الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٩

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 403

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 123909
تحميل: 8372


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123909 / تحميل: 8372
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 9

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلمّا بلغ معاوية موته قام خطيباً في النّاس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمَّا بعد: فإنَّه كانت لعليِّ بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفِّين وهو عمَّار بن ياسر، و قطعت الاُخرى اليوم وهو مالك الأشتر. تاريخ الطبري ٦: ٢٥٥، الكامل لإبن الأثير ٣: ١٥٣، شرح ابن أبي الحديد ٢: ٢٩.

قال الأميني: ما أجرأ الطليق ابن الطليق الطاغية على السرور والتبهُّج بموت الأخيار الأبرار بعد ما يقتلهم، ويقطع عن أديم الأرض اصول بركاتهم، ويبشِّر بذلك اُمَّته الفئة الباغية، ويأمرهم بالدعاء عليهم، اُولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون، وسوف يعلمون حين يرون العذاب مَن أضلّ سبيلا؟.

٨ - وقبل هذه كلّها ما جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دفن أبي ذر سيِّد غفّار من قوله في لفظ الحاكم وأبي نعيم وأبي عمر: ليموتنَّ أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين. وفي لفظ البلاذري: يلي دفنه رهطٌ صالحون. وقد دفنه مالك الأشتر وأصحابه الكوفيُّون كما في أنساب البلاذري ٥: ٥٥، وحلية الأولياء لأبي نعيم ١: ١٧، والمستدرك للحاكم ٣: ٣٣٧، والإستيعاب لأبي عمر ١: ٨٣، وشرح ابن أبي الحديد، ٣: ٤١٦ فقال: هذا الحديث يدلُّ فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله وهي شهادة قاطعةٌ من النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه مؤمن.

قال الأميني: ما أبعد المسافة بين هذه الشهادة وبين وصف إبن حجر إيّاه في الصواعق ص ٦٨ بالمروق وعدم الفهم والعقل، ولعنه إيَّاه وأصحابه الصلحاء، وقد عزب عنه انَّه لا يلفظ من قول إلّا ولديه رقيبٌ عتيد.

نحن لسنا الآن في صدد التبسُّط في فضائل مالك وتحليل نفسيّاته الكريمة ومآثره الجمّة وإلّأ لأريناك منه كتاباً ضخماً، ولقد ناء بشطر مهمّ منها الفاضلان الشريفان السيِّد محمَّد الرضا آل السيِّد جعفر الحكيم النجفي، وابن عمِّه السيِّد محمَّد التقي بن السيِّد السعيد الحكيم النجفي في كتابيهما المطبوعين المخصوصين بمالك، وقد سبقهما الى ذلك بعض علمائنا السابقين، يوجد كتابه المخطوط في مكتبة مولانا الإمام الرضاعليه‌السلام بخراسان المشرّفة، حيّا الله حملة العلم سلفاً وخلفاً.

٢ - زيد بن صوحان العبدي الشهير بزيد الخير، أدرك النبيَّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترجمه

٤١

أبو عمر وابن الأثير وابن حجر في معاجم الصحابة، قال أبو عمر: كان فاضلاً ديِّناً سيِّداً في قومه.

أخرج أبو يعلى وابن مندة والخطيب وابن عساكر من طريق عليّعليه‌السلام مرفوعاً: مَن سرَّه أن ينظر إلى من يسبقه بعض أعضائه إلى الجنّة فلينظر إلى زيد بن صوحان.

وفي حديث آخر: الأقطع الحبر زيد، زيد رجلٌ من اُمَّتي تدخل الجنَّة يده قبل بدنه - قطعت يده يوم القادسيَّة -.

وفي حديث أخرجه ابن مندة وأبو عمر وابن عساكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد وما زيد؟ يسبقه بعض جسده إلى الجنَّة ثمَّ يتبعه سائر جسده إلى الجنَّة.

وأخرج ابن عساكر من طريق الحكم بن عيينة قال: لَمّا أراد زيد أن يركب دابَّته أمسك عمر بركابه ثمَّ قال لمن حضره: هكذا فاصنعوا بزيد وإخوته وأصحابه.

تاريخ ابن عساكر ٦: ١١ - ١٣، تاريخ الخطيب ٨: ٤٤٠، الاستيعاب ١: ١٩٧، اسد الغابة ٣: ٢٣٤، بهجة المحافل ٢: ٢٣٧، الاصابة ١: ٥٨٢.

وفي الفائق للزمخشري ١: ٣٥: قال فيه النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: زيد الخير الأجذم من الخيار الأبرار.

وفي معارف ابن قتيبة ص ١٧٦: كان من خيار الناس، وروي في الحديث انَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: زيد الخير الأجذم، وجندب ما جندب؟ فقيل: يا رسول الله! أتذكر رجلين؟ فقال: أمَّا أحدهما فسبقته يده إلى الجنَّة بثلاثين عاماً، وأمّا الآخر فيضرب ضربة يفصل بها بين الحقِّ والباطل، فكان أحد الرجلين زيد بن صوحان شهد يوم جلولاء فقطعت يده وشهد مع علىّ يوم الجمل فقال: يا أمير المؤمنين! ما أراني إلّا مقتولا، قال: وما علمك بهذا يا أبا سليمان؟ قال: رأيت يدي نزلت من السَّماء وهي تستشيلني. فقتله عمرو ابن يثربي وقَتل أخاه سليمان يوم الجمل.

وفي تاريخ الخطيب ٨: ٤٣٩: كان زيد يقوم الليل ويصوم النهار واذا كانت ليلة الجمعة أحياها، وقال: قُتل يوم الجمل وقال: ادفنوني في ثيابي فانِّي مخاصم. وفي رواية: لا تغسلوا عنّي دماً ولا تنزعوا عنّي ثوباً إلّا الخفين، وارمسوني الأرض رمساً فإنِّي رجلٌ محاجّ. زاد أبو نعيم: اُحاجُّ يوم القيامة.

٤٢

وفي مرآة الجنان لليافعي ١: ٩٩: كان زيد بن سادة التابعين صوّاماً قوّاماً و في شذرات الذهب ١: ٤٤: من خوّاص عليّ من الصلحاء الأتقياء.

وقال عقيل بن أبي طالب لمعاوية في حديث مروج الذهب ٢: ٧٥: أمّا زيد و عبد الله (أخوه) فانَّهما نهران جاريان يصبُّ فيهما الخلجان، ويغاث بهما اللهفان، رجلا جدّ لا لعب معه.

ووصفه أخوه صعصعة لابن عبّاس لَمّا قال له: أين أخواك منك زيد وعبد الله؟ صفهما فقال: كان « زيد » والله يا ابن عبّاس عظيم المروَّة، شريف الاُخوَّة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش العروة، أليف البدوَّة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكراً لله طرفي النهار وزلفاً من الليل، الجوع والشبع عنده سيّان، لا ينافس في الدنيا، وأقلّ في أصحابه من ينافس فيها، يطيل السكوت، ويحفظ الكلام، وإن نطق نطق بمقام يهرب منه الدعار الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار. فقال ابن عباس: ما ظنّك برجل من أهل الجنَّة، رحم الله زيداً.

٣ - صعصعة بن صوحان العبدي أخو زيد الخير المذكور، ذكر في معاجم الصحابة قال أبو عمر: كان مسلماً على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلقه ولم يره. كان سيِّداً فصيحاً خطيباً ديِّناً. قال الشعبي: كنت أتعلّم منه الخطب، وقال عقيل بن عليّ بن أبي طالب لمعاوية في حديث: أمّا صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق، ويفتق ما رتق، قليل النظير، وقال ابن الأثير: كان سيِّداً من سادات قومه عبد القيس، وكان فصيحاً خطيباً لسناً ديِّناً فاضلاً يُعدُّ في أصحاب عليّ رضي الله عنه.

له مع عثمان محاورة سيوافيك شيءٌ منها، ومواقفه مع معاوية ذكرت جملة منها في مروج الذهب ٢: ٧٦ - ٨٣، وتاريخ ابن عساكر ٦: ٤٢٤ - ٤٢٧، وثَّقه ابن سعد والنسائي وابن حبّان وابن عساكر وابن الأثير وابن حجر.

أخرج ابن شبة أنَّ عمر بن الخطاب قسَّم المال الذي بعث اليه أبو موسى وكان ألف ألف درهم وفضلت منه فضلة فاختلفوا عليه حيث يضعها فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيُّها الناس قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس فما تقولون فيها؟ فقام صعصعة بن صوحان وهو غلامٌ شابٌّ فقال: يا أمير المؤمنين! إنّما تُشاور الناس لم ينزل الله

٤٣

فيه قرآناً، أمّا ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه فضعه في مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها فقال: صدقت أنت منِّي وأنا منك. فقسّمه بين المسلمين.

راجع طبقات ابن سعد، مروج الذهب، تاريخ ابن عساكر، الاستيعاب، اُسد الغابة، الإصابة، تهذيب التهذيب، خلاصة الجزري.

٤ - جندب بن زهير الأزدي، صحابيٌّ مترجم له في الاستيعاب، واُسد الغابة، والإصابة وله في يومي الجمل وصفِّين مواقف محمودة مع أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٥ - كعب بن عبدة، سمعت فيما مرَّ عن البلاذري انَّه كان ناسكاً.

٦ - عدي بن حاتم الطائي، صحابيٌّ عظيمٌ قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة ٧ لم يختلف اثنان في ثقته أخرج حديثه أئمّة الصحاح الستّ، وقد أثنى عليه عمر بن الخطاب لَمّا قال له: يا أمير المؤمنين أتعرفني؟ فقال: نعم والله إنِّي لأعرفك، اكرمك الله بأحسن المعرفة، أعرفك والله آمنت إذ كفروا، وعرفت إذ أنكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، وإنَّ أوَّل صدقة بيَّضت وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء جئت بها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثمَّ أخذ يعتذر.

أخرجه أحمد في المسند ١: ٤٥، وابن سعد في الطبقات، ومسلم في صحيحه، وأبو عمر في الاستيعاب، والخطيب في تاريخه، وابن الأثير في اُسد الغابة وفيه: انَّه كان منحرفاً عن عثمان، وابن حجر في تهذيب التهذيب ٧: ١٦٦.

وأعجب ما أجده من التحريف في تاريخ الخطيب ما أخرجه في ج ١: ١٩١ بالإسناد عن المغيرة قال: خرج عدي بن حاتم، وجرير بن عبد الله البجلي، وحنظلة الكاتب من الكوفة فنزلوا قرقيساء وقالوا: لا نقيم ببلد يُشتم فيه عثمان.

والصَّواب: يُشتم فيه عليٌّ. فبدَّلت يد التحريف عليّاً بعثمان وذكره على علاته ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧: ١٦٧.

توجد ترجمة عدي في الإستيعاب، تاريخ بغداد ج ١، اُسد الغابة، الإصابة، تهذيب التهذيب.

٧ - مالك بن حبيب. له إدراكٌ عُدَّ من الصحابة.

٨ - يزيد بن قيس الأرحبي. له إدراكٌ وكان رئيساً كبيراً عظيماً عند الناس ولمـّا

٤٤

ثار أهل الكوفة على عثمان اجتمع قرّاء الكوفة وأمّروه، وكان مع عليّ في حروبه و ولّاه شرطته ثمّ ولّاه اصبهان والري وهمذان وهو المعنيُّ في قول ثمامة:

معاوي إن لا تُسرع السير نحونا

فبايع عليّاً أو يزيد اليمانيا

وله يوم صفِّين مواقف وخطابات تُعرب عن نفسيّاته الكريمة وملكاته الفاضلة، تُذكر وتُشكر، ذكر جملة منها ابن مزاحم في كتاب صفِّين، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في الكامل، وممّا ذكروه قوله:

إنَّ المسلم السليم من سلم دينه ورأيه، إنَّ هؤلاء القوم ما إن يقاتلونا على إقامة دين رأونا ضيِّعناه، ولا إحياء عدل رأونا أمتناه، ولا يقاتلونا إلّا على إقامة الدنيا، ليكونوا جبابرة فيها ملوكاً، فلو ظهروا عليكم - لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً - إذاً ألزموكم مثل سعيد والوليد وعبيد الله بن عامر السفيه، يحدِّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ مال الله ويقول: هذا لي ولا إثم عليَّ فيه، كأنّما اُعطي تراثه من أبيه، وإنّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا، قاتلوا، عباد الله! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم، إنَّهم إن يظهروا عليكم يُفسدوا دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتهم وجربتم، والله ما أرادوا إلى هذا إلّا شراً، واستغفر الله العظيم لي ولكم(١) .

٩ - عمرو بن الحمق(٢) بن حبيب الخزاعي الكعبي. صحب النبيَّ الأعظم وحفظ عنه أحاديث، وحظي بدعائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له لمـّا سقاه لبناً وبقوله: أللهمَّ أمتعه بشبابه فاستكمل الثمانين من عمره ولم يرَ شعرة بيضاء(٣) أخرج حديثه البخاري في التعاليق، وابن ماجة والنسائي وغيرهم، وكان من أعوان حُجر بن عدي سلام الله عليه وعليهم، ترجمه أبو عمر في الاستيعاب، وابن الأثير في اُسد الغابة، وابن حجر في الإصابة، ولم أجد كلمة غمز لأيِّ أحد فيه مع قولهم: كان ممَّن سار إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أحد

____________________

١ - كتاب صفين ص ٢٧٩، تاريخ الطبرى ٦: ١٠، شرح ابن ابى الحديد ١: ٤٨٥، الاصابة ٣: ٦٧٥.

٢ - بفتح المهملة وكسر الميم.

٣ - اسد الغابة ٤: ١٠٠، الاصابة ٢: ٥٣٣.

٤٥

الأربعة الذين دخلوا عليه الدار فيما ذكروا وصار بعد ذلك من شيعة عليّ. وقولهم: إنَّه كان ممَّن قام على عثمان. وقولهم: كان أحد من ألَّب على عثمان.

وله يوم صفين مواقف مشكورة وكلم قيِّمة خالدة مع الأبد تُعرب عن ايمانه الخالص، وروحه النزحة الطاهرة، راجع كتاب صفِّين لابن مزاحم ص ١١٥، ٤٣٣، ٤٥٤، ٥٥١.

قال ابن الأثير في اسد الغابة ٤: ١٠١: قبره مشهورٌ بظاهر الموصل يزار، وعليه مشهدٌ كبير ابتدأ بعمارته أبو عبد الله سعيد بن حمدان - وهو ابن عمّ سيف الدولة وناصر الدولة ابني حمدان - في شعبان من سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة، وجرى بين السنَّة والشيعة فتنة بسبب عمارته.

١٠ - عروة بن الجعد، ويقال: أبي الجعد البارقي الأزدي، صحابيٌّ مرضيٌّ مترجم له في معاجم الصحابة: الاستيعاب، اُسد الغابة، الإصابة. روى حديث: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم. قال شيب بن غرفدة: رأيت في دار عروة سبعين فرساً رغبة في رباط الخيل(١) أخرج حديثه أئمة الصحاح الستِّ فيها.

١١ - أصعر بن قيس بن الحارث الحارثي: له إدراكٌ ذكره ابن حجر في الإصابة ١: ١٠٩.

١٢ - كميل بن زياد النخعي، كان شريفاً في قومه قتله الحجَّاج سنة ٤٢، وثَّقه ابن سعد، وابن معين، والعجلي، وابن عمّار، وذكره ابن حبّان في الثقات(٢) .

١٣ - الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، من رواة الصحاح الأربعة من الستة قال ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي داود: كان أفقه الناس، وأحسب الناس، وأفرض الناس، تعلم الفرائض من عليّ قال ابن أبي خيثمة: قيل ليحيى: يُحتجُّ بالحارث؟ فقال: ما زال المحدِّثون يقلبون حديثه. وقال أحمد بن صالح المصري: ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن عليّ وأثنى عليه. ووثَّقه ابن سعد.

وهناك مَن كذَّبه والعمدة في ذلك الشعبي. قال ابن عبد البرّ في كتاب العلم:

____________________

١ - صحيح البخاري فى المناقب باب قول الله تعالى: يعرفونه كما يعرفون ابنائهم.

٢ - تهذيب التهذيب ٨: ٤٤٧.

٤٦

أظنُّ الشعبي عوقب بقوله في الحارث: كذّابٌ، ولم يبن من الحارث كذبه، وإنَّما نقم عليه إفراطه في حبِّ عليّ.

وقال أحمد بن صالح: لم يكن الحارث يكذب في الحديث، إنَّما كان كذبه في رأيه وقال الذهبي: والنسائي مع تعنُّته في الرجال قد احتجَّ به والجمهور على توهينه مع روايتهم لحديثه في الأبواب.

(تهذيب التهذيب ٢: ١٤٥، ١٤٧)

فمحصَّل القول في الهمداني: انَّه لا مغمز فيه غير نزعته العلويَّة الممدوحة عند الله وعند رسوله.

_٤٤_

تسيير الخليفة كعب بن عَبدة وضربه

كتب جماعةٌ من القرّاء إلى عثمان منهم مَعقل بن قيس الرياحي، وعبد الله بن الطفيل العامري، ومالك بن حبيب التميمي، ويزيد بن قيس الأرحبي، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وسليمان بن صرد الخزاعي ويُكنَّى أبا مطرف، والمسيِّب بن نجبة الفزاري، وزيد بن حصن الطائي، وكعب بن عبدة النهدي، وزياد ابن النضر بن بشر بن مالك بن الديّان الحارثي، ومسلمة بن عبد القاري من القارة من بني الهون بن خزيمة بن مدركة.

إنَّ سعيداً كثَّر على قوم من أهل الورع والفضل والعفاف فحملك في أمرهم على ما لا يحلُّ في دين ولا يحسن في سماع، وإنّا نُذكرك الله في اُمَّة محمَّد، فقد خفنا أن يكون فساد أمرهم على يديك، لأنَّك قد حملت بني أبيك على رقابهم، واعلم أنَّ لك ناصراً ظالماً، وناقماً عليك مظلوماً، فمتى نصرك الظالم ونقم عليك الناقم تباين الفريقان واختلفت الكلمة، ونحن نُشهد عليك الله وكفى به شهيدا، فانَّك أميرنا ما أطعتَ الله و استقمت، ولن تجد دون الله مُلتحدا ولا عنه مُنتقذا.

ولم يُسمِّ أحدٌ منهم نفسه في الكتاب وبعثوا به مع رجل من عنزة يكنَّى أبا ربيعة وكتب كعب بن عبدة كتاباً من نفسه تسمَّى فيه ودفعه إلى أبي ربيعة، فلمّا قدم أبو ربيعة على عثمان سأله عن أسماء الذين كتبوا الكتاب فلم يخبره فأراد ضربه و حبسه فمنعه عليٌّ من ذلك وقال: إنّما هو رسول أدَّى ما حُمل، وكتب عثمان إلى

٤٧

سعيد أن يضرب كعب بن عبدة عشرين سوطاً، ويحوِّل ديوانه إلى الري. ففعل ثمَّ إنَّ عثمان تحوَّب وندم فكتب في إشخاصه اليه ففعل فلمَّا ورد عليه قال له: إنّه كانت منِّي طيرة ثمَّ نزع ثيابه وألقى اليه سوطاً وقال: إقتص، فقال: قد عفوت يا أمير المؤمنين!.

ويقال: إنَّ عثمان لمـّا قرأ كتاب كعب كتب إلى سعيد في إشخاصه اليه فأشخصه اليه مع رجل أعرابيّ من أعراب بني أسد فلمّا رأى الأعرابيُّ صلاته وعرف نسكه وفضله قال:

ليت حظِّي من مسيري بكعب

عفوه عنّي وغفران ذنبي

فلمّا قدم به على عثمان قال عثمان: لإن تسمع بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه وكان شابّاً حديث السنِّ نحيفاً ثمَّ أقبل عليه فقال: أأنت تعلّمني الحقَّ وقد قرأت كتاب الله وأنت في صلب رجل مشرك؟ فقال له كعب: إنَّ إمارة المؤمنين إنَّما كانت لك بما أوجبته الشورى حين عاهدت الله على نفسك في (أن) تسيرن بسيرة نبيِّه، لا تقصِّر عنها وإن يشاورونا فيك ثانية نقلناها عنك، يا عثمان! إنَّ كتاب الله لمن بلغه وقرأه وقد شركناك في قرائته، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجَّة عليه. فقال عثمان: والله ما أظنّك تدري أين ربُّك؟ فقال: هو بالمرصاد. فقال مروان: حلمك أغرى مثل هذا بك وجرَّأء عليك. فأمر عثمان بكعب فجرّد وضُرب عشرين سوطاً، وسيَّره إلى دُباوند(١) ويقال: إلى جبل الدخان، فلمّا ورد على سعيد حمله مع بكير بن حمران الأحمري فقال: الدهقان الذي ورد عليه: لِمَ فُعل بهذا الرجل ما أرى؟ قال بكير: لأنَّه شريرٌ فقال: إنَّ قوماً هذا من شرارهم لخيار.

ثمَّ إنَّ طلحة والزبير وبّخا عثمان في أمر كعب وغيره وقال طلحة: عند غبّ الصدر يحمد عاقبة الورد. فكتب في ردِّ كعب رضي الله عنه وحمله إليه فلمّا قدم عليه نزع ثوبه وقال: يا كعب! إقتص. فعفا رضي الله عنهم أجمعين(٢)

وعدَّ الحلبي في السيرة ٢: ٨٧ من جملة ما انتقم به على عثمان: انَّه ضرب كعب

____________________

١ - بفتح المهملة وتضم ويقال: دنباوند، ودماوند بالميم بدل الموحّدة: كورة من كورة الرى

٢ - انساب البلاذرى ٥: ٤١ - ٤٣، تاريخ الطبرى ٥: ١٣٧، الرياض النضرة ٢: ١٤٠ - ١٤٩، شرح ابن ابي الحديد ١: ١٦٨، الصواعق ص ٦٨، واللفظ للبلاذرى.

_٣_

٤٨

ابن عبدة عشرين سوطاً ونفاه إلى بعض الجبال.

قال الأميني: ألا تعجب في أمر هذا الخليفة انَّ مناوئيه كلّهم في عاصمة الخلافة وبقيَّة الأوساط الإسلاميَّة خيار البلاد وصلحاء الاُمَّة؟ كما أنَّ من اكتنف به وأغراه بالأبرار هم المتهتّكون في الدين، المفضوحون بالسمعة الشائنة، رُوَّاد الشرَه، وسماسرة المطامع، من طُغمة الأمويِّين ومَن يقتصُّ أثرهم، فلا ترى له سوط عذاب يُرفع إلّا وكان مصبُّه اُولئك الصالحون، كما أنَّك لا تجد جميلاً له يُسدى ولا يداً موفورة إلّا لاُولئك الساقطين، فهل بُعث الخليفة (وهو رحمة للعالمين) نقمةً على المؤمنين؟ أم ماذا كانت حقيقة الأمر؟ أنا لا أدري لماذا أسخط الخليفة كتاب القوم فأراد بحامله السوء من حبس وضرب بعد يأسه عن معرفة كاتبيه لولا أنَّ عليّاً أمير المؤمنين حال بينه وبين ما يشتهيه، وهل كان الرجل إلّا وسيطاً كلّف بالرسالة فأدّاها؟ ولعلّه لم يكن يعلم ما فيها، وليس في الكتاب إلّا التذكير بالله، والتحذير عمّا يوجب تفريق الكلمة، وإقلاق السَّلام، وإظهار الطاعة بشرط طاعة الله والإستقامة الذي هو مأخوذُ في الخليفة قبل كلِّ شيء (وعليه جرى انتخاب يوم الشورى) وإيقافه على مكان سيعد الشابِّ الغِرِّ من السعاية التي خافوا أن تكون، وبالاً عليه، وبالأخير وقع ما خافوا منه وحذَّروا الخليفة عنه، والشهادة لاُولئك المنفيِّين بالبراءة ممّا نُبزوا به وانَّهم من أهل الورع والفضل والعفاف، وإنّ تسييرهم لا يحلُّ في دين الله، ويشوِّه سمعة الخليفة.

ولِماذا أغضبه كتاب كعب؟ وهو بطبع الحال لدة ما كتبه القوم من النصح الجميل.

ولِماذا أمر بإشخاصه إلى المدينة وضربه وجازاه على نصحه بجزاء سنمّار؟

فهلّا انبعث الخليفة إلى التفاهم مع القوم فيما أظهروا انّهم يتحرُّون ما فيه صلاحه وصلاح الاُمَّة؟ فإمّا أن يُقنعهم بما عنده، أو يقتنع بما يبدونه، فيرتفع ذلك الحوار، وتُدفع عنه المثلات، لكنَّه أبى إلّا أن يستمرَّ على ما ارتآه وحبَّذه له المحتفُّون به الذين إتَّخذوه قنطرة إلى شهواتهم، ولذلك لم يتفاهم مع كعب إلّا بالغلظة فقال له: أأنت تُعلّمني.. الخ. أنا لا أدري موقع هذا الكلام التافه، هل الكون في صُلب رجل مشرك يحطّ من كرامة الإنسان وقد آمن بالله ورسوله؟ إذن لتسرَّب النقص إلى الصحابة الذين نقلوا من أصلاب المشركين وارتكضوا في أرحام المشركات، وكثير منهم أشركوا

٤٩

بالله قبل إسلامهم، لكن الإسلام يجبُّ ما قبله، وهل الأصلاب والأرحام إلّا أوعية؟

ثمَّ السبق إلى قرّاء الكتاب العزيز هل هو بمجرَّده يرفع من قدر الرجل حتى إذا لم يعمل به كما أجاب به وفصّله كعب؟

ولا أدري ما يريد الخليفة بقوله: والله ما أظنّك تدري أين ربُّك. هل هو يريد المكان؟ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرا، وأيّ مسلم لا يعرف انَّ ربَّه لا يُقلّه حيِّزٌ، فإنَّه حريٌّ بالسقوط، وما أحسن جواب كعب من قوله: هو بالمرصاد، فإن كان يريد مثل ما قاله كعب فلماذا احتمل انَّ مثل كعب الموصوف بالفضيلة والتقوى لا يعرف ذلك؟ وهل يريد عندئذ إلّا إهانة الرجل وهتكه؟

ثمَّ ماذا كان في هذه المحاورة حتى عدَّ مروان سكوت الخليفة عنه من الحلم وكلام كعب من الجرأة وثوَّر الخليفة على الرجل؟ وهنالك إنفجر بركان غضبه فأمر به فجرّد وضُرب وسُيِّر، وعوقب لنصحه وصلاحه، ولا حول ولا قوَّه إلّا بالله العليِّ العظيم.

لقد أراد القوم أن يزحزحوا التبعة عن عثمان فاختلق كلٌّ شيئاً من غير تواطؤ بينهم حتى يفتعلوا أمراً واحداً، ففي ذيل هذه الرواية انَّ الخليفة ندم على ما فعل وتاب بعد توبيخ طلحة والزبير إيّاه واستعفى الرجل فعفى عنه، ولم يعلم المتقوِّل أنَّ خليفةً لا يملك طيشه حيث لا موجب له لا يُأتمن على دين ولا دنيا، فانَّ من الممكن عندئذ أن يقتحم المهالك حيث لا مُوبِّخ فيستمرّ عليها فيهلك ويُهلك، وإنَّ ممّا قاله الخليفة نفسه يوم الدار عن الثائرين عليه: إنَّهم يخيِّروني إحدى ثلاث: إمّا يقيدونني بكلِّ رجل أصبته خطأ أو صواباً غير متروك منه شيء، فقلت لهم: أمّا إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُستقد من أحد منهم. الخ. وهذه الكلمة تعطينا انَّه ما كان يتنازل للإقادة حتى في أحرج ساعاته المشارفة لقتله، فكيف بآونة السِّعة وساعة المقدرة؟ فما يزعمه هذا الناحت لذيل الرواية من أنَّه تنازل لكعب لأن يقيده بنفسه لا يكاد يلائم مع هذه النفسيَّة، ولو كان فعل شيئاً من ذلك لتشبَّث به في ذلك المأزق الحرج.

وهناك روايةٌ اُخرى جاء، بها الطبري من طريق السري الكذّاب المتروك عن شعيب المجهول عن سيف الوضّاع المرميِّ بالزندقة المتَّفق على ضعفه(١) عن محمَّد وطلحة

____________________

١ - راجع ما مرّ فى ج ٨: ٨٤، ١٤٠، ١٤١، ٣٢٦ - ٣٣٣ من كلمات الحفاظ حول رجال الاسناد.

٥٠

انَّ كعباً كان يعالج نيرنجاً(١) فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك فإن أقرَّ به فأوجعه فدعا به فسأله فقال: إنَّما هو رفقٌ وأمرٌ يُعجب منه فأمر به فعزِّر وأخبر النّاس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنَّه قد جُدَّ بكم فعليكم بالجدِّ وإيّاكم والهزّال فكان النّاس عليه وتعجَّبوا من وقوف عثمان على مثل خبره فغضب فنفر في الذين نفروا فضرب معهم فكتب إلى عثمان فيه، فلمّا سُيِّر إلى الشام مَن سُيّر سُيّر كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد الله وكان دينه كدينه إلى دُنباوند لأنَّها أرض سَحرة فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد:

لعمري لئن طرَّدتني ما إلى التي

طمعتَ بها من سقطتي لسبيلُ

رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي

إلى الحقِّ دهراً غال ذلك غولُ

وإنَّ اغترابي في البلاد وجفوتي

وشتمي في ذات الإله قليلُ

وإنَّ دعائي كلَّ يوم وليلة

عليك بدُنباوندكم لطويلُ

فلمّا ولّى سعيد أقفله وأحسن إليه واستصلحه فكفره فلم يزدد إلّا فساداً(٢) شوَّه الطبري صحيفة تاريخه بمكاتبات السري وقد أسلفنا في الجزء الثامن انّها موضوعةٌ كلّها، اختلق الرجل في كلّ ما ينتقد به عثمان رواية تظهر فيها لوائح الكذب، يريد بها رفاءً لما هنالك من فتق، وهو الذي قذف أباذر ونظرائه من الصالحين، غير مكترث لمغبَّة الكذب والإفتراء، ومن ملامح الكذب في هذه الرواية أنَّ تسيير مَن سُيِّر إلى الشام مِن قرّاء الكوفة ونُسّاكها وضرب كعب إنَّما هو على عهد سعيد بن العاص لا الوليد بن عقبة كما زعمه مختلق الرواية.

وإنَّ كتاب عثمان إلى الوليد لا يصلحّ ولم يؤثر في أيِّ من مدوَّنات التاريخ والسير ولو كان تفرَّد به اُناس يوثق بهم لكان مجالاً للقبول، لكن الرواية كما قيل:

صحاحهم عن سجاح عن مسيلمة

عن ابن حيّان والدوسيُّ يمليهِ

وكلّهم ينتهي إسناد باطله

إلى عزازيل مُنشيه ومُنهيهِ(٣)

____________________

١ - النيرج والنيرج: اخذ كالسحر وليس به.

٢ - تاريخ الطبرى ٥: ١٣٧.

٣ - البيتان من قصيدة للشريف ابن فلاح الكاظمى.

٥١

على أنَّه يقول فيها: إنَّ وليداً قرأه على رؤس الأشهاد، كأنَّه يحاول معذرةً عمّا اُرتكب من كعب، وإنَّه كان برضىً من المسلمين، ولو صحَّت المزعمة لكانت مستفيضة إذ الدواعي كانت متوفّرة على نقلها، لكنهم لم يسمعوها فلم يرووها، مضافاً إلى أنَّ المعروف من كعب بن عبدة انَّه كان من نسّاك الكوفة وقرّائها كما سمعته من كلام البلاذري وغيره لا ممَّن يتلهّى بالنيرنجات وأشباهها.

وإن تعجب فعجبٌ انَّ صاحب النيرنج - لو صدقت الأحلام - يُعزَّز ويعاقب، ومُعاقر الخمور - وليد الفجور - لا يُحدُّ لشربه الخمر إلّا بعد نقمة الصحابة على خليفة الوقت من جرّاء ذلك، ثمَّ يكونُ مقيم الحدّ عليه غيره وهو مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ولم يكن في اُولئك المسيّرين مَن يسمّى مالك بن عبد الله وإنّما كان فيهم مالك بن الحارث الأشتر، ومالك بن حبيب الصحابيّان كما تقدَّم ذكرهما.

وأبيات كعب تناسب أن يخاطب بها عثمان لا الوليد فإنّه هو ابن أروى بنت كريز وفيها صراحة بسبب إغتراب كعب وجفوته وشتمه، وانَّها كانت في ذات الله، يقول ذلك بملأ فمه ولا يردُّ عليه رادُّ بأنّها ليست في ذات الله وإنّما هي لأنّه كان يعالج نيرنجاً.

هكذا لعبت بالتاريخ يد الأهواء والشّهوات تزلّفاً إلى اُناس وانحيازاً عن آخرين، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

_٤٥_

تسيير الخليفة عامر بن عبد قيس التميمي البصري الزاهد الناسك إلى الشام

أخرج الطبري من طريق العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري إنَّه قال: إجتمع ناسٌ من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلاً يكلّمه ويخبره بأحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثمَّ العنبري وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فأتاه فدخل عليه فقال له: إنَّ ناساً من المسلمين إجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت اُموراً عظاماً فاتَّق الله عزَّ وجلَّ وتب إليه وانزع عنها. قال له عثمان: انظر إلى هذا فإنَّ النّاس يزعمون أنَّه قارىءٌ ثمَّ هو يجيء فيكلّمني في المحقَّرات فوالله ما يدري أين الله. قال عامر: أنا لا أدري أين الله؟ قال نعم، والله ما تدري أين الله. قال عامر: بلى والله إنَي لأدري إنَّ الله بالمرصاد لك. فأرسل عثمان إلى

٥٢

معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد ابن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد الله بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغ عنهم فلمّا اجتمعوا عنده قال لهم: إنَّ لكلِّ امرئ وزراء ونصحاء وانّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع النّاس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمّالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبُّون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ.

فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين! أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمّرهم في المغازي حتّى يذلُّوا لك، فلا يكون همَّة أحدهم إلّا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه.

ثمَّ أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنتَ تريد رأينا فاحسم عنك الداء واقطع عنك الذي تخاف، واعمل برأيي تصب. قال: وما هو؟ قال: إنَّ لكلِّ قوم قادة متى تهلك يتفرَّقوا ولا يجتمع لهم أمرٌ. فقال عثمان: إنَّ هذا الرأي لولا ما فيه.

ثمَّ أقبل على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين! أن تردَّ عمّالك على الكفاية لِما قِبَلهم وأنا ضامنٌ لك قِبَلي.

ثمَّ أقبل على عبد الله بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين! إنَّ النّاس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.

ثمَّ أقبل على عمرو بن عاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى إنَّك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم إن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وامض قدماً.

فقال عثمان: مالك قمل فروك؟ أهذا الجدّ منك؟ فأسكت عنه دهراً حتّى إذا تفرَّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين! لأنت أعزُّ عليَّ من ذلك، ولكن: قد علمت أن سيبلغ النّاس قول كلِّ رجل منّا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شرّاً.

فردَّ عثمان عمّاله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على مَن قِبَلهم وأمرهم بتجمير

٥٣

النّاس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاج إليه(١) .

وقال البلاذري في الأنساب ٥: ٥٧: قال أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره: كان عامر ابن قيس التميمي يُنكر على عثمان أمره وسيرته فكتب حُمران بن أبان مولى عثمان إلى عثمان بخبره فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز في حمله فحمله فلمّا قدم عليه فرآه وقد أعظم الناس إشخاصه وإزعاجه عن بلده لعبادته وزهده، ألطفه وأكرمه وردَّه إلى البصرة.

وروى ابن المبارك في الزهد من طريق بلال بن سعد أنَّ عامر بن عبد قيس وُشي به إلى عثمان، فأمر أن يُنفى إلى الشام على قتب، فأنزله معاوية الخضراء وبعث اليه بجارية وأمرها أن تعلمه ما حاله، فكان يقوم الليل كلّه ويخرج من السحر فلا يعود إلّا بعد العتمة، ولا يتناول من طعام معاوية شيئاً، كان يجيء معه بكسر فيجعلها في ماء فيأكلها ويشرب من ذلك الماء، فكتب معاوية إلى عثمان بحاله فأمره أن يصله ويدنيه فقال: لا ارب لي في ذلك.

(الاصابة لابن حجر ٣: ٨٥).

وذكر ابن قتيبة في المعارف ص ٨٤ و ١٩٤، وابن عبد ربِّه في العقد الفريد ٢: ٢٦١، والراغب في المحاضرات ٢: ٢١٢ جملة ممّا نُقم به على عثمان وعدَّوا منه: انَّه سيَّر عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام، وقال ابن قتيبة: كان خيّراً فاضلاً.

قال الأمينيُّ: منظرٌ غريبٌ لعمرك في ذلك اليوم، أليس من المستغرب انَّ صلحاء البلاد مضطهدون فيه على بكرة أبيهم؟ فمن راسفٍ تحت نير الاضطهاد، ومن معتقل في غيابة الجبِّ، ومن مغترب يجفل به من منفىً إلى منفى، ومن منقطع عن العطاء، ومن ممقوت ينظر اليه شزراً، ومن مضروب تُدقّ به أضالعه، إلى المشتوم يُهتك به الملأ الديني لِماذا ذلك كلّه؟ لأنّهم غضبوا للحق، وانكروا المنكر، فهلّا كان في وسع مَن يفعل بهم ذلك إقناعهم بالإقلاع عمّا ينكرونه وفيه رضا الله قبل كلِّ شيء، ومرضاة رسوله من بعده، ومرضاة الاُمَّة جمعاء، وبه كانت تُدحر عنه المثلاث وتخمد الفتن، وكانت فيه مجلبة للمودَّة، ومكتسح للقلاقل، وهو أدعى لجمام النفس، وسيادة الأمن، وإزاحة

____________________

١ - أنساب البلاذرى ٥: ٤٣، تاريخ الطبرى ٥: ٩٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٦٢، تاريخ ابن خلدون ٢: ٣٩٠.

٥٤

الهرج، وكان خيراً له من ارتكاب العظائم بالنفي والضرب والشتم والإزعاج والجفوة، ولو كان الخليفة يرى خطأهم في إنكارهم عليه فإنّه كان في وسعه أن يَعقد لهم محتفلاً للتفاهم، فإمّا أن يتنازلوا عن بعض ما أرادوا، أو يتنازل هو عن بعض ما يبتغيه، أو يتكافئا في التنازل فتقع خيرة الكلِّ على أمر واحد، وكان عقد هذا المنتدى خيراً له ممّا عقده للنظر في شأن عامر بن عبد قيس، وجمع خلقاً من اُصول الجور، وجذوم الفتن، وجراثيم العيث والفساد، فروع الشجرة الملعونة، وهم الذين جرَّوا اليه الويلات بجورهم وفجورهم واستعبادهم الاُمّة وابتغائهم الغوائل، وهملجتهم وراء المطامع، فلم يُسمع منهم في ذلك المجتمع ولا في غيره إلّا رأي مُستغش، ونظريَّة خائن، أو أفيكة مائن، أو دسيسة لعين بلسان النبيِّ الأقدس مرَّة بعد اُخرى، وهو مع ذلك يراهم وزراءه ونصحاءه وأهل ثقته أولا تعجب من خلافة يكون هؤلاء وزرائها ونصحائها وأهل ثقة صاحبها؟

ثمَّ انظر كيف كان التفاهم بين الرجلين: الخليفة وسفير المسلمين اليه، هذا يذكّره بالتقوى وبالتوبة إلى الله وينهاه عن ارتكاب العظائم التي استعظمها المسلمون العلماء منهم والقرّاء والنساك وذووا الرأي والمسكة، والخليفة يعدُّ ما استعظمته الاُمَّة من المحقّرات، ثمَّ يهزأ به ويقذفه بقلّة المعرفة مشفوعاً ذلك باليمين كما قذف به كعباً و صعصعة بن صوحان وسمع منهما ما سمعه من عامر لأنَّهم حملة العلم، والعلم حرفٌ واحد كثَّره الجاهلون.

والأعجب كيف يعير الخليفة الى سعاية حمران بن أبان اُذناً واعية وقد رآه على الفاحشة هو بنفسه وذلك انّه تزوَّج امرأة في العدَّة فضربه ونفاه الى البصرة(١) و أسرَّ اليه سرًّا فأخبر به عبد الرحمن بن عوف، فغضب عليه عثمان ونفاه(٢) وقال البلاذري في الأنساب ٥: ٧٥: كان عثمان وجَّه حُمران إلى الكوفة حين شكا الناس الوليد بن عقبة ليأتيه بحقيقة خبره فرشاه الوليد فلمّا قدم على عثمان كذب عن الوليد وقرَّظه ثمَّ إنّه لقي مروان فسأله عن الوليد فقال له: الأمر جليل فأخبر مروان عثمان بذلك فغضب على حمران وغرَّبه إلى البصرة لكذبه إيّاه وأقطعه داراً.

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٥: ٩١، الكامل لابن الاثير ٣: ٦٠.

٢ - تهذيب التهذيب ٣: ٢٤.

٥٥

كيف وثق خليفة المسلمين بخبر إنسان هذا شأنه من الفسق والتهوّر والله جلَّ اسمه يقول: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا، أن تصيبوا قوماً بجهالة. الآية؟

ثمَّ اعجب أنَّ حمران نفاه الخليفة على فسقه وأقطعه داراً لجمع شمله، والعبد الصالح أبوذر الغفاري الصادق المصدوق اُجفل الى الربذة، وتُرك في البرِّ الأقفر لا يأوي إلى مضرب، ولا يظلّه خباء، هذا من هوان الدنيا على الله.

وهل الخليفة عرف عامراً ومكانته في الاُمّة ومنزلته من الزهد والتقوى ومحلّه من التعبد والنزاهة، فأصاخ فيه إلى قول الوشاة وأشخصه إلى المدينة مرَّة وسيّره إلى الشام على القتب اُخرى، وأزرى به وأهانه حين مثِّل بين يديه؟ أو انّه لم يعرفه ولا شيئاً من فضله، فوثق بما قالوه؟ وكان عليه أن يعرفه لمـّا علم بسفارته من قِبَل وجهاء البصرة وأهل الحريجة والتقوى، ذوي الحلوم الراجحة، والآراء الناضجة، فإنّهم لا يرسلون طبعاً إلّا من يرضونه في مكانته وعلمه وعقله وتقواه. وهل كان فيما يقوله مغضبة أوانَّه ما كان يتحرّى صالح الاُمَّة وصلاح من يسوسها؟

إنَّ من العصيب أن نعترف بأنّه ما كان يعرف عامراً وصلاحه، فقد كان يسير بذكره الركبان، وهبَّت بأريج فضله النسائم في الأجواء، والأرجاء، وفي طيّات المعاجم والسير اليوم نماذج من تلكم الشهرة الطائلة عن عامر بين العباد وفي البلاد يوم ألزم نفسه أن يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(١) فكانوا يعدُّونه من أولياء الله المقرَّبين، وأوَّل الزهاد الثمانية، وذكروا له كرامات ومكرمات.

أفمن الممكن إذن أن لا يعرفه الخليفة؟ ولم يكن فيما ينكره إلّا ما أصفقت على إنكاره أهل الحلِّ والعقد يومئذ من الصالح العام في الحواضر الإسلاميّة كلّها، غير انّهم لم يجدوا كما أنَّ عامراً لم يجد اُذناً مصغية لهتافهم، فتكافئ دؤُب الخليفة على التصامم ودؤُب القوم على الإنكار حتّى استفحل الخطب ودارت الدوائر.

وهلّم معي ننظر إلى رواية الضعفاء رواية كذّاب متروك عن مجهول منكر عن وضّاع متّهم بالزندقة متّفق على ضعفه: السري عن شعيب عن سيف بن عمر بن محمَّد و طلحة: إنَّ عثمان سيَّر حمران بن أبان أن تزوَّج امرأة في عدَّتها وفرَّق بينهما وضربه و

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٧: ١٦٩، الاصابة ٣: ٨٥.

٥٦

سيَّره إلى البصرة، فلمّا أتى عليه ما شاء الله وأتاه عنه الذي يحبُّ، أذن له فقدم عليه المدينة ومعه قومٌ سعوا بعامر انَّه لا يرى التزويج، ولا يأكل اللحم، ولا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية فلمّا قدم عليه رأى عنده ثريداً فأكل أكلاً عربيّاً، فعرف أنَّ الرجل مكذوبٌ عليه فعرَّفه معاوية سبب إخراجه فقال: أمّا الجمعة فاني أشهدها في مؤخَّر المسجد ثمَّ ارجع في أوائل الناس، وأمّا التزويج فانِّي خرجت وأنا يُخطب عليَّ، وأمّا اللحم فقد رأيت(١) .

أوَلا تعجب من الذين اتّخذوا هذه الرواية مصدراً في تعذير عثمان عن نفي عامر وإشخاصه وهم يبطلون الرواية في غير هذا المورد بوجود واحد من رجال هذا السند الثلاثة، لكنّهم يحتجّون بروايتهم جميعاً هاهنا، وفي كلِّ ما نقم به على عثمان؟

ثمَّ لننظر فيما وُشى به على الرجل بعد الفراغ من النظرة في حال الواشي وهو حمران المتقدّم ذكره، هل يوجب شىءٌ منها ذمّا أو تعزيراً تأديباً أو تغريباً؟ وهل هي من المعاصي المسقطة لمحلِّ الإنسان؟ أمّا ترك التزويج فلم يثبت حرمته إن لم يكن من باب التشريع وأخذه ديناً، وإنّما النكاح من المرغَّب فيه، على أنّه كان لم يزل يخطب لنفسه لكنّه لا يجد من يلائمه في خفّة المؤنة، أخرج أبو نعيم في الحلية ٢: ٩٠: انَّ عامر بن عبد قيس بعث اليه أمير البصرة فقال: إنَّ أمير المؤمنين أمرني أن أسألك مالك لا تزوِّج النساء؟ قال: ما تركتهنَّ وانِّي لدائبٌ في الخطبة، قال: وما لك لا تأكل الجبن؟ قال: أنا بأرض فيها مجوس فما شهد شاهدان من المسلمين أن ليس فيه ميتة أكلته. قال: وما يمنعك أن تأتي الاُمراء؟ قال: إنَّ لدى أبوابكم طلاّب الحاجات فادعوهم واقضوا حوائجهم، ودعوا من لا حاجة له اليكم.

وأخرج من طريق أحمد بن حنبل باسناده عن الحسن قال: بعث معاوية إلى عبد الله بن عامر أن انظر عامر بن عبد قيس فأحسن إذنه وأكرمه ومره أن يخطب إلى من شاء وامهر عنه من بيت المال، فأرسل اليه انَّ أمير المؤمنين قد كتب إليَّ وأمرني أن آمرك أن تخطب إلى مَن شئت وأمهر عنك من بيت المال. قال: أنا في الخطبة دائبٌ. قال: إلى

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٥: ٩١، تاريخ ابن عساكر ٧: ١٦٧، الكامل لابن الاثير ٣: ٦٠، اسد الغابة، تاريخ ابن خلدون ٢: ٣٨٩.

٥٧

مَن؟ قال: إلى مَن يقبل منيِّ الفلقة والتمرة.

وهذان الحديثان يكذِّبان ما جاء به السري، ولو صحَّ ذلك فما وجه هذه المسألة في أيّام معاوية عن تزويج عامر؟

وأمّا ترك اللحوم فليس من المحرَّم ايضاً وقد جاءت السنّة بتحليلها كلّها من غير ايجاب، نعم تركها النهائي مكروهٌ إن لم يكن من باب التديّن، وقد تستدعي المبالغة في الزهادة الذهول عن شؤن الدنيا بأسرها فلا يلتفت صاحبها إلى الملاذّ كلّها، وكان مع ذلك لعامر عذر، قال ابن قتيبة في المعارف ص ١٩٤: وكان سبب تسييره أنَّ حمران بن أبان كتب فيه: انَّه لا يأكل اللحم، ولا يغشى النساء، ولا يقبل الأعمال، فعرض بأنَّه خارجيٌّ، فكتب عثمان إلى ابن عامر: أن ادع عامرا فإن كانت فيه الخصال فسيِّره فسأله فقال: أمّا اللحم فإنِّي مررت بقصّاب يذبح ولا يذكر اسم الله، فإذا اشتهيت اللحم اشتريت شاة فذبحتها، وأمّا النساء فإنَّ لي عنهنَّ شغلاً، وأمَّا الأعمال فما أكثر مَن تجدونه سواي.

فقال له حمران: لا أكثر الله فينا أمثالك، فقال له عامر: بل أكثر الله فينا من أمثالك كسّاحين حجّامين.

وأمّا عدم الحضور للجمعة: فقد بيَّن عامر نفسه حقيقته لمعاوية وهو الصَّادق الأمين على انَّه كان له أن لا يحضر الجمعة والجماعة إن لم يرَ لمقيمها أهليَّة للأيتمام به، وليس من المنكر ذلك في حقِّ الولاة الأمويِّين يومئذ.

وعلى فرض صحَّة الرواية وكون كلِّ ممّا نُبز به حوباً كبيراً فكان من الميسور تحقيق حال الرجل من قِبَل والي البصرة كما وقع ذلك فيما مرَّ من رواية أبي نعيم بالنسبة إلى التزويج وأكل الجبن وإتيان الاُمراء. ولا أدري هل من الفرائض في الشريعة السمحاء أكل الجبن بحيث يوجب تركه التجسُّس والتفتيش؟ وعلى كلّ فما الموجب لإجفال الرجل العظيم من مستقرِّ أمنه على قتب إلى الشام منفى الثائرين على الخليفة؟ وأيُّ عقل يقبل تسييره وتعذيبه لتلك الاُمور التافهة؟ نعم: الغريق يتشبَّث بِكلِّ حشيش.

_٤٦_

تسيير الخليفة عبد الرحمن بن حنبل الجمحي

عُدّ ممّن سيَّره الخليفة عبد الرحمن بن حنبل الجمحي. قال اليعقوبي: سُيّر

٥٨

عبد الرحمن صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القموس(١) من خيبر، وكان سبب تسييره إيّاه أنَّه بلغه كرهه مساوي ابنه وخاله وانَّه هجاه.

وقال العلائي عن مصعب وأبو عمر في الأستيعاب انَّه لمـّا أعطى عثمان مروان خمس مائة ألف من خمس أفريقيّة قال عبد الرحمن:

وأحلف بالله جِهد اليمين

ما ترك الله أمراً سُدى

ولكن جعلتَ لنا فتنة

لكي نُبتلى بك أو تُبتلى

دعوت الطريد فأدنيته

خلافاً لِما سنَّه المصطفى

وولّيت قرباك أمر العباد

خلافاً لَسنَّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس الغنيمة

آثرته وحميت الحمى

ومالاً أتاك به الأشعري

من الفئ أعطيته من دنا

فإنَّ الأمينين قد بيِّنا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلة

ولا قسَّما درهماً في هوى(٢)

فأمر به فحبس بخيبر، وأنشد له المرزباني في معجم الشعراء انَّه قال وهو في السجن:

إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا

أبا حسن غلّا شديداً اُكابده

بخيبر في قعر الغموص كأنَّها

جوانب قبر أعمق اللحد لاحده

أ إن قلتُ حقاً أو نشدتُ أمانة

قُتلت؟ فمن للحقِّ إن مات ناشده؟

وكتب إلى عليّ وعمّار من الحبس:

أبلغ عليّاً وعمّاراً فأنَّهما

بمنزل الرشد إنَّ الرشد مُبتدرُ

لا تتركا جاهلاً حتى يوقّره

دين الإله وإن هاجت به مُررُ

لم يبق لي منه إلّا السيف إذ علقت

حبائل الموت فينا الصّادق البررُ

يعلم بأنِّي مظلومٌ إذا ذكرت

وسط النديِّ حجاج القوم والعذرُ

فلم يزل عليٌّ يكلّم عثمان حتى خلّى سبيله على أنَّه لا يساكنه بالمدينة فسيَّره

____________________

١ - كذا فى لفظ اليعقوبى. وفى الاصابة: الغموص كما فى الابيات. والصحيح: القموص بالقاف المفتوحة وآخره صاد مهملة.

٢ - قد تنسب هذه الابيات الى أسلم راجع ٨: ٢٥٤.

٥٩

إلى خيبر فأنزله قلعة بها تسمّى « القموص » فلم يزل بها حتى ناهض المسلمون عثمان و ساروا اليه من كلِّ بلد فقال عبد الرحمن:

لولا عليٌّ فإنَّ الله أنقذني

على يديه من الأغلال والصفدِ

لما رجوت لدى شدّ بجامعة

يُمنى يديّ غياث الفوت من أحدِ

نفسي فداء علىّ إذ يخلّصني

من كافر بعد ما أغضى علي صمدِ

كان عبد الرحمن مع عليّ في صفِّين قال الطبري من طريق عوانة: إنّه جعل ابن حنبل يقول يومئذ:

إن تقتلوني فأنا ابن حنبل

أنا الذي قد قلت فيكم نعثل

راجع تاريخ الطبري ٦: ٢٥، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥٠، الاستيعاب ٢: ٤١٠، شرح ابن ابي الحديد ١: ٦٦، الاصابة ٢: ٣٩٥.

قال الأميني: هذا أحد المعذَّبين الذين أقلّتهم غيابة الجبِّ مُصفَّداً بالحديد و لم يجهز عليه إلّا إنكاره المنكر، وجنوحه إلى الحقِّ المعروف، والكلام فيه لدة ما كرَّرناه في غير واحد من زملائه الصالحين، وأحسن ما ينمُّ عن سريرته شعره الطافح بالايمان.

_٤٧_

تسيير الخليفة عليّاً أمير المؤمنين

لعلَّ التبسُّط في البحث عمّا جرى بين عثمان أيّام خلافته وبين عليّ أمير المؤمنين يوجب خدش العواطف، وينتهي إلى ما يُحمد عقباه، والتاريخ وإن لم يحفظ منه إلا النزر اليسير غير أنَّ في ذلك القليل غنى وكفاية وبه تُعرف جليَّة الحال، ونحن نمرُّ به كراماَ، فلا نحوم حول البحث عن كلمه القوارص لعليّعليه‌السلام ، البعيدة عن ساحة قدسه النائية عن مكانته الراقية التي لا يُدرك شأوها، ويقصر دون استكناهها البيان.

أيسع لمن أسلم وجهه لِلَّه وهو محسن وآمن بالكتاب وبما نزل من آية في سيِّد العترة، وصدَّق بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما صدع به من فضائل عليّعليه‌السلام ، وجاوره مع ذلك حقباّ وأعواماّ بيت بيت، ووقف على نفسيّاته الكريمة وهو على ضمادة من أفعاله وتروكه وشاهد مواقفه المبرورة ومساعيه المشكورة في تدعيم الدين الحنيف، أيسع لمسلم هذا شأنه أن يخاطب أخا الرسول المطهَّر بلسان الله بقوله: لِمَ لا يشتمك - مروان - إذا

٦٠