الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

الغدير في الكتاب والسنة والأدب16%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 461

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 461 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129362 / تحميل: 6909
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وقال النازلي في « خزينة الأسرار » ص ٧٨: وقد رُوي عن الشيخ موسى السدراني من أصحاب الشيخ أبي مدين المغربي: انَّه كان يختم في الليل والنهار سبعين ألف ختمة، ونقل عنه: انَّه ابتدأ بعد تقبيل الحجر، وختم في محاذاة الباب، بحيث انَّه سمعه بعض الأصحاب حرفاً حرفاً كذا ذكره في « الإحياء » وعليّ القاري في « شرح المشكاة »

وفي ص ١٨٠ من « خزينة الأسرار » : انَّ الشيخ أبو مدين المغربي أحد الثلاثة ورئيس الأوتاد الذي كان يختم القرآن كلّ يوم سبعين ألف ختمة.

وأخرج البخاري في صحيحه(١) عن أبي هريرة يرفعه قال: قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خفّف على داود القرآن فكان يأمر بدابته فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج. وقال القسطلاني في شرح هذا الحديث(٢) : وفيه انَّ البركة قد تقع في الزمن اليسير حتَّى يقع فيه العمل الكثير.

وقال: قد دلَّ هذا الحديث على انَّ الله تعالى يطوي الزمان(٣) لمن شاء من عباده كما يطوي المكان لهم.

قال الأميني: إن هي إلّا أساطير الأوَّلين وخزعبلات السَّلف كتبتها يد الأوهام الباطلة، وكلّها نصب عيني إبن تيميّة وقومه لم تسمع من أحدهم فيها رِكزاً ولم ترَ منهم غميزة، وكان حقّاً على هذه السفاسف أن تُكتب في طامور القصّاصين، أو تُوارى في مطامير البراري، أو تُقذف في طمطام البحار، أسفي على تلكم التآليف الفخمة الضخمة تحتوي مثل هذه الخرافات، أسفي على أولئك الأعلام يخضعون عليها ويرونها جديراً بالذِّكر، ولو كان يعلم إبن تيميّة انَّ نظَّارة التنقيب تُعرب عن هذه الخزايات بعد لأى من عمر الدهر لكان يختار لنفسه السكوت، وكفَّ مدَّته عن صلاة أمير المؤمنين وولده الإمام السبط والسيِّد السجَّاد عليهم السَّلام، وما كان يحوم حومة العار إن عقل صالحه.

وَلَوْ أَنّهُمْ قَالوا سَمِعنا وأَطعنا واسْمَعْ وانظُرنا

لَكانَ خَيراً لَهُمْ وَأقوَمْ.

____________________

١ - ج ١ ص ١٠١ في كتاب التفسير في باب قوله تعالى: وآتينا داود زبورا. و ج ٢ ص ١٦٤ في أحاديث الانبياء.

٢ - ارشاد السارى ٨ ص ٣٩٦.

٣ - كان حق المقام أن يقول: يطوى اللسان أو يقول: يبسط الزمان.

٤١

-٣ -

ألمحدَّث فى الاسلام

أصفقت الاُمَّة الإسلاميَّة على أنَّ في هذه الاُمَّة لدة الاُمم السابقة اُناسٌ محدَّثون « على صيغة المفعول » وقد أخبر بذلك النبيُّ الأعظم كما ورد في الصِّحاح والمسانيد من طرق الفريقين: « العامَّة والخاصَّة » والمحدَّث مَن تُكلّمه الملائكة بلا نبوَّةٍ ولا رؤية صورة، أو يُلهم له ويُلقى في روعه شئُ من العلم على وجه الإلهام و المكاشفة من المبدأ الأعلى، أو يُنكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه، فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الاُمَّة مُطبقٌ عليه بين فرق الإسلام، بيد أنَّ الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمَّة صلوات الله عليهم من المحدَّثين، وأهل السنَّة يرون منهم عمر بن الخطاب، وإليك نماذج من نصوص الفريقين:

نصوص أهل السنّة

أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج ٢ ص ١٩٤ عن أبي هريرة قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من اُمَّتي منهم أحدٌ فعمر. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: من نبيٍّ ولا محدَّث.

قال القسطلاني(١) : ليس قوله « فإن يكن » للترديد بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديقٌ ففلان. إذ المراد إختصاصه بكمال الصَّداقة لا نفي الأصدقاء، وإذا ثبت انّ هذا وجد في غير الاُمَّة المفضولة فوجوده في هذه الاُمَّة الفاضلة أحرى. وقال في شرح قول إبن عبّاس « من نبيٍّ ولا محدَّث » : قد ثبت قول إبن عبّاس هذا لأبي ذر وسقط لغيره ووصله سفيان بن عيينة في أواخر جامعه وعبد بن حميد بلفظ: كان إبن عبّاس يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث.

____________________

١ - ارشاد السارى شرح صحيح البخارى ٦ ص ٩٩.

٤٢

وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار ج ٢ ص ١٧١ عن أبى هريرة مرفوعاً: انَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الاُمم محدَّثون إن كان في اُمّتي هذه منهم فإنَّه عمر بن الخطاب.

قال القسطلاني في شرحه ٥ ص ٤٣١: قال المؤلِّف: يجري على ألسنتهم الصَّواب من غير نبوَّة. وقال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنَّه قد حُدِّث به يظنُّ فيصيب ويخطر الشيئ بباله فيكون، وهي منزلةٌ رفيعةٌ من منازل الأولياء.

وقال في قوله « إن كان في اُمَّتي » : قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل التوقّع وكأنَّه لم يكن إطلّع(١) على أنَّ ذلك كائنٌ وقد وقع، وقصَّة: يا سارية الجبل(٢) مشهورةٌ مع غيرها.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عايشة عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان في الاُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في اُمَّتي منهم أحدٌ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم. قال إبن وهب: تفسير محدَّثون: ملهمون.

ورواه إبن الجوزي في « صفة الصفوة » ١ ص ١٠٤ وقال: حديثٌ متَّفقٌ عليه وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في « مشكل الآثار » ٢ ص ٢٥٧ بطرق شتَّى عن عايشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عبّاس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث. قال: معنى قوله محدَّثون أي ملهمون، فكان عمر رضي الله عنه ينطق بما كان ينطق ملهماً، ثمَّ عدَّ من ذلك ما قد رُوي عن أنس بن مالك قال قال عمر بن الخطاب: وافقني ربّي أو وافقتُ ربِّي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى. فنزلت: واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى. وقلت: يا رسول الله إنَّ نساءك يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساؤه في الغيرة فقلت: عسى ربّي إن طلّقكنَّ أن يُبدِّله أزواجاً خيراً منكنَّ، فنزلت كذلك.

قال الأميني: إن كان هذا من القول بإلهام فعلى الاسلام السَّلام، وما أجهل القوم بالمناقب حتّى أتوا بالطامّات الكبرى كهذه وعدّوها فضيلة، وعليهم إن عقلوا

____________________

١ - انظر الى التناقض بين قوله هذا وبين ما مر من أنّ إنْ للتأكيد لا للترديد.

٢ - سيوافيك في مناقب عمر: ان قصة: يا سارية الجبل. موضوعة مكذوبة.

٤٣

صالحهم إنكار مثل هذا القول على عمر، وفيه حطٌّ لمقام النبوَّة، ومسَّةٌ على كرامة صاحب الرَّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنَّهم حدّثوا بشيىء فظنّوه. وقيل: تُكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون. وقال البخاري: يجري الصَّواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء. وقال الحافظ محب الدين الطبري في « الرِّياض » ١ ص ١٩٩: ومعنى محدَّثون والله أعلم أي يُلهمون الصّواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدَّثهم الملائكة لا بوحي وإنّما بما يُطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلةٌ عظيمةٌ.

وقال القرطبي في تفسيره ج ١٢ ص ٧٩: قال إبن عطيّة: وجاء عن إبن عبّاس إنَّه كان يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث. ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن إبن عبّاس.

قال مسلمة: فوجدنا المحدَّثين معتصمين بالنبوَّة - على قراءة إبن عبّاس - لأنَّهم تكلّموا باُمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة، فأصابوا فيما تكلّموا، وعصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصّة سارية(١) وما تكلّم به من البراهين العالية.

وأخرج الحافظ أبو زرعة حديث أبي هريرة في طرح التثريب في شرح التفريب ١ ص ٨٨ بلفظ: لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال مكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في اُمَّتي أحدٌ فعمر.

وأخرجه البغوي في « المصابيح » ٢ ص ٢٧٠، والسيوطي في « الجامع الصغير » ، وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ٤ ص ٥٠٧: قال القرطبي: « محدَّثون » بفتح الدال اسم مفعول جمعُ محدَّث بالفتح أي مُلهم أو صادق الظنّ، وهو من القي في نفسه شئٌ على وجه الإلهام والمكاشفة من

____________________

١ - هو سارية بن زنيم بن عبد الله وكان من قصته أن عمر رضى الله عنه أمره على جيش وسيره الى فارس سنة ثلاث وعشرين، فوقع في خاطر سيدنا عمر وهو يخطب يوم الجمعة أن الجيش المذكور لاقى العدو وهم في بطن واد وقد هموا بالهزيمة وبالقرب منهم جبل فقال في أثناء خطبته: يا سارية! ألجبل ألجبل. ورفع صوته فالقاه الله في سمع سارية فانحاز بالناس الى الجبل، وقاتلوا العدو من جانب واحد ففتح الله عليهم. كذا في هامش تفسير القرطبى.

٤٤

الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصَّواب على لسانه بلا قصد، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوَّة أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنَّ ظنّاً أصاب كأنَّه حُدِّت به، واُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامةٌ يكرم الله بها من شاء من صالح عباده، وهذه منزلةٌ جليلةٌ من منازل الأولياء.

فإن يكن من اُمَّتي منهم أحدٌ فإنِّه عمر، كأنَّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنَّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ إن بصورة الترديد.

قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والإختصاص قولك: إن كان لي صديقٌ فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكَّ في صداقته بل المبالغة في انَّ الصداقة مختصَّة به لا تتخطّاه إلى غيره.

وقال القرطبي: قوله « فإن يكن » دليلٌ على قلّة وقوعه وندرته، وعلى أنَّه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنّون لأنَّه كثيرٌ في العلماء بل وفي العوام مَن يقوى حدسه فتصحُّ إصابته فترتفع خصوصيَّة الخبر وخصوصيَّة عمر، ومعنى الخبر قد تحقّق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجزم بالوقوع، وقد دلَّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصَّة: الجبل يا سارية! الجبل.

وغيره، وأصحّ ما يدلّ على ذلك شهادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بذلك حيث قال: إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه(١) .

قال ابن حجر: وقد كثر هؤلاء المحدَّثون بعد العصر الأوّل وحكمته زيادة شرف هذه الاُمَّة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء، فلمّا فات هذه الاُمَّة المحمَّديَّة كثرة الأنبياء لكون نبيّهم خاتم الأنبياء عُوِّضوا تكثير الملهمين.

( تنبيهٌ ) قال الغزالي: قال بعض العارفين سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثمَّ إلى يمينه كذلك، ثمّ أطرق إلى صدره فقال: ما تقول؟ ثمَّ أجاب فسألته عن إلتفاته؟ فقال: لم يكن عندي علمٌ فسألت الملكين فكلُّ قال: لا أدري فسألت قلبي فحدَّثني بما أجبت فإذا هو أعلم منهما.

قال الغزالي: وكأنَّ هذا معنى هذا الحديث.ا ه.

ويجد الباحث في طيِّ كتب التراجم جمعاً ممَّن كلّمتهم الملائكة منهم: عمران بن

____________________

١ - لم يصدّق الخُبر الخَبر، بل: يكذبه التاريخ الصحيح وسيرة عمر المحفوظة في صفحات الكتب والمعاجم.

٤٥

الحصين الخزاعي المتوفّى سنّة ٥٢، أخرج أبو عمر في « الأستيعاب » ٢ ص ٤٥٥: انَّه كان يرى الحفظة وكانت تكلّمه حتى اكتوى. وذكره إبن حجر في الإصابة ٣ ص ٢٦.

وقال إبن كثير في تاريخه ٨ ص ٦٠: قد كانت الملائكة تسلّم عليه فلمّا اكتوي انقطع عنه سلامهم، ثمّ عادوا قبل موته بقليل، فكانوا يسلّمون عليه رضي الله عنه. و في شذرات الذهب ١ ص ٥٨: انَّه كان يسمع تسليم الملائكة عليه، ثمّ اكتوي بالنار فلم يسمعهم عاماً، ثم أكرمه الله بردِّ ذلك.

وذكَر تسليم الملائكة عليه ألحافظ العراقي في « طرح التثريب » ج ١ ص ٩٠، وأبو الحجَّاج المزّي في « تهذيب الكمال » كما في تلخيصه ص ٢٥٠، وقال إبن سعد و إبن الجوزي في « صفة الصفوة » ١ ص ٢٨٣: كانت الملائكة تصافحه. وذكره إبن حجر في « تهذيب التهذيب » ٨ ص ١٢٦.

ومنهم: أبو المعالي الصّالح المتوفّى ٤٢٧، أخرج الحافظان إبنا الجوزي وكثير أنَّ أبا المعالي أصابته فاقةٌ شديدةٌ في شهر رمضان فعزم على الذهاب إلى رجل من ذوي قرابته ليستقرض منه شيئاً قال: فبينما أنا اُريده فنزل طائرٌ فجلس على منكبي وقال: يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمضي إليه نحن نأتيك به. قال: فبكر إليّ الرَّجل « صف ٢ ص ٢٨٠، ظم ٩ ص ١٣٦، يه ١٢ ص ١٦٣ »

م - وقال أبو سليمان الخطّابي: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد كان في الاُمم ناسٌ محدَّثون، فإن يكن في اُمَّتي فعمر » وأنا أقول: فإن كان في هذا العصر أحدٌ كان أبو عثمان المغربي « طب ٩: ١١٣ »

ومن هذا القبيل تكلّم الحوراء مع أبي يحيى الناقد، أخرج الخطيب البغدادي وإبن الجوزي عن أبي يحيى زكريّا بن يحيى الناقد المتوفّى ٢٨٥ « أحد أثبات المحدِّثين » قال اشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيتَ بعهدك فها أنا التي قد اشتريتني(١) .

( هذا ما عند القوم وأمّا نصوص الشيعة )

فأخرج ثقة الإسلام الكليني في كتابه « اُصول الكافي » ص ٨٤ تحت عنوان

____________________

١ - طب ٨ ص ٣٦٢، ظم ٦ ص ٨، صف ٢ ص ٢٣٤، مناقب أحمد لابن الجوزى ص ٥١٠.

٤٦

« باب الفرق بين الرَّسول والنبيّ والمحدَّث » أربعة أحاديث منها باسناده عن بُريد عن الإمامين الباقر والصّادق صلوات الله عليهما في قوله عزَّ وجلَّ [ في سورة الحجِّ ]: وما أرْسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رسولٍ ولَا نبيٍّ ولَا مُحَدَّث. [ قال بُريد ]: قلت: جُعِلتُ فداك ليست هذه قراءتنا(١) فما الرَّسول والنَّبيّ والمحدَّث؟ قال: ألرَّسول الَّذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبيّ هو الذي يرى في منامه، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرِّسالة لواحدٍ، والمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصّورة. قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم انَّ الذي رأى في النّوم حقُّ وانَّه من الملك؟ قال: يوفَّق لذلك حتَّى يعرفه، ولقد ختم الله عزَّ وجلَّ بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء.

وحديث آخر أيضاً فصّل بهذا البيان بين النبيِّ والرَّسول والمحدَّث، وحديثان بالتفصيل المذكور غير أنَّ فيهما مكان لفظة المحدَّث، الإمام. أحدهما عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: وكان رسولاً نبيّا. ما الرَّسول؟ وما النبيّ؟ قال: ألنبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصّوت ولا يعاين الملك، والرَّسول الذي يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك. قلتُ: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصّوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثمَّ تلا هذه الآية: وما أرسلنا مِن قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث.

والثاني: عن إسماعيل بن مرار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروف إلى الرضاعليه‌السلام : جُعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرَّسول والنبيّ والإمام؟ قال: فكتب أو قال: ألفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام: انَّ الرَّسول الذي ينزل عليه جبرئيلعليه‌السلام فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام والنبيّ ربما يسمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص.

هذا تمام ما في هذا الباب من الكافي وأخرج في ص ١٣٥ تحت عنوان « باب انَّ الأئمَّة عليهم السّلام مُحدَّثون مُفهمون » خمسة أحاديث منها عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتكم

____________________

١ - هي قراءة ابن عباس كما مر.

٤٧

بعجيبة: فقالوا: وما هي إلّا؟ فقلت: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: كان عليُّ مُحدَّثاً، فقالوا: ما صنعت شيئاً إلّا سألته: من كان يحدّثه؟ فرجعت إليه فقلت: إنِّي حدَّثت أصحابي بما حدَّثتني فقالوا: ما صنعت شيئاً إلّا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فقال لي: يحدِّثه ملَك.

قلت: تقول إنّه نبيُّ؟ قال: فحرَّك يده هكذا، أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أوَ ما بلغكم انّه قال: وفيكم مثله؟

وحديث آخر ما ملخَّصه: انَّ عليّاً [ أمير المؤمنين ] كان يعرف قاتله ويعرف الاُمور العظام التي كان يحدِّث بها النَّاس بقول الله عزَّ ذكره. وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدِّث.

وحديثان آخران أحدهما: انَّ أوصياء محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محدَّثون. والثاني: الأئمَّة علماءٌ صادقونَ مُفهَمونَ مُحدَّثون. والحديث الخامس في معنى المحدَّث وانَّه يسمع الصّوت ولا يرى الشّخص. وليس في هذا الباب من كتاب الكافي غير ما ذكرناه.

وروى شيخ الطائفة في أماليه ص ٢٦٠ بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان عليّعليه‌السلام محدَّثاً، وكان سلمان محدّثاً قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال: يأتيه ملكٌ فينكت في قلبه كيت كيت.

وبالإسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: منّا مَن يُنكت في قلبه، ومنّا من يُقذف في قلبه، ومنّا مَن يُخاطب.

وبإسناده عن الحرث النصري قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : الذي يُسأل عنه الإمام وليس عنده فيه شئٌ من أين يعلمه؟ قال: يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الاُذن نقرا، وقيل لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إذا سُئلَ كيف يُجيب؟ قال: إلهامٌ وسماعٌ وربِّما كانا جمعاً.

وروى الصفّار بإسناده في « بصائر الدرجات » عن حمران بن أعين قال: قلتُ لأبي جعفرعليه‌السلام : ألستَ حدَّثتني إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً؟ قال: بلى. قلتُ: مَنْ يحدّثه؟ قال: ملَكٌ. قلتُ: فأقول: انّه نبيُّ أو رسولٌ؟ قال: لا. بل مَثَله مَثل صاحب سليمان، ومَثَل صاحب موسى، ومثَل ذي القرنين، أما بلغك انَّ عليّاً سُئل عن ذي القرنين؟ فقالوا: كان نبيّاً؟ قال: لا. بل كان عبداً أحبَّ الله فأحبَّه، وناصح الله فناصحه.

_٣_

٤٨

وبإسناده عن حمران قال: قلتُ لأبي جعفرعليه‌السلام ما موضع العلماء؟ قال: مثل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب داود.

وبالإسناد عن بُريد قال: قلتُ لأبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السّلام: ما منزلكم؟ بمن تشبهون ممّن مضى؟ فقال: كصاحب موسى، وذي القرنين، كانا عالمين ولم يكونا نبيَّين.

وبالإسناد عن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ما منزلتهم؟ أنبياءٌ هم؟ قال: لا.

ولكن هم علماء كمنزلة ذي القرنين في علمه، وكمنزلة صاحب موسى، وكمنزلة صاحب سليمان.

هذه جملةٌ من أخبار الشيعة في الباب وهي كثيرةٌ مبثوثة في كتبهم(١) وهذه رؤوسها، ومؤدَّى هذه الأحاديث هو الرأي العام عند الشيعة سلفاً وخلفاً، وفذلكته: انَّ في هذه الاُمّة اُناس محدَّثون كما كان في الاُمم الماضية، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمّة الطاهرون علماءٌ محدَّثون وليسوا بأنبياء.

وهذا الوصف ليس من خاصّة منصبهم ولا ينحصر بهم، بل: كانت الصدِّيقة كريمة النبيّ الأعظم محدَّثة، وسلمان الفارسي محدِّثاً. نعم: كلّ الأئمَّة من العترة الطاهرة محدَّثون، وليس كلُّ محدَّث بإمام، ومعنى المحدَّث هو العالم بالأشياء بإحدى الطرق الثلاث المفصَّلة في الأحاديث المتلوَّة، هذا ما عند الشيعة ليس إلّا.

هذا منتهى القول عند الفريقين ونصوصهما في المحدَّث وأنت كما ترى لا يوجد أيّ خلاف بينهما، ولم تشذّ الشيعة عن بقيّة المذاهب الإسلاميّة في هذا الموضوع بشئ من الشذوذ إلّا في عدم عدّهم عمر بن الخطّاب من المحدَّثين، وذلك أخذاً بسيرته الثابتة في صفحات التاريخ من ناحية علمه ولسنا في مقام البحث عنه(٢) فهل من المعقول أن يُعدّ هذا القول المتسالم عليه في المحدَّث لاُمَّةٍ من قائليه فضيلةً رابيةً، وعلى الاُخرى منهم ضلالاً ومنقصة؟ لاها الله.

هلمَّ معي نسائل كيذبان الحجاز [ عبد الله القصيمي ] جرثومة النِّفاق، وبذرة الفساد

____________________

١ - جمعها العلامة المجلسي في بحار الانوار.

٢ - سنوقفك على البحث عنه فى الجزء السادس انشاء الله.

٤٩

في المجتمع كيف يرى في كتابه [ الصّراع بين الإسلام والوثنيّة ] ان الأئمّة من آل البيت عند الشيعة أنبياء وانّهم يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي، وانّهم يزعمون لفاطمة وللأئمّة من وُلدِها ما يزعمون للأنبياء؟ ويستند في ذلك كلّه على مكاتبة الحسن بن العبّاس المذكور ص ٤٧ نقلاً عن الكافي، هلّا يعلم هذا المغفَّل؟ إنّ هذه المفتريات والقذائف على اُمّة كبيرة [ أطلَّت آرائها الصالحة على أرجاء الدنيا ] إنْ هي إلّا مآل القول بالمحدَّث الوارد في الكتاب العزيز وتكلّم الملائكة مع الأئمّة من آل البيت واُمّهم فاطمة البتول كما هو مقتضى استدلاله، وأهل الاسلام كلّهم شرعٌ سواء في ذلك. أوَ للشيعيّ عندئذ أن يقول: إنّ عمر بن الخطّاب وغيره من المحدَّثين على زعم العامّة عندهم أنبياء يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي؟ لكنَّ الشيعة علماء حكماء لا يخدشون العواطف بالدجل والتمويه وقول الزور، ولا يُسمع لأحد من حملة روح التشيّع، والنزعة العلويّة الصحيحة، ومقتفى الآداب الجعفريّة أن يتَّهم اُمَّة كبيرة بالطامات، وحاشاها أن تُشوِّه سمعتها بالأكاذيب والأفائك، وتقذف الاُمم بما هي برئية منه، أما كانت بين يدي الرَّجل تلكم النصوص الصريحة للشيعة على أنّ الأئمّة علماء وليسوا بأنبياء؟ أما كان صريح تلك الأحاديث بأنّ الأئمّة مَثَلهم كمثل صاحب موسى، وصاحب سليمان، وذي القرنين؟ أما كان في « الكافي » في الباب الذي قلّبه الرجل على الشيعة قول الإمامين الباقر والصّادق: لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء؟ نعم: هذه كلّها كانت بمرأى من الرَّجل غير أنّ الإناء ينضح بما فيه، ووليد الروح الأمويّة الخبيثة وحامل نزعاتها الباطلة سدكٌ بالقحَّة والسفالة، ولا ينفكُّ عن الخنى والقذيعة، ومن شأن الأمويِّ أن يتفعّى ويمين ويأفك، ويهتك ناموس المسلمين، ويسلقهم بألسنة حداد، ويفتري على آل البيت وشيعتهم اقتداءً بسلفه، وجرياً على شنشنته الموروثة، ونحن نورد نصَّ كلام الرَّجل ليكون الباحث على بصيرةٍ من أمره، ويرى جهده البالغ في تشتيت صفوف الاُمّة، وشقِّ عصا المسلمين بالبهت وقول الزّور، قال في « الصِّراع » ج ١ ص ١:

ألأئمّة يوحى إليهم عند الشيعة، قال في « الكافي » : كتب الحسن بن العبّاس إلى الرِّضا يقول: ما الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام؟ فقال: الرَّسول هو الذي ينزل

٥٠

عليه جبرئيل فيراه، ويسمع كلامه، وينزل عليه الوحي، والنبيّ ربما يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص. وقال: والأئمَّة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلونه إلّا بعهد من الله وأمر منه لا يتجاوزونه. وفي الكتاب نصوصٌ اُخرى متعدِّدةٌ في هذا المعنى، فالأئمَّة لدى هؤلاء أنبياء يوحى إليهم، ورُسُلٌ ايضاً لأنَّهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم.

وقال في ج ٢ ص ٣٥: قد قدَّمنا في الجزء الأوَّل: أنَّ القوم يزعمون أنَّ أئمَّة أهل البيت يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتيهم بالوحي من الله ومن السَّماء، وتقدَّم قولهم: أنَّ الأئمة لا يفعلون شيئاً ولا يقولونه إلّا بوحي من الله، وتقدّم: انّ الفرق عندهم بين محمَّد رسول الله وبين الأئمَّة من ذرِّيته: انَّ محمَّداً كان يرى الملك النازل عليه بالوحي، وأمَّا الأئمَّة فيسمعون الوحي وصوت الملك وكلامه ولا يرون شخصه، و هذا هو الفرق لديهم بين النبيِّ والإمام، وبين الرُسل والأئمَّة، وهو فرقٌ لا حقيقة له، فالأئمّة من آل البيت عندهم أنبياء ورُسُل بكلِّ ما في كلمة النبيِّ والرَّسول من معنى، لأنَّ النبيَّ الرَّسول هو إنسانٌ أوحى الله إليه رسالة، وكلّف تبليغها ونشرها، سواءٌ أكان وحي الله إليه بواسطة الملك أم بلا واسطة، وسواءٌ رأى شخص تلك الواسطة أم لم يرَه، بل سمع منه وعقل عنه، هذا هو النبيُّ الرَّسول. ورؤية الملك لا دخل له في حقيقة معنى النبيِّ والرَّسول بالإجماع، ولهذا يقولون: ألرَّسول هو إنسانٌ اوحي إليه واُمر بالبلاغ، والنبيُّ هو إنسانُ اوحي إليه ولم يُؤمر بالبلاغ ولم يجعلوا لرؤية الملك دخلا في حقيقة النبيِّ وحقيقة الرَّسول، وهذا لا يُنازع فيه أحدٌ من الناس، فالشيعة يزعمون لفاطمة وللأئمّة من وُلدها ما يزعمون للأنبياء والرُسُل من المعاني والحقايق، فهم يزعمون انَّهم معصومون، وانَّهم يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تنزل عليهم بالرِّسالات، وانَّ لهم معجزات أقلّها إحياؤهم الأموات، كما يقولون في أفضل كتبهم. إنتهى.

إِنّمَا يَفتري الكذِبَ الَّذين لا يُؤْمِنونَ بآياتِ اللهِ

وَأُولئك هم الكاذِبون

[ النحل ١٠٥ ]

٥١

٤

علم أئمة الشيعة بالغيب

شاعت القالة حول علم الأئمَّة من آل محمَّد صلوات الله عليه وعليهم ممّن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعند كلٍّ منهم حوشيٌّ من الكلام، يزخرف الزّلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأنَّ الشيعة تفرَّدت بهذا الرأي عن المذاهب الإسلاميّة، وليس في غيرهم مَن يقول بذلك في إمام من أئمَّة المذاهب، فاستحقّوا بذلك كلَّ سبسبٍ وتحاملٍ ووقيعةٍ، فحسبك ما لفّقه القصيمي في « الصِّراع » من قوله في صحيفة ب تحت عنوان: الأئمة عند الشيعة يعلمون كلَّ شيء، والأئمَّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلّا باختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شيءٌ ص ١٢٥ وص ١٢٦ [ من الكافي للكليني ] ثمَّ قال:

وفي الكتاب نصوصٌ اُخرى ايضاً في المعنى، فالأئمَّة يُشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وانَّه لا يخفى عليهم شيءٌ، والمسلمون كلّهم يعلمون انَّ الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسنَّة وعن الأئمَّة في انَّه لا يعلم الغيب إلّا الله متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.

ج - ألعلم بالغيب أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آت إنَّما هو أمرٌ سائغٌ ممكنٌ لعامَّة البشر كالعلم بالشهادة يُتصوَّر في كلِّ ما يُنبَّأ الإنسان من عالم غابر، أو عهدٍ قادم لم يَرَه ولم يشهده، مهما أخبره بذلك عالمٌ خبيرٌ، أخذاً من مبدأ الغيب والشهادة، أو علماً بطرق اُخرى معقولة، وليس هناك أيُّ وازعٍ من ذلك، وأمّا المؤمنون خاصَّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنَّته وناره ولقاءه والحياة بعد الموت

٥٢

والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الأكبر، إلى آخر ما آمنَ به المؤمن وصدَّقه، فهذا غيبٌ كلّه، واُطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز، وبذلك عرَّف الله المؤمنين في قوله تعالى: ألّذِينَ يُؤْمنون بالغيبِ « البقرة ٣ » وقوله تعالى: ألَّذينَ يَخشونَ ربَّهم بالغيب « الأنبياء ٤٩ » وقوله: إنَّما تُنذر الَّذين يخشون ربَّهم بالغيب « فاطر ١٨ » وقوله: إنَّما تُنذر مَن اتِّبع الذكر وخشيَ الرَّحمن بالغيب « يس ١١ » وقوله: مَنْ خشي الرَّحمن بالغيب « ق ٣٣ » وقوله: إنّ الذين يخشون ربَّهم بالغيب لهم مغفرة « الملك ١٢ » وقوله: جنّات عدنٍ وعدَ الله عباده بالغيب « مريم ٦١ »

ومنصب النبوَّة والرِّسالة يستدعي لمتولِّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى: كلًّا نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادك وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى‏ للمؤمنين « هود ١٢٠ » ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك « آل عمران ٤٤ » وقال بعد سرد قصّة نوح: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. « هود ٤٩ » وقال بعد قصّة إخوان يوسف: ذَلِكَ مِنْ أنباءِ الغيب نوحيه إليك « يوسف ١٠٢ »

وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرُّسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى: عالم الغيب فلا يُظهر على‏ غيبه أحداً إلّا من ارتضى‏ من رسول. نعم: ولا يُحيطون بشي‏ء من علمه إلّا بما شاء، وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً.

فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز، ولكلٍّ منهم جزءٌ مقسوم، غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم بلغ ما بلغ محدودٌ لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارضٌ ليس بذاتيٍّ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ، وله بدءٌ ونهايةٌ ليس بسرمديٍّ، ومأخوذٌ من الله سبحانه وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلّا هو.

والنبيّ ووارث علمه في اُمّته(١) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب

____________________

١ - أجمعت الأمة الاسلامية على أن وارث رسول الله صلى‌ الله‌ عليه ‌و آله‌ وسلم في علمه هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليهما السلام راجع الجزء الثالث من كتابنا ص ٩٥ - ١٠١.

٥٣

من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم الناس بشئٍ من ذلك، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته، وإنَّما العلم، والعمل به، وإعلام الناس بذلك، مراحل ثلاث لا دخل لكلِّ مرحلة بالاُخرى، ولا يستلزم العلم بالشئ وجوب العمل على طبقه، ولا ضرورة ألإعلام به، ولكلٍّ منها جهاتٌ مقتضيةٌ ووجوهٌ مانعةٌ لا بدَّ من رعايتها، وليس كلّما يُعلم يُعمل به، ولا كلّما يُعلم يُقال.

قال الحافظ الاُصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى ٧٩٠ في كتابه القيِّم [ الموافقات في اُصول الأحكام ] ج ٢ ص ١٨٤: لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيَّن مغصوبُ أو نجسٌ، أو أنَّ هذا الشاهد كاذبٌ، أو أنَّ المال لزيد، وقد تحصّل [ للحاكم ] بالحجّة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك ما لم يتعيّن سببٌ ظاهرُ، فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمّم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يدٍ على حال، فإنّ الظواهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يتركها إعتماداً على مجرَّد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: إنَّكم تختصمون إليّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه. ألحديث. فقيَّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثيرٌ من الأحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطلٍ، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يحكم إلّا على وفق ما سمع، لا على وفقً ما علم(١) وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه: انّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب، لأنّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لا مِن الخوارق التي تداخلها اُمور، والقائل

____________________

١ - قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات: لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه ‌السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. الى أن قال: والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقاً للواقع ليس بخطأ لانه حكم بما أمر الله.

٥٤

بصحّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الحجّة العظمى. إلى أن قال: في ص ١٨٧. إنّ فتح هذا الباب يؤدِّي إلى أن لا يُحفظ ترتيب الظواهر، فإنَّ من وجب عليه القتل بسببٍ ظاهرٍ فالعذر فيه ظاهرٌ واضحٌ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرَّد أمرٍ غيبيٍّ ربِّما شوَّش الخواطر وران على الظواهر، وقد فُهِمَ من الشرع سَدّ هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى انَّ البِّينة على المدَّعي واليمين على من أنكر، ولم يُستثن من ذلك أحدٌ حتّى أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتاج إلى البيِّنة في بعض ما اُنكر فيه ممّا كان اشتراه فقال: مَن يشهد لي؟ حتّى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين.

فما ظنّك بآحاد الاُمَّة، فلو ادَّعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحدٌ، فالإعتبارات الغيبيَّة مهملةٌ بحسب الأوامر والنواهي الشرعيَّة.

وقال في ص ١٨٩: فصلٌ: إذا تقرّر إعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك انّ الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدَّم وذلك على أوجه: أحدها أن يكون في أمرٍ مباحٍ كأن يرى المكاشف انَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقةٍ أو مخالفةٍ، أو يطَّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقادٍ حقٍّ أو باطلٍ وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفَّظ من مجيئه إن كان قصده بشرٍّ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يُعامله إلّا بما هو مشروعٌ كما تقدَّم.

ألثاني: أن يكون العمل عليها لفائدةٍ يرجو نجاحها، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه ما لعلّه يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الإلتفات إليها أو غيره، والكرامة كما انَّها خصوصيّةٌ كذلك هي فتنةٌ واختبارٌ لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجةٌ أو كان لذلك سببٌ يقتضيه فلا بأس.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر بالمغيَّبات للحاجة إلى ذلك، ومعلومٌ انَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يخبر بكلِّ مغيَّب إطَّلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصَّلاة والسَّلام

٥٥

المصلّين خلفه: أنَّه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل اُمَّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأوَّل، ولكنَّه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدَّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.

ألثالث: أن يكون فيه تحذيرٌ أو تبشيرٌ ليستعدَّ لكلٍّ عدَّته فهذا أيضاً جائزٌ كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك... إلخ.

فهلّا كان من الغيب نبأ إبني نوح، وأنباء قوم هو وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وذكرى ذي القرنين، ونبأ من سلف من الأنبياء والمرسلين؟!

وهلّا كان منه ما أسرَّ به النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها فلمّا نبّأها به و قالت من أنبأك هذا قال نبَّأني العليم الخبير؟ « تحريم ٣ »

وهلّا كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل ما لم يستطع عليه صبراً؟ « الكهف » وهلّا كان منه ما كان يقول عيسى لاُمَّته: وأُنبِّئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم؟ « آل عمران ٤٩ »

وهلّا كان منه قول عيسى لبني إسرائيل:يابني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد؟ « الصف ٦ »

وهلّا كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف: لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون؟ « يوسف ١٥ »

وهلّا كان ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم؟ « البقرة ٣٣ »

وهلّا كانت منه تلكم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة والأنجيل والزَّبور وصحف الماضين وزبر الأوَّلين بنبوَّة نبيِّ الإسلام وشمائله وتاريخ حياته وذكر اُمّته؟.

وهلّا كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المرويَّة عن الكهنة والرهابين والأقسَّة حول النبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ولادته؟.

ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم الله أحداً ممن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أو سيكون، من علم السَّماوات والأرضين، من علم الأوَّلين

٥٦

والآخرين، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم يُر أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض. ولا يُتصوَّر عندئذ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيَّ مرتبة رابية، وشتّان بينهما، إذ القيود الإمكانيّة البشريّة مأخوذةٌ في العلم البشريِّ دائماً لا محالة، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أنَّ العلم الإ~لهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الأحديّة الخاصّة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.

وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلاً وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شئ أن يقرأ ما فيه ويطلّع عليه لم يُشارك الله قطُّ في صفته العلم بالغيب، ولا يلزم منه الشرك.

فلا مقايسة بين العلم الذاتيِّ المطلق وبين العرضيِّ المحدود، ولا بين ما لا يكيَّف بكيف. ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيَّد. ولا بين الأزليِّ الأبديِّ وبين الحادث الموقَّت. ولا بين التأصليِّ وبين المكتسب من الغير، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر، لإختلاف طرق علمهما، وتباين الخصوصيّات والقيود المتَّخذة في علم كلٍّ منهما، مع الإ شتراك في إمكان الوجود. بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما علما من الأحكام الشرعيَّة ولو أحاط المقلّد بجميعها، لتباين المبادئ العلميَّة فيهما.

فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والإطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنّما هما من صفات الباري سبحانه، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنىُّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى: قل لا يعلم مَن في السَّماوات والأرض الغيب إلّا الله « النمل ٦٥ » وقوله تعالى: إنّ الله عالم غيب السَّماوات والأرض إنَّه عليمٌ بذات الصدور « فاطر ٣٨ » وقوله تعالى: إنَّ الله يعلم غيب السَّماوات والأرض و الله بصيرٌ بما تعملون « الحجرات ١٨ » وقوله تعالى: ثمَّ تردّون إلى‏ عالم الغيب والشهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون « الجمعة ٨ » وقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة هو الرَّحمان الرَّحيم « الحشر ٢٢ » وقوله تعالى: ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم « السجدة ٦ » وقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة

٥٧

العزيز الحكيم « التغابن ١٨ » وقوله تعالى: حكايةً عن نوح، لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملك « انعام ٥٠، هود ٣١ » وقوله تعالى حكايةً: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير « الأعراف ١٨٨ »

وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلَّة المسئلة كتاباً وسُنّة، فكلٌّ من الأدلَّة النافية والمثبتة ناظرٌ إلى ناحيةٍ منها، والموضوع المنفيُّ من علم الغيب في لسان الأدلَّة غير المثبت منه وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل البيت العصمة عليهم السّلام مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظمعليه‌السلام مجيباً يحيى بن عبد الله بن الحسن لَمّا قاله: جعلت فداك انَّهم يزعمون انّك تعلم الغيب؟ فقالعليه‌السلام : سبحان الله ضع يدك على راسي فوالله ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلّا قامت، ثمّ قال: لا والله ما هي إلّا وراثة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وكذلك الحال في بقيَّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصّصة، فلو كان عيسى على نبيِّنا وآله وعليه‌السلام يُحيي كلَّ الموتى بإذن الله، أو كان خَلق عالماً بشراً من الطين باذن ربِّه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله: إنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله « آل عمران ٤٩ » لم يكن يُشارك المولى سبحانه في صفته الإحياء والخلق، والله هو الوليّ، وهو محيي الموتى، وهو الخلّاق العليم.

وإنّ الملك المصوِّر في الأرحام مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها(٢) لم يكن يشارك ربَّه في صفته، والله هو الخالق

____________________

١ - أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه.

٢ - عن حذيفة مرفوعا: إذا مر بالنطفة اثنتان و اربعون ليلة بعث الله اليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم انثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئا ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول. وابن الدبيع في التيسير ٤ ص ٤٠.

وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول ٤ ص ٤٠: إذا بلغت « يعني المضغة » أن تخلق نفساً بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك بتراب بين اصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى؟ أشقى أم سعيد؟ وما عمره؟ وما رزقه؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله فيكتب الملك.

٥٨

البارئ المصوِّر، وهو الذي يصوِّر في الأرحام كيف يشاء.

والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدّر له من خير وشرٍّ وشقاوته وسعادته ثمّ ينفخ في الروح(١) لا يشارك ربّه، والله هو الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كلِّ شئٍ فقدَّره تقديراً.

وملك الموت مع انّه يتوفَّى الأنفس، وأنزل الله فيه القرآن وقال: قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكِّل بك « السجدة ١١ » صحَّ مع ذلك الحصر في قوله تعالى: ألله يتوفّى الأنفس حين موتها، و الله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شيء من ذلك، كما صحّت النسبة في قوله تعالى: ألّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم « النحل ٢٨ » وفي قوله تعالى: ألَّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين « النحل ٣٢ » ولا تعارض في كلِّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.

والملك لا يغشاه نوم العيون(٢) ولا تأخذه سِنة الراقد بتقديرٍ من العزيز العليم وجعله، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله: لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ.

ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض برمّتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.

فهلمَّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة بأنَّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيَّاه كيف يتفرَّع عليه القول بأنَّ الأئمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب؟ وما وجه الإشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه؟ وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الأئمّة بما كان وما يكون - وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه - وعدم خفاء شئ من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب.

تحديدٌ لعلم الله، وقولٌ بالحدِّ في صفاته سبحانه، ومَن حدَّه

____________________

١ - عن ابن مسعود مرفوعاً: ان خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً باربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح.

أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من ائمة الصحاح الا النسائى وأحمد في مسنده ١ ص ٣٧٤، ٤١٤، ٤٣٠، وابو داود في مسنده ٥ ص ٣٨، وذكره ابن الاثير في جامعه، وابن الدبيع في التيسير ٤ ص ٣٩.

٢ - راجع الخطبة الاولى من نهج البلاغة وشروحها.

٥٩

فقد عدَّه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلّا الله قد خفيت مغزاها على المغفَّل ولم يفهم منها شيئاً، ومِن النّاس من يجادل في الله بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطانٍ مريد.

ونسائل الرَّجل: كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمّة قومه؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال: أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة(١) وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في مسنده ج ٥ ص ٣٨٨ عن أبي ادريس قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: والله إنّي لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين السّاعة.

وقد جهل بأنَّ علم المؤمن بموته وإختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمرٍ خطير بعيدٍ عن خطر المؤمن فضلاً عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة، هلّا يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمَّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم؟ ذكروا عن إبن شهاب(٢) قال: كان أبو بكر - ابن أبي قحافة - والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول الله إنَّ فيها لسمّ سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد فرفع يده فلم يزالا عليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند إنقضاء السنة.

وذكر أحمد في مسنده ١ ص ٤٨ و ٥١، والطبري في رياضه ٢ ص ٧٤ إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلّا جمعة، وفي الرياض ج ٢ ص ٧٥ عن كعب الأحبار إنّه قال لعمر. يا أمير المؤمنين اعهد بأنَّك ميِّت إلى ثلاثة أيّام فلمَّا قضى ثلاثة أيَّام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال كعب.

وروى إنّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: إحترس أو أخرج العجم من المدينة فإنّي لا آمن أن يطعنك رجلٌ منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.

وعن جبير بن مطعم قال: إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلاً

____________________

١ - صحيح مسلم في كتاب الفتن، مسند أحمد ٥ ص ٣٨٦، البيهقى، تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٩٤، تيسير الوصول ٤ ص ٢٤١، خلاصة التهذيب ٦٣، الاصابة ١ ص ٢١٨، التقريب ٨٢.

٢ - ك ٣ ص ٦٤، صف ١ ص ١٠، يا ١ ص ١٨٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

منقولاً (1) .

وإنما أسهبنا في استعراض كلمات اللُّغويين؛ لأن عمدة ما يستدل به على عدم وجود ولاية أو سلطة في مادة الشورى هو أصل وضعها اللغوي، فإذا ادُّعي مثل ذلك في ظهور اللفظة، فيجب أن يكون بمؤنة زائدة على مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة أنها شبيهة ما يسمَّى بـ (بنك المعلومات أو بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيِّدة لِمَا ذكره اللُّغويون:

1 - إن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أيِّ عمل، وقلَّما يوجد مدير أو مسؤول خالٍ عن المستشارين، وفي نفس الوقت لا يكون لهم أيُّة سلطة على المستشير، بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصح.

2 - إن الفقهاء - من الفريقين - يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي: الاستشارة، وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب، لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.

3 - سوف نشير فيما بعد إلى التحليل الماهوي لمادة الشورى، حيث نذكر أنه لا ملازمة بين إبداء الرأي ووجوب الأخذ به، وإنما الملزِم هو حقَّانية الرأي واستصوابه.

4 - إن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلَّى بها المؤمنون، ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لآراء الآخرين، فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلّى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحرِّيه للصواب والحكمة التي هي ضالَّته أينما وجدها أخذها، وليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهمُّ جميع المسلمين.

____________________

(1) لجنة المجمع اللُّغوي، المعجم الوسيط، القاهرة، ص499.

١٤١

5 - إن القران اعتنى بمسألة الولاية ومَن تكون لهم الولاية على الآخرين؛ ولذا في أيِّ موضع أرادها، أشار إليها صراحة ( وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ... فالولاية من الأمور المهمة، سواء كانت فردية أم جماعية، فلو كان الشارع قد أرادها في الشورى، لصرَّح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6 - قد ورد في القران الكريم في قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا... )

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متَّفِقون على أن الولاية للأب، وأن الحضانة هي للأم، ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور، فمع اختصاص الولاية نَدَبَ إلى التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزِمة للولي، وهو الأب، بل هي معرفة أراء الأخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7 - ما ورد في قصة بلقيس - ملكة سبأ - عندما جاءتها رسالة النبي سليمان‏ عليه‌السلام ، فإنها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها، فأشاروا إليها: ( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) .

فواضح أنهم عرفوا موقعهم في الدولة، وأن الأمر بيد الملكة، وأن وظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، وأن التصميم على الحرب أو السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة، بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس، بل الإشارة إلى أن مسألة الشورى والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الإدارة متَّبع منذ الأزمنة الغابرة. والشارع قد أكدَّ على ذلك الأمر المهم وحثّ عليه.

8 - في سورة الحجرات (49 / 6): ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ.... ) .

١٤٢

حيث إنها واضحة الدلالة في أن الرسول لو أُلزم بالأخذ بنتيجة أرائهم دائماً، لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الأمة الإسلامية إلى كيفية التعامل مع الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي‏ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم؛ لأجل تمهيد الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله .

9 - ما ورد في أول سورة الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي لا تتقدَّموا على رسول اللَّه في البتِّ في الأمور فضلاً عن تنفيذها، فإنها ليست من وظيفتهم، بل هي وظيفة القيادة في حسم الأمر واتخاذ القرار النهائي؛ فهم تابعون حتَّى مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدِّم هذه الآية من قضية إخبار الوليد بن عقبة حول بني المصطلق، وتريث الرسول الأكرم في الأخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين، بل تصميهم على العمل بقوله، [يثبت ذلك]. فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدِّم على عزم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

10 - إن الحكمة من المشاورة - بناءً على هذا - هو ربط القيادة بالقاعدة، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الأصل اللُّغوي لاصطلاح الشورى؛ وهو مداولة الآراء وكونها جسراً للتفاهم والتحاور وإيصال المرادات؛ حتّى يصل القائد والمستشير إلى نتيجة أقرب إلى الصواب، ويقلُّ احتمال الخطأ فيها.

وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللُّغوي نصل إلى أن التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح؛ وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة

١٤٣

الحسم واتخاذ القرار. والشورى تدل على أصل بداية المداولة الفكرية، فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين؛ فهذا تعبير ركيك وأعجمي، والأعجب صدوره من أدباء عرب يدَّعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني:

أمَّا ما استُدل به في آية: ( وأمْرَهُم... ) ؛ من أن الإضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين، فجوابه يكون بعد بيان المقدمة التالية:

إن علماء أصول الفقه وأصول القانون يتَّفقون على أن القضية لا تتكفَّل إثبات موضوعها؛ بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع، ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق. أمَّا تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه، فهو قضية أخرى لا تتصدَّى لها نفس القضية.

وبناء عليه، فإذا نظرنا إلى الآية الكريمة التي تشير إلى ( وأمْرَهُم... ) فإن غاية ما تدل عليه أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين، ولكي يترتَّب عليه المحمول - كما يدَّعيه المدَّعى - يجب توفُّر أمران:

أحدهما: أن يكون الأمر ممَّا يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن تكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم؛ أي مضاف إليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتّى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب أن نُحرز أنَّ هذا الأمر المجموعي مفوَّض ومُوكَل إلى الجماعة. وممَّا لا شك فيه أن تعيين الإمام وثبوت النص وعدم إقحام الأمة في اختيار قيادتها - سيَّما في عصر النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام - ‏أمر مسلَّم؛ لا يختلف في الأول - أي في عصر النبي - أحد من المسلمين، ولا في الثاني - أي في عصر الأئمة - أحد من الشيعة، فإنه يدل على أن هذا الشأن - وهو اتخاذ القائد والزعيم - ليس من الأمور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى.

وعلى كل حال... فنفس الآية، ومجرد

١٤٤

تعبير ( أمْرَهُم ) ، لا يثبت المراد.

الوجه الثالث:

ملاحظة ذيل الآية ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

فإن العزم يغاير الشور، وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً؛ إذ أنه حاصل - في سياق الآية الكريمة - بعد الاستشارة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثِّل الفعل الثالث في أفعال النفس للإنسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الإجرائية والتنفيذية، وهي تسند العزم له وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله دون بقية المسلمين؛ فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً إلى أن الشورى جعلت فيها للمجموع، أمَّا هنا، فإنه مسند إليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة وإسنادا.

وثالثاً: أن الأمر بالتوكُّل هو للنبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخطاب له وحده.

ورابعاً: أن مادة التوكُّل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو خالف رأيهم، فعليه أن يعزم عليه ويتوكل على اللَّه، وخصوصاً إذا ما قارنَّا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ؛ ففيها ندب للرسول الأكرم أن يربِّي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح، وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه، بل يبقى الأمر بيده، وعليهم المتابعة والانقياد. فإدارة شؤون الأمة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره؛ ولذا حرص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على

١٤٥

تربية المؤمنين وحثِّهم على القيام بهذه المهمة، وتكون الشورى وقيامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله باستشارتهم لإشعارهم أن الأمر يهمُّهم وإن كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته، ويكون له الرأي النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وإن كان مخالفاً لهواهم وأكثريتهم.

فإذا كانت سيرة المعصوم عليه‌السلام مع أمَّـته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة، فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني؛ فهو ألزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وأن كان اختيار الرأي النهائي راجعاً إليه وبيده زمام الأمور.

الوجه الرابع:

وهو جواب عمَّا قيل: إنه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة، لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا إلى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى، وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآلفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الإحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتَّبع هواه.

ومنها: إشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في إدارة دفة الحكم، وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلاّ أنّ لهم دور في صنعه، ممَّا يجعلهم يتعاملون معه - في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس - بشكل أكبر وحماس أكثر؛ حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للأمة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة، وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقَّاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

١٤٦

تجعل الإنسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وأن الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أمَّا بني البشر، فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلاّ مَن عصمه اللَّه عزَّ وجل. فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلاّ أنهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم على عدم الاستبداد بالرأي، وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول إلى أرجح الآراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه؛ فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: أن الاستشارة تؤدي إلى إفشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون؛ حيث إنهم يستغلُّون الغموض الذي يكون في القرارات والأحكام للتلبيس على الأمة، فالاستشارة تؤدي إلى رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفيَّاته واضحة معروفة.

فمن خلال هذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل، يتَّضح أن لا لغْوية في البَين، وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحثِّ عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الأربعة أن المستدِل إذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الأكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم)، فهو غير دال على ما ذكر.

أمَّا إذا استدل على مراده من خلال بيان أن الولاية هي للمجموع، فإنه لم يقم الدليل عليه، ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما كما تقدم بيانه، بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الأمر والشأن هو لمجموع الأمة؛ وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

ا لوجه الخامس:

لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلَّمنا أنها بمعنى الإرادة والولاية

١٤٧

للشورى، فإن مقتضى استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ، والحق من الوهم، والسداد من الخطل، وحينئذٍ، فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي الأكثر وأهوائهم وميولهم الشخصية؛ فإنه كثير ما يُصحِّح الصواب ويُتَبين السداد ويَلتفت الأكثر إلى صواب القلَّة، لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة إلى ذلك. فلازم ولاية الشورى ليس هو نافذية رأي الكثرة، وكون المدار على الأكثرية، بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، وإلا لكان استخدام عنوان ومادة الشورى في الأدلة خاطئاً، وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون أملك بأمرهم أو أولى به ونحو ذلك ممَّا يعطي محض معنى السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس:

فقد استُشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسَّك بها الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الأكثرية المشاوَرة ولم يخرج عنها.

وفي مقام الجواب نشير - من باب المقدمة - إلى حقيقة تأريخية يجب أن يُلتفت إليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية؛ بيان ذلك:

أن المدقِّق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، يلاحظ أن الملتفِّين حول الرسول الأكرم لم يكونوا على نسقٍ واحد من الجهة الإيمانية، بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وإن كان وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد منع البعض من إظهار ما يكنّه، لكنَّه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى متَّسعاً لإظهار حقيقة أمره واتباعه لأهوائه، فظهر خطَّان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزَّ وجل أن يتولَّى قيادة الأمة طيلة سنوات متمادية، بل قرون طويلة، الخط المناوئ لعلي عليه‌السلام وأهل بيت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٤٨

ومن الساعة الأولى عمل هذا الخط الحاكم على توطيد سلطانه وملكه على حساب خط آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثِّل بعلي‏ عليه‌السلام وشيعته والمُعَنْوَن بـ: خط الإمامة. وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الأمة ليست نصية، بل هي شوروية؛ ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدِّثين والمؤرِّخين وكل الأجهزة الأخرى، لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الإسلامي، ومن هنا فإنا نقول: إن التاريخ ‏المكتوب ما هو إلاّ صورة لِمَا أراده الحُكّام؛ وعليه لا يمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب، بل يجب الرجوع إلى المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية. ويرى أحد الباحثين طرح منهجية جديدة في دراسة التاريخ؛ وهي أن مراجعة القرآن الكريم - الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله - والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتّى نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلاً ونقلاً. بعد ذلك نقول:

أولاً: كان أهم ما استند عليه المستدِل هو غزوة أحد، وما قام به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لِمَا يراه، وخصوصاً أن آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قد نزلت في هذه الواقعة؛ فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة؛ فنقول:

إنّه لمَّا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج قريش قال للمسلمين: (إني قد رأيت - واللَّه - خيراً؛ رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة).

ثُم إنه استشار قومه في قتال المشركين، وكان رأي عبداللَّه بن أُبي بن سلول مع رأي النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو البقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

١٤٩

إليهم، فواللَّه ما خرجنا منها إلى عدوٍ لنا قط إلاّ أصاب منا، ولا دخلها علينا أحد إلاّ أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه، فإن أقاموا بشرٍّ، فحبس، وإن دخلوا، قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجل ممَّن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أُحد، وغيره ممَّن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم - حتّى دخل بيته ولبس لامته، ثُم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم، قالوا: يارسول اللَّه، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد (صلى اللَّه عليك)، فقال الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل). فخرج النبي في ألفٍ من أصحابه حتَّى إذا مشوا مسافة، رجع عنه عبداللَّه بن أُبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني (1) .

هذا هو التقرير الرسمي لِمَا جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أُحد. وتشير مصادر أخرى - كما في الكامل في التاريخ لإبن كثير في (3 / 23) - بما يلي:

وأبى كثير من الناس إلاّ الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول اللَّه ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم، كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر. وعامة مَن أشار إليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير على أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه، والشباب المتحمِّس هو الذي أصر على الخروج.

إذن فالآية وردت في هذه الغزوة، وقد طبَّقها الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث استشار قومه،

____________________

(1) راجع: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص63، و ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص12، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٠

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

هذا هو ما ادعُي في المقام.

وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها آيات عديدة، يجب الرجوع إلى عرض هذه الحادثة على ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها؛ ليحصل الغرض النهائي، وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الأخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق، ومن خلال تشعُّبنا واستخدامنا لهذا المنهج؛ أعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة، نستنتج:

1 - أن رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن البقاء في المدينة، بل الخروج منها.

2 - أن الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3 - أن سبب هزيمة المسلمين في أُحد؛ لم يكن الخروج من المدينة - كما يظهر من بعض الكتّاب - بل هو تخلُّف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن أُبي‏ بن سلول، وهو رأس المنافقين والذي أثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة؛ وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي ‏بكر، وهم السبعة أصحاب الصحيفة، أثنين من الأنصار وخمسة من المهاجرين.

5 - أن القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذمَّ البقاء داخلها.

6 - أن اللَّه عزَّ وجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزَّر قبل غزوة أُحد إذا همْ خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المُدَّعَيات:

١٥١

القرينة الأولى: ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله تعالى: ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَل ) (1) .

حيث يذكر أنها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول، وأن أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . عن الصادق عليه‌السلام قال: (وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لمَّا رجعت من بدر إلى مكَّة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، قال أبو سفيان: يامعشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت، أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد، أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا أرادوا أن يغزوا رسولَ اللَّه في أُحد، ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم على حرب الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرج أبو سفيان هند بن عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة. فلمّا بلغ رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، جمع أصحابه، وأخبرهم أن اللَّه عزَّ وجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمَّعت تريد المدينة، وحثَّ أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن أُبي ‏بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط، فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا على عدوٍ لنا قط إلاّ كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أُحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا، لا حتّى نخرج إليهم، فنقاتلهم؛ فمَن قُتل منا كان شهيداً، ومَن نجا كان في هدى. وقبل رسول اللَّه قوله).

____________________

(1) آل عمران: 121.

١٥٢

فيلاحظ من هذا النص:

ـ أن رأي بعض الأكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ، وهو من الأنصار.

ـ أن دعوى الأنصار كانت مستندة إلى دلائل على أن الخروج أفضل؛ منها:

أ - أن بقاءنا يُطمع فينا أعدائنا، ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب - أن ذلك سوف يحرمنا من الأراضي التي حول المدينة؛ حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها، مضافاً إلى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

جـ - أن عدَّتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم؟!

هذا مضافاً إلى أن بعض كتب السير قد عبَّرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي، وعن أصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين، فكيف يكون الصواب هو المكث؟ وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب؛ حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب، وهي في سورة آل عمران (160 - 121).

وهذه الآيات الكريمة تتحدَّث عن الواقعة بنحو مفصَّل، وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1 - ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) حيث أن اللَّه عزَّ وجل يذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما خرج يهيِّئ أماكن القتال ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لِمَا فعله النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزَّ وجل إلى أنه سميع

١٥٣

لأقوالكم، وعليم بنيَّات ما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2 - ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة إمَّا عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه، وإمَّا بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس؛ أرادا الرجوع إلى المدينة مع ابن سلول إلاّ أن اللَّه عزَّوجل أثنى ذلك عن قلوبهما.

وعلى كل حال... فالآية تذم المتخاذل والمتراجع إلى المدينة، فكيف يُدّعى أن البقاء في المدينة هو الصائب؟!

3 - ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ء ( 123 ) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) ، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار - وكانوا قلَّة - ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار؛ وذلك بالإمداد الغيبي، وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وإن كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة، وتخاذل بعض المسلمين، وتذكير الرسول لهؤلاء أن الخروج للقتال هو الأفضل؛ حيث إن الإمداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يُصرُّ عليه من ضرورة البقاء في المدينة؛ لأنه أحفظ للأنفس وأمنع، لا داعي له؛ إذ أن المدد الإلهي متيقن، واللَّه يَعِدُ رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثُم تتعرَّض الآيات (138 - 129) إلى مواضيع أجنبية عن البحث، ويعود إلى محل الكلام في الآية 139.

١٥٤

4 - ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وفي هذه الآية بيان للأمر لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي أبانها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم، فسيطر الكفَّار على ساحة المعركة، فحثَّهم على الصبر وعدم الضعف عن الجهاد؛ إذ مع هذه الخسارة المؤقتة، أنتم الأعلون، وإن كنتم قد أُصبتم، فقد أصاب الكفَّار في بدر أكثر ممَّا أُصبتم به ألان، ويذكر سنَّة من سنن اللَّه في الكون؛ وهي أنّ الأيام يصرّفها بين الناس، فتارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء.

5 - ثُم يبيِّن الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة؛ فإنها امتحان للمسلمين ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء ( 141 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر؛ فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الإيمان والاعتقاد، فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتَّى صنوف الاختبار. وإذا ما انتصر الظالمون يوماً، فهذا مؤقَّت؛ ولا يدل على حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالإيمان اللفظي، بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين، يجابهه القرآن ويرفعه ويذكِّرهم ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) . وقد ورد أن المؤمنين عندما أخبرهم اللَّه تعالى بمنزلة شهداء بدر، قالوا: اللَّهُم أرنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين إلى لقاء اللَّه.

5 - ( وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

وهذا هو الامتحان الأهم؛ فبعد أن سيطر الكفَّار على ساحة المعركة، لأسباب سوف تشير إليها الآيات القادمة، ولم يبق مع الرسول الأكرم إلاّ الخُلَّص؛ مثل أمير

١٥٥

المؤمنين وأبو دجانة سمَّاك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قُتل، وهنا أنقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير إليه رواية الطبري (1) ، قال: انتهى أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطَّاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُم استقبل القوم، فقاتل حتّى قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبداللَّه بن أُبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان. يا قوم، إن محمداً قد قُتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم، فيقتلوكم) (2) .

ومنهم: عثمان بن عفَّان، وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان، وهما رجلان من الأنصار؛ فقد فرُّوا حتّى بلغوا الجلَعب، جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً (3) ومَن أراد المزيد فليراجع: (الصحيح من سيرة الرسول الأعظم/ ج2 / ص 240 - 250).

فالآية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين:

أحدهما: المنقلبة.

والأخرى: الثابتة مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد وصف اللَّه عزَّ وجل الأولى أنها لا تضر اللَّه شيئاً، بل الضرر على أنفسهم. أمَّا الثانية، فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكِّد على ذلك، ويكرِّر الباري تعالى ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) . ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قول الحق، وأنه لا يصيبهم

____________________

(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص12.

(2) المصدر، ج2، ص201.

(3) المصدر، ج2، ص21.

١٥٦

الضعف والحزن والوهن، ولا يقعدوا عن الجهاد.

6 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَان ) .

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا إلى دينهم، فاللَّه هو الناصر، وهو المؤيِّد والمعز.

وقد سيطرة المشركين على المعركة إلا أن اللَّه قد ألقى في قلوبهم الذعر والخوف، فعادوا إلى مكة.

7 - ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ) ؛ فهذا يدل على وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل، فقد تحقَّق هذا النصر في بداية المعركة، وقُتل عدد كبير من المشركين ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ) أي ملتم إلى الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول، وكان الرسول الأكرم قد نبَّـهَّهُم وأمرهم عند بداية المعركة، فقال للرماة: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا،

فلا تغيثونا) (1) ؛ يجب عليكم الثبات في مواقعكم، لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم، ( وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ؛ وهم الثابتون: عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتّى قتلوا. ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) تفضُّلا، ( وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة، ولا مجال حينئذٍ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

____________________

(1) تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٧

8 - ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ ) .

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشائعة موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم؛ يقول: (إليّ عباد اللَّه، ارجعوا أنا رسول اللَّه، إليّ أين تفرُّون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكرُّ فله الجنة). ثُم تبيَّن صفة هؤلاء الذين ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له، وأن يد اللَّه مغلولة، ولابد من الاستعانة باللَّات والْعُزَّى وهبل؛ فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ) وهو مالك كل شي‏ء.

فيتَّضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1 - عصيان الرماة لأوامر الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركهم لمواقعهم.

2 - الفرار عندما أُشيع موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

3 - ظن البعض باللَّه ظنَّ الجاهلية؛ ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلا علوَّاً كبيراً.

9 - ثُم يتعرَّض الحق تعالى لِمَا يقولون ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرَّروا قولهم: أن لو كنا في المدينة، لكنّا أمنع وأحصن. متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا رادَّ له حتّى لو كان في أمنع الحصون؛ فهذا ذمٌّ لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

١٥٨

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة، بل العصيان. والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبيِّن الآيات أن مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الإلهي، ثُم في هذا السياق ترد آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ؛ في سياق بيان صفات النبي التي تحلَّى بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10 - تعود الآيات للتذكير بين واقعة أُحد وواقعة بدر.

( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) حيث نسب البعض إلى النبي هذه الخيانة في المغنم ( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَ ) وذلك في غزوة بدر؛ حيث إنكم قد أصبتم الكفار بعض ما أصابوكم ألان ( قُلْتُمْ أَنَّى هذا ) أي مِن أين أصابنا هذا؟ وظننتم باللَّه ظنَّ الجاهلية ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) أي بسبب فعلكم وعصيانكم ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ‏ء166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ... )

ثُم تبيِّن الآيات صفات المؤمنين؛ من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف، ثُم يذكر صفة أخرى لها صلة بما تقدَّم ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

١٥٩

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة أخرى بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم، وأن لا يخرج معه إلا مَن به جراحة، فنادى منادٍ: يامعشر المهاجرين والأنصار، مَن كانت به جراحة فليخرج به، ومَن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد - وقريش قد نزلت

الروحاء - قال عكرمة بن أبي‏ جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة؛ قد قتلنا سراتهم وكبشهم؛ يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة، فسألوه الخبر، فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا إلى مكَّة، وسمِّيت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة(174 - 121) خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الأكرم في استخبار نيَّات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون إليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل، وأن المنافقين أرادوا الإيقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: (أمَا إن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، مَن استشارهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يُعدم غيَّا) (1) .

ثانياً: غزوة الخندق؛ فقد استُدل بها على الشورى وإلزاميَّـتها في موطنين؛ الأول:

____________________

(1) الشورى بين النظرية والتطبيق، ص 27 - 30.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461