التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام16%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163520 / تحميل: 9127
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لأنّ توسيع منهج التعليم العام طيلة المرحلة الثانوية، واحتمال حدوث تبديل في البرامج المهنيّة والعلميّة، سيكون ميسّراً للطلاّب عند الاندماج. ولابد من الاستعانة بالمتخصّصين في التعليم الثانوي، والأخصائيّين في الفروع الدراسية، والأخصائيّين في الثقافة الإسلامية عند انتخاب المواد، وتحديد محتوى البرنامج التعليمي، وتقديم تعليم يسد الحاجات المهنية والعلمية من جهة، والحاجات العامّة من جهة أُخرى.

التعليم الثانوي

يجب أن يخضع مستوى التعليم الثانوي للتبديل والتغيير أكثر من المستويات الأُخرى، فليس هناك أساس منطقي لتعليمنا الثانوي. وتكمن فلسفة التعليم الثانوي في إعداد الطلاّب لدخول الجامعة. وهناك ملاحظات جديرة بالاهتمام في هذا الصدد.

أوّلاً: لا يجد جميع خرّيجي الإعدادية طريقهم إلى الجامعة مباشرة في أيّ قطر من أقطارالعالم.

ثانياً: لا يرى أيّ مجتمع من المجتمعات حاجة في إرسال خرّيجي الإعدادية كافّة إلى الجامعة، سواء من ناحية توسيع التعليم العام، أو من ناحية تربية الطاقة البشريّة. وفي بعض البلدان، مثل: انجلترا يُعد فقط ما يقارب ٨% من الخرّيجين أنفسهم لدخول الجامعة.

ثالثاً: في بلادنا، ولا سيّما في السنين الأخيرة، فإنّ أقلّ من عُشر المتقدّمين إلى الجامعات دائماً، كانت تتاح لهم فرصة الدراسة في مراكز التعليم العالي. بكلمة بديلة، لا تستقبل الجامعات أكثر من سبعة أو ثمانية بالمائة من المتقدّمين. وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كثيراً من الطلاب الجامعيين كانوا يواصلون دراساتهم في فروع لا يمارسون فيها اختصاصاتهم بعد التخرّج.

٢١

رابعاً: وتتعلّق هذه الملاحظة بتبديل برنامج التعليم الثانوي، من حيث الشكل والمحتوى.

وهنا يجب أن ننظر: هل إنّ المجتمع يحتاج إلى خدمات، يمكن بواسطتها إعداد الطلاّب في المرحلة الإعداديّة، لتقديم تلك الخدمات. فما استفدناه من استشارة ذوي الاختصاص، هو: إمكانيّة تقديم خدمات من قبل خرّيجي الإعداديّات في المجالات الصحيّة، والفنيّة، والزراعيّة، والتجارية.

فينبغي تحديد مثل هذه الخدمات من خلال دراسة دقيقة، لتشكل أساس البرامج التعليميّة. وفي مثل هذه الحالة، لعلّ أكثر من ستّين بالمائة من خرّيجي الإعداديّة يدخلون ميدان العمل بعد التخرّج مباشرة، ويذهب عدد منهم إلى الجامعة لتأمين الطاقة البشرية التي يحتاجها المجتمع، ويعمل بعضهم في السلك العسكري، وفي إدارات مؤسّسات أُخرى.

وفي العصر الحاضر يمكن إعداد طلاّب السنة الأخيرة في المرحلة الإعداديّة، لدخول ميدان العمل وتقديم الخدمات اللاّزمة، من خلال إحداث تبديلات عاجلة في المنهج التعليمي للسنة الأخيرة من مرحلة الإعداديّة، والإستعانة بالطاقات الموجودة في المراكز الصحيّة، ودوائر الزراعة، والمكاتب الفنيّة، وكذلك الإستفادة من الإمكانيّات المتوفّرة في المؤسّسات الحكومية والخاصة.

التعليم العالي

لابد للتعليم العالي أن يأخذ بنظر الإعتبار أنّ عليه أن يحقِّق هدفين جوهريين هما: تقديم الخدمات، وتوسيع رقعة الفروع العلميّة، عن طريق البحث والتنقيب.

تحدّثنا سابقاً عن أهداف التعليم العالي في مقالة أُعدّت في شهر مايس، سنة ١٩٦٨م، وُطبعت في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم)، ثمّ طُبعت مرّة أُخرى في رسالة حملت عنوان (رسالة الجامعة والتزام الجامعي). وهذه الأهداف هي:

٢٢

١- رعاية السنن العلميّة وحفظها.

٢- إعداد المتخصّصين.

٣- التربية العامّة.

٤- توسيع التراث الثقافي.

٥- تأسيس المراكز التخصصيّة(١) .

٦- علاج المسائل الاجتماعية.

٧- إعداد المعلّمين.

وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أصبحت الجامعة مُلزمة بتكييف وجودها مع هذه الثورة، أُسوةً ببقيّة الدوائر والمؤسّسات؛ وذلك لتؤدي رسالتها في توطيد أركان النظام الإسلامي، وتحقيق الأهداف المذكورة.

إنّ على الذين تذمّروا من تعطيل الجامعات أن ينظروا، هل أنّ الجامعة أفلحت في أداء رسالتها أم لا؟ هل إنّ التعليم في جامعاتنا كان يجري بشكل أساسٍ وجوهري؟ هل كان الأساتذة المحترمون ملمّين بمبادئ التربية والتعليم؟ هل وُضعت المناهج الدراسيّة وفقاً للأُسس العلميّة لكلّ فرع، وتلبيةً للحاجات الاجتماعية؟ هل كُنّا نراعي السنن العلمية في تدريسنا وتحقيقنا؟ هل كان الهدف من إعداد المختصين هو تأمين الطاقة البشريّة للمجتمع؟ هل كان الأطبّاء، والمهندسون، المتخصّصون في الحقل الزراعي يبادرون إلى علاج مشاكل أغلبيّة الناس؟. يقال إنَّ أربعين بالمائة من أطبّائنا كانوا يقيمون في طهران، فهل إنّ هذا العدد يعمل لصالح ستّة ملايين نسمة يعيشون في طهران، أو أنّه يعمل لصالح شريحة معيّنة؟ ألا يجب على كليّة الطب أن تعد طبيباً يعالج أغلبيّة أبناء هذا الشعب، أعني: أبناء النواحي والأرياف؟ فهل أدّت كليّات الطب لحدّ الآن دورها في هذا المجال؟.

____________________

(١) ورد في المصدر الذي يشير إليه الكاتب (تأسيس المراكز التحقيقية).

٢٣

فما ينتظره المجتمع - إذاً - من الجامعات بعد استقرار النظام الإسلامي يتلخص فيمايلي: ينتظرالمجتمع من الطالب المسلم أن يكون حافزه الأساس من دراسته في الجامعات هو التقرّب إلى الله، وخدمة عباده، بديلاً عن الحوافز الشخصيّة، والماديّة. وهذا لايعني - بالطبع - أن يقدّم الطبيب، أو المهندس، أو القاضي خدماتهم اللاّزمة، وهم يتضوّرون جوعاً. فممّا لا ريب فيه هو أنّ كلّ فريق من أرباب هذه المهن لابد له أن يتمتّع ببعض الامتيازات الماديّة متناسباً مع وضعه، ووضع أرباب المهن الأُخرى في المجتمع الإسلامي.

وينتظر المجتمع من الطالب غير المسلم أن يكون مع النظام الإسلامي بكلّ صدق وإخلاص، وأن يقدِّم خدماته للناس في مجال اختصاصه من خلال شعوره بالالتزام، والمسؤوليّة، أمام المجتمع، وتحلّيه بالمعايير الأخلاقيّة السليمة.

وينتظر المجتمع من الجامعيّين أن يجعلوا من الجامعة مركزاً للتعليم الحقيقي، والبحث والتنقيب المهمَّين. ولابد للأُستاذ أن يكون مُلمّاً بمبادئ التعليم، ويعمل على تصعيد مستواه العلمي ومستويات الآخرين.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للبحث والتحقيق. وليس التحقيق من أجل إعداد مقالة في صفحات معدودة بهدف نيل درجة أُستاذ مساعد، أو أُستاذ؛ إنّما التحقيق من أجل توسيع نطاق الاختصاص، وإضافة معلومات جديدة إلى المعلومات السابقة. وفي هذا المجال وحده يتحقّق الاستقلال العلمي للجامعات. مضافاً إلى أنّ البحث والتحقيق يجب أن يتركزا على المسائل الداخليّة للبلاد. يقول الإمام الخميني (رحمه الله) في إحدى خطاباته: (إنّ معلّمي مدارسنا ليسوا إسلاميّين بشكلٍ عام، إذ لم تكن التربية إلى جانب التعليم في يوم من الأيّام. لذلك لم تخرِّج جامعاتنا إنساناً ملتزماً، ومتحمساً لخدمة بلاده، لا تهمّه مصلحته الشخصية.. فليس عندنا خرّيج جامعيّ يحمل هذه المواصفات).

٢٤

هل إنّ التربية - كمهمّة جوهريّة لجامعاتنا - متحقّقة في الجامعات؟ فمعظم عملنا يتركّز على تصعيد مستوى الطلاّب في مجال الحفظ، ويندر أن يتركّز على تصعيد مستواهم في المجال العلمي. والشيء الذي لا ننظر إليه بعين الاهتمام والأهميّة هو التربية.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للتفكير الحر، وتلاقح الآراء، وتبادل وجهات النظر. بيد أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هي أَنّ التفكير الحر يتناقض مع التعصب، كما لا يتّفق مع السباب والشتم، ومهاجمة الآخرين، وانتقاصهم، وكذلك فهو يتعارض مع تشويه الحقائق. وقد ذُكرت أُسس التفكير والتفكير الحر في الإسلام، من خلال عدد من الآيات القرآنيّة، مثل قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، (الإسراء: ٣٦)، وقوله تعالى:( لاإكْراه في الدِّين ) ، (البقرة: ٢٥٦)، وقوله تعالى:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: ١٧ - ١٨)، وقوله تعالى:( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: ١٢٥).

فلا إشكال عندنا على تحقيق حريّة النقاش، بل إنّ اشكالنا على النقاش ذاته. بعبارة أُخرى، نحن من أهل النقاش والتحقيق والتفكير، بل ولا نخشى التفكير. يقول الإمام الخمينيّ (رحمه الله) في هذا المجال:

(نحن لا نريد أن نقول: بأنّ العلوم قسمان، كما يناقش بعضهم في ذلك عمداً، أو جهلاً، بل نريد أن نقول: إِنّه لا وجود للأخلاق والتربية الإسلاميّة في جامعاتنا، ولو كانت موجودة، لما أضحتْ ميداناً للمنازلات العقائديّة المضرّة لبلادنا).

إعداد المعلّمين

إنّ إعداد المعلمين هو إحدى الحاجات الجوهرية للمجتمع. وكما أُقترح سالفاً، فبسبب اتّساع المعلومات البشريّة، ونظراً لأهميّة التعليم الابتدائي، وإشباعاً لغريزة

٢٥

حب الاستطلاع عند الناشئة والأحداث، وتربيةً لعنصر الإبداع فيهم، لذلك يجب العمل على تصعيد المستوى العلمي لمعلّمي المرحلة المتوسّطة، ومدرّسي المرحلة الإعداديّة، حتى درجة البكالوريوس.

وينبغي أن يكون المعلّم - في أيّ مستوىً كان - مُلمّاً بمبادئ التربية والتعليم، وعلم النفس، ومطّلعاً على الثقافة والمعارف الإسلامية، ومتضلّعاً في الفروع الدراسية، وله ثقافة ومعلومات عامّة. فالتركيز على هذه الأركان الأربعة الأساسيّة في البرنامج التعليمي لإعداد المعلمين، يجعل مسألة تصعيد المستوى العلمي لهم حتى درجة (البكالوريوس) ضروريّة.

وفي عقيدتي، فإنّ القسط الأكبر من النشاطات الجامعيّة في: العلوم، والآداب، والعلوم الإنسانية، والإدارة التجارية يجب أن يتركز على إعداد المعلمين؛ وذلك نظراً لدور الجامعات في تأمين حاجات البلاد، وإدراكاً لهذه الحقيقة القائلة: بأنّ تربية الطالب الجامعي بمستوى الظروف المعاصرة وفي بعض الفروع، يسفر عن: تضييع وقت الطالب والأُستاذ، وتبديد المبالغ الطائلة من خزينة الدولة. وتبقى نسبة ضئيلة تكرَّس للطلاّب الراغبين في البحث والتحقيق، ومواصلة الدراسات العليا.

وفي هذا الإطار، فإنّ على الجامعيين التعاون الوثيق المتواصل مع المعلمين والمدرّسين في التخطيط التعليمي، ووضع المناهج الدراسية، وإعداد الإداريّين، وكذلك في توسيع الإمكانيّات التعليميّة.

٢٦

خاصّيّتان أساسيّتان للإنسان

٢٧

٢٨

خاصّيتان أساسيّتان للإنسان

من الخصائص الأساسيّة للإنسان: وعيه لسلوكه، ووجود القوة المفكِّرة لديه. فيمكن للإنسان أن يكون واعياً لسلوكه(١) ، ويستعين بالقوة المفكِّرة المودعة عنده، لدى مواجهته للمسائل والقضايا المختلفة(٢) . وينبغي أن ننتبه أنّ الإنسان لا يعي ما يقوم به من أعمال دائماً. بكلمة بديلة، فقد ينهج الإنسان سلوكاً معيناً، بيد أنّه لا يدرك دوافع هذا السلوك وأهدافه.

ولا يستعمل الإنسان قوّته المفكرة بصورة دائمة عند مواجهته لمختلف المسائل. فتجده أحياناً يُقلّد تقليداً أعمى، أو يندفع اندفاعاً طائشاً بدل أن يُعمل فكره. وكما نعلم، فإنّ سلوك الإنسان ليس على وتيرة واحدة، فتارةً يظهر سلوكه على شكل ردود فعل انعكاسيّة، وأُخرى يكون نتيجةً لنموّه وتكامله، وفي بعض المواطن لا يخلو أن ينشأ من التعليم.

ولسلوك الإنسان شكل خاص في المجال الاجتماعي أيضاً، فما يتعلّمه الإنسان من الجماعة ينعكس على سلوكه بأشكال مختلفة. فالتكلّم والتوافق الإجتماعي، والتعاون مع الآخرين، والتكييف والإنسجام، والتعارض، والتشابه، وأمثال هذه الأشياء تُكون الشكل الاجتماعي لسلوك الإنسان. ويراعي الإنسان تقاليد معيّنة

____________________

(١) قال تعالى:( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: ١٤).

(٢) قال الإمام عليعليه‌السلام :«لا يُستعان على الدهرِ إلاّ بالعقل» .

٢٩

في شرائح شتّى. ويبدو في السلوك الاجتماعي نوع من الجبر، واللاّشعور. بعبارة أُخرى، يرى الإنسان نفسه مجبراً على اتّباع تقاليد معيّنة، يغلب فيها عدم شعوره بما يفعل، هذا مع أنّه يمكن أن يكون شاعراً بجميع ما يقوم به. فمثلاً عندما تحضرون مجلس فاتحة، فإنّكم على علم - سابقاً - بأنّ عليكم مراعاة الصمت والهدوء، فتحاولون المحافظة على هذا التقليد.

بصورة عامّة، يتسنّى للإنسان أن يدرك جميع ما يفعله تدريجاً، وهذا الإدراك أمارة من أمارات نموّ شخصيّته.

من جهة أُخرى، فإنّ حياة الإنسان محفوفة بمشاكل كثيرة، ومواجهة هذه المشاكل تُنمِّي في الإنسان القابليّة على التفكير. أمّا الإنسان - كما ذكرنا سالفاً - فإنّه لا يستعمل قوّته المفكِّرة العاقلة دائماً. وفي نفس الوقت، فإنّه يطمح إلى أن يحكم سيطرته على بيئته، ويرقب ظروفه الحياتيّة. فالسيطرة على البيئة تتطلّب منه إدراكاً ووعياً لما يجري فيها، وفي هذا الإطار، كما قلنا،فإنّ علاج المشاكل لا يتيسّر إلاّ عن طريق القوّة المفكِّرة، لذلك فإنّ الإنسان مجبر على استعمال فكره من أجل مواصلة حياته.

إنّ حافز الإنسان في التعرّف على بيئته، ورغبته في الإلمام بما يدور فيها، وكذلك تأمين الحاجات الأساسية، ومساعدة البيئة على الحياة، كلّ ذلك يُرْغم الإنسان على الجِد والسعي والاهتمام. وفي هذا المضمار، استطاع الإنسان أن يعالج بعض مشاكله بمساعدة فكره. وفي خِضَمّ علاج المشاكل، أصبحت نشاطات الإنسان في قالب العلم، والفن، والفلسفة، والآداب والتقاليد.

وإذا أخرجنا عمليّة التربية والتعليم من نطاق الدرس، والكتاب، والمعلّم، والطالب، ونظرنا إليها عمليّة يروم فيها الجيل الأكبر أن يوسِّع من دائرة وعي الجيل الأصغر، في مجالات: معرفة الكون، معرفة الإنسان، الظروف الاقتصادية والسياسيّة، والتقدّم والتطوّر. وعملية تُعِد الإنسان لمواجهة مسائل الحياة عن طريق تربية قدرة

٣٠

التفكير فيه، حينئذ تصبح هذه العملية أهم نشاط من نشاطات الإنسان. إنّ النُظُم ذات الجانب التربوي، سواء تلك التي تُعنى بالمسائل التربويّة الخاصّة، أو التي تهتمّ بحياة الإنسان عموماً لا تؤثِّر في نموّ الإنسان، وتطوّره، إلاّ اذا ركّزت على تربية قوّة التفكير، والوعي فيه، ونظرت إليه على أنّه في تطوّر وتكامل متواصلين.

مقارنة الإسلام مع النُظُم القائمة في الشرق والغرب

إنّ بعض النُظُم الفكرية، مع أنّها تُولي أهمية لعلاقات الإنسان مع الكون، ومع بني جنسه، وتتّخذ من هذه العلاقات ركيزةً لمبادئها وأُسسها، بَيْدَ أنّها تقوِّم الإنسان، سواء في حياته الفردية، أو الاجتماعية، على أنّه نتاج بيئته، ولا تُؤْمن بأيّ دور لوعيه في النموّ والتطوّر.

وهذا خلل، كما أنّ - هناك - خللاً آخر في تلك النُظُم، وهو قصور نظرتها في موقفها من المسائل المختلفة، وقد ينعكس هذا التصور في فهمها لماهيّة الإنسان وهويّته. إنّها لا تأخذ في حسابها الجوانب المختلفة في شخصيّة الإنسان، حيث يرى بعضها أنّ الجانب البيولوجي، أو الفسيولوجي، هو محور سلوك الإنسان، في حين يرى بعضها الآخر أنّ الجانب الاجتماعي هو المحور. فكلاهما يقيِّد الإنسان في نطاق النشاطات البدنية، أو الاجتماعية، ويصادر قدرته الروحية في موقفه من المسائل المختلفة. فأنصار الجانب البيولوجي، يضعون الإنسان في مصاف الحيوانات - على نحو الإرغام - ويستعينون بمشاهداتهم لسلوك الحيوانات، من أجل شرح سلوكه، وتبيانه. أمّا أنصار الجانب الاجتماعي، فيحصرون دائرة نشاطه في المجال الاجتماعي، إذ يرَوْن سلوكه انعكاساً لما يتعلّمه من المجتمع، غافلين عن أنّ الإنسان عضو يعيش في الجماعة، والحياة الجماعية لا تسلب منه شخصيّته الفردية واستقلاله. إنّ كلا الفريقين ينكر جانب الإبداع الكامن في الإنسان، أو أنّهما يتعثّران عند الحديث حول هذا الجانب، وكذلك يُلغِيان دور الإنسان في توجيه نفسه وإرشادها.

٣١

وترى بعضُ النُظُم أنَّ الجانب المادّي في حياة الإنسان يقع في الدرجة الأُولى من حيث الأهميّة، وترى نظُم أخرى أنّ الجانب المعنوي هو الأهم.

في الحقل الاجتماعي، تؤمن بعض المجتمعات الغربيّة - كما يبدو - بأنّ الحريّة، و(الديمقراطيّة)، والحقوق الفرديّة تُمثِّل القيم الأساسية في قاموسها. أمّا المجتمعات الشيوعيّة، فترى بأنّ الهدف الأصلي من الحياة الجماعية هو: العدالة الاجتماعية مع ضمان الإمكانيات الماديّة للجميع، وإنهاء الإستغلال الذي يصبّ في صالح طبقة على حساب طبقة أُخرى.

وفي خِضَمّ هذه التوجّهات، نلتقي فريقاً ينظر بعين الأهميّة إلى الأفراد بصفة أنّهم أفراد، مُلغياً تأثير الجوانب الاجتماعية على حياتهم. فالتربية في قاموس هذا الفريق هي: ذات جانب فردي، ويتصوّر أتباع هذا الفريق بأنّ الأفراد لو تربّوا تربية سليمة، وتخرّجوا منها صالحين، فإنّ المجتمع سوف يتحسّن اوتوماتيكيّاً. ولا يعتقد هؤلاء بقيمة الحياة الجماعية وأهميّتها، كما لا يدركون الحقيقة القائلة بأنّ نموّ الفرد في المجالات المختلفة لا يتيسّر إلاّ من خلال الحياة الجماعيّة.

بكلمة بديلة، إنّ نموّ الفرد في مجال العقل والعاطفة والبدن تابع للحياة الجماعيّة إلى حدّ كبير. وكما مرّ بنا، فإنّ التطرّف في تأثير الحياة الجماعيّة ليس منطقيّاً كالتطرّف في الشخصيّة الفرديّة للإنسان. فلو كان الإنسان نتاج بيئته ومجتمعه، وأنّ الظروف هي التي تمنح سلوكه وشخصيّته قالباً خاصّاً، فما هو دور التربية والتعليم إذَن؟ ولو كان سلوك الفرد خاضعاً للظروف الاجتماعية، فكيف نُبرّر توقّعاتنا من الأفراد؟

إنّ اموراً من نحو الحريّة، والديموقراطيّة، والحقوق الفردية، والعدالة الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الإعتبار الجانب الفردي والاجتماعي، لها شكلها الخاص بها.

وفي المجتمعات الغربيّة ينصبّ الاهتمام - غالباً - على هذه الأمور من خلال

٣٢

التركيز على الجانب الفردي، وعدم تدخّل المجتمع في شؤون الفرد، فالحريّة تعني أنّ في مقدور كل شخص أن يعمل ما يشاء. ويضيفون إلى ذلك شرط عدم إزعاج الآخرين، بيد أنّ ذلك الشرط لايشكّل عائقاً إلى حدٍّ بعيد، لأنّ في مقدور الأشخاص - في مواطن خاصّة - العمل على إشباع ميولهم ورغباتهم دون أن ُيسبّبوا إزعاجاً للآخرين.

يمشي أحدهم بحريّة، ويمارس شخصان الإتصال الجنسي أمام أنظار الآخرين، فالكل أحرار، ويستطيعون القيام بأي عمل تحت غطاء الحريّة. والمتزوّج حر في أن يترك زوجته ويعشق امرأة غيرها، وزوجته - أيضاً - حرّة في أن تعشق رجلاً آخر. فليس من حق المجتمع أن يقف بوجه هذه الممارسات، وذلك لأنّ الناس أحرار، وليس لأحد الحق في أن يحدّ من حريّة الآخرين.

يسود هذا التصوّر عن الديمقراطيّة كثيراً من الأوساط الثقافية في الغرب، حيث يعمل الإنسان ما يشاء تحت لواء الديمقراطية.

وللحقوق الفرديّة أيضاً في المجال الاجتماعي، والنظام الاقتصادي الخاص شكل معيّن. فللمالك الحق في أن يبني علاقاته مع الآخرين كيفما يشاء. ولِربِّ العمل حق استغلال العامل، وليس لأحد أن يطرح حقوق المستضعفين أو الكادحين على بساط البحث. ويبدو أنّ لهؤلاء حقوقاً، بيد أنّ ضمان حقوق أرباب العمل والملاّكين لا يسمح بالحديث عن حقوق المستضعفين، وهنا تفقد العدالة الاجتماعية مفهومها وقيمتها. وبما أنّ الفرد هو المهم، وأنّ المجتمع أو المنظّمات الاجتماعية ليس لها حق التدخّل في شؤون الأفراد، لذلك فإنّ القضاء على الاستغلال يُعدّ تدخّلاً في شؤونهم، وليس له أيّ مبرّر. وفي مجتمع، يحظى فيه الحسُّ الجماعي بأهميّة خاصّة، يكون لمثل هذه الأمور شكل معيّن. وكما نعلم فإنّ الجماعة تُلقي ظلّها على الأفراد في مثل هذه المجتمعات، فالجماعة ومصالحها هي المهمّة، وما على الفرد إلاّ أن يكون تابعاً لها. وفي هذا المجال تُهمل الحريّة والحقوق الفردية، فالفرد ليس حرّاً

٣٣

في إشباع ميوله ورغباته، بل هو محروم من الحريّة حتى في انتخاب النظام الفكري، والتعبير عن رأيه، والخوض في مختلف القضايا، والنقد، ومعارضة الحكومة، وأمور من هذا القبيل، فكلّ شيء في مثل هذا المجتمع تحت ظل الجماعة. ومن الطبيعي فإنّ عمل الجماعة وتشخيص مصالح المجتمع ينحصران بيد فريق معين، أمّا الأَفراد فهم مرغمون على اتّباع هذا الفريق. ففي هذا المجتمع يضمحلّ استقلال الفرد وحريّته وإبداعه.

إنّ المؤسّسات الجماعية ذاتياً تُعتبر مقدّسة وذات قيمة في مثل هذا المجتمع، وما على الأفراد إلاّ تكييف أنفسهم مع هذه المؤسّسات. وهنا يأتي دَور التربية والتعليم، فهو: العمل على تكييف الأفراد مع المؤسّسات الجماعية. وفي مثل هذا الوضع، ما على الأفراد - في أيّ جماعة كانوا - إلاّ أن يستسلموا للوضع القائم، ويواصلوا حياتهم كالأداة الطيّعة، أو ينفصلوا عن الجماعة وعن أفراد آخرين ليعيشوا في وضع متأرجح. وفي الحالة الثانية يكون الأفراد - عادة - غرباء بالنسبة إلى أنفسهم ومجتمعهم، أو أنّهم يشعرون بالغربة. وليس هناك من هدف أو محفِّز قوي يوجّه أعمالهم وممارساتهم. الحياة في قاموسهم عبث وهُراء، وكل شيء - مبدئيّاً - عبث بالنسبة إليهم، كما أنّهم يحسبون أنفسهم ليسوا ذوي شأن أوبال. وتتحقق هذه الحالة لجميع الذين لا يريدون الإستسلام للوضع القائم. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - عاملاً كان أو رئيساً للعمل، وكاتباً كان أو عالماً، ورئيساً كان أو موظّفاً، ومعلماً كان أو طالباً - سيصاب بعدوى هذا الوضع.

والرائع في مثل هذه الظروف هو طرح النظام الفكري للإسلام، فهو - إطلاقاً - لايشبه الأنظمة الأُخرى، هذا من جانب، كما أنّه ليس نظاماً هجيناً ترقيعيّاً من جانب آخر. وهو - بشكل عام - ذو بعد تربوي، ولنظامه التربوي ميزات معيّنة. فلا الفرد وحده هو المحور، ولا المجتمع. الفرد حر، بيد أنّ للحريّة - في قاموسه - معنىً منسجماً مع الحس الإنساني الرفيع، وفي رحاب الحريّة نفسها، يكون الفرد مكلّفاً

٣٤

مسؤولاً. وهو حر في انتخاب عقيدته، وله حق التعبير عن رأيه في شتّى المسائل، ويمكنه أن يستمتع بثمرة عمله وجهده، وتضمن مصالحه المشروعة عندما لا ترتطم مع المصالح الاجتماعية العامّة، وليس في مقدور أيّة سلطة أو جهاز أن يحدّا من سيادته على نفسه في تقرير مصيره.

إنّ الفرد - مضافاً إلى حريّته واختياره - يشعر بالمسؤولية أمام المجتمع في النظام الإسلامي، ولا تنفصل حياته عن حياة المجتمع. بعبارة أُخرى، لا يقف أحدهما مقابل الآخر على نحو التنازع أو التعارض. وتندمج الحقوق والحريّات الفردية مع رفاه الجماعة في النظام الإسلامي، وفي نفس الوقت يضع النظام التوحيدي الفرد والمجتمع على خط التكامل والتطوّر.

يضطلع المجتمع بمهمّات وواجبات معيّنة في النظام التربوي الإسلامي، فهو لا يترك الفرد بدون قيِّم، إنّما يكفل له ضروريّات الحياة، كما يضمن رفاهه، ويهيّئ له مستلزمات رُقيّه وتطوّره.

وفي هذا النظام تُناقَش معرفة الكون مثلما تناقش علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الكون بالله (عزّوجَل).

وفي التربية والتعليم، يدور البحث حول العلم، ويدور حول التفكير في الوقت نفسه. كما يدور حول تربية القدرة العقليّة، وفي الوقت ذاته يدور حول تربية الجانب الاجتماعي في شخصيّة الإنسان. كما يهتم هذا النظام بالحياة المادية والمعنوية على السواء. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّ حريّة الفرد - في هذا النظام - تندمج في رفاه الجماعة. ويدور الحديث فيه حول العدالة، وحول الإيثار ونكران الذات على التوازن. ويُشكِّل العمل وبذل الجهد أساس الملْكية في هذا النظام، بيد أنّ كل شيءٍ يعود إلى الله، ويصب في صالح الرفاه العام. ويتميّز هذا النظام بأنّ مقياس التفاضل فيه هو التقوى. ومن الطريف فيه أنّه لا يقصر مهمّة التربية والتعليم على المعلم أو على الوالدين فقط، بل يجعلها مهمّة جماعية من خلال طرح مبدأ الأمر

٣٥

بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصبح الجميع مربّين بعضهم للبعض الآخر.

وفي هذا النظام يحظى الفرد، والمجتمع، والنوع الإنساني قاطبةً بالعناية والاهتمام، وتتحرّك العلاقات الإنسانية في خط التطوّر متوكئة على النظام التوحيدي. ويكون مثَل الأخلاق التوحيديّة كمثَل المِنوار أو المشعل الكهربي (Projector) إذ ينير جميع شؤون حياة الإنسان.

٣٦

النّظام التّربوي في الإسلام

٣٧

٣٨

النظام التربوي في الإسلام

نتطرق في البداية إلى ذكر خصائص النظام التربوي في الإسلام، ثمّ نعرِّج على مناقشة أهداف هذا النظام وأساليبه ومحتواه.

خصائص النظام التربوي في الإسلام

الأُولى: البُعد الإلهي

التربية الإسلاميّة تربية إلهيّة، وقد ورد في الحديث المشهور، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». والتربية الإِلهيّة - كما جاءت في القرآن الكريم - صالحة للتطبيق بالنسبة إلى جميع أفراد النوع الإنساني، سواء الأنبياء منهم أو الناس العاديّون.

وفيما يلي عدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تخصّ الموضوع، فإلى تلاوتها ودراستها:

قال تعالى:( وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، (البقرة: ٣١).

وقال (جلّ من قائل):( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ، (العلق: ١ - ٥).

ويخبرنا الباري تعالى في الآية الكريمة التالية عن بلوغ الصالحين من أولاد

٣٩

إبراهيم الخليلعليه‌السلام منصب الإمامة، بعد خضوعهم لتربية إلهيّة مركّزة، فيقول:

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الانبياء: ٧٣ - ٧٢) وحول اصطفاء طالوت، يقول (جلّ شأنه):

( .. إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، (البقرة: ٢٤٧).

وفيما يرتبط بالتربية الإلهيّة التي خصّها الله نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء في القرآن قوله تعالى:

( .. وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عليك عظيماً ) (النساء: ١١٣).

وذُكرت التربية الإلهيّة التي تخصّ العباد في الآيات التي تتحدّث حول المبعث النبوي الشريف، فقال (عزّ من قائل):

( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (آل عمران: ١٦٤).

خصائص التربية الإلهيّة

وردت خصائص التربية الإلهيّة في القرآن الكريم، والأخبار والأحاديث، وسيرة المعصومين، والأدعية المأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، على نحو التفصيل. وها نحن نتحدّث بإيجاز عن قسم من هذه الخصائص:

٤٠

الكمال

تمتاز التربية الإلهيّة بميزة الكمال المطلق. وبالموازنة بين التربية الإلهيّة، وضروب التربية العاديّة، تظهر لنا بعض الحقائق: الأُولى: لا تتمتّع ضروب التربية العاديّة بالشموليّة المطلوبة. بكلمة بديلة، إنّ التربية العادية أو النظم التربوية العلمانية مبتورة - غالباً - حيث تعالج بعداً واحداً، أو عدداً من الأبعاد في شخصيّة الإنسان، في حين أنّ التربية الإلهية، تربية شاملة تُعنى بجميع جوانب الشخصيّة الإنسانية. على سبيل المثال: في التربية الإلهيّة، يغطّي العمل التربوي البُعد المعنوي أو الإيماني بمعيّة الأبعاد العقلية، والاجتماعية، والعاطفيّة، والأخلاقيّة.

بعامّة، بعض المدارس التربويّة العلمانية تهتم بالجانب الفردي فقط، وبعضها يُعنى بالجانب الاجتماعي دون غيره، ولكن في نطاق محدود، أو في قالب خاص. وثمّة مدارس تقصر اهتمامها على تربية الجانب العاطفي، وأُخرى تركِّز على الجانب العقلي. الثانية: تهمل النُظُم التربوية العادية - غالباً - البعد المعنوي.

يمكن التركيز على الكمال من ناحية أُخرى، وهي أنّ التعاليم الدينيّة لا تتأثّر بالعامل الزماني، أو المكاني، أو الاجتماعي، وبعامّة، لا تتأثّر بعامل واحد أو عدد من العوامل، ولا يمكن أن نتصوّر وجود أيّ نوع من التقييد يطبعها، كل ذلك يعود إلى انبثاقها عن السماء. أمّا التعاليم التربوية التي تطبع المدارس العلمانية، فهي محدودة - غالباً - وتسير في اتّجاه واحد او اتّجاهين خاصّين.

الانسجام مع الفطرة البشرية (المرونة)

تنسجم التربية الإلهية مع طبيعة الإنسان وحاجاته، نموّه وتطوّره. وكما ذكرنا - فيما مضى - فإنّ التربية الإلهيّة تعالج الجانبين: الفردي، والاجتماعي، في شخصية الإنسان. كما تعالج البعد المادّي بمقدار الحاجة والضرورة، مثلما تعالج البعد المعنوي الذي يشع على جميع شؤون حياة الإنسان. فالتعاليم الإلهيّة تُلبِّي الحاجات المعنوية

٤١

للإنسان، ولا تغفل عن حاجاته الاجتماعية والعقلية. وتثير مشاعره وعواطفه، وفي الآن ذاته، تعمل على إشباع غريزة حب الاستطلاع، والبحث عن الحقيقة فيه. إنّ النظم التربوية العادية، مع أنّها تواكب أهدافاً موسّعة، بيد أنّها تؤمن بنوع من التقييد في طريق كمال الإنسان ورُقِيِّه. أمّا التربية الإلهيّة فإنّها تُعَبِّد الطريق أمام نموّ الإنسان، وتطوّره الدائم اللاّمحدود، ولذلك فهي تُلبّي حاجات الإنسان الذي ينزع نحو الرُقِي والكمال فطريّاً.

خلود الحياة البشرية

إنّ المدارس العلمانية الماديّة تحدِّد حياة الإنسان في المسافة الواقعة بين الإخصاب والموت. ووفقاً لما تعتقده هذه المدارس، فإنّ الإنسان يولد من بطن أُمّه في ظروف خاصّة، وينمو في بعض المجالات طاوياً مراحل من الحياة، تؤول إلى مرحلة الشيخوخة، وهي المحطّة الأخيرة التي تنتهي عند مَوته. هذه النظرة لا تنسجم مع ما يُلاحَظ في حياة الإنسان.

إنّ الحياة المؤقّتة لا تتلاءم مع الجانب العقلي، وجانب الطموح نحو الكمال في الإنسان، وكذلك فهي لا تتماشى مع أهدافه الأخلاقية والمعنوية بالنسبة إلى الآخرين، وإلى خالق الكون.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ اعتبار حياة الإنسان مؤقّتة، يُقلِّص من حافز السعي لديه، ويصوّر الحياة عبثاً في منظاره، ويجعله يعيش في تخبُّط وضياع، مع شعور بالقلق والتزعزع.

أمّا الاتّصال بعالم الغيب، والاعتقاد بأنّ وجودنا من الله، وأنّنا كادحون إليه فملاقوه، فهذا يهب حياة الإنسان هويّة سرمدية خالدة. وفي ظلّ هذا التوجّه، يصبح للحياة معناها، ويحفِّز الإنسان نحو السعي والجد، وتصطبغ العلاقات مع الآخرين بصبغة خاصّة، ويتقدّم الإنسان خطوة على طريق الكمال.

٤٢

التربية الإلهيّة والسعادة الأبدية

إنّ التربية الدينيّة لا تزيّن الإنسان في عالمنا هذا بالفضائل المعنوية والأخلاقية فقط، ولا تصنع منه إنساناً طامحاً نحو الكمال، مُحبّاً للعلم، مضحّياً، مؤثِراً على نفسه، ورِعاً متّقياً، ناشداً للعدالة فحسب، بل هي تكفل له السعادة السرمدية أيضاً من خلال شدّه إلى بارئ الوجود، وهدايته نحوه. وسنرى بأنّ الإنسان الموحِّد العابد السائر في جادّة التكامل بصورة متواصلة يعيش في حركة دؤوبة، وكلّما دنا من مبدأ الكمال، فإنّه سيظفر بدرجات من الكمال الذي هو أمارة سعادته الحقيقيّة.

إنّ المدارس العلمانية تعمل على ضمان السعادة المؤقتة للإنسان عادة. على سبيل المثال: وجود الإنسان كعضو مفيد في البيت، تَكيّفُه مع المجتمع، ووجوده كطالب منضبط منظّم في المدرسة، أو كفرد ناجح في مهنته ومحلّ عمله.. كل هذه الأشياء هي الأهداف الجوهريّة لحياة الإنسان، وهي التي تعكس سعادته.

الثانية: البعد الإرشادي (التوجيهي)

جاء في القرآن الكريم، وسائر النصوص الإسلامية، أنّ الله - تعالى - هو الهادي والمرشد. وفي الآية المباركة التالية، يشير الباري - جلّ شأنه - إلى دوره في هداية الإنسان، وذلك في طيّات تبيان قضيّة الوحي، فيخاطب نبيَّه العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مذكِّراً إيّاه بأنّه - هوأيضاً - هُدي إلى صراطٍ مستقيم(*) .

( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِي إِلَى‏ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ *

____________________

(*) نذكِّر هنا أنّ الآية هنا تذكرُه على أنّه هو هادٍ أيضاً، وليس مهديّاً إلى صراط مستقيم. كما قال المؤلِّف.

فالأولى إذاً يقول بأنه «هو ايضاً يهدي إلى صراط مستقيم » بدل أن يقول: هُدي إلى صراط مستقيم. المـُعرِّب.

٤٣

صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السَّموات وَمَا فِي الإرْضِ أَلاَ إلى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) ، (الشورى: 53 - 52).

وتنقسم الهداية الإلهيّة الى: هداية تكوينيّة، وهداية تشريعيّة.

الهداية التكوينيّة

تتحقّق الهداية التكوينيّة بشأن كافّة الموجودات، أو بعبارة أُخرى: بشأن العالم كلّه. ولله سنن معيّنة، تنقاد إليها جميع المخلوقات. هذه حقيقة تتجلّى في الآيتين التاليتين:

( .. وَأَوْحَى‏ فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ، (فصلت: 12).

( قَالَ رَبُّنا الّذِي أَعْطَى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى ) ، (طه: 50).

الهداية التشريعيّة

تتحقّق الهداية التشريعيّة بواسطة الأنبياء. والقرآن الكريم يهدي الإنسان كأحسن ما يكون، كما ورد ذلك في الآية التالية:

( إِنّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ.. ) ، (الإسراء: 9).

ويؤدّي الأنبياء أيضاً دوراً إرشاديّاً موجِّهاً، في تبليغ الأحكام الإلهيّة. فقد قال جلّ من قائل:

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الإنبياء: 73).

هداية الإنسان

تتحقّق هداية الله - تبارك وتعالى - للإنسان عن طريقين: الأوّل: عن طريق القوى التي أودعَها فيه. الثاني: عن طريق الأنبياءِ الكرام. إنّ قوّة الإنسان العقلية،

٤٤

ونزعته الطبيعيّة لطلب الحق، والبحث عنه، هيّأت الظروف اللاّزمة لتحرّك الإنسان في طريق الحق، جاء في الجزء الأوّل من كتاب الكافي: أنّ الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام خاطب هشام بن الحكم قائلاً:

«يا هشام، إنّ للهِ على الناسِ حُجَّتينِ: حُجّةً ظاهرة، وحجّةً باطنة. فأمّا الظاهرةُ فالرسلُ والانبياءُ والأئمّةعليهم‌السلام وأَمّا الباطنة فالعقول». الحديث 12 من كتاب العقل والجهل.

وقال - تعالى - في سورة البلد:

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) ، (البلد، 8 - 10).

وقال - جلّ شأنه -:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ) ، (الروم: 30).

ويدلّ الحديث المشهور عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على انسجام النظام الإلهي مع الفطرة البشريّة، والحديث هو:

«كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه: يمجّسانه، أو ينصّرانه، أو يهوّدانه».

كما قلنا فيما تقدّم، فإنّ الهدف المتوخّى من وراء بعثة الأنبياء، هو: هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

إنّ الإنسان - وهو مشمول بالهداية الإلهيّة - حرٌّ في انتخاب طريقه. ولقد تحقّقت هداية الله للإنسان عن طريق الأنبياء. وهو الذي حثّه على التفكّر، والتعقّل، في خلق العالم، وما هو إلاّ الإنسان نفسه، حيث يجب عليه أن يستفيد من التعاليم الإلهيّة، وقوّته العقليّة، فيختار الصراط المستقيم، ويمهِّد بذلك مستلزمات نموّه، وتكامله، وسعادته. قال تعالى:

( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) ، (الإنسان: 3).

وفيما يخصّ قضيّة هداية الإنسان، فإنّ الله - تعالى - حثّ الإنسان على التعقّل

٤٥

والتفكّر في خلق العالم من جانب، ووهبه قوّة التعقّل والتفكّر من جانب آخر؛ ليميِّز بها الطريق السويّ، من الطريق المتعرِّج، وفي طيّات ذلك تركه حرّاً، مختاراً لانتخاب طريقه. وهذا يكشف لنا عن حقيقةٍ هي أنّ الدين الإلهي لا يفرض على الإنسان فرضاً بالقوّة. وعندما يكون رد فعل الإنسان - في موقفه من نظام اعتقاديّ ما - مرتكزاً على التعقّل والتفكّر، ويستطيع ذلك الإنسان تمييز صحّة أُسسه ومصداقيّتها، وفي نفس الوقت، يُترك حرّاً لانتخاب طريقه، حينئذٍ لا يعتبر قبول الدين أمراً قسريّاً إلزاميّاً.

قال تعالى:( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.. ) . عندما نعقد مقارنة بين الإسلام وسائر الإيديولوجيّات والنُظُم، نجده يتفوّق عليها بوجود جانب الهداية والإرشاد فيه، في حين تقوم تلك الإيديولوجيّات والنظم بفرض تعاليمها ومبادئها على الناس كالمعتاد.

وتبيّن الآيات التالية جانب الهداية في القرآن بكل وضوح، فتقول:

( الم * ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلَى‏ هُدىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (البقرة: 1 - 5).

فأُشير في هذه الآية - كما جاء في تفسير الميزان - إلى أُصول الدين الثلاثة، وهي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد.

الهداية والتربية والتعليم

يحظى مفهوم الهداية في التربية والتعليم بقيمة متميّزة. وينظر كثير من المختصّين في حقل التربية والتعليم إلى الهداية، والتربية والتعليم على أنّهما مترادفان. بكلمة بديلة، يعتبرون عملية التربية والتعليم هي نفسها هداية الفرد أو المجتمع، ويرى بعض المربّين أنّ الهداية هي الرسالة الأصلية للتربية والتعليم.

٤٦

إنّ الهداية مفردة ذات مفهوم واسع، فهي تختلف عن مسألة إصدار الأوامر، حيث إنّ إصدار الأوامر يعني أن يطلب الآمر من شخص آخر، القيام بعمل معيّن، وفقاً للتعليمات الصادرة. وتختلف الهداية عن الوصيّة، إذ إنّ الوصيّة تعني: أنّ الفرد الموصي يريد من شخص آخر تنفيذ ما طلبه منه في وصيّته، دون أن يرغمه على ذلك. وتتفاوت عن الموعظة - أيضاً - لأن الموعظة تعني: تنبيه الشخص على القيام بعمل معيّن. وكذلك تختلف الهداية عن التلقين، من حيث إنّ الملقِّن - في عملية التلقين - يريد أن يفرض رأيه على شخص آخر، ويسلب منه فرصة التعقّل والمناقشة. يقال - عادة - إن الهداية تعني: مساعدة الإنسان لمعرفة نفسه وبيئته، وهي قضيّة يريد الشخص الهادي من خلالها: مساعدة الإنسان لحلّ مشاكله عن طريق الحوار، والمناقشة، وتقديم الحلول المختلفة، وإشعاره بإمكانيّاته. وقد يكون موضوع الهداية أحياناً معرفة شيء من الأشياء. وهنا يحاول الشخص الموجِّه (الهادي) - ضمن إشعار الفرد بتجاربه - أن يوضّح الجوانب المختلفة للموضوع كي يبادر الفرد شخصيّاً إلى التعرّف على الموضوع.

هداية الفرد

إنّ هداية الفرد أحد المفاهيم الأساسية في التربية والتعليم، والمقصود من هداية الفرد هنا توجيهه في مختلف الجوانب المؤثرِّة على نموّ شخصيّته. وكما نعلم فإنّ شخصيّة الإنسان ذات أبعاد أساسية، يحصرها علماء النفس - عادة - في أربعة أبعاد هي:

1- البعد العقلي.

2- البعد الاجتماعي.

3- البعد العاطفي.

4 - البعد البدني.

فإذا قمنا بتحليلٍ لسلوك الفرد، فسوف نكون قادرين على تمييز الجوانب الإيمانية، أو الاعتقادية، والعقلية، والاجتماعية، والعاطفية بعضها عن بعض، وسيتجلّى لنا أنّ الجانب البدني أكثر الجوانب محسوسيّة في شخصيّة الإنسان، وهو

٤٧

يتّصل بالجوانب الأُخرى عن طريق الدماغ والأعصاب.

إنّ حبّ الاستطلاع في مجال حقيقة العالم، وتدوين نوع من النظرة الكونية، والطموح نحو الكمال، والهدفيّة، وإعداد وجهة نظر إعتقادية، وتكوين نظام أخلاقي، كلّها إفرازات تترشّح عن البعد الإيماني أو الإعتقادي للإنسان. وهذا البعد - بعامّة - لم يلْقَ اهتماماً من لدنْ علماء النفس، لأسباب منها: أوّلاً: إنّ بعض علماء النفس يتصوّرون أنّ للبعد الإيماني جانباً عقليّاً ذهنيّاً، وليس له أساس حسّي ملموس. إذا نظرنا إلى الحسّيّة على أنّها تعني: وجود شيء في شخصيّة الإنسان، نلاحظ آثاره على سلوكه، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن أن تجعل الحسيّة البعد الإيماني بمنأى عن وجود الإنسان، وتتغاضى عن آثاره في حياته ونموّه.

كما قلنا سابقاً، فإنّ الحافز لدراسة الكون، وإعداد نظرة كونيّة، وانتخاب أهداف أساسيّة، والسعي لكشف معنى الحياة، والجدّ في تدوين فلسفة أو وجهة نظر اعتقادية له، ومحاولة التنازل عن المسائل الشخصية، وبناء علاقات جوهرية مع الآخرين، وكذلك ترسيخ نظام أخلاقي في شخصيّته، كل هذه الأشياء أُمور واقعيّة حقيقيّة لا سبيل إلى إنكارها، وإنّ اهمال هذا البعد نابع من الأرضيّة الذهنيّة لعالم النفس، وقبول فرضيات سابقة ليس لها نصيب من الواقع في أغلب المواطن.

ثانياً: إنّ أتباع مدرسة السلوك، وكذلك علماء النفس الذين يريدون أن يفسّروا سلوك الإنسان وجميع ممارساته من منطلق بدني أو بيولوجي يمتنعون عن الإقرار بوجود البعد الإيماني أو الإعتقادي في الإنسان. مضافاً إلى ذلك فإنّ أنصار هذه المدرسة يؤمنون بوجود شيء ذي طابع حسّي في وجود الإنسان، يخضع للمشاهدة والقياس. إنّ قبول هذا المبدأ أوقع علماء السلوك في ورطة عند تفسيرهم لأبسط عمل نفسي، وهو التعلّم، وكذلك التفكّر والإبداع في الإنسان. لا محالة، أنّ هذا الفريق من علماء النفس قاصر عن تفسير السلوك النابع من البعد الإيماني أو

٤٨

الإعتقادي.

يتصوّر بعض علماء النفس أنّ الخوض في البعد الإيماني من وظيفة علماء الدين أو المتكلِّمين، بيد أنّهم غافلون عن أنّ مهمّة عالم النفس هي تفسير أكبر قدر ممكن من سلوك الإنسان. وفي ضوء التفسير العلمي ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار كل ما يلحظ على سلوك الإنسان. واذا ما انبرت نظرية إلى تفسير جانب أو عدد من الجوانب في سلوك الإنسان، وأهملت الجوانب الاُخرى، فإنّ هذا يدل على ضعفها، كما أنّه لا ينفي حقيقة وجود تلك الجوانب.

إنّ الإدراك والمعرفة، وعقد مقارنة بين الأشياء، وتمييز الأشياء بعضها عن بعض، والتقويم والخوض في مختلف الأُمور، والتنبؤ والتخيّل، كلّها تدخل ضمن البعد العقلي من الشخصيّة.

أمّا التكلّم، والاختلاط مع الآخرين، والتكيّف الجماعي، والتعاون، والمعارضة، والتوافق، والتشابه، وممارسة الأُمور المهنيّة، فجميعها تعود إلى الجانب الاجتماعي من شخصيّة الفرد.

وأمّا السرور والحزن، والخوف والغضب، والحب والكره، والحقد والانفتاح على الآخرين، وأُمور نحوها فتدخل في دائرة الجانب العاطفي من شخصيّة الإنسان.

إنّ الإحساس - بصورة عامّة - وسائر النشاطات البدنية تشكّل جزءاً آخر من شخصيّة الإنسان.

فما ينبغي أن نأخذه بنظر الاعتبار في هذا المجال هو وجود صلة قريبة بين هذه الجوانب بعضها مع بعض. والنشاطات الحسيّة الملموسة لا تنفصل عن النشاطات العقلية، فتنمو قوّة الإدراك لدى الإنسان - بحجم كبير - في المجال الاجتماعي. اما كسب المهارات الاجتماعية فهي ثمرة من ثمار التعلّم. وكيفيّة ظهور العواطف والسيطرة عليها تتّصل بالجانب البدني من جهة، وتأخذ شكلها في المجال الاجتماعي من جهة أُخرى، علماً أنّ للنموّ العاطفي جانباً عقليّاً. وما يجب أن نأخذه في

٤٩

الحساب هو كيفيّة هداية وتوجيه كلّ واحد من هذه الجوانب.

الإسلام وهداية الفرد

يهتمّ الإسلام بتوجيه وهداية أبعاد الشخصيّة الإنسانية كافّة. ووفقاً لنظامه التربوي، فإنّ البعد الإيماني يجد حظّه من التربية بمعيّة الأبعاد الأُخرى للشخصيّة. بكلمة بديلة، إنّ الإسلام - ضمن توثيقه عُرى الإيمان لدى الأفراد - أنار الطريق للمسلمين من خلال تعليماته المفيدة في مجال تربية الجوانب العقلية، والعاطفية، والاجتماعية، والبدنية. ونقوم فيمايلي باستعراض تعاليم القرآن الكريم، ووصايا النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام في حقل تربية الأبعاد المختلفة لشخصيّة الإنسان.

البُعد الإيماني

ورد البعد المعنوي أو الإيماني للإنسان في القرآن الكريم بأشكال مختلفة، فالآية التالية تقدّم لنا الإنسان بصفة أنّه خليفة الله في الأرض:

( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... ) ، (البقرة: 30).

وفي سورة (ص) ضمن بيان خلق الإنسان من التراب، ذكر نفخ الروح الإلهيّة فيه:

( إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ«71» فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ، (ص71 - 72).

ويقول الباري - تعالى - حول خلق الإنسان في أحسن شكل:

( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) ، (التين: 4).

وتتحدّث الآية التالية عن كيفيّة خلق الإنسان من نطفة، ثمّ تزويده بالعين والأُذن، أو العقل والذكاء:

٥٠

( إِنّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ، (الإنسان: 2).

ويخاطب الله - جلّ شأنه - الإنسان الذي بلغتْ نفسه درجةَ النفس المطمئنّة، فيقول:

( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى‏ رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً ) ، (الفجر: 27 - 28).

وذكرت الآية السادسة من سورة الانشقاق عاقبة المؤمنين المتعبدين، فقالت:( يَا أَيّهَا الإنسان إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) .

وحدّدت الآية التالية مكان الأفراد الذين يخافون الله ويبتعدون عن هوى النفس، فقالت:

( وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فإنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏ ) ، (النازعات: 40 - 41).

وفي قسم من الآية السادسة والعشرين من سورة الفتح، يذكر الله - تعالى - السَّكينة التي أنزلها على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المؤمنين، فيقول:

( .. فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى‏ وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا... ) .

وجاء في الآية الرابعة من هذه السورة أيضاً:

( هُوَ الّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ) .

وتطرّقت الآية السابعة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة إلى حالة المؤمنين والكافرين، فقالت:

( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إلى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

٥١

الجانب العقلي

يقع الإنسان - إلى حدٍّ بعيد - تحت تأثير الجانب العقلي من شخصيّته بصفته كائناً يمكنه أن يكون واعياً لسلوكه، وكذلك باعتباره يتمتّع بقوّة التفكير، بكلمة بديلة، يقع الجانبان: الاجتماعي والعاطفي - إلى حدٍّ بعيد - تحت تأثير الجانب العقلي. إنّ أفراد النوع الإنساني - كما سنرى - يستعملون قوّة إدراك الذات للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم، ومسك زمام تلك المشاعر والعواطف، كما إنّهم يخضعون لتأثير القوّة العاقلة. ويتيسّر كسب المهارات الاجتماعية أيضاً بالإفادة من القوّة العاقلة، وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ الجانب العقلي لشخصيّة الإنسان يحظى باهتمام خاص.

جاء في وصيّة نبيّنا الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليعليه‌السلام ، ما نصّه:

«يا علي، إنّه لا فقرَ أشدُّ من الجهل، ولا مالَ أعودُ من العقل، ولا وحدةَ أوحشُ من العُجْب، ولا مُظاهرةَ أحسنُ من المشاورة، ولا عقلَ كالتدبير، ولا حَسبَ كحُسْنِ الخُلق، ولا عبادةَ كالتفكّر»، (تحف العقول، 7).

إنّ جميع ما جاء في هذا الكلام مهم من الناحية التربويّة، وما يُلحظ فيه هو أنه اعتبر الجهل أشد ضروب الفقر، ولا غرو فإنّ إحدى خصائص الإسلام تأكيده الشديد على طلب العلم. وهذا الدين العظيم يتفوّق على سائر النُظُم الفكرية بتركيزه على العقل، وإصراره على العمل بتعقّل واتّزان. وإنّ التأكيد على المشاورة والتفكير يبيّنان أهميّة الجانب العقلي في المدرسة الإسلامية، وسنتحدّث لاحقاً حول التفكير في الإسلام.

جاء في الصفحة السادسة والأربعين من كتاب (تحف العقول) حول خصائص المؤمن ضمن الكلام النبوي الحِكَمي مايلي:

«العلم خدين المؤمن، والحلمُ وزيره، والعقلُ دليله، والصبر أميرُ جنوده،

٥٢

والرفق والدهُ، والبرّ أخوه، والنَسبُ آدم، والحسبُ التقوى، والمروءة إصلاحُ المال».

فمن بين صفات المؤمن - كما نلحظه في هذا الكلام - هي أنّ العلم خدينه، والحلم وزيره، والعقل دليله. وجاء التأكيد فيه أيضاً على الجانب الاجتماعي، والجانب العاطفي. فعلى صعيد العلاقات الاجتماعية وردت التوصية بالصبر والرفق والبر وإصلاح المال من جانب، ومن جانب آخر، اعتبر الكلام جميع أفراد البشر متساوين لأنّهم من آدم، فمقياس التفاضل إذاً هو التقوى.

يحدّد النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله - في هذا الكلام - العقل بأنّه دليل الإنسان. وفي كلام آخر أُثر عنه في كتاب (تحف العقول)، ذكر أنّ شرط التديّن هو وجود العقل. وفيما يلي نص هذا الكلام:

«إنّما يُدرك الخيرُ كُلّه بالعقل، ولا دينَ لمن لا عقل له». (تحف العقول، 53).

ونُقل نفس هذا المضمون في المصدر المذكور على لسان الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان عاقلاً كان له دين).

هوية العقل

لقد كثر الحديث عن العقل، يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «بالعقل يعرف الخير من الشر». وكما ذكرنا فيما تقدم، فإنّ قابلية الإنسان على الإدراك، وتمييز الأشياء، وعقد المقارنة، والتنبؤ والتوقّع، تدخل ضمن دائرة البعد العقلي. وما حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاّ دليل على انّ الإنسان يجب أن يستعين بالعقل على طول منحنى حياته، علماً بأنّ الاستعانة بالعقل تعني العمل بتعقل، ولا يستطيع الإنسان أن يمارس أعماله بتعقل إلاّ إذا طوى مراحل معيّنة في تعامله مع المشاكل، أو الأُمور المختلفة، أو في علاقاته الإنسانية، أو حتى فيما يتّصل بالكون وخالقه.

٥٣

مراحل النشاط العقلي

1- تحليل الظرف أو الوضع

لابدّ للإنسان - مهما كان وضعه - أن يبادر إلى تحليل الظرف المحيط به لكي يتمكّن مِن إدراك ما يواجهه أو تحديد الشيء الذي اتّخذ طابع المشكلة وأدّى إلى إرباك وضعه الاعتيادي. فتحليل الوضع أو الظرف الذي يعيشه الإنسان يجعله وجهاً لوجه أمام الموضوع الذي هو محل البحث أو المشكلة الطارئة، ويساعده هذا التحليل على تحديد ذلك الموضوع أو تلك المشكلة.

فعمل الشخص المثقف أو العاقل هو تحليل الظرف الذي يحيط به. وبهذا يصبح قادراً على تحديد ما يدور حوله أو ما يطرأ من مشكلة أو مشاكل تجعل الوضع مضطرباً.

2 - تحديد المشكلة

إنّ المرحلة الثانية من مراحل النشاط العقلي أو العمل بتعقّل، هي تحديد المشكلة. خلافاً للتصور السائد، فهناك بعض المشاكل، سواء في الحياة الفردية، أو العائلية، أو الاجتماعية يكتنفها الغموض. وعمل الإنسان - بعد مواجهته للوضع المضطرب وتحليله - هو تحديد المشكلة وتبيان حقيقتها. والإنسان العاقل هو من يحدّد المشكلة جيداً ويرسمها في ذهنه بشكل واضح، وفي هذا الحقل بالذات، يحظى تمييز المشكلة الأساسية عن غير الأساسية بأهميّة فائقة. ونحن نعلم أنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل متنوّعة، بيد أنّ هذه المشاكل ليست بمستوى واحد من الأهميّة، لذلك فإنّ تحديد المشكلة الأساسية ضروريّ أيضاً، إذ إنّ بعض المشاكل ليست بالمعنى الحقيقي للمشكلة، وإدراك هذه الحقيقة يُعين الإنسان على ان لا يبذِّر وقته عبثاً من أجل أُمور ليست ذات شأن، مضافاً إلى ذلك، هناك بعض المشاكل يستعصي علاجها في وقت معيّن، بكلمة بديلة، قد يواجه الإنسان مشاكل يجد نفسه قاصراً

٥٤

عن علاجها في ظروف زمنيّة خاصّة، وفي مثل هذا الوضع، إذا بادر الإنسان إلى علاج هذه المشاكل في ظرف غير مناسب، فإنّه سيقع في ورطة.

إنّ تحديد المشكلة يمهّد الطريق لعلاجها. بكلمة بديلة، عندما يواجه الإنسان مشكلة ما، ويتمكّن من تحديدها، ويجعلها ماثلة أمام عينيه، ولها صورة جليّة في ذهنه، فإنّه سيقوم بعلاجها دون أيّ مصاعب.

3 - جمع المعلومات

ينبغي للإنسان - في المرحلة الثالثة - أن يقوم بجمع المعلومات المتعلّقة بالمشكلة ذات العلاقة، ويمكن أن تكون هذه المعلومات مشتقّة من تجاربه السابقة، ومتوفرة من خلال الاطّلاع على تجارب الآخرين أيضاً. بكلمة بديلة، إنّ ما يمكن أن يساعد الإنسان على علاج المشكلة، له مصادر عديدة، منها: تجاربه نفسه. عادة، حينما يتّخذُ أمرٌ منَ الأمور طابع المشكلة لأحد، فإنّ له صلةً بتجاربه وإمكانياته بنحو من الأنحاء. مضافاً إلى ذلك، فإنّ في مقدور الإنسان أن يفيد من تجارب الآخرين عند مواجهته لهذه المشكلة أو لمشاكل مماثلة. ويمكن أن تكون هذه التجارب حاوية على معلومات متعلّقة بالمشكلة، أو أنّها متضمّنة للحلول المطروحة. بإيجاز، يستطيع المرء أن يفيد من آراء الآخرين في علاج المشكلة. ومن المصادر الاخرى: قوّة خيال المرء ذاته أو قوّة تفكيره، إذ يُحتمل أن تموّنه بمعلومات مفيدة.

عادة، لا وجود لعلاج المشكلة في التجارب السابقة للمرء، لأنّه لو كان موجوداً، لما اتّخذ الأمر المعنيّ طابع المشكلة عنده. وفي التوفّر على العلاج، يفاد من التجارب السابقة للمرء، وتجارب الآخرين. مضافاً إلى ذلك، فإنّ قوّة الخيال المودعة لدى الإنسان مؤثّرة تماماً في إعداد العلاج. وعند التعامل مع المسائل العلمية، يدور الحديث حول جمع المعلومات مشفوعة بالأدلّة والوثائق، علماً بأنّ هذه الأدلّة والوثائق لا تقع جميعها تحت تصرّف الإنسان، إذ عليه أن يوفّر بعضها عن

٥٥

طريق المشاهدة والاختبار. وتتكفل دراسات الآخرين بوضع قسم منها تحت تصرفه، كما وتؤدّي القوّة الفكرية أو الإبداعية دورها أيضاً في التوفّر على العلاج.

أمّا عند التعامل مع المسائل الشخصيّة والاجتماعية، فيمكن أن يدور الحديث حول الإمكانيات بدلاً عن المعلومات. بكلمة أُخرى، يمكن للمرء أن يواجه المشاكل، فيبادر إلى علاجها اتكاءً على إمكانياته.

فعندما يواجه الإنسان مشكلة ما، فإنّه يُسخِّر إمكانياته لعلاجها شاء أم أبى، وتشمل هذه الإمكانيات أشياء تقع تحت تصرفه، وأشياء يستطيع أن يوفّرها لنفسه أيضاً. فمثلاً عندما يعيش مشكلة السكن، فإنّه يستطيع أن يفيد ممّا يدّخره لشراء دار له، وكذلك يستطيع أن يبيع قسماً من أثاثه المنزلي ليفيد من المال الحاصل في تحقيق مراده. في الوقت نفسه، يعتبر الإلتجاء إلى المصرف أو الاقتراض من الأصدقاء، من ضمن إمكانياته. فالعمل بتعقّل في مثل هذه الحالات يعني تشخيص الإمكانيات، وتشخيص الحد الأعلى للإفادة منها. ويستطيع الأشخاص أن يفيدوا من تجارب الآخرين في المشاكل الشخصيّة والاجتماعية أيضاً.

4 - إعداد الحلول

ينصبّ نشاط الإنسان في المرحلة الرابعة على السعي لإيجاد العلاج أو طريقة حل معيّنة، وكما ذكرنا من قبل، فإنّ العلاج يجب أن يكون متناسباً مع الإمكانيات المتوفّرة. وتُقدّم حلول متعدّدة أحياناً عند مواجهة المشاكل، سواء كانت هذه المشاكل علمية أو فردية أو اجتماعية، كما في مثال السكن المذكور آنفاً حيث قلنا إنّ الإنسان، حيناً، يفيد من سلفة المصرف لشراء دار له، وحيناً آخر يبيع أثاثه المنزلي، وقد يستعين بأصدقائه في ظرف خاص لتحقيق ذلك. فلكلّ واحد من هذه الحلول المطروحة تأثيره في علاج المشكلة، وما ينبغي للمرء أن يفعله هو انتخاب أفضل الحلول، فالمهم هنا هو تناسب العلاج مع إمكانيات الإنسان.

٥٦

5 - انتخاب أفضل الحلول

يجب على المرء أن يبادر إلى انتخاب أفضل الحلول المطروحة، والحل الأفضل هنا يعني الحل الأكثر تناسباً أو انسجاماً مع إمكانيات الفرد أو الجماعة. ففي الحقل العلمي،يُعتبر الحل الذي يتناسب أكثر مع المعلومات أو الأدلّة والوثائق المتوفّرة هو أفضل الحلول.

إنّ الإنسان العاقل هو الذي يأخذ في حسابه امكانياته أكثر فأكثر عند تعامله مع مختلف المشاكل، ويختار الحل المنسجم مع تلك الإمكانيّات. وعندما يظفر الإنسان بحلٍّ على هذا المنوال،فإنّه يفيد منه لعلاج المشاكل أيضاً في حالات مماثلة. لذلك حينما يقال إنّ عليه أن يعمل بتعقّل، أو يتّخذ من العقل دليلاً له في عمله، فربّما يُطلب منه أن يجتاز هذه المراحل.

واجتياز هذه المراحل، ليس ضروريّاً في علاج المشاكل العلمية فحسب، بل ويجب الإفادة منه عند التعامل مع المشاكل الفردية والجماعية أيضاً.

البعد العاطفي

قلنا - فيما مضى - إنّ حالات الخوف، والغضب، والكراهية، والسرور، والحزن، وأمثالها تدخل في دائرة البعد العاطفي من شخصية الإنسان، وهذا البعد له أهميته لأسباب، منها: أوّلاً: إنّه بُعدٌ معقّد جدّاً لِما لَهُ من أرضيةٍ فسيولوجية، وصلة حميمة مع الأرضية العقلية والاجتماعية. ثانياً: إنّ العواطف تدفع الإنسان نحو الجِدّ والسعي، بوصفها محفّزات قويّة. ثالثاً: إنّ تاريخ الحياة الإنسانية يشهد بأنّ الإنسان يتأثّر بالبعد العاطفي أكثر من البعد العقلي. إنّ عمل االمُربِّي - في صعيد واسع - هو تعليم الإنسان كيفية التعبير عن عواطفه، والتحكّم بها، أمّا مهمّة المثقّفين - في موقفهم من الآراء والعقائد المتنوّعة - فهي: أن يُحرّروا أفكارهم من رِبقة العواطف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويدخلوا في رحاب دراستها من وحي المنطق.

٥٧

إنّ العواطف - بوصفها محفّزات قويّة - تطبع علاقات الناس فيما بينهم بطابع غير إنساني إذا ما انفلت زمامها من يد الإنسان، فكما إنّ الغضب، والحقد، والكراهية تُحوّل علاقات الناس إلى جحيم لا يطاق، كذلك تفعل في علاقات الشعوب إذْ تجرّها إلى الحروب وتكدير الأجواء. بعامّة، فإنّ العواطف تؤثّر في الحياة الفردية والجماعية معاً.

ثمّة نقاط رائعة تستوقف الإنسان وردت في الدعاء الثامن من أدعية الصحيفة السجّاديّة إذ يقول الإمام السجّادعليه‌السلام :

«اللّهمّ إنّي أعوذُ بك من هيجان الحرص، وسَورةِ الغضب، وغلبَةِ الحسدْ(*) ، وضَعفِ الصبر، وقلّةِ القناعة... ومُتابعةِ الهوى...».

لقد عُدّت آثار العواطف - من نحو: الحرص، والغضب، وضعف الصبر، ومتابعة الهوى - على جانب من الأهميّة. والإمامعليه‌السلام يتعوّذ بالله كي يجعله في حصن حصين من تأثير مثل هذه العواطف فيه.

وقد طلب القرآن الكريم من المسلمين أن يعملوا على مسك زِمام عواطفهم، فقال عزّ من قائل:

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ... ) ، (آل عمران: 134).

وينظر الإسلام إلى التعصّب(**) - وهو من العواطف العاتية ذات الضرر الفادح، على أنّه أمر غير محمود ولا مستحسن، فقد أُثر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله كما جاء في كتاب (أُصول الكافي):

«مَنْ تَعصَّبَ أو تُعُصِّبَ له فقد خلَع رِبْقَةَ الإيمانِ عن عنقه».

وأُثر عن النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله:

____________________

(*) هذا هو الصحيح وليس كما ورد في هذا الكتاب. المعرِّب.

(**) القصد من التعصب هنا هو التعامل اللاّ منطقي مع الأمور.

٥٨

«مَنْ كانَ في قلبهِ حَبّةٌ مِن خَردلٍ من عصبيةٍ بعثه اللهُ يومَ القيامةِ مع أَعرابِ الجاهلية».

فالتعصّب مزيج من الجهل والميل والكره، وبعامّة، هو تعامل لا منطقي منبوذ مع الأُمور، وجاء في الصفحة الرابعة عشرة من كتاب (تحف العقول) ضمن توجيهات النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصاياه إلى الإمام عليعليه‌السلام ما نصّه:

«يا عليّ لا تغضب، فإذا غضبتَ فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم. وإذا قيل لك: إتقّ الله، فانبذ غضبك وراجع حلمك».

الوعي العاطفي

تبرز ملامح الوعي العاطفي على شكل تعبير عن العواطف، وتَحكُّم بها، فعندما يقال بأنّ فلاناً من الناس يتمتّع بوعي عاطفي، فهذا يعني أنّه يعرف كيف يعبّر عن عواطفه أو كيف يُبدي عواطفه. على سبيل المثال، يمكن أن يبدر الغضب من الإنسان بأشكال متنوّعة، فقد يعبّر عن غضبه من خلال التفوّه بكلمات بذيئة، أو افتعال ضجّة وضوضاء، أو عتاب منطقي، أو التزام جانب الصمت، أو اعتزال الموقف، وأمثال ذلك. وبعض هذه الممارسات لا تتفق - عادة - مع المعايير الأخلاقية والاجتماعية، فالإنسان الذي يتمتع بالوعي العقلي، يُعبّر عن غضبه - مثلاً - بشكل مستساغ يُقرّه المجتمع. وغنيّ عن القول بأنّ العتاب المنطقي أفضل من التفوّه بالكلمات البذيئة، والصمت أفضل من الضجّة والضوضاء. فجودة سلوك معيّن أمر يتعلّق بانسجامه مع المعايير الأساسية في المجتمع.

إنّ البعد الآخر من الوعي العاطفي يرتبط بكيفيّة التحكّم بالعواطف، فالشخص الذي يتمتع بالوعي العاطفي هو من يستطيع أن يتحكّم بعواطفه أكثر. والإنسان - بالطبع - يواجه المنغِّصات والمشاكل المتنوّعة في حياته، وهذه - بدورها - تثير

٥٩

عواطفه، فإذا ما عجز عن التحكّم بعواطفه والسيطرة عليها، فلن يُعَدَّ قادراً على مواصلة حياته، وسيجد صعوبة في مخالطة الآخرين ومعاشرتهم.

وقد جاءت التوصيات في القرآن الكريم، وأقوال المعصومين، تؤكّد على المسلمين أن: يكظموا غيظهم، ويملكوا أنفسهم عند الغضب، ولا ينساقوا وراء رغباتهم اللاّإنسانية أو هوى أنفسهم، ويصفحوا عند مشاهداتهم للممارسات العابثة الطائشة خلال تعاملهم مع الآخرين.

وسوف نلحظ في فصول قادمة من هذا الكتاب أنّ للإسلام بُعدين تربويين جوهريين: أحدهما: البعد النظري، حيث تمّ تبليغ التعاليم الأساسية من خلال الآيات القرآنية وأقوال أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على شكل مبادئ وقواعد وتعليمات. والثاني: البعد العملي، وهذا هو المعوَّل عليه في الإسلام، إذ إنّ المهم فيه هو التربية العملية أو التعريف بالشخصيات التي تتميّز سيرتها بطابع تربوي تام. وسيرة النبيّ الإكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام والصحابة، والمسلمين الأبرار، سيرة تعليميّة توجيهيّة. فاحتكاكهم بالناس، وكون أعمالهم وممارساتهم مرآة للمبادئ التي يعلّمونها أو يبلّغون لها بشكل تام، كلّ ذلك له تأثيره البالغ في تربية المجتمع.

أدعوكم لمطالعة القصّة التالية المذكورة في الجزء الأوّل من كتاب (قصص الأبرار) لمؤلفه العلاّمة الراحل المرحوم مطهّري نقلاً عن الجزء الحادي عشر من كتاب (بحار الأنوار).

أراد رجل نصراني أن يستهزئ بالإمام محمّد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام الملقّب بـ (الباقر)، فقال له: أنت بقرة؟، وبكلّ سماحته ولطفه أجابه الباقرعليه‌السلام : لا، أنا الباقر. فمضى النصراني يمعن باستخفافه بالإمام، فقال: أنت ابن الطبّاخة؟، فقالعليه‌السلام : «تلك هي حرفتها..» فقال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة. فاجابه الإمام: «إن كنتَ صدقتَ غفر اللهُ لها، وإن كنتَ كذبتَ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221