يعني أنّه أعلى مرتبة في أرواحهم، كما أنّ هذا النور، بمقتضى الخبر الأوّل، مبتدأه وفي بدوه خمسة أنوار؛ لأنّ التشبيه وقع على خمسة أشياء، أي بكلّ من المصباح، والزجاجة، والمشكاة، والكوكب الدريّ، والشجرة.

كما أنّ مقتضى الخبر الثاني: تعاقب الأنوار بعد الأنوار الخمسة، وهذا المفاد لظهور الآيات متطابق مع ما ورد في روايات الفريقين في الخلقة النورانية، من أنّ الخمسة - أصحاب الكساء - هم مبتدأ خلق النور ومن ثمّ بقية العترة، ولا ريب أنّ أحد الخمسة وسيّدهم هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تكتمل عدّة الخمسة الذين فيهم

٥٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بالخمسة الذين وقعت بهم المُباهلة، وهم أصحاب الكساء الذين نزلت في حقّهم آية التطهير بنصّ روايات الفريقين.

والعمدة التفطّن إلى أنّ تعدّد التشبيه في الآية إلى خمسة ليس جزافاً وزخرفاً في الكلام، بل المغزى منه الإشارة إلى أنّ هناك خمسة مشبّهين بخمسة أُمور مشبّهٌ بها، وأنّ لكلّ مشبّهٍ وجه شبهٍ في المشبّه به الموازي له، وقد ورد في نصوص الفريقين مسائلة النبي عن تلك البيوت، وأنّ بيت عليّ وفاطمة منها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (نعم، من أفاضلها) (1) .

ونصّ الحديث في السيوطي، وأخرجه عن ابن مردويه، عن أنس بن مالك وبريد: (قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ) ، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها، بيت عليّ وفاطمة؟ قال: نعم، من أفاضلها).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية فيها دلالة على أنّ أبا بكر قد اختلج في نفسه أنّ بيت عليّ وفاطمة، ومقام عليّ وفاطمة، عند اللَّه في الحجّية والاصطفاء والطهارة لا يقصر عن مقام الأنبياء، ومقتضى جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إثبات هذا المعنى، بل مقتضى الجواب علوّ مقامهما وأرفعيته وأنّه أعلى.

وممّا ورد في كون هذه البيوت منطبقة على المساجد أيضاً، في الآية الكريمة وبضميمة مفاد هذه الرواية، تبيّن أنّ مراقدهم عليهم‌السلام هي بيوت لهم أيضاً، وهي أفضل شرفاً وعظمة من المساجد، ولذلك نقل السمهودي في وفاء الوفاء: إجماع أهل سنّة الخلافة بأنّ ما ضم الأعضاء الشريفة له صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم فضلاً من مكّة

____________________

1) رواه السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية، والثعلبي في الكشف والبيان، وابن حسنويه في بحر المناقب، ص 18، والبغدادي في عوارف المعارف، ص 261، والأمرتسري في أرجح المطالب، ص 75، روى الحديث عن طريق ابن مردويه.

٥٣

المكرّمة. وحُكي هذا الإجماع عن القاضي عياض، والقاضي أبو وليد الباجي، وأبو اليمن بن عساكر، بل نُقل عن التاج السبكي، عن ابن عقيل الحنبلي: أنّ تلك البقعة هي أعظم من العرش (1) .

وتوهّم بعض الرواة أنّ المراد من البيوت هو البيت الطيني الذي يحلّ فيه أهل البيت، مع أنّ المراد - بحسب ظهور الآية - من البيوت هو نفس الرجال المطهرون، كما هو مفاد قول الإمام الباقر عليه‌السلام في ذيل الآية الكريمة.

ويعضد مفاد الخلقة النورية لهم عليهم‌السلام ، المستفادة من آيات سورة النور، ما في قوله تعالى في سورة البقرة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) (2) .

ومقتضى مفاد هذه الآيات أنّ السبب في تأهّل آدم للخلافة الإلهية هو معرفته بعلم الأسماء الجمعي، وبه تشرّف لمقامِ سجودِ وطاعةِ وتبعية الملائكة له، ولم يكن جميع الملائكة عالمين بتلك الأسماء. ويستفاد من هذا الاستعراض القرآني لهذه الواقعة أُمور:

الأوّل: إنّ تلك الأسماء موصوفة بغيب السماوات والأرض، وفي الآية التالية من تلك الآيات نرى أنّ الملائكة لم تكن تعلم بتلك الأسماء، مع أنّ الملائكة تملأ السموات والأرض، فلو كانت كينونة تلك الأسماء في السموات أو في الأرض لعلمتها الملائكة ولأحاطت بها خُبراً، بل إنّ تنبّه الملائكة لها - بعد عرضها

____________________

1) وفاء الوفاء بأخيار دار المصطفى للسمهودي، ج 1، ص 28.

2) سورة البقرة: 31 - 33.

٥٤

عليهم - ليس علم إحاطة بالأسماء، وإنّما هو علم إنبائي، لا كعلم آدم علم لدنّي، والعلم اللدنّي منه ما يكون عَياني، بخلاف الإنبائي فإنّه حصولي.

الثاني: إنّ هذه الأسماء ليست أصوات متموّجة وكلمات لسانية، بل هي موجودات حيّة شاعرة عاقلة؛ لقوله تعالى: ( عَرَضَهُمْ ) حيث إنّ الضمير (هم) لا يُستعمل إلاّ في ذلك؛ ولقوله تعالى: ( بِأَسْمَاء هَؤُلاء ) فإنّ اسم الإشارة (هؤلاء) لا يُستعمل إلاّ في ذلك أيضاً؛ ولقوله تعالى: ( ... فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) فيُعلم أنّ هذه الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، هي سنخ موجودات كينونتها في الغيب، الذي هو باطن السماوات، أي في نشأة ما وراء السماوات وما وراء نشأة الملائكة، وهذا ينطبق على المخلوقات النورية، ولا ريب في كون نور النبيّ هو أحدها، لأنّه سيّد الكائنات والمخلوقات، كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (2) .

فتحصّل من هاتين الطائفتين، الإشارة الواضحة إلى الخلقة النورية المتقدّمة على خلق السماوات والأرض؛ باعتبار وصفها غيب السماوات والأرض.

وهناك آيات أُخرى تتعرّض لخلقتهم النورانية، لسنا في صَدد بسط الدلالة حولها، ونكتفي بالإشارة في الموضع المناسب لها، نظير قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3) ، وقوله تعالى: ( َالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (4) .

____________________

1) سورة النجم: 8 - 9.

2) سورة الأنبياء: 107.

3) سورة التوبة: 32.

4) سورة الأعراف: 157.

٥٥

والمهم الالتفات إلى أهميّة هذه القاعدة في الاعتقادات والمعرفة الدينية؛ حيث إنّ لها موقع الأُمومة والأصل لكثير من المعارف والقواعد والمسائل الاعتقادية، وقد مرّ نماذج من ذلك في الروايات، حيث إنّهم عليهم‌السلام يستدلُّون على بقية مقاماتهم بذكر هذا الأصل المعرفي.

وهذه الأُمور لهذه القاعدة تقتضيها القواعد الحَكَمِية والعقلية؛ إذ للصادر الأوّل والصوادر الأُولى في الإبداعِ الوجودُ الأشرف، بالقياس إلى سائر أقسام الخلقة، فلابدَّ من توفّرها على سائر الكمالات التي تكون فيما دونها من الخلقة، فإذا تقرّر أنّ النور المُبدَع له الأسبقية، في الخلقة فلا بدَّ أن تكون له كلّ كمالات ما دونه وزيادة، كما لا بدّ أن يكون له الإشراف والهيمنة على ما دونه، بإذن وإقدار اللَّه تعالى.

وعلى هذا التقرير لمعرفتهم بالخلقة النورانية - معرفتهم بالنورانية - يتّضح تطابق هذه القاعدة مع القاعدة المتقدّمة: نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا كنه ما جعله اللَّه لنا.

٥٦

الفصل الخامس

فهرست المناهج

التي اعتمدها الإمامية

٥٧

٥٨

فهرست المناهج

التي اعتمدها الإمامية

المنهج الأوّل: عبارة عن إثبات كبرى الإمامة بالأدلّة النقلية، ثمّ إثبات المصداق، بمعنى تشخيصه لا أصل وجوده؛ وإلاّ فأصل وجوده قد دُلّ عليه بنفس الكبرى. وهذه الكبرى إمّا قرآنية، أو روائية، أو عقلية، أو شُهُوديةٌ قلبية.

المنهج الثاني: إثبات النصوص الخاصّة الواردة بأسمائهم عليهم‌السلام ، وهي على أنحاء: تارة بأسماء كلّ واحدٍ منهم، وأُخرى في خصوص عليّ والحسن والحسين، وذرّية الحسين عليهم‌السلام . وغير ذلك من أنحاء التسمية.

المنهج الثالث: إثبات الأدلّة العقلية على الكبرى، وهي ضرورة وجود المعصوم عليه‌السلام ، وهذه الأدلّة تُثبّت تارةً: بالعقل العملي، وأُخرى: بالعقل النظري.

المنهج الرابع: إثبات إمامتهم عليه‌السلام عبر معاجزهم العلمية، ببسط البيان في موارد انعطاف الأُمّة الإسلامية إلى انحرافات هدّامة لولا الهداية العلمية التي قام بها آل البيت عليهم‌السلام . أو ببيان دقائق أسرارهم في العلوم والمعارف التي بثّوها والتي تتحدّى المضمار العلمي إلى يومنا في العصر الحديث، مع ما كانت عليه الجزيرة العربية من البداوة وندرة العلوم، وإحاطتهم باختلاف المذاهب، وتعدّد شؤون علومهم الروحية والحَكَمية والمادّية، وكذلك لجوء المخالفين بالرجوع إلى أهل

٥٩

البيت عليهم‌السلام (1) ، وتراثهم العلمي في شتّى العلوم ماثل بين يدي البشرية يفوق ويتحدّى في الحلبة العلمية علم أيّ عالم وأيّ حاضرة علمية، كيف لا؟! وهم أعدال الكتاب الذي له هذه الصفة أيضاً!

المنهج الخامس: مقارعة الدول المعاصرة لهم بكلّ طاقاتها وقواها، واستعانتها ببقية الدول البشرية على ذلك، مع ما كان يدّعيه آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكمال وعدم الإعياء في العلم ممّا يثير نائرة التحدّي معهم، فقد تحدّوهم في ‏العلوم والفنون ومختلف المهارات، حتّى في الفروسية والطبّ وعلوم الشعبذة، وغيرها.

المنهج السادس: إثبات خصوص إمامة عليّ عليه‌السلام أو الحسنين، أو إمامة المهدي (عجل الله فرجه)، أو هم جميعاً مع ضمّ ضمائم أُخرى، من قبيل تنصيص عليّ عليه‌السلام على من بعده، أو استلزام إمامة الثاني عشر عليه‌السلام لإمامة مَن قبله.

المنهج السابع: ريادتهم وسبقهم جميع البشر - ممّن عاصرهم ومن لم يعاصرهم - في تمام الكمالات والفضائل، وفي شتّى الصفات الفضيلية، والكمالية الروحية والعقلية، والنفسية، والبدنية.

المنهج الثامن: الآيات البينة، التي هي معاجز غير المعاجز العلمية، مثل قلع باب خيبر، وتكلّمهم بكلّ لسان، وعلمهم بلغات الحيوانات.

المنهج التاسع: الملاحم الإخبارية التي أنبأوا بها، كخطبة البيان وأخبار آخر الزمان، وما أخبروا عن أحوال معاصريهم. وقد دوّن الفريقان فصولاً في كتبهم التاريخية وكتب السِيَر ونحوها من إخبارات عليّ عليه‌السلام عن الملاحم.

المنهج العاشر: تنصيص الكتب السماوية السابقة عليهم.

____________________

1) راجع: إحقاق الحقّ.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423