التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام0%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدّكتور علي شريعتمداري
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 221
المشاهدات: 153731
تحميل: 7974

توضيحات:

التربية والتعليم في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153731 / تحميل: 7974
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

غفر اللهُ لك».

وتدلُ هذه الحادثة على عظمة الإمام، وسموّ شخصيّته، وعمق البعد النفسي لها من خلال ما أبداه من ردّ فعل تجاه هذا الرجل، كما تدل على المدى البعيد الذي بلغه في كبح جماح نفسه، والتحكّم بعواطفه.

البُعد الاجتماعي

يحظى البعد الاجتماعي لشخصيّة الإنسان بأهميّة خاصّة. وكما نعلم فإنّ الإنسان حيوان اجتماعي، وإنسانيّته تَبَع للبعد الاجتماعي من حياته إلى حدّ بعيد. فلغته، وإدراكه، وقوّة تفكيره، وكيفيّة تعبيره عن عواطفه وتحكّمه بها، وثقافته، وحضارته، أمور تقع تحت تأثير الحياة الجماعية. والتيارات الاجتماعية من نحو: التكييف أو الانسجام والتفاهم، والتعاون، والمعارضة، والوفاق أو الاتّفاق، والتعايش بين الأُمم والشعوب، تشكّل الركائز الأصلية للحياة الجماعية.

إنّ التيّار الجماعي يمثّل حالة يتآصر فيها الفرد والجماعة معاً، وهذه الآصرة تحدث تبدّلاً مستساغاً، تتيسّر الحياة الجماعية للناس في ظلّه.

إنّ أهمّ التيّارات الجماعية هي: التكييف الاجتماعي، والتعاون، والمعارضة، والوفاق، والتشابه.

التكييف الاجتماعي(*)

ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار عدداً من الملاحظات في التكييف الاجتماعي.

____________________

(*) ورد هذا العنوان في كتاب آخر للمؤلف عنوانه (مباديء التربية والتعليم وفلسفتهما)، وذكر معه ما يقابله بالإنجليزية (Social adjustment) وبناء على هذا الاصطلاح الإنجليزي، فإنّه اصطلاح نفساني يعني: (التوافق الاجتماعي) لكن بما أنّ التوافق سيأتي أيضاً ضمن التيارات الجماعية وعرّبناه: الوفاق أو الاتفاق، لذلك آثرنا أن يكون تعريب هذا الاصطلاح هنا (التكييف الاجتماعي) لمناسبته مع الموضوع.

٦١

الأُولى: يجب أن يعيش أفراد النوع الإنساني جنباً إلى جنب، سواء كانوا في شرائح اجتماعية صغيرة، أو في مجتمع خاص، أو في المجتمع الإنساني الكبير. فوجود التفاهم والإنسجام بين الأشخاص والأُمم والشعوب ضروري لمواصلة الحياة الإنسانية. الثانية: لابُد للمرء في التكيّف الاجتماعي أن يتمرّس على عادات ومهارات ضرورية من أجل المساهمة في الحياة الاجتماعية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، عليه أن يترك قسماً من عاداته، أو يجعل ميوله ورغباته الشخصيّة تحت ظلّ المصالح الجماعية كي يتسنى له العيش مع الجماعة. الثالثة: لا يعني التكيّف الاجتماعي الاستسلام أو الخضوع أمام الجماعة، أو الإقرار بالوضع القائم. وكما قلنا فيما سبق، فإنّ الإنسان شخص يعيش مع الجماعة، ومدلول هذه العبارة هو أنّ الإنسان، وهو يعيش مع الآخرين، لا يفقد استقلاليّته وهويّته. بكلمة بديلة، إنّ الإنسان، وهو يحافظ على خصائصه الفردية، يعيش التفاهم والوحدة مع الآخرين. ولابد أن يظلّ حرّاً حتى يتسنّى له تحديد الهدف، واختيار النهج المناسب، والتعامل مع المشاكل على أساس تجاربه وامكانياته، عند ذلك يستطيع أن يستعمل قدرته الابداعية ويأتي بأشياء جديدة. في الآن ذاته، فإنّ الحياة الجماعية تتطلّب منه أن ينسجم مع الآخرين، ويستعذب الحياة معهم.

إنّ المسائل المشتركة، والحاجات الاجتماعية الأساسية، ومواصلة الحياة الجماعية، أمور تقتضي الوحدة والانسجام بين الفرد والجماعة. وقد ورد التأكيد في الإسلام على وحدة المسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

٦٢

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا.. ) ، (آل عمران: 103).

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.. ) ، (الحجرات: 10).

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ.. ) ، (التوبة: 71).

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: 13).

التعاون

إنّ أحد التيارات الأساسية في الحياة الإنسانية هو التعاون، وهودعامة جوهرية فيها، وشرط أصلي من شروط الحياة الجماعية مهما كانت الظروف والأحوال، قال تعالى:

( .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏.. ) ، (المائدة: 2).

وتشكّل وحدة الهدف، وتقسيم العمل، وتقبّل المسؤولية، والتنسيق بين النشاطات، وتمتع الناس كافّة بالعمل الجماعي، العناصر الأصلية للتعاون. بكلمة بديلة، يجب أن يكون هناك هدف مشترك للأشخاص الذين يعيشون مع الجماعة. وليس ثمّة شك في أنّ الحاجات المشتركة تتمحّض أهدافاً متماثلة. ففي الحياة الجماعية، ينبغي لكل أحد أن يضطلع بالمسؤولية وفقاً لاستعداده. وإنّ تقسيم الأعمال، والاضطلاع بالمسؤولية شرطان لمواصلة الحياة الجماعية مبدئيّاً. في الآن ذاته يجب أن تكون ممارسات ونشاطات الأفراد، والشرائح الاجتماعية متناسقة في تيّار التعاون - بعامّة - وفي الحياة الجماعية. وإذا شيّد أفرادُ مجتمع من المجتمعات أساس حياتهم على التعاون، فإنّ الجميع سيقطفون ثمار الممارسات والنشاطات الجماعية.

وقد عَدَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الالتزام الاجتماعي والقيام بالمسؤولية، من شروط الإسلام، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٦٣

«من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».

عادة، ثمّة فريق من الناس لا يهتم بالحياة الجماعية، ويتنصّل عن رسالته أمام المجتمع. ويتصوّر هؤلاء أن الاهتمام بالحياة الخاصّة وتنظيمها، وعلاج المشاكل الشخصية من واجباتهم الأصلية، كما يرون أنّ الحياة الجماعية مجموعة من الحياة الخصوصية للأفراد، لذلك إذا قام كل فرد ببذل جهده في تنظيم عمله، وبادر إلى علاج مشاكله بنفسه، فلا تعد هناك مشكلة تذكر في المجتمع.

بيد أنّ للحياة الجماعية أيضاً حالتها الخاصّة بها، إذ أنها - بمعزل عن الحياة الفردية - تحمل معها مشاكل ومصاعب تخصّها. فكلّ وحدة اجتماعية - مهما كانت ضئيلة الحجم - تطرح مسائل وقضايا متميّزة عن مسائل الأفراد وقضاياهم. وفي واقعنا المعاصر يثار سؤال مفاده: من الذي يأخذ على عاتقه علاج المشاكل الاجتماعية؟ فلو قام جميع الأشخاص بعلاج مشاكلهم الخاصّة بهم فقط، فإنّ المشاكل الاجتماعية العامّة ستظلّ مستعصية، كما أنّهم سيحدثون خللاً في الحياة الجماعية.

وبسبب الأهميّة التي يحظى بها هذا البعد من حياة الإنسان، ورد التأكيد في الإسلام على أمور، نحو: التعاون، والصفح، والعدالة، والأخوّة، والمساواة أمام القانون، وأمور مماثلة.

المعارضة

ثمّة تيّار آخر من التيارات الاجتماعية هو اختلاف الأفراد - أو المعارضة المبدئية - فيما بينهم في المجتمع. وكما نعلم، فإنّ أفراد النوع الإنساني يتفاوتون فيما بينهم من حيث الخصائص النفسية، والتجارب الاجتماعية، والإمكانيات والاختصاصات. وهذا الاختلاف يفضي إلى حلول متنوّعة يقدّمها الأشخاص لعلاج مختلف المشاكل. وتتحقق تلبية الحاجات الاجتماعية بطرق متنوعة، فينبغي

٦٤

أن تُتْرك الحرية للأشخاص كي يتسنى لهم تقديم الأسلوب الكفيل بتلبية الحاجات. وعلى هذا النمط يطرحون آراء متباينة حول مختلف الأمور، علماً بأنّ الاختلاف في وجهات النظر - من جهة - أمر طبيعي، إذ يتيح الفرصة للأشخاص أن يتناموا حسب استعداداتهم ليؤدّوا دورهم في الحياة الجماعية. مضافاً إلى ذلك، فإنّ ترك الأشخاص أحراراً في طرح عقائدهم المتنوّعة يمهّد السبيل لتقديم آراء ونظرات جوهرية. بكلمة بديلة، عندما يكون الأشخاص أحراراً، ويستعملون عقولهم، فإنّهم يستطيعون أن يقدّموا حلولاً متنوّعة لاجتثاث جذور المشاكل القائمة، ومن بين هذه الحلول يمكن العثور - غالباً - على الأساليب الجوهرية للتعامل مع المشاكل.

ولابدّ من التفريق هنا بين المعارضة المبدئية، وبين المشاكسة، وتتبّع العثرات، والتعييب، والتهجّم على الآخرين، وإثارة العداء والتفرقة.

عندما تُطرح مشكلة في المجتمع، فيمكن أن يتصدّى المسؤولون أو ذووالعلاقة - ممّن لهم تماس مباشر مع المشكلة - إلى تقديم علاج معيّن لحلّها. وقد لا يتّفق المرء مع هذا العلاج، ولديه دليل مخالفته. فالانفتاح على مثل هذا الأمر، وإتاحة الفرصة لتقديم خطط متنوّعة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها بحريّة، كل ذلك يمهّد الطريق للظفر بأفكار ونظريات جديدة. وما على الأشخاص إلاّ مناقشة النظريات المتنوّعة ودراستها، ومن ثمّ قبول ما هو منطقي منها. قال تعالى:

( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: 17 - 18).

ويجب أن يكون أسلوب المعارضة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها، منطقيّاً وإنسانيّاً. في هذا المجال، فإنّ في الآية التالية توجيهات جمّة. قال تعالى:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

٦٥

الوفاق

وهو تيّار اجتماعي يطمح أشخاصه إلى تقليص تضادّهم أو اختلافاتهم. ومن الصعوبة بمكان - أحياناً - أن يقبل الأشخاص آراء بعضهم البعض، ففي مثل هذه الحالة يعزم الطرفان المتباحثان أو المتنازعان على إحلال الوفاق بينهما محل الاختلاف. وقد أكّد الشارع المقدّس على الإصلاح بين إخوة الدين، قال تعالى:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. ) ، (الحجرات:10).

العلاقات مع الآخرين

حثّ الإسلام - بعامّة - أتْباعَه على التعايش، وحسن المعاشرة. جاء في الآية الثامنة من سورة الممتحنة، قوله تعالى:

( لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) .

فقد ورد التأكيد بصراحة على التعايش مع الآخرين. وعندما أوصى الإمام عليعليه‌السلام مالك الأشتر (رضي الله عنه) بالإحسان إلى الآخرين، أكّد عليه أن لا يفرّق بين الأخ في الدين والنظير في الخَلْق. وتقدّم لنا الآية الكريمة التالية، مسألة التفاهم والانسجام بين الشعوب، فتقول:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: 13).

التربية البدنية

بالرغم من أنّ الإسلام أكّد على وجوب تأمين كل ما هو ضروري لمواصلة الحياة الطبيعية، بيد أنّه أوصى أيضاً بالمحافظة على سلامة البدن، وله تعليماته المبثوثة في القرآن الكريم، والأخبار الواردة في هذا المجال.

٦٦

كما تقدّم الكلام فيما مضى، فإنّ للسمع والبصر دوراً أساسياً، كدور العقل في دراسة الكون، والتعرف على الأمور المختلفة. بكلمة بديلة، يتحقق النشاط البدني (الجوارح) بنفس الشكل الذي يتحقق فيه النشاط العقلي، وذلك من خلال التعرف على الكون ودراسته.

وقد أوصى الإسلام بمزاولة رياضات تخصّ تربية البدن، من نحو: الرماية، وركوب الخيل.

الثالثة: البُعد الحركي

تتمتع مفردة الحركية باعتبار خاص من بين المفردات الكثيرة، وتستعمل هذه المفردة في علم الاجتماع بكثرة، فالمجتمعات الحركية هي المجتمعات التي تعيش في تبدل وتطور دائبين، أمّا المجتمعات التي تفقد صفة الحركية، ولا تحدث فيها تبدّلات وتطوّرات أساسية، فهي مجتمعات ساكنة أو متوقفّة.

تستعمل هذه المفردة - أحياناً - فيما يخصّ المدارس الفكرية، أو أساليب نظام من الإنظمة، فالمدرسة القابلة للتبدّل والتطور أو المرنة، تعتبر مدرسة متطوّرة أو حركية. وتتّصل حركية أُسلوب من الأساليب بمرونته.

تنبثق المدرسة أو النظام من مبادئ أو أُسس، وأهداف، وأساليب، ومحتوى خاص. وفي مدرسة من المدارس أو نظام فكري من النظم، تأخذ المبادئ، والأهداف، والأساليب، والمحتوى مكانها في خطّة واحدة بشكل منطقي. وعلاقة هذه الأمور بعضها مع البعض، ومع النظام كلّه علاقة ذات جوانب متعدّدة. وتتأثّر أجزاء نظام من النظم بعضها ببعض: فكلّ جزء يؤثّر على الجزء الآخر، وهو نفسه يقع تحت تأثير الأجزاء الأخرى. وهذا التأثير المتبادل أو ذو الجوانب المتعدّدة قائم بين النظام بمجموعه وبين كلّ جزء من أجزائه.

يعبّرون عن هذه العلاقة - أحياناً - بأنّها علاقة عضوية أو حيوية. وكلّما كان

٦٧

هناك تنسيق أكثر بين أجزاء النظام الواحد، وكذلك بين كل جزء وبين النظام بمجموعه، فإنّ تماسك ذلك النظام سوف يكون أكثر. وحركية نظام من الأنظمة جديرة بالملاحظة لسببين: أحدهما: داخلي، والآخر: خارجي. ففيما يخصّ السبب الداخلي، لا نعبّر عن نظام بأنّه نظام حركي إلاّ إذا كانت لمبادئه وأهدافه وأساليبه ميزات خاصّة. على سبيل المثال، ينبغي أن تكون المبادئ شاملة، أو أنّها تستوعب جوانب مختلفة، وكذلك تكون الأهداف موسّعة ومنميّة، والأساليب مرنة وقابلة للتطبيق في حالات متنوّعة.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الحركية الداخلية لنظام من النظم ترتبط بكيفيّة اتّصال أجزائه أو أركانه أيضاً. فإذا كانت المبادئ، والأهداف، والأساليب متناسقة فيما بينها، ويكمّل أحدها دور الآخر في تطبيق النظام، فإنّ حركية النظام سوف تزداد في هذه الحالة.

وتتجلّى حركية كل نظام من الناحية الخارجية من خلال تأثير هذا النظام ودوره في الأمور الأخرى. وعندما نتحدث عن نظام فكري أو تربوي، فعلينا أن نلحظ كيف يكون موقفه من الإنسان؟ على سبيل المثال، هل إنّ هذا النظام مؤثّر في تطوّر الإنسان؟ هل يعزّز علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية؟ هل هو قادر على علاج مشاكل بني الإنسان؟ هل ينظّم علاقة الإنسان والكون بشكل منطقي؟ هل يجعل علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية بشكل لا تكون فيه صالحة للاستمرار والبقاء فحسب، بل لها دورها في تحسين وضع الفرد والمجتمع وتطوّرهما أيضاً؟

فالحركية الداخلية، والحركية الخارجية لنظام من النظم غير منفصلتين عن بعضهما، ويستطيع النظام أن يؤدّي دوره بالنسبة إلى الإنسان في وقت تكون فيه مبادؤه وأسسه ذات شمولية كافية، وأهدافه موسّعة ومنميّة، وأساليبه صالحة للتطبيق في حالات متنوّعة.

إنّ حركية كل نظام ترتبط بالبعد العقلي لذلك النظام إلى حدّ بعيد. والقصد

٦٨

من البعد العقلي هو قابليّة النظام للمناقشة والدراسة المنطقية، ومجاراته للتفكير الصحيح. وكلّما كانت أُسس نظام من الأنظمة قابلة للتسويغ والتبرير من الناحية العقلية أو المنطقية، فإنّ ذلك النظام يتّسم بالحركية بنفس ذلك الحجم.

وكما نعلم، أنّ النظام الفكري للإسلام نظام توحيدي يشكّل الاعتقاد بالله ركيزته ودعامته. وما يلحظ بخصوص قضية الله في تاريخ الحياة الفكرية للإنسان هو طرح هذا الاعتقاد من قبل مختلف الفئات. ففي تاريخ الفلسفة، نلتقي نماذج لها نزعات متنوّعة، بيد أنّها تطرح ضرورة وجود الله في تفسير قضيّة الخلق، وتطوّر الكائنات، وعلاقة هذه الكائنات فيما بينها، وعلاقة الإنسان بالكون. مضافاً إلى الفلاسفة، فإنّ كثيراً من العلماء آمنوا بوجود الله من باب تفسير قضية خلق الكون، وتسويغ النظام المسيطر عليه أيضاً. ومن توخّى دراسةً أكثر لهذا الموضوع، فله مراجعة كتابي (نقد الفلسفة الماديّة الديالكتيكيّة وخصائص النظام التوحيدي).

ليس الاعتقاد بالله ذا بعد عقلي فحسب، بل هو العامل الموحّد بين الكائنات. وكذلك يربط بين الإنسان والكون، والإنسان وأخيه الإنسان. والله - تعالى - بوصفه الوجود المطلق، هو مظهر العلم والحكمة، والقائم بالقسط، ومصدر القدرة، وإليه تصير الأُمور. والإنسان يعيش في حركة نحو الله، وفي مسيرته هذه، يشكّل الكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، أهدافه الجوهرية.

إنّ الكمال المعنوي في مجال معرفة خالق الكون أكثر فأكثر، والتقوى في مجال تطوّر شخصيّة الإنسان وتحكمّه بنفسه، والدعوة إلى العدالة في مجال اجتثاث جذور الظلم والاستغلال، وحبّ الناس في قالب الإيثار ونكران الذات، وتعزيز العلاقات الإنسانية، كل تلك الأشياء توجّه ممارسات المسلمين وأعمالهم على امتداد حياتهم.

إنّ تنوّع الأساليب في الإسلام يمنح نظامه الفكري مرونة خاصّة. وإنّ التزام المنهج العقلي في كافّة الجوانب الدينيّة، والتأكيد على استعماله في جميع ميادين الحياة مشفوعاً بأساليب من نحو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثواب

٦٩

والعقاب، والترغيب في دراسة مصير الماضين، والموعظة والنصيحة، كل ذلك يُظهر البعد الحركي للنظام الإسلامي.

كما قلنا - فيما مضى - فإنّ الاعتقاد بالله ينبع من التأمل والتفكر في الخلق. والكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، ونكران الذات، أهداف موسعة لاتحدّ من نموّ الإنسان فحسب، بل توفّرله متطلّبات تكامله وتطوّره.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الاعتقاد بالله، بوصفه ركيزة منطقيّة قويّة، يوجّه الإنسان نحو الأهداف المذكورة باطمئنان بالغ.

إنّ النظام التوحيدي يطبع حياة الإنسان بطابع سرمدي، من خلال ربطه بالله، وينير في قلبه جذوة الأمل، ويضمن تحرّكه صوب الكمال.

الرابعة: البُعد العقلي

إنّ الإسلام - وهو يتحدّث حول المحبّة، والأُخوّة، والعدالة، والمساواة، ونكران الذات، والتقوى، والكفاح والجهاد في سبيل الحق، والتضامن مع المستضعفين - يهتمّ بالبعد العقلي للنظام الفكري أكثر من المدارس الفكرية الأخرى. ومع أنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام تمثّل الإيمان، ونكران الذات، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، ورفض الفساد والظلم. بيد أنّهم يُعدّون في قائمة كبار حكماء العالم وعقلائه، حيث يبرز الاتّجاه العقلي في اعتقاداتهم، ووصاياهم، وجهادهم، وكذلك في تعاليمهم بكلّ وضوح.

إنّ التوكّؤ على العقل، ودعم الاتّجاه العقلي من خصائص التربية الإسلامية. ونحن نعلم بأنّ على المسلم ان يذعن لمبادئ اعتقاداته وأُسسها عن طريق العقل. وكلّما نلتقي بمدرسة من المدارس الاجتماعية الموجودة نجدها تؤكّد على أتباعها بصراحة أن يذعنوا لأُسسها وتعليماتها عن طريق الدراسة العقلية. وهذا الاتّجاه هو

٧٠

أحد أمارات الحسّ الحركي في الإسلام، فما يدفع الفكر إلى الجدّ والسعي، ويشيد الأساس على التفكير، فهو ذو بعد حركي. وقد وضّحنا - فيما مضى - أهميّة العقل والتعقل في الإسلام عند حديثنا حول البعد العقلي في شخصية الإنسان، وذلك في موضوع البعد الإرشادي للإسلام. أمّا حديثنا هذا فهو لأجل توضيح الحقيقة القائلة بأنّ المدرسة الإسلامية مرتكزة على أُسسٍ عقلية، وأنّها تنادي بأهميّة العقل في المجالات المتنوّعة.

جاء في الجزء الأول من الكافي، (ص20) كلام للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم قائلاً:

«يا هشام إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناسِ الحُججَ بالعقول، ونصرَ النبيّينَ بالبيان، ودَلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَابّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّماءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: 163 - 164).

وفي الصفحة الرابعة والعشرين منه، يخاطب الإمامعليه‌السلام هشاماً قائلاً:

«إنّ الله - تعالى - يقول في كتابه:( إنّ في ذلكَ لَذِكْرى لِمَن كان لَهُ قَلْبٌ ) ، (ق: 37)، يعني: العقل. وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. ) ، (لقمان: 12)، قال: الفهم والعقل».

والالتفات إلى آيات قرآنية اُخرى مفيد في هذا المجال أيضاً، نحو:

( كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: 242).

( إِنّ فِي خَلْقِ السَّموَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى‏ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خلق

٧١

السّموَات وَالْأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ ) ، (آل عمران: 190 - 191).

( أَمِ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.. ) ، (الأنبياء: 24).

( أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ، (الأنبياء: 67).

( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ ) ، (الحج: 71).

( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) ، (المؤمنون: 117).

وجاء في القسم الأخير من الآية التاسعة والتسعين من سورة يونس قوله جلّ من قائل:

( .. وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) .

وقال تعالى:

( هذا بَلاَغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ، (ابراهيم: 52).

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 36).

( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْم يَتَفَكَّرون ) ، (الجاثية: 13).

( وَقَالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِي أَصْحَابِ السّعِيرِ ) ، (المُلْك: 10).

وجاء في الجزء الأول من كتاب الكافي، (ص25) كلام للإمام الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم:

٧٢

«يا هشام، ما بعثَ اللهُ أنبياءَهُ ورسُلَه إلى عبادهِ إلاّ ليعقلوا عنِ الله، فأحسنهم استجابةً أحسنُهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللهِ أحسنُهم عقلاً، وأكملهُم عقلاً أرفعهُم درجةً في الدنيا والآخرة».

«يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وأمّا الباطنةُ: فالعقول».

وجاء في الجزء الثالث منه (ص90) كلام للإمام الرضاعليه‌السلام يقول فيه:

«ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ».

يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة (ص1102):

«لاغنى كالعقل».

ويقول في مكان آخر منه (ص1094):

«إنّ أغنى الغنى العقل».

وفي (ص1274) جاء عنه،عليه‌السلام :

«كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك».

ويقول في (ص1275):

«والعقل حسام قاطع».

إنّ إنسانيّة الإنسان مرتبطة بقدرته العقلية، ويتعرّف الإنسان على الأمور عن طريق العقل، فيشخّص مشاكله، ويحدّد المثل والقيم، ويحسّن علاقاته مع الآخرين، ويمّهد السبيل لنموّه وتطوّره. لذلك فكلّ نظام يتوّكأ على قوّة العقل أكثر، فإنّه يستطيع أن يخطو خطوات أفضل على طريق رقيّ الإنسان وتطوّره. وعظمة شخصيّة الفرد منوطة بقدرته العقلية، كما إنّ عظمة مجتمع من المجتمعات منوطة بانتهاجه المذهب العقلي، وتأثير عقلائه ونفوذهم فيه.

٧٣

إنّ النقطة المهمّة التي هي مثار البحث هنا، هي العلاقة القائمة بين الدين والعقل، فالدين ركيزة أمينة للعقل، وهو الذي يحدّ من انحرافاته، ويوجّهه في طريق خير المجتمع وصلاحه. ولعلّ هناك من يقول بأنّ العقل لا يسخَّر دائماً في طريق الخير والصلاح. وبالرغم من أنّ تصوّر هذا الأمر - بعامّة - شيء عسير، بيد أنّ طبيعة العقل والإيمان تدفعه وترفضه. بكلمة بديلة، إنّ العاقل المؤمن يسير قدماً نحو تطوّره وتطوّر مجتمعه بكلّ ثقة واطمئنان.

إنّ أغلب المذاهب والمناهج الاجتماعية تتوكّأ على الجانب العاطفي أو الشعور، وبواسطته تكسب الناس إلى مصافّها. ويخشى رجال هذه المذاهب والمناهج الاجتماعية من بروز الاتّجاه العقلي لدى أتْباعهم، لأنّهم غير واثقين من صمود أُسس مدارسهم وعقائدهم أمام القوّة العقلية أو الدراسة العقلية.

أمّا الإسلام، فمع دعوته إلى العقل وتوكّؤ فكره على التعقّل، فإنّه لا يغفل الجوانب العاطفية. وفي حديثه عن مكافحة الظلم والفساد، ومناداته بالأُخوّة والمساواة، والتعايش السلمي، ودعم المستضعفين، يحرّك الإيمان والقوّة العاطفية، ويوصي بمراعاة العقل والمنطق أيضاً.

الأحكام الإسلامية

تنبثق الأحكام الإسلامية - كما تعلم - من القرآن الكريم والسنّة الشريفة المعصومة. مضافاً إلى ذلك، فإنّ هناك مواضيع متنوّعة لم يرد فيها نص صريح في المصدرين المتقدّمين، لذلك فإنّ الأئمّة المعصومين(*) ونوّابهم من العلماء يستعينون بالعقل أو بقوّة استنباطهم؛ لإصدار حكم معيّن بحقّها. وعندما طلبوا من الإمام عليعليه‌السلام

____________________

(*) هذا العمل مقصور فقط على نواب الأئمّة، وهم العلماء المجتهدون الجامعون للشرائط. أمّا الأئمّة فإنّ قولهم وفعلهم وتقريرهم سنّة كسنّة جدّهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب اعتقاد الإمامية.

٧٤

أن يعمل بالقرآن والسنّة وسيرة أبي بكر وعمر، رفض قائلاً: « أنا أعمل بالقرآن والسنّة ورأيي». إنّ الاجتهاد في الإسلام ولا سيّما في المذهب الإمامي يدلّ على حركيّة الإسلام واتّجاهه العقلي.

تنقسم الأحكام الإسلامية إلى خمسة أقسام هي: الوجوب، والاستحباب، والكراهة، والإباحة، والحرمة. والمناط في هذه الأحكام، وارتباطها بأفعال العباد هو المصلحة أو المفسدة التي تستتلي تلك الأفعال. فمفسدة تلك الأفعال ومصلحتها هما الموجبتان لاستحسانها أو استقباحها. والعمل المحرّم والقبيح في الآن ذاته هو الذي يتضمن فعله مفسدة، ويستحق فاعله الذمّ والتوبيخ. ويتمّ تشخيص المصلحة والمفسدة، أو استحسان الأفعال واستقباحها بواسطة العقل السليم. لذلك فإنّ الأحكام الدينية في الإسلام ولا سيّما في مذهب الإمامية تتحدد على أساس المصالح والمفاسد الواقعية. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

( قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.. ) ، (الاعراف: 33).

فالمبدأ المهم الذي يقرّه علماء الشيعة هو: كلُّ ما حكم به العقل، حكم به الشرع. وقد تحدّث العلاّمة الحلّي (قدس سره) في كتابه (كشف المراد) عن رأي الخواجة نصير الدين الطوسي القائل بأنّ حسن الأشياء وقُبَحها منوطان بتشخيص العقل، وذلك ضمن شرحه لنظريات الطوسي حول الأحكام الخمسة.

إنّ مصادر الأحكام الإسلامية هي:

1- القرآن الكريم.

2- السنّة الشريفة، وهي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره.

3- الإجماع او اتّفاق رأي الفقهاء.

4- العقل وله دور أساس مهم في استنباط الأحكام الإسلامية.

القيم الأخلاقية

لقد طرحت آراء متنوّعة حول حسن المدارس الاجتماعية وقبحها، أو حول قيمها الأخلاقية. فصفة الحسن والقبح - من منظور تلك المدارس - تُطلَقُ على أمور

٧٥

تقرُّ بها تلك المدارس أو ترفضها. وتموّن المدارس الاجتماعية أتباعها بتعليمات محدّدة، تطلب فيها منهم قبول كل ما تراه حسناً، دون نقاش، وتطبيقه، كما تدعوهم إلى رفض كل ما تراه قبيحاً، فالحسن والقبيح هو ما تمليه تلك المدارس على أتباعها.

إنّ الحسن والقبح - هنا - ليسا مثارَ بحثٍ ونقاش. بكلمة بديلة، لا يدور الكلام حول العمل أنّه بذاته أو في الحقل الاجتماعي حسن أو قبيح، بل - كما قيل - إنّ ما تقرّ به هذه المدرسة أو تلك، وتمليه على أتباعها حسن، وما لا تقرّ به، وتمنع أتباعها منه قبيح. وكما ذكرنا بشأن الأحكام الخمسة، فإنّ الأحكام المثالية أو التعليمات الأخلاقية مرتكزة في الإسلام على أساس المصلحة أو المفسدة، ويُحدّد الحسن والقبح على هذا الأساس نفسه.

لقد ظهرت إلى الوجود آراء متنوّعة حول الحسن والقبح، والقيم التي تتكفّل بتبيان مفهومهما. فمن منظار أتباع مدرسة التحليل المنطقي، ومدرسة الفلسفة الوضعية المنطقية (positivism)(*) ، نرى أنّ الحسن والقبح أمران شخصيّان يعكسان رغبة الأفراد. فعندما يعتبر أحد شيئاً أو عملاً ما حسناً، فإنّما يعبّر عن شعوره ويبدي رغبته في هذا المجال. بكلمة جديدة، ما يرغب به المرء، فهو صالح، وما يرغب عنه، فهو قبيح.

فمن منظور أصحاب هاتين المدرستين، فإنّ القضايا المثالية ليست قضايا واقعية، بل هي تحمل صفة (شبه القضية). والقصد هنا هو أنّ القضايا المثالية لا تماثل القضايا العلمية، فما تبيّنه القضيّة العلمية أمر يمكن أن يحدث في زمان ومكان معيّنين، بيد أنّ ما تبيّنه القضية المثالية هو شعور الفرد ورغبته. وتموّننا

____________________

(*) وهي فلسفة (أوغوست كونْت) التي تُعنى بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، مهمِلة كل تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة. المعرّب.

٧٦

القضيّة العلمية بمعلومات ذات معرفة، فيما تُظهر القضية المثالية شعور الفرد ورغبته فقط، ولا تمّوننا بمعلومات حول الأمور الخارجية قط.

هذا التباين يثير سؤالاً آخر هو: هل إنّ القضايا المثالية تخضع للمناقشة العقلية؟ وهنا أيضاً يختلف رأي أتْباع مدرسة التحليل المنطقي أو المدرسة الوضعية المنطقية، عن رأي الآخرين. فأتْباع هاتين المدرستين يعتقدون بأنّ القضيّة المثالية لا تخضع للمناقشة العلمية والعقلية؛ لأنّها لا تمدّنا بمعرفة حول الأمور الخارجية. من جهة أُخرى، وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ هذه القضية تعكس شعور الأفراد ورغبتهم، ومثل هذه الأُمور لا يخضع للمناقشة العقلية.

ويرى (كانت) و(ديوي) وفلاسفة آخرون بأنّ القضايا الأخلاقية كسائر القضايا من حيث إنّها تخضع للمناقشة العقلية. ولقد تعرّضنا إلى هذا البحث بالتفصيل في كتاب (الفلسفة) مبحث علم المُثُل، لذلك نحجم عن تكرار ما ورد فيه من مواضيع.

فالحسن والقبح، كالفكر الصحيح والسقيم، يتجليّان من خلال تجربة الإنسان، ولابدّ أن يكونا منسجمين مع الفطرة أو الطبيعة البشرية. وكما أنّ الإنسان - بمرور الزمن ونتيجة لتعامله مع شتى المسائل والمشاكل - يعتبر بعض الأساليب في التفكير أسمى من أساليب اُخرى، كذلك في المجال الأخلاقي، فإنّه يعتبر بعض الأمورحسناً، وبعضها الآخر قبيحاً. فالأساليب المؤثّرة في التفكير عند علاج مشكلة الإنسان تصبح أساليب أساسية تدريجاً، وما لم يظفر الإنسان بأساليب أكثر تأثيراً، فإنّه يظلّ يفيد منها في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. وفي الحياة الجماعية أيضاً، فإنّ هناك أعمالا أكثر تأثيراً من أعمال أُخرى في تحسين العلاقات الإنسانية. على سبيل المثال، إنّ العدالة والإيثار مؤثّران في رقيّ الحياة الاجتماعية، وتحسين علاقات الناس فيما بينهم، ويلحظ الإنسان هذا التأثير عملياً، لذلك يحكم على العدالة والإيثار بأنّهما حسَنان، وعلى الظلم والأثرة بأنّهما قبيحان منطلقاً من

٧٧

مشاهداته وملاحظاته. وكما يستعين الإنسان بالتجربة عند تبنّي أُسلوب من الأساليب أو رأي من الآراء مطعّماً ذلك بالدليل، كذلك يفعل في تبنّي المثل وتحديدها. وكما تمّ انتقاء قواعد المنطق وتثبيتها من المناهج المتوفّرة والمؤثّرة عملياً، بحيث أصبحت بمثابة تعليمات لسير العمل (اتّخذ البعد الوصفي طابع البعد المعياري (Normative) أو تحوّل الوصف إلى قاعدة عمل)، كذلك الإنسان، فإنّه انتقى ما هو حسن، أو بكلمة بديلة، انتقى المُثُل من بين ما هو مؤثّر في حياته، فصاغها على شكل تعليمات أخلاقية.

ينبغي التنبيه هنا على نقطتين: الأُولى: إنّ الكمال المطلوب في كيفية التفكير منسجم مع فطرة الإنسان، كالكمال المطلوب في السلوك الأخلاقي، وسعي الإنسان طيلة حياته هو أن يقترب من هذا الكمال كلّما استطاع اليه سبيلا. ولا جرم فإنّ الإنسان يحقّق في هذا الطريق هدفين في آن واحد، فهو يستفيد من تعاليم الأنبياء، وكذلك يكتشف ما ينسجم مع فطرته من خلال تجاربه. الثانية: إنّ الإدراك التدريجي للقيم الأخلاقية، والالتفات إلى تأثيرها في حياة الإنسان لا يتنافى مع صفة الإطلاق التي عليها بعض القيم. بعامّة، فإنّ الأديان السماوية بادرت إلى بثّ هذه القيم وإشاعتها في مجتمعات متنوّعة. فتعرّف الإنسان على بعض هذه القيم بواسطة ذلك العمل. أمّا مستوى توسّع التجربة البشرية، وتأثير العوامل الثقافية لكلّ مجتمع في تفسير القيم وتأويلها، فقد حدّا من تأثير القيم نوعاً ما.

عندما توصف بعض الأُمور بأنّها حسنة أو محمودة - مثل: التقوى، والإيثار، وسيادة الناس على شؤونهم ومصائرهم، والحريّة، والجهاد في سبيل الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكافحة الظلم، فبغضّ النظر عن البعد الديني الذي يشكّل الركيزة الأساسية للسلوك الأخلاقي، فإنّها أُمور آتتْ أُكُلها، وأثبتتْ حُسَنها وجودتها من خلال معطياتها وقيمتها في حياة الإنسان. ولا غرو فهي منسجمة مع فطرته، لذلك تعتبر حسنة ومحمودة في قاموس جميع أفراد النوع الإنساني.

٧٨

إنّ الإسلام منسجم مع فطرة الإنسان لأنّه حافل بمفاهيم وأفكار في المجال الأخلاقي والتربوي - كما لحظنا فيما تقدّم - قدّمها على أنّها مبادئ وقواعد ووصايا ثابتة، لا ينكر تأثيرها الإيجابي على المجتمع من حيث تحسين العلاقات الإنسانية بين أفراده. والآن لابدّ أن نلحظ، هل إنّ القضايا المثالية خالية من بعد المعرفة العلمية؟ فالتقوى أو الإيثار مفهومان جوهريان، وتبيان معناهما في قضية من القضايا ذو بعد عقلي ومنطقي تماماً. إنّ التقوى صفة محمودة تعرّفنا على حقائق تبدو آثارها في علاقات الناس. بكلمة بديلة، إنّ الحديث عن التقوى ليس حديثاً عن الشعور أو الرغبة الفردية، بل هو حديث عن مفهوم يشكّل ركيزة تربية الإنسان.

على هذا الأساس، فإنّ التقوى صفة محمودة تخضع للمناقشة العقلية، لذلك فهي لا تختلف عن أيّ قضيّة علمية. ولا ريب فإنّ القضايا العلمية تختلف عن القضايا الأخلاقية، لكن لا علاقة لهذا الاختلاف بالخضوع للمناقشة العقلية. إنّ ما يفصل القضية الأخلاقية عن القضية العلمية هو موضوعها، حيث إنّ موضوع القضية العلمية هو الظاهرة الطبيعية. أمّا موضوع القضية الأخلاقية فهو سلوك الإنسان وعلاقاته بالآخرين. إنّ الظاهرة العلمية التي تشكّل موضوع العلوم أقلّ تعقيداً من الظاهرة البشرية، بيد أنّ تكوين المفاهيم، وتدوين النظريات، وعرض المبادئ في كلا الفرعين، كل ذلك يتطلّب نشاطاً عقليّاً.

إنّ الإسلام - وهو يقدّم المبادئ الأساسية للأخلاق وإرشاد الناس في علاقاتهم مع الآخرين - يقرّ بحكم العقل في الأُمور الأخلاقية. بكلمة بديلة، كما قيل بشأن الأحكام الخمسة سالفاً، فإنّه يعتبر تحديد الحسن والقبح أمراً عقلياً. علماً بأنّ هذا الموضوع قد ذُكر في كتاب (شرح التجريد)..

٧٩

٨٠