التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام16%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163471 / تحميل: 9125
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الكمال

تمتاز التربية الإلهيّة بميزة الكمال المطلق. وبالموازنة بين التربية الإلهيّة، وضروب التربية العاديّة، تظهر لنا بعض الحقائق: الأُولى: لا تتمتّع ضروب التربية العاديّة بالشموليّة المطلوبة. بكلمة بديلة، إنّ التربية العادية أو النظم التربوية العلمانية مبتورة - غالباً - حيث تعالج بعداً واحداً، أو عدداً من الأبعاد في شخصيّة الإنسان، في حين أنّ التربية الإلهية، تربية شاملة تُعنى بجميع جوانب الشخصيّة الإنسانية. على سبيل المثال: في التربية الإلهيّة، يغطّي العمل التربوي البُعد المعنوي أو الإيماني بمعيّة الأبعاد العقلية، والاجتماعية، والعاطفيّة، والأخلاقيّة.

بعامّة، بعض المدارس التربويّة العلمانية تهتم بالجانب الفردي فقط، وبعضها يُعنى بالجانب الاجتماعي دون غيره، ولكن في نطاق محدود، أو في قالب خاص. وثمّة مدارس تقصر اهتمامها على تربية الجانب العاطفي، وأُخرى تركِّز على الجانب العقلي. الثانية: تهمل النُظُم التربوية العادية - غالباً - البعد المعنوي.

يمكن التركيز على الكمال من ناحية أُخرى، وهي أنّ التعاليم الدينيّة لا تتأثّر بالعامل الزماني، أو المكاني، أو الاجتماعي، وبعامّة، لا تتأثّر بعامل واحد أو عدد من العوامل، ولا يمكن أن نتصوّر وجود أيّ نوع من التقييد يطبعها، كل ذلك يعود إلى انبثاقها عن السماء. أمّا التعاليم التربوية التي تطبع المدارس العلمانية، فهي محدودة - غالباً - وتسير في اتّجاه واحد او اتّجاهين خاصّين.

الانسجام مع الفطرة البشرية (المرونة)

تنسجم التربية الإلهية مع طبيعة الإنسان وحاجاته، نموّه وتطوّره. وكما ذكرنا - فيما مضى - فإنّ التربية الإلهيّة تعالج الجانبين: الفردي، والاجتماعي، في شخصية الإنسان. كما تعالج البعد المادّي بمقدار الحاجة والضرورة، مثلما تعالج البعد المعنوي الذي يشع على جميع شؤون حياة الإنسان. فالتعاليم الإلهيّة تُلبِّي الحاجات المعنوية

٤١

للإنسان، ولا تغفل عن حاجاته الاجتماعية والعقلية. وتثير مشاعره وعواطفه، وفي الآن ذاته، تعمل على إشباع غريزة حب الاستطلاع، والبحث عن الحقيقة فيه. إنّ النظم التربوية العادية، مع أنّها تواكب أهدافاً موسّعة، بيد أنّها تؤمن بنوع من التقييد في طريق كمال الإنسان ورُقِيِّه. أمّا التربية الإلهيّة فإنّها تُعَبِّد الطريق أمام نموّ الإنسان، وتطوّره الدائم اللاّمحدود، ولذلك فهي تُلبّي حاجات الإنسان الذي ينزع نحو الرُقِي والكمال فطريّاً.

خلود الحياة البشرية

إنّ المدارس العلمانية الماديّة تحدِّد حياة الإنسان في المسافة الواقعة بين الإخصاب والموت. ووفقاً لما تعتقده هذه المدارس، فإنّ الإنسان يولد من بطن أُمّه في ظروف خاصّة، وينمو في بعض المجالات طاوياً مراحل من الحياة، تؤول إلى مرحلة الشيخوخة، وهي المحطّة الأخيرة التي تنتهي عند مَوته. هذه النظرة لا تنسجم مع ما يُلاحَظ في حياة الإنسان.

إنّ الحياة المؤقّتة لا تتلاءم مع الجانب العقلي، وجانب الطموح نحو الكمال في الإنسان، وكذلك فهي لا تتماشى مع أهدافه الأخلاقية والمعنوية بالنسبة إلى الآخرين، وإلى خالق الكون.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ اعتبار حياة الإنسان مؤقّتة، يُقلِّص من حافز السعي لديه، ويصوّر الحياة عبثاً في منظاره، ويجعله يعيش في تخبُّط وضياع، مع شعور بالقلق والتزعزع.

أمّا الاتّصال بعالم الغيب، والاعتقاد بأنّ وجودنا من الله، وأنّنا كادحون إليه فملاقوه، فهذا يهب حياة الإنسان هويّة سرمدية خالدة. وفي ظلّ هذا التوجّه، يصبح للحياة معناها، ويحفِّز الإنسان نحو السعي والجد، وتصطبغ العلاقات مع الآخرين بصبغة خاصّة، ويتقدّم الإنسان خطوة على طريق الكمال.

٤٢

التربية الإلهيّة والسعادة الأبدية

إنّ التربية الدينيّة لا تزيّن الإنسان في عالمنا هذا بالفضائل المعنوية والأخلاقية فقط، ولا تصنع منه إنساناً طامحاً نحو الكمال، مُحبّاً للعلم، مضحّياً، مؤثِراً على نفسه، ورِعاً متّقياً، ناشداً للعدالة فحسب، بل هي تكفل له السعادة السرمدية أيضاً من خلال شدّه إلى بارئ الوجود، وهدايته نحوه. وسنرى بأنّ الإنسان الموحِّد العابد السائر في جادّة التكامل بصورة متواصلة يعيش في حركة دؤوبة، وكلّما دنا من مبدأ الكمال، فإنّه سيظفر بدرجات من الكمال الذي هو أمارة سعادته الحقيقيّة.

إنّ المدارس العلمانية تعمل على ضمان السعادة المؤقتة للإنسان عادة. على سبيل المثال: وجود الإنسان كعضو مفيد في البيت، تَكيّفُه مع المجتمع، ووجوده كطالب منضبط منظّم في المدرسة، أو كفرد ناجح في مهنته ومحلّ عمله.. كل هذه الأشياء هي الأهداف الجوهريّة لحياة الإنسان، وهي التي تعكس سعادته.

الثانية: البعد الإرشادي (التوجيهي)

جاء في القرآن الكريم، وسائر النصوص الإسلامية، أنّ الله - تعالى - هو الهادي والمرشد. وفي الآية المباركة التالية، يشير الباري - جلّ شأنه - إلى دوره في هداية الإنسان، وذلك في طيّات تبيان قضيّة الوحي، فيخاطب نبيَّه العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مذكِّراً إيّاه بأنّه - هوأيضاً - هُدي إلى صراطٍ مستقيم(*) .

( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِي إِلَى‏ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ *

____________________

(*) نذكِّر هنا أنّ الآية هنا تذكرُه على أنّه هو هادٍ أيضاً، وليس مهديّاً إلى صراط مستقيم. كما قال المؤلِّف.

فالأولى إذاً يقول بأنه «هو ايضاً يهدي إلى صراط مستقيم » بدل أن يقول: هُدي إلى صراط مستقيم. المـُعرِّب.

٤٣

صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السَّموات وَمَا فِي الإرْضِ أَلاَ إلى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) ، (الشورى: ٥٣ - ٥٢).

وتنقسم الهداية الإلهيّة الى: هداية تكوينيّة، وهداية تشريعيّة.

الهداية التكوينيّة

تتحقّق الهداية التكوينيّة بشأن كافّة الموجودات، أو بعبارة أُخرى: بشأن العالم كلّه. ولله سنن معيّنة، تنقاد إليها جميع المخلوقات. هذه حقيقة تتجلّى في الآيتين التاليتين:

( .. وَأَوْحَى‏ فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ، (فصلت: ١٢).

( قَالَ رَبُّنا الّذِي أَعْطَى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى ) ، (طه: ٥٠).

الهداية التشريعيّة

تتحقّق الهداية التشريعيّة بواسطة الأنبياء. والقرآن الكريم يهدي الإنسان كأحسن ما يكون، كما ورد ذلك في الآية التالية:

( إِنّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ.. ) ، (الإسراء: ٩).

ويؤدّي الأنبياء أيضاً دوراً إرشاديّاً موجِّهاً، في تبليغ الأحكام الإلهيّة. فقد قال جلّ من قائل:

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الإنبياء: ٧٣).

هداية الإنسان

تتحقّق هداية الله - تبارك وتعالى - للإنسان عن طريقين: الأوّل: عن طريق القوى التي أودعَها فيه. الثاني: عن طريق الأنبياءِ الكرام. إنّ قوّة الإنسان العقلية،

٤٤

ونزعته الطبيعيّة لطلب الحق، والبحث عنه، هيّأت الظروف اللاّزمة لتحرّك الإنسان في طريق الحق، جاء في الجزء الأوّل من كتاب الكافي: أنّ الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام خاطب هشام بن الحكم قائلاً:

«يا هشام، إنّ للهِ على الناسِ حُجَّتينِ: حُجّةً ظاهرة، وحجّةً باطنة. فأمّا الظاهرةُ فالرسلُ والانبياءُ والأئمّةعليهم‌السلام وأَمّا الباطنة فالعقول». الحديث ١٢ من كتاب العقل والجهل.

وقال - تعالى - في سورة البلد:

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) ، (البلد، ٨ - ١٠).

وقال - جلّ شأنه -:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ) ، (الروم: ٣٠).

ويدلّ الحديث المشهور عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على انسجام النظام الإلهي مع الفطرة البشريّة، والحديث هو:

«كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه: يمجّسانه، أو ينصّرانه، أو يهوّدانه».

كما قلنا فيما تقدّم، فإنّ الهدف المتوخّى من وراء بعثة الأنبياء، هو: هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

إنّ الإنسان - وهو مشمول بالهداية الإلهيّة - حرٌّ في انتخاب طريقه. ولقد تحقّقت هداية الله للإنسان عن طريق الأنبياء. وهو الذي حثّه على التفكّر، والتعقّل، في خلق العالم، وما هو إلاّ الإنسان نفسه، حيث يجب عليه أن يستفيد من التعاليم الإلهيّة، وقوّته العقليّة، فيختار الصراط المستقيم، ويمهِّد بذلك مستلزمات نموّه، وتكامله، وسعادته. قال تعالى:

( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) ، (الإنسان: ٣).

وفيما يخصّ قضيّة هداية الإنسان، فإنّ الله - تعالى - حثّ الإنسان على التعقّل

٤٥

والتفكّر في خلق العالم من جانب، ووهبه قوّة التعقّل والتفكّر من جانب آخر؛ ليميِّز بها الطريق السويّ، من الطريق المتعرِّج، وفي طيّات ذلك تركه حرّاً، مختاراً لانتخاب طريقه. وهذا يكشف لنا عن حقيقةٍ هي أنّ الدين الإلهي لا يفرض على الإنسان فرضاً بالقوّة. وعندما يكون رد فعل الإنسان - في موقفه من نظام اعتقاديّ ما - مرتكزاً على التعقّل والتفكّر، ويستطيع ذلك الإنسان تمييز صحّة أُسسه ومصداقيّتها، وفي نفس الوقت، يُترك حرّاً لانتخاب طريقه، حينئذٍ لا يعتبر قبول الدين أمراً قسريّاً إلزاميّاً.

قال تعالى:( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.. ) . عندما نعقد مقارنة بين الإسلام وسائر الإيديولوجيّات والنُظُم، نجده يتفوّق عليها بوجود جانب الهداية والإرشاد فيه، في حين تقوم تلك الإيديولوجيّات والنظم بفرض تعاليمها ومبادئها على الناس كالمعتاد.

وتبيّن الآيات التالية جانب الهداية في القرآن بكل وضوح، فتقول:

( الم * ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلَى‏ هُدىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (البقرة: ١ - ٥).

فأُشير في هذه الآية - كما جاء في تفسير الميزان - إلى أُصول الدين الثلاثة، وهي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد.

الهداية والتربية والتعليم

يحظى مفهوم الهداية في التربية والتعليم بقيمة متميّزة. وينظر كثير من المختصّين في حقل التربية والتعليم إلى الهداية، والتربية والتعليم على أنّهما مترادفان. بكلمة بديلة، يعتبرون عملية التربية والتعليم هي نفسها هداية الفرد أو المجتمع، ويرى بعض المربّين أنّ الهداية هي الرسالة الأصلية للتربية والتعليم.

٤٦

إنّ الهداية مفردة ذات مفهوم واسع، فهي تختلف عن مسألة إصدار الأوامر، حيث إنّ إصدار الأوامر يعني أن يطلب الآمر من شخص آخر، القيام بعمل معيّن، وفقاً للتعليمات الصادرة. وتختلف الهداية عن الوصيّة، إذ إنّ الوصيّة تعني: أنّ الفرد الموصي يريد من شخص آخر تنفيذ ما طلبه منه في وصيّته، دون أن يرغمه على ذلك. وتتفاوت عن الموعظة - أيضاً - لأن الموعظة تعني: تنبيه الشخص على القيام بعمل معيّن. وكذلك تختلف الهداية عن التلقين، من حيث إنّ الملقِّن - في عملية التلقين - يريد أن يفرض رأيه على شخص آخر، ويسلب منه فرصة التعقّل والمناقشة. يقال - عادة - إن الهداية تعني: مساعدة الإنسان لمعرفة نفسه وبيئته، وهي قضيّة يريد الشخص الهادي من خلالها: مساعدة الإنسان لحلّ مشاكله عن طريق الحوار، والمناقشة، وتقديم الحلول المختلفة، وإشعاره بإمكانيّاته. وقد يكون موضوع الهداية أحياناً معرفة شيء من الأشياء. وهنا يحاول الشخص الموجِّه (الهادي) - ضمن إشعار الفرد بتجاربه - أن يوضّح الجوانب المختلفة للموضوع كي يبادر الفرد شخصيّاً إلى التعرّف على الموضوع.

هداية الفرد

إنّ هداية الفرد أحد المفاهيم الأساسية في التربية والتعليم، والمقصود من هداية الفرد هنا توجيهه في مختلف الجوانب المؤثرِّة على نموّ شخصيّته. وكما نعلم فإنّ شخصيّة الإنسان ذات أبعاد أساسية، يحصرها علماء النفس - عادة - في أربعة أبعاد هي:

١- البعد العقلي.

٢- البعد الاجتماعي.

٣- البعد العاطفي.

٤ - البعد البدني.

فإذا قمنا بتحليلٍ لسلوك الفرد، فسوف نكون قادرين على تمييز الجوانب الإيمانية، أو الاعتقادية، والعقلية، والاجتماعية، والعاطفية بعضها عن بعض، وسيتجلّى لنا أنّ الجانب البدني أكثر الجوانب محسوسيّة في شخصيّة الإنسان، وهو

٤٧

يتّصل بالجوانب الأُخرى عن طريق الدماغ والأعصاب.

إنّ حبّ الاستطلاع في مجال حقيقة العالم، وتدوين نوع من النظرة الكونية، والطموح نحو الكمال، والهدفيّة، وإعداد وجهة نظر إعتقادية، وتكوين نظام أخلاقي، كلّها إفرازات تترشّح عن البعد الإيماني أو الإعتقادي للإنسان. وهذا البعد - بعامّة - لم يلْقَ اهتماماً من لدنْ علماء النفس، لأسباب منها: أوّلاً: إنّ بعض علماء النفس يتصوّرون أنّ للبعد الإيماني جانباً عقليّاً ذهنيّاً، وليس له أساس حسّي ملموس. إذا نظرنا إلى الحسّيّة على أنّها تعني: وجود شيء في شخصيّة الإنسان، نلاحظ آثاره على سلوكه، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن أن تجعل الحسيّة البعد الإيماني بمنأى عن وجود الإنسان، وتتغاضى عن آثاره في حياته ونموّه.

كما قلنا سابقاً، فإنّ الحافز لدراسة الكون، وإعداد نظرة كونيّة، وانتخاب أهداف أساسيّة، والسعي لكشف معنى الحياة، والجدّ في تدوين فلسفة أو وجهة نظر اعتقادية له، ومحاولة التنازل عن المسائل الشخصية، وبناء علاقات جوهرية مع الآخرين، وكذلك ترسيخ نظام أخلاقي في شخصيّته، كل هذه الأشياء أُمور واقعيّة حقيقيّة لا سبيل إلى إنكارها، وإنّ اهمال هذا البعد نابع من الأرضيّة الذهنيّة لعالم النفس، وقبول فرضيات سابقة ليس لها نصيب من الواقع في أغلب المواطن.

ثانياً: إنّ أتباع مدرسة السلوك، وكذلك علماء النفس الذين يريدون أن يفسّروا سلوك الإنسان وجميع ممارساته من منطلق بدني أو بيولوجي يمتنعون عن الإقرار بوجود البعد الإيماني أو الإعتقادي في الإنسان. مضافاً إلى ذلك فإنّ أنصار هذه المدرسة يؤمنون بوجود شيء ذي طابع حسّي في وجود الإنسان، يخضع للمشاهدة والقياس. إنّ قبول هذا المبدأ أوقع علماء السلوك في ورطة عند تفسيرهم لأبسط عمل نفسي، وهو التعلّم، وكذلك التفكّر والإبداع في الإنسان. لا محالة، أنّ هذا الفريق من علماء النفس قاصر عن تفسير السلوك النابع من البعد الإيماني أو

٤٨

الإعتقادي.

يتصوّر بعض علماء النفس أنّ الخوض في البعد الإيماني من وظيفة علماء الدين أو المتكلِّمين، بيد أنّهم غافلون عن أنّ مهمّة عالم النفس هي تفسير أكبر قدر ممكن من سلوك الإنسان. وفي ضوء التفسير العلمي ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار كل ما يلحظ على سلوك الإنسان. واذا ما انبرت نظرية إلى تفسير جانب أو عدد من الجوانب في سلوك الإنسان، وأهملت الجوانب الاُخرى، فإنّ هذا يدل على ضعفها، كما أنّه لا ينفي حقيقة وجود تلك الجوانب.

إنّ الإدراك والمعرفة، وعقد مقارنة بين الأشياء، وتمييز الأشياء بعضها عن بعض، والتقويم والخوض في مختلف الأُمور، والتنبؤ والتخيّل، كلّها تدخل ضمن البعد العقلي من الشخصيّة.

أمّا التكلّم، والاختلاط مع الآخرين، والتكيّف الجماعي، والتعاون، والمعارضة، والتوافق، والتشابه، وممارسة الأُمور المهنيّة، فجميعها تعود إلى الجانب الاجتماعي من شخصيّة الفرد.

وأمّا السرور والحزن، والخوف والغضب، والحب والكره، والحقد والانفتاح على الآخرين، وأُمور نحوها فتدخل في دائرة الجانب العاطفي من شخصيّة الإنسان.

إنّ الإحساس - بصورة عامّة - وسائر النشاطات البدنية تشكّل جزءاً آخر من شخصيّة الإنسان.

فما ينبغي أن نأخذه بنظر الاعتبار في هذا المجال هو وجود صلة قريبة بين هذه الجوانب بعضها مع بعض. والنشاطات الحسيّة الملموسة لا تنفصل عن النشاطات العقلية، فتنمو قوّة الإدراك لدى الإنسان - بحجم كبير - في المجال الاجتماعي. اما كسب المهارات الاجتماعية فهي ثمرة من ثمار التعلّم. وكيفيّة ظهور العواطف والسيطرة عليها تتّصل بالجانب البدني من جهة، وتأخذ شكلها في المجال الاجتماعي من جهة أُخرى، علماً أنّ للنموّ العاطفي جانباً عقليّاً. وما يجب أن نأخذه في

٤٩

الحساب هو كيفيّة هداية وتوجيه كلّ واحد من هذه الجوانب.

الإسلام وهداية الفرد

يهتمّ الإسلام بتوجيه وهداية أبعاد الشخصيّة الإنسانية كافّة. ووفقاً لنظامه التربوي، فإنّ البعد الإيماني يجد حظّه من التربية بمعيّة الأبعاد الأُخرى للشخصيّة. بكلمة بديلة، إنّ الإسلام - ضمن توثيقه عُرى الإيمان لدى الأفراد - أنار الطريق للمسلمين من خلال تعليماته المفيدة في مجال تربية الجوانب العقلية، والعاطفية، والاجتماعية، والبدنية. ونقوم فيمايلي باستعراض تعاليم القرآن الكريم، ووصايا النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام في حقل تربية الأبعاد المختلفة لشخصيّة الإنسان.

البُعد الإيماني

ورد البعد المعنوي أو الإيماني للإنسان في القرآن الكريم بأشكال مختلفة، فالآية التالية تقدّم لنا الإنسان بصفة أنّه خليفة الله في الأرض:

( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... ) ، (البقرة: ٣٠).

وفي سورة (ص) ضمن بيان خلق الإنسان من التراب، ذكر نفخ الروح الإلهيّة فيه:

( إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ«٧١» فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ، (ص٧١ - ٧٢).

ويقول الباري - تعالى - حول خلق الإنسان في أحسن شكل:

( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) ، (التين: ٤).

وتتحدّث الآية التالية عن كيفيّة خلق الإنسان من نطفة، ثمّ تزويده بالعين والأُذن، أو العقل والذكاء:

٥٠

( إِنّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ، (الإنسان: ٢).

ويخاطب الله - جلّ شأنه - الإنسان الذي بلغتْ نفسه درجةَ النفس المطمئنّة، فيقول:

( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى‏ رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً ) ، (الفجر: ٢٧ - ٢٨).

وذكرت الآية السادسة من سورة الانشقاق عاقبة المؤمنين المتعبدين، فقالت:( يَا أَيّهَا الإنسان إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) .

وحدّدت الآية التالية مكان الأفراد الذين يخافون الله ويبتعدون عن هوى النفس، فقالت:

( وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فإنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏ ) ، (النازعات: ٤٠ - ٤١).

وفي قسم من الآية السادسة والعشرين من سورة الفتح، يذكر الله - تعالى - السَّكينة التي أنزلها على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المؤمنين، فيقول:

( .. فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى‏ وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا... ) .

وجاء في الآية الرابعة من هذه السورة أيضاً:

( هُوَ الّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ) .

وتطرّقت الآية السابعة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة إلى حالة المؤمنين والكافرين، فقالت:

( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إلى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

٥١

الجانب العقلي

يقع الإنسان - إلى حدٍّ بعيد - تحت تأثير الجانب العقلي من شخصيّته بصفته كائناً يمكنه أن يكون واعياً لسلوكه، وكذلك باعتباره يتمتّع بقوّة التفكير، بكلمة بديلة، يقع الجانبان: الاجتماعي والعاطفي - إلى حدٍّ بعيد - تحت تأثير الجانب العقلي. إنّ أفراد النوع الإنساني - كما سنرى - يستعملون قوّة إدراك الذات للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم، ومسك زمام تلك المشاعر والعواطف، كما إنّهم يخضعون لتأثير القوّة العاقلة. ويتيسّر كسب المهارات الاجتماعية أيضاً بالإفادة من القوّة العاقلة، وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ الجانب العقلي لشخصيّة الإنسان يحظى باهتمام خاص.

جاء في وصيّة نبيّنا الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليعليه‌السلام ، ما نصّه:

«يا علي، إنّه لا فقرَ أشدُّ من الجهل، ولا مالَ أعودُ من العقل، ولا وحدةَ أوحشُ من العُجْب، ولا مُظاهرةَ أحسنُ من المشاورة، ولا عقلَ كالتدبير، ولا حَسبَ كحُسْنِ الخُلق، ولا عبادةَ كالتفكّر»، (تحف العقول، ٧).

إنّ جميع ما جاء في هذا الكلام مهم من الناحية التربويّة، وما يُلحظ فيه هو أنه اعتبر الجهل أشد ضروب الفقر، ولا غرو فإنّ إحدى خصائص الإسلام تأكيده الشديد على طلب العلم. وهذا الدين العظيم يتفوّق على سائر النُظُم الفكرية بتركيزه على العقل، وإصراره على العمل بتعقّل واتّزان. وإنّ التأكيد على المشاورة والتفكير يبيّنان أهميّة الجانب العقلي في المدرسة الإسلامية، وسنتحدّث لاحقاً حول التفكير في الإسلام.

جاء في الصفحة السادسة والأربعين من كتاب (تحف العقول) حول خصائص المؤمن ضمن الكلام النبوي الحِكَمي مايلي:

«العلم خدين المؤمن، والحلمُ وزيره، والعقلُ دليله، والصبر أميرُ جنوده،

٥٢

والرفق والدهُ، والبرّ أخوه، والنَسبُ آدم، والحسبُ التقوى، والمروءة إصلاحُ المال».

فمن بين صفات المؤمن - كما نلحظه في هذا الكلام - هي أنّ العلم خدينه، والحلم وزيره، والعقل دليله. وجاء التأكيد فيه أيضاً على الجانب الاجتماعي، والجانب العاطفي. فعلى صعيد العلاقات الاجتماعية وردت التوصية بالصبر والرفق والبر وإصلاح المال من جانب، ومن جانب آخر، اعتبر الكلام جميع أفراد البشر متساوين لأنّهم من آدم، فمقياس التفاضل إذاً هو التقوى.

يحدّد النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله - في هذا الكلام - العقل بأنّه دليل الإنسان. وفي كلام آخر أُثر عنه في كتاب (تحف العقول)، ذكر أنّ شرط التديّن هو وجود العقل. وفيما يلي نص هذا الكلام:

«إنّما يُدرك الخيرُ كُلّه بالعقل، ولا دينَ لمن لا عقل له». (تحف العقول، ٥٣).

ونُقل نفس هذا المضمون في المصدر المذكور على لسان الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان عاقلاً كان له دين).

هوية العقل

لقد كثر الحديث عن العقل، يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «بالعقل يعرف الخير من الشر». وكما ذكرنا فيما تقدم، فإنّ قابلية الإنسان على الإدراك، وتمييز الأشياء، وعقد المقارنة، والتنبؤ والتوقّع، تدخل ضمن دائرة البعد العقلي. وما حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاّ دليل على انّ الإنسان يجب أن يستعين بالعقل على طول منحنى حياته، علماً بأنّ الاستعانة بالعقل تعني العمل بتعقل، ولا يستطيع الإنسان أن يمارس أعماله بتعقل إلاّ إذا طوى مراحل معيّنة في تعامله مع المشاكل، أو الأُمور المختلفة، أو في علاقاته الإنسانية، أو حتى فيما يتّصل بالكون وخالقه.

٥٣

مراحل النشاط العقلي

١- تحليل الظرف أو الوضع

لابدّ للإنسان - مهما كان وضعه - أن يبادر إلى تحليل الظرف المحيط به لكي يتمكّن مِن إدراك ما يواجهه أو تحديد الشيء الذي اتّخذ طابع المشكلة وأدّى إلى إرباك وضعه الاعتيادي. فتحليل الوضع أو الظرف الذي يعيشه الإنسان يجعله وجهاً لوجه أمام الموضوع الذي هو محل البحث أو المشكلة الطارئة، ويساعده هذا التحليل على تحديد ذلك الموضوع أو تلك المشكلة.

فعمل الشخص المثقف أو العاقل هو تحليل الظرف الذي يحيط به. وبهذا يصبح قادراً على تحديد ما يدور حوله أو ما يطرأ من مشكلة أو مشاكل تجعل الوضع مضطرباً.

٢ - تحديد المشكلة

إنّ المرحلة الثانية من مراحل النشاط العقلي أو العمل بتعقّل، هي تحديد المشكلة. خلافاً للتصور السائد، فهناك بعض المشاكل، سواء في الحياة الفردية، أو العائلية، أو الاجتماعية يكتنفها الغموض. وعمل الإنسان - بعد مواجهته للوضع المضطرب وتحليله - هو تحديد المشكلة وتبيان حقيقتها. والإنسان العاقل هو من يحدّد المشكلة جيداً ويرسمها في ذهنه بشكل واضح، وفي هذا الحقل بالذات، يحظى تمييز المشكلة الأساسية عن غير الأساسية بأهميّة فائقة. ونحن نعلم أنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل متنوّعة، بيد أنّ هذه المشاكل ليست بمستوى واحد من الأهميّة، لذلك فإنّ تحديد المشكلة الأساسية ضروريّ أيضاً، إذ إنّ بعض المشاكل ليست بالمعنى الحقيقي للمشكلة، وإدراك هذه الحقيقة يُعين الإنسان على ان لا يبذِّر وقته عبثاً من أجل أُمور ليست ذات شأن، مضافاً إلى ذلك، هناك بعض المشاكل يستعصي علاجها في وقت معيّن، بكلمة بديلة، قد يواجه الإنسان مشاكل يجد نفسه قاصراً

٥٤

عن علاجها في ظروف زمنيّة خاصّة، وفي مثل هذا الوضع، إذا بادر الإنسان إلى علاج هذه المشاكل في ظرف غير مناسب، فإنّه سيقع في ورطة.

إنّ تحديد المشكلة يمهّد الطريق لعلاجها. بكلمة بديلة، عندما يواجه الإنسان مشكلة ما، ويتمكّن من تحديدها، ويجعلها ماثلة أمام عينيه، ولها صورة جليّة في ذهنه، فإنّه سيقوم بعلاجها دون أيّ مصاعب.

٣ - جمع المعلومات

ينبغي للإنسان - في المرحلة الثالثة - أن يقوم بجمع المعلومات المتعلّقة بالمشكلة ذات العلاقة، ويمكن أن تكون هذه المعلومات مشتقّة من تجاربه السابقة، ومتوفرة من خلال الاطّلاع على تجارب الآخرين أيضاً. بكلمة بديلة، إنّ ما يمكن أن يساعد الإنسان على علاج المشكلة، له مصادر عديدة، منها: تجاربه نفسه. عادة، حينما يتّخذُ أمرٌ منَ الأمور طابع المشكلة لأحد، فإنّ له صلةً بتجاربه وإمكانياته بنحو من الأنحاء. مضافاً إلى ذلك، فإنّ في مقدور الإنسان أن يفيد من تجارب الآخرين عند مواجهته لهذه المشكلة أو لمشاكل مماثلة. ويمكن أن تكون هذه التجارب حاوية على معلومات متعلّقة بالمشكلة، أو أنّها متضمّنة للحلول المطروحة. بإيجاز، يستطيع المرء أن يفيد من آراء الآخرين في علاج المشكلة. ومن المصادر الاخرى: قوّة خيال المرء ذاته أو قوّة تفكيره، إذ يُحتمل أن تموّنه بمعلومات مفيدة.

عادة، لا وجود لعلاج المشكلة في التجارب السابقة للمرء، لأنّه لو كان موجوداً، لما اتّخذ الأمر المعنيّ طابع المشكلة عنده. وفي التوفّر على العلاج، يفاد من التجارب السابقة للمرء، وتجارب الآخرين. مضافاً إلى ذلك، فإنّ قوّة الخيال المودعة لدى الإنسان مؤثّرة تماماً في إعداد العلاج. وعند التعامل مع المسائل العلمية، يدور الحديث حول جمع المعلومات مشفوعة بالأدلّة والوثائق، علماً بأنّ هذه الأدلّة والوثائق لا تقع جميعها تحت تصرّف الإنسان، إذ عليه أن يوفّر بعضها عن

٥٥

طريق المشاهدة والاختبار. وتتكفل دراسات الآخرين بوضع قسم منها تحت تصرفه، كما وتؤدّي القوّة الفكرية أو الإبداعية دورها أيضاً في التوفّر على العلاج.

أمّا عند التعامل مع المسائل الشخصيّة والاجتماعية، فيمكن أن يدور الحديث حول الإمكانيات بدلاً عن المعلومات. بكلمة أُخرى، يمكن للمرء أن يواجه المشاكل، فيبادر إلى علاجها اتكاءً على إمكانياته.

فعندما يواجه الإنسان مشكلة ما، فإنّه يُسخِّر إمكانياته لعلاجها شاء أم أبى، وتشمل هذه الإمكانيات أشياء تقع تحت تصرفه، وأشياء يستطيع أن يوفّرها لنفسه أيضاً. فمثلاً عندما يعيش مشكلة السكن، فإنّه يستطيع أن يفيد ممّا يدّخره لشراء دار له، وكذلك يستطيع أن يبيع قسماً من أثاثه المنزلي ليفيد من المال الحاصل في تحقيق مراده. في الوقت نفسه، يعتبر الإلتجاء إلى المصرف أو الاقتراض من الأصدقاء، من ضمن إمكانياته. فالعمل بتعقّل في مثل هذه الحالات يعني تشخيص الإمكانيات، وتشخيص الحد الأعلى للإفادة منها. ويستطيع الأشخاص أن يفيدوا من تجارب الآخرين في المشاكل الشخصيّة والاجتماعية أيضاً.

٤ - إعداد الحلول

ينصبّ نشاط الإنسان في المرحلة الرابعة على السعي لإيجاد العلاج أو طريقة حل معيّنة، وكما ذكرنا من قبل، فإنّ العلاج يجب أن يكون متناسباً مع الإمكانيات المتوفّرة. وتُقدّم حلول متعدّدة أحياناً عند مواجهة المشاكل، سواء كانت هذه المشاكل علمية أو فردية أو اجتماعية، كما في مثال السكن المذكور آنفاً حيث قلنا إنّ الإنسان، حيناً، يفيد من سلفة المصرف لشراء دار له، وحيناً آخر يبيع أثاثه المنزلي، وقد يستعين بأصدقائه في ظرف خاص لتحقيق ذلك. فلكلّ واحد من هذه الحلول المطروحة تأثيره في علاج المشكلة، وما ينبغي للمرء أن يفعله هو انتخاب أفضل الحلول، فالمهم هنا هو تناسب العلاج مع إمكانيات الإنسان.

٥٦

٥ - انتخاب أفضل الحلول

يجب على المرء أن يبادر إلى انتخاب أفضل الحلول المطروحة، والحل الأفضل هنا يعني الحل الأكثر تناسباً أو انسجاماً مع إمكانيات الفرد أو الجماعة. ففي الحقل العلمي،يُعتبر الحل الذي يتناسب أكثر مع المعلومات أو الأدلّة والوثائق المتوفّرة هو أفضل الحلول.

إنّ الإنسان العاقل هو الذي يأخذ في حسابه امكانياته أكثر فأكثر عند تعامله مع مختلف المشاكل، ويختار الحل المنسجم مع تلك الإمكانيّات. وعندما يظفر الإنسان بحلٍّ على هذا المنوال،فإنّه يفيد منه لعلاج المشاكل أيضاً في حالات مماثلة. لذلك حينما يقال إنّ عليه أن يعمل بتعقّل، أو يتّخذ من العقل دليلاً له في عمله، فربّما يُطلب منه أن يجتاز هذه المراحل.

واجتياز هذه المراحل، ليس ضروريّاً في علاج المشاكل العلمية فحسب، بل ويجب الإفادة منه عند التعامل مع المشاكل الفردية والجماعية أيضاً.

البعد العاطفي

قلنا - فيما مضى - إنّ حالات الخوف، والغضب، والكراهية، والسرور، والحزن، وأمثالها تدخل في دائرة البعد العاطفي من شخصية الإنسان، وهذا البعد له أهميته لأسباب، منها: أوّلاً: إنّه بُعدٌ معقّد جدّاً لِما لَهُ من أرضيةٍ فسيولوجية، وصلة حميمة مع الأرضية العقلية والاجتماعية. ثانياً: إنّ العواطف تدفع الإنسان نحو الجِدّ والسعي، بوصفها محفّزات قويّة. ثالثاً: إنّ تاريخ الحياة الإنسانية يشهد بأنّ الإنسان يتأثّر بالبعد العاطفي أكثر من البعد العقلي. إنّ عمل االمُربِّي - في صعيد واسع - هو تعليم الإنسان كيفية التعبير عن عواطفه، والتحكّم بها، أمّا مهمّة المثقّفين - في موقفهم من الآراء والعقائد المتنوّعة - فهي: أن يُحرّروا أفكارهم من رِبقة العواطف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويدخلوا في رحاب دراستها من وحي المنطق.

٥٧

إنّ العواطف - بوصفها محفّزات قويّة - تطبع علاقات الناس فيما بينهم بطابع غير إنساني إذا ما انفلت زمامها من يد الإنسان، فكما إنّ الغضب، والحقد، والكراهية تُحوّل علاقات الناس إلى جحيم لا يطاق، كذلك تفعل في علاقات الشعوب إذْ تجرّها إلى الحروب وتكدير الأجواء. بعامّة، فإنّ العواطف تؤثّر في الحياة الفردية والجماعية معاً.

ثمّة نقاط رائعة تستوقف الإنسان وردت في الدعاء الثامن من أدعية الصحيفة السجّاديّة إذ يقول الإمام السجّادعليه‌السلام :

«اللّهمّ إنّي أعوذُ بك من هيجان الحرص، وسَورةِ الغضب، وغلبَةِ الحسدْ(*) ، وضَعفِ الصبر، وقلّةِ القناعة... ومُتابعةِ الهوى...».

لقد عُدّت آثار العواطف - من نحو: الحرص، والغضب، وضعف الصبر، ومتابعة الهوى - على جانب من الأهميّة. والإمامعليه‌السلام يتعوّذ بالله كي يجعله في حصن حصين من تأثير مثل هذه العواطف فيه.

وقد طلب القرآن الكريم من المسلمين أن يعملوا على مسك زِمام عواطفهم، فقال عزّ من قائل:

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ... ) ، (آل عمران: ١٣٤).

وينظر الإسلام إلى التعصّب(**) - وهو من العواطف العاتية ذات الضرر الفادح، على أنّه أمر غير محمود ولا مستحسن، فقد أُثر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله كما جاء في كتاب (أُصول الكافي):

«مَنْ تَعصَّبَ أو تُعُصِّبَ له فقد خلَع رِبْقَةَ الإيمانِ عن عنقه».

وأُثر عن النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله:

____________________

(*) هذا هو الصحيح وليس كما ورد في هذا الكتاب. المعرِّب.

(**) القصد من التعصب هنا هو التعامل اللاّ منطقي مع الأمور.

٥٨

«مَنْ كانَ في قلبهِ حَبّةٌ مِن خَردلٍ من عصبيةٍ بعثه اللهُ يومَ القيامةِ مع أَعرابِ الجاهلية».

فالتعصّب مزيج من الجهل والميل والكره، وبعامّة، هو تعامل لا منطقي منبوذ مع الأُمور، وجاء في الصفحة الرابعة عشرة من كتاب (تحف العقول) ضمن توجيهات النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصاياه إلى الإمام عليعليه‌السلام ما نصّه:

«يا عليّ لا تغضب، فإذا غضبتَ فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم. وإذا قيل لك: إتقّ الله، فانبذ غضبك وراجع حلمك».

الوعي العاطفي

تبرز ملامح الوعي العاطفي على شكل تعبير عن العواطف، وتَحكُّم بها، فعندما يقال بأنّ فلاناً من الناس يتمتّع بوعي عاطفي، فهذا يعني أنّه يعرف كيف يعبّر عن عواطفه أو كيف يُبدي عواطفه. على سبيل المثال، يمكن أن يبدر الغضب من الإنسان بأشكال متنوّعة، فقد يعبّر عن غضبه من خلال التفوّه بكلمات بذيئة، أو افتعال ضجّة وضوضاء، أو عتاب منطقي، أو التزام جانب الصمت، أو اعتزال الموقف، وأمثال ذلك. وبعض هذه الممارسات لا تتفق - عادة - مع المعايير الأخلاقية والاجتماعية، فالإنسان الذي يتمتع بالوعي العقلي، يُعبّر عن غضبه - مثلاً - بشكل مستساغ يُقرّه المجتمع. وغنيّ عن القول بأنّ العتاب المنطقي أفضل من التفوّه بالكلمات البذيئة، والصمت أفضل من الضجّة والضوضاء. فجودة سلوك معيّن أمر يتعلّق بانسجامه مع المعايير الأساسية في المجتمع.

إنّ البعد الآخر من الوعي العاطفي يرتبط بكيفيّة التحكّم بالعواطف، فالشخص الذي يتمتع بالوعي العاطفي هو من يستطيع أن يتحكّم بعواطفه أكثر. والإنسان - بالطبع - يواجه المنغِّصات والمشاكل المتنوّعة في حياته، وهذه - بدورها - تثير

٥٩

عواطفه، فإذا ما عجز عن التحكّم بعواطفه والسيطرة عليها، فلن يُعَدَّ قادراً على مواصلة حياته، وسيجد صعوبة في مخالطة الآخرين ومعاشرتهم.

وقد جاءت التوصيات في القرآن الكريم، وأقوال المعصومين، تؤكّد على المسلمين أن: يكظموا غيظهم، ويملكوا أنفسهم عند الغضب، ولا ينساقوا وراء رغباتهم اللاّإنسانية أو هوى أنفسهم، ويصفحوا عند مشاهداتهم للممارسات العابثة الطائشة خلال تعاملهم مع الآخرين.

وسوف نلحظ في فصول قادمة من هذا الكتاب أنّ للإسلام بُعدين تربويين جوهريين: أحدهما: البعد النظري، حيث تمّ تبليغ التعاليم الأساسية من خلال الآيات القرآنية وأقوال أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على شكل مبادئ وقواعد وتعليمات. والثاني: البعد العملي، وهذا هو المعوَّل عليه في الإسلام، إذ إنّ المهم فيه هو التربية العملية أو التعريف بالشخصيات التي تتميّز سيرتها بطابع تربوي تام. وسيرة النبيّ الإكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام والصحابة، والمسلمين الأبرار، سيرة تعليميّة توجيهيّة. فاحتكاكهم بالناس، وكون أعمالهم وممارساتهم مرآة للمبادئ التي يعلّمونها أو يبلّغون لها بشكل تام، كلّ ذلك له تأثيره البالغ في تربية المجتمع.

أدعوكم لمطالعة القصّة التالية المذكورة في الجزء الأوّل من كتاب (قصص الأبرار) لمؤلفه العلاّمة الراحل المرحوم مطهّري نقلاً عن الجزء الحادي عشر من كتاب (بحار الأنوار).

أراد رجل نصراني أن يستهزئ بالإمام محمّد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام الملقّب بـ (الباقر)، فقال له: أنت بقرة؟، وبكلّ سماحته ولطفه أجابه الباقرعليه‌السلام : لا، أنا الباقر. فمضى النصراني يمعن باستخفافه بالإمام، فقال: أنت ابن الطبّاخة؟، فقالعليه‌السلام : «تلك هي حرفتها..» فقال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة. فاجابه الإمام: «إن كنتَ صدقتَ غفر اللهُ لها، وإن كنتَ كذبتَ

٦٠

غفر اللهُ لك».

وتدلُ هذه الحادثة على عظمة الإمام، وسموّ شخصيّته، وعمق البعد النفسي لها من خلال ما أبداه من ردّ فعل تجاه هذا الرجل، كما تدل على المدى البعيد الذي بلغه في كبح جماح نفسه، والتحكّم بعواطفه.

البُعد الاجتماعي

يحظى البعد الاجتماعي لشخصيّة الإنسان بأهميّة خاصّة. وكما نعلم فإنّ الإنسان حيوان اجتماعي، وإنسانيّته تَبَع للبعد الاجتماعي من حياته إلى حدّ بعيد. فلغته، وإدراكه، وقوّة تفكيره، وكيفيّة تعبيره عن عواطفه وتحكّمه بها، وثقافته، وحضارته، أمور تقع تحت تأثير الحياة الجماعية. والتيارات الاجتماعية من نحو: التكييف أو الانسجام والتفاهم، والتعاون، والمعارضة، والوفاق أو الاتّفاق، والتعايش بين الأُمم والشعوب، تشكّل الركائز الأصلية للحياة الجماعية.

إنّ التيّار الجماعي يمثّل حالة يتآصر فيها الفرد والجماعة معاً، وهذه الآصرة تحدث تبدّلاً مستساغاً، تتيسّر الحياة الجماعية للناس في ظلّه.

إنّ أهمّ التيّارات الجماعية هي: التكييف الاجتماعي، والتعاون، والمعارضة، والوفاق، والتشابه.

التكييف الاجتماعي(*)

ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار عدداً من الملاحظات في التكييف الاجتماعي.

____________________

(*) ورد هذا العنوان في كتاب آخر للمؤلف عنوانه (مباديء التربية والتعليم وفلسفتهما)، وذكر معه ما يقابله بالإنجليزية (Social adjustment) وبناء على هذا الاصطلاح الإنجليزي، فإنّه اصطلاح نفساني يعني: (التوافق الاجتماعي) لكن بما أنّ التوافق سيأتي أيضاً ضمن التيارات الجماعية وعرّبناه: الوفاق أو الاتفاق، لذلك آثرنا أن يكون تعريب هذا الاصطلاح هنا (التكييف الاجتماعي) لمناسبته مع الموضوع.

٦١

الأُولى: يجب أن يعيش أفراد النوع الإنساني جنباً إلى جنب، سواء كانوا في شرائح اجتماعية صغيرة، أو في مجتمع خاص، أو في المجتمع الإنساني الكبير. فوجود التفاهم والإنسجام بين الأشخاص والأُمم والشعوب ضروري لمواصلة الحياة الإنسانية. الثانية: لابُد للمرء في التكيّف الاجتماعي أن يتمرّس على عادات ومهارات ضرورية من أجل المساهمة في الحياة الاجتماعية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، عليه أن يترك قسماً من عاداته، أو يجعل ميوله ورغباته الشخصيّة تحت ظلّ المصالح الجماعية كي يتسنى له العيش مع الجماعة. الثالثة: لا يعني التكيّف الاجتماعي الاستسلام أو الخضوع أمام الجماعة، أو الإقرار بالوضع القائم. وكما قلنا فيما سبق، فإنّ الإنسان شخص يعيش مع الجماعة، ومدلول هذه العبارة هو أنّ الإنسان، وهو يعيش مع الآخرين، لا يفقد استقلاليّته وهويّته. بكلمة بديلة، إنّ الإنسان، وهو يحافظ على خصائصه الفردية، يعيش التفاهم والوحدة مع الآخرين. ولابد أن يظلّ حرّاً حتى يتسنّى له تحديد الهدف، واختيار النهج المناسب، والتعامل مع المشاكل على أساس تجاربه وامكانياته، عند ذلك يستطيع أن يستعمل قدرته الابداعية ويأتي بأشياء جديدة. في الآن ذاته، فإنّ الحياة الجماعية تتطلّب منه أن ينسجم مع الآخرين، ويستعذب الحياة معهم.

إنّ المسائل المشتركة، والحاجات الاجتماعية الأساسية، ومواصلة الحياة الجماعية، أمور تقتضي الوحدة والانسجام بين الفرد والجماعة. وقد ورد التأكيد في الإسلام على وحدة المسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

٦٢

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا.. ) ، (آل عمران: 103).

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.. ) ، (الحجرات: 10).

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ.. ) ، (التوبة: 71).

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: 13).

التعاون

إنّ أحد التيارات الأساسية في الحياة الإنسانية هو التعاون، وهودعامة جوهرية فيها، وشرط أصلي من شروط الحياة الجماعية مهما كانت الظروف والأحوال، قال تعالى:

( .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏.. ) ، (المائدة: 2).

وتشكّل وحدة الهدف، وتقسيم العمل، وتقبّل المسؤولية، والتنسيق بين النشاطات، وتمتع الناس كافّة بالعمل الجماعي، العناصر الأصلية للتعاون. بكلمة بديلة، يجب أن يكون هناك هدف مشترك للأشخاص الذين يعيشون مع الجماعة. وليس ثمّة شك في أنّ الحاجات المشتركة تتمحّض أهدافاً متماثلة. ففي الحياة الجماعية، ينبغي لكل أحد أن يضطلع بالمسؤولية وفقاً لاستعداده. وإنّ تقسيم الأعمال، والاضطلاع بالمسؤولية شرطان لمواصلة الحياة الجماعية مبدئيّاً. في الآن ذاته يجب أن تكون ممارسات ونشاطات الأفراد، والشرائح الاجتماعية متناسقة في تيّار التعاون - بعامّة - وفي الحياة الجماعية. وإذا شيّد أفرادُ مجتمع من المجتمعات أساس حياتهم على التعاون، فإنّ الجميع سيقطفون ثمار الممارسات والنشاطات الجماعية.

وقد عَدَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الالتزام الاجتماعي والقيام بالمسؤولية، من شروط الإسلام، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٦٣

«من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».

عادة، ثمّة فريق من الناس لا يهتم بالحياة الجماعية، ويتنصّل عن رسالته أمام المجتمع. ويتصوّر هؤلاء أن الاهتمام بالحياة الخاصّة وتنظيمها، وعلاج المشاكل الشخصية من واجباتهم الأصلية، كما يرون أنّ الحياة الجماعية مجموعة من الحياة الخصوصية للأفراد، لذلك إذا قام كل فرد ببذل جهده في تنظيم عمله، وبادر إلى علاج مشاكله بنفسه، فلا تعد هناك مشكلة تذكر في المجتمع.

بيد أنّ للحياة الجماعية أيضاً حالتها الخاصّة بها، إذ أنها - بمعزل عن الحياة الفردية - تحمل معها مشاكل ومصاعب تخصّها. فكلّ وحدة اجتماعية - مهما كانت ضئيلة الحجم - تطرح مسائل وقضايا متميّزة عن مسائل الأفراد وقضاياهم. وفي واقعنا المعاصر يثار سؤال مفاده: من الذي يأخذ على عاتقه علاج المشاكل الاجتماعية؟ فلو قام جميع الأشخاص بعلاج مشاكلهم الخاصّة بهم فقط، فإنّ المشاكل الاجتماعية العامّة ستظلّ مستعصية، كما أنّهم سيحدثون خللاً في الحياة الجماعية.

وبسبب الأهميّة التي يحظى بها هذا البعد من حياة الإنسان، ورد التأكيد في الإسلام على أمور، نحو: التعاون، والصفح، والعدالة، والأخوّة، والمساواة أمام القانون، وأمور مماثلة.

المعارضة

ثمّة تيّار آخر من التيارات الاجتماعية هو اختلاف الأفراد - أو المعارضة المبدئية - فيما بينهم في المجتمع. وكما نعلم، فإنّ أفراد النوع الإنساني يتفاوتون فيما بينهم من حيث الخصائص النفسية، والتجارب الاجتماعية، والإمكانيات والاختصاصات. وهذا الاختلاف يفضي إلى حلول متنوّعة يقدّمها الأشخاص لعلاج مختلف المشاكل. وتتحقق تلبية الحاجات الاجتماعية بطرق متنوعة، فينبغي

٦٤

أن تُتْرك الحرية للأشخاص كي يتسنى لهم تقديم الأسلوب الكفيل بتلبية الحاجات. وعلى هذا النمط يطرحون آراء متباينة حول مختلف الأمور، علماً بأنّ الاختلاف في وجهات النظر - من جهة - أمر طبيعي، إذ يتيح الفرصة للأشخاص أن يتناموا حسب استعداداتهم ليؤدّوا دورهم في الحياة الجماعية. مضافاً إلى ذلك، فإنّ ترك الأشخاص أحراراً في طرح عقائدهم المتنوّعة يمهّد السبيل لتقديم آراء ونظرات جوهرية. بكلمة بديلة، عندما يكون الأشخاص أحراراً، ويستعملون عقولهم، فإنّهم يستطيعون أن يقدّموا حلولاً متنوّعة لاجتثاث جذور المشاكل القائمة، ومن بين هذه الحلول يمكن العثور - غالباً - على الأساليب الجوهرية للتعامل مع المشاكل.

ولابدّ من التفريق هنا بين المعارضة المبدئية، وبين المشاكسة، وتتبّع العثرات، والتعييب، والتهجّم على الآخرين، وإثارة العداء والتفرقة.

عندما تُطرح مشكلة في المجتمع، فيمكن أن يتصدّى المسؤولون أو ذووالعلاقة - ممّن لهم تماس مباشر مع المشكلة - إلى تقديم علاج معيّن لحلّها. وقد لا يتّفق المرء مع هذا العلاج، ولديه دليل مخالفته. فالانفتاح على مثل هذا الأمر، وإتاحة الفرصة لتقديم خطط متنوّعة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها بحريّة، كل ذلك يمهّد الطريق للظفر بأفكار ونظريات جديدة. وما على الأشخاص إلاّ مناقشة النظريات المتنوّعة ودراستها، ومن ثمّ قبول ما هو منطقي منها. قال تعالى:

( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: 17 - 18).

ويجب أن يكون أسلوب المعارضة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها، منطقيّاً وإنسانيّاً. في هذا المجال، فإنّ في الآية التالية توجيهات جمّة. قال تعالى:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

٦٥

الوفاق

وهو تيّار اجتماعي يطمح أشخاصه إلى تقليص تضادّهم أو اختلافاتهم. ومن الصعوبة بمكان - أحياناً - أن يقبل الأشخاص آراء بعضهم البعض، ففي مثل هذه الحالة يعزم الطرفان المتباحثان أو المتنازعان على إحلال الوفاق بينهما محل الاختلاف. وقد أكّد الشارع المقدّس على الإصلاح بين إخوة الدين، قال تعالى:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. ) ، (الحجرات:10).

العلاقات مع الآخرين

حثّ الإسلام - بعامّة - أتْباعَه على التعايش، وحسن المعاشرة. جاء في الآية الثامنة من سورة الممتحنة، قوله تعالى:

( لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) .

فقد ورد التأكيد بصراحة على التعايش مع الآخرين. وعندما أوصى الإمام عليعليه‌السلام مالك الأشتر (رضي الله عنه) بالإحسان إلى الآخرين، أكّد عليه أن لا يفرّق بين الأخ في الدين والنظير في الخَلْق. وتقدّم لنا الآية الكريمة التالية، مسألة التفاهم والانسجام بين الشعوب، فتقول:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: 13).

التربية البدنية

بالرغم من أنّ الإسلام أكّد على وجوب تأمين كل ما هو ضروري لمواصلة الحياة الطبيعية، بيد أنّه أوصى أيضاً بالمحافظة على سلامة البدن، وله تعليماته المبثوثة في القرآن الكريم، والأخبار الواردة في هذا المجال.

٦٦

كما تقدّم الكلام فيما مضى، فإنّ للسمع والبصر دوراً أساسياً، كدور العقل في دراسة الكون، والتعرف على الأمور المختلفة. بكلمة بديلة، يتحقق النشاط البدني (الجوارح) بنفس الشكل الذي يتحقق فيه النشاط العقلي، وذلك من خلال التعرف على الكون ودراسته.

وقد أوصى الإسلام بمزاولة رياضات تخصّ تربية البدن، من نحو: الرماية، وركوب الخيل.

الثالثة: البُعد الحركي

تتمتع مفردة الحركية باعتبار خاص من بين المفردات الكثيرة، وتستعمل هذه المفردة في علم الاجتماع بكثرة، فالمجتمعات الحركية هي المجتمعات التي تعيش في تبدل وتطور دائبين، أمّا المجتمعات التي تفقد صفة الحركية، ولا تحدث فيها تبدّلات وتطوّرات أساسية، فهي مجتمعات ساكنة أو متوقفّة.

تستعمل هذه المفردة - أحياناً - فيما يخصّ المدارس الفكرية، أو أساليب نظام من الإنظمة، فالمدرسة القابلة للتبدّل والتطور أو المرنة، تعتبر مدرسة متطوّرة أو حركية. وتتّصل حركية أُسلوب من الأساليب بمرونته.

تنبثق المدرسة أو النظام من مبادئ أو أُسس، وأهداف، وأساليب، ومحتوى خاص. وفي مدرسة من المدارس أو نظام فكري من النظم، تأخذ المبادئ، والأهداف، والأساليب، والمحتوى مكانها في خطّة واحدة بشكل منطقي. وعلاقة هذه الأمور بعضها مع البعض، ومع النظام كلّه علاقة ذات جوانب متعدّدة. وتتأثّر أجزاء نظام من النظم بعضها ببعض: فكلّ جزء يؤثّر على الجزء الآخر، وهو نفسه يقع تحت تأثير الأجزاء الأخرى. وهذا التأثير المتبادل أو ذو الجوانب المتعدّدة قائم بين النظام بمجموعه وبين كلّ جزء من أجزائه.

يعبّرون عن هذه العلاقة - أحياناً - بأنّها علاقة عضوية أو حيوية. وكلّما كان

٦٧

هناك تنسيق أكثر بين أجزاء النظام الواحد، وكذلك بين كل جزء وبين النظام بمجموعه، فإنّ تماسك ذلك النظام سوف يكون أكثر. وحركية نظام من الأنظمة جديرة بالملاحظة لسببين: أحدهما: داخلي، والآخر: خارجي. ففيما يخصّ السبب الداخلي، لا نعبّر عن نظام بأنّه نظام حركي إلاّ إذا كانت لمبادئه وأهدافه وأساليبه ميزات خاصّة. على سبيل المثال، ينبغي أن تكون المبادئ شاملة، أو أنّها تستوعب جوانب مختلفة، وكذلك تكون الأهداف موسّعة ومنميّة، والأساليب مرنة وقابلة للتطبيق في حالات متنوّعة.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الحركية الداخلية لنظام من النظم ترتبط بكيفيّة اتّصال أجزائه أو أركانه أيضاً. فإذا كانت المبادئ، والأهداف، والأساليب متناسقة فيما بينها، ويكمّل أحدها دور الآخر في تطبيق النظام، فإنّ حركية النظام سوف تزداد في هذه الحالة.

وتتجلّى حركية كل نظام من الناحية الخارجية من خلال تأثير هذا النظام ودوره في الأمور الأخرى. وعندما نتحدث عن نظام فكري أو تربوي، فعلينا أن نلحظ كيف يكون موقفه من الإنسان؟ على سبيل المثال، هل إنّ هذا النظام مؤثّر في تطوّر الإنسان؟ هل يعزّز علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية؟ هل هو قادر على علاج مشاكل بني الإنسان؟ هل ينظّم علاقة الإنسان والكون بشكل منطقي؟ هل يجعل علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية بشكل لا تكون فيه صالحة للاستمرار والبقاء فحسب، بل لها دورها في تحسين وضع الفرد والمجتمع وتطوّرهما أيضاً؟

فالحركية الداخلية، والحركية الخارجية لنظام من النظم غير منفصلتين عن بعضهما، ويستطيع النظام أن يؤدّي دوره بالنسبة إلى الإنسان في وقت تكون فيه مبادؤه وأسسه ذات شمولية كافية، وأهدافه موسّعة ومنميّة، وأساليبه صالحة للتطبيق في حالات متنوّعة.

إنّ حركية كل نظام ترتبط بالبعد العقلي لذلك النظام إلى حدّ بعيد. والقصد

٦٨

من البعد العقلي هو قابليّة النظام للمناقشة والدراسة المنطقية، ومجاراته للتفكير الصحيح. وكلّما كانت أُسس نظام من الأنظمة قابلة للتسويغ والتبرير من الناحية العقلية أو المنطقية، فإنّ ذلك النظام يتّسم بالحركية بنفس ذلك الحجم.

وكما نعلم، أنّ النظام الفكري للإسلام نظام توحيدي يشكّل الاعتقاد بالله ركيزته ودعامته. وما يلحظ بخصوص قضية الله في تاريخ الحياة الفكرية للإنسان هو طرح هذا الاعتقاد من قبل مختلف الفئات. ففي تاريخ الفلسفة، نلتقي نماذج لها نزعات متنوّعة، بيد أنّها تطرح ضرورة وجود الله في تفسير قضيّة الخلق، وتطوّر الكائنات، وعلاقة هذه الكائنات فيما بينها، وعلاقة الإنسان بالكون. مضافاً إلى الفلاسفة، فإنّ كثيراً من العلماء آمنوا بوجود الله من باب تفسير قضية خلق الكون، وتسويغ النظام المسيطر عليه أيضاً. ومن توخّى دراسةً أكثر لهذا الموضوع، فله مراجعة كتابي (نقد الفلسفة الماديّة الديالكتيكيّة وخصائص النظام التوحيدي).

ليس الاعتقاد بالله ذا بعد عقلي فحسب، بل هو العامل الموحّد بين الكائنات. وكذلك يربط بين الإنسان والكون، والإنسان وأخيه الإنسان. والله - تعالى - بوصفه الوجود المطلق، هو مظهر العلم والحكمة، والقائم بالقسط، ومصدر القدرة، وإليه تصير الأُمور. والإنسان يعيش في حركة نحو الله، وفي مسيرته هذه، يشكّل الكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، أهدافه الجوهرية.

إنّ الكمال المعنوي في مجال معرفة خالق الكون أكثر فأكثر، والتقوى في مجال تطوّر شخصيّة الإنسان وتحكمّه بنفسه، والدعوة إلى العدالة في مجال اجتثاث جذور الظلم والاستغلال، وحبّ الناس في قالب الإيثار ونكران الذات، وتعزيز العلاقات الإنسانية، كل تلك الأشياء توجّه ممارسات المسلمين وأعمالهم على امتداد حياتهم.

إنّ تنوّع الأساليب في الإسلام يمنح نظامه الفكري مرونة خاصّة. وإنّ التزام المنهج العقلي في كافّة الجوانب الدينيّة، والتأكيد على استعماله في جميع ميادين الحياة مشفوعاً بأساليب من نحو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثواب

٦٩

والعقاب، والترغيب في دراسة مصير الماضين، والموعظة والنصيحة، كل ذلك يُظهر البعد الحركي للنظام الإسلامي.

كما قلنا - فيما مضى - فإنّ الاعتقاد بالله ينبع من التأمل والتفكر في الخلق. والكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، ونكران الذات، أهداف موسعة لاتحدّ من نموّ الإنسان فحسب، بل توفّرله متطلّبات تكامله وتطوّره.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الاعتقاد بالله، بوصفه ركيزة منطقيّة قويّة، يوجّه الإنسان نحو الأهداف المذكورة باطمئنان بالغ.

إنّ النظام التوحيدي يطبع حياة الإنسان بطابع سرمدي، من خلال ربطه بالله، وينير في قلبه جذوة الأمل، ويضمن تحرّكه صوب الكمال.

الرابعة: البُعد العقلي

إنّ الإسلام - وهو يتحدّث حول المحبّة، والأُخوّة، والعدالة، والمساواة، ونكران الذات، والتقوى، والكفاح والجهاد في سبيل الحق، والتضامن مع المستضعفين - يهتمّ بالبعد العقلي للنظام الفكري أكثر من المدارس الفكرية الأخرى. ومع أنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام تمثّل الإيمان، ونكران الذات، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، ورفض الفساد والظلم. بيد أنّهم يُعدّون في قائمة كبار حكماء العالم وعقلائه، حيث يبرز الاتّجاه العقلي في اعتقاداتهم، ووصاياهم، وجهادهم، وكذلك في تعاليمهم بكلّ وضوح.

إنّ التوكّؤ على العقل، ودعم الاتّجاه العقلي من خصائص التربية الإسلامية. ونحن نعلم بأنّ على المسلم ان يذعن لمبادئ اعتقاداته وأُسسها عن طريق العقل. وكلّما نلتقي بمدرسة من المدارس الاجتماعية الموجودة نجدها تؤكّد على أتباعها بصراحة أن يذعنوا لأُسسها وتعليماتها عن طريق الدراسة العقلية. وهذا الاتّجاه هو

٧٠

أحد أمارات الحسّ الحركي في الإسلام، فما يدفع الفكر إلى الجدّ والسعي، ويشيد الأساس على التفكير، فهو ذو بعد حركي. وقد وضّحنا - فيما مضى - أهميّة العقل والتعقل في الإسلام عند حديثنا حول البعد العقلي في شخصية الإنسان، وذلك في موضوع البعد الإرشادي للإسلام. أمّا حديثنا هذا فهو لأجل توضيح الحقيقة القائلة بأنّ المدرسة الإسلامية مرتكزة على أُسسٍ عقلية، وأنّها تنادي بأهميّة العقل في المجالات المتنوّعة.

جاء في الجزء الأول من الكافي، (ص20) كلام للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم قائلاً:

«يا هشام إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناسِ الحُججَ بالعقول، ونصرَ النبيّينَ بالبيان، ودَلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَابّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّماءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: 163 - 164).

وفي الصفحة الرابعة والعشرين منه، يخاطب الإمامعليه‌السلام هشاماً قائلاً:

«إنّ الله - تعالى - يقول في كتابه:( إنّ في ذلكَ لَذِكْرى لِمَن كان لَهُ قَلْبٌ ) ، (ق: 37)، يعني: العقل. وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. ) ، (لقمان: 12)، قال: الفهم والعقل».

والالتفات إلى آيات قرآنية اُخرى مفيد في هذا المجال أيضاً، نحو:

( كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: 242).

( إِنّ فِي خَلْقِ السَّموَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى‏ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خلق

٧١

السّموَات وَالْأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ ) ، (آل عمران: 190 - 191).

( أَمِ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.. ) ، (الأنبياء: 24).

( أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ، (الأنبياء: 67).

( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ ) ، (الحج: 71).

( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) ، (المؤمنون: 117).

وجاء في القسم الأخير من الآية التاسعة والتسعين من سورة يونس قوله جلّ من قائل:

( .. وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) .

وقال تعالى:

( هذا بَلاَغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ، (ابراهيم: 52).

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 36).

( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْم يَتَفَكَّرون ) ، (الجاثية: 13).

( وَقَالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِي أَصْحَابِ السّعِيرِ ) ، (المُلْك: 10).

وجاء في الجزء الأول من كتاب الكافي، (ص25) كلام للإمام الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم:

٧٢

«يا هشام، ما بعثَ اللهُ أنبياءَهُ ورسُلَه إلى عبادهِ إلاّ ليعقلوا عنِ الله، فأحسنهم استجابةً أحسنُهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللهِ أحسنُهم عقلاً، وأكملهُم عقلاً أرفعهُم درجةً في الدنيا والآخرة».

«يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وأمّا الباطنةُ: فالعقول».

وجاء في الجزء الثالث منه (ص90) كلام للإمام الرضاعليه‌السلام يقول فيه:

«ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ».

يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة (ص1102):

«لاغنى كالعقل».

ويقول في مكان آخر منه (ص1094):

«إنّ أغنى الغنى العقل».

وفي (ص1274) جاء عنه،عليه‌السلام :

«كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك».

ويقول في (ص1275):

«والعقل حسام قاطع».

إنّ إنسانيّة الإنسان مرتبطة بقدرته العقلية، ويتعرّف الإنسان على الأمور عن طريق العقل، فيشخّص مشاكله، ويحدّد المثل والقيم، ويحسّن علاقاته مع الآخرين، ويمّهد السبيل لنموّه وتطوّره. لذلك فكلّ نظام يتوّكأ على قوّة العقل أكثر، فإنّه يستطيع أن يخطو خطوات أفضل على طريق رقيّ الإنسان وتطوّره. وعظمة شخصيّة الفرد منوطة بقدرته العقلية، كما إنّ عظمة مجتمع من المجتمعات منوطة بانتهاجه المذهب العقلي، وتأثير عقلائه ونفوذهم فيه.

٧٣

إنّ النقطة المهمّة التي هي مثار البحث هنا، هي العلاقة القائمة بين الدين والعقل، فالدين ركيزة أمينة للعقل، وهو الذي يحدّ من انحرافاته، ويوجّهه في طريق خير المجتمع وصلاحه. ولعلّ هناك من يقول بأنّ العقل لا يسخَّر دائماً في طريق الخير والصلاح. وبالرغم من أنّ تصوّر هذا الأمر - بعامّة - شيء عسير، بيد أنّ طبيعة العقل والإيمان تدفعه وترفضه. بكلمة بديلة، إنّ العاقل المؤمن يسير قدماً نحو تطوّره وتطوّر مجتمعه بكلّ ثقة واطمئنان.

إنّ أغلب المذاهب والمناهج الاجتماعية تتوكّأ على الجانب العاطفي أو الشعور، وبواسطته تكسب الناس إلى مصافّها. ويخشى رجال هذه المذاهب والمناهج الاجتماعية من بروز الاتّجاه العقلي لدى أتْباعهم، لأنّهم غير واثقين من صمود أُسس مدارسهم وعقائدهم أمام القوّة العقلية أو الدراسة العقلية.

أمّا الإسلام، فمع دعوته إلى العقل وتوكّؤ فكره على التعقّل، فإنّه لا يغفل الجوانب العاطفية. وفي حديثه عن مكافحة الظلم والفساد، ومناداته بالأُخوّة والمساواة، والتعايش السلمي، ودعم المستضعفين، يحرّك الإيمان والقوّة العاطفية، ويوصي بمراعاة العقل والمنطق أيضاً.

الأحكام الإسلامية

تنبثق الأحكام الإسلامية - كما تعلم - من القرآن الكريم والسنّة الشريفة المعصومة. مضافاً إلى ذلك، فإنّ هناك مواضيع متنوّعة لم يرد فيها نص صريح في المصدرين المتقدّمين، لذلك فإنّ الأئمّة المعصومين(*) ونوّابهم من العلماء يستعينون بالعقل أو بقوّة استنباطهم؛ لإصدار حكم معيّن بحقّها. وعندما طلبوا من الإمام عليعليه‌السلام

____________________

(*) هذا العمل مقصور فقط على نواب الأئمّة، وهم العلماء المجتهدون الجامعون للشرائط. أمّا الأئمّة فإنّ قولهم وفعلهم وتقريرهم سنّة كسنّة جدّهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب اعتقاد الإمامية.

٧٤

أن يعمل بالقرآن والسنّة وسيرة أبي بكر وعمر، رفض قائلاً: « أنا أعمل بالقرآن والسنّة ورأيي». إنّ الاجتهاد في الإسلام ولا سيّما في المذهب الإمامي يدلّ على حركيّة الإسلام واتّجاهه العقلي.

تنقسم الأحكام الإسلامية إلى خمسة أقسام هي: الوجوب، والاستحباب، والكراهة، والإباحة، والحرمة. والمناط في هذه الأحكام، وارتباطها بأفعال العباد هو المصلحة أو المفسدة التي تستتلي تلك الأفعال. فمفسدة تلك الأفعال ومصلحتها هما الموجبتان لاستحسانها أو استقباحها. والعمل المحرّم والقبيح في الآن ذاته هو الذي يتضمن فعله مفسدة، ويستحق فاعله الذمّ والتوبيخ. ويتمّ تشخيص المصلحة والمفسدة، أو استحسان الأفعال واستقباحها بواسطة العقل السليم. لذلك فإنّ الأحكام الدينية في الإسلام ولا سيّما في مذهب الإمامية تتحدد على أساس المصالح والمفاسد الواقعية. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

( قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.. ) ، (الاعراف: 33).

فالمبدأ المهم الذي يقرّه علماء الشيعة هو: كلُّ ما حكم به العقل، حكم به الشرع. وقد تحدّث العلاّمة الحلّي (قدس سره) في كتابه (كشف المراد) عن رأي الخواجة نصير الدين الطوسي القائل بأنّ حسن الأشياء وقُبَحها منوطان بتشخيص العقل، وذلك ضمن شرحه لنظريات الطوسي حول الأحكام الخمسة.

إنّ مصادر الأحكام الإسلامية هي:

1- القرآن الكريم.

2- السنّة الشريفة، وهي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره.

3- الإجماع او اتّفاق رأي الفقهاء.

4- العقل وله دور أساس مهم في استنباط الأحكام الإسلامية.

القيم الأخلاقية

لقد طرحت آراء متنوّعة حول حسن المدارس الاجتماعية وقبحها، أو حول قيمها الأخلاقية. فصفة الحسن والقبح - من منظور تلك المدارس - تُطلَقُ على أمور

٧٥

تقرُّ بها تلك المدارس أو ترفضها. وتموّن المدارس الاجتماعية أتباعها بتعليمات محدّدة، تطلب فيها منهم قبول كل ما تراه حسناً، دون نقاش، وتطبيقه، كما تدعوهم إلى رفض كل ما تراه قبيحاً، فالحسن والقبيح هو ما تمليه تلك المدارس على أتباعها.

إنّ الحسن والقبح - هنا - ليسا مثارَ بحثٍ ونقاش. بكلمة بديلة، لا يدور الكلام حول العمل أنّه بذاته أو في الحقل الاجتماعي حسن أو قبيح، بل - كما قيل - إنّ ما تقرّ به هذه المدرسة أو تلك، وتمليه على أتباعها حسن، وما لا تقرّ به، وتمنع أتباعها منه قبيح. وكما ذكرنا بشأن الأحكام الخمسة، فإنّ الأحكام المثالية أو التعليمات الأخلاقية مرتكزة في الإسلام على أساس المصلحة أو المفسدة، ويُحدّد الحسن والقبح على هذا الأساس نفسه.

لقد ظهرت إلى الوجود آراء متنوّعة حول الحسن والقبح، والقيم التي تتكفّل بتبيان مفهومهما. فمن منظار أتباع مدرسة التحليل المنطقي، ومدرسة الفلسفة الوضعية المنطقية (positivism)(*) ، نرى أنّ الحسن والقبح أمران شخصيّان يعكسان رغبة الأفراد. فعندما يعتبر أحد شيئاً أو عملاً ما حسناً، فإنّما يعبّر عن شعوره ويبدي رغبته في هذا المجال. بكلمة جديدة، ما يرغب به المرء، فهو صالح، وما يرغب عنه، فهو قبيح.

فمن منظور أصحاب هاتين المدرستين، فإنّ القضايا المثالية ليست قضايا واقعية، بل هي تحمل صفة (شبه القضية). والقصد هنا هو أنّ القضايا المثالية لا تماثل القضايا العلمية، فما تبيّنه القضيّة العلمية أمر يمكن أن يحدث في زمان ومكان معيّنين، بيد أنّ ما تبيّنه القضية المثالية هو شعور الفرد ورغبته. وتموّننا

____________________

(*) وهي فلسفة (أوغوست كونْت) التي تُعنى بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، مهمِلة كل تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة. المعرّب.

٧٦

القضيّة العلمية بمعلومات ذات معرفة، فيما تُظهر القضية المثالية شعور الفرد ورغبته فقط، ولا تمّوننا بمعلومات حول الأمور الخارجية قط.

هذا التباين يثير سؤالاً آخر هو: هل إنّ القضايا المثالية تخضع للمناقشة العقلية؟ وهنا أيضاً يختلف رأي أتْباع مدرسة التحليل المنطقي أو المدرسة الوضعية المنطقية، عن رأي الآخرين. فأتْباع هاتين المدرستين يعتقدون بأنّ القضيّة المثالية لا تخضع للمناقشة العلمية والعقلية؛ لأنّها لا تمدّنا بمعرفة حول الأمور الخارجية. من جهة أُخرى، وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ هذه القضية تعكس شعور الأفراد ورغبتهم، ومثل هذه الأُمور لا يخضع للمناقشة العقلية.

ويرى (كانت) و(ديوي) وفلاسفة آخرون بأنّ القضايا الأخلاقية كسائر القضايا من حيث إنّها تخضع للمناقشة العقلية. ولقد تعرّضنا إلى هذا البحث بالتفصيل في كتاب (الفلسفة) مبحث علم المُثُل، لذلك نحجم عن تكرار ما ورد فيه من مواضيع.

فالحسن والقبح، كالفكر الصحيح والسقيم، يتجليّان من خلال تجربة الإنسان، ولابدّ أن يكونا منسجمين مع الفطرة أو الطبيعة البشرية. وكما أنّ الإنسان - بمرور الزمن ونتيجة لتعامله مع شتى المسائل والمشاكل - يعتبر بعض الأساليب في التفكير أسمى من أساليب اُخرى، كذلك في المجال الأخلاقي، فإنّه يعتبر بعض الأمورحسناً، وبعضها الآخر قبيحاً. فالأساليب المؤثّرة في التفكير عند علاج مشكلة الإنسان تصبح أساليب أساسية تدريجاً، وما لم يظفر الإنسان بأساليب أكثر تأثيراً، فإنّه يظلّ يفيد منها في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. وفي الحياة الجماعية أيضاً، فإنّ هناك أعمالا أكثر تأثيراً من أعمال أُخرى في تحسين العلاقات الإنسانية. على سبيل المثال، إنّ العدالة والإيثار مؤثّران في رقيّ الحياة الاجتماعية، وتحسين علاقات الناس فيما بينهم، ويلحظ الإنسان هذا التأثير عملياً، لذلك يحكم على العدالة والإيثار بأنّهما حسَنان، وعلى الظلم والأثرة بأنّهما قبيحان منطلقاً من

٧٧

مشاهداته وملاحظاته. وكما يستعين الإنسان بالتجربة عند تبنّي أُسلوب من الأساليب أو رأي من الآراء مطعّماً ذلك بالدليل، كذلك يفعل في تبنّي المثل وتحديدها. وكما تمّ انتقاء قواعد المنطق وتثبيتها من المناهج المتوفّرة والمؤثّرة عملياً، بحيث أصبحت بمثابة تعليمات لسير العمل (اتّخذ البعد الوصفي طابع البعد المعياري (Normative) أو تحوّل الوصف إلى قاعدة عمل)، كذلك الإنسان، فإنّه انتقى ما هو حسن، أو بكلمة بديلة، انتقى المُثُل من بين ما هو مؤثّر في حياته، فصاغها على شكل تعليمات أخلاقية.

ينبغي التنبيه هنا على نقطتين: الأُولى: إنّ الكمال المطلوب في كيفية التفكير منسجم مع فطرة الإنسان، كالكمال المطلوب في السلوك الأخلاقي، وسعي الإنسان طيلة حياته هو أن يقترب من هذا الكمال كلّما استطاع اليه سبيلا. ولا جرم فإنّ الإنسان يحقّق في هذا الطريق هدفين في آن واحد، فهو يستفيد من تعاليم الأنبياء، وكذلك يكتشف ما ينسجم مع فطرته من خلال تجاربه. الثانية: إنّ الإدراك التدريجي للقيم الأخلاقية، والالتفات إلى تأثيرها في حياة الإنسان لا يتنافى مع صفة الإطلاق التي عليها بعض القيم. بعامّة، فإنّ الأديان السماوية بادرت إلى بثّ هذه القيم وإشاعتها في مجتمعات متنوّعة. فتعرّف الإنسان على بعض هذه القيم بواسطة ذلك العمل. أمّا مستوى توسّع التجربة البشرية، وتأثير العوامل الثقافية لكلّ مجتمع في تفسير القيم وتأويلها، فقد حدّا من تأثير القيم نوعاً ما.

عندما توصف بعض الأُمور بأنّها حسنة أو محمودة - مثل: التقوى، والإيثار، وسيادة الناس على شؤونهم ومصائرهم، والحريّة، والجهاد في سبيل الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكافحة الظلم، فبغضّ النظر عن البعد الديني الذي يشكّل الركيزة الأساسية للسلوك الأخلاقي، فإنّها أُمور آتتْ أُكُلها، وأثبتتْ حُسَنها وجودتها من خلال معطياتها وقيمتها في حياة الإنسان. ولا غرو فهي منسجمة مع فطرته، لذلك تعتبر حسنة ومحمودة في قاموس جميع أفراد النوع الإنساني.

٧٨

إنّ الإسلام منسجم مع فطرة الإنسان لأنّه حافل بمفاهيم وأفكار في المجال الأخلاقي والتربوي - كما لحظنا فيما تقدّم - قدّمها على أنّها مبادئ وقواعد ووصايا ثابتة، لا ينكر تأثيرها الإيجابي على المجتمع من حيث تحسين العلاقات الإنسانية بين أفراده. والآن لابدّ أن نلحظ، هل إنّ القضايا المثالية خالية من بعد المعرفة العلمية؟ فالتقوى أو الإيثار مفهومان جوهريان، وتبيان معناهما في قضية من القضايا ذو بعد عقلي ومنطقي تماماً. إنّ التقوى صفة محمودة تعرّفنا على حقائق تبدو آثارها في علاقات الناس. بكلمة بديلة، إنّ الحديث عن التقوى ليس حديثاً عن الشعور أو الرغبة الفردية، بل هو حديث عن مفهوم يشكّل ركيزة تربية الإنسان.

على هذا الأساس، فإنّ التقوى صفة محمودة تخضع للمناقشة العقلية، لذلك فهي لا تختلف عن أيّ قضيّة علمية. ولا ريب فإنّ القضايا العلمية تختلف عن القضايا الأخلاقية، لكن لا علاقة لهذا الاختلاف بالخضوع للمناقشة العقلية. إنّ ما يفصل القضية الأخلاقية عن القضية العلمية هو موضوعها، حيث إنّ موضوع القضية العلمية هو الظاهرة الطبيعية. أمّا موضوع القضية الأخلاقية فهو سلوك الإنسان وعلاقاته بالآخرين. إنّ الظاهرة العلمية التي تشكّل موضوع العلوم أقلّ تعقيداً من الظاهرة البشرية، بيد أنّ تكوين المفاهيم، وتدوين النظريات، وعرض المبادئ في كلا الفرعين، كل ذلك يتطلّب نشاطاً عقليّاً.

إنّ الإسلام - وهو يقدّم المبادئ الأساسية للأخلاق وإرشاد الناس في علاقاتهم مع الآخرين - يقرّ بحكم العقل في الأُمور الأخلاقية. بكلمة بديلة، كما قيل بشأن الأحكام الخمسة سالفاً، فإنّه يعتبر تحديد الحسن والقبح أمراً عقلياً. علماً بأنّ هذا الموضوع قد ذُكر في كتاب (شرح التجريد)..

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221