التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام16%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163449 / تحميل: 9122
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التربية والتعليم في الإسلام

الدّكتور علي شريعتمداري

١

٢

بسم اللّه الرّحْمن الرّحيم

٣

٤

مقدّمة المترجم

التربية في الإسلام تعني: إعداد العناصر الصالحة في المجتمع، من أجل خيره وسعادته. ويتطلّب الإعداد: وجود مُربِّين لهم كفاءات، وملاكات خاصة.

والتربية تؤتي أُكلها إذا كان المربّون بدرجة من الحرص على تيسير المهمّة التربوية؛ ذلك لأنّها مهمّة شاقّة، لا يضطلع بها إلاّ الهادف الواعي. وعندما نقول: إعداد العناصر الصالحة، فإنّ هذا هو الهدف الأساس الذي يتوخّاه الإسلام، من وراء تأكيده على التربية السليمة السويّة، التي تتكفّل رفد المجتمع بطاقات رائدة.

فالتربية الإسلامية التي تنهل من نمير القرآن، هي تربية سويّة. وهدى النبوّة، وسيرة أئمّة أهل البيت، والصحابة الأبرار، والعلماء الفضلاء، وكِبار المُربِّين الإسلاميين، هي مصادر أُخرى تستمد منها التربية وجودها. فالقرآن الكريم، والسنة الشريفة، وما دوّنه ِكبار المُربين الإسلاميين في الحقل التربوي، هي المصادر التي تعتمدها التربية الإسلامية. وفي مقابل التربية السويّة التي ينادي بها الإسلام، نلحظ هناك تربية منحرفة شاذة ذات مواصفات جاهلية، تتبنّاها نُظُم علمانية تخطط لها بشكل هادف. وقد لمسنا آثارها السيّئة في مجالات متنوّعة: قومية، وسياسية، وثقافية، واقتصادية، واجتماعية... ونحن هنا لا نرمي التعرّض لها على نحو التفصيل، بل نشير إليها إشارة عابرة؛ لنتوفّرعلى صورة مشرقة عندما نتلو قوله تعالى:( وَالْبَلَدُ الطيِّب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا َيَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً... ) ، (الأعراف: ٥٨). ونُنبّه هنا على أنّ

٥

التربية قد تكون سويّة، بَيْد أنّها لا تُؤثر في صياغة بعض النماذج الاجتماعية؛ وهذا ما يدعونا إلى التعرّف على العناصر التي تتكوّن منها التربية.

فهذه العناصر هي: المُربِّي، ومادّة التربية، والمتربي، والظروف الاجتماعية، فإذا كان المُربِّي كفوءاً، ومادّة التربية مفيدة مناسبة، والمُتربِّي متفاعلاً، والظروف الاجتماعية مؤاتية، حقّقت التربية ما تصبو إليه من أهداف؛ بلحاظ فاعليّة العناصر الأربعة إيجابيّاً. أمّا إذا كان هناك خلل في أحد هذه العناصر ولاسيّما المُتربِّي، فإنّ التربية تتعثّر في مهمّتها وقد يضمر دورها.

تمتاز التربية في الإسلام بأنّها تربية ذات حس ديني معنوي. وعندما أقول هذا فإني أقصد: أنّها تتفوّق على غيرها من ضروب التربية الأرضية البعيدة عن إشعاع السماء، من حيث علاقتها بالعالم الغيبيّ، وواقعيّتها؛ لتجاوبها مع الفطرة البشرية، وطبيعتها العملية من حيث إنها - من وجهة نظر الإسلام - سلوك عملي ملموس قبل أن تكون نظرية مسطورة في الكتب. وكذلك تمتاز بدعوتها إلى الأخلاق الكريمة الرفيعة، فهي تشعّ على بني الإنسان بالفضائل التي يرنو إليها كلّ فرد، وتمتاز - أيضاً - بنقاوة مفرداتها من شوائب الأفكار الوافدة الدخيلة. هذا والإسلام يؤمن بأنّ التربية تُلازم كل مجال من المجالات الحياتية المتنوّعة، ولا تنفك عنه بأيّ حالٍ من الأحوال. وهذه سمة تُفضي إلى تفوّق النظام التربوي في الإسلام على غيره من النُظُم، إذ إنّه يكثِّف من العملية التربوية؛ ليعيش المجتمع سعادة لا تُوفرها نُظُم تربوية أُخرى.

إذا مارس الإنسان العملية التربوية، فإنّه يعيش في جوٍّ تربويٍّ حافلٍ بالعطاء، شريطة أن تكون هذه العملية محصّنة بمناعة وقائيّة، ضدّ أعراض قد تنتابها، نحو: عدم استحضار العلاقة مع الله تعالى، والغفلة عن الحسّ الديني، والفتور، والتأثّر بالأفكار الترقيعية الهجينة، وتثبيط العزائم هادفاً كان أو عفوياً. فهذه حالات غير صحيّة ربما تمر بها العملية التربوية عبر مسيرتها الشائكة. والإفادة من الأساليب الوقائية تحول دون هذه الحالات المرَضية، فتظل العملية التربوية نابضة بالحياة، محافظة على فاعليّتها وهدفيّتها،

٦

واستقامتها.

لقد بلغ اهتمام الإسلام بالتربية درجة أنّه قدّمها على التعليم، مع عدم تغافله عن أهميّته. فقد قال عزّ من قائل:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... ) ،(الجمعة: ٢)، وقال جلّ شأنه:( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهم ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... ) ، (آل عمران: ١٦٤).

فالإسلام يؤكِّد على التربية أوّلاً، ثمّ التعليم؛ لأنّ البُعد التربوي في المجتمع، أهم من البُعد التعليمي. ولا أُبالغ إذا قلتُ: بأنّ الإسلام أغنى نظامٍ بمفرداته التربوية والتعليمية.

لقد أنجزتُ تعريب هذا الكتاب لمؤلِّفه الدكتور علي شريعتمداري، وهو جهد علمي مشكور في الحقل التربوي، بَيْدَ أنّه لا يخلو من بعض الثغرات. وهذا أمر لا مندوحة منه، إذ ليس لأحد أن يدّعي الكمال؛ فالكمال لله وحده.. ويظلّ الكلام قاصراً؛ لصدوره من قاصر. ولا عيب في القصور، بل العيب في التقصير.فإذا واصلنا سيرنا فنحن غير مقصِّرين. وإذا قعدنا وتخلّفنا، فقد جمعنا بين القصور والتقصير؛ وهذا هو الداء العضال.

لقد دوّنتُ بعض الملاحظات العامة حول الكتاب، وقدّمتُها مع هذا التعريب لمن يهمّهم الأمر، وذلك في ورقة مستقلّة. ولي ملاحظات خاصة، ذكرتها في هوامش الكتاب عند الضرورة، لعلّها تماثل التعليقات على بعض المواضيع، حيثما استوجب ذلك. وقد يلحظ القارئ الكريم نوعاً من الجفاف في بعض مواضيع الكتاب، فلا غرو لأنّ أُسلوب الكتاب علمي، ومواضيعه اختصاصية. وقد ينعكس ذلك على التعريب أيضاً؛ لأنّي راعيتُ الأمانة بدقّة، ولم أتصرّف إلاّ قليلاً بشكل لم يخل بأصل الموضوع وفكرته، مع ترحيبي بكلّ ملاحظة بنّاءة مفيدة حول التعريب وذلك من أجل تطوير العمل، والسيرقُدُماً نحو الأفضل. وأخيراً أبتهلُ إلى الله تعالى أن يجعلني والناقدين من المعتصمين به،( .. وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، (آل عمران: ١٠١)، وأن يُعيننا على أنفسنا أن نزكّيها:( .. وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ

٧

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى‏ مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَداً ) ، (النور: ٢١).

علي هاشم

شوّال ١٤١٢هـ ق

٨

تمهيد

إنّ القرّاء الكرام(١) على علم بأنّ كتاب (التربية والتعليم في الإسلام) قد ُطبع مرّات عديدة في الفترة الواقعة بين سنتي ١٤٠٠ و١٤٠٢هـ، بَيْدَ أنّ مشاغل عديدة أعاقتني عن مراجعته. ومن حسن الحظ أن أُتيحت الفرصة أخيراً فوُفّقت لمراجعته بأكمله، وأضفتُ إليه مباحث جديدة، وهي: البُعد الإلهي للتربية الإسلامية، أضفته إلى القسم الّذي يتناول خصائص النظام التربوي الإسلامي. كما أضفت البُعد المعنوي أو الإلهي في شخصيّة الإنسان، إلى البحث المتعلِّق بأبعاد شخصيته. وأجريت بعض التعديلات على الترتيب الوارد في ذكر الأهداف عند الحديث عن القسم الخاص بالأهداف. وفي القسم الذي يتطرّق إلى الأساليب التربوية في الإسلام، أشرتُ إلى الدعاء بوصفه أحد الأساليب التربوية الجوهرية. كما أضفت إليه بعض النقاط في مجال دمج الإيمان بالعقل.

وعند التحدّث حول التربية والتعليم في الإسلام، تبرز ضرورة التركيز على أنّ الإسلام - كنظام - ذو بُعد تربوي في كلّ ميدان، وأنّ لجميع أُصول الدين - وهي: التوحيد، والعدل، والنبوّة، والإمامة، والمعاد - دوراً تربوياً. والقرآن الكريم - بمعناه الواسع - أفضل وأكمل كتاب تربوي للإنسان من الناحية التربوية.

وتتميّز جميع أقوال الأئمّة وبشكل عام جميع الأخبار الواردة عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمة الأطهارعليهم‌السلام ، ببعدها التربوي. كما تشكل فروع الدين ومنها الدعاء، أساس التربية والتعليم في الإسلام. وما شُرّعت الأحكام الإسلاميّة؛ إلاّ لإصلاح بني الإنسان وتربيتهم.

____________________

(١) يقصد الكاتب قرّاء الفارسيّة.

٩

فإذا ما رام أحد الخوض في حقل التربية والتعليم في الإسلام، فلابد له من التوفّر على دراسة الإسلام من جميع الجهات، واستخراج التلميحات التربوية في كل حقل. وهذه مهمّة عسيرة من الناحية العملية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ضخامتها، إلاّ إنّ الاهتمام بجزء من جوانب الحياة الإنسانيّة مثل: النموّ والتكامل الفردي، وإصلاح المجتمع، وإقامة العلاقات الأساسية بين أعضائه، وعلاج المشاكل الفردية والجماعية، وتنمية الأبعاد الرئيسة في شخصية الإنسان وتوطيدها، وأُمور أُخرى مماثلة تشجّعنا على دراسة خصائص التربية والتعليم في الإسلام، وأهداف المدرسة الإسلاميّة، وأساليبها الجوهريّة.

نأمل أن تحظى الطبعة الجديدة لهذا الكتاب مع ما حصل فيه من تعديلات باهتمام القرّاء والراغبين، وأن ينظر إليه المتخصصون في الدراسات الإسلاميّة، وروّاد التربية والتعليم كخطوة أُولى على الدرب، مُحفِّزاً إيّاهم على دراسات أكثر في رحاب هذا الموضوع.

علي شريعتمداري

تشرين الأوّل ١٩٨٥

١٠

الثورة الثقافيّة والتعليميّة

١١

١٢

الثورة الثقافية والتعليمية

اقترح علينا بعض الأصدقاء: أن ندلي بحديث حول الثورة الثقافية والثورة التعليمية. ونزولاً عند رغباتهم فإنّا نتكلّم بإيجاز عن الثورة الثقافية، وضرورة إحداث تطوير في النظام التعليمي، رغم المشاغل الكثيرة في المجلس الأعلى للثورة الثقافية(١) .

الثقافة

تطرّقتُ إلى موضوع الثقافة وإشاراتها التربويّة في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم) الذي تكفلت جامعة شيراز بطبعه وإصداره لأوّل مرّة عام ١٩٦١م (من الصفحة التاسعة حتى الصفحة الثامنة والثلاثين). ولا أرى ضرورة لنقل مواضيع ذلك الكتاب في هذا التمهيد، إلاّ أنّ الإشارة إلى بعض النقاط من ذلك الكتاب تبدو مفيدة.

ورد معنى الثقافة في الكتاب المذكور على أنّها مجموعة أساليب الحياة. ومعنى الأساليب: الكيفيات، والطرق المتنوّعة، التي ينهجها أفراد المجتمع في كافّة شؤون حياتهم الجماعية. فطرق وكيفيات: طهو الطعام، وارتداء الملابس، والتربية

____________________

(١) وهو المجلس الذي أسّسه الإمام الخميني (رضي الله عنه) سنة ١٣٩٩هـ - ١٩٨٠م لأسلمة الجامعات والتعليم العالي، ويضمّ علماء وأساتذة كبار.

١٣

والإعداد، والزراعة، والإنتاج الصناعي، والحُكم، والتعليم، والتفكير، وتجسيد الأفكار والتصورات في النتاجات الفنيّة، والعبادة، ونظائرها، كلّها تُكوِّن ثقافة المجتمع.

وقد جاء في قسم آخر من الكتاب، أنّ الثقافة: هي مجموعة الأشياء التي تدرَّج الإنسان في تعلّمها، وإبداعها، وإدراكها.

وبلغ الجانب الثقافي في حياة الإنسان درجة من القوّة، جعل البعض يعرِّفون الإنسان على أنّه: حيوان ثقافي. ويرى أحدالعلماء أنّ عناصر الثقافة هي:

١- الوسائل والأساليب.

٢- النَظم الإجتماعي وأجهزته.

٣- القيم والـمُثُل أو المعتقدات.

ويعتقد بعض العلماء أنّ الثقافة تتكوّن من ثلاثة عناصر هي:

١-العناصر العامّة: وهي الأُمور المشتركة، أو العامّة بين أفراد المجتمع.

٢-العناصر الاختصاصيّة: وهي الأعمال الّتي تبرز في سلوك ذوي الاختصاص.

٣-العناصر الإبداعيّة: وهي المستجدات والإبداعات التي تُعرض من قبل شخص واحد، أو أشخاص معدودين تدريجيّاً، ويمكن أن تطوِّر من نمط حياة الناس في بعض الشؤون الاجتماعية.

تحقق التربية والتعليم وحدة المجتمع، عن طريق تعزيز العناصر العامة. وتوضع المناهج التعليمية المهنية على مستوى التعليم الثانوي والتعليم العالي، لتكوين العناصر الاختصاصية. ويؤدّي تشجيع الأفراد على التفكير الحر في حقول مختلفة إلى بروز العناصر الإبداعيّة.

ينبغي الالتفات إلى دور العلوم والتكنولوجيا في مجال التطورات الثقافية، وقد تحدّثتُ حول هذا الموضوع بإسهاب في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم) أيضاً.

١٤

التربية والتعليم والتراث الثقافي

تقع على عاتق المراكز التعليمية والتربوية ثلاثة واجبات مهمّة إزاء التراث الثقافي، وهي:

١- التعريف بالتراث الثقافي ونقله.

٢- تقويم التراث الثقافي.

٣- توسيع التراث الثقافي.

الثقافة الإسلاميّة

إنّ الإسلام - بوصفه الدين الوحيد الذي يتجاوب مع جميع شؤون الحياة الإنسانية - غني بثقافته الثريّة المعطاء، التي تستمد وجودها من الوحي، والتعاليم السماوية. وكان للثقافة الإسلامية دورها في إيران، منذ أشرقت أرضها بنور الإسلام الذي لقي ترحيب أهالي فارس واستجابتهم، لِما يتّسم به من مرونة وانفتاح، وهوية جماهيرية، ومنهج متّزن. وكان نفوذه ملحوظاً بشكل واسع في الآداب، والفلسفة، والفنّ، والتقاليد الاجتماعية، وأفكار الناس وعقائدهم. ولم يقف حجر عثرة في طريق سيادة الإسلام على جميع شؤون حياة الناس إلاّ الحكّام المعاندون المتعجرفون. بَيْد أنّ هذه العقبة قد أُزيحت مع انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (رضي الله عنه)، وجهود علماء الدين المناضلين، وأغلبية الشعب الإيراني المسلم، حيث أُطيح بالنظام الملكي الجائر المنبوذ. فإنّ الأوان لانقلاب جذري في ثقافة المجتمع، بالاستلهام من تعاليم الإسلام المفعمة بالحيوية، والرافدة بالحياة في ظل ولاية الفقيه ذات النزعة الإنسانية، التي تمثّل أعلى منصب في النظام الإسلامي. ونجسّد الثقافة الإسلامية - عند طرح المعارف الإسلاميّة وقيمها المعنوية - على أنّها المدافعة عن الحرية، والسيادة الوطنية، والإستقلال، والعدالة، والعلم، والفنّ الأصيل، في جميع ميادين الحياة.

١٥

المساهمة الجماعية في الثورة الثقافيّة

لا تتحقق الثورة الثقافية إلاّ إذا بادر الجميع بتغيير أنفسهم ومجتمعهم، قال تعالى:( .. إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. ) ، (الرعد: ١١)، ويؤدّي: المسجد، والمدرسة، والمذياع، والتلفاز، والصحف، والمجلاّت، والعاملون في الحقل الإذاعي والتلفزيوني، والكتّاب، وكافة شرائح المجتمع دوراً مهمّاً في تحقيق الثورة الثقافية. وكذلك الحوزات العلميّة، لاسيّما العاملون في ميدان التبليغ، فإنّ لهم دوراً خطيراً في تحقيق الثورة الثقافية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وفي أرجاء البلاد كافّة.

وفي عقيدتي، فإنّ على أساتذة الحوزات العلمية المحترمين، وأساتذة الجامعات، والمعلمين الرساليين، والفنانين، والكتّاب، والإذاعيين، ومسؤولي الإذاعة والتلفزيون، وبقيّة وسائل الإعلام أن يتعاونوا مع المجلس الأعلى للثورة الثقافية في التخطيط لتحقيق الثورة الثقافية. ويمكن لممثّلي الأحزاب والمنظّمات المختلفة أن يشاركوا في الجلسات الّتي تُعقد لهذا الغرض، فيتدارسوا الأهداف المعيّنة للثورة الثقافية، والأساليب والمحتويات، ليخطوا بذلك خطوات ناجعة في تحقيق الثورة الثقافية، من خلال طرح الإقتراحات المفيدة حول البرامج الأساسية.

الثورة التعليميّة

تقع على عاتق المراكز التعليميّة، مثل: المدارس الابتدائية، والمتوسطة، والإعداديّة، والجامعة مسؤولية التعريف بالتراث الثقافي للمجتمع، ونقله كما نوّهنا بذلك سالفاً. ولو تحرّرت هذه المراكز من قالب ضخ المواد العلمية والأدبية في ذهن الطلاب، وأصبحت المدارس والجامعات مرآة تعكس الوجه الناصع للثقافة الإسلامية، فسوف نلمس تطورات جوهرية في النظام التعليمي برُمّته، كما سنشاهد بصمات التغيير مطبوعة على محفّزات الدراسة، والأهداف التربوية، وطرق

١٦

التدريس، والمخططات والمناهج التعليمية، والعلاقات بين المعلّم والطالب، وعلاقات المدرسة والمجتمع، وكيفيّة إدارة المؤسسات التربوية، مستلهمين ذلك من القيم والمُثُل الإسلامية. وعندها سيهفو طالب العلم نحو العلم تقرّباً إلى الله (عزّ وجل)، وإشباعاً لغريزة حب الاستطلاع، وتحقيقاً لمعرفة أفضل لنفسه، وبني جنسه، ولما يدور حوله في العالم.

وعندما تضع الأهداف التربوية عملية التعليم في نهجها الأساس المرسوم لها، ومفرداته مثلاً: استيعاب المفاهيم، والنظريات، والمبادئ، والقوانين، وما سواها، فسوف ينظر إليها بصورة جديّة بصفتها فريضة دينيّة، وسيقوم المعلّم والطالب بالسّعي، وبذل الجهود، في هذا السبيل بكلِّ صدق وإخلاص، وستتحرّر طُرق التدريس - على أساس القرآن والسنّة النبويّة وهدى الأئمّة المعصومين - من رِبقة التسلُّط والتلقين، والتبجّح بالعلم، والتظاهر بالفضل؛ لتتبلور في قالب الهداية والبحث والتعقّل. وستوضع المناهج الدراسية وفقاً لحاجات الفرد والمجتمع، مع الأخذ بنظر الاعتبار أُسس كل فرع دراسي ومبادئه، وستنعتق علاقات المعلّم والطالب من شكلها القائم، حيث تتّسم بروح عدائيّة غالباً، لتصبح مثل علاقات الوالد بولده، أو علاقات شخصين يعملان معاًَ لبلوغ هدف مشترك ومقدّس في نفس الوقت. وسينظر المجتمع إلى المدرسة على أنّها جزء منه، وسترى المدرسة نفسها مسؤولة أمام المجتمع. وفي ضوء هذه الرؤية، فإنّ الهُوّة الموجودة بين المدرسة والمجتمع سوف تُردم. وستُدار المدرسة بمساهمة أفراد المجتمع، فتكون إحدى المؤسّسات الاجتماعية التي تتحمّل رسالة تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع.

وهناك مسائل متنوّعة في قضيّة التعليم بمستوياته المختلفة، علينا أن نناقشها بإيجاز.

١٧

المسألة الأساسيّة في التربية والتعليم

إنّ المسألة الأساسية في التربية والتعليم - حسب رأينا - هي التعامل بجديّة مع قضيّة التربية والتعليم. لقد كانت الأُسر ترسل أبناءها إلى المدارس؛ لكي لا تبقى متخلّفةً عن ركب الآخرين، أو لأجل أن ينشغلوا بالدراسة، أو يتعلّموا من المدارس شيئاً ما. وفي المقابل كانت المدارس تحثّ خرّيجيها، ممّن أكملوا مرحلة الإعدادية، أو مرحلة أعلى منها، فأصبحت لديهم حصيلة علميّة معيّنة على التدريس. فعمل المعلّم يتجلّى في نقل ما عنده من معلومات إلى طلاّبه، ولم ينظر إلى طريقة النقل، أو كيفيّة التعلّم بعين الأهميّة، علماً أنّ هذا الوضع كان سائداً في مختلف المراحل الدراسيّة. أمّا الآن فلابد من إحداث تبديل في هذا النمط القائم. وعلى الوالدين أن يرسلا ولدهما إلى المدرسة؛ لتربيته، وإعداده. وعملُ المعلّم هو تربية الطالب، وتطوير سلوكه. وينبغي أن يُمارَس التعليم بشكل علمي، ويُنظر إليه - في نفس الوقت - كوسيلة للتربية والإعداد. ويجب إعداد المعلّم لممارسة مهنته المقدّسة، حتى يتمكن من أداء رسالته التربوية، ولا تتحقّق التغييرات اللاّزمة في إعداد المعلّم إلاّ اذا تعامل ذوو العلاقة مع مسألة التربية والتعليم بجدّية فائقة.

الالتزام والاختصاص

يدور الحديث في بعض الأوساط اليوم حول الالتزام الديني، والاختصاص في الفروع العلمية المختلفة. وبالرغم من أنّ الخوض في هذا الموضوع هو لتبرير ما تمّ إنجازه، بيدَ أنّ الاهتمام بهذين الجانبين يبدو ضرورياً لأسباب مختلفة. وعندما نتحدّث عن الالتزام الديني، فينبغي أن نضع في حسابنا شخصاً لا ينطق إلاّ بالحق، ولا يسلك إلاّ سبيل الحق، يسحق ذاته وهواه، ويمارس أعماله وفق الموازين الإسلاميّة بعد تعرّفه عليها. وليس لأحدٍ أن يعتبر نفسه ملتزماً إذا راعى بعض

١٨

الموازين، وأهمل بعضها الآخر.

وأمّا الاختصاص، فيجب تحديده أيضاً، فمن الذي نسمّيه مختصّاً؟ هل نسمّي الشخص مختصّاً، وهو لم يدرس في فرع من الفروع، كما ليس له أيّة حصيلة أساسيّة في ذلك الفرع؟ فالإشكال الجوهري يكمن في غموض المفهوم الحقيقي للإختصاص أو في إهماله. وما أكثر الأشخاص الذين يعدّون أنفسهم مختصّين في علم النفس، والفلسفة، والتربية والتعليم، والإقتصاد، وعلم الاجتماع، والحقوق، والآداب، وغيرها من الفروع، في حين لا هم أصحاب تحصيل دراسي منظّم في هذه الفروع، ولا هم من ذوي المعرفة بأساس هذه الفروع ومبادئها.

لا ريب إنّنا نحتاج إلى أشخاص ملتزمين ومختصّين في عملية بناء المجتمع، فلا الشخص الملتزم وحده يستطيع علاج المسائل التخصصية، ولا المختص غير الملتزم يرى نفسه مُلزماً في علاج المسائل الاجتماعية، لذلك ينبغي مراعاة الدقة الكافية في تحديد مصداق الملتزم والمختص.

إنّ التربية والتعليم من الفروع التي يرى كثير من العلماء، والكتّاب، والأساتذة، والسياسيّين والمعلّمين أنفسهم مختصّين فيهما؛ بيد أنّ وقفة قصيرة في ميدان المسائل التربوية تكشف لنا أنّ هؤلاء المذكورين ليس لهم أدنى اطّلاع على مبادئ التربية والتعليم وأُسسهما.

نحن نحتاج إلى الأشخاص المختصّين، في عملية التربية والتعليم، فالتعليم الابتدائي والتعليم الثانوي، والإدارة التعليمية، وتأليف المناهج الدارسية، والتخطيط للعملية التعليمية، وإعداد المعلمين، و...، كلّها امور تخصّصية. وما لم يتلقَّ الإنسان التعليم العالي، فليس في مقدوره الخوض في فلسفة التخطيط والإدارة الجامعية، وهدفهما، وسبكهما، ومحتواهما، وكيفيّتهما.

وفي ضوء ما تقدّم، لابد من تكريس الجهود للإستفادة من وجود المختص الملتزم، لإحداث تطوّرات جذريّة في النظام التعليمي القائم في بلادنا. وفيما يلي

١٩

نستعرض قسماً من المسائل التعليميّة بإيجاز:

التعليم ماقبل المرحلة الابتدائية

يجب أن يجتمع فريق يتكوّن من الكتّاب المسلمين، وعلماء النفس، والمربّين، وعلماء الاجتماع، والملمّين بالثقافة الإسلامية لاتّخاذ ما يلزم في شأن البرمجة، والتخطيط، وانتخاب المواد، أو محتوى التعليم وشكله في هذه المرحلة.

التعليم الابتدائي

ينبغي تقويم مدّة الدراسة في هذه المرحلة، فالمرحلة ذات السنوات الست، تمثّل متوسّط النموّ، وتعكس فترة المراهقة، ولم يقدّم دليل على تقليص هذه المرحلة إلى خمس سنوات من ناحية النموّ والتربية.

التخطيط في المرحلة الابتدائية

يجب أن يساهم المتخصّصون في التعليم الابتدائي، والمعلّمون، المتخصّصون في الفروع العلمية والأدبية والتاريخية، ومعهم الكتّاب من أصحاب الكلمة المسؤولة، وعلماء الاجتماع الواعون، يؤازرهم المتخصّصون في الثقافة الإسلامية، في التخطيط لعمليّة التعليم في المرحلة الابتدائية. ولاريب في ضرورة مساهمة علماء النفس المتخصّصون في التربية والتعليم في هذه العملية.

التخطيط في المرحلة المتوسّطة

تحظى هذه المرحلة بأهميّة خاصّة، بوصفها مرحلة التعليم العام. وتشكّل الحاجات النفسيّة، والاجتماعية، والمهنيّة، والعلميّة أساس المنهج التعليمي في هذه المرحلة. وينبغي أن تندمج هذه المرحلة بمرحلة التعليم الثانوي أو الإعدادي،

٢٠

لأنّ توسيع منهج التعليم العام طيلة المرحلة الثانوية، واحتمال حدوث تبديل في البرامج المهنيّة والعلميّة، سيكون ميسّراً للطلاّب عند الاندماج. ولابد من الاستعانة بالمتخصّصين في التعليم الثانوي، والأخصائيّين في الفروع الدراسية، والأخصائيّين في الثقافة الإسلامية عند انتخاب المواد، وتحديد محتوى البرنامج التعليمي، وتقديم تعليم يسد الحاجات المهنية والعلمية من جهة، والحاجات العامّة من جهة أُخرى.

التعليم الثانوي

يجب أن يخضع مستوى التعليم الثانوي للتبديل والتغيير أكثر من المستويات الأُخرى، فليس هناك أساس منطقي لتعليمنا الثانوي. وتكمن فلسفة التعليم الثانوي في إعداد الطلاّب لدخول الجامعة. وهناك ملاحظات جديرة بالاهتمام في هذا الصدد.

أوّلاً: لا يجد جميع خرّيجي الإعدادية طريقهم إلى الجامعة مباشرة في أيّ قطر من أقطارالعالم.

ثانياً: لا يرى أيّ مجتمع من المجتمعات حاجة في إرسال خرّيجي الإعدادية كافّة إلى الجامعة، سواء من ناحية توسيع التعليم العام، أو من ناحية تربية الطاقة البشريّة. وفي بعض البلدان، مثل: انجلترا يُعد فقط ما يقارب 8% من الخرّيجين أنفسهم لدخول الجامعة.

ثالثاً: في بلادنا، ولا سيّما في السنين الأخيرة، فإنّ أقلّ من عُشر المتقدّمين إلى الجامعات دائماً، كانت تتاح لهم فرصة الدراسة في مراكز التعليم العالي. بكلمة بديلة، لا تستقبل الجامعات أكثر من سبعة أو ثمانية بالمائة من المتقدّمين. وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كثيراً من الطلاب الجامعيين كانوا يواصلون دراساتهم في فروع لا يمارسون فيها اختصاصاتهم بعد التخرّج.

٢١

رابعاً: وتتعلّق هذه الملاحظة بتبديل برنامج التعليم الثانوي، من حيث الشكل والمحتوى.

وهنا يجب أن ننظر: هل إنّ المجتمع يحتاج إلى خدمات، يمكن بواسطتها إعداد الطلاّب في المرحلة الإعداديّة، لتقديم تلك الخدمات. فما استفدناه من استشارة ذوي الاختصاص، هو: إمكانيّة تقديم خدمات من قبل خرّيجي الإعداديّات في المجالات الصحيّة، والفنيّة، والزراعيّة، والتجارية.

فينبغي تحديد مثل هذه الخدمات من خلال دراسة دقيقة، لتشكل أساس البرامج التعليميّة. وفي مثل هذه الحالة، لعلّ أكثر من ستّين بالمائة من خرّيجي الإعداديّة يدخلون ميدان العمل بعد التخرّج مباشرة، ويذهب عدد منهم إلى الجامعة لتأمين الطاقة البشرية التي يحتاجها المجتمع، ويعمل بعضهم في السلك العسكري، وفي إدارات مؤسّسات أُخرى.

وفي العصر الحاضر يمكن إعداد طلاّب السنة الأخيرة في المرحلة الإعداديّة، لدخول ميدان العمل وتقديم الخدمات اللاّزمة، من خلال إحداث تبديلات عاجلة في المنهج التعليمي للسنة الأخيرة من مرحلة الإعداديّة، والإستعانة بالطاقات الموجودة في المراكز الصحيّة، ودوائر الزراعة، والمكاتب الفنيّة، وكذلك الإستفادة من الإمكانيّات المتوفّرة في المؤسّسات الحكومية والخاصة.

التعليم العالي

لابد للتعليم العالي أن يأخذ بنظر الإعتبار أنّ عليه أن يحقِّق هدفين جوهريين هما: تقديم الخدمات، وتوسيع رقعة الفروع العلميّة، عن طريق البحث والتنقيب.

تحدّثنا سابقاً عن أهداف التعليم العالي في مقالة أُعدّت في شهر مايس، سنة 1968م، وُطبعت في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم)، ثمّ طُبعت مرّة أُخرى في رسالة حملت عنوان (رسالة الجامعة والتزام الجامعي). وهذه الأهداف هي:

٢٢

1- رعاية السنن العلميّة وحفظها.

2- إعداد المتخصّصين.

3- التربية العامّة.

4- توسيع التراث الثقافي.

5- تأسيس المراكز التخصصيّة(1) .

6- علاج المسائل الاجتماعية.

7- إعداد المعلّمين.

وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أصبحت الجامعة مُلزمة بتكييف وجودها مع هذه الثورة، أُسوةً ببقيّة الدوائر والمؤسّسات؛ وذلك لتؤدي رسالتها في توطيد أركان النظام الإسلامي، وتحقيق الأهداف المذكورة.

إنّ على الذين تذمّروا من تعطيل الجامعات أن ينظروا، هل أنّ الجامعة أفلحت في أداء رسالتها أم لا؟ هل إنّ التعليم في جامعاتنا كان يجري بشكل أساسٍ وجوهري؟ هل كان الأساتذة المحترمون ملمّين بمبادئ التربية والتعليم؟ هل وُضعت المناهج الدراسيّة وفقاً للأُسس العلميّة لكلّ فرع، وتلبيةً للحاجات الاجتماعية؟ هل كُنّا نراعي السنن العلمية في تدريسنا وتحقيقنا؟ هل كان الهدف من إعداد المختصين هو تأمين الطاقة البشريّة للمجتمع؟ هل كان الأطبّاء، والمهندسون، المتخصّصون في الحقل الزراعي يبادرون إلى علاج مشاكل أغلبيّة الناس؟. يقال إنَّ أربعين بالمائة من أطبّائنا كانوا يقيمون في طهران، فهل إنّ هذا العدد يعمل لصالح ستّة ملايين نسمة يعيشون في طهران، أو أنّه يعمل لصالح شريحة معيّنة؟ ألا يجب على كليّة الطب أن تعد طبيباً يعالج أغلبيّة أبناء هذا الشعب، أعني: أبناء النواحي والأرياف؟ فهل أدّت كليّات الطب لحدّ الآن دورها في هذا المجال؟.

____________________

(1) ورد في المصدر الذي يشير إليه الكاتب (تأسيس المراكز التحقيقية).

٢٣

فما ينتظره المجتمع - إذاً - من الجامعات بعد استقرار النظام الإسلامي يتلخص فيمايلي: ينتظرالمجتمع من الطالب المسلم أن يكون حافزه الأساس من دراسته في الجامعات هو التقرّب إلى الله، وخدمة عباده، بديلاً عن الحوافز الشخصيّة، والماديّة. وهذا لايعني - بالطبع - أن يقدّم الطبيب، أو المهندس، أو القاضي خدماتهم اللاّزمة، وهم يتضوّرون جوعاً. فممّا لا ريب فيه هو أنّ كلّ فريق من أرباب هذه المهن لابد له أن يتمتّع ببعض الامتيازات الماديّة متناسباً مع وضعه، ووضع أرباب المهن الأُخرى في المجتمع الإسلامي.

وينتظر المجتمع من الطالب غير المسلم أن يكون مع النظام الإسلامي بكلّ صدق وإخلاص، وأن يقدِّم خدماته للناس في مجال اختصاصه من خلال شعوره بالالتزام، والمسؤوليّة، أمام المجتمع، وتحلّيه بالمعايير الأخلاقيّة السليمة.

وينتظر المجتمع من الجامعيّين أن يجعلوا من الجامعة مركزاً للتعليم الحقيقي، والبحث والتنقيب المهمَّين. ولابد للأُستاذ أن يكون مُلمّاً بمبادئ التعليم، ويعمل على تصعيد مستواه العلمي ومستويات الآخرين.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للبحث والتحقيق. وليس التحقيق من أجل إعداد مقالة في صفحات معدودة بهدف نيل درجة أُستاذ مساعد، أو أُستاذ؛ إنّما التحقيق من أجل توسيع نطاق الاختصاص، وإضافة معلومات جديدة إلى المعلومات السابقة. وفي هذا المجال وحده يتحقّق الاستقلال العلمي للجامعات. مضافاً إلى أنّ البحث والتحقيق يجب أن يتركزا على المسائل الداخليّة للبلاد. يقول الإمام الخميني (رحمه الله) في إحدى خطاباته: (إنّ معلّمي مدارسنا ليسوا إسلاميّين بشكلٍ عام، إذ لم تكن التربية إلى جانب التعليم في يوم من الأيّام. لذلك لم تخرِّج جامعاتنا إنساناً ملتزماً، ومتحمساً لخدمة بلاده، لا تهمّه مصلحته الشخصية.. فليس عندنا خرّيج جامعيّ يحمل هذه المواصفات).

٢٤

هل إنّ التربية - كمهمّة جوهريّة لجامعاتنا - متحقّقة في الجامعات؟ فمعظم عملنا يتركّز على تصعيد مستوى الطلاّب في مجال الحفظ، ويندر أن يتركّز على تصعيد مستواهم في المجال العلمي. والشيء الذي لا ننظر إليه بعين الاهتمام والأهميّة هو التربية.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للتفكير الحر، وتلاقح الآراء، وتبادل وجهات النظر. بيد أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هي أَنّ التفكير الحر يتناقض مع التعصب، كما لا يتّفق مع السباب والشتم، ومهاجمة الآخرين، وانتقاصهم، وكذلك فهو يتعارض مع تشويه الحقائق. وقد ذُكرت أُسس التفكير والتفكير الحر في الإسلام، من خلال عدد من الآيات القرآنيّة، مثل قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، (الإسراء: 36)، وقوله تعالى:( لاإكْراه في الدِّين ) ، (البقرة: 256)، وقوله تعالى:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: 17 - 18)، وقوله تعالى:( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

فلا إشكال عندنا على تحقيق حريّة النقاش، بل إنّ اشكالنا على النقاش ذاته. بعبارة أُخرى، نحن من أهل النقاش والتحقيق والتفكير، بل ولا نخشى التفكير. يقول الإمام الخمينيّ (رحمه الله) في هذا المجال:

(نحن لا نريد أن نقول: بأنّ العلوم قسمان، كما يناقش بعضهم في ذلك عمداً، أو جهلاً، بل نريد أن نقول: إِنّه لا وجود للأخلاق والتربية الإسلاميّة في جامعاتنا، ولو كانت موجودة، لما أضحتْ ميداناً للمنازلات العقائديّة المضرّة لبلادنا).

إعداد المعلّمين

إنّ إعداد المعلمين هو إحدى الحاجات الجوهرية للمجتمع. وكما أُقترح سالفاً، فبسبب اتّساع المعلومات البشريّة، ونظراً لأهميّة التعليم الابتدائي، وإشباعاً لغريزة

٢٥

حب الاستطلاع عند الناشئة والأحداث، وتربيةً لعنصر الإبداع فيهم، لذلك يجب العمل على تصعيد المستوى العلمي لمعلّمي المرحلة المتوسّطة، ومدرّسي المرحلة الإعداديّة، حتى درجة البكالوريوس.

وينبغي أن يكون المعلّم - في أيّ مستوىً كان - مُلمّاً بمبادئ التربية والتعليم، وعلم النفس، ومطّلعاً على الثقافة والمعارف الإسلامية، ومتضلّعاً في الفروع الدراسية، وله ثقافة ومعلومات عامّة. فالتركيز على هذه الأركان الأربعة الأساسيّة في البرنامج التعليمي لإعداد المعلمين، يجعل مسألة تصعيد المستوى العلمي لهم حتى درجة (البكالوريوس) ضروريّة.

وفي عقيدتي، فإنّ القسط الأكبر من النشاطات الجامعيّة في: العلوم، والآداب، والعلوم الإنسانية، والإدارة التجارية يجب أن يتركز على إعداد المعلمين؛ وذلك نظراً لدور الجامعات في تأمين حاجات البلاد، وإدراكاً لهذه الحقيقة القائلة: بأنّ تربية الطالب الجامعي بمستوى الظروف المعاصرة وفي بعض الفروع، يسفر عن: تضييع وقت الطالب والأُستاذ، وتبديد المبالغ الطائلة من خزينة الدولة. وتبقى نسبة ضئيلة تكرَّس للطلاّب الراغبين في البحث والتحقيق، ومواصلة الدراسات العليا.

وفي هذا الإطار، فإنّ على الجامعيين التعاون الوثيق المتواصل مع المعلمين والمدرّسين في التخطيط التعليمي، ووضع المناهج الدراسية، وإعداد الإداريّين، وكذلك في توسيع الإمكانيّات التعليميّة.

٢٦

خاصّيّتان أساسيّتان للإنسان

٢٧

٢٨

خاصّيتان أساسيّتان للإنسان

من الخصائص الأساسيّة للإنسان: وعيه لسلوكه، ووجود القوة المفكِّرة لديه. فيمكن للإنسان أن يكون واعياً لسلوكه(1) ، ويستعين بالقوة المفكِّرة المودعة عنده، لدى مواجهته للمسائل والقضايا المختلفة(2) . وينبغي أن ننتبه أنّ الإنسان لا يعي ما يقوم به من أعمال دائماً. بكلمة بديلة، فقد ينهج الإنسان سلوكاً معيناً، بيد أنّه لا يدرك دوافع هذا السلوك وأهدافه.

ولا يستعمل الإنسان قوّته المفكرة بصورة دائمة عند مواجهته لمختلف المسائل. فتجده أحياناً يُقلّد تقليداً أعمى، أو يندفع اندفاعاً طائشاً بدل أن يُعمل فكره. وكما نعلم، فإنّ سلوك الإنسان ليس على وتيرة واحدة، فتارةً يظهر سلوكه على شكل ردود فعل انعكاسيّة، وأُخرى يكون نتيجةً لنموّه وتكامله، وفي بعض المواطن لا يخلو أن ينشأ من التعليم.

ولسلوك الإنسان شكل خاص في المجال الاجتماعي أيضاً، فما يتعلّمه الإنسان من الجماعة ينعكس على سلوكه بأشكال مختلفة. فالتكلّم والتوافق الإجتماعي، والتعاون مع الآخرين، والتكييف والإنسجام، والتعارض، والتشابه، وأمثال هذه الأشياء تُكون الشكل الاجتماعي لسلوك الإنسان. ويراعي الإنسان تقاليد معيّنة

____________________

(1) قال تعالى:( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: 14).

(2) قال الإمام عليعليه‌السلام :«لا يُستعان على الدهرِ إلاّ بالعقل» .

٢٩

في شرائح شتّى. ويبدو في السلوك الاجتماعي نوع من الجبر، واللاّشعور. بعبارة أُخرى، يرى الإنسان نفسه مجبراً على اتّباع تقاليد معيّنة، يغلب فيها عدم شعوره بما يفعل، هذا مع أنّه يمكن أن يكون شاعراً بجميع ما يقوم به. فمثلاً عندما تحضرون مجلس فاتحة، فإنّكم على علم - سابقاً - بأنّ عليكم مراعاة الصمت والهدوء، فتحاولون المحافظة على هذا التقليد.

بصورة عامّة، يتسنّى للإنسان أن يدرك جميع ما يفعله تدريجاً، وهذا الإدراك أمارة من أمارات نموّ شخصيّته.

من جهة أُخرى، فإنّ حياة الإنسان محفوفة بمشاكل كثيرة، ومواجهة هذه المشاكل تُنمِّي في الإنسان القابليّة على التفكير. أمّا الإنسان - كما ذكرنا سالفاً - فإنّه لا يستعمل قوّته المفكِّرة العاقلة دائماً. وفي نفس الوقت، فإنّه يطمح إلى أن يحكم سيطرته على بيئته، ويرقب ظروفه الحياتيّة. فالسيطرة على البيئة تتطلّب منه إدراكاً ووعياً لما يجري فيها، وفي هذا الإطار، كما قلنا،فإنّ علاج المشاكل لا يتيسّر إلاّ عن طريق القوّة المفكِّرة، لذلك فإنّ الإنسان مجبر على استعمال فكره من أجل مواصلة حياته.

إنّ حافز الإنسان في التعرّف على بيئته، ورغبته في الإلمام بما يدور فيها، وكذلك تأمين الحاجات الأساسية، ومساعدة البيئة على الحياة، كلّ ذلك يُرْغم الإنسان على الجِد والسعي والاهتمام. وفي هذا المضمار، استطاع الإنسان أن يعالج بعض مشاكله بمساعدة فكره. وفي خِضَمّ علاج المشاكل، أصبحت نشاطات الإنسان في قالب العلم، والفن، والفلسفة، والآداب والتقاليد.

وإذا أخرجنا عمليّة التربية والتعليم من نطاق الدرس، والكتاب، والمعلّم، والطالب، ونظرنا إليها عمليّة يروم فيها الجيل الأكبر أن يوسِّع من دائرة وعي الجيل الأصغر، في مجالات: معرفة الكون، معرفة الإنسان، الظروف الاقتصادية والسياسيّة، والتقدّم والتطوّر. وعملية تُعِد الإنسان لمواجهة مسائل الحياة عن طريق تربية قدرة

٣٠

التفكير فيه، حينئذ تصبح هذه العملية أهم نشاط من نشاطات الإنسان. إنّ النُظُم ذات الجانب التربوي، سواء تلك التي تُعنى بالمسائل التربويّة الخاصّة، أو التي تهتمّ بحياة الإنسان عموماً لا تؤثِّر في نموّ الإنسان، وتطوّره، إلاّ اذا ركّزت على تربية قوّة التفكير، والوعي فيه، ونظرت إليه على أنّه في تطوّر وتكامل متواصلين.

مقارنة الإسلام مع النُظُم القائمة في الشرق والغرب

إنّ بعض النُظُم الفكرية، مع أنّها تُولي أهمية لعلاقات الإنسان مع الكون، ومع بني جنسه، وتتّخذ من هذه العلاقات ركيزةً لمبادئها وأُسسها، بَيْدَ أنّها تقوِّم الإنسان، سواء في حياته الفردية، أو الاجتماعية، على أنّه نتاج بيئته، ولا تُؤْمن بأيّ دور لوعيه في النموّ والتطوّر.

وهذا خلل، كما أنّ - هناك - خللاً آخر في تلك النُظُم، وهو قصور نظرتها في موقفها من المسائل المختلفة، وقد ينعكس هذا التصور في فهمها لماهيّة الإنسان وهويّته. إنّها لا تأخذ في حسابها الجوانب المختلفة في شخصيّة الإنسان، حيث يرى بعضها أنّ الجانب البيولوجي، أو الفسيولوجي، هو محور سلوك الإنسان، في حين يرى بعضها الآخر أنّ الجانب الاجتماعي هو المحور. فكلاهما يقيِّد الإنسان في نطاق النشاطات البدنية، أو الاجتماعية، ويصادر قدرته الروحية في موقفه من المسائل المختلفة. فأنصار الجانب البيولوجي، يضعون الإنسان في مصاف الحيوانات - على نحو الإرغام - ويستعينون بمشاهداتهم لسلوك الحيوانات، من أجل شرح سلوكه، وتبيانه. أمّا أنصار الجانب الاجتماعي، فيحصرون دائرة نشاطه في المجال الاجتماعي، إذ يرَوْن سلوكه انعكاساً لما يتعلّمه من المجتمع، غافلين عن أنّ الإنسان عضو يعيش في الجماعة، والحياة الجماعية لا تسلب منه شخصيّته الفردية واستقلاله. إنّ كلا الفريقين ينكر جانب الإبداع الكامن في الإنسان، أو أنّهما يتعثّران عند الحديث حول هذا الجانب، وكذلك يُلغِيان دور الإنسان في توجيه نفسه وإرشادها.

٣١

وترى بعضُ النُظُم أنَّ الجانب المادّي في حياة الإنسان يقع في الدرجة الأُولى من حيث الأهميّة، وترى نظُم أخرى أنّ الجانب المعنوي هو الأهم.

في الحقل الاجتماعي، تؤمن بعض المجتمعات الغربيّة - كما يبدو - بأنّ الحريّة، و(الديمقراطيّة)، والحقوق الفرديّة تُمثِّل القيم الأساسية في قاموسها. أمّا المجتمعات الشيوعيّة، فترى بأنّ الهدف الأصلي من الحياة الجماعية هو: العدالة الاجتماعية مع ضمان الإمكانيات الماديّة للجميع، وإنهاء الإستغلال الذي يصبّ في صالح طبقة على حساب طبقة أُخرى.

وفي خِضَمّ هذه التوجّهات، نلتقي فريقاً ينظر بعين الأهميّة إلى الأفراد بصفة أنّهم أفراد، مُلغياً تأثير الجوانب الاجتماعية على حياتهم. فالتربية في قاموس هذا الفريق هي: ذات جانب فردي، ويتصوّر أتباع هذا الفريق بأنّ الأفراد لو تربّوا تربية سليمة، وتخرّجوا منها صالحين، فإنّ المجتمع سوف يتحسّن اوتوماتيكيّاً. ولا يعتقد هؤلاء بقيمة الحياة الجماعية وأهميّتها، كما لا يدركون الحقيقة القائلة بأنّ نموّ الفرد في المجالات المختلفة لا يتيسّر إلاّ من خلال الحياة الجماعيّة.

بكلمة بديلة، إنّ نموّ الفرد في مجال العقل والعاطفة والبدن تابع للحياة الجماعيّة إلى حدّ كبير. وكما مرّ بنا، فإنّ التطرّف في تأثير الحياة الجماعيّة ليس منطقيّاً كالتطرّف في الشخصيّة الفرديّة للإنسان. فلو كان الإنسان نتاج بيئته ومجتمعه، وأنّ الظروف هي التي تمنح سلوكه وشخصيّته قالباً خاصّاً، فما هو دور التربية والتعليم إذَن؟ ولو كان سلوك الفرد خاضعاً للظروف الاجتماعية، فكيف نُبرّر توقّعاتنا من الأفراد؟

إنّ اموراً من نحو الحريّة، والديموقراطيّة، والحقوق الفردية، والعدالة الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الإعتبار الجانب الفردي والاجتماعي، لها شكلها الخاص بها.

وفي المجتمعات الغربيّة ينصبّ الاهتمام - غالباً - على هذه الأمور من خلال

٣٢

التركيز على الجانب الفردي، وعدم تدخّل المجتمع في شؤون الفرد، فالحريّة تعني أنّ في مقدور كل شخص أن يعمل ما يشاء. ويضيفون إلى ذلك شرط عدم إزعاج الآخرين، بيد أنّ ذلك الشرط لايشكّل عائقاً إلى حدٍّ بعيد، لأنّ في مقدور الأشخاص - في مواطن خاصّة - العمل على إشباع ميولهم ورغباتهم دون أن ُيسبّبوا إزعاجاً للآخرين.

يمشي أحدهم بحريّة، ويمارس شخصان الإتصال الجنسي أمام أنظار الآخرين، فالكل أحرار، ويستطيعون القيام بأي عمل تحت غطاء الحريّة. والمتزوّج حر في أن يترك زوجته ويعشق امرأة غيرها، وزوجته - أيضاً - حرّة في أن تعشق رجلاً آخر. فليس من حق المجتمع أن يقف بوجه هذه الممارسات، وذلك لأنّ الناس أحرار، وليس لأحد الحق في أن يحدّ من حريّة الآخرين.

يسود هذا التصوّر عن الديمقراطيّة كثيراً من الأوساط الثقافية في الغرب، حيث يعمل الإنسان ما يشاء تحت لواء الديمقراطية.

وللحقوق الفرديّة أيضاً في المجال الاجتماعي، والنظام الاقتصادي الخاص شكل معيّن. فللمالك الحق في أن يبني علاقاته مع الآخرين كيفما يشاء. ولِربِّ العمل حق استغلال العامل، وليس لأحد أن يطرح حقوق المستضعفين أو الكادحين على بساط البحث. ويبدو أنّ لهؤلاء حقوقاً، بيد أنّ ضمان حقوق أرباب العمل والملاّكين لا يسمح بالحديث عن حقوق المستضعفين، وهنا تفقد العدالة الاجتماعية مفهومها وقيمتها. وبما أنّ الفرد هو المهم، وأنّ المجتمع أو المنظّمات الاجتماعية ليس لها حق التدخّل في شؤون الأفراد، لذلك فإنّ القضاء على الاستغلال يُعدّ تدخّلاً في شؤونهم، وليس له أيّ مبرّر. وفي مجتمع، يحظى فيه الحسُّ الجماعي بأهميّة خاصّة، يكون لمثل هذه الأمور شكل معيّن. وكما نعلم فإنّ الجماعة تُلقي ظلّها على الأفراد في مثل هذه المجتمعات، فالجماعة ومصالحها هي المهمّة، وما على الفرد إلاّ أن يكون تابعاً لها. وفي هذا المجال تُهمل الحريّة والحقوق الفردية، فالفرد ليس حرّاً

٣٣

في إشباع ميوله ورغباته، بل هو محروم من الحريّة حتى في انتخاب النظام الفكري، والتعبير عن رأيه، والخوض في مختلف القضايا، والنقد، ومعارضة الحكومة، وأمور من هذا القبيل، فكلّ شيء في مثل هذا المجتمع تحت ظل الجماعة. ومن الطبيعي فإنّ عمل الجماعة وتشخيص مصالح المجتمع ينحصران بيد فريق معين، أمّا الأَفراد فهم مرغمون على اتّباع هذا الفريق. ففي هذا المجتمع يضمحلّ استقلال الفرد وحريّته وإبداعه.

إنّ المؤسّسات الجماعية ذاتياً تُعتبر مقدّسة وذات قيمة في مثل هذا المجتمع، وما على الأفراد إلاّ تكييف أنفسهم مع هذه المؤسّسات. وهنا يأتي دَور التربية والتعليم، فهو: العمل على تكييف الأفراد مع المؤسّسات الجماعية. وفي مثل هذا الوضع، ما على الأفراد - في أيّ جماعة كانوا - إلاّ أن يستسلموا للوضع القائم، ويواصلوا حياتهم كالأداة الطيّعة، أو ينفصلوا عن الجماعة وعن أفراد آخرين ليعيشوا في وضع متأرجح. وفي الحالة الثانية يكون الأفراد - عادة - غرباء بالنسبة إلى أنفسهم ومجتمعهم، أو أنّهم يشعرون بالغربة. وليس هناك من هدف أو محفِّز قوي يوجّه أعمالهم وممارساتهم. الحياة في قاموسهم عبث وهُراء، وكل شيء - مبدئيّاً - عبث بالنسبة إليهم، كما أنّهم يحسبون أنفسهم ليسوا ذوي شأن أوبال. وتتحقق هذه الحالة لجميع الذين لا يريدون الإستسلام للوضع القائم. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - عاملاً كان أو رئيساً للعمل، وكاتباً كان أو عالماً، ورئيساً كان أو موظّفاً، ومعلماً كان أو طالباً - سيصاب بعدوى هذا الوضع.

والرائع في مثل هذه الظروف هو طرح النظام الفكري للإسلام، فهو - إطلاقاً - لايشبه الأنظمة الأُخرى، هذا من جانب، كما أنّه ليس نظاماً هجيناً ترقيعيّاً من جانب آخر. وهو - بشكل عام - ذو بعد تربوي، ولنظامه التربوي ميزات معيّنة. فلا الفرد وحده هو المحور، ولا المجتمع. الفرد حر، بيد أنّ للحريّة - في قاموسه - معنىً منسجماً مع الحس الإنساني الرفيع، وفي رحاب الحريّة نفسها، يكون الفرد مكلّفاً

٣٤

مسؤولاً. وهو حر في انتخاب عقيدته، وله حق التعبير عن رأيه في شتّى المسائل، ويمكنه أن يستمتع بثمرة عمله وجهده، وتضمن مصالحه المشروعة عندما لا ترتطم مع المصالح الاجتماعية العامّة، وليس في مقدور أيّة سلطة أو جهاز أن يحدّا من سيادته على نفسه في تقرير مصيره.

إنّ الفرد - مضافاً إلى حريّته واختياره - يشعر بالمسؤولية أمام المجتمع في النظام الإسلامي، ولا تنفصل حياته عن حياة المجتمع. بعبارة أُخرى، لا يقف أحدهما مقابل الآخر على نحو التنازع أو التعارض. وتندمج الحقوق والحريّات الفردية مع رفاه الجماعة في النظام الإسلامي، وفي نفس الوقت يضع النظام التوحيدي الفرد والمجتمع على خط التكامل والتطوّر.

يضطلع المجتمع بمهمّات وواجبات معيّنة في النظام التربوي الإسلامي، فهو لا يترك الفرد بدون قيِّم، إنّما يكفل له ضروريّات الحياة، كما يضمن رفاهه، ويهيّئ له مستلزمات رُقيّه وتطوّره.

وفي هذا النظام تُناقَش معرفة الكون مثلما تناقش علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الكون بالله (عزّوجَل).

وفي التربية والتعليم، يدور البحث حول العلم، ويدور حول التفكير في الوقت نفسه. كما يدور حول تربية القدرة العقليّة، وفي الوقت ذاته يدور حول تربية الجانب الاجتماعي في شخصيّة الإنسان. كما يهتم هذا النظام بالحياة المادية والمعنوية على السواء. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّ حريّة الفرد - في هذا النظام - تندمج في رفاه الجماعة. ويدور الحديث فيه حول العدالة، وحول الإيثار ونكران الذات على التوازن. ويُشكِّل العمل وبذل الجهد أساس الملْكية في هذا النظام، بيد أنّ كل شيءٍ يعود إلى الله، ويصب في صالح الرفاه العام. ويتميّز هذا النظام بأنّ مقياس التفاضل فيه هو التقوى. ومن الطريف فيه أنّه لا يقصر مهمّة التربية والتعليم على المعلم أو على الوالدين فقط، بل يجعلها مهمّة جماعية من خلال طرح مبدأ الأمر

٣٥

بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصبح الجميع مربّين بعضهم للبعض الآخر.

وفي هذا النظام يحظى الفرد، والمجتمع، والنوع الإنساني قاطبةً بالعناية والاهتمام، وتتحرّك العلاقات الإنسانية في خط التطوّر متوكئة على النظام التوحيدي. ويكون مثَل الأخلاق التوحيديّة كمثَل المِنوار أو المشعل الكهربي (Projector) إذ ينير جميع شؤون حياة الإنسان.

٣٦

النّظام التّربوي في الإسلام

٣٧

٣٨

النظام التربوي في الإسلام

نتطرق في البداية إلى ذكر خصائص النظام التربوي في الإسلام، ثمّ نعرِّج على مناقشة أهداف هذا النظام وأساليبه ومحتواه.

خصائص النظام التربوي في الإسلام

الأُولى: البُعد الإلهي

التربية الإسلاميّة تربية إلهيّة، وقد ورد في الحديث المشهور، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». والتربية الإِلهيّة - كما جاءت في القرآن الكريم - صالحة للتطبيق بالنسبة إلى جميع أفراد النوع الإنساني، سواء الأنبياء منهم أو الناس العاديّون.

وفيما يلي عدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تخصّ الموضوع، فإلى تلاوتها ودراستها:

قال تعالى:( وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، (البقرة: 31).

وقال (جلّ من قائل):( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ، (العلق: 1 - 5).

ويخبرنا الباري تعالى في الآية الكريمة التالية عن بلوغ الصالحين من أولاد

٣٩

إبراهيم الخليلعليه‌السلام منصب الإمامة، بعد خضوعهم لتربية إلهيّة مركّزة، فيقول:

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الانبياء: 73 - 72) وحول اصطفاء طالوت، يقول (جلّ شأنه):

( .. إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، (البقرة: 247).

وفيما يرتبط بالتربية الإلهيّة التي خصّها الله نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء في القرآن قوله تعالى:

( .. وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عليك عظيماً ) (النساء: 113).

وذُكرت التربية الإلهيّة التي تخصّ العباد في الآيات التي تتحدّث حول المبعث النبوي الشريف، فقال (عزّ من قائل):

( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (آل عمران: 164).

خصائص التربية الإلهيّة

وردت خصائص التربية الإلهيّة في القرآن الكريم، والأخبار والأحاديث، وسيرة المعصومين، والأدعية المأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، على نحو التفصيل. وها نحن نتحدّث بإيجاز عن قسم من هذه الخصائص:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221