• البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76413 / تحميل: 3432
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 10

مؤلف:
العربية

٣

الخطبة ( ١٢٣ ) و من كلام له عليه السّلام في التّحكيم :

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ اَلرِّجَالَ وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ وَ هَذَا ؟ اَلْقُرْآنُ ؟ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ اَلدَّفَّتَيْنِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ اَلرِّجَالُ وَ لَمَّا دَعَانَا اَلْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ لَمْ نَكُنِ اَلْفَرِيقَ اَلْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ ؟ اَلرَّسُولِ ؟ ١٤ ٢٢ ٤ : ٥٩ ١ فَرَدُّهُ إِلَى اَللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَ رَدُّهُ إِلَى ؟ اَلرَّسُولِ ؟ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ اَلنَّاسِ بِهِ وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي اَلتَّحْكِيمِ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ اَلْجَاهِلُ وَ يَتَثَبَّتَ اَلْعَالِمُ وَ لَعَلَّ اَللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ اَلْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ لاَ تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ اَلْحَقِّ وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ اَلْغَيِّ إِنَّ أَفْضَلَ اَلنَّاسِ عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ كَانَ اَلْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ أَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ اِسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ اَلْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ جُفَاةٍ عَنِ اَلْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ اَلطَّرِيقِ مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَ لاَ زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ اَلْحَرْبِ أَنْتُمْ أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ فَلاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَلنِّدَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلنَّجَاءِ

ــــــــــــ

( ١ ) النساء : ٥٩ .

٣٦١

أقول : العنوان مأخوذ من كلامه عليه السّلام في ثلاثة مواضع ، فمن أوله إلى قوله : « و تنقاد لأول الغي » كلامه عليه السّلام مع الخوارج ، رواه الطبري ١ و ( إرشاد المفيد ) ٢ إلى قوله : « و لعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الامة » ، و من قوله : « إنّ أفضل الناس عند اللّه إلى و إن جرّ إليه فائدة و زاده » نصحه لعمرو بن العاص في حكميته ، رواه الطبري ٣ مع زيادات ، ففيه : قال أبو مخنف : قال النضر بن صالح العبسي : كنت مع شريح بن هاني في غزوة سجستان ،

فحدّثني أنّ عليّا عليه السّلام أو صاه بكلمات إلى عمرو بن العاص ، قال : قل له : إنّ عليّا يقول لك « إنّ أفضل الناس عند اللّه عز و جل : من كان العمل بالحق أحبّ إليه و ان نقصه و كرثه من الباطل و ان حن إليه و زاده . و اللّه يا عمرو انّك لتعلم أين موضع الحق ، فلم تجاهل إن اوتيت طمعا يسيرا كنت به للّه و أوليائه عدوّا ،

فكان و اللّه ما اوتيت قد زال عنك ؟ ويحك فلا تكن للخائنين خصيما ٤ و لا للظالمين ظهيرا أما إنّي أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم ، و هو يوم وفاتك ، تمنّى انّك لم تظهر للمسلم عداوة ، و لم تأخذ على حكم رشوة » قال شريح : فبلغته ذلك فتمعر وجهه ، ثم قال : متى كنت أقبل مشورة عليّ ، أو أنتهي إلى أمره ، أو أعتد برأيه ؟ فقلت له : و ما يمنعك يابن النابغة أن تقبل من مولاك و سيد المسلمين بعد نبيّهم مشورته ، فقد كان من هو خير منك أبو بكر و عمر يستشيرانه و يعملان برأيه ؟ فقال : إنّ مثلي لا يكلّم مثلك . فقلت له : و بأي أبويك ترغب عني ، أبأبيك الوشيظ ، أم بامّك النابغة ؟

و من قوله : « استعدوا للمسير . . . » حث لأصحابه لقتال معاوية بعد قتل

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٠ ٥١ .

( ٢ ) الارشاد للمفيد : ٢٧١ ، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٥ : ٦٩ .

( ٤ ) النساء : ١٠٥ .

٣٦٢

أهل النهروان ، رواه الطبري ١ أيضا ، ففيه : قال زيد بن وهب : إنّ عليّا عليه السّلام قال للناس و هو أوّل كلام قاله لهم بعد النهر : « أيّها الناس استعدوا للمسير إلى عدوّ في جهاده القربة إلى اللّه ، و درك الوسيلة عنده ، حيارى في الحق ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الدين ، يعمهون في الطغيان و يكبون في غمرة الضلال فأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة و من رباط الخيل ٢ ، و توكلوا على اللّه و كفى باللّه وكيلا ٣ و كفى باللّه نصيرا ٤ » قال زيد : فلا نفروا و لا تيسروا فتركهم أياما حتى إذا أيس من أن يفعلوا ، دعا رؤساءهم و وجوههم فسألهم عن رأيهم ، فمنهم المعتل و منهم المكره و أقلّهم من نشط ، فقام فيهم خطيبا فقال : عباد اللّه ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ٥ ، و بالذل و الهوان من العزّ ؟ أو كلّما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنّكم من الموت في سكرة ، و كأنّ قلوبكم مالوسة فأنتم لا تعقلون ، و كأنّ أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون ؟ للّه أنتم ما أنتم الاّ اسود الشّرى في الدّعة ، و ثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس ، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ، ما أنتم بركب يصال بكم ، و لا ذي عز يعتصم إليه ، لعمر اللّه لبئس حشّاش الحرب أنتم تكادون و لا تكيدون ، و ينتقص أطرافكم و لا تتحاشون ، و لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون ، إنّ أخا الحرب اليقظان ،

و بات لذل من وادع ، و غلب المتخاذلون ، و المغلوب مقهور و مسلوب .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٩٠ .

( ٢ ) الأنفال : ٦٠ .

( ٣ ) النساء : ٨١ .

( ٤ ) النساء : ٤٥ .

( ٥ ) التوبة : ٣٨ .

٣٦٣

كما أنّ الصدر رواه الطبري ١ أيضا مع زيادة و نقصان ، ففيه : خرج عليّ عليه السّلام إلى الخوارج و قال : اللّهم إنّ هذا مقام من أفلح فيه كان أولى بالفلح يوم القيامة ، و من نطف فيه أو عسف فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا ٢ . ثم قال عليه السّلام لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . فقال : فما أخرجكم علينا ؟ قالوا : حكومتكم يوم صفين . قال : أنشدكم باللّه أ تعلمون انّهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم إلى كتاب اللّه ، قلت لكم : « إنّي أعلم بالقوم منكم إنّهم ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن ، إنّي صحبتهم و عرفتهم أطفالا و رجالا ، فكانوا شرّ أطفال و شرّ رجال ، امضوا على حقّكم و صدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة و دهنا و مكيدة » فرددتم عليّ رأيي و قلتم : لا بل نقبل منهم . فقلت لكم : « اذكروا قولي لكم و معصيتكم إياي » فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين : أنّ يحييا ما أحيا القرآن ، و أن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ،

و إن أبيا فنحن من حكمهما براء . قالوا له : فخبّرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنّا لسنا حكّمنا الرجال ، إنّما حكّمنا القرآن ، و هذا القرآن إنّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق ، إنّما يتكلم به الرجال . قالوا : فخبّرنا عن الأجل ، لم جعلته في ما بينك و بينهم ؟ قال : ليعلم الجاهل و يتثبت العالم ، و لعلّ اللّه عز و جل يصلح في هذه الهدنة هذه الامة . ادخلوا مصركم رحمكم اللّه .

فدخلوا من عند آخرهم .

و حيث إنّ الكلام كلّه خطاب و عتاب للخوارج ، و لأحد الحكمين و للناس بعد قتلهم ، جمع المصنف بينها و جعلها تحت عنوان واحد ، كما هو دأبه .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٦٥ ٦٦ .

( ٢ ) الاسراء : ٧٢ .

٣٦٤

« و من كلام له عليه السّلام في التحكيم » هكذا في ( المصرية ) ١ و ( ابن ميثم ) ٢ و ( الخطية ) و لكن في ( ابن أبي الحديد ) ٣ « و من كلام له عليه السّلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ، و يذمّ فيه أصحابه في التحكيم » . و لا بدّ انّه حاشية خلطه ابن أبي الحديد نفسه أو كاتب نسخته بالمتن .

قوله عليه السّلام : « إنّا لم نحكم الرجال » . . . ان الحكم إلاّ للّه . . . ٤ .

« و إنّما حكمنا القرآن » كلام اللّه و كتابه .

« و هذا القرآن إنّما هو خط مستور » هكذا في ( المصرية ) ٥ و هو غلط و الصواب : ( مسطور ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٦ و غيرهما .

« بين الدفتين » قال ابن أبي الحديد ٧ : دفتا المصحف : جانباه اللذان يكتنفانه ، و كان الناس يعملانها قديما من خشب ، و يعملونها الآن من جلد .

قلت : و في ( الجمهرة ) الدف : صفحة الجنب .

« لا ينطق بلسان و لا بد له من ترجمان » ذكره ( الصحاح ) في : رجم ،

و ( القاموس ) في : ترجم ، و قال : الفعل منه ترجمه يدل على اصالة التاء ،

و الترجمان كعنفوان و زعفران مفسّر اللسان . و ذكره كتاب لغة في الأفعال ،

في الرباعي أيضا .

« و إنّما ينطق عنه الرجال » فالحاكم في الحقيقة هو ، لا الرجال ، كالمترجم عن القاضي .

ــــــــــــ

( ١ ) الطبعة المصرية ٢ : ٧ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٣ .

( ٤ ) الأنعام : ٥٧ .

( ٥ ) الطبعة المصرية ٢ : ٧ .

( ٦ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٦ .

( ٧ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٤ .

٣٦٥

« و لما دعانا القوم الى أن نحكم بيننا القرآن » و ان كانت دعوتهم مجرّد لفظ .

« لم نكن الفريق المتولي على » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عن ) كما في ( ابن ميثم ) ١ و غيره .

« كتاب اللّه » لأنّه عليه السّلام أوّل من آمن باللّه ، فكيف يعقل توليه عن كتابه ؟ « و قد قال اللّه سبحانه : فان تنازعتم في شي‏ء فردوه الى اللّه و الرسول و الآية في سورة النساء ، و قبلها : يا أيها الذين آمنوا اطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و اولي الأمر منكم . و بعدها : ان كنتم تؤمنون باللّه و اليوم الآخر . . . ٢ .

« فرده الى اللّه أن نحكم بكتابه و رده الى الرسول ان نحكم بسنته » بيان للمراد من الآية .

« فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه » لا كما حكم الحكمان .

« فنحن أحقّ الناس به ، و إن حكم بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنحن أولاهم به » إلاّ انّهم أرادوا المكيدة ، لا الكتاب أرادوا و لا السنّة .

و في ( العقد ) ٣ : قالوا : إنّ عليّا عليه السّلام لما اختلف عليه أهل النهروان و أصحاب البرانس ، و نزلوا قرية يقال لها حرورا ، رجع إليهم فقال : يا هؤلاء من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . قال : فليبرز اليّ . فخرج إليه ابن الكواء ، فقال عليه السّلام له :

ما الذي أخرجكم بعد رضاكم بالحكمين ؟ قال : قاتلت بنا عدوا لا نشكّ في جهاده ، فزعمت أنّ قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار ، فبينما نحن كذلك إذ أرسلت منافقا و حكّمت كافرا ، و كان من شكك في أمر اللّه أن قلت للقوم حين

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٦ .

( ٢ ) النساء : ٥٩ .

( ٣ ) العقد الفريد ٥ : ٩٩ .

٣٦٦

دعوتهم : « كتاب اللّه بيني و بينكم ، فإن قضى عليّ بايعتكم ، و إن قضى عليكم بايعتموني » فلو لا شكك لم تفعل هذا و الحق في يدك . فقال عليه السّلام : يا ابن الكواء إنّما الجواب بعد الفراغ ، أفرغت ؟ قال : نعم . قال : أمّا قتالك معي عدوا لا نشكّ في جهاده فصدقت ، و لو شككت فيهم لم اقاتلهم ، و أمّا قتلاهم و قتلانا ، فقد قال اللّه في ذلك ما يستغنى به عن قولي ، و أمّا إرسالي المنافق و تحكيمي الكافر ، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا و معاوية حكّم عمرا ، أتيت بأبي موسى مبرنسا فقلت : « لا نرضى إلاّ أبا موسى » فهلا قام اليّ رجل منكم ، فقال : لا نعطي هذه الدنية فإنّها ضلالة ؟ و أمّا قولي لمعاوية : إن جرني إليك كتاب اللّه تبعتك و إن جرّك اليّ تبعتني ، زعمت أنّي لم أعط ذلك إلاّ من شك ، فحدّثني ويحك عن اليهود و النصارى و مشركي العرب . أهم أقرب إلى كتاب اللّه أم معاوية و أهل الشام ؟ قال : بل معاوية و أهل الشام . قال : افالنبي صلّى اللّه عليه و آله كان أوثق بما في يده من كتاب اللّه أو أنا ؟ قال : بل النبي . قال : أفرأيت اللّه تعالى حين يقول قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين ١ اما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعلم أنّه لا يؤتى بكتاب هو أهدى فيما في يديه ؟ قال : بلى . قال : فلم أعطى النبي صلّى اللّه عليه و آله القوم ما أعطاهم ؟ قال : انصافا و حجّة . قال : فإنّي أعطيت القوم ما أعطاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله . قال ابن الكواء : هذه واحدة ، زدني . قال : فما أعظم ما نقمتم عليّ ؟ قال : تحكيم الحكمين ، نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا .

قال عليّ عليه السّلام : فمتى سمّي أبو موسى حكما ، حين ارسل أو حين حكم ؟ قال:

حين ارسل . قال : أ ليس قد سار و هو مسلم ، و أنت ترجو أن يحكم بما أنزل اللّه ؟

قال : نعم . قال : فلا أرى الضلال في إرساله . فقال ابن الكواء : سمّي حكما حين حكم . قال : نعم ، إذن فارساله كان عدلا ، أرأيت يابن الكواء لو أنّ النبي بعث

ــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٤٩ .

٣٦٧

مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب اللّه ، فارتد على عقبه كافرا كان يضرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا ؟ قال : لا . قال عليه السّلام : فما كان ذنبي أن كان أبو موسى ضلّ ؟ هل رضيت حكومته حين حكم أو قوله إذا قال ؟ قال : لا ، و لكنك جعلت مسلما و كافرا يحكمان في كتاب اللّه . قال عليه السّلام : ويلك يابن الكواء هل بعث عمرا غير معاوية ؟ و كيف احكمه و حكمه على ضرب عنقي ؟ إنّما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك ، و قد يجتمع المؤمن و الكافر يحكمان في أمر اللّه ،

أرأيت لو أنّ رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية ، فخافا شقاق بينهما ،

فضرع الناس إلى كتاب اللّه و في كتابه : فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها ١ ، فجاء رجل من اليهود أو النصارى و رجل من المسلمين ، اليسا اللذين لهما أن يحكما كما في كتاب اللّه فحكما ؟ قال ابن الكواء : و هذه أيضا ،

أمهلنا حتى ننظر . . .

و لابن أبي الحديد هنا كلام رث لم نتعرّض له .

« و أمّا قولكم لم جعلت بينكم و بينهم أجلا في التحكيم ؟ فإنّما فعلت ذلك ليتبين الجاهل و يتثبّت العالم ، و لعلّ اللّه أن يصلح في هذه الهدنة » أي : المصالحة و المتاركة .

« أمر هذه الامة » كما في صلح الحديبية .

« و لا تؤخذ باكظامها » جمع الكظم ، أي : مخرج النفس ، يقال : أخذت بكظمه .

« فتعجل عن تبين الحق و تنقاد لأوّل الغي » إن لم يكن أجل في البين .

« إنّ أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحق أحبّ إليه و ان نقصه و كرثه » في ( الجمهرة ) : كرثني هذا الأمر كرثا : إذا ثقل عليك .

« من الباطل » متعلق بقوله : « احب » .

ــــــــــــ

( ١ ) النساء : ٣٥ .

٣٦٨

« و إن جرّ إليه فائدة و زاده » قد عرفت أنّ قوله عليه السّلام : « إنّ أفضل الناس . . . » كلامه عليه السّلام لعمرو بن العاص ، قال عليه السّلام ذلك لأنّه لازم الايمان ، فالحق و ان نقص و كرث في الدنيا يزيد في الآخرة و يسر ، و الباطل و إن جرّ فائدة في الدنيا إلاّ أنّه خسران في الآخرة .

« أين » هكذا في ( المصرية ) ١ و الصواب : ( فأين ) كما في الثلاثة ، ثم قد عرفت أنّه من هنا عتاب لأصحابه في تركهم معاودة قتال معاوية .

« يتاه بكم » أي : في أيّ مكان تذهبون متحيّرين ؟

« من » هكذا في ( المصرية ) ٢ و الصواب : ( و من ) كما في الثلاثة .

« أين أتيتم » أتاكم الشيطان ، أو أتاكم الخصم حتى صرتم هكذا بلا حمية .

« استعدوا للمسير في قوم » هكذا في ( المصرية ) ٣ ، و الصواب : ( إلى قوم ) كما في ( ابن ميثم ) و غيره .

« حيارى عن الحقّ لا يبصرونه » أي : معاوية و أهل الشام .

« و موزعين بالجور » أي : مغرون به . أوزعته بالشي‏ء ، أي : أغريته . و قول ابن أبي الحديد ٤ « أي ملهمون » غلط ، فلا معنى للالهام هنا ، كما في قوله تعالى . . . أوزعني ان أشكر نعمتك . . . ٥ .

« جفاة » أي : مرتفعين .

« عن الكتاب » الذي أنزله تعالى .

« نكب » أي : عادلين .

ــــــــــــ

( ١ ) الطبعة المصرية ٢ : ٨ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٨ .

( ٣ ) الطبعة المصرية ٢ : ٩ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٦ ١٠٧ .

( ٥ ) النمل : ١٩ .

٣٦٩

« عن الطريق » إلى اللّه تعالى .

« ما أنتم بوثيقة » أي : عروة محكمة .

« يعلق بها » فيحصل فيكم الانفصام .

« و لا زوافر » أي : أعمدة و أسباب التقوّي ، قال الحطيئة :

فان تك ذا عز حديث فإنّهم

ذوو إرث مجد لم تخنه زوافره

« عزّ يعتصم إليها » فيقدح فيكم الانهدام « لبئس حشاش » أي : موقدو :

« نار الحرب أنتم . افّ لكم » و الافّ : إظهار تضجر ، و في ( الجمهرة ) : قال أبو زيد في قولهم : اف و تف : الافّ الأظفار ، و التفّ : وسخ الأظفار .

« لقد لقيت منكم برحا » أي : شدّة شديدة ، قال جران العود :

الاقي الخنا و البرح من امّ جابر

و ما كنت ألقى من رزينة أبرح

و في ( الجمهرة ) : إذا أصاب الرامي قالوا : مرحى . و إذا أخطأ قالوا : برحى.

« يوما اناديكم و يوما اناجيكم ، فلا أحرار صدق عند النداء » أي : للحرب .

« و لا إخوان ثقة عند النجاء » مصدر ( ناجى ) كالمناجاة ، أي : لكشف المعضلات و دفع المحذورات .

٤

الخطبة ( ١٢٠ ) و من كلام له عليه السّلام قاله للخوارج و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة ، فقال عليه السّلام :

أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا ؟ صِفِّينَ ؟ فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ ؟ صِفِّينَ ؟ فِرْقَةً وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا

٣٧٠

فِرْقَةً حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ بِكَلاَمِهِ وَ نَادَى اَلنَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ اَلْكَلاَمِ وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ مِنْهُ أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ اَلْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا اِسْتَقَالُونَا وَ اِسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَالرَّأْيُ اَلْقَبُولُ مِنْهُمْ وَ اَلتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ وَ اِلْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ وَ عَضُّوا عَلَى اَلْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ وَ لاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ وَ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ اَلْفَعْلَةُ وَ قَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا وَ اَللَّهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَ لاَ حَمَّلَنِي اَللَّهُ ذَنْبَهَا وَ وَ اَللَّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ اَلَّذِي يُتَّبَعُ وَ إِنَّ اَلْكِتَابَ لَمَعِي مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ وَ إِنَّ اَلْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى اَلْآباءِ وَ اَلْأَبْنَاءِ وَ اَلْإِخْوَانِ وَ اَلْقَرَابَاتِ فَلاَ نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ إِلاَّ إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى اَلْحَقِّ وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ اَلْجِرَاحِ وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي اَلْإِسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اَلزَّيْغِ وَ اَلاِعْوِجَاجِ وَ اَلشُّبْهَةِ وَ اَلتَّأْوِيلِ فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اَللَّهُ بِهِ شَعَثَنَا وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى اَلْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا قول المصنّف : « و من كلام له عليه السّلام قاله » ليس ( قاله ) في نسخة ابن ميثم ١ .

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

٣٧١

« للخوارج و قد خرج الى معسكرهم » أي : محل عسكرهم .

« و هم مقيمون على انكار الحكومة » ليست هذه الجملة في نسخة ابن ميثم ١.

في ( تاريخ اليعقوبي ) ٢ : صارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء ،

و بينها و بين الكوفة نصف فرسخ ، و بها سمّوا الحرورية ، و رئيسهم عبد اللّه بن وهب الراسبي و ابن الكواء و شبث بن ربعي ، فجعلوا يقولون : لا حكم إلاّ للّه .

فلمّا بلغ عليّا عليه السّلام ذلك قال : كلمة حقّ اريد بها باطل . ثم خرجوا في ثمانية آلاف و قيل في اثني عشر ألفا فوجّه عليه السّلام إليهم ابن عباس ، فكلّمهم و احتجّوا عليه ،

فخرج إليهم عليّ عليه السّلام فقال : افتشهدون عليّ بجهل ؟ قالوا : لا . قال : فتنفذون أحكامي ؟ قالوا : نعم . قال : ارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر . فرجعوا من عند آخرهم ، ثمّ جعلوا يقومون فيقولون : لا حكم إلاّ للّه . فيقول عليه السّلام : حكم اللّه أنتظر فيكم .

« فقال عليه السّلام » ليست الكلمة في نسخة ابن ميثم ٣ ، و عليها يكون ( أكلكم . . . ) الخ مبتدأ لقوله : « و من كلام له » و لا يرد على المصنف ما يأتي على نقل غيره .

« أ كلّكم شهد معنا صفين ؟ قالوا : منّا من شهد و منّا من لم يشهد . قال :

فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفين فرقة ، و من لم يشهدها » و في نسخة ابن ميثم ٤ : « و من لم يشهد » .

« فرقة حتى اكلّم كلاّ » و زاد ابن أبي الحديد : « منكم » .

« بكلامه . و نادى الناس فقال : أمسكوا عن الكلام و أنصتوا » أي : اسكتوا.

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٢ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

٣٧٢

« و اقبلوا بأفئدتكم إليّ ، فمن نشدناه شهادة » ليست الكلمة في نسخة ابن ميثم ١ .

« فليقل بعلمه فيها . ثم كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل منه » هكذا في ( المصرية ) ٢ و الصواب : ما في ( ابن أبي الحديد ٣ و ابن ميثم ) ٤ : « ثم كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل من جملته أن قال » .

و كيف كان ، ففي ( تاريخ اليعقوبي ) ٥ بعد ما مرّ : و خرجت الحرورية من الكوفة ، فوثبوا على ابن خباب فقتلوه ، فخرج عليّ عليه السّلام إليهم ، و قال لابن عباس : قل لهم : ما نقمتم على أمير المؤمنين ؟ ألم يحكم فيكم بالحق ، و يقم فيكم العدل ، و لم يبخسكم شيئا من حقوقكم ؟ فناداهم ابن عباس بذلك ، فقالت طائفة منهم : و اللّه لا نجيبه . و قالت الأخرى : و اللّه لنجيبنّه ثم لنخصمنّه ، نعم يا بن عباس ، نقمنا عليه خصالا كلّها موبقة ، و لو لم نخصمه إلاّ بخصلة خصمناه : محا اسمه من إمرة المؤمنين يوم كتب إلى معاوية ، و رجعنا عنه يوم صفين فلم يضربنا بسيفه حتى نفي‏ء إلى أمر اللّه ، و حكّم الحكمين ،

و زعم أنّه وصيّ فضيع الوصية ، و جئتنا يابن عباس في حلّة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه . فقال بن عباس له عليه السّلام : قد سمعت مقالة القوم و أنت أحقّ بالجواب . فقال عليه السّلام : حججتهم و الّذي فلق الحبة و برأ النسمة ،

قل لهم : ألستم راضين بما في كتاب اللّه و بما فيه من اسوة رسول اللّه ؟ قالوا :

بلى . فقال عليه السّلام : كتب كاتب النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم الحديبية إذ كتب إلى سهيل بن

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٢٩٧ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٥ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ ١٩٢ .

٣٧٣

عمرو و صخر بن حرب و من قبلهما من المشركين : « من محمّد رسول اللّه » فكتبوا إليه : « لو علمنا انّك رسول اللّه ما قاتلناك ، فاكتب إلينا : من محمّد بن عبد اللّه لنجيبك » . فمحا النبي صلّى اللّه عليه و آله اسمه بيده و قال : إنّ اسمي و اسم أبي لا يذهبان بنبوّتي . فكتب : « من محمّد بن عبد اللّه » . ففي برسول اللّه اسوة حسنة . و أمّا قولكم : إنّي لم أضربكم بسيفي حتى تفيئوا إلى أمر اللّه ، فإنّ اللّه عز و جل يقول : و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ١ ، كنتم عددا جمّا و أهل بيتي في عدة يسيرة . و أمّا قولكم : إنّي حكمت الحكمين ، فإنّ اللّه عزّ و جل حكم في أرنب يباع بربع درهم فقال : يحكم به ذوا عدل منكم ٢ و لو حكم الحكمان بما في كتاب اللّه لما وسعني الخروج من حكمهما . و أمّا قولكم :

إنّي كنت وصيا فضيعت الوصيّة ، فإنّ اللّه عز و جل يقول : و للّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا و من كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين ٣ . أ فرأيتم هذا البيت لو لم يحجّ إليه أحد كان البيت يكفر ، أم لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر ؟ و أنتم كفرتم بترككم إياي ، لا أنا كفرت بتركي لكم . فرجع منهم ألفان .

قوله عليه السّلام : « أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة » من : « أرضعته غيلة » ، أي : على حبل ، و هو مفسد للصبي ، يقال : الارضاع غيلة كالقتل غيلة .

« و مكرا و خديعة » كلّها مفعول له لقوله : « رفعهم » .

« إخواننا » مقول قولهم .

« و أهل دعوتنا استقالونا » من القتال .

ــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ١٩٥ .

( ٢ ) المائدة : ٩٥ .

( ٣ ) آل عمران : ٩٧ .

٣٧٤

« و استراحوا الى كتاب اللّه سبحانه ، فالرأي القبول منهم و التنفيس » أي :

الترفيه .

« عنهم . فقلت لكم : هذا أمر ظاهره ايمان و باطنه عدوان ، و أوّله رحمة و آخره عداوة ، فأقيموا على شأنكم و الزموا طريقتكم » في ( الطبري ) ١ في حرب يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك أيام يزيد بن عبد الملك : دعا ابن المهلب رؤوس أصحابه ، فقال لهم : قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل ، فأبعثهم مع محمّد أخي حتى يبيّتوا مسلمة ، و يحملوا معهم البراذع و الأكف و الزبل ،

لدفن خنادقهم فنقاتلهم على خندقهم بقية ليلتهم ، فاذا أصبحت نهضت إليهم بالناس فنناجزهم . قال السميدع : إنّا قد دعوناهم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيه ، و قد زعموا أنّهم قابلوا هذا منّا ، فليس لنا ان نمكر و لا نغدر و لا نريدهم بسوء ، حتى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه ، فقال لهم يزيد بن المهلب : ويحكم أتصدقون بني اميّة أنّهم يعملون بالكتاب و السنّة ، و قد منعوا ذلك منذ كانوا أنّهم أرادوا أن يكفوكم عنهم حتى يعملوا في المكر ؟ إنّي قد لقيت بني مروان ،

و ما لقيت رجلا هو أمكر من هذه الجرادة الصفراء يعني : مسيلمة . فقالوا : لا نرى أن نفعل ذلك حتى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا . . . .

« و عضّوا على الجهاد بنواجذكم » النواجذ أربعة في أقصى الأسنان بعد الأرحاء .

« و لا تلتفتوا الى ناعق نعق » أي : لا تكونوا كالأغنام ، يقال : نعق الراعي بغنمه . بالكسر أي : صاح بها .

قال الأخطل لجرير :

أنعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٥٩٣ .

٣٧٥

« إن اجيب أضلّ » فنعق أهل الشام صار سببا لضلال الخوارج .

« و إن ترك ذلّ » فلو كانوا لم يمشوا بنعقهم ، لصاروا ذليلين و اسراء مقهورين.

« و قد كانت هذه الفعلة ، و قد رأيتكم أعطيتموها ، و اللّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها و لا حملني اللّه ذنبها ، و و اللّه إن جئتها إنّي للمحقّ الذي يتّبع ، و إنّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته » هذه الفقرات كلّها من قوله : « و قد كانت » إلى هنا ،

ليس منها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) أثر و لا إشارة بوجودها في نسخة أو رواية ، و نسختهما هي الصحيحة ، لا سيما الثاني الذي نسخته بخط المصنّف ، فالظّاهر أنّ بعضهم رأى هذا الكلام زائدا في كلامه عليه السّلام في موضع آخر ، فنقله حاشية ، فخلط بالمتن .

و لقد وقفت في كلامه عليه السّلام على ما يناسبه ، ففي ( الطبري ) ١ قال عليه السّلام للناس بعد التحكيم : قد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة ، و اسقطت منّة ، و أورثت و هنا و ذلّة ، و لما كنتم الأعلين و خاف عدوكم الاجتياح ، و استحر بهم القتل و وجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف و دعوكم إلى ما فيها ليفتئوكم عنهم ،

و يقطعوا الحرب في ما بينكم و بينهم ، و يتربصون ريب المنون خديعة و مكرا ،

فأعطيتموهم ما سألوا ، و أبيتم إلاّ أن تدهنوا و تخوروا ، و ايم اللّه ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا ، و لا تصيبون باب حزم .

« فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ القتل ليدور على » هكذا في ( المصرية ) ٢ ،

و الصواب : ( بين ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٣ و الخطية ) .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٣ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٩ .

٣٧٦

« الآباء و الأبناء و الاخوان و القرابات ، فلا نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلاّ إيمانا و مضيّا على الحق ، و تسليما للأمر ، و صبرا على مضض » أي : ألم .

« الجراح » مرّ في فصل النبوّة نظير هذا الكلام من قوله : « و لقد » من العنوان ( ٥٥ ) : « و من كلام له عليه السّلام : و لقد كنّا مع رسول اللّه نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا و تسليما و مضيا على اللقم ،

و صبرا على مضض الألم ، و جدا على جهاد العدو ، و لقد كان الرجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما : أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون ؟ فمرّة لنا من عدوّنا و مرة لعدوّنا ، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، و أنزل علينا النصر ، حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه و متبوّءا أو طانه ، و لعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، و لا أخضرّ للإيمان عود » .

مرّ ثمة أنّ نصر بن مزاحم ١ روى : أنّه عليه السّلام قال ذلك الكلام يوم صفّين،

حين أقرّ الناس بالصلح ، فالظاهر أنّ الأصل فيهما واحد .

و كيف كان فقول ابن أبي الحديد : « إنّ قوله عليه السّلام : و لقد كنّا . . . غير مربوط بسابقه ، و إنّما نقله الرضي على حسب عادته » في غير محله ، فربطه بسابقه و هو قوله : « و عضوا على الجهاد بنواجذكم إلى و إن ترك ذل » على نقله واضح ، و المراد حثّ أصحابه على التأسّي بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله في ثباتهم .

« و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل اخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ و الاعوجاج و الشبهة و التأويل ، فاذا طمعنا في خصلة يلم اللّه به شعثنا ، و نتدانى بها إلى البقية في ما بيننا ، رغبنا فيها ، و أمسكنا عمّا سواها » قال ابن أبي الحديد ٢ : هذا

ــــــــــــ

( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٢٠ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٢٩٩ .

٣٧٧

الكلام من قوله : « و لكننا » مخالف في الظاهر للفصل الأول ، لأنّ الأول فيه إنكار الإجابة للتحكيم و هذا يتضمن تصويبها ، و ظاهر الحال أنّه بعد كلام طويل و قد قال المصنف في أوّل الفصل : إنّه من جملة كلام طويل و أنّه لما ذكر التحكيم قال ما كان يقوله دائما ، و هو : إنّي إنّما حكمت على أن نعمل في هذه الوقعة بحكم الكتاب ، و إنّي كنت احارب قوما ادخلوا في الاسلام زيفا ،

و أحدثوا به اعوجاجا ، فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم و أبقيت عليهم ، لأنّي طمعت في أمر يلم اللّه به شعث المسلمين .

قلت : بل الظاهر أنّه حرّف عن موضعه ، و أنّه كان مقول قول الخوارج في أوّل الأمر ، لما حملوه عليه السّلام على التحكيم بعد قولهم في أوّل الفصل : « اخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه ، فالرأي القبول منهم و التنفيس عنهم » كما لا يخفى ، و إلاّ فكيف يقول عليه السّلام : أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام » ؟ و كيف يقول عليه السّلام في أول كلامه : « إنّ رفعهم المصاحف إنّما كان حيلة و غيلة و مكرا و خديعة » ، و يقول في آخر كلامه : « فاذا طمعنا في خصلة يلمّ اللّه به شعثنا . . . » ؟

و إنّما كان عليه السّلام يقول للخوارج : إنّي و ان كنت كارها للتحكيم ، إلاّ أنّه لما أكرهتموني ، عليه صرفته إلى المشروع بقبول حكم الحكم إذا كان من كتاب اللّه ، و عقد بذلك عهد يجب الجري عليه ، حتى نرى ما يحكم الحكمان .

و كيف يقول عليه السّلام : معاوية و عمرو بن العاص و أهل الشام اخواننا في الإسلام ، و طمعنا منهم في خصلة يلم اللّه به شعثنا ؟ و يقول صاحبه عمّار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : و اللّه انّ هذه الراية قد قاتلتها ثلاث مرات ،

و ما هذه بأرشدهنّ . ثم قال :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

٣٧٨

ضربا يزيل الهام عن مقيله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

٥

الخطبة ( ١١٩ ) و من كلام له عليه السّلام ، و قد قام إليه رجل من أصحابه ، فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها ، فلم ندر أيّ الأمرين أرشد ؟ فصفّق عليه السّلام إحدى يديه على الأخرى ، ثم قال :

هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ اَلْعُقْدَةَ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ اَلَّذِي يَجْعَلُ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً فَإِنِ اِسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَ إِنِ اِعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ اَلْوُثْقَى وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي كَنَاقِشِ اَلشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا اَللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا اَلدَّاءِ اَلدَّوِيِّ وَ كَلَّتِ اَلنَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ اَلرَّكِيِّ أَيْنَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ دُعُوا إِلَى اَلْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى اَلْقِتَالِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اَللِّقَاحِ إِلَى أَوْلاَدِهَا وَ سَلَبُوا اَلسُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ اَلْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا لاَ يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ وَ لاَ يُعَزَّوْنَ بِالْمَوْتَى مُرْهُ اَلْعُيُونِ مِنَ اَلْبُكَاءِ خُمْصُ اَلْبُطُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ ذُبُلُ اَلشِّفَاهِ مِنَ اَلدُّعَاءِ صُفْرُ اَلْأَلْوَانِ مِنَ اَلسَّهَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ اَلْخَاشِعِينَ أُولَئِكَ إِخْوَانِي اَلذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَ نَعَضَّ اَلْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً وَ يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ اَلْفُرْقَةَ فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِقْبَلُوا اَلنَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ وَ اِعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

٣٧٩

أقول : رواه ابن عبد ربّه في ( عقده ) ١ مع اختلاف ، فروى عن نافع بن كليب ، قال : دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ، فإنّي لجالس تحت منبره ، و عليه عمامة سوداء و هو يقول : « انظروا هذه الحكومة ، فمن دعا إليها فاقتلوه و إن كان تحت عمامتي هذه » فقال له عدي بن حاتم : قلت لنا أمس :

من أبى عنها فاقتلوه ، و تقول لنا اليوم : من دعا إليها فاقتلوه ، و اللّه ما ندري ما نصنع بك ؟ و قام إليه رجل أحدب من أهل العراق ، فقال : أمرت بها أمس و تنهى عنها اليوم ؟ فأنت كما قال الأول : « آكلك و أنا أعلم ما أنت » فقال عليه السّلام : إليّ يقال هذا ؟ ( أصبحت اذكر أرحاما و أصره بدلت منها هوى الريح بالقصب ) أما و اللّه لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به ، و نهيتكم عمّا نهيتكم ، حملتكم على المكروه الذي جعل اللّه عاقبته خيرا ، إذن كان فيه ، و لكانت الوثقى التي لا تقلع ، و لكن بمن والى من اداويكم ؟ كأنّي و اللّه بكم كناقش الشوكة بالشوكة يا ليت لي بعض قومي ، و ليت لي من بعد خير قومي . اللهم إنّ دجلة و الفرات نهران أعجمان أصمان أبكمان ، اللهمّ سلّط عليهما بحرك ، و انزع منهما نصرك ، ويل للنزعة بأشطان الرّكي دعوا إلى الاسلام فقبلوه ، و قرؤوا القرآن فأحسنوه ،

و نطقوا بالشعر فأحكموه ، و هيّجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللقاح أولادها ،

ضربا ضربا و زحفا زحفا ، لا يتباشرون بالحياة ، و لا يعزون على القتلى ، و لا يغيرون على العلى :

اولئك إخواني الذاهبون

فحقّ البكاء لهم أن يطيبا

رزقت حبيبا على فاقة

و فارقت بعد حبيب حبيبا

ثم نزل تدمع عيناه . فقلت : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون على ما صرت إليه .

فقال : نعم إنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، أقوّمهم و اللّه غدوة و يرجعون إليّ عشية

ــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ٤ : ١٦٢ .

٣٨٠