التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام16%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163450 / تحميل: 9122
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

التعليم في الإسلام

٨١

٨٢

التعليم في الإسلام

اتجاهان رئيسان في التّربية والتّعليم

الدراسة والتدريب

يجب أن نفصل بين اتّجاهين في أمر التربية والتعليم. ويُعرّف هذان الاتّجاهان في الأوساط التربوية بالدراسة، والتدريب، علماً بأنّ بعض المربِّين ينظر إليهما على أنّهما اتّجاه واحد، معتبرين الدراسة هي التدريب نفسه.

طريقة تعلّم الإنسان

يتعلّم الإنسان في حياته كثيراً من الأشياء، ويُمارس أفراد النوع الإنساني عادات متنوّعة خلال المراحل المختلفة للنمو. ويمكن القول بأنّ رغبات الإنسان تعلّمية أيضاً، لأسباب متنوّعة وتمثّل بعض رغباته حاجاته الأساسية التي كانت تعتبر في الماضي غرائز. وهذه الرغبات نفسها من حيث الشكل يتمّ تعلّمها بأشكال متباينة في الحضارات المتنوّعة. فالرغبة في الاستطلاع والرغبة في الحياة مع الآخرين، والرغبة في الطعام، والرغبة في الحركة والنشاط، والرغبة في الاستراحة، هي من الرغبات الجوهرية للإنسان. بيد أنّ ظهورها وإشباعها يختلفان تبعاً للحضارات المتنوّعة، والشرائح الاجتماعية المعيّنة. فبعض الرغبات من نحو الرغبات المتعلّقة بالنشاطات العلمية، ومطالعة الكتب، والنشاطات النفنيّة،

٨٣

والرياضة، والنشاطات الاجتماعية، والنشاطات الدينيّة على صعيد واسع هي رغبات تعلّميّة. ولابدّ للإنسان أن يكتسب مهارات معيّنة في تعامله مع الطبيعة، ومع بني جنسه، وكذلك في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. تبدأ هذه المهارات من أشكال بسيطة، نحو: قطف الثمار، وفصل الحبوب، وتنتهي بمهارات معقّدة من نحو: تصليح السيّارة والباخرة، وكذلك المهارات الفكرية في التعامل مع مختلف المسائل، فهذه المهارات يتمّ تعلّمها أيضاً.

مضافاً إلى العادات والرغبات والمهارات، فإنّ الإنسان - تدريجاً وفي ظلّ دراسة الظواهر المتنوّعة - يقوم بتدوين العلم والفلسفة والفن والأخلاق، ويأتي بمعلومات متنوّعة في هذه الحقول. ومن أجل أن يتعرف الأشخاص على الظواهر، لابدّ لهم من الحصول على المعلومات الضرورية، وعلى نفس النسق، فإنّ فهم الأفراد للأُمور المختلفة، وكذلك طريقة حياتهم، من الأشياء التي يتعلّمونها.

إنّ الحديث يدور حول كيفية تعلّم الإنسان لهذه الأشياء. مضافاً إلى ذلك، فإنّ القضية الأساسية تتمثّل في الشكل الذي تتحقق فيه طريقة التعلّم، والظروف التي تكون فيها مفيدة للإنسان، بحيث تحدث تطوّرات جذرية في سلوكه. وبالنظر إلى أنّ الدراسة ترتبط بعملية التعلّم، لذلك يجب أن نلحظ كيف يتّخذ هذا الاتّجاه طابعاً تربوياً.

اتجاهان في التعلّم

الأول: التدريب(*)

إنّ مدرسة السلوك هي واضعة الحجر الأساس لهذا الاتّجاه، فلقد طُرح التعلّم

____________________

(*) ويطلق عليه الترويض، والترابط، ويعبّر عنه بعض العلماء بقولهم: النظرية الترابطية لوجود الترابط بين المثير والاستجابة. المعرِّب.

٨٤

عن طريق التدريب، أو بتعبير علمي أدق عن الطّريق الترابطي أو الشرطي من قِبَل العالم الروسي (بافلوف)، حيث تنبّه هذا العالِم إلى البعد الشرطي في السلوك من خلال دراسته لسلوك الكلب وردّ الفعل الذي أبداه حيال المثير. ولحظ في تجاربه أنّ مجاورة شيء - من طبيعته أنّه يدفع الحيوان إلى إبداء ردّ فعل معيّن - يؤدّي إلى انتقال ردّ فعل الحيوان إلى ذلك الشيء. وكان (بافلوف) يعلم بأنّ الكلب عندما تقع عينه على قطعة من اللحم، يسيل لعابه ذاتياً، فالقطعة هي المثير أو العامل الطبيعي، والحيوان يبدي ردّ فعل حياله لا إرادياً، وسيل اللعاب في فم الكلب هو ردّ فعل أيضاً إزاء مشاهدة اللحم. فعَلِم (بافلوف) بأنّه لو تمّ قرع الجرس، متزامناً مع تقديم قطعة اللحم أمام الكلب، وتكرر هذا الأمر في ظرف خاص، فإنّ صوت الجرس - بوصفه مثيراً شرطيّاً أو غير طبيعي - هو الذي يحدث ردّ الفعل الطبيعي أو سيل اللعاب. بكلمة بديلة، يتدرّب الكلب على إبداء ردّ الفعل الطبيعي بمجرّد سماع صوت الجرس، وذلك بسبب مجاورة صوت الجرس لقطعة اللحم. وفي المعسكرات تتدرّب الخيول على النوم تدريجاً بمجرّد سماع صوت الصفّارة، علماً أنّه في بادئ الأمر كان الجنود يجبرون الخيول على النوم بمجرّد سماع صوت الصفّارة، بيد أنّ صوت الصفّارة ذاتياً أحدث ردّ الفعل هذا عند الخيول تدريجاً.

يتعلم الإنسان كثيراً من الأشياء عن هذا الطريق أيضاً. على سبيل المثال، يتعلم الأطفال أسماء الأشياء عن هذا الطريق، ففي البداية يسمع الأطفال كلمات ليس لها معنى عندهم، بيد أنّ مجاورة هذه الكلمات للأشياء أو الحركات المعيّنة تفضي إلى تعلّمها من قبلهم.

وهنا يصرّ أتْباعُ مدرسة السلوك أن يفسّروا جميع نشاطات الإنسان في ضوء هذا الاتّجاه، حتى أنّهم يرون أنّ الإدراك البسيط للأشياء، وكذلك الممارسات المعقدة كالتفكير والاستدلال، تخضع للتفسير وفقاً لهذا الاتّجاه.

وكما تقدّم، فإنّ الإنسان لا يتعلم أسماء الأشياء بهذا المنحى فحسب، بل

٨٥

يمكنه أن يحصل على معلوماته بواسطته أيضاً. على سبيل المثال، نجد الطفل الموهوب يقوم بما يسمّى تعلّم القصيدة وعنوانها أو حفظها. ففي بادئ الأمر، نرى أنّه لا يتبادر إلى ذهن الطفل أيّ موضوع من وراء عنوان القصيدة، بيد أنّ تكرار العنوان ومجاورته لأبيات معيّنة يجعلان الطفل يقرأ تلك الأبيات بمجرّد ذكر العنوان. كما يلحظ أنّ الفهم والتعقّل غير ضروريين في مثل هذه الحالة. وفي الأعمّ الأغلب، فإنّ الطلاّب يتعلمون مواضيع درس ما على نفس النسق، حيث يطرح المعلّم عنوان الموضوع، ثم تستتليه مباشرة ما يتعلّق به من آراء أو مواضيع.

إنّ مجاورة العنوان للمواضيع تُحدِثُ علاقةً ميكانيكية في ذهن الطالب، فبمجرّد طرح العنوان، تأتي المواضيع في ذهنه تباعاً. ويصادف أحياناً أن تكون ذاكرة الطلاّب جيّدة، فيستطيعون أن يستعيدوا شريط المواضيع المسموعة أو المقروءة بسهولة، وأحياناً يعتريهم خلل عند تذكّر المواضيع. وعندما تكون هناك حلول معيّنة للمسائل المتنوّعة، وتطرح كلّ مسألة مع حلولها، فإنّ هذه الحلول تباشر ذهن الطالب اوتوماتيكيّاً بمجرّد طرح المسألة.

بيد أنّ الإنسان يمكن أن يتعلّم حتى أسماء الأشياء عن طريق الفهم والتعقل. لقد أصبحت نظرية بافلوف في الإتّحاد السوفيتي (سابقاً) أساس الدراسات الخاصّة بعلم النفس والطبّ النفساني. ويفاد من هذه النظرية أيضاً في الدراسة، ثم أصبحت هذه النظرية - كما ذكرنا - أساس مدرسة السلوك في الولايات المتّحدة.

لقد جاء بعد واتسون، عالم النفس الأميركي: (سكينر)، فواصَلَ أبحاثَه حول ردّ الفعل الشرطي، وبادر إلى طرح النظرية الشرطية - العملية. وفي ضوء هذه النظرية، فإنّ الكائن الحي يقوم بنشاط معيّن إرادياً، ولو كان هذا النشاط مقروناً بالمكافأة، فإنّ الكائن الحي سيقوم بنفس النشاط في ظروف خاصّة مستقبلاً. وعلى هذا الأساس، فإنّ المكافأة ترسّخ سلوكاً معيّناً فيه. والعقوبة أيضاً تردع الكائن الحي - بنفس الشكل - عن القيام بذلك النشاط. فلا ريب أنّ المكافأة والعقوبة

٨٦

مؤثّرتان في ترسيخ سلوك معيّن أو تركه، ويخضع أفراد النوع الإنساني لتأثير هذين العاملين أيضاً.

كان لآراء (سكينر) تأثير بالغ في نظام التربية والتعليم في أميركا، حتى قامت بعض المدارس التربوية بجعل آرائه أساساً لبرامجها التعليميّة.

وهنا لا ننوي أن نتحدث حول النظرية الشرطية، علماً بأنّ ثمّة شبهاً واختلافاً بين النظرية الشرطية الكلاسيكية المتوكّئة على تجارب (بافلوف)، وبين النظرية الشرطية - العملية. فيجب الرجوع إلى كتب علم النفس، للحصول على معلومات أكثر في هذا المجال.

بيد أنّ المقطوع به هو تأثّر النظام التربوي في أميركا بتعاليم (واتسون) و(سكينر) وبقيّة رجال مدرسة السلوك. وبالرغم من أنّ (ديوي) وعدداً من المتخصّصين في حقل التربية والتعليم لم يثمّنوا مدرسة السلوك أو الاتّجاه الشرطي من الناحية التربوية، بيد أنّ كثيراً من المربّين تأثّروا بأُسس هذه المدرسة. من جهة أُخرى، بما أنّ الأبحاث التجريبيّة في هذا المجال تجري بشكل أيسر، وأنّ الباحثين يقدّمون نتائج تجاربهم بالإفادة من التقنيات الإحصائية غالباً، لذلك توجّهت أنظار الأوساط التربوية إلى هذه المدرسة أكثر. وسوف نلحظ أنّ البحث التجريبي فيما يخصّ الفهم والتعقّل لا يتحقّق بسهولة، لذلك فإنّ كثيراً من علماء النفس يبدون اهتماماً أقل بمثل هذه الأمور. وسوف نلحظ في البحوث القادمة بأنّ الفهم والتعقل يشكّلان أساس الدراسة.

الثاني: الدراسة

تخرج عملية التعليم من شكلها الميكانيكي في هذا الاتّجاه، وقد رأينا في حديثنا عن التدريب أنّ مجرّد المجاورة أو التضاد أو الشبه، يكفي بعقد صلة بين أمرين، فينتقل ذهن الإنسان من أمرٍ إلى آخر ذاتياً، أو ينتقل ردّ فعله من أحدهما

٨٧

الى الآخر.

وللتفكير دورٌ أساس في هذا الاتّجاه. فما يريد الإنسان أن يتعرّف عليه أو يتعلّمه، يجب أن يتّخذ طابع المشكلة ليثير تفكيره، وعندها ينبري للتعرّف على الموضوع أو تعلّمه.

إنّ تعلّم اسم الأشياء - حتى في هذا الاتّجاه - بالفهم والتعقّل أيضاً. يقوم الإنسان بتحليل الظرف المحيط به حتى يتسنّى له تحديد المشكلة ذات العلاقة أو الموضوع المراد معرفته. في الآن ذاته، تدخل عناصر ظرف ما، أو إدراك الصلة بين المشكلة ذات العلاقة مع المشاكل الأُخرى، ضمن النشاطات الأساسية في هذا الاتّجاه. وعندما تتحقّق المعرفة أو التعلّم عن طريق طرح المشكلة، فإنّ الشخص يتوفّر على تشخيص تلك المشكلة، ويكون مرغماً على تحديد عناصر أو أجزاء المشكلة، وإدراك صلتها مع بعضها، ثمّ الأخذ بنظر الاعتبار كيفيّة التعامل مع مثل هذه المشاكل ضمن الإفادة من تجاربه، وعند ذلك يبادر إلى حلّ المشكلة. فنشاطه - بعامّة - يشكّل أساس العمل، والمعلّم - هنا - يؤدّي دور المرشد والموجّه، وعلى الشخص نفسه تبيان المشكلة.

ولابدّ له أن ينظّم تجاربه الشخصيّة فيما يخصّ المشكلة المعنيّة، ويستفيد من تجارب الآخرين، ويجعل تجاربه مع تجارب الآخرين في خطّة منطقيّة، ويحاول - عن هذا الطريق - أن يدوّن العلاج الأساس، ووجهة النظر التي ساعدته على معرفة الموضوع. بعامّة، فهو يدرس ويقوّم الأُمور المختلفة عن طريق التفكير والتعقّل، ويبادر هو بنفسه إلى معرفة الموضوع المعنيّ أو علاج المشكل بالإفادة من توجيهات الآخرين.

الاتّجاه التربوي في عصرنا

إنّ الاتّجاه التربوي في عصرنا متوكّئ على التدريب أو الترابط الشرطي، لعدّة

٨٨

أسباب: الأوّل: إنّ مدرسة السلوك في علم النفس تعزّز هذا الإتّجاه.

فكما تقدّم، أنّ العالم الفسلجي الروسي (بافلوف) يعتبر الترابط الشرطي أساس السلوك الاعتيادي وغير الاعتيادي، ويجري النظام التعليمي في الاتّحاد السوفيتي وفقاً لهذه النظرية.

الثاني: إنّ بعض الأبحاث في حقل علم النفس تدعم النظرية الشرطية في تعلّم الأمور المتنوّعة. كما قلنا - فيما سبق - فإنّ قياس التعلّم عن الطريق الشرطي، وتوقّع نتائجه يخضع للبحث والدراسة بشكل أيسر. بكلمة بديلة، يمكن قياس ما يتعلّمه المرء نتيجة مجاورة شيئين، وهذا قابل للتوقّع في حالات مماثلة. فالتعلّم عن هذا الطريق أيسر. يطرح المعلّم موضوعاً، ويكرّره، وبعد التكرار يمكنه أن يتوقّع بأنّ الطالب قد تعلّم ذلك الموضوع. وكذلك على الصعيد العملي. وعند تعلّم كثير من الأُمور، فإنّ للمكافأة دوراً حاسماً. وعالم النفس يستطيع أن يحدّد هذا الدور أثناء التجربة، ويتوقع أثره. لذلك يبدو أنّ للإتكاء على النظرية الشرطية بعداً علمياً. ومن هذا المنطلق، فهي تقنع المربّي. والتعلّم عن هذا الطريق ينسجم أكثر مع التفسير الماديّ لنشاطات الإنسان.

الثالث: إنّ الإنسان - كما ذكرنا آنفاً - يقبل كثيراً من الأُمور عن الطريق الشرطي. عندما شاركت في المؤتمر العالمي للتربية والتعليم في بلجيكا، كان أحد المتخصّصين في التربية والتعليم يتحدث عن (التأهيل الاجتماعي) و(الإعداد الثقافي) للأشخاص، وكان موضوع المؤتمر: التربية والتعليم عن طريق نموّ الشخصية. فتحدّثتُ مع أخصائي ألماني حول التأهيل الاجتماعي والإعداد الثقافي ودورهما في نموّ شخصية الفرد، فقلت له: إنّ التأهيل والإعداد عمليتان شرطيتان، فإذا وضعوا الإنسان في وسط اجتماعي معين، فإنّه يتعلم التقاليد والآداب الاجتماعية ذاتياً، كما إنّ ولادة فرد من الأفراد ونشأته في مجتمع معين، تفضيان إلى أن يتعلّم ذلك الفرد لغة ذلك المجتمع. كذلك فإنّ لتأهيل الفرد اجتماعياً - بالشكل الذي يجعلونه في

٨٩

وسط اجتماعي معين، ويتعلّم التقاليد والآداب ذاتياً - بعداً شرطياً لا ينسجم مع اتجاه الدراسة.

إنّ حضور الفرد في شريحة اجتماعية، وتعامله المكرر مع ذلك الموقع يؤدي إلى أن يتعلّم أشياء معيّنة ذاتياً، وكما قلنا سالفاً، فإنّ هذه الطريقة من التعلّم لا تقترن بالفهم والتعقّل، وفي هذه العملية يؤهّلون الفرد اجتماعياً أو يعرّفونه على تقاليد وآداب معيّنة، وبواسطة هذا العمل يهيّئون مستلزمات انسجامه مع المجتمع.

الرابع: إن ما هو قائم في المجتمعات الغربية من نظام مثالي تقرّه الحضارة الغربية نفسها، وعليه طابع ديني وإنساني شكلياً، بيد أنّه - في الحقيقة - ضد الدين والأخلاق والإنسانية - يُملى على الطلاب ويُلَقَّنونه. وكما نعلم، فإنّ الاستعمار والاستغلال من سمات الحضارة الغربية، حيث إنَّ خلفيات دول مثل: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتّحدة، في علاقاتها مع الدول النامية تدلّ على الطابع الاستعماري والاستغلالي الذي تَتَسم به توجّهات تلك الدول. وقد خرج الدين - بشكل عام - عن شكله الحقيقي فيها، حيث تمّ حصره في ما يسمّى بقوالب ومبادئ لا تخضع للبحث والدراسة.

لقد سلبت المنظّمات الدينية - مع رعاية تسلسلها الهرمي - الفرصة من الأفراد لإبداء وجهات نظرهم. والنشاطات الدينية ذات بعد رسمي غالباً، أو أنّها تأخذ طابع ما يسمّى بالأعمال الخيرية. يسيطر النظام الرأسمالي على الحضارة الغربية. والدين أيضاً يخضع لنفوذ هذا النظام. وبالرغم من وجود توجّهات اشتراكية وديموقراطية في بعض المجتمعات الغربية، بيد أنّ هذه التوجّهات تخضع أيضاً لنفوذ الحضارة الغربية والاتّجاه الاستعماري والاستغلالي لها بكلّ قوّة.

فعندما يؤخذ أربعة مستشارين كرهائن في مكان ما، أو يقع (جومبو) أو (محمد رضا بهلوي) في مأزق، فإنّ جميع الأوساط السياسية والدينية والاجتماعية الغربية ترفع أصواتها بالاحتجاج. ولكن عندما يُذبح مائة شخص بريء من الناس

٩٠

العُزّل، فلا أحد ينبس ببنت شفة، إلاّ بعض وكالات الأنباء، إذ قد تذكُر خبرهم بشكل عابر. والقصد هو أنّ الاشتراكية، والدين، والديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان تطرح في إطار معيّن، وتفقد هذه المفاهيم معناها الحقيقي في علاقات الدول الغربية مع دول العالم الثالث أو الدول النامية، وتطرح بشكل مشوّه، وما أبدته الأوساط المتنوّعة حول السفارة الأميركية في طهران، يدعم وجهة نظرنا حول الموضوع.

يصرّح (كارتر) بأنّه يمتنع عن تسليم (محمد رضا بهلوي) التزاماً بالمبادئ التي يؤمن بها على حدّ زعمه، ولا يبالي بأيّ تهديد في هذا الشأن، ثمّ يصدر أوامره بتجميد الأموال الإيرانية الموجودة في الولايات المتحدّة، وكذلك يأمر بمنع استيراد النفط من إيران. وثمّة سياسيّون آخرون في أميركا من أمثال: (إدوارد كيندي)، و(مك غاورن)، يعلنون عن دعمهم للإجراءات التي اتّخذها (كارتر). وعلى أثر الدعايات التي تبثّها الحكومة الأميركية، يقوم أفراد من الشعب الأميركي بمهاجمة الإيرانيين المقيمين في أميركا، وتنشر الإذاعة والتلفزيون وبعض الصحف والمجلاّت ما تطلبه الحكومة الأميركية منها.

وتَعتبر بعض وكالات الأنباء وبعض الإذاعات، مثل: الإذاعة البريطانية - نقلاً عن معلّقيها - مسألة حجز بعض الأميركيين كرهائن مخالفاً للعهود والمواثيق الدولية، وبعيداً عمّا يتوقّع من شعب متحضّر. ويرسل البابا ممثّلاً عنه للتوسّط في قضية إطلاق سراحهم، ويطالب مجلس الأمن بالإفراج عنهم أيضاً.

إنّ أكثر هذه الأوساط تدين إيران على أساس المعايير الإنسانية، بزعمها، وبذريعة عدم مراعاة العهود والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، ولا أحد يثير السؤال التالي: هل إنّ السفارة الأجنبية مركز للتفاهم، وتبادل وجهات النظر، وتوطيد العلاقات الوديّة بين البلدين، أو هي مركز للتآمر والتجسّس والتحريض ضدّ الشعب؟ ولا أحد يسأل: لماذا سمحتْ أميركا للشاه أن يدخل أراضيها؟ ولماذا دعمته؟ فهل هذا العمل هو

٩١

كما تزمّر الأبواق الإعلامية بأنّه عمل إنساني منبثق عن حب الإنسان؟ ولو كان كذلك، فلماذا لا تسمح أميركا لبعض الناس غير الرسميّين أن يسافروا إليها للعلاج؟ هل إنّ دعم الولايات المتّحدة للشاه من أجل مراعاة حقوق الإنسان؟ أمْ هو إيواء لرجل دموي فاسد محتال وعميل لها؟ هل إنّ اقتراح الطلبة الجامعيّين الذين احتجزوا الرهائن، هو شيء آخر غير محاكمة مجرم دولي؟ ألا يجب على الأوساط المسمّاة بالأوساط الحضارية أو التقدمية أن تدعم قضية تسليم مثل هذا المجرم؟ إنّ دعاء (كارتر) للرهائن في الكنيسة يدلّ على إدراكه لقضية الدين. وما يتّضح من هذه الحادثة الصغيرة هو أنّ الأوساط الغربية لا تنادي بالديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، والأخلاق، والدين، والعلاقات الدولية، ومُثُل إنسانية أُخرى إلاّ على أساس المصالح الاستعمارية. طبيعياً، أنّ هذه الحالة وحدها ليست دليلاً على هذا التقويم والحكم، بيد أنّ ما يُلحَظ في التاريخ المعاصر للمجتمع البشري من علاقات الدول الغربية مع الدول الضعيفة يدعم هذه الحقيقة، ولو كان هناك متكلّم أو كاتب يدافع عن المثل الإنسانية، فإنّه لايصمد أمام أجهزة الدعاية الإعلامية في الغرب، ولا يصل صوته إلى مكان.

إنّ الأجهزة التربوية في الدول الغربية - سواء كانت واعية أو غير واعية - تقع تحت تأثير النُظُم الموجودة فيها. وبالرغم من أنّ الحديث في بعض الأوساط التربوية الغربية يدور حول حريّة الفكر والديمقراطية، بيد أنّ المعلّمين يلقّنون الطلاّب أفكاراً وآراء ونزعات معيّنة بصورة غير مباشرة. وفي المجال التاريخي والاجتماعي، تقدّم الحقائق الملموسة إلى الطلاّب غالباً بشكل مشوّه، وعندما يلتقي الأجانب بطلاّب المدارس والجامعات في المجتمعات الغربية، يشعرون إلى أيّ مدى يعيش هؤلاء الطلاّب بمنأى عن الحقائق الواقعية. أما وسائل الإعلام فهي ناطقة باسم هذه النظم إلى حدّ بعيد، وهي تملي على الشعب آراء خاصّة، وحقائق معيّنة، وأساليب استنباط محدودة، ونزعات خاصّة. ويبدو أنّ الأشخاص أحرار في اختيار

٩٢

الدين، واتّخاذ نهج معيّن، وإيجاد نزعات اجتماعية، والمناقشة والتعبير عن آرائهم حول مختلف المسائل، بيد أنّ الدعايات الإذاعية، والمقالات الصادرة في الصحف والمجلاّت، تؤثّر على أُسلوب التفكير الذي ينهجه الناس، وتقوم الشركات التجارية الكبرى - عادة - والفئات المتنفّذة، ومنظّرو الأحزاب بجعل أفكار الناس حسب الشكل الذي يريدونه، وذلك عن طريق الصحف، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.

بإيجاز، إنَّ هناك آراء وتصوّرات معروفة سابقاً، تُلقى على الناس، سواء في الأجهزة التربوية، أو في وسائل الإعلام، حتى عندما يدور الحديث حول المسائل الاجتماعية والسياسية.

في الأقطار الشيوعية، تسيطر الإيديولوجية الماركسية - من خلال نظام فكري معيّن - على الشؤون الفكرية والتربوية للمجتمع، وفي مثل هذه الأقطار، فإنّ الفرضية تقضي بأنّ هذه الإيديولوجية حدّدت معالم الحركة الفكرية للإنسان في المجالات المتنوّعة، ولا سيّما في: علم الاجتماع، علم النفس، الفلسفة، التاريخ، وفي بعض الفروع العلمية، وهذا الفهم يسيطر على المؤسّسات التربوية والعلمية، وعلى وسائل الإعلام أيضاً.

إنّ عمل التربية والتعليم هو - إلى حدّ بعيد - تقديم الإيديولوجية المتبناة والتعريف بها. وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الإيديولوجية تأخذ طابعاً رسمياً. بكلمة بديلة، فإنّ تفسير الإيديولوجية من شأن العلماء الثقاة، والممثّلين الرسميين للحزب. وجميع الأفراد لا يستطيعون مناقشة الإيديولوجية، وإبداء انطباعاتهم عنها بحريّة. في المؤتمر العالمي آنف الذكر، وبعد أن ألقى ممثّل ألمانيا الشرقية كلمته، وجهّت إليه سؤالاً، فقلت له: أَنتم تعلمون بأنّ الاستقلال الفكري هو روح التربية والتعليم، وعمل المربّي هو إعداد الأفراد الذين يمارسون أعمالَهم مستقلّين في عملية التفكير، وأنتم في مدارسكم تفرضون إيديولوجيّتكم، وتريدون من الطلاّب قبولها، فهنا يثار سؤال هو: كيف ينسجم فرض إيديولوجية معيّنة مع الاستقلال الفكري؟

٩٣

ومن هذا المنطق، فلا يمكن الحديث عن التربية والتعليم في مثل هذه الحالة.

لذلك فإنّ الاتّجاه التربوي الأساس في الظروف المعاصرة - سواء بين الغربيّين أو الشرقيّين - ينسجم مع التدريب أكثر من انسجامه مع الدراسة الصحيحة.

إنّ الفهم ذا البعد الواحد لماهيّة الإنسان - الإنسان كالحيوان ويفترق عنه في بعض الأمور - والإصرار على أنّ الإنسان يتعلّم الأمور المختلفة كالحيوان، والسعي لتفسير عملية التعلّم، والتفكّر، وإبداع الإنسان عن الطريق الشرطي والبعد العلمي، ومحاولة فرض نظام خاص في المجتمعات الغربية، وفرض إيديولوجية معيّنة في المجتمعات الشيوعية، كل ذلك يخرج العملية التربوية عن صورة الدراسة الحقيقيّة، ويجعلها في صورة التدريب. وقبل أن نقوم بدراسة التربية والتعليم في الإسلام، نذكر سمات هاتين العمليتين.

التدريب

التيار الشرطي: ذكرنا فيما سبق أنّ أساس التدريب هو إحداث ردّ فعل شَرْطيّ عند الفرد. ومن خلال ذكر عنوان ما، وطرح مواضيع معيّنة، وتكرار هذا الأمر، تتكون علاقة بين ذينك الشيئين في ذهن الفرد، وينقل الفرد المواضيع المطروحة إلى ذهنه ذاتياً بمجرّد طرح العنوان. لذلك فإنّ الشرط الأساس في مثل هذا اللون من التعلّم هو وجود المجاورة والتكرار والتمرين. فكما يسمع الطفل اسم الشيء مقروناً معه مرّات عديدة، فيتعلّم اسم ذلك الشيء ذاتياً، كذلك يتعلّم مختلف الأمور عن طريق وسائل الإعلام أو في الصف.

يذكر المعلّم عنوان بحث ما، تتلوه مواضيع خاصّة تتعلّق به، يكرّر ذلك العمل، نلحظ هنا أنّ التكرار يفضي إلى أنّ المواضيع المطروحة ترتبط مع عنوان البحث، عند ذلك يتذكّر الطالب الموضوع المطلوب من خلال طرح العنوان.

وعندما يكون عمل المعلّم طرح مواضيع معيّنة، سواء كانت نظريات علمية، أو

٩٤

نظاماً مثاليّاً خاصّاً أو أفكاراً وعقائدَ معيّنة، ففي مثل هذه الحالة تنتقل المواضيع إلى ذهن الطالب عن طريق التكرار، ويتّخذ الامتحان طابع عرض المعلومات المخزونة في الذهن. يذكر الطالب عنوان بحثٍ لنفسه، فيقرأ المواضيع المتعلّقة به في كتاب أو كرّاس، وبتكرار هذا العمل، يودع أشياء في ذهنه، تنساب إلى الورق عند الامتحان.

كما ذكرنا آنفاً، لو تمّ عرض المواضيع العلمية، وطرح المبادئ الأخلاقية، وانتقال أُسس إيديولوجية ما بهذا الشكل، فإنّ الطالب يستطيع أن يتعلم المواضيع عن طريق التكرار والتمرين. وكما أنّ اللاعبين في السيرك يعلّمون الحيوانات القيام ببعض الأعمال. ومن خلال المجاورة بين قرع الجرس أو تحريك الخشبة، أوأيّ نشاط خاص، يدفعون الحيوان إلى القيام بالفعل، بنفس الشكل ينقل المعلّمون أو وسائل الإعلام موضوعاً ما إلى ذهن الأشخاص.

التلقين: في عملية التدريب يتقبّل الطالب ما يُعرض عليه، فعندما يُلقي المعلّم موضوعاً، ويستمع إليه الطالب، وتتكرر هذه العملية مرّات، ففي هذه الحالة، يتقبل الطالب ما يعرض ذاتياً، وبدون وعي وإرادة. وما ينشر في الصحف أو المجلاّت، أو ما يبث من الإذاعة أو التلفزيون، يلقى قبولاً لدى الناس دون نقاش.

إذا بادر الطالب إلى قراءة موضوع ما، وتفاعل مع ما هو مكتوب دون نقاش، فقد تأثّر بكاتب ذلك الموضوع، وشمله تلقينه أيضاً. والذين يتعلّمون مواضيع متنوّعة دون نقاش، وينقلونها إلى الآخرين، فقد خضعوا لعملية تلقين الكتّاب، وأخضعوا الآخرين لتلقين ما حفظوه.

ليس مهمّا في التحصيل الدراسي سعة محفوظات الفرد أو معلوماته، بل المهم هو كيف يقبل الفرد المواضيع المعيّنة. بكلمة بديلة، إنّ مَن عمل على تصعيد معلوماته أو محفوظاته، واستطاع أن يتحدث حول موضوع معيّن لساعات، بيد أنّه - شخصيّاً - لم يدقّق فيما حصل عليه من علم، ولم يناقش ذلك، فقد شمله تلقين

٩٥

الآخرين.

الخضوع للتوقّع

إنّ نتيجة التعلّم - في عملية التدريب - خاضعة للتوقّع، فما يُلقى على الحيوان، يمكن توقّع القيام به من قبل الحيوان في ظروف خاصّة. وفي المعسكرات تنام الخيول بإطلاق صوت الصفّارة، فيمكن توقّع رقود الخيول في الليلة الخامسة مثلاً، بمجرّد إطلاق صوت الصفّارة.

وعندما يقرأ تلميذ في الابتدائية قصيدة عدّة مرات، أو يحفظ جدول الضرب، فيمكن التوقّع بسهولة أن يقرأ القصيدة بمجرّد سماع عنوانها، أو عندما يُسأل عن ناتج ضرب العدد (٥) في نفسه، يجيب: خمسة وعشرون.

بعامّة، عندما يُلقَّن أحد عقيدةً، أو فكراً، أو رأياً، أو أُسلوباً، أو طريقة عمل، أو اموراً من هذا القبيل، يمكن أن نتوقّع منه عرضَ ما تلقّاه بنفس الشكل، أو بشكل ناقص في الوقت المعيّن. كما أنّ قيام الحيوان بنشاط معيّن، خاضع للتوقّع في ظروف خاصّة، فكذلك نتيجة هذا الضرب من التعلّم، إذ هي بيّنة جليّة. والفرد كجهاز التسجيل - وهو أقّل بطبيعة الحال - يخزن في ذهنه ما يسمعه، ثمّ ينقل ذلك بنفس الشكل أو بشكل ناقص، وفي مثل هذه الحالة، يمكن أن يتعلم الفرد مواضيع متناقضة، ثم لا يدرك تناقضها. إنّ مثل هذا اللون من التعلّم لا يؤثّر في تغيير شخصيّة الفرد وأعماله، ولو كان له أثر، فهو أثر طفيف، عابر، مؤقت.

إنّ مؤاخذة الناس العاديّين طلاّبَ المدارس تعكس هذا الأمر ذاته، فالوالدان الأُميّان يلحظان ولدهما يذهب إلى المدرسة وقد تعلّم بعض الأشياء، بيد أنّ تغييراً ملحوظاً لم يطرأ على سلوكه.

ففرق الطالب عن غيره يكمن في حجم معلوماته. بكلمة بديلة، إنّ ما يميّز الطالب عن غيره ليس أسلوب التفكير، والعادات، والرغبات، وطريقة التعامل، بل

٩٦

المعلومات التي حصل عليها الطالب خلال مرحلة الدراسة.

الدراسة

الفهم: يحلّ الفهم محلّ المجاورة والتكرار في عملية الدراسة. والفهم يعني أن يقوم الطالب بالتدقيق في كلّ ما يشاهده أو يسمعه. على سبيل المثال، ثمّة عنوان ما واضح لديه، وهو يستطيع أن يتمثّل صورة في ذهنه عن ذلك العنوان.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ صلة العنوان بالمواضيع التي هي مدار البحث واضحة عنده أيضاً. على سبيل المثال، هو يدرك جيّداً معنى كلمة الحرارة، وصلة هذه الكلمة بالمباحث ذات العلاقة. ويعلم ماذا يدرس، وخطّة البحث أو كيفية طرح المواضيع واضحة بالنسبة إليه.

فالتكرار والتمرين ليسا شرطين ضرورين للتعلّم في هذه العملية، فأحياناً يمكن أن يتعلّم الطالب ما يُلقى عليه من خلال طرح عنوان ما وتقديم موضوع معيّن. عندما تطرح معادلة في الرياضيات، ويتّضح مفهومها بالنسبة إلى الطالب، يمكن أن يبادر إلى حلِّها أيضاً قبل أن يقوم المعلّم بذلك. ودليل هذا الأمر هو إدراك معنى عنوان المعادلة وصلتها بطريقة الحل.

إنّ عنوان قصيدة من الشعر وأبياتها واضح بالنسبة إلى الطالب من ناحية المعنى والترابط الموجود فيها، وفي جدول الضرب يستطيع الطالب أن يتصوّر معنى ضرب العدد (٤) في العدد (٥)، ويلحظ - عن هذا الطريق - لماذا يكون ناتج ضرب العددين عشريناً.

التعقل: إنّ العامل الأساس الثاني في عملية الدراسة هو التعقّل أو التفكير، فلا يدرك الطالب ما يطرح فحسب، بل يقوم بتقويمه، ويحكم عليه بالصواب أو الخطأ أيضاً.

٩٧

ولو سألتَ الطالبَ: ماذا تعلّم؟، فإنّه يستطيع أن يبيّن - بوضوح - ما تعلّمه، ويفهم مغزى بيانه. وكذلك لو سألته عن موضوع ما، هل هو صحيح أم لا؟ فسيقوم بتقويم الآراء، والنظريات، والأساليب، وينتقي ما هو منطقي ومبرهَن ليقدّمه ويقرّبَه.

بعامّة، في عملية الدراسة، فإنّ تربية القابلية على تقديم الحكم الصحيح المتوكّئ على الدليل، تشكّل أساس العمل. وفي الدراسة الحقيقية يقوم المعلّم أو المربّي بمساعدة الطالب في كلّ مرحلة من النمو أو التحصيل الدراسي، لينبري إلى تحليل ما يريده أو يسمعه. يدرس أدلّة وشواهد رأي أو فرضية، أو تصميم، وبعد ذلك يحكم على الموضوع الذي هو موضع البحث والنقاش.

يدور الحديث - في روضة الأطفال - حول اللعب أو القصص. وفي هذا المركز التربوي، إذا كان المربّي واعياً ومدركاً لمفهوم الدراسة الصحيحة، فإنّه سيقوم - عند طرحه للقضية - بذكر دليل جودتها أو انتخابها. وعندما يوصي الأطفال بممارسة لعبة من الألعاب، فإنّه يشفع ذلك بالدليل. وفي المقابل، هو - أيضاً - يطلب من الأطفال أن يذكروا دليل انتخابهم لعبةً معيّنة أو استحسانهم قصّةً من القصص، وكلّما ازداد نموّ الفرد، وتمرّس على المسائل العلمية والاجتماعية أكثر، فإنّه يظفر بفرصة أكبر للتقويم الصحيح.

إنّ دراسة قيمة شعر، أو نصيحة، أو كلام قصير، أو نظرية علمية، أو رأي تاريخي، أو أُسلوب، أو مهارة، أو نظام فكري، وأمثال ذلك، تجري في جميع المراحل التربوية بشكل منطقي، فيقوم المربوّن بمساعدة الفرد ليأخذ بما هو مبرهَن ضمن دراسة الأُمور المختلفة، وينبذ ما هو غير مبرهن. إنّ توظيف الفكر والعقل هو المطلوب في قبول شتى الأُمور أو رفضها، وفي طرح المواضيع.

وينبغي انتهاج هذا الأسلوب نفسه في وسائل الإعلام، إذ على الكاتب أن يأتي بالدليل على ما يطرحه من مواضيع، وعليه أن يفيد من الأسلوب العلمي في

٩٨

الدراسات الاجتماعية، وأن يكون ما يعرضه مدعوماً بالدليل. كذلك ينبغي على العاملين في الحقل الإذاعي والتلفزيوني، وبعامّة، كلّ الذين لهم برامج في مثل هذه الوسائل الإعلامية، عليهم الاهتمام بمنطقيّة مقالاتهم، وأن يحاولوا بأن تكون كتاباتهم وكلماتهم مشفوعة بالدليل.

النتيجة غير خاضعة للتوقّع: عندما تكون عملية الدراسة مرتكزة على الفكر، فإنّ النتيجة غير خاضعة للتوقّع مسبقاً، ولا يقبل في عملية التفكير أو الاستدلال إلاّ ما هو منطقي، لا ما يخزنه المربّي أو المتكلّم في ذاكرته منذ البداية. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - في هذه العملية - لا يقرّ بأمر مقتَرح من البداية ما لم يكن مدعوماً بالدليل، وإذا كان ما يطرحه المتكلّم أو الكاتب أو العالم منطقيّاً، فإنّ الفرد يقبله.

ويصادف أحياناً أن يُبدي عالِمٌ من العلماء وجهةَ نظرٍ معيّنة، بيدَ أنّه يلتفت إلى ضعفها أثناء حديثه، فيغيّرها. أو أنّ عالماً آخر يأتي بالدليل على ضعفها، فيقرّ ذلك العالم بضعف وجهة نظره. من هذا المنطلق يقال بأنّ النتيجة على شكل أمر معيّن غير معروفة سابقاً في عملية الدراسة.

إنّ عملية الدراسة الصحيحة تترك آثاراً متألّقة، فينمو الطالب خلالها من الناحية الفكرية بشكل ملحوظ، فهو لا يتعلّم مواضيع جديدة فحسب، بل يُقرن تعلّمه بالفهم، ويبدي رأيه حول صوابها أو خطأها. لذلك فإنّه يتعلّم مواضيع علمية وأدبية، وكذلك يتعلّم كيفية التقويم، والتفكير، والحكم، والتفريق بين الرأي المبرهن من غير المبرهن. هذا النحو من التعلّم - كما قيل - يحدث تغييراً في شخصية الفرد وسلوكه، كما يوفر مستلزمات تطوّره وتكامله.

إنّ الطالب - بحضوره في الصف، أو استماعه لمحاضرة، أو مطالعته لمقالة - لا يتعرّف على مفاهيم، ونظريات، ومبادئ، وقواعد جديدة فحسب، بل يتطوّر أُسلوبُ تفكيره أيضاً ضمن تعلّمه لمثل هذه الأُمور، فهو يُعنى بالمسائل المتنوّعة بصورة

٩٩

مبدئية، ويتجنّب إصدار الأحكام السطحية الساذجة، ولا يقبل شيئاً ما لم يقم عليه الدليل، كما لا يرفض شيئاً على نفس النسق، ويبادر إلى تربية قوّته الفكرية أيضاً مقرونة بتصعيد مستواه العلمي.

وكما لحظنا، فإنّ الفهم والتعقل هما الركنان الأصليان في عملية الدراسة. وفيما يلي نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام:

الأُسس التربوية في الإسلام

إنّ القرّاء على علم بأنّ بحثنا يدور حول خصائص النظام الفكري أو النظام التربوي في الإسلام، وفي هذا القسم، ندرس البعد العقلي في النظام الإسلامي. وبما أنّ للتربية والتعليم في الإسلام بعداً عقلياً إلى حدّ بعيد، فإنّنا نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام. وسنذكر بعض الأُسس التربوية في طيّات حديثنا عن الأهداف، والأساليب. والنظام التعليمي في المدارس الدينية. ونناقش - هنا - الملاحظة القائلة بأنّ الإسلام، ضمن تأكيده على الفهم والعقل، لا يرى في نظامه التربوي بأنّ التدريب من شأن الإنسان، ويطرح الدراسة الحقيقيّة. جاء في الجزء الأوّل من الكافي، (ص٢٠) أنّ هشام بن الحكم روى عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قوله:

قال لي أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : «يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهلَ العقل والفهم في كتابه، فقال:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ».

«يا هشام: إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناس الحُجج بالعقول، ونصرَ النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموَات... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ».

لقد ورد في هذا الكلام - وما تضمّنه من آيات قرآنية - عددٌ من النقاط

١٠٠

الأساسية، يقول الإمامعليه‌السلام : «إن الله - تبارك وتعالى - بشّر أهل العقل والفهم». وفي الآية الكريمة:( فَبَشّرْ عِبَادِ... ) نفس الملاحظة الأساسية التي ذكرناها في العملية التربوية، وهذه الآية تبيّنها بصراحة، يستمع أهل الفهم والعقل أقوالاً متنوّعة فيتّبعون أحسنها.

وفي آيات أُخرى أُثير اهتمام العقلاء بجهاز الخِلْقة في طيّات الحديث عن التوحيد، والقرآن طالما يدعو العقلاءَ إلى التفكّر والتدبّر في الخلْق، كما يُلحظ ذلك في كثير من آياته.

يخاطب الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام هشام بن الحكم كما ورد في (ص24) من الكافي قائلاً:

«يا هشام، إنّ الله تعالى يقول في كتابه:( إنّ في ذلك لذكرى لِمَن كان له قلب.. ) يعني:عقل.

وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) ، قال: الفهم والعقل».

فتكرار الفهم والعقل في الآيات القرآنية، والأخبار، والأحاديث يبيّن أهميّة هذين المفهومين في النظام التربوي الإسلامي، ففي الآية التالية ذُكرت التربية مقرونة مع الحكمة، وتعليم الكتاب، يقول عزّ من قائل:

( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (الجمعة: 2).

ذكرنا في أقسامٍ أُخرى من هذا الكتاب بأنّ الإسلام وضع أساس معرفة الله على التعقل، وهو يرى بأنّ القواعد العقلية مؤثِّرة في تحديد الأحكام والمُثُل الأخلاقية. جاء في الجزء الثالث من كتاب الكافي (ص95) كلام أُثر عن الإمام الرضاعليه‌السلام يقول فيه:

«ليس العبادةُ كثرةَ الصلاة والصوم، إنّما العبادةُ التفكّرُ في أمر الله، عزّ وجل».

وجاء في (ج3 منه، ص50) أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام خاطب المفضّل

١٠١

قائلاً:

«يا مُفضّل، لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم...».

وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) ، (الزخرف: 23).

نلحظ أنّ هذه الآية ذمّت التقليد الأعمى لنهج الآباء والأجداد. ويرى الإمام الصادقعليه‌السلام في الحديث التالي أنّ الأشخاص الذين يقلّدون الفقهاء من غير متابعة لسلوكهم، هم كعوامّ اليهود يستحقّون اللوم والتوبيخ.

(وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك مَنْ يتعصّبون عليه، وإن كان لإصلاح أمره مستحقّاً، وبالترفّق بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً، فمن قلّد مِن عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم) من كتاب (عشر مقالات) (ص93) للأُستاذ الشهيد مطهري.

يدور الحديث هنا حول تقليد الفقهاء. ومع أنّ التقليد في الفروع التّخصّصيّة لكل حقل لا مندوحة منه بالنسبة إلى الأشخاص غير المتخصّصين في عصرنا، بيد أنّ سلوك الفقيه أو المرجع يجب أن يخضع للدقّة والمراقبة، فلو عمل الفقيه خلاف المبادئ والأُصول، أو تعصّب في كلامه وعمله، فلا ينبغي لأحد تقليده. ومن الأخبار الواردة حول الاجتهاد، والتي ذُكرت فيها قضيّة التقليد، هو الحديث التالي:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا».

وقد ذكرنا - فيما مضى - بأنّ الاجتهاد: هو بذل الجهد لاستنباط الأحكام بمساعدة مصادرها الشرعية، وهي: القرآن، والسنّة، والعقل، والإجماع. وكلّ مسلم

١٠٢

يستطيع أن يستنبط الأحكام بعد تعلّم المقدّمات، أو بعد التبحّر في القرآن والسنّة، وعندما يكون عاجزاً عن ذلك، يجب عليه أن يقلّد فرداً واجداً للشرائط. ونحن نعلم بأنّ كلّ إنسان - في عصرنا هذا - ملزم أن يرجع إلى ذوي الاختصاص في المجال الذي ليس من اختصاصه. والمهم في الإسلام ومذهب أهل البيتعليهم‌السلام أن يتحلّى المرجع بمواصفات أخلاقية خاصّة، مضافاً إلى اختصاصه في الفقه أو المعالم الإسلامية. وفي الخبر المأثور عن الإمام الصادقعليه‌السلام حول المواصفات الأخلاقية التي يجب أن يتحلّى بها مرجع التقليد:

«... فأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه..».

وبناءً على الآيات والأخبار المأثورة في فصول ماضية من هذا الكتاب، تتّضح هذه النقطة، وهي أنّ النظام التوحيدي أو النظام الفكري في الإسلام لا يتوكّأ على العقل، ولا ينسجم مع طبيعة الإنسان فحسب، بل يطلب من أتباعه - لأجل قبول تعاليمه - أن يتّخذوا من الفهم والعقل ركيزتين لتديّنهم. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّه يرى أيضاً بأنّ للتعقّل دوراً مهمّاً في الأحكام والقيم، وقد خاطب الله - تعالى - نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية التي نقلناها فيما مضى، وهي:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، (النحل: 125).

فالاتّكاء هنا - كما يلحظ - على الحكمة والكلام المنطقي.

وكما ذكر المرحوم مطهّري في كتابه: (عشر مقالات)، فإنّ كلمة الربّ توحي بمعنى التربية، مضافاً إلى ذلك، فإنّ التربية في خطّ معرفة الله أو خطّ النظام التوحيدي يجب أن يرافقها تعقلٌ وكلامٌ منطقيّ.

١٠٣

الخامس: البُعد الثوري

إنّ رسالة الإسلام رسالة ثورية، ومن أجل أن نحكم على رسالة ما بالثورية، فلابدّ أن نتعرّف - بادئ الأمر - على المعايير الثورية التي يمكننا من خلالها الحكم عليها بالثورية. فلو أطلق فريق من الناس على نفسه عنوان: الثورية، أو اعتبروا رسالتهم رسالة ثورية، ولكن لا تتوفر فيهم ضوابط هذه الثورية، فلا يمكن تسميتهم: ثوريّين، أو تسمية رسالتهم: ثورية.

إنّ الرسالة المناصرة للتقلبّات أو لتغيير الأشياء اللاّ أساسية ليست رسالة ثورية. وكذلك الرسالة المناصرة للتبدّلات الجذرية في بعد واحد من أبعاد الحياة الجماعية مع تجاهل الأبعاد الأُخرى، فلا يمكن عدّها رسالة ثورية بكلّ معنى الكلمة، على سبيل المثال، إنّ التغيير في المجال الاقتصادي أو في النظام السياسي لا يعتبر ظاهرة ثورية وحده.

إنّ الرسالة الثورية - حسب رأينا - هي:

1- الرسالة التي تقدّم نظاماً فكرياً حركياً، وذا اتّجاه عقلي في نفس الوقت.

2- وتُحْدث تغييراً جذرياً في نظام المُثُل، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، والاجتماعي، والتربوي.

3- وتطرح أهدافاً موسّعة للفرد والمجتمع، كي لاتحدّ من نموّهما. وكذلك توجّه الممارسات والنشاطات اليومية، علماً بأنّ هذه الأهداف يجب أن تكون بشكل تُهيّأ فيه مستلزمات تطوّر الإنسان.

4- وتُعِد الأفراد والجماعات لمكافحة الاستبداد، والاستعمار، والاستغلال، وتجتثّ جذور الديكتاتورية، والظلم، والاستعمار.

5- وتوطّد القيم والمُثُل الإنسانية الجوهرية، وتقضي على المُثُل والقيم الزائفة.

6- وتمهّد الطريق لنموّ الفرد وتطوّره، وتأمين الرفاه الجماعي.

١٠٤

7 - وتتكفل بسيادة المبادئ والقوانين بدل سيادة الأفراد والجماعات.

8 - وتدعم حكم أهل التقوى والفضيلة، والمستضعفين، بشكل تام.

9 - وتفتح الباب أمام طرح أفكار جديدة، وتقديم آراء وحلول منطقية.

10 - وتدافع عن العلم بوصفه نظرية مبرهنة.

11 - وتؤيّد مبدأ سيادة الناس على مصائرهم.

ويمكن - على نحو الاحتمال - ذكر أشياء أُخرى أو دمج بعض المواصفات المار ذكرها. على أيّ حال، فإنّ الهدف هو عرض بعض الأبعاد الأساسية لنظام ثوري.

والآن، ينبغي أن نلحظ، هل إنّ للرسالة الإسلامية أبعاداً ثورية أساسية؟

إنّ النظام التوحيدي - كما يرتأيه الإسلام - لا يتحكّم بجميع شؤون الكون، وحياة الإنسان فحسب، بل يضع الناس على خطّ التطوّر والتكامل، والله تعالى - فيه - مَظْهر الكمال، والحكمة، والعدل، والإحسان.

( إِنّا للّهِ‏ِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ ) ، (البقرة: 156).

ويربط هذا النظامُ الإنسان بالأبديّة والسرمدية، ويسوقه إلى الله. والحركة إلى الله هي حركة في خطّ الكمال، والحكمة، والعدل، والإحسان.

هذا الخط، وهذه الأهداف في النظام التوحيدي، لا تضمن نموّ الفرد والجماعة وتطوّرهما فحسب، بل وتوجّه الممارسات والنشاطات اليومية أيضاً.

إنّ النظام التوحيدي - كما يُستشفّ من الآيات القرآنية - نظام عقلي، وذوو الألباب في ظلِّ التفكّر يقرّون به، ويطيعونه. وفي شعار (لا إله إلاّ الله) - كما ذكرنا آنفاً - رفض المُثُل الزائفة، من نحو: عبادة الأصنام (الصنمية)، التهافت وراء النزوات وضروب الهوس، عبادة المال، عشق المنصب، كما أنّ فيه تعزيز المُثُل الإنسانية، من نحو: التقوى، والدعوة إلى العدالة، والإيثار ونكران الذات، وحب العِلم.

إنّ النظام التوحيدي متوكّئ على حكومة الله، ولا وجود للاستغلال والظلم في هذه الحكومة، لأنّ كلّ شيء يعود إلى الله في الحقيقة، ويعود إلى الجميع عملياً.

١٠٥

والله هو الحاكم في هذا النظام، لذلك لا وجود لسيادة فرد أو جماعة معيّنة. ونرى أنّ الفضيلة، والعدالة، والحكمة هي المفردات التي تسود العلاقات الإنسانية. بمعنى آخر، إنّ السيادة للقانون الإلهي في النظام التوحيدي، فالنبيّ، والإمام، والمرجع، والفقيه والناس كلّهم خاضعون للقانون الإلهي.

لقد قوّض الإسلام نظام المثل القائم، وشيّد مكانه نظاماً إنسانياً مثاليّاً رفيعاً، كما أحدث ثورة في معايير الحُسْن والقبح، وقوّض النظام الذي كان يحافظ على وضع الأرستقراطيين، ويدافع عن التقاليد والسنن الجاهلية. وفي النظام المثالي للإسلام، حلّت سلطة العقل محلّ التقاليد والسنن الأرستقراطية اللاّإنسانية، ودافع هذا النظام عن المثل الإنسانية الرفيعة باتّكائه على التقوى، والعدالة، والإيثار.

أمّا في الحقل الاقتصادي فقد شجب الإسلام الاستغلال والظلم، من خلال إقراره لقوانين خاصّة. وشيّد أركان نظام اقتصادي عادل من خلال تحريمه لتكديس الثروة والربا، ومَنعَ الاعتداءَ على حقوق الآخرين، وقام بتقويض أركان الظلم والاستغلال ضمن تأكيده على أنّ العمل يشكّل أساس الملكية.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الإسلام - بفرضه ضرائب متنوّعة - لم يحد من تكديس الثروة بيد طبقة معيّنة فحسب، بل تكفّل بمصدر لتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع. وبما أنّ الرفاه الجماعي وتأمين ضروريات الحياة للجميع من الأهداف الأساسية للإسلام، فإنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة ضروري، وهي إنّ الإسلام جعل الملكية المشروعة تابعة للرفاه الجماعي والمصلحة العامّة أيضاً.

وأمّا في الحقل السياسي فقد حدثت تطوّرات جذرية بعد البعثة النبوية الشريفة، حيث أصبح زمام الأمور بيد أتقى وأعلم إنسان، وأضحت سيادة الأرستقراطيّين والمترفين غير شرعية، وتسلّم المستضعفون من أهل التقوى والتجربة مقاليد الأمور. وكما أنّ القسط الإسلامي يسود النظام الاقتصادي، كذلك التقوى، والعلم، والوعي، مفاهيم تسود النظام السياسي.

١٠٦

إنّ تطبيق القوانين على الجميع، ومساواة الناس كافّة أمام القانون، تلك المساواة التي تحقّقت في عصر النبيّ (صلّى الله علي وآله) وحكومة الإمام عليعليه‌السلام وبعض الخلفاء.. كلّ ذلك من إمارات التطوّرات الجذرية للنظام السياسي.

وأمّا في الحقل الاجتماعي فقد فقدت الآداب والسنن البالية شأنها، وحلّت محلّها السنن والآداب الإسلامية التي كانت متمثّلةً في سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وأمّا في الحقل التربوي فقد انبثق كيانٌ جديد أيضاً. وأصبحت التربية مقرونة بتعليم الحكمة (الكلام المنطقي)، والنصيحة والإحسان. وطلب العلم أصبحَ فريضة على المسلمين، وتحرر العلم من الاحتكار، ليشمل الناس كافّة. وأضحى التعليم أمراً متواصلاً ثابتاً، ودمجت التربية في التعليم - كما سنرى - الجانبين: النظري والعملي.

قلنا فيما تقدّم بأنّه لا مكان لحكومة فرد أو جماعة خاصّة في النظام الإسلامي. فالحاكم، مضافاً إلى أنّه يتحلّى بالفضائل العلمية والأخلاقية، وأنّه مبعوث ومنتخب من قبل الناس، فهو خادم للشعب.

إنّ الإسلام نصير المستضعفين، وهو يحارب كلّ شكل من أشكال الاستغلال، وعندما تنوي بعض الشعوب الاعتداء، فإنّ المسلمين يهبّون لصدّ المعتدين بكلّ حزم، ويقطعون أيديهم. ترتكز علاقات المسلمين مع شتى الشعوب التي ليس لها نوايا استعمارية على مبدأ التعايش السِّلمي، وفي هذا المجال، يتفوّق الإسلام على سائر النظم من حيث أنّه يطلب من المسلمين أن لا يدّخروا وسعاً في مودّة الشعوب غير المعتدية، ومراعاة العدالة في التعامل معها.

والفرد - في الإسلام - حرّ في اختيار العقيدة، والمناقشة، وتبادل وجهات النظر، وتقديم الحلول المتنوّعة، وانتخاب المهنة، ويمهّد الإسلام له الطريق من أجل نموّه

١٠٧

وتطوّره، في الآن ذاته، ينظر الإسلام إلى الرفاه الجماعي على أنّه أمر مهم، فيندمج نموّ الفرد مع الرفاه الجماعي في النظام الإسلامي.

يؤيّد الإسلام الديمقراطيّة(*) بوصفها أكثر أساليب الحياة اتزاناً وإنسانية. والإسلام، مضافاً إلى احترامه للإنسان، فإنّه يعتبر التقوى مقياساً للتفاضل بين الناس، ولا يمكن أن تكون الثروة، والمنصب، والموقع الاجتماعي، والجنس، والعنصر، والانتماء القومي، مقاييس للتفاضل بين الأفراد أو الشعوب. في الآن ذاته، فإنّ العدالة الاجتماعية أو الرفاه الجماعي من الأركان الأساسية للإسلام. وكما قلنا، فإنّ الإسلام يدعم العلم بوصفه نظرية مُبرهَنة (الحكمة). وفي النظام الإسلامي، ضمن تقديم القوانين الإلهية، فإنّ الناس أسياد على مصائرهم، وهم الذين يتولّون تسوية أُمورهم بواسطة قانون الشورى.

والآن نقوم بذكر بعض الآيات والأحاديث التي تترجم الأبعاد الثورية للنظام الإسلامي في الميادين والحقول المتنوّعة.

إنّ القُرّاء على علم بأنّ خصائص النظام الإسلامي جميعها في مُخطّط واحد، وهناك علاقة حميمة تربط فيما بينها. على سبيل المثال، فإنّ البعد الثوري في النظام الإسلامي غير منفصل عن البعد الحركي، أو البعد العقلي، من هذا المنطلق نضطرّ إلى تكرار الآيات والأحاديث عند تبيان بعض الأبعاد.

تبديل النظام القائم

تذكر الآية التالية الحقيقة القائلة بأنّ خطّ الأنبياء يعارض خطّ المترفين - الذين

____________________

(*) يرفض الإسلام الديمقراطية بوصفها نظرية بشرية غربية للحكم. ولا يسمح أن تُطلق هذه الكلمة عليه، كما لا يقرّ بها من حيث إنّها تعني حكم الشعب للشعب، في حين أنّ الحكم في الإسلام لله وحده، مضافاً إلى ذلك فإنّها فكرة وافدة دخيلة يربأ كلّ مسلم واع عن استعمالها. المعرِّب.

١٠٨

يفيدون من النظام الاجتماعي المتعسّف، ويحولون دون أيّة مبادرة ثورية - وهؤلاء كانوا يعارضون أيّ لون من التجديد، وكانوا يتكتّلون ضدّ الأنبياء بذريعة مراعاة السنن والتقاليد، ومواصلة التسلّط الاستغلالي، قال تعالى:

( وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى‏ مِمّا وَجَدْتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ، (الزخرف: 23 - 24).

وجاء في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأعراف قوله تعالى:

( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .

وتوضّح (الآية 157) من السورة نفسها دور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكافحة التقاليد الباطلة والأفكار الواهية:

( الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّورَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.. ) .

ويعلم الجميع بأنّ الرِّبا كان سائداً قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام منع هذا الأُسلوب المرفوض، الذي يُفضي إلى الاستغلال وتكديس الثورة، قال تعالى:

( وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا ) ، (البقرة: 275).

منع الكنز وتكديس الثروة

قال تعالى:( .. وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، (التوبة: 34).

١٠٩

ينقل الفقيه المجاهد المرحوم آية الله الطالقاني في (ص187) من كتابه: (الإسلام والمِلْكيّة) عند مقارنة الإسلام مع النُظُم الاقتصادية الغربية، ملاحظةً أفادها من كلامٍ للإمام عليعليه‌السلام فيقول: إنّ الفائض على أربعة آلاف درهم: كنز، سواء دفع صاحبه زكاته أو لم يدفعها، وأقلّ من ذلك، نفقة. وفي نفس الصفحة، نقلاً عن كلام للإمام الباقرعليه‌السلام حول الآية التي تصدّرت الموضوع، يذكر بأنّ ما يفيض على ألفي درهم فهو كنز. ويستطرد في كلامه قائلاً: (إنّ اختلاف الحديثين في مقدار الكنز تابع لاختلاف ظروف المعيشة والاقتصاد العام. وفي الحقيقة، فإنّ ما كان للاستهلاك فهو نفقة، وما أدّخر فائضاً على ذلك، أي: الجَمْع والحفظ، فيشمله عنوان الكنز، وهذا حرام، وفقاً لظاهر الآية وصريحها، والروايات الواردة في تفسيرها).

وقد أكّد القرآن على المسلمين بأن ينفقوا في سبيل الله، ما فاض على ضروريات الحياة، وذلك في قسم من (الآية 219) من سورة البقرة، فقال عزّ من قائل:

( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) .

وجاء في القرآن أنّ النُظُم المَلَكيّة والدكتاتورية مصدر الفساد والدمار، وهذا ما تنطق به (الآية 34) من سورة النمل على لسان ملكة سبأ، قال تعالى:

( قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزّةَ أَهْلِهَا أَذِلّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

وفيما يخصّ فرعون، قال تعالى:

( إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ، (القصص: 4).

إنّ رسالة الأنبياء - مبدئيّاً - هي حثّ الناس على إقامة العدل، والوقوف في وجه الظالمين، لاحظوا قوله تعالى:

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ

١١٠

بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ.. ) ، (الحديد: 25).

وقوله تعالى:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَيَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) ، (النحل: 90).

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحذّر المسلمين من الاعتزاز القومي، ويقول لهم بأنّ دين الإسلام هو بمثابة ماضي الأُسرة ومجدها، ومروءة المرء أخلاقه، وأساس شخصيّة الإنسان عقله، وأكرم الناس أتقاهم، ولا فضل لعربيّ أو أعجمي أو أسود أو أبيض على غيره إلاّ بالتقوى.

إنّ الإسلام يعارض النظام الطبقي مبدئيّاً، ويدافع عن المستضعفين، ضمن إدانته للمستكبرين، ويعتبر المستضعفين هم الوارثين وأئمّة المجتمع، قال تعالى:

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) ، (القصص: 5 - 6).

والإسلام - ضمن تأكيده على مساهمة الناس في العمل - فإنّه يؤيّد كفاءتهم في علاج مشاكلهم، جاء في الآيتين التاليتين قوله تعالى:

( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ،( وَأَمْرُهُمْ شُورَى‏ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ احترام الناس على أساس الفضيلة والتقوى، ورفض المعايير الزائفة في التفاضل بين الناس، يبيّن لنا أنّ الإسلام يدعم أُسس الديمقراطية، قبل أن تنادي الثقافة الغربية بمسألة حكم الشعب، واحترام الإنسان.

ونحن نعلم أنّ انتهاج الأُسلوب العقلي في شؤون الحياة، والتعاون لحلّ المشاكل الاجتماعية من أُسس الديمقراطية، وكما نقل سالفاً فإنّ المبدأ القائل: «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع»، والأخبار والآيات الواردة في هذا المجال توضّح لنا أهميّة انتهاج الأُسلوب العقلي في حياة الإنسان، والآية التالية توضّح لنا تعاون الناس فيما بينهم في أُمور الخير

١١١

والتقوى، فتقول:

( .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏ وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.. ) ، (المائدة: 2).

مضافاً إلى ذلك، فإنّ على كلّ شخص - في الإسلام - مسؤوليةً محدّدة ضمن تمتّعه بحقوق معيّنة. وكلّ شخص مسؤول من عمله، وفي الآن ذاته، فإنّ جميع الناس مسؤولون أمام بعضهم البعض. قال تعالى:( وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ ) ، (فاطر: 18). والناس كافّة مسؤولون في الأُمور الاجتماعية. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا كلّكُم راعٍ وكلّكُم مسؤولٌ عن رعيّته».

وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ الإسلام يدمج الحقوق الفردية في المصالح الجماعية، ومن جهة أخرى، فإنّه يدعم الملكية المشروعة أو الملكية التي هي نتيجة الكدِّ والعمل. قال تعالى:( وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) ، (النجم: 39). وفي الحديث:

«الناس مسلَّطون على أموالِهم وأنفسهم» (مبدأ عقلي).

ومن جهة أُخرى، يؤكّد على المصالح العامّة انطلاقاً من قاعدة: (لا ضرر ولاضرار في الإسلام).

يقول المرحوم الطالقاني في (ص206) من كتاب (الإسلام والملكية):

(تحدّد هذه القاعدة حقّ التصرف والملكية والمعاملة بالمصلحة وعدم الضرر الذي قد يلحق الفرد والمجتمَع، وتشخيص حد الضرر الذي يحدّ من حق الملكية والتصرف، وقاعدة التسلّط موكول إلى العُرف العام). في هذا المجال، يقول المؤلّف في (ص233) من كتابه تحت عنوان: (كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب حاجته): هذه العبارة شعار الإسلام الأوّل، وشعار الاشتراكية الأخير.

ومن مجموع أحكام الإسلام وتعاليمه فيما يخصّ الملكية وحدودها، يحرز المبدأ القائل بأنّ ملكية الأشياء والتصرف بها واستثمار هذه العلاقة على صعيد العمل بالمعنى الواسع له، والتوزيع (أو الإنفاق)، كلّ ذلك يجري حسب الحاجة.

(إنّ العلم بعامّة، والعلم بمعنى النظرية المبرهنة يحظيان بتأييد الإسلام بشكل

١١٢

صريح).

وفي قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 37).

ليس العلم فقط منشأ قبول الآراء، بل تمّ التأكيد على دور الجوارح (الأُذن والعين) والعقل في المعرفة. ولقد ذُكر العلم أو الحكمة في القرآن، وفي الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومينعليه‌السلام مرّات كثيرة. ووردت الوصية بتعلّم الحكمة، يقول الإمام عليعليه‌السلام :

«الحكمة ضالّة المؤمن فخذِ الحكمة ولو من أهل النفاق».

الأحاديث

«طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»، «اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»، «اطلبوا العلم ولو بالصين». وآية القرآن التي تتحدّث عن عدم تكافؤ العالم والجاهل، تدلّ على أنّ النظام الإسلامي يقف إلى جانب العلم.

إنّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الباعث على ديمومة الجذوة الإسلامية، وهو سلطة وقائية للفرد والمجتمع من الانحراف. وعندما يرتكب الإمام، أو الخليفة، أو المرجع، أو أيّ شخص آخر خلافاً، فإنّه سيكون عُرضة للّوم والعتاب. فتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف - كما ذكرنا سالفاً - يحول دون انحراف الناس.

مضافاً إلى الأمر بالمعروف، فإنّ الجهاد في سبيل الله، والجهاد لتطبيق

____________________

(*) الإمام - بالمعنى الخاص - لا يرتكب خلافاً أبداً كما يعتقد الإمامية بذلك. ولكن إذا كانت كلمة الإمام بالمعنى العام، أي: خارجة عن دائرة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، فذلك وارد لا إشكال فيه. المعرِّب.

١١٣

العدالة، والجهاد ضدّ الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، كل ذلك يدلّل على البعد الثوري للنظام الإسلامي. وسنتحدث بالتفصيل فيما بعد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، ونكتفي هنا بذكر آية في الجهاد، وهي:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ، (الحجرات: 15).

السادس: استمرار التربية والتعليم

من الخصائص الأُخرى للتربية الإسلامية: استمرارها، وكما جاء في الحديث المعروف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»، فإنّ طلب العلم، وبالنّتيجة، التربية والتعليم أمر دائمي متواصل.

إنّ أحد الأهداف التربوية الأساسية هو استمرار التعلّم، والتربية والتعليم. ووفقاً لرأي المتخصّصين في التربية والتعليم، ينبغي تعليم الطلاّب بشكل يواصلون فيه تعلّمهم وتربية أنفسهم بعد التخرّج. وعندما يؤكّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على طلب العلم بوصفه فريضة، ويقول: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»، فإنّ هذا الأمر غير مقصور على زمان معيّن. بكلمة بديلة، إنّ واجب كلّ مسلم هو أن يجدّ في طلب العلم دائماً وأبداً دون تذبذب وانقطاع.

وكما لحظنا، فإنّ عملية التربية والتعليم مقرونة بالتفكّير. ويمكن القول - مبدئيّاً - بأنّ عملية التربية والتعليم، من جهة، هي نفسها تربية القدرة على التفكّر، والتفكّر أساس استمرار التعليم، يقول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا عبادةَ كالتفكّر»، وهذا غير مقصور على زمان معيّن أيضاً. وكما جاء في حديث معروف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه: «تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، فإنّ التفكّر في هذا الحديث أمر ذو قيمة، والواجب المحتّم على المسلمين هو أن يبادروا إلى تربية القدرة على التفكّر، جاء في بعض الأحاديث بأنّ ثواب طلب

١١٤

العلم في ليالي القدر أكثر من ثواب تلاوة الدعاء. وأُثر عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة قوله: «لا علم كالتفكّر».

إنّ إحدى المسائل الجوهرية في التربية والتعليم هي طلب العلم عن طريق التفكّر أو التحقيق.

ويرى بعض روّاد التربية والتعليم بأنّ طلب العلم بذاته مهم، أمّا الكيفية فليست ذات شأن في قاموسهم.

إنّ المهم في طلب العلم - من الناحية التربوية - هو كيفية التعلّم وطلب العلم. فقد يتصوّر البعض بأنّ تزويد ذهن الطالب بالمعلومات مفيد بذاته. عادةً، يقوم المعلّمون والأساتذة في المدارس والكليّات بإلقاء المحاضرات، وتقديم المواضيع العلمية، ويستمع الطلاّب إليهم، ثمّ يقرأون الكرّاس أو الكتاب الذي يحتوي على المعلومات التي سمعوها منهم، وذلك من أجل اجتياز الامتحان. وبتكرار هذا العمل، يعملون على تصعيد معلوماتهم، حتى إذا حان موعد الامتحان، يجيبون على الأسئلة بما عندهم من معلومات.

إنّ هذا الأُسلوب يفتقد إلى البعد التربوي، حيث يتعلّم الطالب بشكل سطحي، لذلك ينسى ما تعلّمه بعد مدّة، مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا الأُسلوب لا يحدث تطوّراً في تفكّره وعاداته، حيث يحفظ المواضيع الدراسية ناقصة بالشكل الذي طرحها المعلّم أو مؤلّف الكتاب. وكما قلنا فيما سبق، فإنّه يجيب على الأسئلة الامتحانية بما عنده من معلومات، علماً بأنّ بعض المربّين - كما ذكرنا - لا يرى لتحصيل المعلومات بذاته قيمة، إذ إنّ المهم عند هذا البعض هو الكيفية.

إنّ الذين يرون بأنّ تعلّم العلم وسيلة لتربية الشخصية، يعتقدون بأنّه من الممكن تعلّم المواضيع العلمية عن طريق التفكّر والتحقيق، وفي الآن ذاته، العمل على تربية القدرة الفكرية. ولكي يقوم المعلّم بمناقشة المواضيع العلمية وتعليمها عن طريق التفكّر، فإنّ عليه أن يبدّل منهجه في العمل، إذ يقوم بطرح المسائل الجوهرية بدل طرح المواضيع العلمية، أو حث الطلاّب على قراءة المواضيع من الكتب الدراسية. وتتألف المباحث العلمية من الدراسات أو نتائج دراسات العلماء. بكلمة

١١٥

بديلة: إنّ عملنا - في كلّ مبحث علمي - هو مع المسائل العلمية الأساسية، فالعلماء قاموا بالتحقيق والتفكّر بعد تعاملهم مع مثل هذه المسائل، ثمّ صبّوا نتائج عملهم على شكل مقالة أو كتاب، لذا على معلّم العلوم أيضاً أن يقوم بطرح المسائل المتنوّعة بدل طرح هذه المواضيع مع نتائج عمل العلماء، ويطلب من تلاميذه أن يعينوه على دراسة تلك المسائل ومعالجتها.

وهذا العمل نفسه يتقولب بقالب التحقيق أو التفكّر في المسائل العلمية، علماً بأنّ المعلم والطالب معاً ينجزان هذا العمل، ويبادران إلى تدوين الآراء ودراستها بعد البحث والتدقيق والمناقشة، وإجراء التجارب، مع قطع أشواط المنهج العلمي.

ففي هذه العملية، يتعلّم الطلاّب المواضيع العلمية، وفي الآن ذاته، يعملون على تربية قدرتهم الفكرية من خلال المشاركة في المناقشة. ومن المحتمل أن نتناول بشيء من التفصيل مسألة تطبيق هذا المنهج في التعليم في فصول قادمة من هذا الكتاب.

يُثار سؤال آخر - في هذا المجال - أجاب عليه المربّون الكبار بأجوبة متنوّعة، والسؤال هو: لو دار الأمر بين تطبيق أحد العملين في الصف: إمّا تعلّم المواضيع، أو تربية القدرة على التفكّر، فأيّهما يُقَدَّمُ على الآخر من الناحية التربوية؟

يجيب البعض بأنّ تعلّم المواضيع أو تحصيل المعلومات هو الأهم؛ لأنّ المدرسة مكان للدراسة.

ويجيب آخرون بأنّ المعلومات - عادةً - موجودة في الكتب بشكل منطقي واضح، ومتى شاء الطالب، فإنّه يستطيع أن يرجع إلى الكتب العلمية، ويتعلّم منها شتّى المواضيع، فالعسير على الطالب دائماً هو مشاركته في المناقشة وتبادل وجهات النظر.

من هذا المنطلق، يعتقدون، بأنّه - في ظروف خاصّة - لو دارت النشاطات التعليمية بين أمرين: تحصيل المعلومات أو التفكّر، فإنّ التفكّر هو الأهم، وله قصب السبق على تحصيل المعلومات، وكلام الإمام عليعليه‌السلام أيضاً يبيّن هذا الموضوع بشكل صريح.

فالمهم والباعث على ديمومة التعليم، إذاً، هو التفكّر.

١١٦

بكلمة بديلة: إذا نالت القدرة على التفكّر، أي كيفية مناقشة المواضيع ودراستها، نصيبها من التربية، فسوف يُفتح الطريق أمام تعلّم مواضيع جديدة في المستقبل من أجل مواصلة الدراسة والتعلّم.

وفي النظام التربوي الإسلامي، فإنّ من الضروري الاهتمام بحقيقة أُخرى، وهي: إنّ التكاليف الإسلامية واجبة التطبيق في المجالات المتنوّعة. ومادام الإنسان حائزاً على شروط التكليف، فعليه القيام بهذه التكاليف. أي عندما يكون المسلم بالغاً سالماً عاقلاً، فإنّ عليه العمل بالتكاليف الدينية بصورة متواصلة.

ويجب أن يكون الإنسان المسلم دائماً: مجدّاً في التفكّر في خلق الكون، واستيعاب النظام التوحيدي، مبادراً إلى عبادة الله وحده، عاملاً على تكامل شخصيّته المعنوية، ساعياً إلى توطيد أركان العدالة، واجتثاث جذور الظلم، جاهداً في مكافحة الفساد، لا يدّخر وسعاً في التضحية بنفسه وماله من أجل الجهاد في سبيل الله، وهو سبيل الخير والكمال، وتثبيت العدالة، وتأمين رفاه المستضعفين، وهو سبيل الأُخوّة والسلام والوئام، باذلاً جهده في طلب العلم وتوسيع دائرته، مجدّاً في تربية قابليّته الكفرية، مبادراً إلى حلّ المشاكل الاجتماعية، معدّاً نفسه للدفاع عن نظامه التوحيدي ومجتمعه الإسلامي، طامحاً في إنقاذ مستضعفي العالم، وتقويض أركان الحكومات الفاسدة الجائرة، مقيماً علاقات وديّة مع الشعوب التي لا تحارب المسلمين، و... و... الخ.

وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ النظام التربوي في الإسلام ينبض بالحياة دائماً في المجالات كافّة، ويجب على المسلم أن يجدّ في الأصعدة المتنوّعة دون انقطاع، ويعمل على تكامل شخصيّته وأداء رسالته الإنسانية.

السابع: عموميّة التربية والتعليم

يعارض الإسلام مسألة الطبقية، ومنح امتيازات خاصّة لطبقة معيّنة دون

١١٧

أُخرى. وكما نعلم، فإنّ الامتيازات المادية تتوفّر في ظلّ العمل وجهد الأشخاص. والتفاضل بين أفراد النوع الإنساني يرتكز على الفضيلة والتقوى، مضافاً إلى ذلك، فإنّ تأمين ضروريات الحياة وإتاحة فرصة التعليم للجميع في المجتمع الإسلامي من واجبات الحكومة الإسلامية.

وكما أنّ طلب العلم والإفادة من الفرص التربوية من واجبات الأفراد، فإنّ تأمين الخدمات التعليمية والتربوية من واجبات الحكومة.

وفي النظام الإسلامي، ليس التحصيل الدراسي حكراً على طبقة معيّنة دون غيرها، فالجميع ينبغي أن يستفيدوا من الخدمات التعليمية. والحكومة مكلّفة أيضاً أن تهيّئ الإمكانيات التربوية بشكل يستطيع فيه كلّ فرد أن يواصل دراسته - على مستويات متنوّعة - وفقاً لاستعداده ورغبته. مبدئياً، بما أنّ توسيع الخدمات التعليمية والتربوية مقدّمة لنموّ الفرد وتكامله، ورقيّ المجتمع، لذلك تبادر الحكومة إلى تأسيس المراكز التربوية.

وقبل أن تطرح مسألة التعليم الإجباري في الغرب، فإنّ نبيّنا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل التربية والتعليم أمراً إجبارياً، والمسجد مركزاً لهما. وكانت مدارس التربية الإسلامية ومراكزها مفتوحة أمام الجميع، والأشخاص - أيّاً كان انتماؤهم القومي وموقعهم الاجتماعي - كانوا يحضرون في تلك المراكز التعليمية. وكان للنساء أيضاً حقّ الإفادة من الفرص التربوية المتاحة أُسوةً بالرجال.

والآن أيضاً، لابدّ من الإسراع في اجتثاث جذور الأُميّة، وتوجيه الجميع من أجل الإقبال على المراكز التربوية، كما يجب توفير المستلزمات الكافية لفتح المدارس في أرجاء البلاد كافّة؛ لينعم أبناؤها بالخدمات التعليمية.

بعامّة، فإنّ للنظام التربوي في الإسلام وضعاً متميّزاً من حيث الهدف، والأُسلوب، والمحتوى. وسنرى بأنّ الأهداف التربوية للنظام الإسلامي واسعة وشاملة، والأساليب التربوية متنوّعة وصالحة للتطبيق في حالات مختلفة، وسنناقش - في الفصول القادمة - ضروب الأساليب التربوية في الإسلام. ولا يخفى فإنّ محتوى

١١٨

النظام الإسلامي غنيّ غنىً خاصّاً.

في هذا النظام، تمّ تبيان النظرة الكونيّة التوحيدية بشكل مبسّط، ومنطقي في الآن ذاته، وتمّ التأكيد في القرآن وبقيّة المصادر الإسلامية المعتبرة على علاقات أفراد النوع الإنساني، في حقول الحياة المتنوّعة، وتطرّق القرآن إلى العلاقات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية بين الأُمم والشعوب، والاتّصال فيما بينها بشكل مفصّل.

وسنتحدث حول هذا الموضوع لاحقاً.

١١٩

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221