العقائد الإسلامية الجزء ٢

العقائد الإسلامية13%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 434

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 434 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 232061 / تحميل: 6027
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هكذا كالنور تفنى

كل أحلامك لبنى

فخذي حظك من دنياك قبل الارتحال(١)

وهكذا كانت بدايات الشاعر. أشعار عاطفية وأبيات في الوجد والحب تفصح عن شعور صادق ، أحاسيس جياشة تبثها نفس الشاعر الشاب في فترة هي من أجمل فترات العمر المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية.

وبدأ الوعي الفكري ينمو في شعور الشاعر ، وأخذت الأفكار تستحوذ على أدبه ، فبدأ ينظم قصائد رصينة المعنى ، محكمة البناء ، قويمة المحتوى والمضمون وهو في سن التاسعة عشرة من عمره. وتستوقفنا أربع قصائد نظمها الشاعر في هذه السن ، الاولى : قصيدة « التقاليد » التي قال في مطلعها :

تقاليدٌ تجرّ لك الشجونا

واوضاع تجرعك المنونا(٢)

وقد نقد الشاعر في هذه القصيدة التقاليد السقيمة التي كانت تجور على نظم الاصلاح الدينية والاجتماعية وتحول دون تقدم المجتمع ورقيّه.

أمّا القصيدة الثانية فهي قصيدة « وادي السلام » ، وفيها وصف رائع ودقيق لمقبرة النجف الشهيرة. وتعد هذه القصيدة من أروع قصائد الشاعر التي قالها وهو في هذه السن لما تحمل من أوصاف رائعة وأفكار فلسفية تفصح عن نضج فكري مبكر تمتع به الشاعر ولما يزل في نضارة العمر. ومن أبيات هذه القصيدة :

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ٢٠.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

١٠١

على الذكوت البيض من جانب الوادي

قفا ساعةً واستنطقا الأثَر البادي

فكم فيه معنىً لا يفي ببيانه

لسان فصيح أو يراعةُ نُقّاد

وكم عبرة خرسا بها نطق البلى

فأفصح تبياناً على غير معتاد

الى ان يقول :

فيا صفحة الوادي وأنت سجله

أتدرين كم مرّت قرون على الوادي

وكم قد تلاشت في ثراه مفارق

وكم طويت فيه أكاليل أسياد

وكم صولجان قد تداعى كيانه

به وعروش دكها الزمن العادي

ورب لسان مفصح عاد أخرساً

وخانتهُ للتعبير قوّة ايجاد

وكان محالاً عنده الصمت فاغتدى

لسلطانه الجبار أطوع منقاد

فهل طويت منه الفصاحة في الثرى

وهل أخمدت في أثرها روعة النادي(١)

والقصيدة الثالثة قصيدة « العقل » وهي كسابقتها من حيث متانة الأفكار ، وقوة المعاني والمضامين. يقول الشاعر في بعض أبياته :

وازِن بعقلك فالحجى ميزان

وزنت به عرفانها الأذهان

وانهج على منهاجه كيما ترى

حججاً عليها ينهض الوجدان

فيه فلاسفةُ الوجود تمكنوا

من حد مالا يدركُ الأنسان

عرفوا به كنه الأثير فحللوا

ذّراته في ذاتها وأبانوا

واستخرجوا روح النبات وماله

من جوهر ينمو به الحيوان

حتى أرونا للذوات حقائقاً

كشف الغطا عن نورها البرهان(٢)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٩٧ ، ٢٩٨.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨٤.

١٠٢

أمّا القصيدة الرابعة فهي بعنوان « بلبل الروض » وقد بث فيها الشاعر حسراته على أيام الطفولة التي كان ينعم بهنائها وصفائها مبتعداً عن الأحزان والآلام :

والهفتاهُ على عصر مضى هدراً

عصر الطفولة أنت اليوم مفقود

اذ كنت فيك عن الآلام مبتعداً

واليوم قلبي من الآلام محشود

فلا أرى سولة لي عنك تنعشنى

وكيف يسلو معنّىً وهو معمود(١)

وأول قصيدة بدأ يسطع نجم الشاعر من أفقها هي قصيدة « الحقيقة » التي نظمها عام ١٩٣٨ م ، وألقاها في الحفلة التي عقدها السيد محمد رضا الصافي(٢) في بيته احتفاءً بزفاف الأديب السيد محمد علي البلاغي صاحب مجلة الاعتدال. وقد نالت تشجيعاً أدبياً قيماً في حفل محتشد برجال العلم والادب. وفي القصيدة اشارة الى مواطن التخلف والجهل التي شقي بها الشرق ، ودعوة الى النهوض واليقظة لمسايرة ركب المدنية والحضارة :

أما آن عن وجه الحقيقة ينجاب

سجاف عليها قد أذيل وجلباب

ألا ينجلي هذا الظلامُ بمشعلٍ

لتهدى عقول تائهاتٌ وألباب

الى كم بهذا الجهل تشقى عقولنا

ويخدعنا من خلّب الغي جذاب

وحتامَ نبقى والقشور نصيبنا

وقد اوصدت فوق الحقيقة أبواب

لقد ضللت تلك العقول فلم تجد

سناً تهتدي فيه اذا هي تنتاب

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٢ - السيد محمد رضا الصافي ( ١٢٩٨ - ١٣٦١ ه ). سياسي قدير ، وأديب رقيق الروح. كانت له مساهمات فعالة في العمل السياسي والوطني. ( شعراء الغري ، ج ٨ ، ص ٣٩٢ ).

١٠٣

وكيف ترى نهج الحقيقة والهدى

وقد جللته للأضاليل أثواب

وحتى متى تنجو من الجهل أمة

بها علقت من آفة الجهل أنياب(١)

أما عن طريقة النظم التي تَميّز بها الشاعر عن سائر شعراء عصره ، فيقول عنها : « نظمت الشعر في العقد الثاني من عمري ، وطريقتي في نظم الشعر نادرة إذ اني أنظم القصيدة الطويلة على لوحة خاطري وتبقى أياماً مرتسمة في حافظتي ثم اكبتها واصلح ما يلزم إصلاحه منها. وبسبب هذه المنحة التي منّ بها المنعم أصبح من السهل على إلقاء قصائدي في الاحتفالات بدون ورق شبه المرتجل وإعادة مواردها مراراً من أي موضع يطلبه المستعيد وإن كنت في آخر القصيدة كأنها مرسومة في ورقة أمام ناظري(٢) ».

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨

١٠٤

ثانياً : المؤثرات

لا يخفى أنّ الشاعر بحكم احساسه المرهف وروحه الرقيقة يتأثر بعوامل عديدة تنعكس على عواطفه وخواطره وتلقي بظلالها على شعره وأدبه. وتشكل هذه العوامل الحدر الاساس في بناء أدب الشاعر وتكوين هيكليته وأساسه. والشيخ الفرطوسي وهو الشاعر الذي حمل بين حنايا ضلوعه قلباً حساساً وروحاً شاعرة وعاطفة ثائرة كان لا بد ان يتأثر بالعوامل المحيطة به وأن يعكسها على مرآة شعره وأدبه. ومن هذه العوامل :

١ - المحيط* :

لا شك أنّ للمحيط الأثر الأكبر في بلورة شاعرية الشاعر وتحديد معالم أدبه وشعره. وكما قال الفرطوسي : « إنّ للمحيط الذي يتشبع ذهن الانسان بخواطره وتملأ عينه بمناظره. والحياة التي يعيش في رغد نعيمها أو نكد جحيمها. والنكبات التي تفاجئه بها الحوادت فيتلقاها بالثبات او يستسلم لسلطانها. والاتجاهات العاطفية التي تسير بالنفس الى شواطيء رغباتها. كل هذه العوامل لها أثر واقعي في توجيه أدب الشاعر وتكييفه لان الأدب موهبة من مواهب النفس ، والنفس تتأثر بهذه الدواعي فلابد وأن يظهر لونها على الأدب(١) ».

ولون الأدب عند الفرطوسي هو لون الحزن والألم بل قل لون العذاب

__________________

* - ليس المقصود من الميحط هنا البيئة التي عاشها الشاعر وتأثر بأجوائها. فهذا موضوع سبق أن بحث في الباب الأول من هذه الدراسة. وانما المقصود من المحيط هو العوامل غير البيئية التي حدقت بالشاعر وأثّرت عليه وشاركت في حوك نسيجه الشعري المتميز.

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٦.

١٠٥

والشقاء فقلما أحس الشاعر ساعة هناء أو استساغ فمه طعم نعيم خلال العقود السبعة التي عاشها وما أصعبها من عقود. وعن أسباب هذا الحزن يقول الشاعر : « أعيش في زوايا مظلمة من بيت قديم متداعي لا تجد الشمس فيه مدخلاً سهلاً لأشعتها ومتى ضاقت النفس من سجن هذا القفص وطلبت التمتع بالفضاء الرحب والنسيم الطلق ذهبت الى « وادي السلام » وماذا بالوادي غير قبور بالية ومناظر حزينة باكية تستعرضها فتمر في ذهنك ذكريات عشرات من القرون الغابرة طويت أجيالها في صفحاتها ويهيمن على نفسك وأنت تستطلع الطريق بين أرمالها سكون ذلك الوادي الرهيب وروعته وجلاله. كما أني أرتاد في كل عام بعض المناطق القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء متحشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء محتشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في نفسي من هذه وتلك ألوان من الصور الكئيبة وتحز في قلبي مدى من آلامها(١) ».

ويستشف من شعر الفرطوسي الكثير الكثير من ضروب البؤس والشقاء التي تقاطرت على الشاعر من كل حدب وصوب وبحلقات متسلسلة ومتواصلة :

حياتُك واليأس صُنوٌ لها

ومنها الرّدى فَرقاً يفزع

حياة الجحيم على ما بها

الى جنبها رغدٌ ممتع

حياةٌ ترقُ لها الحادثات

ويرثي لها الألم الموجع

عجبت لقلبك يحيى بها

وفي كلّ آن له مصرع

حياتُك يا منبعَ العاطفات

ضروبُ الشقاء بها تنبع

له ألفُ مطلع حزن يُرى

وما للسرور بها مطلع

وأنت على ما بها من عناً

يقض له الجنب والمضجع

أراك ولوعاً بآلامها

فرفقاً بنفسك يا مولع

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٦ ، ٢٧.

١٠٦

فهل عندك الألم الموجع

هو الأملُ الباسم الممرع(١)

وقصيدة « قلبي » التي نظمها الشاعر عام ١٩٥٢ م تصور وبكل وضوح وشفافية حياة البؤس والنكد التي واكبت مسيرة الشاعر في مختلف أدوار حياته :

قلبي لمستك جمرة في أضلعي

صعّدتها لفمي فكانت مطلعي

ولمحت نورك موجة في ناظري

طفحت فسالت في شقائق أدمعي

ولقد عهدتك بلبلاً يهفو على

نغم بقيثار الشعور موقع

يهتز للألم الحزين كأنه

أملٌ يسامره بلحن ممتع

ويطير من اُفق خصيب كيفما

يهوى الى افق خصيب المرتع

وأراك في افق الخيال وقد دجا

شبحاً ضئيلاً هامداً في بلقع

فعلمت انك من جمودك جثة

اضحى لها قفص هامداً كمصرع(٢)

واضافة الى القصيدة ذاتها فأنّ تعبير الشاعر في مقدمة القصيدة يفصح عن عمق الحزن الذي تخلل قلب الشاعر ولم يترك فيه فسحة للنعيم والهناء :

« غارس يزرع الأمل ويحصد الألم ، حقل ينبت الورد ويجتني الشوك. جدول يروي الظماء من معين الحياة ويموت ملتهباً ظامئاً. بلبل سجين في قفص مظلم يطرب السامع من الحانه الكئيبة وهو باك حزين. روح يوحي السعادة ويعيش بشقاء. هذا هو قلبي فأين السعادة والنعيم من هذا الشقي المعذب ».

ولم يحن لمسلسل البؤس ان ينتهي. فقد نكب الشاعر بحشد من النوائب وافواج من المصائب بددت أعز أفراد أسرته ، وأجهزت على خيرة أهله وأحبائه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٢٣ ، ١٢٤.

٢ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٣ ، ١٣٤.

١٠٧

ففي عام ١٣٦١ ه نكب الشاعر بمصرع أخيه الشاب « جبار » إثر عملية جراحية فاشلة. ولم تمض سنة حتى نعي بوفاة ولده « عبدالرزاق » وذلك عام ١٣٦٢ ه وما هي الاّ سنوات ويفقد الشاعر طفله « علي » عندما كان يمرح مع أترابه في ملعب الطفولة. ثم يأتي عام ١٣٧٢ ه ليفجعه بأخيه الأكبر الشيخ عبدالزهراء.

وعلى الرغم من كل ما قاسى الشاعر من مصاعب وآلام ، وما تحمل من شقاء وعذاب ، فانه بقي صلب العود ، قوي الايمان ، راضياً بقضاء الله ، غير قانط من رحمته ، متحلياً بالصبر في كل حال من احواله :

لقد شهد الدهر المحددُ نابهُ

علي بأني قد أبنت به الكسرا

وما أنكرت مني الصروف صلابة

تعودتها ما اقبلت زمراً تترى

وكنت اذا جازت مساحة اصبع

إلي صروف الدهر جاوزتها شبرا

تتوق لانغام الخطوب صبابة

وتهتز نفسي من تقاطيعها بشرا

وتنعم عيني بالظلام كأنما

سواد الدجى كحل لمقلتها العبرى

تأملت في هذي الحياة فلم أجد

بها لي الاّ مسلكاً موحشاً وعرا

كأن خطوب الدهر آلت وأقسمت

على نفسها أن ترغم الفطن الحرا

رضيً بقضاء الله إن كان قد قضى

علي بأن اشقى وطوعاً لما اجرى

وصبراً يراعَ الحر انّك مثلُهُ

غريب فلا تستعظم الخطب والأمرا

تروم بأن تحيا من الدهر مطلقاً

ويحكم إلاّ أن تموت به أسرا(١)

ولا ننسى ونحن نستعرض ألوان الشقاء التي اصطبغت بها حياة الشاعر أن نذكر نكبته ببصره حيث حرم النور ولما يبلغ الخمسين من عمره. وقد كان وقع هذا الخطب على نفسه عظيماً حيث أثار لواعج احزانه وجدد قديم آلامه وأشجانه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، ٢٥٧.

١٠٨

ومن أليم قوله في هذا الشأن : « أفق حزين أطبقت عليه ظلمة اليأس وهو منبع النور والأمل يقتات من بقايا الصور الخيالية المرتسمة على مرآة الذهن فهو مصباحه ، ويستاف من زفرات قلبه المحترقة عبيره ونفحاته ، فهو حقله ومجمره. ويستمد من وعي الروح المنطلق قوته ونشاطه فهو حياته يحدق في النجم فلا يرى غير الضئيل من شعاعه ويرمق الزهرة فلا يدرك سوى اللون الواضح من جمالها يرنو للوجه الحسن فلا يحس بغيرالروعة البارزة من قسماته. هذا هو بصري وهذه صور من الألم أرسمها على صفحات هذا اللوح الكئيب :

ربيعَ العمر والآمال تجلى

وأنت الخصب قد أجدبت محلا

ويا أفق الحياة ظلمت نجما

أشاب اليأس من عينيه طفلا

أهذا الجو للغربان ملك

فحيث تحل منه لها أحلا

وأقفاص البلابل وهي تشدو

لها قد أصبحت سجناً وغلا

أحدق بالنجوم دجى فتخفى

على طرف بداج الاُفق ضلا

كأن الليل مدّ عليه سجفاً

وألقاه على عيني ظلا

فلا نجم يلوح ولا شعاع

لعين بافتقاد النور ثكلى

أرى الوجه الجميل ولا أراه

وأسلوه وكيف الحسن يُسلى

وأمتع بالشذى الفياح شوقاً

الى النفحات حين أرود حقلا

وألمس ورده بيديّ لما

حُرمت جماله لوناً وشكلا »(١)

ومن هنا أصبح لون الحزن والألم مميزاً في شعر الفرطوسي يتجلى في معظم نظمه ويشيع في أغلب قصائده. ولا غرو في ذلك فمن يمّر بمثل ما مّر به الفرطوسي ، ويتجرع الغصص التي تجرعها لحقيق بأن تظهر عليه آثار الحزن ومظاهر الألم.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، ١٣١.

١٠٩

٢ - العقيدة :

للعقيدة الدينية مكانتها الخاصة في شعر الفرطوسي. فقد اهتم الشاعر في منهجه الأدبي بالجانب العقائدي اهتماماً كبيراً هيمن على جلّ نتاجه الشعري. ويشكل هذا الأهتمام اتجاهاً واضحاً في مسيرة الشاعر. فقد دأب الشيخ في الألتزام وحرص على توظيف أدبه في خدمة الدين ونشر الثقافة الاسلامية المتمثلة بمبادىء الرسالة المحمدية ، ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المعروف أنّ التزام الشيخ الفرطوسي هو التزام ديني قبل ان يكون التزاماً أدبياً. فقد عرف الشيخ في الأوساط الدينية ب « الانسان التقي الذي تعيش التقوى في كل مواقع حياته وفي كل دوائر علاقاته وفي حسن العبادة وخشوعها وابتهالها ، وفي كل آفاق الالتزام الديني الذي يجعله يحتاط فيه ، ويحتاط له حتى يشتدد على نفسه ليتأكد انّه قد أدّى واجبه امام الله بشكل كامل غير منقوص(١) ».

ويبرز الالتزام العقائدي عند الشاعر اكثر فأكثر حين ينظم قصائد المديح والرثاء في النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأهل بيتهعليهم‌السلام . وقد اكثر الشاعر النظم في هذا المجال حتى شمل ثلث ديوانه ، هذا بالاضافة الى موسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي تجاوزت الأربعين ألف بيت.

ومرجع هذا التفاني في احياء الفكر الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام انما يعود الى التربية الاسلامية التي نشأ عليها الشاعر وتربى في احضانها وترعرع في ظلها الوارف.

وتتجسد العقيدة الدينية في شعر الفرطوسي من خلال رؤيته الواضحة

__________________

١ - محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ص ٣.

١١٠

ومعرفته الدقيقة للدين الاسلامي. فهو من هذا المنظار يعرف جيداً كيف يلقي الضوء على العقائد الاسلامية ، ويصورها في شعره من الزاوية التي يجب أن تصور وفي الاتجاه الصحيح والسليم.

ومن مميزات الصورة التي يرسمها الشاعر في شعره العقائدي انّه عندما يتناول موضوعاً في هذا المجال يمهد له في باديء الأمر بمقدمات تكون ضرورية في الغالب لبسط الموضوع ودرك فحواه. وبعد أن يستوفي الغرض في المقدمات يعرج على ذكر البراهين والحجج التي يمكن عن طريقها التوصل الى الحقيقة المنشودة ، والغاية التي من اجلها أنشد قصيده. وفي مثل هذه المواضع يكثر الشاعر من ايراد الشواهد والأمثلة التي من شأنها أن تساعد على استيعاب الموضوع بأسهل صورة ممكنة.

فمثلاً عندما يتناول الشاعر موضوع ولاية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، يذكر في البداية مقدمات في مناقب الامام وفضله وكذلك مواقفهعليه‌السلام التي حفظت للدين الاسلامي عزته وكرامته :

لك بالامامة واضحات دلائل

بنهارها يُمحى ظلام الباطل

كالسيف تشهر وهي أعظم سطوة

في وجه كل معاند ومجادل

يا واحدَ الدنيا المخّلدَ ذكرُه

بخلائق قدسيَّةٍ وشمائل

خلّدت للاسلام مجداً باذخاً

يربو على افق السما المتطاول

وأشدت للدين الحنيف منازلاً

لولا حسامُك لم تكن بأواهل

وبنور نهجك وهو منبع حكمة

متدفق اوضحت ايَّ مشاكل

أوردتنا فيه نميراً صافياً

يمنى لخير موارد ومناهل

أحكمته بقواعد حكمية

كفلت بيان اصول كل مسائل

١١١

تقف العقولُ أمامه مسحورة

ببيانه وبنسقه المتواصل

انت المحيطُ معارفاً لكنما

لم تحوِ غيرَ جواهر وفضائل

ومن ثم ينتقل الشاعر الى اثبات ولاية الامامعليه‌السلام بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة مستشهداً بأحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الخصوص :

عيد الغدير وأنت أعظم شاهد

بانت به للحق خيرُ دلائل

يومٌ به قام النبيّ مبلغاً

من ربّه نصّ البلاغ النازل

والناس بعضهم غدا متواصلاً

بالبعض في حشد عظيم حافل

نادى بهم والحق يشهد انّه

لولا الحقيقة لم يكن بالقائل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاهُ بالنص الجليّ الكامل

هذا اميرُ المؤمنينَ اميرُكم

وخليفتي فيكم بقول شامل

لكنما غشيت عميً وضلالة

تلك البصائر بالضلال الحائل

نبذوا الكتاب وراءهم وتنكبوا

عن منهج الحق الصريح الفاصل

عدلوا عن الحبل المتين غواية

وتمسكوا من غيّهم بحبائل

ويواصل الشعر ردّه على شبهات المعاندين بكثير من المناقب والفضائل التي خص بها الامام دون غيره من الصحابة والتابعين :

قل للمعاند قد ضللت جهالة

سفهاً لعقلك من عنود جاهل

أعماك غيك أن ترى نور الهدى

فتسير في نهج البصير العاقل

أمن العدالة أن يؤخرَ سابقٌ

ويقدَم المفضولُ دون الفاضل

هذي فضائله وذي آثاره

سطعت بآفاق الهدى كمشاعل

فتصفح التأريخ فهي بوجهه

غرر صباح نظّمت كسلاسل

١١٢

ينبئك من واسى النبيّ محمداً

بمواقف مشهورة وغوائل

وفداه عند مبيته بفراشه

في نفسه فوقاه شر الباطل

ومن الذي اردى الوليد وشيبة

في يوم بدر بالحمام العاجل

وبيوم احد من طغت عزماته

فرست جبالاً في الزحام الهائل

من فرق الأحزاب حين تجمعت

فرقاً وما في القوم غير الناكل

ورمى على وجه الثرى اصنامها

لما رقى من فوق أشرف كاهل

وبكفه حصن اليهود قد اغتدى

متلاطماً كالموج فوق الساحل

ومن الذي ردت له شمس الضحى

لما أشار لها ارجعي في بابل

وفضائل ليست تعد و« هل اتى »

و« النجم » و« النبأ العظيم » دلائلي

عميت عيون لا ترى شمس الضحى

عند استقامة كلِ ظل مائل

عيد الغدير وأنت اكرم وافد

وافى من البشرية بخير رسائل

عيد به الاسلام اضحى حافلاً

فرحاً بتتويج الامام العادل

عيدٌ به شمس الحقيقة أشرقت

والحق اطلق من شباك الباطل

ما جادت الدنيا لنا في مثله

أبداً ولا تأتي له بمماثل

حقّاً يُخلَّد ذكرهُ وعلاؤهُ

وبه يُخلَّد ما تخط أناملي(١)

وعلى هذا النحو تتمثل العقيدة الاسلامية في شعر الفرطوسي بأوضح صورها وأتم معالمها ، مما لا تدع مجالاً للشك في اخلاص الشاعر تجاه دينه ومعتقده الذي حرص على أدائه بأكمل ما يمكن من وجوه الدقة والكمال.

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١١٧ - ١١٩.

١١٣

٣ - التاريخ :

لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله.

وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :

عزائم العرب ثوري وانضي فينا

الى الوغى وأعيدي مجد ماضينا

ورفرفي يا بنودَ الحقِّ خافقةً

بالنصر واستقبلي دنيا أمانينا

قد آن أن تملأ الدنيا عزائمنا

ناراً موقدة تُصلي أعادينا

فتلك أوطاننا أضحت بها علناً

بشائرُ النهضة الكبرى تحيّينا

ثارت فلم يبق في دنيا الفخار فمٌ

للعرب إلاّ ولبّاها تلاحينا

وطاف في الشرق صوت الحق فابتهجت

له النفوسُ ولبّته مواضينا

واستنهض المجد من أبناء نجدته

عزائماً بعثت روح الإبا فينا(١)

ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :

يا أمة خانها في الشرق طالعها

فعاد في صفقة الخسران مغبونا

سلي الحوادث عن تأريخ نهضتنا

«واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا»

____________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٧.

١١٤

كم نهضة في سبيل المجد خالدةٍ

جبارة قد أقامتها مواضينا

هاتيك « أندلس » للآن ما برحت

آثارنا في ضواحيها تنادينا

غداة سرنا ونصر الله يصحبنا

وراية الحق والاسلام تعلونا

« فما انثنينا ولا فلت عزائُمنا »

حتى فتحنا وأمست طوع أيدينا

وكيف نثنى ولم يُرفع لنا علمٌ

إلاّ وعاد بنصر الله مقرونا(١)

ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :

يا ثورة العشرين يوُمكِ غُرةٌ

في جبهة التاريخ لا تتغير

ميلاد نجمك بين أحضان الضحى

والشمس مولدها الصباح المسفر

أفق الفرات ومهده قد أنجبا

فية وها هو بالارومة يفخر

حملته وهو المجد بين ضلوعها

اُمٌ ولودٌ كالعفرنى تزأر(٢)

حتى اذا وضعته في لجج الدِما

كرها وعاصفة المنية تجأر

حضنته جارتُها وأضحت تدعي

فيه وهل تلد العقيمُ وتثمر

وتفيأت منه الظلالَ وامّه

تصلى برابعة الهجير وتُصهر

واستثمرته كأنما هو غرسةٌ

منها اجتناها الغارس المستثمر(٣)

وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٩.

٢ - أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٨٥ ).

٣ - ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

١١٥

ثالثاً : الخصائص

١ - التوظيف والألتزام :

لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي(١) .

أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام .

ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة :

__________________

١ - محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص ٩.

٢ - محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص ٤٤٢.

١١٦

أفيقوا يابني وطني عجالا

فما يجدي الرقادُ النائمينا

وهبّوا فيه للاصلاح كيما

نراكم للتمدن ناهضينا

أليس ثقافة الجنسين فرضاً

تقوم به الرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريق يقتفيه السالكونا

جمال الشعب يوماً أن نراه

يسير الى الثقافة مستبينا

وان ثقافة الأحلام نورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا(١)

وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :

يا غارس الورد حاول أن تنسّقه

في خير سلك من التنظيم موزون

ايّاك ايّاك أن تسعى بتفرقة

بين الشقيقين من تلك الرياحين

فضمّ ما عشت ورد الاقحوان الى

ورد الشقيق خدود الخرد العين

واشفق على النرجس الذاوي بجنبهما

اني لأخشى عليه ساعة الهون

هذي الازاهير وهي الحسن أجمعه

فيها تمتع من حين الى حين

وخلّ عنك أعاصير الهموم فقد

أفنيت عمرك في تلك الميادين

ما أنصفت أممٌ جبارةٌ غصبت

منك الحياة بظلم غير مسنون

هل العدالة تقضي أن تضام بها

أم تلك حكمة هاتيك القوانين(٢)

وهكذا دواليك في باقي قصائده الاجتماعية والسياسية الكثيرة من مثل « الحقيقة » و« فلسطين » ، و« الى الاغنياء » ، و« مآسي الحرب » ، و« اليتيم » ، و« السعادة ». وهذه الأخيرة تعد من خيرة قصائد الشاعر الاجتماعية التي تناول فيها الفوارق الكبيرة بين طبقتي الاغنياء والفقراء مصوراً فيها حياة البؤس والشقاء

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣١٧ ، ٣١٨.

١١٧

التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء.

هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهمعليهم‌السلام .

ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيتعليهم‌السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيتعليهم‌السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله:

على حبّكم يا آل بيت محمدٍ

ترعرعت في مهد الطُفولة ناشيا

وعندي من وحي الولاء عواطف

عرفت بها حبّي لكم وولائيا

صهرت بها روحي هدى وعقيدة

وأفعمت بالايمان منها فؤاديا

فؤادٌ بكم غالى هوىً وصبابةً

فأصبح فيكم مغرماً متفانيا

أغذيه عذباً من غدير ولائكم

يعب به عباً ويصدر ظاميا

وأعجبُ من قلب يعب معينه

ويصدر ريّاناً من الحب راويا(١)

ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام .

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٥٢.

١١٨

٢ - الواقعية والموضوعية :

سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة.

وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :

إنّها الحرب أضرمتها سعيراً

بلظاها الأحقاد والبغضاء

قد أشابت حتى الجمادات هولاً

وهي بكرٌ فتيّةٌ عذراء

تخذوها الى المطامع جسراً

كونته الأغراض والأهواء

ظلموا العالَم الوديعَ اغتصاباً

ليفوزوا بها فخاب الرجاء

ألقحوها وهم شقوا بلظاها

ويظنّون أنّهم سعداء

كم أساؤا الى الحضارة فيها

ليتهم أحسنوا كما قد أساؤا(١)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٩.

١١٩

وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :

رُحماك يا مصلح الأخلاق بالبشر

لم يبق فيه لقوس الصبر من وتر

انّ الفضيلةَ لم نبصر لها وضحاً

وهل تُحسُّ بلا عين ولا أثر(١)

ومنبتُ الخير قد غاضت منابعهُ

وموقد الشر يطغى من لظى الشرر

والكون مجزرةٌ تبدو لناظرها

من الضحايا بها آلاف محتضر

ومعرض حاشد بالبؤس قد مثلت

به الفضائعُ أشكالاً على صور

ضاعت مقاييس إصلاح منظمة

لكلّ وضعٍ من الإفساد منتثر

فأختلّ منّا نظامُ الاجتماعِ لها

حتى بدا فيه نقصٌ غيرُ مستتر

وأُبعد النبلُ عن قوم به عرفوا

وقرّبوا بعد عرف الحق للنكر

وكل شيء على عكس المرام بدا

مشوه الشكل بعد المنظر النضر

ولا نحسّ لهذا النقص من سببٍ

سوى اختلال نظام العالم البشري(٢)

ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام ١٩٦٣ م بمناسبة مولد الامام الحسينعليه‌السلام والتي قال فيها :

__________________

١ - الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٢٣ ).

٢ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وورد عن إسحاق أن بعض المتكلمين قال له: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقال: آمنت برب يفعل ما يشاء....

- وقال في سيره ج ١٤ ص ٣٩٦

أخبرنا إسماعيل بن إسماعيل في كتابه، أخبرنا أحمد بن تميم اللبلي ببعلبك، أخبرنا أبو روح بهراة، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليجي، أخبرنا أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السراج إملاء قال: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب ويضحك وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين....

وصار ابن عقيل شيخ الحنابلة

- سير أعلام النبلاء ج ١٩ ص ٤٤٣

ابن عقيل. الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة، أبوالوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري الحنبلي المتكلم، صاحب التصانيف، كان يسكن الظفرية، ومسجده بها مشهور.

ولد سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة وسمع أبا بكر بن بشران، وأبا الفتح بن شيطا، وأبا محمد الجوهري، والحسن بن غالب المقريء، والقاضي أبا يعلى بن الفراء، وتفقه عليه، وتلا بالعشر على أبي الفتح بن شيطا، وأخذ العربية عن أبي القاسم بن برهان، وأخذ علم العقليات عن شيخي الإعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان صاحبي أبوالحسين البصري، فانحرف عن السنة.

وكان يتوقد ذكاء، وكان بحر معارف وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته، وعلق كتاب الفنون، وهو أزيد من أربع مئة مجلد، حشد فيه كل ما كان

٢٦١

يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث....

قال المبارك بن كامل: صلى على شيخنا بجامع القصر فأمهم ابن شافع، وكان الجمع ما لا يحصى، وحمل إلى جامع المنصور فصلي عليه، وجرت فتنة وتجارحوا، ونال الشيخ تقطيع كفن، ودفن قريباً من الإمام أحمد....

وفي تاريخ ابن الأثير قال: كان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على ابن الوليد، فأراد الحنابلة قتله فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة.

وقال ابن عقيل في الفنون: الأصلح لإعتقاد العوام ظواهر الآي لأنهم يأنسون بالإثبات، فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت الحشمة. قال: فتهافتهم في التشبيه أحب إلينا من إغراقهم في التنزيه، لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات فيخافون ويرجون، والتنزيه يرمي بهم إلى النفي فلا طمع ولا مخافة في النفي. ومن تدبر الشريعة رآها غامسة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ الظاهرة التي لا يعطي ظاهرها سواه، كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فلم يكفهر لقوله، وتركه وما وقع له....

من عقائد الدولة: إطاعة الحاكم الجائر والتجسيم والرؤية

- سير أعلام النبلاء ج ١٢ ص ٦٧

وعن يحيى بن عون: قال: دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: ألست مصدقاً بالرسل والبعث والحساب، والجنة والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر، ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف وإن جاروا؟ قال: إي والله، فقال: مت إذا شئت، مت إذا شئت!!

٢٦٢

- تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢٩ ص ٧٣

محمود السلطان كان صادق النية في إعلاء كلمة الله.. وقبره بغزنة يدعى عنده.. دخل ابن فورك على السلطان محمود فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقيه لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتيه.. فقال السلطان: هو وصف نفسه!

هجمة الحنابلة على الطبري

- قال الحموي في معجم الأدباء ج ٩ جزء ١٨ ص ٥٧ في ترجمة الطبري:

فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم! وركب نازوك صاحب الشرطة في ألوف من الجند يمنع عنه العامة ، ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان قد كتب على بابه: سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس، فأمر نازوك بمحو ذلك، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:

لأحمد منزل لا شك عالٍ

إذا وافى إلى الرحمن وافد

فيدنيه ويقعده كريماً

على رغم لهم في أنف حاسد

على عرشٍ يغلفه بطيبٍ

على الأكباد من باغ وعاند

له هذا المقام الفرد حقّاً

كذاك رواه ليثٌ عن مجاهد

٢٦٣

فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الإعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد بن حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الإختلاف حتى مات فوجدوه مدفوناً في التراب، فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء، هكذا سمعت من جماعة منهم أبيرحمه‌الله !

- وقال ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد ج ٤ ص ٣٩

قال القاضي: صنف المروزي كتاباً في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه إقعاده على العرش، وهو قول أبي داود وأحمد بن أصرم.... وعبد الله بن الإمام أحمد.... إلخ. ثم قال ابن قيم: قلت وهو قول ابن جرير الطبري، وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير. انتهى.

ولم يذكر ابن القيم عمن أخذه مجاهد، ولم يذكر تهديد الحنابلة للطبري وإجبارهم إياه على القول بذلك حتى صار ليناً هينا مع التجسيم وأهله.

ولكن جولد تسيهر اليهودي قال في مذاهب التفسير الاسلامي ص ١١٨:

وهو (الطبري) يعارض أشد صرامة وعنفاً فهم التجسيد في عبارات التشبيه المضافة الى الله والذهاب إلى أن مثل هذه العبارات دالة على صفات الله الحقيقية.. فقد اختلف أهل الجدل.. في تأويل قوله (بل يداه مبسوطتان) فقال بعضهم.. عنى باليد النعمة أو القدرة أو الملك. وقال آخرون: بل يد الله صفة من صفاته، هي يد غير أنها ليست بجارحة.. والطبري يجزم بالرأي الثاني..

هجمة الحنابلة على ابن حبّان

- المجروحين لابن حبان ج ١ مقدمة

قال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد.... قال سألت يحيى بن عمار عن ابن حبان، قلت رأيته؟ قال: وكيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحد لله!

٢٦٤

وقال السبكي تعليقاً على ذلك: من أحق بالإخراج من يجعل ربه محدوداً، أو من ينزهه عن الجسمية....

- وقال ابن حجر في لسان الميزان ج ٥ ص ١١٣

وقد بدت من ابن حبان هفوة فطعنوا فيه بها. قال أبو إسمعيل الأنصاري شيخ الإسلام: سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان فقال: رأيته ونحن أخرجناه من سجستان، كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين، قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه.

قلت: إنكاره الحد وإثباتكم للحد نوع من فضول الكلام، والسكوت من الطرفين أولى إذ لم يأت نص بنفي ذلك ولا إثباته، والله تعالى ليس كمثله شيء، فمن أثبته قال له خصمه جعلت لله حداً برأيك ولا نص معك بالحد، والمحدود مخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقال هو للنافي ساويت ربك بالشيء المعدوم، إذ المعدوم لا حد له. فمن نزه الله وسكت سلم وتابع السلف.

- وقال الذهبي في سيره ج ١٦ ص ٩٤

وقال أبو بكر الخطيب: كان ابن حبان ثقة نبيلاً فهماً. وقال أبو عمرو بن الصلاح في طبقات الشافعية: غلط ابن حبان الغلط الفاحش في تصرفاته. قال ابن حبان في أثناء كتاب الأنواع: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ.

قلت: كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف....

وقال أبو إسماعيل الأنصاري: سمعت يحيى بن عمار الواعظ، وقد سألته عن ابن حبان، فقال: نحن أخرجناه من سجستان، كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه!

قلت: إنكاركم عليه بدعة أيضاً، والخوض في ذلك مما لم يأذن به الله، ولا أتى

٢٦٥

نص بإثبات ذلك ولا بنفيه. ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه. وتعالى الله أن يحد أو يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو علمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. انتهى.

وهكذا مدح الذهبي ابن حبان وأظهر إعجابه بعلو همته، ولكنه خطَّأه في إنكاره الحد لله تعالى وحكم بأنه صاحب بدعة، فهو يستحق الطرد من سجستان، بل قد يستحق الإعدام إن لم يتب!

ومن عجب الزمان أن يكون الجو الحاكم في بعض مناطق المسلمين في أواخر القرن الثالث أن الذي يقول إن الله تعالى غير محدود بمكان ولا زمان، يعتبر مبدعاً في الإسلام، وكأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلغ الأمة بأن ربكم محدود بالمكان والزمان، ومن أنكر ذلك فقد أبدع!

ولا تغتر بتخطئة الذهبي للذين طردوا ابن حبان من سجستان، فإنه لم يخطئهم لطرده على بدعته، بل خطَّأهم لمجادلته حتى أظهر بدعته، ولأنه كان الواجب عليهم أن يسكتوا عن لوازم التجسيم في نزول الله تعالى وجلوسه على العرش، كما هو مذهبه!!

من تكفيرات المجسّمين لمن خالفهم

- سير أعلام النبلاء ج ١١ ص ٧٠

قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبا معمر الهذلي يقول: من زعم أن الله لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يرضى ولا يغضب، فهو كافر، إن رأيتموه واقفاً على بئر فألقوه فيها، بهذا أدين الله عز وجل!

- سير أعلام النبلاء ج ١١ ص ٣٠٢

حدثنا أحمد بن جعفر الإصطخري قال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: هذا مذهب أهل العلم والأثر، فمن خالف شيئاً من ذلك أو عاب قائلها، فهو مبتدع.

٢٦٦

وكان قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ومن زعم أن الإيمان قول والأعمال شرائع فهو جهمي، ومن لم ير الإستثناء في الإيمان فهو مرجيء، والزنى والسرقة وقتل النفس والشرك كلها بقضاء وقدر من غير أن يكون لأحد على الله حجة. إلى أن قال: والجنة والنار خلقتنا ثم خلق الخلق لهما لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً. إلى أن قال: والله تعالى على العرش، والكرسي موضع قدميه. إلى أن قال: وللعرش حملة. ومن زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله، فهو جهمي. ومن لم يكفره فهو مثله. وكلم الله موسى تكليماً من فيه! إلى أن ذكر أشياء من هذا الأنموذج المنكر، والأشياء التي والله ما قالها الإمام. فقاتل الله واضعها. ومن أسمج مافيها قوله: ومن زعم أنه لا يرى التقليد ولا يقلد دينه أحداً فهذا قول فاسق عدو لله. فانظر إلى جهل المحدثين كيف يروون هذه الخرافة ويسكتون عنها. انتهى.

ومع أن الذهبي وصف الأنموذج بأنه منكر وخرافة، فهو يتبنى أكثر عقائده!

- التحفة اللطيفة للسخاوي ج ٢ ص ٢٨٥

علي بن عبد الله.. قال قبل أن يموت بشهرين.. من زعم أن الله لا يرى فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة فهو كافر. انتهى.

وقصدهم أن الله تعالى كلم موسى من فمه، ولم يخلق الصوت في شيء مخلوق، وقد نصت على ذلك أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام وقال به أكثر المسلمين.

- تاريخ الإسلام للذهبي ج ١٧ ص ٣٨٦

هارون بن معروف.... وقال هارون الجبال: سمعت هارون بن معروف يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فكأنما عبد اللات والعزى! وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن هارون بن معروف قال: من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام! انتهى. وقصده أن الله تعالى يتكلم من فمه! وأن الذي يعتقد بأن الله لافم له فقد جعله صنماً! والذي يقول له فم، فقد نزهه عن الصنمية!!

٢٦٧

- سير أعلام النبلاء ج ١٧ ص ٢٥٥

قال الإمام تقي الدين ابن الصلاح في فتاوىه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسررحمه‌الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قلت: واغوثاه! واغربتاه!.

- سير أعلام النبلاء ج ٨ ص ٤٠٣

حدثنا أحمد بن يونس، سمعت ابن المبارك قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: من زعم أن هذا مخلوق، فقد كفر بالله العظيم.

- سير أعلام النبلاء ج ١٠ ص ١٨

الحاكم: سمعت أبا سعيد بن أبي عثمان، سمعت الحسن ابن صاحب الشاشي، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وسئل عن القرآن فقال: أف أف، القرآن كلام الله، من قال: مخلوق، فقد كفر. هذا إسناد صحيح.

- سير أعلام النبلاء ج ١١ ص ٥٨

ابن مخلد العطار: حدثنا محمد بن عثمان، سمعت علي بن المديني، يقول قبل أن يموت بشهرين: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق، فهو كافر. وقال عثمان بن سعيد الدارمي، سمعت علي بن المديني يقول: هو كفر، يعني من قال: القرآن مخلوق.

ملحد (سنّي) يحبّه المجسّمة لأنّه يلعن من خالفهم

- مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٤٣،٤٤

كان رجل في أيام هارون الرشيد ببغداد، وإنه كان دهرياً من أهل السنة والجماعة! ويلعن أهل البدع.... ويعرف بالسني، تنقاد له العامة فكان يجتمع إليه خلق من الناس، وإذا اجتمعوا وثب قائماً على قدمه فقال: يا معشر المسلمين قلتم لا ضار ولا نافع إلا الله، فلأي شيء مصيركم إليَّ تسألوني عن مضاركم ومنافعكم؟ إلجؤوا الى ربكم وتوكلوا على بارئكم..

٢٦٨

من الفتن التي حدثت بسبب التجسيم

في القرن الثاني انتقل ثقل التشبيه والتجسيم من الشام إلى بغداد، وأرخ المؤرخون لفتن متعددة حدثت في بغداد ذكرنا بعضها في الفصل الخامس، ونشير منها هنا إلى الفتنة التي ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام ج ٢٣ ص ٣٨٤ بسبب تفسير آية: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، قالت الحنابلة معناه أن يقعده على عرشه كما فسره مجاهد. وقال غيرهم: بل هي الشفاعة العظمى. وقد تقدم أن ابن خلدون يرى أن الفتن بين الحنابلة ومخالفيهم كانت أحد الأسباب في خراب بغداد.

- سير أعلام النبلاء ج ١٨ ص ٨٩

القاضي أبو يعلى الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، القاضي أبويعلى، محمد بن الحسين ابن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي، الحنبلي، ابن الفراء، صاحب التعليقة الكبرى، والتصانيف المفيدة في المذهب. ولد في أول سنة ثمانين وثلاث مئة.... أفتى ودرس، وتخرج من الأصحاب، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه، مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره، والنظر والأصول، وكان أبوه من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة، فمات ولأبي يعلى عشرة أعوام، فلقنه مقرئه العبادات من مختصر الخرقي، فلذ له الفقه، وتحول إلى حلقة أبي عبد الله بن حامد، شيخ الحنابلة، فصحبه أعواماً، وبرع في الفقه عنده، وتصدر بأمره للإفادة سنة اثنتين وأربع مئة، وأول سماعه من علي بن معروف في سنة ٣٨٥.

وقد سمع بمكة ودمشق من عبد الرحمن بن أبي نصر، وبحلب، وجمع كتاب إبطال تأويل الصفات، فقاموا عليه لما فيه من الواهي والموضوع، فخرج إلى العلماء من القادر بالله المعتقد الذي جمعه، وحمل إلى القادر كتاب إبطال التأويل، فأعجبه، وجرت أمور وفتن نسأل الله العافية ثم أصلح بين الفريقين الوزير علي بن المسلمة، وقال في الملا: القرآن كلام الله، وأخبار الصفات تمر كما جاءت. ثم ولي أبو يعلى القضاء بدار الخلافة والحريم، مع قضاء حران حلوان..

٢٦٩

وواجه بعض الخلفاء تطرّف المجسّمين

- نشوار المحاضرة للتنوخي ج ٣ ص ١٤٤

وكانت العامة قد هاجت في أيام وزارته وعظمت الفتنة وكثر كلام القصاص في المساجد ورؤساء الصوفية.... فاتفق أن بديء برجل من رؤساء الصوفية يعرف بإسحاق بن ثابت أحد الربانيين عند أصحابه، فقال له: بلغني أنك تقول في دعائك: يا واحدي بالتحقيق يا جاري اللصيق، فمن لا يعلم بأن الله لا يجوز أن يوصف أنه لصيق على الحقيقة فهو كافر، لأن الملاصقة من صفات الأجسام. إنكم تهذون وتوهمون الناس على أنكم ربانيين.... وكتب إليه أن لا يتكلم على الناس.

- تاريخ الإسلام للذهبي ج ٣٢ ص ١٧١،١٧٢

أبو بكر الواعظ البكري.... قدم إلى بغداد وجلس للوعظ وذكر ما يلطخ به الحنابلة من التجسيم.... وضربه جماعة من الهاشميين (يقصد العبّاسيين) بالحصى وهم من أصحاب أحمد، فأخذهم النقيب وعاقبهم.

وقتل خلفاء شرعيّون إماماً مجسّماً طمع بالحكم

- تهذيب الكمال ج ١ ص ٥٠٧

... حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال: وقُتِل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي سنة إحدى وثلاثين ومئتين. قال الحافظ أبو بكر: وكان قتله في خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن. وبه حدثني القاضي أبوعبد الله الصيمري، حدثنا محمد ابن عمران المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: كان أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي من أهل الحديث، وكان جده من رؤساء نقباء بني العباس، وكان أحمد وسهل بن سلامة، حين كان المأمون بخراسان، بايعا الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن دخل المأمون بغداد، فرفق بسهل حتى لبس السواد، وأخذ الأرزاق ولزم أحمد بيته، ثم إن أمره تحرك ببغداد

٢٧٠

في آخر أيام الواثق، واجتمع إليه خلق من الناس، يأمرون بالمعروف، إلى أن ملكوا بغداد، وتعدى رجلان من أصحابه يقال لأحدهما: طالب في الجانب الغربي، ويقال للآخر أبو هارون في الجانب الشرقي، وكانا موسرين فبذلا مالاً، وعزما على الوثوب ببغداد في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومئتين، فنم عليهم قوم إلى إسحاق بن إبراهيم فأخذ جماعة فيهم أحمد بن نصر، وأخذ صاحبيه طالباً وأبا هارون فقيدهما، ووجد في منزل أحدهما أعلاماً، وضرب خادماً لأحمد بن نصر فأقر أن هؤلاء كانوا يصيرون إليه ليلاً فيعرفونه ما عملوا، فحملهم إسحاق مقيدين إلى سر من رأى، فجلس لهم الواثق وقال لأحمد بن نصر: دع ما أخذت له، ما تقول في القرآن قال: كلام الله. قال: أفمخلوق هو قال: كلام الله. قال: أفترى ربك في القيامة قال: كذا جاءت الرواية، قال: ويحك، يرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر، أنا أكفر برب هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق، وكان قاضياً على الجانب الغربي ببغداد فعزل: هو حلال الدم، وقال جماعة من الفقهاء كما قال، فأظهر ابن أبي دؤاد أنه كاره لقتله، فقال للواثق: يا أميرالمؤمنين شيخ مختل لعل به عاهة أو تغير عقله يؤخر أمره ويستتاب. فقال الواثق: ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده منه. ودعا الواثق بالصمصامة وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فنصب بالجانب الشرقي أياماً، وفي الجانب الغربي أياماً، وتتبع رؤساء أصحابه فوضعوا في الحبوس!. انتهى. ورواه الذهبي أيضاً في ج ١٧ ص ٥٦

- سير أعلام النبلاء ج ١١ ص ١٦٥

قال الحسن بن محمد الحربي: سمعت جعفر بن محمد الصائغ، يقول: رأيت أحمد بن نصر حين قتل قال رأسه: لا إله إلا الله. قال المروذي: سمعت أحمد ذكر

٢٧١

أحمد بن نصر فقالرحمه‌الله : لقد جاد بنفسه. وعلق في أذن أحمد بن نصر ورقة فيها: هذا رأس أحمد بن نصر، دعاه الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك.

- تاريخ الإسلام للذهبي ج ١٧ ص ٥٨

قال: رأى بعض أصحابنا أحمد بن نصر في النوم فقال: ما فعل ربك؟ قال: ما كانت إلا غفوه حتى لقيت الله فضحك لي.... وقال غضبت له فأباحني النظر إلى وجهه!

وكان التجسيم منتشراً في عصر ابن الجوزي والسبكي

- كشف الظنون ج ١ ص ٢١٨

للشيخ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة ٥٩٧ سبع وتسعين وخمسمائة، مختصر صنف في تأييد مذهبه والرد على الحنابلة المجسمة. انتهى.

وله ايضاً كتاب دفع شبهة التشبيه بأكف التنزيه، حققه في عصرنا ونشره الباحث السيد حسن السقاف، وتجد في ترجمة ابن الجوزي وكتبه قصة محنته مع الحناابلة المجسمين في عصره!

- كشف الظنون ج ١ ص ٨٧٩

رسالة الغفران من المكث بحران، مختصر لبعض العلماء، أولها الحمد لله على كل حال الخ. ألفها سنة ٦٢٧ سبع وعشرين وستمائة رد فيها على حنبلي مجسم منكر، على قواعد علم الكلام.

- وقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية وغيره نماذج عديدة للمجسّمة العلنيين والسرّيين، قال في ج ٢ ص ١٩: وقد وصل حال بعض المجسمه في زماننا إلى أن كتب شرح صحيح مسلم للشيخ محي الدين النووي وحذف من كلام النووي ما تكلم به على أحاديث الصفات، فإن النووي أشعري العقيدة، فلم تحمل قوى هذا الكاتب أن

٢٧٢

يكتب الكتاب على الوضع الذي صنفه مصنفه! انتهى.

ووصل الحال في عصرنا إلى أن بعض الوهابيين ينشرون كتب النووي وغيره ويحذفون منها كل مايخالف مذهبهم حتى أنهم حذفوا فضل زيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحد كتبه. وهذا غيض من فيض فإن دور نشرهم في عدة بلدان تعمل مناشيرها وسكاكينها في كتب الثراث الاسلامي، ومستأجريهم ينفذون تعليماتهم بحذف كل ما لا يليق لهم!

هذا مضافاً الى نشرهم كتب المشبهة والمجسمة وتكبير شخصياتهم وإشاعة تعظيمهم وتقدسيهم، وتكفير مخالفيهم من سلف الأمة ومعاصريها!

وانتقل التجسيم من بغداد إلى مصر

- سير أعلام النبلاء ج ١٥ ص ٤٢٩

أبو إسحاق المروزي الإمام الكبير، شيخ الشافعية وفقيه بغداد، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، صاحب أبي العباس بن سريج وأكبر تلامذته، اشتغل ببغداد دهراً وصنف التصانيف وتخرج به أئمة كأبي زيد المروزي، والقاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي مفتي البصرة، وعدة.

شرح المذهب ولخصه، وانتهت إليه رئاسة المذهب. ثم إنه في أواخر عمره تحول إلى مصر فتوفي بها في رجب في تاسعه، وقيل في حادي عشرة سنة أربعين وثلاث مئة، ودفن عند ضريح الإمام الشافعي ولعله قارب سبعين سنة..... صنف المروزي كتاباً في السنة، وقرأه بجامع مصر، وحضره آلاف فجرت فتنة، فطلبه كافور فاختفى، ثم أدخل إلى كافور، فقال: أما أرسلت إليك أن لا تشهر هذا الكتاب فلا تظهره. وكان فيه ذكر الإستواء، فأنكرته المعتزلة. انتهى. يقصد أنه كان في الكتاب ذكر القعود الحسي لله تعالى على عرشه، فأنكره علماء مصر. ولكن الحاكم كافوراً الإخشيدي كان يميل إلى التجسيم فطلب منه أن لا ينشر كتابه فقط!

٢٧٣

الإمام العبدري المغربي المجسّم

- تذكرة الحفّاظ ج ٤ ص ٧٢

العبدري: الإمام الحافظ العلاّمة أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجي القرشي العبدري الميورقي الأندلسي نزيل بغداد، وكان من أعيان الحفاظ ومن فقهاء الظاهرية، سمع أبا عبد الله مالك بن أحمد البانياسي ورزق الله التميمي وأبا الفضل ابن خيرون وطراد بن محمد الزينبي ويحيى بن أحمد السيبي وأبا عبد الله الحميدي وطبقتهم، قال القاضي أبو بكر بن العربي في معجمه: أبوعامر العبدري هو أنبل من لقيته. وقال ابن ناصر: كان فهماً عالماً متعففاً وكان يذهب إلى أن المناولة كالسماع. وقال السلفي في معجمه: كان من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام، متصرفاً في فنون من العلوم أدباً ونحواً ومعرفة بالأنساب، وكان داودي المذهب قرشي النسب، كتب عني وكتبت عنه، مولده بقرطبة. وقال أحمد بن أبي بكر البندنيجي: لما دفنوا أبا عامر العبدري قال ابن ناصر: خلا لك الجو فبيضي واصفري. مات أبوعامر حافظ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من شاء فليقل ما شاء.

قال الحافظ ابن عساكر: كان أبو عامر داودياً وكان أحفظ شيخ لقيته.... ذكر أنه دخل دمشق، سمعته يقول جرى ذكر الإمام مالك فقال: جلف جاف ضرب هشام بالدرة.... بلغني أنه قال في: يوم يكشف عن ساق، وضرب على ساقه فقال: ساق كساقي هذه. قلت: هذه حكاية منقطعة، وهذا قول الضلال المجسمة، وما أعتقد أن بلغ بالعبدري هذا. ثم قال: وبلغني أنه قال إن أهل البدع يحتجون بقوله تعالى: ليس كمثله شيء، أي في الإلهية أما في الصورة فهو مثلي ومثلك.... قال ثم تلا قوله تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، أي في الحرمة!!

- وترجم له ترجمة مفصلة في تاريخ الإسلام ج ٣٦ ص ١٠٣

٢٧٤

التجسيم ينتشر في المغرب فيقاومه المهدي بن تومرت

- تاريخ ابن خلدون ج ٧ ص ٢٢٥

الخبر عن مبدأ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يدى بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وإفريقية.... وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها، وكان يسمى أصحابه بالموحدين، تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصوراً لا يأتي النساء، وكان يلبس العباءة المرقعة، وله قدم في التقشف والعبادة، ولم تحفظ عنه فلتة في البدعة، إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم، والله تعالى أعلم. انتهى. يستكثر علينا إخواننا السنة أن نقول بعصمة أهل البيت وهم الأئمة الإثني عشر والصديقة الزهراءعليهم‌السلام اللذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ونص الله تعالى على طهارتهم، وأوجب محبتهم وجعل بغضهم نفاقاً، وجعل الصلاة عليهم فى صلاة المسلمين اليومية.. ثم نراهم يقولون بعصمة الخليفة عمر وأبي بكر وعثمان، بل وعصمة كل الصحابة وعدالتهم. فهل يريدون بذلك استثناء أهل البيت فقط من عشرة آلاف صحابي. واذا أجابوا بأنا لانقول بعصمة الصحابة طالبناهم بأن يذكروا أخطاء الذين يقدسونهم منهم.

- تاريخ ابن خلدون ج ٧ ص ٢٦٦

هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن، وكان أصل دعوته نفي التجسيم الذى آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التأويل في المتشابه من الشريعة، وصرح بتكفير من أبى ذلك، أخذاً بمذهب التكفير بالمآل، فسمى لذلك دعوته بدعوة التوحيد وأتباعه بالموحدين، نعياً على الملثمين فإن مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية.

٢٧٥

- وقال الدكتور حسن إبراهيم في تاريخ الإسلام ج ٤ ص ٣٦٨

صرف ابن تومرت الناس عن اتباع مذهب السلف الذي قد يجر معتنقيه إلى التشبيه والتجسيم. وابن تومرت في هذا الميدان العلمي يعتبر من الشخصيات العلمية البارزة في التاريخ الإسلامي.

وكثر الحشوية والْمُخَلِّطُونَ في العالم الإسلامي

قال العلامة الأرموي في منهاج الكرامة ص ٦: وقالت جماعة الحشوية والمشبهة: إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق، وإنه يجوز عليه المصافحة، وإن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا، وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه، وحكى عن داود الظاهري أنه قال: أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك، وقال: إن معبودهم له جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين، وحكى أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك، وله شعر قطط. حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى ينزل في كل ليلة جمعة على شكل أمرد حسن الوجه راكباً على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفاً يضع كل ليلة جمعة فيه شعيراً وتبناً لتجويز أن ينزل الله على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء، ويقول: هل من تائب هل من مستغفر، تعالى الله عن مثل ذلك.

... وحكى عن بعض المنقطعين التاركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الوجه قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها، فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه، فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلاً فقال: أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه

٢٧٦

نية فأنت الحاكم، فرد الشيخ عليه وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل على صورة هذا الغلام، فتوهمت أنه الله تعالى! فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة....

وأضاف الأرموي: أقول: لا يسع المقام أكثر من ذلك وإلا لنقلنا أضعاف ما ذكرنا. وقال الطبراني: حدثنا على بن سعيد الرازي حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الضحاك عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه عز وجل في صورة شاب أمرد وبه قال ابن جريج.. عن صفوان بن سليم عن عائشة قالت: رأى النبي ربه على صورة شاب جالس على كرسي رجله في خضرة من لؤلؤ يتلألأ!

* *

٢٧٧

الفصل السابع

كلّ الناس مبرّؤون.... والشيعة متّهمون

المنطق الحاكم في كتب العقائد عند إخواننا، هو منطق الدولة الذي يصدر الأحكام ولا يقبل الإعتراض، وأحكامه هنا تقول:

أولاً: السنة هم المسلمون الموحدون، حتى لو كانت مصادرهم تنادي بالتشبيه والتجسيم بأحاديث صحيحة عندهم!

والشيعة هم المجسمون والمعطلون، وإن كانت مصادرهم تنادي بالتنزيه ونفي التشبيه بأحاديث صحيحة عندهم!

ثانياً: يحرم قراءة أي كلام والخوض في أي بحث يوجب اتهام السنة بالتجسيم! كما يحرم قراءة كتب الشيعة وأحاديثهم في العقائد، لأنهم يجسمون الله تعالى ويؤلهون الأئمة من ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا هو حكم أكثر الكتاب والمؤلفين في العقائد، ودليلهم أن التاريخ عامل الشيعة بهذه الأحكام، فصارت هي الجو العام الذي نشأوا فيه، فكتبوا كما قرؤوا وكما سمعوا.

٢٧٨

لقد استطاع كثير من المظلومين في التاريخ، أن يرفعوا أيديهم أو أصواتهم ويسجلوا (آخهم) من ظالميهم. أما نحن الشيعة فلم نستطع إلى الآن أن نسجل ( آخنا) من التاريخ.

يكفيك أن تلقي نظرة على مصادر التاريخ والعقائد وما كتبوه عن الفرق والملل والنحل، وما يكتبه خصوم الشيعة وأهل البيت في عصرنا.. لتراها تكرر ادعاء أن الشيعة أخذوا عقائدهم من اليهود والفرس والهندوس، فهم المجسمون الذين يعبدون إلهاً مادياً له طول وعرض وأعضاء، ولذا فهم يعبدون صنماً ولا يعبدون الله تعالى!

أما السنة فهم المسلمون الأصيلون الذين أخذوا عقائدهم من منبع الإسلام الصافي، من الكتاب والسنة، عن طريق الصحابة الأبرار بدون أي تأثر باليهود ولا بغيرهم، فهم الموحدون المنزهون لله تعالى عما افتراه عليه اليهود والنصارى والمجوس والشيعة!

إن مشكلتنا نحن شيعة أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن الكتب التي اتهمتنا قد كتبت بحبر حكام الجور وأقلام موظفيهم! وأن الذين أنصفونا ومدحونا، كتبوا ذلك وهم على وجل من غضب السلاطين!

ولكن ذلك من مفاخرنا أيضاً!

محاولات الدولة والمشبّهين إلصاق التشبيه بالنبي وآله

يدل النص التالي على أن تهمة التشبيه والتجسيم للشيعة كانت موجودة في القرن الثاني، أي منذ أن راج التشبيه والتجسيم وطفح كيله فمجه الناس، فاتهمت به السلطة معارضيها من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وفي نفس الوقت عمد المشبهون والمجسمون إلى نسبة مذهبهم إلى النبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم، ليثبتوا شرعية فريتهم! وهو اسلوب مزدوج في ترويج التهمة في الناس، بنسبتها الى أهل البيتعليهم‌السلام ، ثم رمي أهل البيت وشيعتهم بها!!

٢٧٩

- روى النيسابوري في روضة الواعظين ص ٣٣

قال الحسن بن خالد: قلت للرضاعليه‌السلام : يابن رسول الله إن الناس ينسبونا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي في الأخبار في ذلك عن آبائكعليهم‌السلام !

فقال: يابن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائيعليهم‌السلام في التشبيه أكثر، أم الأخبار التي رويت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك؟

فقلت: بل ما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر.

فقال: فليقولوا إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول بالتشبيه إذن!!

فقلت له: إنهم يقولون إن رسول الله لم يقل من ذلك شيئاً، وإنما روي عليه.

قال: قولوا في آبائيعليهم‌السلام إنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً وإنما روي عليهم.

ثم قالعليه‌السلام : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة. يابن خالد: إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه الغلاة الذين صغروا عظمة الله جل جلاله، فمن أحبهم فقد أبغضنا.. إلى آخر الخبر.

- وقال الشيخ الصدوق المتوفى سنة ٣٨١ في مقدمة كتابه التوحيد ص ١٧:

إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أني وجدت قوماً من المخالفين لنا ينسبون عصابتنا إلى القول بالتشبيه والجبر، لما وجدوا في كتبهم من الأخبار التي جهلوا تفسيرها ولم يعرفوا معانيها ووضعوها في غير موضعها، ولم يقابلوا بألفاظها ألفاظ القرآن، فقبحوا بذلك عند الجهال صورة مذهبنا، ولبسوا عليهم طريقتنا، وصدوا الناس عن دين الله، وحملوهم على جحود حجج الله، فتقربت إلى الله تعالى ذكره بتصنيف هذا الكتاب في التوحيد ونفي التشبيه والجبر، مستعيناً به ومتوكلاً عليه.

بغض أهل البيت وشيعتهم إرث غير شرعي

إن التهم لأهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم موروثة إرثاً (غير شرعي) وقد كانت بدايتها يوم فارق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الحياة وتركوا جنازته لأهل بيته، وأعلنوا ولادة حكومة

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434