الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

الغدير في الكتاب والسنة والأدب12%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 461

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 461 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129363 / تحميل: 6909
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

منقولاً (1) .

وإنما أسهبنا في استعراض كلمات اللُّغويين؛ لأن عمدة ما يستدل به على عدم وجود ولاية أو سلطة في مادة الشورى هو أصل وضعها اللغوي، فإذا ادُّعي مثل ذلك في ظهور اللفظة، فيجب أن يكون بمؤنة زائدة على مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة أنها شبيهة ما يسمَّى بـ (بنك المعلومات أو بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيِّدة لِمَا ذكره اللُّغويون:

1 - إن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أيِّ عمل، وقلَّما يوجد مدير أو مسؤول خالٍ عن المستشارين، وفي نفس الوقت لا يكون لهم أيُّة سلطة على المستشير، بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصح.

2 - إن الفقهاء - من الفريقين - يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي: الاستشارة، وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب، لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.

3 - سوف نشير فيما بعد إلى التحليل الماهوي لمادة الشورى، حيث نذكر أنه لا ملازمة بين إبداء الرأي ووجوب الأخذ به، وإنما الملزِم هو حقَّانية الرأي واستصوابه.

4 - إن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلَّى بها المؤمنون، ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لآراء الآخرين، فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلّى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحرِّيه للصواب والحكمة التي هي ضالَّته أينما وجدها أخذها، وليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهمُّ جميع المسلمين.

____________________

(1) لجنة المجمع اللُّغوي، المعجم الوسيط، القاهرة، ص499.

١٤١

5 - إن القران اعتنى بمسألة الولاية ومَن تكون لهم الولاية على الآخرين؛ ولذا في أيِّ موضع أرادها، أشار إليها صراحة ( وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ... فالولاية من الأمور المهمة، سواء كانت فردية أم جماعية، فلو كان الشارع قد أرادها في الشورى، لصرَّح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6 - قد ورد في القران الكريم في قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا... )

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متَّفِقون على أن الولاية للأب، وأن الحضانة هي للأم، ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور، فمع اختصاص الولاية نَدَبَ إلى التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزِمة للولي، وهو الأب، بل هي معرفة أراء الأخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7 - ما ورد في قصة بلقيس - ملكة سبأ - عندما جاءتها رسالة النبي سليمان‏ عليه‌السلام ، فإنها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها، فأشاروا إليها: ( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) .

فواضح أنهم عرفوا موقعهم في الدولة، وأن الأمر بيد الملكة، وأن وظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، وأن التصميم على الحرب أو السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة، بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس، بل الإشارة إلى أن مسألة الشورى والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الإدارة متَّبع منذ الأزمنة الغابرة. والشارع قد أكدَّ على ذلك الأمر المهم وحثّ عليه.

8 - في سورة الحجرات (49 / 6): ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ.... ) .

١٤٢

حيث إنها واضحة الدلالة في أن الرسول لو أُلزم بالأخذ بنتيجة أرائهم دائماً، لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الأمة الإسلامية إلى كيفية التعامل مع الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي‏ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم؛ لأجل تمهيد الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله .

9 - ما ورد في أول سورة الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي لا تتقدَّموا على رسول اللَّه في البتِّ في الأمور فضلاً عن تنفيذها، فإنها ليست من وظيفتهم، بل هي وظيفة القيادة في حسم الأمر واتخاذ القرار النهائي؛ فهم تابعون حتَّى مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدِّم هذه الآية من قضية إخبار الوليد بن عقبة حول بني المصطلق، وتريث الرسول الأكرم في الأخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين، بل تصميهم على العمل بقوله، [يثبت ذلك]. فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدِّم على عزم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

10 - إن الحكمة من المشاورة - بناءً على هذا - هو ربط القيادة بالقاعدة، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الأصل اللُّغوي لاصطلاح الشورى؛ وهو مداولة الآراء وكونها جسراً للتفاهم والتحاور وإيصال المرادات؛ حتّى يصل القائد والمستشير إلى نتيجة أقرب إلى الصواب، ويقلُّ احتمال الخطأ فيها.

وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللُّغوي نصل إلى أن التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح؛ وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة

١٤٣

الحسم واتخاذ القرار. والشورى تدل على أصل بداية المداولة الفكرية، فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين؛ فهذا تعبير ركيك وأعجمي، والأعجب صدوره من أدباء عرب يدَّعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني:

أمَّا ما استُدل به في آية: ( وأمْرَهُم... ) ؛ من أن الإضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين، فجوابه يكون بعد بيان المقدمة التالية:

إن علماء أصول الفقه وأصول القانون يتَّفقون على أن القضية لا تتكفَّل إثبات موضوعها؛ بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع، ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق. أمَّا تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه، فهو قضية أخرى لا تتصدَّى لها نفس القضية.

وبناء عليه، فإذا نظرنا إلى الآية الكريمة التي تشير إلى ( وأمْرَهُم... ) فإن غاية ما تدل عليه أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين، ولكي يترتَّب عليه المحمول - كما يدَّعيه المدَّعى - يجب توفُّر أمران:

أحدهما: أن يكون الأمر ممَّا يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن تكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم؛ أي مضاف إليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتّى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب أن نُحرز أنَّ هذا الأمر المجموعي مفوَّض ومُوكَل إلى الجماعة. وممَّا لا شك فيه أن تعيين الإمام وثبوت النص وعدم إقحام الأمة في اختيار قيادتها - سيَّما في عصر النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام - ‏أمر مسلَّم؛ لا يختلف في الأول - أي في عصر النبي - أحد من المسلمين، ولا في الثاني - أي في عصر الأئمة - أحد من الشيعة، فإنه يدل على أن هذا الشأن - وهو اتخاذ القائد والزعيم - ليس من الأمور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى.

وعلى كل حال... فنفس الآية، ومجرد

١٤٤

تعبير ( أمْرَهُم ) ، لا يثبت المراد.

الوجه الثالث:

ملاحظة ذيل الآية ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

فإن العزم يغاير الشور، وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً؛ إذ أنه حاصل - في سياق الآية الكريمة - بعد الاستشارة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثِّل الفعل الثالث في أفعال النفس للإنسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الإجرائية والتنفيذية، وهي تسند العزم له وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله دون بقية المسلمين؛ فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً إلى أن الشورى جعلت فيها للمجموع، أمَّا هنا، فإنه مسند إليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة وإسنادا.

وثالثاً: أن الأمر بالتوكُّل هو للنبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخطاب له وحده.

ورابعاً: أن مادة التوكُّل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو خالف رأيهم، فعليه أن يعزم عليه ويتوكل على اللَّه، وخصوصاً إذا ما قارنَّا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ؛ ففيها ندب للرسول الأكرم أن يربِّي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح، وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه، بل يبقى الأمر بيده، وعليهم المتابعة والانقياد. فإدارة شؤون الأمة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره؛ ولذا حرص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على

١٤٥

تربية المؤمنين وحثِّهم على القيام بهذه المهمة، وتكون الشورى وقيامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله باستشارتهم لإشعارهم أن الأمر يهمُّهم وإن كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته، ويكون له الرأي النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وإن كان مخالفاً لهواهم وأكثريتهم.

فإذا كانت سيرة المعصوم عليه‌السلام مع أمَّـته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة، فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني؛ فهو ألزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وأن كان اختيار الرأي النهائي راجعاً إليه وبيده زمام الأمور.

الوجه الرابع:

وهو جواب عمَّا قيل: إنه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة، لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا إلى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى، وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآلفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الإحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتَّبع هواه.

ومنها: إشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في إدارة دفة الحكم، وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلاّ أنّ لهم دور في صنعه، ممَّا يجعلهم يتعاملون معه - في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس - بشكل أكبر وحماس أكثر؛ حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للأمة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة، وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقَّاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

١٤٦

تجعل الإنسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وأن الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أمَّا بني البشر، فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلاّ مَن عصمه اللَّه عزَّ وجل. فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلاّ أنهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم على عدم الاستبداد بالرأي، وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول إلى أرجح الآراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه؛ فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: أن الاستشارة تؤدي إلى إفشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون؛ حيث إنهم يستغلُّون الغموض الذي يكون في القرارات والأحكام للتلبيس على الأمة، فالاستشارة تؤدي إلى رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفيَّاته واضحة معروفة.

فمن خلال هذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل، يتَّضح أن لا لغْوية في البَين، وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحثِّ عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الأربعة أن المستدِل إذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الأكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم)، فهو غير دال على ما ذكر.

أمَّا إذا استدل على مراده من خلال بيان أن الولاية هي للمجموع، فإنه لم يقم الدليل عليه، ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما كما تقدم بيانه، بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الأمر والشأن هو لمجموع الأمة؛ وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

ا لوجه الخامس:

لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلَّمنا أنها بمعنى الإرادة والولاية

١٤٧

للشورى، فإن مقتضى استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ، والحق من الوهم، والسداد من الخطل، وحينئذٍ، فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي الأكثر وأهوائهم وميولهم الشخصية؛ فإنه كثير ما يُصحِّح الصواب ويُتَبين السداد ويَلتفت الأكثر إلى صواب القلَّة، لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة إلى ذلك. فلازم ولاية الشورى ليس هو نافذية رأي الكثرة، وكون المدار على الأكثرية، بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، وإلا لكان استخدام عنوان ومادة الشورى في الأدلة خاطئاً، وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون أملك بأمرهم أو أولى به ونحو ذلك ممَّا يعطي محض معنى السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس:

فقد استُشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسَّك بها الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الأكثرية المشاوَرة ولم يخرج عنها.

وفي مقام الجواب نشير - من باب المقدمة - إلى حقيقة تأريخية يجب أن يُلتفت إليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية؛ بيان ذلك:

أن المدقِّق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، يلاحظ أن الملتفِّين حول الرسول الأكرم لم يكونوا على نسقٍ واحد من الجهة الإيمانية، بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وإن كان وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد منع البعض من إظهار ما يكنّه، لكنَّه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى متَّسعاً لإظهار حقيقة أمره واتباعه لأهوائه، فظهر خطَّان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزَّ وجل أن يتولَّى قيادة الأمة طيلة سنوات متمادية، بل قرون طويلة، الخط المناوئ لعلي عليه‌السلام وأهل بيت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٤٨

ومن الساعة الأولى عمل هذا الخط الحاكم على توطيد سلطانه وملكه على حساب خط آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثِّل بعلي‏ عليه‌السلام وشيعته والمُعَنْوَن بـ: خط الإمامة. وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الأمة ليست نصية، بل هي شوروية؛ ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدِّثين والمؤرِّخين وكل الأجهزة الأخرى، لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الإسلامي، ومن هنا فإنا نقول: إن التاريخ ‏المكتوب ما هو إلاّ صورة لِمَا أراده الحُكّام؛ وعليه لا يمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب، بل يجب الرجوع إلى المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية. ويرى أحد الباحثين طرح منهجية جديدة في دراسة التاريخ؛ وهي أن مراجعة القرآن الكريم - الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله - والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتّى نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلاً ونقلاً. بعد ذلك نقول:

أولاً: كان أهم ما استند عليه المستدِل هو غزوة أحد، وما قام به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لِمَا يراه، وخصوصاً أن آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قد نزلت في هذه الواقعة؛ فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة؛ فنقول:

إنّه لمَّا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج قريش قال للمسلمين: (إني قد رأيت - واللَّه - خيراً؛ رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة).

ثُم إنه استشار قومه في قتال المشركين، وكان رأي عبداللَّه بن أُبي بن سلول مع رأي النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو البقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

١٤٩

إليهم، فواللَّه ما خرجنا منها إلى عدوٍ لنا قط إلاّ أصاب منا، ولا دخلها علينا أحد إلاّ أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه، فإن أقاموا بشرٍّ، فحبس، وإن دخلوا، قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجل ممَّن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أُحد، وغيره ممَّن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم - حتّى دخل بيته ولبس لامته، ثُم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم، قالوا: يارسول اللَّه، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد (صلى اللَّه عليك)، فقال الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل). فخرج النبي في ألفٍ من أصحابه حتَّى إذا مشوا مسافة، رجع عنه عبداللَّه بن أُبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني (1) .

هذا هو التقرير الرسمي لِمَا جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أُحد. وتشير مصادر أخرى - كما في الكامل في التاريخ لإبن كثير في (3 / 23) - بما يلي:

وأبى كثير من الناس إلاّ الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول اللَّه ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم، كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر. وعامة مَن أشار إليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير على أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه، والشباب المتحمِّس هو الذي أصر على الخروج.

إذن فالآية وردت في هذه الغزوة، وقد طبَّقها الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث استشار قومه،

____________________

(1) راجع: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص63، و ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص12، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٠

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

هذا هو ما ادعُي في المقام.

وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها آيات عديدة، يجب الرجوع إلى عرض هذه الحادثة على ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها؛ ليحصل الغرض النهائي، وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الأخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق، ومن خلال تشعُّبنا واستخدامنا لهذا المنهج؛ أعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة، نستنتج:

1 - أن رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن البقاء في المدينة، بل الخروج منها.

2 - أن الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3 - أن سبب هزيمة المسلمين في أُحد؛ لم يكن الخروج من المدينة - كما يظهر من بعض الكتّاب - بل هو تخلُّف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن أُبي‏ بن سلول، وهو رأس المنافقين والذي أثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة؛ وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي ‏بكر، وهم السبعة أصحاب الصحيفة، أثنين من الأنصار وخمسة من المهاجرين.

5 - أن القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذمَّ البقاء داخلها.

6 - أن اللَّه عزَّ وجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزَّر قبل غزوة أُحد إذا همْ خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المُدَّعَيات:

١٥١

القرينة الأولى: ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله تعالى: ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَل ) (1) .

حيث يذكر أنها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول، وأن أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . عن الصادق عليه‌السلام قال: (وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لمَّا رجعت من بدر إلى مكَّة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، قال أبو سفيان: يامعشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت، أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد، أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا أرادوا أن يغزوا رسولَ اللَّه في أُحد، ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم على حرب الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرج أبو سفيان هند بن عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة. فلمّا بلغ رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، جمع أصحابه، وأخبرهم أن اللَّه عزَّ وجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمَّعت تريد المدينة، وحثَّ أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن أُبي ‏بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط، فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا على عدوٍ لنا قط إلاّ كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أُحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا، لا حتّى نخرج إليهم، فنقاتلهم؛ فمَن قُتل منا كان شهيداً، ومَن نجا كان في هدى. وقبل رسول اللَّه قوله).

____________________

(1) آل عمران: 121.

١٥٢

فيلاحظ من هذا النص:

ـ أن رأي بعض الأكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ، وهو من الأنصار.

ـ أن دعوى الأنصار كانت مستندة إلى دلائل على أن الخروج أفضل؛ منها:

أ - أن بقاءنا يُطمع فينا أعدائنا، ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب - أن ذلك سوف يحرمنا من الأراضي التي حول المدينة؛ حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها، مضافاً إلى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

جـ - أن عدَّتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم؟!

هذا مضافاً إلى أن بعض كتب السير قد عبَّرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي، وعن أصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين، فكيف يكون الصواب هو المكث؟ وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب؛ حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب، وهي في سورة آل عمران (160 - 121).

وهذه الآيات الكريمة تتحدَّث عن الواقعة بنحو مفصَّل، وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1 - ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) حيث أن اللَّه عزَّ وجل يذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما خرج يهيِّئ أماكن القتال ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لِمَا فعله النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزَّ وجل إلى أنه سميع

١٥٣

لأقوالكم، وعليم بنيَّات ما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2 - ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة إمَّا عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه، وإمَّا بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس؛ أرادا الرجوع إلى المدينة مع ابن سلول إلاّ أن اللَّه عزَّوجل أثنى ذلك عن قلوبهما.

وعلى كل حال... فالآية تذم المتخاذل والمتراجع إلى المدينة، فكيف يُدّعى أن البقاء في المدينة هو الصائب؟!

3 - ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ء ( 123 ) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) ، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار - وكانوا قلَّة - ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار؛ وذلك بالإمداد الغيبي، وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وإن كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة، وتخاذل بعض المسلمين، وتذكير الرسول لهؤلاء أن الخروج للقتال هو الأفضل؛ حيث إن الإمداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يُصرُّ عليه من ضرورة البقاء في المدينة؛ لأنه أحفظ للأنفس وأمنع، لا داعي له؛ إذ أن المدد الإلهي متيقن، واللَّه يَعِدُ رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثُم تتعرَّض الآيات (138 - 129) إلى مواضيع أجنبية عن البحث، ويعود إلى محل الكلام في الآية 139.

١٥٤

4 - ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وفي هذه الآية بيان للأمر لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي أبانها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم، فسيطر الكفَّار على ساحة المعركة، فحثَّهم على الصبر وعدم الضعف عن الجهاد؛ إذ مع هذه الخسارة المؤقتة، أنتم الأعلون، وإن كنتم قد أُصبتم، فقد أصاب الكفَّار في بدر أكثر ممَّا أُصبتم به ألان، ويذكر سنَّة من سنن اللَّه في الكون؛ وهي أنّ الأيام يصرّفها بين الناس، فتارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء.

5 - ثُم يبيِّن الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة؛ فإنها امتحان للمسلمين ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء ( 141 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر؛ فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الإيمان والاعتقاد، فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتَّى صنوف الاختبار. وإذا ما انتصر الظالمون يوماً، فهذا مؤقَّت؛ ولا يدل على حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالإيمان اللفظي، بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين، يجابهه القرآن ويرفعه ويذكِّرهم ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) . وقد ورد أن المؤمنين عندما أخبرهم اللَّه تعالى بمنزلة شهداء بدر، قالوا: اللَّهُم أرنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين إلى لقاء اللَّه.

5 - ( وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

وهذا هو الامتحان الأهم؛ فبعد أن سيطر الكفَّار على ساحة المعركة، لأسباب سوف تشير إليها الآيات القادمة، ولم يبق مع الرسول الأكرم إلاّ الخُلَّص؛ مثل أمير

١٥٥

المؤمنين وأبو دجانة سمَّاك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قُتل، وهنا أنقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير إليه رواية الطبري (1) ، قال: انتهى أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطَّاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُم استقبل القوم، فقاتل حتّى قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبداللَّه بن أُبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان. يا قوم، إن محمداً قد قُتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم، فيقتلوكم) (2) .

ومنهم: عثمان بن عفَّان، وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان، وهما رجلان من الأنصار؛ فقد فرُّوا حتّى بلغوا الجلَعب، جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً (3) ومَن أراد المزيد فليراجع: (الصحيح من سيرة الرسول الأعظم/ ج2 / ص 240 - 250).

فالآية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين:

أحدهما: المنقلبة.

والأخرى: الثابتة مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد وصف اللَّه عزَّ وجل الأولى أنها لا تضر اللَّه شيئاً، بل الضرر على أنفسهم. أمَّا الثانية، فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكِّد على ذلك، ويكرِّر الباري تعالى ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) . ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قول الحق، وأنه لا يصيبهم

____________________

(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص12.

(2) المصدر، ج2، ص201.

(3) المصدر، ج2، ص21.

١٥٦

الضعف والحزن والوهن، ولا يقعدوا عن الجهاد.

6 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَان ) .

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا إلى دينهم، فاللَّه هو الناصر، وهو المؤيِّد والمعز.

وقد سيطرة المشركين على المعركة إلا أن اللَّه قد ألقى في قلوبهم الذعر والخوف، فعادوا إلى مكة.

7 - ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ) ؛ فهذا يدل على وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل، فقد تحقَّق هذا النصر في بداية المعركة، وقُتل عدد كبير من المشركين ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ) أي ملتم إلى الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول، وكان الرسول الأكرم قد نبَّـهَّهُم وأمرهم عند بداية المعركة، فقال للرماة: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا،

فلا تغيثونا) (1) ؛ يجب عليكم الثبات في مواقعكم، لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم، ( وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ؛ وهم الثابتون: عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتّى قتلوا. ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) تفضُّلا، ( وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة، ولا مجال حينئذٍ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

____________________

(1) تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٧

8 - ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ ) .

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشائعة موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم؛ يقول: (إليّ عباد اللَّه، ارجعوا أنا رسول اللَّه، إليّ أين تفرُّون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكرُّ فله الجنة). ثُم تبيَّن صفة هؤلاء الذين ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له، وأن يد اللَّه مغلولة، ولابد من الاستعانة باللَّات والْعُزَّى وهبل؛ فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ) وهو مالك كل شي‏ء.

فيتَّضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1 - عصيان الرماة لأوامر الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركهم لمواقعهم.

2 - الفرار عندما أُشيع موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

3 - ظن البعض باللَّه ظنَّ الجاهلية؛ ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلا علوَّاً كبيراً.

9 - ثُم يتعرَّض الحق تعالى لِمَا يقولون ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرَّروا قولهم: أن لو كنا في المدينة، لكنّا أمنع وأحصن. متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا رادَّ له حتّى لو كان في أمنع الحصون؛ فهذا ذمٌّ لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

١٥٨

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة، بل العصيان. والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبيِّن الآيات أن مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الإلهي، ثُم في هذا السياق ترد آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ؛ في سياق بيان صفات النبي التي تحلَّى بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10 - تعود الآيات للتذكير بين واقعة أُحد وواقعة بدر.

( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) حيث نسب البعض إلى النبي هذه الخيانة في المغنم ( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَ ) وذلك في غزوة بدر؛ حيث إنكم قد أصبتم الكفار بعض ما أصابوكم ألان ( قُلْتُمْ أَنَّى هذا ) أي مِن أين أصابنا هذا؟ وظننتم باللَّه ظنَّ الجاهلية ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) أي بسبب فعلكم وعصيانكم ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ‏ء166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ... )

ثُم تبيِّن الآيات صفات المؤمنين؛ من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف، ثُم يذكر صفة أخرى لها صلة بما تقدَّم ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

١٥٩

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة أخرى بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم، وأن لا يخرج معه إلا مَن به جراحة، فنادى منادٍ: يامعشر المهاجرين والأنصار، مَن كانت به جراحة فليخرج به، ومَن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد - وقريش قد نزلت

الروحاء - قال عكرمة بن أبي‏ جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة؛ قد قتلنا سراتهم وكبشهم؛ يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة، فسألوه الخبر، فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا إلى مكَّة، وسمِّيت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة(174 - 121) خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الأكرم في استخبار نيَّات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون إليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل، وأن المنافقين أرادوا الإيقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: (أمَا إن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، مَن استشارهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يُعدم غيَّا) (1) .

ثانياً: غزوة الخندق؛ فقد استُدل بها على الشورى وإلزاميَّـتها في موطنين؛ الأول:

____________________

(1) الشورى بين النظرية والتطبيق، ص 27 - 30.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

هل جمع القوم الذي قد جمعه

من علمه؟ بخٍ له ما أوسعه؟

وهل علمت مثله خطيبا؟

أو ناثراً أو ناظماً غريبا؟

أو بادياً في العلم أو مجيبا؟

أو واعظاً عن خشيةٍ منيبا؟

وهو يقول: علّم التنزيلا

منّي وفيما نزلت نزولا

آياته إذ فصّلت تفصيلا

يا حبَّذا سبيله سبيلا؟

وعلّم المجمل والمفصِّلا

ومحكم الآيات حيث نزلا

وما تشابه وكيف اُوِّلا

وناسخاً منها ومنسوخاً خلى

وهو الذي نأمن منه الباطنا

فما يُعدُّ في الاُمور خائنا

وغيره لا نأمن البواطنا

منه بحال فانظر التباينا

ويقول فيها:

وفيه أوحى ذو الجلال هل أتى

وزوجه إذ نذرا فأخبتا

فأطعما وأوفيا ما أثبتا

يا حبّذا هما وعوداً أثبتا؟

وفيه جاءت آية الإنفاقِ

في الليل والنهار عن إطلاقِ

سرّاً وإعلاناً من الخلّاق

حيث ابتغى تجارةً في الباقي

وآية القنوت في السّجودِ

في اللّيل والقيام للمعبودِ

في حذر العقاب والوقودِ

وفي رجاء رب ِّ ه الحميدِ

وهو المناجي بعد دفع الصّدقه

ثمَّ غدت أبوابها مغلّقه

فكانت التَّوبة عنهم ملحقه

فأيّهم كان على الحقِّ ثقه؟

وحسبنا الله فتلك فيهِ

وآية الإيمان والتَّنزيهِ

والفسق للوليد ذي التَّمويهِ

فأيّ ذمً بعد ذا يأتيهِ؟

وآية الوقوف للسؤال

في المرتضى حقّاً أبي الأشبالِ

وهو لسان الصِّدق شيخ الآلِ

كم فيه من آيات ذي الجلالِ؟

وقيل: جاءت آية الإيذاءِ

فيه بلا شكٍّ ولا امتراءِ

ولم يُعاتب أبداً في الآي

لا بل له التشريف في البداءِ

وقيل: جاءت آية السِّقايه

وآية الإيمان والهدايه

٤٢١

فيه فأكرم ببداه آيه

ليس له في الفضل من نهايه

وآيةُ واردةٌ في الاُذنِ

فإنَّها في السيّد المؤتمنِ

قولاً أتى من صادقٍ لم يمنِ

حكماً من الله الحميد المحسنِ

وكم وكم من آية منزَّله

فيه من الله أتت مفصّله؟

شاهدة على الورى بالفضل له

فليعل مَن قدّمه وفضّله

كآية الودِّ من الرّحمنِ

وهكذا كرايم القرآنِ

فيه كما قد جاء في البيانِ

عن أحمد عن ربِّه المنّانِ

وآية التّطهير في الجماعه

أهل الكساء المرتدين الطاعه

ألآمنين من خطوب السّاعه

يا حبّذا حبّهم بضاعه؟

والأمر بالصّلاة فيهم نزلا

خير البريّات الأولى حاز والعلا

سفن النجاة الشّهداء في الملا

بورك علماً علمهم مفصّلا

وقيل: هم في الذكر أهل الذكرِ

نزّل فيهم: فاسألوا، هل تدري؟

نعم اُناساً أهل بيت الطّهرِ

أهل المقامات وأهل الفخرِ

وفيهم الدُّعاء للمباهله

حيث أتى الكفّار للمجادله

أكرم بهم من دعوةٍ مقابله

بالنّصر لكن هربوا معاجله

هذا عليُّ ها هنا نفس النبيِّ

وولداه ابنا الرَّسول اليثربي

يا حبّذا من شرفٍ مستعجب

يضئ في المجد ضياء الكوكبِ؟

ويقول فيها:

وقال فيه المصطفى: أنت الولي

ومثله: أنت الوزير والوصي

وكم وكم قال له: أنت أخي؟

فأيّهم قال له مثل علي؟

وهل سمعت بحديث مولى

يوم « الغدير » والصّحيح أولى؟

ألم يقل فيه الرَّسول قولا

لم يبق للمخالفين حولا؟

وهل سمعت بحديث المنزله

يجعل هارون النبيّ مثَله؟

وثبّت الطّهر له ما كان له

من صنوه موسى فصار مدخله؟

من حيث لو لم يذكر النبوَّه

كانت له من بعده مرجوَّه

٤٢٢

فاستثنيت ونال ذو الفتوّه

عموم ما للمصطفى من قوَّه

إلى أن قال:

إنّ الكتاب للوصيِّ قد حكم

بأنَّه الإمام في خير الاُمم

فمن يكن مخالفاً فقد ظلم

وقد أساء الفعل حقّاً واجترم

قال: فلي دلائل في الآثارْ

تواترت وانتشرت في الأقطارْ

على إمامة الرِّجال الأخيارْ

فأيّ قول بعد تلك الأخبارْ؟

فقلت: إن كان حديث المنزله

فيها وأخبار « الغدير » مدخله؟

فإنَّها معلومةٌ مفصّله

أو لا فدعها لعلّي فهي له

لا تجعلنّ خبراً عن واحدِ

أو قول كلِّ كاذبٍ معاندِ

مثل أحاديث الإمام الماجدِ

يوم « الغدير » في ذوي المشاهدِ

تلك التي تواترت في الخلقِ

وانتشرت أخبارها عن صدقِ

ونطقت في النّاس أيّ نطقِ

إنّ عليّاً لإمام الحقِّ

أخذناها من أرجوزة لشاعرنا المنصور في الإمامة وهي قيِّمة جدّاً تشتمل على ٧٠٨ بيتا.

(ألشاعر)

أبو محمّد المنصور بالله ألإمام الحسن بن محمّد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن يحيى الهادي إلى الحقِّ اليمني. أحد أئمَّة الزيديَّة في الديار اليمنيَّة، وأوحديُّ من أعلامها الفطاحل، له في علم الحديث وفنونه أشواطٌ بعيدةٌ، وفي الأدب وقرض الشعر خطواتٌ واسعة، وفي قوَّة العارضة جانبٌ هام، وفي الحجاج والمناظرة يدٌ غير قصيرة، يُعرب عن هذه كلّها كتابه الضخم الفخم - أنوار اليقين - في شرح اُرجوزته الغرّاء المذكورة في الإمامة، وهي آيةٌ محكمةٌ تدلُّ على فضله الكثار وعلمه المتدفّق، كما أنّها برهنةٌ واضحةٌ عن تضلّعه في الأدب وتقدُّمه في صناعة القريض.

كان في أيّام الإمام المهدي أحمد بن الحسين يُعدُّ من جلّة العلماء وله فيه مدايح ومن شعره فيه مهنّئاً له السّلامة - حينما دسَّ عليه الملك يوسف بن عمر ملك اليمن

٤٢٣

على ما يُقال أو المستعصم العبّاسي أبو أحمد عبد الله المتوفّى ٦٥٦ رجلين ووثبا عليه فطعنه أحدهما فجرحه وسلم فاُخذا الرّجلان وقتلا - قوله:

راموك والله رامٍ دون ما طلبوا

وكيف يفرق شملٌ أنت جامعهُ؟

كم قبل ذلك من فتق منيت به؟

والله من حيث يخفى عنك دافعهُ

عوايدٌ لك تجري في كفالته

لا يجبر الله عظماً أنت صارعهُ

ضاقت جوانبه وانسدَّ مخرجه

وأنت فيه رحيب الصّدر واسعهُ

ردّاً إليه وتسليماً لقدرته

فيما تحاوله أو ما تدافعهُ

ومن شعره قوله:

لم ينج بالكهف سوى عصبة

فرَّت عن الدّار وأربابها

ولا نجا في يوم نوح سوى

سفينة الله وأصحابها

ألم يكن في المغرقين ابنه؟

فغاب عن زمرة ركّابها

وهل نجا بالسِّلم إلّا الاولى

رقوا إلى السِّلم بأسبابها؟

أو أدرك الغفران من لم يلج

لداخل الحطَّة من بابها؟

اُعيذكم بالله أن تجمحوا

عن عترة الحقِّ وأحزابها

ولد الإمام المترجم سنة ٥٩٦ وبويع له بالإمامة بعد قتل الإمام أحمد بن الحسين وكانت دعوته سنة ٦٥٧، وتوفّي في مدينة - رغافة - من مدن صعده في شهر محرّم سنة ٦٧٠، توجد ترجمته في نسمة السحر فيمن تشيَّع وشعر.

٤٢٤

ألقرن السّابع

٦١

أبو الحسين الجزار

وُلد: ٦٠١

توفّي: ٦٧٢

حُكم العيون على القلوب يجوزُ

ودوائها من دائهنَّ عزيزُ

كم نظرة نالت بطرفٍ فاتر

ما لم يَنله الذّابل المحزوزُ؟

فحذار من تلك اللواحظ غرّة

فالسّحر بين جفونها مركوزُ

يا ليت شعري والأماني ضلّة

والدَّهر يُدرك طرفه ويحوزُ

هل لي إلى روض تصرَّم عمره

سببُ فيرجع ما مضى فأفوزُ؟

وأزور مَن ألف البعاد وحبّه

بين الجوانح والحشا مرزوزُ؟

ظبيٌ تناسب في الملاحة شخصه

فالوصف حين يطول فيه وجيزُ

والبدر والشّمس المنيرة دونه

في الوصف حين يحرّر التمييزُ

لولا تثنِّى خصره في ردفه

ما خلت إلّا أنَّه مغروزُ

تجفو غلالته عليه لظافةً

فبحسنها من جسمه تطريزُ(١)

مَن لي بدهرٍ كان لي بوصاله

سمحاً ووعدي عنده منجوزُ؟

والعيش مخضرُّ الجناب أنيقه

ولأوجه اللّذات فيه بروزُ

والرَّوض في حلل النبات كأنّه

فُرشت عليه دبابجٌ وخزوزُ

والماء يبدو في الخليج كأنَّه

ظِلُّ لسرعة سيره مخفوزُ

والزّهر يوهم ناظريه إنَّما

ظهرت به فوق الرِّياض كنوزُ

فأقاحه ورقٌ ومنثور النَّدى

درُّ ونور بهاره ابريزُ

والغصن فيه تغازلٌ وتمايلٌ

وتَشاغلٌ وتراسلٌ ورموزُ

____________________

١ - فبجسمه من جفوها تطريز. كذا فى بعض النسخ.

٤٢٥

وكأنَّما القمريُّ ينشد مصرعاً

من كلِّ بيت والحمام يجيزُ

وكأنَّما الدولاب زمرٌ كلّما

غنَّت وأصوات الدوالب شيزُ

وكأنَّما الماء المصفِّق ضاحكٌ

مستبشرٌ ممّا أتى فيروزُ

يهنيك يا صهر النبيِّ محمّد

يومٌ به لِلطيِّبين هزيزُ

أنت المقدَّم في الخلافة ما لها

عن نحو ما بك في الورى تبريزُ

صبَّ الغدير على الاُلى جحد والظىّ

يوعى لها قبل القيام أزيزُ

إن يهمزوا في قول أحمد أنت مو

لي لِلورى؟ فالهامز المهموزُ

لم يخش مولاك الجحيم فإنَّها

عنه إلى غير الوليِّ تجوزُ

أترى تمرُّ به وحبّك دونه

عوذٌ ممانعةٌ له وحروزُ؟

أنت القسيم غداً فهذا يلتظي

فيها وهذا في الجنان يفوزُ

توجد هذه القصيدة في غير واحد من المجاميع الشعريَّة المخطوطة العتيقة وهي طويلة، وترى أبياتها مبثوثةً منثورة في كتب الأدب.

(ألشاعر)

يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمّد بن علي جمال الدين أبو الحسين الجزّار المصري. أحد شعراء الشيعة المنسيِّين، ولقد شذَّت عن ذكره معاجم السَّلف بالرغم من إطّراد شعره في كتب الأدب وفي المعاجم أيضاً استطرادا متحلياً بالجزالة والبراعة، فإن غفل عن تاريخه المترجمون فقد عقد هو لنفسه ترجمة ضافية الذيول خالدة مع الدهر فلم يترك لمن يقف على شعره ملتحداً عن الإعتراف له بالعبقريَّة والنبوغ، والإخبات إليه بالتقدُّم في التورية والاستخدام، قال إبن حجَّة في الخزانة: تعاهد هو والسِّراج الورَّاق والحمّامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية، حتّى انَّه قيل للسرَّاج الورّاق: لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك. ودون مقامه ما يوجد من جميل ذكره في الخزانة لابن حجّة، وفوات الوفيات للكتبي ٢: ٣١٩، والبداية والنهاية لابن كثير ١٣: ٢٩٣، وشذرات الذهب ٥: ٣٦٤، ونسمة السحر لليمني، والطليعة في شعراء الشيعة للعلّامة السّماوي، وقد جمع له شيخنا السَّماوي من شعره

٤٢٦

ديواناً يربو على ألف ومائتين وخمسين بيتاً. وكان له ديوان وصف بالشهرة في معاجم السَّلف، وله اُرجوزةٌ في ذكر من تولّى مصر من الملوك والخلفاء وعمّالها ذكرها له صاحب نسمة؟ السحر فقال: مفيدةٌ. فكأنَّها توجد في مكتبات اليمن، وقد وقف عليها صاحب النسمة. ومن شعره قوله في رثاء الإمام السِّبطعليه‌السلام في تمام المتون للصفدي ص ١٥٦ وغيره:

ويعود عاشورا يُذكّرني

رزءَ الحسين فليت لم يَعدِ

يومٌ سيبلى حين أذكره

أن لا يدور الصَّبر في خلدي

يا ليت عيناً فيه قد كحلت

في مرود لم تنج من رمدِ

ويداً به لشماتة خضبت

مقطوعة من زندها بيدي

أما وقد قُتل الحسين به

فأبو الحسين أحقّ بالكمدِ

وله في حريق الحرم النبويِّ قوله:

لا تعبأوا أن يحترق في طيبة

حرم النبيِّ بقول كلِّ سفيهِ

لِلّه في النّار التي وقعت به

سرُّ عن العقلاء لا يخفيهِ

إذ ليس تبقي في فناه بقيَّةً

ممّا بنته بنو اُميَّة فيهِ

إحترق المسجد الشَّريف النبويّ ليلة الجمعة أوَّل ليلة من شهر رمضان سنة ٦٥٤ بعد صلاة التراويح على يد الفرّاش أبي بكر المراغي بسقوط ذبالة من يده فأتت النّار على جميع سقوفه ووقعت بعض السَّواري وذاب الرّصاص وذلك قبل أن ينام النّاس واحترق سقف الحجرة الشريفة ووقع بعضه فيها، وقال فيه الشعراء شعراً، ولعلّ ابن تولو المغربي أجاب عن أبيات المترجم المذكورة بقوله:

قل للروافض بالمدينة: مالكم

يقتادكم للذمِّ كلُّ سفيه

ما أصبح الحرم الشريف محرَّقاً

إلّا لذمِّكم الصَّحابة فيهِ

كانت بين شاعرنا - الجزّار - وبين السرَّاج الورَّاق مداعبة فحصل للسرّاج رمدٌ فأهدى الجزّار له تفّاحاً وكمثرى وكتب مع ذلك:

اُكافيك عن بعض الذي قد فعلته

لأنَّ لمولانا عليَّ حقوقا

بعثت خدوداً مع نهود وأعيناً

ولا غرو أن يجزي الصِّديق صديقا

٤٢٧

وإن حال منك البعض عمّا عهدته

فما حال يوماً عن ولاك وثوقا

بنفسج تلك العين صار شقائقاً

ولؤلؤ ذاك الدّمع عاد عقيقا

وكم عاشق يشكو انقطاعك عندما

قطعت على اللّذات منه طريقا

فلا عدمتك العاشقون فطالما

أقمت لأوقات المسرَّة سوقا

وذكر له إبن حجّة قوله مورياً في صناعته:

ألا قل للذي يسأ

ل عن قومي وعن أهلي

لقد تسأل عن قومٍ

كرام الفرع والأصلِ

تُرجِّيهم بنو كلب

وتخشاهم بنو عجلِ

ومثله قوله:

إنِّي لمن معشر سفك الدماء لهم

دأبٌ وسل عنهمُ إن رُمت تَصديقي

تضيئُ بالدمِّ إشراقاً عراصهمُ

فكلُّ أيّامهم أيّام تشريقِ

ومثله قوله:

أصبحت لحَّاماً وفي البيت لا

أعرف ما رائحة اللّحمِ

واعتضت من فقري ومن فاقتي

عن التذاد الطعم بالشمِّ

جهلته فقراً فكنت الذي

أضلّه الله على علم

وظريف قوله:

كيف لا اشكر الجزارة ما عشـ

ـ ت حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجِّيـ

ـني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

ومثله قوله:

معشرٌ ما جاءهم مسترفدٌ

راح إلّا وهو منهم معسرُ

أنا جزّار وهم من بقرٍ

ما رأوني قطُّ إلّا نفروا

كتب اليه الشيخ نصير الدين الحمّامي مورياً عن صنعته:

ومذ لزمت الحمام صرت بها

خلّاً يُداري من لا يُداريه

أعرف حرَّ الأشياء وباردها

وآخذ الماء من مجاريه

فأجابه أبو الحسين الجزّار بقوله:

٤٢٨

حسن التأنّي ممّا يعين على

رزق الفتى والحظوظ تختلفُ

والعبد مذ صار في جزارته

يعرف من أين تُؤكل الكتفُ

وله في التورية قوله:

أنت طوَّقتني صنيعاً واسمعـ

ـتك شكراً كلاهما ما يضيعُ

فإذا ما شجاك سجعي فإنِّي

أنا ذاك المطوّق المسموعُ

ومن لطائفة ما كتب به إلى بعض الرؤساء وقد منع من الدخول إلى بيته:

أمولاي ما طباعي الخروجُ

ولكن تعلّمته من خمولِ

أتيت لبابك أرجو الغنى

فأخرجني الضَّرب عند الدخولِ

ومن مجونه في التورية قوله في زواج والده:

تزوَّج الشَّيخ أبي شيخةً

ليس لها عقلٌ ولا ذهنُ

لو برزت صورتها في الدجا

ما جسرت تبصرها الجنُّ

كأنَّها في فرشها رمَّة(١)

وشَعرها من حولها قطنُ

وقائلٌ لي قال: ما سنّها؟

فقلت: ما في فمها سنُّ

وله قوله في داره:

ودار خراب بها قد نزلـ

ـ ت ولك-ن نزلت إلى السّابعه

طريقٌ من الطرق مسلوكة

محجَّتها لِلورى شاسعه

فلا فرق ما بين أنّي أكون

بها أو أكون على القارعه

تساررُها هفوات النسيم

فتصغي بلا اُذن سامعه

وأخشى بها أن اُقيم الصَّلاة

فتسجد حيطانها الراكعه

إذا ما قرأت إذا زلزلت

خشيت بأن تقرأ الواقعه

وله في بعض ادباء مصر وكان شيخاً كبيراً ظهر عليه جرب فالتطخ بالكبريت قوله ذكره له إبن خلكان في تاريخه ١ ص ٦٧:

أيّها السيِّد الأديب دعاءاً

من محبٍّ خال من التنكيتِ

أنت شيخٌ وقد قربت من النار

فكيف أدهنت بالكبريتِ

____________________

١ - الرمة بالكسر والفتح: ما بلى من العظام.

٤٢٩

وله قوله:

مَن منصفي من معشر

كثروا عليَّ وأكثروا

صادقتهم وأرى الخرو

ج من الصَّداقة يعسرُ

كالخطِّ يسهل في الطرو

س ومحوه يتعذَّرُ

وإذا أردت كشطته

لكنّ ذاك يؤثِّرُ

ومن قوله في الغزل:

بذاك الفتور وهذا الهيفْ

يهون على عاشقيك التلفْ

أطرت القلوب بهذا الجمال

وأوقعتها في الأسى والأسفْ

تكلّف بدر الدُّجى إذ حكى

محيّاك لو لم يشنه الكلفْ

وقام بعذري فيك العذار

وأجرى دموعيَ لَمّا وقفْ

وكم عاذل أنكر الوجد فيك

عليَّ فلمّا رآك اعترفْ

وقالوا: به صلفٌ زائدٌ

فقلت: رضيت بذاك الصَّلفْ

لئن ضاع عمريَ في من سواك

غراماً؟ فإنّ عليك الخلفْ

فهاك يدي إنَّني تائبٌ

فقل لي: عفى الله عمّا سلفْ

بجوهر ثغرك ماء الحياة

فماذا يضرّك لو يرتشفْ

ولم أر من قبله جوهراً

من البهرمان(١) عليه صدفْ

اُكاتم وجديَ حتى أراك

فيعرف بالحال لا من عرفْ

وهيهات يخفى غرامي عليك

بطرف همى وبقلب رجفْ

ومنه قوله:

حمت خدَّها والثغر عن حائم شج

له أملٌ في مورد ومورّدِ

وكم هام قلبي لارتشاف رضابها

فأعرف عن تفصيل نحو المبرَّدِ

ومن بديع غزله قوله:

وما بي سوى عين نظرت لحسنها

وذاك لجهلي بالعيون وغرَّتي

وقالوا: به في الحبِّ عينٌ ونظرةٌ

لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي

____________________

١ - البهرمان: الياقوت الاحمر.

٤٣٠

وله قوله يرثي حماره:

ما كلُّ حين تنجح الأسفارُ

نفق(١) الحمار وبادت الأشعارُ

خرجي على كتفي وها أنا دائرٌ

بين البيوت كأنَّني عطّارُ

ماذا عليَّ جرى لأجل فراقه

وجرت دموع العين وهي غزارُ؟

لم أنس حدَّةَ نفسه وكأنَّه

من أن تسابقه الرِّياح يغارُ

وتخاله في القفرِ جنّاً طائراً

ما كلُّ جنٍّ مثله طيّارُ

وإذا أتى للحوض لم يخلع له

في الماء من قبل الورود عذارُ

وتراه يحرس رجله من زلَّة

برشاشها يتنجَّس الحضّارُ

ويلين في وقت المضيق فيلتوي

فكأنَّما بيديك منه سوارُ

ويشير في وقت الزّحام برأسه

حتى يحيد أمامه النظَّارُ

لم أدر عيباً فيه إلّا أنَّه

مع ذا الذكاء يُقال عنه حمار

ولقد تحامته الكلاب وأحجمت

عنه وفيه كلُّ ما تختارُ

راعت لصاحبه عهوداً قد مضت

لما علمن بأنَّه جزّارُ

وقال في موت حمار صديق له:

مات حمار الأديب قلت لهم

: مضى وقد فات منه ما فاتا

من مات في عزِّه استراح ومَن

خلّف مثل الأديب ما ماتا

وله قوله:

لا تعبني بصنعة القصّابِ

فهي أذكى من عنبر الآدابِ

كان فضلي على الكلاب فمذ صر

ت أديباً رجوت فضل الكلابِ

كان كمال الدين عمر بن أحمد بن العديم(٢) إذا قدم مصر يلازمه أبو الحسين الجزّار فقال بعض أهل عصره حسداً عليه:

يا بن العديم عدمت كلِّ فضيلة

وغدوت تحمل راية الإدبارِ

____________________

١ - نفقت الدابة: خرجت روحها.

٢ - ابو القاسم الوزير الرئيس الكبير الحلبى الحنفى سمع الحديث وحدث وتفقه وافتى ودرس وصنف، ولد سنة ٥٨٦ وتوفى ٦٦٠.

٤٣١

ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها

نفسٌ تلذُّ بصحبة الجّزارِ

قال الصَّفدي في تمام المتون ص ١٨١ بعد ذكره قول هارون الرَّشيد [ إنَّ الكريم إذا خادعته انخدعا ]: ذكرت هنا قضيَّة جرت لأبي الحسين الجزّار وهي: انّه توجَّه الجزّار إلى ابن يعمور بالمحلة وأقام عنده مدَّة ثمَّ انَّه أعطاه وردَّه وجاء ليودِّعه فاتَّفق أن حضر في ذلك الوقت وكيل إبن يعمور على أقطاعه فقال له: ما أحضرت؟ قال كذا وكذا دراهم. فقال: اعطه الخزندار. فقال: كذا وكذا غلّة. فقال: احملها إلى الشونة. قال: كذا وكذا خروف. فقال: اعطها الجزّار. فقام الجزّار وقبَّل الأرض وقال: يا مولانا: كم وكم تتفضَّل. فتبسَّم إبن يعمور وانخدع وقال: خذها.

وذكر له الصفدي في تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون ص ٣٥ من أبيات له:

وحقّك ماليَ من قدرةٍ

على كشف ضرِّيَ إذ مسَّني

فكم أخذتني عيون الظبا

ءِ بعد الإنابة من مأمني

وفي ص ٤٦ من تمام المتون قوله:

اُطيل شكا يأتي إلى غير راحم

وأهل الغنى لا يرحمون فقيرا

وأشكر عيشي للورى خوف شامت

كذا كلّ نحس لا يزال شكورا

وله في تمام المتون ص ٢١٢ قوله:

لست أنسى وقد وقفت فأنشدت

قصيداً تفوق نظم الجمانِ

كلُّ بيت يُزري على خلف الأحمر

بالحسن وهو شيخ بن هاني

ببديع يحار في نظمه الطائي

بل مسلمٌ صريع الغواني

ومديح ما نال جودته قدماً

زياد في خدمة النعمانِ

قمت وسط الأيوان بين يدي

ملك تسامى على أنوشروانِ

وله في تمام المتون ص ٢٢٠ قوله:

ولقد كسوتك من قريضي حلّة

جلت عن التلفيق والترقيعِ

حسنت برقم من جلالك فاغتدت

كالروض في التسهيم والترصيعِ

وذكر في تمام المتون ص ٢٢٦ قوله:

اُحمَل قلبي كلَّ يوم وليلة

هموماً على من لا أفوز بخيره

_٢٧_

٤٣٢

كما سوَّد القصّار في الشمس وجهه

حريصاً على تبييض ثوب لغيرهِ

قال ابن حجَّة في « الخزانة » ص ٣٣٨: ولد سنة ٦٠١ وتوفّي ٦٧٢ بمصر. وزاد فيه إبن كثير في « البداية والنهاية » يوم وفاته وشهره: ثاني عشر شوّال، وهكذا أرَّخ ولادته ووفاته من أرَّخهما من المؤلِّفين غير أنَّ صاحب « شذرات الذهب » شذَّ عنهم وعدَّه ممّن توفّي سنة ٦٧٩ وقال: توفّي في شوّال وله ستُّ وسبعون سنة أو نحوها ودفن بالقرافة. والله العالم.

٤٣٣

ألقرن السابع

٦٢

ألقاضي نظام الدين

ألمتوفَّى: ٦٧٨

لِلّه درءُكم يا آل ياسينا

يا أنجم الحقِّ أعلام الهدى فينا

لا يقبل الله إلّا في محبّتكم

أعمال عبدٍ ولا يرضى له دينا

أرجو النجاة بكم يوم المعاد وإن

جنت يداي من الذنب الأفانينا

بلى اُخفِّف أعباء الذُّنوب بكم

بلى اُثقِّل في الحشر الموازينا

من لا يواليكمُ في الله لم ير من

قيح اللظى وعذاب القبر تسكينا

لأجل جدِّكم الأفلاك قد خلقت

لولاه ما اقتضت الأقدار تكوينا

مَن ذا كمثل عليٍّ في ولايته؟

ما المبغضين له إلّا مجانينا

إسم على العرش مكتوب كما نقلوا

من يستطيع له محواً وترقينا؟

مَن حجَّة الله والحبل المتين ومن

خير الورى وولاه الحشر يغنينا؟

من المبارز في وصف الجلال ومن

أقام حقّاً على القطع البراهينا؟

مَن مثله كان ذا جعفر وجامعة

له يُدوّن سرّ الغيب تدوينا؟

ومن كهارون من موسى اُخوّته

للخلق بيَّن خير الرُّسل تبيينا؟

مهما تمسّك بالأخبار طائفةٌ

فقوله: وال من والاه يكفينا

يوم الغدير جرى الوادي فطمّ على

قويّ قوم همُ كانوا المعادينا

شبلاه ريحانتا روض الجنان فقل:

في طيب أرض نمت تلك الرياحينا

( ما يتبع الشعر )

تناهز القصيدة ٤٢ بيتاً ذكره القاضي المرعشي في « مجالس المؤمنين » ص ٢٢٦ وبقوله:

لأجل جدّكم الأفلاك قد خلقت

لولاه ما اقتضت الأقدار تكوينا

٤٣٤

أشار إلى ما أخرجه الحاكم وصحَّحه في « المستدرك » ٢ ص ٦١٥ عن إبن عبّاس رضي الله عنهما قال: أوحى الله إلى عيسىعليه‌السلام : يا عيسى! آمِن بمحمَّد وأمر مَن أدركه من اُمَّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمَّد ما خلقت آدم، ولولا محمَّد ما خلقت الجنَّة والنّار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إ~له إلّا الله، محمَّد رسول الله، فسكن.

وذكره السبكي في « شفاء السقام » ص ١٢١ وأقرّ صحته. وكذلك الزرقاني في شرح المواهب ١ ص ٤٤ قال: أخرجه أبو الشيخ في طبقات الإصفهانيِّين وصحَّحه الحاكم وأقرَّه السبكي والبلقيني في فتاواه.

وأخرج الحاكم بعده حديثاً وصحَّحه وفيه نحو دلالة على ما نرتأيه ولفظه: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب؟ أسألك بحقِّ محمَّد لما غفرت لي. فقال الله: يا آدم! وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب! لأنَّك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إ~له إلّا الله. محمّد رسول الله. فعلمت انَّك لم تضف إلى إسمك إلّا أحبّ الخلق إليك فقال الله: صدقت يا آدم إنّه لأحبُّ الخلق إليّ اُدعني بحقّه فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك.

وأخرجه البيهقي في « دلائل النبوَّة » وهو الكتاب الذي قال فيه الذهبي: عليك به فكلّه هدى ونور، والطبراني في المعجم الصغير. وأقرَّ صحّته السبكي في شفاء السقام ص ١٢٠، والسّمهودي في وفاء الوفاء ص ٤١٩، والقسطلاني في المواهب اللدنيَّة، والزرقاني في شرحه ١ ص ٤٤، والعزَّامي في فرقان القرآن ص ١١٧.

كتبنا هذا المختصر لإيقاف القارئ على بطلان ما لابن تيميّة ومَن غزل غزله أمثال « القصيمي » من جلبةٍ ولغطٍ حتّى يكون على بصيرة من فضل النبيِّ الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( ألشاعر )

نظام الدين محمّد بن قاضي القضاة إسحاق بن المظهر الاصبهاني، أحد أعيان اُدباء الطائفة، وأوحديّها في الفنون والفضايل، قاضي القضاة في الأقطار العراقيّة مخالطاً مع خواجه شمس الدين محمّد الجويني الملقَّب بصاحب الديوان المتوفّى ٦٨٣، وله فيه مدائح منها قوله:

٤٣٥

ما النّاس إلّا كالقريض وإنَّما

بيت القصيدة صاحب الديوانِ

شمس الممالك تزدهي بعلاءها

وبهاء دست الملك والأيوانِ

وله في رثاء ولد خواجة بهاء الدين محمّد قصيدة تناهز ٥٨ بيتاً ذكرها القاضي في مجالسه ص ٤٣٨ مطلعها:

ما للظّلام يغطِّي وجهة الاُفق؟

ما للرَّواسي اضطربن اليوم من قلقِ؟

ما للحظوظ تولّى القوم أظهرها؟

ما للنوائب تُبدي صفحة العنقِ؟

بكى السماء وضجَّ الأرض وانكدرت

زهر النجوم وطاشت أنفس الفرقِ

أليوم يومٌ لعمري كاسمه فقدت

به العلى والنهى إنسانة الحدقِ

مولى الأنام بهاء الدين صاحبنا

مضى فبدَّل صفو العيش بالرنقِ

وتخلّص في غديريَّته المذكورة إلى مدح خواجة بهاء الدين، وكتب باسم أخي صاحب الديوان: علاء الدين خواجه عطاء الملك الجويني المتوفّى ٦٨١ ديوان رباعيّاته وله شعرٌ يمدح به سلطان المحقِّقين خواجه نصير الدين الطوسي المتوفّى ٦٧٢.

توجد ترجمته في مجالس المؤمنين ص ٢٢٦، وتاريخ آداب اللغة ٣: ١٣ وقال: توفّي سنة ٦٧٨ له ديوان اسمه. ديوان المنشئات. في المتحف البريطاني، وذكره صاحب - رياض الجنَّة - في الرَّوضة الرابعة في عدِّ العلماء وقال: له رسالته - القوسيّة - كتب بعض أعلام نيسابور شرحاً عليها وأثنى عليه في شرحه بقوله: أقضى قضاة العالم، مفتي طوائف الاُمم، منشيء البدايع والعجائب. إلخ.

ومن دوبيتاته في كشكول شيخنا البهائي ١ ص ١٠٩:

أنتم لظلام قلبي الأضواءُ

فيكم لفؤادي جمعت أهواءُ

يروي الظمأ ادِّكاركم لا الماءُ

داويت بغيركم فزاد الداءُ

* * *

اوصيتك بالجدِّ فدع مَن ساخر

فاخر بفضيلة التّقى مَن فاخر

لا ترج سوى الربّ لكشف البلوى

لا تدعُ مع الله إلهاً آخر

* * *

مالي وحديث وصل مَن أهواهُ؟

حسبي بشفاءِ علّتي ذكراهُ

٤٣٦

هذا وإذا قضيت نحبي أسفاً

يكفينيَ أن اُعدَّ من قتلاهُ

* * *

وافى فجذبت عطفه الميَّادا

شوقاً فطلبت قُبلةً فانقادا

حاولت وراء ذاك منه نادا

لا تطلب بعدُ بدعةً إلحادا

* * *

قالوا: انته عنه إنّه ما صدقا

ما أجهل مَن بوعده قد وثقا

لالا فنتيجة الهوى صادقةٌ

مع كذب مقدِّمات وعدٍ سبقا

وذكر له القاضي في المجالس قوله:

لم أرض سوى هدي نبيٍّ ووليٍ

لا أتّبع الباطل والحقُّ جلي

في الشرِّ تراني إبن حرب بطلاً

لكن أنا من شيعة مولاي علي

وذكر له العلّامة النراقي في « الخزائن » ص ١١٥:

مذ غبت ألمّ في سقام وألمْ

كم أصبر في هواك؟ كم أصبر؟ كمْ؟

يا بدر! إلى وصالي ارجع وارحمْ

يا بدر! ألم يأن؟ ألم يأن؟ ألمْ؟

٤٣٧

ألقرن السّابع

٦٣

شمس الدين محفوظ

ألمتوفّى ح ٦٩٠

راق الصَّبوح ورقَّت الصَّهباءُ

وسرى النَّسيم وغنَّت الورقاءُ

وكسا الرَّبيع الأرض كلّ مدبّج

ليست تجيد مثاله صنعاءُ

فالأرض بعد العري إمّا روضةٌ

غنّاء أو ديباجةٌ خضراءُ

والطير مختلف اللحان فنايحٌ

ومطرَّبٌ مالت به الأهواءُ

والماء بين مدرَّجٍ ومجدولٍ

ومسلسلٍ جادت به الأنواءُ

وسرى النسيم على الرِّياض فضمَّخت

أثوابه عطريّة نكباءُ

كمديح آل محمّد سفن النجا

فبنظمه تتعطَّر الشّعراءُ

ألطيِّبون الطاهرون الراكعون

السّاجدون السّادة النّجباءُ

منهم عليُّ الأبطحيُّ الهاشميّ

اللّوذعيُّ إذا بدت ضوضاءُ

ذاك الأمير لدى « الغدير » أخو

البشير المستنير ومن له الأنباءُ

طهرت له الأصلاب من آبائه

وكذاك قد طهرت له الأبناءُ

أفهل يحيط الواصفون بمدحه

والذِّكر فيه مدائحٌ وثناءُ؟

ذو زوجة قد أزهرت أنوارها

فلأجل ذلكم اسمها الزَّهراءُ

وأئمّةٌ من ولدها سادت بها

المتأخِّرون وشرّف القدماءُ

مبداهمُ الحسن الزكيُّ ومَن إلى

أنسابه تتفاخر الكرماءُ

والطاهر المولى الحسين ومن له

رفعت إلى درجاتها الشّهداءُ

والنّدب زين العابدين الماجد

الندب الأمين الساجد البكّاءُ

والباقر العلم الشريف محمّد

مولىَ جميع فعاله آلاءُ

والصّادق المولى المعظّم جعفرٌ

حبرٌ مواليه هم السَّعداء

٤٣٨

وإمامنا موسى بن جعفر سيّدُ

بضريحه تتشرَّف الزَّوراءُ

ثمَّ الرِّضاعلم الهدى كنز التّقى

باب الرَّجا محيي الدُّجى الجلّاءُ

ثمَّ الجواد مع ابنه الهادي الذي

تهدي الورى آياته الغرّاءُ

والعسكريُّ إمامنا الحسن الذي

يغشاه من نور الجلال ضياءُ

والطاهر ابن الطاهرين ومَن له

في الخافقين من البهاء لواءُ

من يُصلح الأرضين بعد فسادها

حتّى يُصاحب ذيبهنَّ الشاءُ

أنا يا بن عمِّ محمّد أهواكمُ

وتطيب منّي فيكم الأهواءُ

واُكفّر النالين فيك وألعن

القالين إنّهمُ لديَّ سواءُ(١)

( ألشاعر )

ألشيخ شمس الدين محفوظ بن وشاح بن محمّد أبو محمّد الحلّي الأسدي. قطبٌ من أقطاب الفقاهة، وطودٌ راسٍ للعلم والأدب، كان متكئاً على أريكة الزَّعامة الدينيّة، ومرجعاً في الفتوى، ومنتجعاً لحلِّ المشكلات، وكهفاً تأوي إليه العفاة، والحكم الفاصل للدَّعاوي، ومن مشايخ الإجازة الرّاوين عن الشيخ نجم الدين المحقّق الحلّي المتوفّى ٦٦٧، ويروي عنه الحافظ المحقّق كمال الدين علي بن الشيخ شرف الدين الحسين بن حمّاد الليثي الواسطي. ويروي عن شارح القصائد السّبع العلويّات لابن أبي الحديد بشرحه الموسوم بغرر الدلائل قال في أوَّل الشرح: كنت قرأت هذه القصائد على شيخي الإمام العالم الفقيه المحقّق شمس الدين أبي محمّد محفوط بن وشاح قدس الله روحه وذلك بداره بالحلّة في صفر من سنة ثمانين وستمائة، ورواها لي عن ناظمها وراقم علمها. قال الأميني: أحسب أنَّ شارح القصائد هو صفيُّ الدين محمّد بن الحسن بن أبي الرضا العلوي البغدادي صاحب البائيّة في رثاء المترجم. والله العالم.

جرت بين شيخنا المترجم وبين شيخه المحقّق الحلّي مكاتبات منها ما ذكره شيخنا صاحب المعالم في إجازة الكبيرة(٢) قال نقلاً عن الشهيد الأوَّل(٣) انّه كتب إلى الشيخ

____________________

١ - ذكرها العلامة السماوي في الطليعة ج ٢.

٢ - توجد في اجازات البحار للعلامة المجلسي ص ١٠٠.

٣ - شمس الدين محمد بن جمال مكى بن محمد العاملي النبطي الجزيني المستشهد سنة ٧٨٦ توجد ترجمته وترجمة أولاده وأحفاده في كتابنا شهداء الفضيلة ص ٨٠ - ٩٨.

٤٣٩

المحقّق نجم الدين السَّعيد أبياتاً من جملتها:

أغيب عنك وأشواقي تجاذبني

إلى لقائك جذب المغرم العاني

إلى لقاء حبيب شبه بدر دجى

وقد رماه بإعراضٍ وهجرانِ

ومنها:

قلبي وشخصك مقرونان في قرَن

عند انتباهي وعند النوم يغشاني

حللت عنّي حلَّ الروح في جسدي

فأنت ذكريَ في سرّي وإعلاني

لولا المخافة من كره ومن ملل

لطال نحوك تردادي وإتياني

يا جعفر بن سعيد يا إمام هدى

يا أوحد الدَّهر يا مَن ماله ثاني

إنِّي محبّك مغرىً غير مكترثٍ

لم يختلف أبداً في فضلك اثنانِ

ومنها:

في قلبك العلم مخزونٌ بأجمعه

تهدي به من ضلال كلّ حيرانِ

وفوك فيه لسانٌ حشوه حكمٌ

تروي به بزلال كلَّ ظمآنِ

وفخرك الرَّاسخ الرّاسي وزنت به

رضوىً فزاد على رضوى وثهلانِ

وحسن أخلاقك اللّاتي فضلت بها

كلَّ البريّة من قاصٍ ومن دان

تغني عن المأثرات الباقيات ومن

يحصي جواهر أجبال وكثبانِ

يا من علا درج العلياء مرتقياً

أنت الكبير العظيم القدر والشأنِ

فأجابه المحقّق بقوله:

لقد وافت قصائدك الغوالي

تهزُّ معاطف اللفظ الرَّشيقِ

فضضتُ ختامهنَّ فخلت أنّي

فضضت بهنَّ عن مسك فتيقِ

وجال الطرف منها في رياضٍ

كُسين بناظر الزَّهر الأنيقِ

فكم أبصرت من لفظٍ بديعٍ

يدلُّ به على المعنى الدَّقيقِ؟

وكم شاهدت من علم خفيٍّ

يقرِّب مطلب الفضل السحيقِ؟

شربت بها كؤساً من معاني

غنيت بشربهنَّ عن الرَّحيقِ

ولكنِّي حُملت بها حقوقاً

أخاف لنقلهنّ من العقوقِ

فسيِّر يا أبا الفضائل بي رويداً

فلست أطيق كفران الحقوقِ

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461