التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام0%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدّكتور علي شريعتمداري
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 221
المشاهدات: 153676
تحميل: 7974

توضيحات:

التربية والتعليم في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153676 / تحميل: 7974
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأساسية، يقول الإمامعليه‌السلام : «إن الله - تبارك وتعالى - بشّر أهل العقل والفهم». وفي الآية الكريمة:( فَبَشّرْ عِبَادِ... ) نفس الملاحظة الأساسية التي ذكرناها في العملية التربوية، وهذه الآية تبيّنها بصراحة، يستمع أهل الفهم والعقل أقوالاً متنوّعة فيتّبعون أحسنها.

وفي آيات أُخرى أُثير اهتمام العقلاء بجهاز الخِلْقة في طيّات الحديث عن التوحيد، والقرآن طالما يدعو العقلاءَ إلى التفكّر والتدبّر في الخلْق، كما يُلحظ ذلك في كثير من آياته.

يخاطب الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام هشام بن الحكم كما ورد في (ص24) من الكافي قائلاً:

«يا هشام، إنّ الله تعالى يقول في كتابه:( إنّ في ذلك لذكرى لِمَن كان له قلب.. ) يعني:عقل.

وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) ، قال: الفهم والعقل».

فتكرار الفهم والعقل في الآيات القرآنية، والأخبار، والأحاديث يبيّن أهميّة هذين المفهومين في النظام التربوي الإسلامي، ففي الآية التالية ذُكرت التربية مقرونة مع الحكمة، وتعليم الكتاب، يقول عزّ من قائل:

( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (الجمعة: 2).

ذكرنا في أقسامٍ أُخرى من هذا الكتاب بأنّ الإسلام وضع أساس معرفة الله على التعقل، وهو يرى بأنّ القواعد العقلية مؤثِّرة في تحديد الأحكام والمُثُل الأخلاقية. جاء في الجزء الثالث من كتاب الكافي (ص95) كلام أُثر عن الإمام الرضاعليه‌السلام يقول فيه:

«ليس العبادةُ كثرةَ الصلاة والصوم، إنّما العبادةُ التفكّرُ في أمر الله، عزّ وجل».

وجاء في (ج3 منه، ص50) أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام خاطب المفضّل

١٠١

قائلاً:

«يا مُفضّل، لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم...».

وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) ، (الزخرف: 23).

نلحظ أنّ هذه الآية ذمّت التقليد الأعمى لنهج الآباء والأجداد. ويرى الإمام الصادقعليه‌السلام في الحديث التالي أنّ الأشخاص الذين يقلّدون الفقهاء من غير متابعة لسلوكهم، هم كعوامّ اليهود يستحقّون اللوم والتوبيخ.

(وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك مَنْ يتعصّبون عليه، وإن كان لإصلاح أمره مستحقّاً، وبالترفّق بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً، فمن قلّد مِن عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم) من كتاب (عشر مقالات) (ص93) للأُستاذ الشهيد مطهري.

يدور الحديث هنا حول تقليد الفقهاء. ومع أنّ التقليد في الفروع التّخصّصيّة لكل حقل لا مندوحة منه بالنسبة إلى الأشخاص غير المتخصّصين في عصرنا، بيد أنّ سلوك الفقيه أو المرجع يجب أن يخضع للدقّة والمراقبة، فلو عمل الفقيه خلاف المبادئ والأُصول، أو تعصّب في كلامه وعمله، فلا ينبغي لأحد تقليده. ومن الأخبار الواردة حول الاجتهاد، والتي ذُكرت فيها قضيّة التقليد، هو الحديث التالي:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا».

وقد ذكرنا - فيما مضى - بأنّ الاجتهاد: هو بذل الجهد لاستنباط الأحكام بمساعدة مصادرها الشرعية، وهي: القرآن، والسنّة، والعقل، والإجماع. وكلّ مسلم

١٠٢

يستطيع أن يستنبط الأحكام بعد تعلّم المقدّمات، أو بعد التبحّر في القرآن والسنّة، وعندما يكون عاجزاً عن ذلك، يجب عليه أن يقلّد فرداً واجداً للشرائط. ونحن نعلم بأنّ كلّ إنسان - في عصرنا هذا - ملزم أن يرجع إلى ذوي الاختصاص في المجال الذي ليس من اختصاصه. والمهم في الإسلام ومذهب أهل البيتعليهم‌السلام أن يتحلّى المرجع بمواصفات أخلاقية خاصّة، مضافاً إلى اختصاصه في الفقه أو المعالم الإسلامية. وفي الخبر المأثور عن الإمام الصادقعليه‌السلام حول المواصفات الأخلاقية التي يجب أن يتحلّى بها مرجع التقليد:

«... فأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه..».

وبناءً على الآيات والأخبار المأثورة في فصول ماضية من هذا الكتاب، تتّضح هذه النقطة، وهي أنّ النظام التوحيدي أو النظام الفكري في الإسلام لا يتوكّأ على العقل، ولا ينسجم مع طبيعة الإنسان فحسب، بل يطلب من أتباعه - لأجل قبول تعاليمه - أن يتّخذوا من الفهم والعقل ركيزتين لتديّنهم. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّه يرى أيضاً بأنّ للتعقّل دوراً مهمّاً في الأحكام والقيم، وقد خاطب الله - تعالى - نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية التي نقلناها فيما مضى، وهي:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، (النحل: 125).

فالاتّكاء هنا - كما يلحظ - على الحكمة والكلام المنطقي.

وكما ذكر المرحوم مطهّري في كتابه: (عشر مقالات)، فإنّ كلمة الربّ توحي بمعنى التربية، مضافاً إلى ذلك، فإنّ التربية في خطّ معرفة الله أو خطّ النظام التوحيدي يجب أن يرافقها تعقلٌ وكلامٌ منطقيّ.

١٠٣

الخامس: البُعد الثوري

إنّ رسالة الإسلام رسالة ثورية، ومن أجل أن نحكم على رسالة ما بالثورية، فلابدّ أن نتعرّف - بادئ الأمر - على المعايير الثورية التي يمكننا من خلالها الحكم عليها بالثورية. فلو أطلق فريق من الناس على نفسه عنوان: الثورية، أو اعتبروا رسالتهم رسالة ثورية، ولكن لا تتوفر فيهم ضوابط هذه الثورية، فلا يمكن تسميتهم: ثوريّين، أو تسمية رسالتهم: ثورية.

إنّ الرسالة المناصرة للتقلبّات أو لتغيير الأشياء اللاّ أساسية ليست رسالة ثورية. وكذلك الرسالة المناصرة للتبدّلات الجذرية في بعد واحد من أبعاد الحياة الجماعية مع تجاهل الأبعاد الأُخرى، فلا يمكن عدّها رسالة ثورية بكلّ معنى الكلمة، على سبيل المثال، إنّ التغيير في المجال الاقتصادي أو في النظام السياسي لا يعتبر ظاهرة ثورية وحده.

إنّ الرسالة الثورية - حسب رأينا - هي:

1- الرسالة التي تقدّم نظاماً فكرياً حركياً، وذا اتّجاه عقلي في نفس الوقت.

2- وتُحْدث تغييراً جذرياً في نظام المُثُل، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، والاجتماعي، والتربوي.

3- وتطرح أهدافاً موسّعة للفرد والمجتمع، كي لاتحدّ من نموّهما. وكذلك توجّه الممارسات والنشاطات اليومية، علماً بأنّ هذه الأهداف يجب أن تكون بشكل تُهيّأ فيه مستلزمات تطوّر الإنسان.

4- وتُعِد الأفراد والجماعات لمكافحة الاستبداد، والاستعمار، والاستغلال، وتجتثّ جذور الديكتاتورية، والظلم، والاستعمار.

5- وتوطّد القيم والمُثُل الإنسانية الجوهرية، وتقضي على المُثُل والقيم الزائفة.

6- وتمهّد الطريق لنموّ الفرد وتطوّره، وتأمين الرفاه الجماعي.

١٠٤

7 - وتتكفل بسيادة المبادئ والقوانين بدل سيادة الأفراد والجماعات.

8 - وتدعم حكم أهل التقوى والفضيلة، والمستضعفين، بشكل تام.

9 - وتفتح الباب أمام طرح أفكار جديدة، وتقديم آراء وحلول منطقية.

10 - وتدافع عن العلم بوصفه نظرية مبرهنة.

11 - وتؤيّد مبدأ سيادة الناس على مصائرهم.

ويمكن - على نحو الاحتمال - ذكر أشياء أُخرى أو دمج بعض المواصفات المار ذكرها. على أيّ حال، فإنّ الهدف هو عرض بعض الأبعاد الأساسية لنظام ثوري.

والآن، ينبغي أن نلحظ، هل إنّ للرسالة الإسلامية أبعاداً ثورية أساسية؟

إنّ النظام التوحيدي - كما يرتأيه الإسلام - لا يتحكّم بجميع شؤون الكون، وحياة الإنسان فحسب، بل يضع الناس على خطّ التطوّر والتكامل، والله تعالى - فيه - مَظْهر الكمال، والحكمة، والعدل، والإحسان.

( إِنّا للّهِ‏ِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ ) ، (البقرة: 156).

ويربط هذا النظامُ الإنسان بالأبديّة والسرمدية، ويسوقه إلى الله. والحركة إلى الله هي حركة في خطّ الكمال، والحكمة، والعدل، والإحسان.

هذا الخط، وهذه الأهداف في النظام التوحيدي، لا تضمن نموّ الفرد والجماعة وتطوّرهما فحسب، بل وتوجّه الممارسات والنشاطات اليومية أيضاً.

إنّ النظام التوحيدي - كما يُستشفّ من الآيات القرآنية - نظام عقلي، وذوو الألباب في ظلِّ التفكّر يقرّون به، ويطيعونه. وفي شعار (لا إله إلاّ الله) - كما ذكرنا آنفاً - رفض المُثُل الزائفة، من نحو: عبادة الأصنام (الصنمية)، التهافت وراء النزوات وضروب الهوس، عبادة المال، عشق المنصب، كما أنّ فيه تعزيز المُثُل الإنسانية، من نحو: التقوى، والدعوة إلى العدالة، والإيثار ونكران الذات، وحب العِلم.

إنّ النظام التوحيدي متوكّئ على حكومة الله، ولا وجود للاستغلال والظلم في هذه الحكومة، لأنّ كلّ شيء يعود إلى الله في الحقيقة، ويعود إلى الجميع عملياً.

١٠٥

والله هو الحاكم في هذا النظام، لذلك لا وجود لسيادة فرد أو جماعة معيّنة. ونرى أنّ الفضيلة، والعدالة، والحكمة هي المفردات التي تسود العلاقات الإنسانية. بمعنى آخر، إنّ السيادة للقانون الإلهي في النظام التوحيدي، فالنبيّ، والإمام، والمرجع، والفقيه والناس كلّهم خاضعون للقانون الإلهي.

لقد قوّض الإسلام نظام المثل القائم، وشيّد مكانه نظاماً إنسانياً مثاليّاً رفيعاً، كما أحدث ثورة في معايير الحُسْن والقبح، وقوّض النظام الذي كان يحافظ على وضع الأرستقراطيين، ويدافع عن التقاليد والسنن الجاهلية. وفي النظام المثالي للإسلام، حلّت سلطة العقل محلّ التقاليد والسنن الأرستقراطية اللاّإنسانية، ودافع هذا النظام عن المثل الإنسانية الرفيعة باتّكائه على التقوى، والعدالة، والإيثار.

أمّا في الحقل الاقتصادي فقد شجب الإسلام الاستغلال والظلم، من خلال إقراره لقوانين خاصّة. وشيّد أركان نظام اقتصادي عادل من خلال تحريمه لتكديس الثروة والربا، ومَنعَ الاعتداءَ على حقوق الآخرين، وقام بتقويض أركان الظلم والاستغلال ضمن تأكيده على أنّ العمل يشكّل أساس الملكية.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الإسلام - بفرضه ضرائب متنوّعة - لم يحد من تكديس الثروة بيد طبقة معيّنة فحسب، بل تكفّل بمصدر لتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع. وبما أنّ الرفاه الجماعي وتأمين ضروريات الحياة للجميع من الأهداف الأساسية للإسلام، فإنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة ضروري، وهي إنّ الإسلام جعل الملكية المشروعة تابعة للرفاه الجماعي والمصلحة العامّة أيضاً.

وأمّا في الحقل السياسي فقد حدثت تطوّرات جذرية بعد البعثة النبوية الشريفة، حيث أصبح زمام الأمور بيد أتقى وأعلم إنسان، وأضحت سيادة الأرستقراطيّين والمترفين غير شرعية، وتسلّم المستضعفون من أهل التقوى والتجربة مقاليد الأمور. وكما أنّ القسط الإسلامي يسود النظام الاقتصادي، كذلك التقوى، والعلم، والوعي، مفاهيم تسود النظام السياسي.

١٠٦

إنّ تطبيق القوانين على الجميع، ومساواة الناس كافّة أمام القانون، تلك المساواة التي تحقّقت في عصر النبيّ (صلّى الله علي وآله) وحكومة الإمام عليعليه‌السلام وبعض الخلفاء.. كلّ ذلك من إمارات التطوّرات الجذرية للنظام السياسي.

وأمّا في الحقل الاجتماعي فقد فقدت الآداب والسنن البالية شأنها، وحلّت محلّها السنن والآداب الإسلامية التي كانت متمثّلةً في سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وأمّا في الحقل التربوي فقد انبثق كيانٌ جديد أيضاً. وأصبحت التربية مقرونة بتعليم الحكمة (الكلام المنطقي)، والنصيحة والإحسان. وطلب العلم أصبحَ فريضة على المسلمين، وتحرر العلم من الاحتكار، ليشمل الناس كافّة. وأضحى التعليم أمراً متواصلاً ثابتاً، ودمجت التربية في التعليم - كما سنرى - الجانبين: النظري والعملي.

قلنا فيما تقدّم بأنّه لا مكان لحكومة فرد أو جماعة خاصّة في النظام الإسلامي. فالحاكم، مضافاً إلى أنّه يتحلّى بالفضائل العلمية والأخلاقية، وأنّه مبعوث ومنتخب من قبل الناس، فهو خادم للشعب.

إنّ الإسلام نصير المستضعفين، وهو يحارب كلّ شكل من أشكال الاستغلال، وعندما تنوي بعض الشعوب الاعتداء، فإنّ المسلمين يهبّون لصدّ المعتدين بكلّ حزم، ويقطعون أيديهم. ترتكز علاقات المسلمين مع شتى الشعوب التي ليس لها نوايا استعمارية على مبدأ التعايش السِّلمي، وفي هذا المجال، يتفوّق الإسلام على سائر النظم من حيث أنّه يطلب من المسلمين أن لا يدّخروا وسعاً في مودّة الشعوب غير المعتدية، ومراعاة العدالة في التعامل معها.

والفرد - في الإسلام - حرّ في اختيار العقيدة، والمناقشة، وتبادل وجهات النظر، وتقديم الحلول المتنوّعة، وانتخاب المهنة، ويمهّد الإسلام له الطريق من أجل نموّه

١٠٧

وتطوّره، في الآن ذاته، ينظر الإسلام إلى الرفاه الجماعي على أنّه أمر مهم، فيندمج نموّ الفرد مع الرفاه الجماعي في النظام الإسلامي.

يؤيّد الإسلام الديمقراطيّة(*) بوصفها أكثر أساليب الحياة اتزاناً وإنسانية. والإسلام، مضافاً إلى احترامه للإنسان، فإنّه يعتبر التقوى مقياساً للتفاضل بين الناس، ولا يمكن أن تكون الثروة، والمنصب، والموقع الاجتماعي، والجنس، والعنصر، والانتماء القومي، مقاييس للتفاضل بين الأفراد أو الشعوب. في الآن ذاته، فإنّ العدالة الاجتماعية أو الرفاه الجماعي من الأركان الأساسية للإسلام. وكما قلنا، فإنّ الإسلام يدعم العلم بوصفه نظرية مُبرهَنة (الحكمة). وفي النظام الإسلامي، ضمن تقديم القوانين الإلهية، فإنّ الناس أسياد على مصائرهم، وهم الذين يتولّون تسوية أُمورهم بواسطة قانون الشورى.

والآن نقوم بذكر بعض الآيات والأحاديث التي تترجم الأبعاد الثورية للنظام الإسلامي في الميادين والحقول المتنوّعة.

إنّ القُرّاء على علم بأنّ خصائص النظام الإسلامي جميعها في مُخطّط واحد، وهناك علاقة حميمة تربط فيما بينها. على سبيل المثال، فإنّ البعد الثوري في النظام الإسلامي غير منفصل عن البعد الحركي، أو البعد العقلي، من هذا المنطلق نضطرّ إلى تكرار الآيات والأحاديث عند تبيان بعض الأبعاد.

تبديل النظام القائم

تذكر الآية التالية الحقيقة القائلة بأنّ خطّ الأنبياء يعارض خطّ المترفين - الذين

____________________

(*) يرفض الإسلام الديمقراطية بوصفها نظرية بشرية غربية للحكم. ولا يسمح أن تُطلق هذه الكلمة عليه، كما لا يقرّ بها من حيث إنّها تعني حكم الشعب للشعب، في حين أنّ الحكم في الإسلام لله وحده، مضافاً إلى ذلك فإنّها فكرة وافدة دخيلة يربأ كلّ مسلم واع عن استعمالها. المعرِّب.

١٠٨

يفيدون من النظام الاجتماعي المتعسّف، ويحولون دون أيّة مبادرة ثورية - وهؤلاء كانوا يعارضون أيّ لون من التجديد، وكانوا يتكتّلون ضدّ الأنبياء بذريعة مراعاة السنن والتقاليد، ومواصلة التسلّط الاستغلالي، قال تعالى:

( وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى‏ مِمّا وَجَدْتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ، (الزخرف: 23 - 24).

وجاء في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأعراف قوله تعالى:

( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .

وتوضّح (الآية 157) من السورة نفسها دور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكافحة التقاليد الباطلة والأفكار الواهية:

( الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّورَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.. ) .

ويعلم الجميع بأنّ الرِّبا كان سائداً قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام منع هذا الأُسلوب المرفوض، الذي يُفضي إلى الاستغلال وتكديس الثورة، قال تعالى:

( وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا ) ، (البقرة: 275).

منع الكنز وتكديس الثروة

قال تعالى:( .. وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، (التوبة: 34).

١٠٩

ينقل الفقيه المجاهد المرحوم آية الله الطالقاني في (ص187) من كتابه: (الإسلام والمِلْكيّة) عند مقارنة الإسلام مع النُظُم الاقتصادية الغربية، ملاحظةً أفادها من كلامٍ للإمام عليعليه‌السلام فيقول: إنّ الفائض على أربعة آلاف درهم: كنز، سواء دفع صاحبه زكاته أو لم يدفعها، وأقلّ من ذلك، نفقة. وفي نفس الصفحة، نقلاً عن كلام للإمام الباقرعليه‌السلام حول الآية التي تصدّرت الموضوع، يذكر بأنّ ما يفيض على ألفي درهم فهو كنز. ويستطرد في كلامه قائلاً: (إنّ اختلاف الحديثين في مقدار الكنز تابع لاختلاف ظروف المعيشة والاقتصاد العام. وفي الحقيقة، فإنّ ما كان للاستهلاك فهو نفقة، وما أدّخر فائضاً على ذلك، أي: الجَمْع والحفظ، فيشمله عنوان الكنز، وهذا حرام، وفقاً لظاهر الآية وصريحها، والروايات الواردة في تفسيرها).

وقد أكّد القرآن على المسلمين بأن ينفقوا في سبيل الله، ما فاض على ضروريات الحياة، وذلك في قسم من (الآية 219) من سورة البقرة، فقال عزّ من قائل:

( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) .

وجاء في القرآن أنّ النُظُم المَلَكيّة والدكتاتورية مصدر الفساد والدمار، وهذا ما تنطق به (الآية 34) من سورة النمل على لسان ملكة سبأ، قال تعالى:

( قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزّةَ أَهْلِهَا أَذِلّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

وفيما يخصّ فرعون، قال تعالى:

( إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ، (القصص: 4).

إنّ رسالة الأنبياء - مبدئيّاً - هي حثّ الناس على إقامة العدل، والوقوف في وجه الظالمين، لاحظوا قوله تعالى:

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ

١١٠

بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ.. ) ، (الحديد: 25).

وقوله تعالى:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَيَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) ، (النحل: 90).

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحذّر المسلمين من الاعتزاز القومي، ويقول لهم بأنّ دين الإسلام هو بمثابة ماضي الأُسرة ومجدها، ومروءة المرء أخلاقه، وأساس شخصيّة الإنسان عقله، وأكرم الناس أتقاهم، ولا فضل لعربيّ أو أعجمي أو أسود أو أبيض على غيره إلاّ بالتقوى.

إنّ الإسلام يعارض النظام الطبقي مبدئيّاً، ويدافع عن المستضعفين، ضمن إدانته للمستكبرين، ويعتبر المستضعفين هم الوارثين وأئمّة المجتمع، قال تعالى:

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) ، (القصص: 5 - 6).

والإسلام - ضمن تأكيده على مساهمة الناس في العمل - فإنّه يؤيّد كفاءتهم في علاج مشاكلهم، جاء في الآيتين التاليتين قوله تعالى:

( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ،( وَأَمْرُهُمْ شُورَى‏ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ احترام الناس على أساس الفضيلة والتقوى، ورفض المعايير الزائفة في التفاضل بين الناس، يبيّن لنا أنّ الإسلام يدعم أُسس الديمقراطية، قبل أن تنادي الثقافة الغربية بمسألة حكم الشعب، واحترام الإنسان.

ونحن نعلم أنّ انتهاج الأُسلوب العقلي في شؤون الحياة، والتعاون لحلّ المشاكل الاجتماعية من أُسس الديمقراطية، وكما نقل سالفاً فإنّ المبدأ القائل: «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع»، والأخبار والآيات الواردة في هذا المجال توضّح لنا أهميّة انتهاج الأُسلوب العقلي في حياة الإنسان، والآية التالية توضّح لنا تعاون الناس فيما بينهم في أُمور الخير

١١١

والتقوى، فتقول:

( .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏ وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.. ) ، (المائدة: 2).

مضافاً إلى ذلك، فإنّ على كلّ شخص - في الإسلام - مسؤوليةً محدّدة ضمن تمتّعه بحقوق معيّنة. وكلّ شخص مسؤول من عمله، وفي الآن ذاته، فإنّ جميع الناس مسؤولون أمام بعضهم البعض. قال تعالى:( وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ ) ، (فاطر: 18). والناس كافّة مسؤولون في الأُمور الاجتماعية. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا كلّكُم راعٍ وكلّكُم مسؤولٌ عن رعيّته».

وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ الإسلام يدمج الحقوق الفردية في المصالح الجماعية، ومن جهة أخرى، فإنّه يدعم الملكية المشروعة أو الملكية التي هي نتيجة الكدِّ والعمل. قال تعالى:( وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) ، (النجم: 39). وفي الحديث:

«الناس مسلَّطون على أموالِهم وأنفسهم» (مبدأ عقلي).

ومن جهة أُخرى، يؤكّد على المصالح العامّة انطلاقاً من قاعدة: (لا ضرر ولاضرار في الإسلام).

يقول المرحوم الطالقاني في (ص206) من كتاب (الإسلام والملكية):

(تحدّد هذه القاعدة حقّ التصرف والملكية والمعاملة بالمصلحة وعدم الضرر الذي قد يلحق الفرد والمجتمَع، وتشخيص حد الضرر الذي يحدّ من حق الملكية والتصرف، وقاعدة التسلّط موكول إلى العُرف العام). في هذا المجال، يقول المؤلّف في (ص233) من كتابه تحت عنوان: (كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب حاجته): هذه العبارة شعار الإسلام الأوّل، وشعار الاشتراكية الأخير.

ومن مجموع أحكام الإسلام وتعاليمه فيما يخصّ الملكية وحدودها، يحرز المبدأ القائل بأنّ ملكية الأشياء والتصرف بها واستثمار هذه العلاقة على صعيد العمل بالمعنى الواسع له، والتوزيع (أو الإنفاق)، كلّ ذلك يجري حسب الحاجة.

(إنّ العلم بعامّة، والعلم بمعنى النظرية المبرهنة يحظيان بتأييد الإسلام بشكل

١١٢

صريح).

وفي قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 37).

ليس العلم فقط منشأ قبول الآراء، بل تمّ التأكيد على دور الجوارح (الأُذن والعين) والعقل في المعرفة. ولقد ذُكر العلم أو الحكمة في القرآن، وفي الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومينعليه‌السلام مرّات كثيرة. ووردت الوصية بتعلّم الحكمة، يقول الإمام عليعليه‌السلام :

«الحكمة ضالّة المؤمن فخذِ الحكمة ولو من أهل النفاق».

الأحاديث

«طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»، «اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»، «اطلبوا العلم ولو بالصين». وآية القرآن التي تتحدّث عن عدم تكافؤ العالم والجاهل، تدلّ على أنّ النظام الإسلامي يقف إلى جانب العلم.

إنّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الباعث على ديمومة الجذوة الإسلامية، وهو سلطة وقائية للفرد والمجتمع من الانحراف. وعندما يرتكب الإمام، أو الخليفة، أو المرجع، أو أيّ شخص آخر خلافاً، فإنّه سيكون عُرضة للّوم والعتاب. فتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف - كما ذكرنا سالفاً - يحول دون انحراف الناس.

مضافاً إلى الأمر بالمعروف، فإنّ الجهاد في سبيل الله، والجهاد لتطبيق

____________________

(*) الإمام - بالمعنى الخاص - لا يرتكب خلافاً أبداً كما يعتقد الإمامية بذلك. ولكن إذا كانت كلمة الإمام بالمعنى العام، أي: خارجة عن دائرة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، فذلك وارد لا إشكال فيه. المعرِّب.

١١٣

العدالة، والجهاد ضدّ الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، كل ذلك يدلّل على البعد الثوري للنظام الإسلامي. وسنتحدث بالتفصيل فيما بعد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، ونكتفي هنا بذكر آية في الجهاد، وهي:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ، (الحجرات: 15).

السادس: استمرار التربية والتعليم

من الخصائص الأُخرى للتربية الإسلامية: استمرارها، وكما جاء في الحديث المعروف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»، فإنّ طلب العلم، وبالنّتيجة، التربية والتعليم أمر دائمي متواصل.

إنّ أحد الأهداف التربوية الأساسية هو استمرار التعلّم، والتربية والتعليم. ووفقاً لرأي المتخصّصين في التربية والتعليم، ينبغي تعليم الطلاّب بشكل يواصلون فيه تعلّمهم وتربية أنفسهم بعد التخرّج. وعندما يؤكّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على طلب العلم بوصفه فريضة، ويقول: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»، فإنّ هذا الأمر غير مقصور على زمان معيّن. بكلمة بديلة، إنّ واجب كلّ مسلم هو أن يجدّ في طلب العلم دائماً وأبداً دون تذبذب وانقطاع.

وكما لحظنا، فإنّ عملية التربية والتعليم مقرونة بالتفكّير. ويمكن القول - مبدئيّاً - بأنّ عملية التربية والتعليم، من جهة، هي نفسها تربية القدرة على التفكّر، والتفكّر أساس استمرار التعليم، يقول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا عبادةَ كالتفكّر»، وهذا غير مقصور على زمان معيّن أيضاً. وكما جاء في حديث معروف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه: «تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، فإنّ التفكّر في هذا الحديث أمر ذو قيمة، والواجب المحتّم على المسلمين هو أن يبادروا إلى تربية القدرة على التفكّر، جاء في بعض الأحاديث بأنّ ثواب طلب

١١٤

العلم في ليالي القدر أكثر من ثواب تلاوة الدعاء. وأُثر عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة قوله: «لا علم كالتفكّر».

إنّ إحدى المسائل الجوهرية في التربية والتعليم هي طلب العلم عن طريق التفكّر أو التحقيق.

ويرى بعض روّاد التربية والتعليم بأنّ طلب العلم بذاته مهم، أمّا الكيفية فليست ذات شأن في قاموسهم.

إنّ المهم في طلب العلم - من الناحية التربوية - هو كيفية التعلّم وطلب العلم. فقد يتصوّر البعض بأنّ تزويد ذهن الطالب بالمعلومات مفيد بذاته. عادةً، يقوم المعلّمون والأساتذة في المدارس والكليّات بإلقاء المحاضرات، وتقديم المواضيع العلمية، ويستمع الطلاّب إليهم، ثمّ يقرأون الكرّاس أو الكتاب الذي يحتوي على المعلومات التي سمعوها منهم، وذلك من أجل اجتياز الامتحان. وبتكرار هذا العمل، يعملون على تصعيد معلوماتهم، حتى إذا حان موعد الامتحان، يجيبون على الأسئلة بما عندهم من معلومات.

إنّ هذا الأُسلوب يفتقد إلى البعد التربوي، حيث يتعلّم الطالب بشكل سطحي، لذلك ينسى ما تعلّمه بعد مدّة، مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا الأُسلوب لا يحدث تطوّراً في تفكّره وعاداته، حيث يحفظ المواضيع الدراسية ناقصة بالشكل الذي طرحها المعلّم أو مؤلّف الكتاب. وكما قلنا فيما سبق، فإنّه يجيب على الأسئلة الامتحانية بما عنده من معلومات، علماً بأنّ بعض المربّين - كما ذكرنا - لا يرى لتحصيل المعلومات بذاته قيمة، إذ إنّ المهم عند هذا البعض هو الكيفية.

إنّ الذين يرون بأنّ تعلّم العلم وسيلة لتربية الشخصية، يعتقدون بأنّه من الممكن تعلّم المواضيع العلمية عن طريق التفكّر والتحقيق، وفي الآن ذاته، العمل على تربية القدرة الفكرية. ولكي يقوم المعلّم بمناقشة المواضيع العلمية وتعليمها عن طريق التفكّر، فإنّ عليه أن يبدّل منهجه في العمل، إذ يقوم بطرح المسائل الجوهرية بدل طرح المواضيع العلمية، أو حث الطلاّب على قراءة المواضيع من الكتب الدراسية. وتتألف المباحث العلمية من الدراسات أو نتائج دراسات العلماء. بكلمة

١١٥

بديلة: إنّ عملنا - في كلّ مبحث علمي - هو مع المسائل العلمية الأساسية، فالعلماء قاموا بالتحقيق والتفكّر بعد تعاملهم مع مثل هذه المسائل، ثمّ صبّوا نتائج عملهم على شكل مقالة أو كتاب، لذا على معلّم العلوم أيضاً أن يقوم بطرح المسائل المتنوّعة بدل طرح هذه المواضيع مع نتائج عمل العلماء، ويطلب من تلاميذه أن يعينوه على دراسة تلك المسائل ومعالجتها.

وهذا العمل نفسه يتقولب بقالب التحقيق أو التفكّر في المسائل العلمية، علماً بأنّ المعلم والطالب معاً ينجزان هذا العمل، ويبادران إلى تدوين الآراء ودراستها بعد البحث والتدقيق والمناقشة، وإجراء التجارب، مع قطع أشواط المنهج العلمي.

ففي هذه العملية، يتعلّم الطلاّب المواضيع العلمية، وفي الآن ذاته، يعملون على تربية قدرتهم الفكرية من خلال المشاركة في المناقشة. ومن المحتمل أن نتناول بشيء من التفصيل مسألة تطبيق هذا المنهج في التعليم في فصول قادمة من هذا الكتاب.

يُثار سؤال آخر - في هذا المجال - أجاب عليه المربّون الكبار بأجوبة متنوّعة، والسؤال هو: لو دار الأمر بين تطبيق أحد العملين في الصف: إمّا تعلّم المواضيع، أو تربية القدرة على التفكّر، فأيّهما يُقَدَّمُ على الآخر من الناحية التربوية؟

يجيب البعض بأنّ تعلّم المواضيع أو تحصيل المعلومات هو الأهم؛ لأنّ المدرسة مكان للدراسة.

ويجيب آخرون بأنّ المعلومات - عادةً - موجودة في الكتب بشكل منطقي واضح، ومتى شاء الطالب، فإنّه يستطيع أن يرجع إلى الكتب العلمية، ويتعلّم منها شتّى المواضيع، فالعسير على الطالب دائماً هو مشاركته في المناقشة وتبادل وجهات النظر.

من هذا المنطلق، يعتقدون، بأنّه - في ظروف خاصّة - لو دارت النشاطات التعليمية بين أمرين: تحصيل المعلومات أو التفكّر، فإنّ التفكّر هو الأهم، وله قصب السبق على تحصيل المعلومات، وكلام الإمام عليعليه‌السلام أيضاً يبيّن هذا الموضوع بشكل صريح.

فالمهم والباعث على ديمومة التعليم، إذاً، هو التفكّر.

١١٦

بكلمة بديلة: إذا نالت القدرة على التفكّر، أي كيفية مناقشة المواضيع ودراستها، نصيبها من التربية، فسوف يُفتح الطريق أمام تعلّم مواضيع جديدة في المستقبل من أجل مواصلة الدراسة والتعلّم.

وفي النظام التربوي الإسلامي، فإنّ من الضروري الاهتمام بحقيقة أُخرى، وهي: إنّ التكاليف الإسلامية واجبة التطبيق في المجالات المتنوّعة. ومادام الإنسان حائزاً على شروط التكليف، فعليه القيام بهذه التكاليف. أي عندما يكون المسلم بالغاً سالماً عاقلاً، فإنّ عليه العمل بالتكاليف الدينية بصورة متواصلة.

ويجب أن يكون الإنسان المسلم دائماً: مجدّاً في التفكّر في خلق الكون، واستيعاب النظام التوحيدي، مبادراً إلى عبادة الله وحده، عاملاً على تكامل شخصيّته المعنوية، ساعياً إلى توطيد أركان العدالة، واجتثاث جذور الظلم، جاهداً في مكافحة الفساد، لا يدّخر وسعاً في التضحية بنفسه وماله من أجل الجهاد في سبيل الله، وهو سبيل الخير والكمال، وتثبيت العدالة، وتأمين رفاه المستضعفين، وهو سبيل الأُخوّة والسلام والوئام، باذلاً جهده في طلب العلم وتوسيع دائرته، مجدّاً في تربية قابليّته الكفرية، مبادراً إلى حلّ المشاكل الاجتماعية، معدّاً نفسه للدفاع عن نظامه التوحيدي ومجتمعه الإسلامي، طامحاً في إنقاذ مستضعفي العالم، وتقويض أركان الحكومات الفاسدة الجائرة، مقيماً علاقات وديّة مع الشعوب التي لا تحارب المسلمين، و... و... الخ.

وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ النظام التربوي في الإسلام ينبض بالحياة دائماً في المجالات كافّة، ويجب على المسلم أن يجدّ في الأصعدة المتنوّعة دون انقطاع، ويعمل على تكامل شخصيّته وأداء رسالته الإنسانية.

السابع: عموميّة التربية والتعليم

يعارض الإسلام مسألة الطبقية، ومنح امتيازات خاصّة لطبقة معيّنة دون

١١٧

أُخرى. وكما نعلم، فإنّ الامتيازات المادية تتوفّر في ظلّ العمل وجهد الأشخاص. والتفاضل بين أفراد النوع الإنساني يرتكز على الفضيلة والتقوى، مضافاً إلى ذلك، فإنّ تأمين ضروريات الحياة وإتاحة فرصة التعليم للجميع في المجتمع الإسلامي من واجبات الحكومة الإسلامية.

وكما أنّ طلب العلم والإفادة من الفرص التربوية من واجبات الأفراد، فإنّ تأمين الخدمات التعليمية والتربوية من واجبات الحكومة.

وفي النظام الإسلامي، ليس التحصيل الدراسي حكراً على طبقة معيّنة دون غيرها، فالجميع ينبغي أن يستفيدوا من الخدمات التعليمية. والحكومة مكلّفة أيضاً أن تهيّئ الإمكانيات التربوية بشكل يستطيع فيه كلّ فرد أن يواصل دراسته - على مستويات متنوّعة - وفقاً لاستعداده ورغبته. مبدئياً، بما أنّ توسيع الخدمات التعليمية والتربوية مقدّمة لنموّ الفرد وتكامله، ورقيّ المجتمع، لذلك تبادر الحكومة إلى تأسيس المراكز التربوية.

وقبل أن تطرح مسألة التعليم الإجباري في الغرب، فإنّ نبيّنا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل التربية والتعليم أمراً إجبارياً، والمسجد مركزاً لهما. وكانت مدارس التربية الإسلامية ومراكزها مفتوحة أمام الجميع، والأشخاص - أيّاً كان انتماؤهم القومي وموقعهم الاجتماعي - كانوا يحضرون في تلك المراكز التعليمية. وكان للنساء أيضاً حقّ الإفادة من الفرص التربوية المتاحة أُسوةً بالرجال.

والآن أيضاً، لابدّ من الإسراع في اجتثاث جذور الأُميّة، وتوجيه الجميع من أجل الإقبال على المراكز التربوية، كما يجب توفير المستلزمات الكافية لفتح المدارس في أرجاء البلاد كافّة؛ لينعم أبناؤها بالخدمات التعليمية.

بعامّة، فإنّ للنظام التربوي في الإسلام وضعاً متميّزاً من حيث الهدف، والأُسلوب، والمحتوى. وسنرى بأنّ الأهداف التربوية للنظام الإسلامي واسعة وشاملة، والأساليب التربوية متنوّعة وصالحة للتطبيق في حالات مختلفة، وسنناقش - في الفصول القادمة - ضروب الأساليب التربوية في الإسلام. ولا يخفى فإنّ محتوى

١١٨

النظام الإسلامي غنيّ غنىً خاصّاً.

في هذا النظام، تمّ تبيان النظرة الكونيّة التوحيدية بشكل مبسّط، ومنطقي في الآن ذاته، وتمّ التأكيد في القرآن وبقيّة المصادر الإسلامية المعتبرة على علاقات أفراد النوع الإنساني، في حقول الحياة المتنوّعة، وتطرّق القرآن إلى العلاقات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية بين الأُمم والشعوب، والاتّصال فيما بينها بشكل مفصّل.

وسنتحدث حول هذا الموضوع لاحقاً.

١١٩

١٢٠