الأمالي شيخ الصدوق

الأمالي شيخ الصدوق7%

الأمالي شيخ الصدوق مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 780

الأمالي شيخ الصدوق
  • البداية
  • السابق
  • 780 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 464378 / تحميل: 8975
الحجم الحجم الحجم
الأمالي شيخ الصدوق

الأمالي شيخ الصدوق

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الامور وهي بعينها فضيلة الصبر والاستقامة والتي تحدثنا عنها سابقاً ، وإذا ما اختار الإنسان طريق الباطل وسبيل الانحراف مع عدم المرونة للتغيير بحيث إنّه يعتبر الجميع على خطأ وهو وحده الصحيح ، ولا يتحرّك في سبيل تصحيح الخطأ وجبران الزيغ ، فيكون قد اختار طريق الّلجاج ، وهو من أسوأ الأخلاق.

طريقة العلاج :

بصورة عامّة وكما هو معلوم فإنّ طريق العلاج للإمراض الأخلاقية يتمثل في أمرين :

«الأول» : الطريق العلمي وذلك من خلال تحليل عواقب تلك الرذيلة الأخلاقية ، ومن هذا الطرق يمكن للشخص أن يعرف آثارها السلبية ، ويعلم أنّها ستبعده من الله تعالى والناس وتقف عقبة في طريق تكامله وتمنعه من إدراك الحقائق وتعزله عن الناس ، وتضع الحجب على القلب ، وحينئذٍ يتحرّك هذا الإنسان من موقع الابتعاد عن هذه الرذيلة ويقلع جذورها من نفسه.

اللجاج والمماراة لا ينسجم مع الإيمان كما قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«سِتَّةٌ لا تَكُونُ فِي المُؤمُنِ قِيلَ وَما هِي؟ قَالَ العُسرُ وَالنَّكدُ وَاللّجاجَةُ وَالكِذبُ وَالحَسَدُ وَالبَغي» (١) .

و «الطريق الآخر» لمحاربة تلك الرذيلة هو الحلّ العملي والتصدي لها في ميدان الممارسة والعمل ، فعند ما يرى نفسه قد توفّرت على عناصر ومقدمات ظهور الرذيلة في دائرة الحوار والنقاش ، فعليه أن يُسلّم فوراً للحق ويشكر المتحدث ، وإذا ما عاند وشاكس فليعتذر ، ولا يعيد الكلام من لجاجةٍ أبداً ، وإذا ما تكلم سهواً فليسكت ويستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وبتكرار هذا البرنامج العملي ستنكسر حدة اللجاج في نفسه وتندثر.

ثم عليه أن يبتعد عن الأفراد اللّجوجين ، ولا يترك الجدال والبحث أو المِراء ، وليقرأ عن العظماء كيف كانوا يقبلون الحق ولو من الصغير أو العبيد أو تلامذتهم ، ويجلّوهم ويحترمونهم لأنّهم قالوا الحق.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٤ ، ص ٣٠١ ، ح ٢٩.

٤١

وبما أنّ من آثارها المباشرة هو الرياء والجهل فكلّما استطاع الإنسان أن يكسِر شوكة هاتين الصفتين في نفسه فستقل لجاجته ، وليتذكر حالات الأقوام السابقة وكفرهم ومقابلتهم للأنبياء واختيارهم الكفر على الإيمان واستحقاقهم العذاب الإلهي لا لشيء إلّا لأنّهم لجّوا في باطلهم وأصروا على زيفهم ، ولئلا يصاب بما أصاب اولئك القوم من قبل ، وكيف أن بني اسرائيل باعوا كل ما لديهم ليشتروا تلك البقرة بحيث أفضى بهم إلى الاستجداء وذهبوا لموسىعليه‌السلام ليساعدهم في التخلص من هذه الورطة ، فعلمهم دعاء يعينهم على دنياهم(١) ، وكل ذلك كان بسبب لجّتهم وعنادهم.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ١٣ ، ص ٢٧٢.

٤٢

٣

الشكر وكفران النعمة

تنويه :

«شكر النعمة» يمكن أن يكون باللسان أو بالعمل ، وعليه فإنّ «الكفران» هو عدم الاعتناء بالنعم وتحقيرها وتضييعها ، وهو أيضاً من الرذائل الأخلاقية ذات العواقب الوخيمة ، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي ، والواقع أنّ الشكر يقرّب القلوب ويحكّم المحبّة في المجتمع ، والكفران يقطع أواصر المحبّة والوئام ويجعل من المجتمع جهنّماً لا يطاق يعيش فيه الانسان حالات من العداوة والبغض والحقد!

كفران النعمة مانع كبير أمام تكامل الروح الإنسانية وتهذيبها والسير إلى الله تعالى ، حيث يتسبب في ذبول عناصر الخير في الضمير ويطفيء النور الباطني الممتد في أعماق الوجدان ويلّوث الروح.

و «شكر النعمة» هو قضية فطرية ، اودعت في الإنسان لتفتح له آفاق التوحيد ومعرفة الله تعالى ، ولهذا نجد أنّ كثيراً من علماء العقائد يفتتحون بحوثهم بمسألة «ضرورة معرفة المنعم» ، وسيأتي شرحها في المستقبل إن شاء الله تعالى.

بهذه الإشارة نعود للقرآن الكريم لنستعرض فيه الآيات التي تذم حالة الكفران ، وتمدح حالة الشكر للنعمة :

٤٣

١ ـ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (١) .

٢ ـ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (٢) .

٣ ـ( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (٣) .

٤ ـ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) (٤) .

٥ ـ( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) (٥) .

٦ ـ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) (٦) .

٧ ـ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (٧) .

٨ ـ( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) (٨) .

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تستعرض كلام النبي موسىعليه‌السلام مع بني اسرائيل ، حيث يذكرهم بأمر

__________________

١ ـ سورة ابراهيم ، الآية ٧.

٢ ـ سورة النمل ، الآية ٤٠.

٣ ـ سورة لقمان ، الآية ١٢.

٤ ـ سورة هود ، الآية ٩ و ١٠.

٥ ـ سورة الاسراء ، الآية ٦٧.

٦ ـ سورة ابراهيم ، الآية ٢٨ و ٢٩.

٧ ـ سورة النحل ، الآية ١١٢.

٨ ـ سورة السبأ ، الآية ١٥ ـ ١٧.

٤٤

إلهي مهم :( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) ، فذكّرهم النبيعليه‌السلام بقضية الشكر ومعطياته والكفران وآثاره السلبية وذلك بعد ما انتصروا على فرعون ونالوا الاستقلال وذاقوا طعم الحرية والعظمة وظهرت منهم بوادر كفران النعمة.

جملة( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) فيها أنواع من التأكيدات ، فهي وعد إلهي قطعي للشاكرين ، بأنّه سيزيدهم من فضله ، واللطيف في الأمر أنّ الله تعالى لم يخاطب كفّار النعمة بالقول : «لُاعذّبنكم» بل قال :( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) وهو نهاية اللطف والرحمة في دائرة التعامل المولوي تجاه المخلوقين ، وفي نفس الوقت تهديد شديد ووعيد مخيف لكفّار النعم بأنّ عليهم أخذ العبرة من قصة بني اسرائيل عند ما كفروا أنعُم الله «فتاهوا» في الصحراء أربعين سنة.

في«الآية الثانية» يدور الحديث عن النبي سليمانعليه‌السلام وقومه ، عند ما اقترح عليهم أن يأتوه بعرش ملكة «سبأ» ، فقال له أحد حواريه وكان عنده علم من الكتاب :( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ، فشعر سليمانعليه‌السلام بالفرح يغمر نفسه لوجود مثل هذه الشخصيات في بلاطه ولديهم الروحيات والمعنويات القوية ، فقرر أن يشكر الخالق تعالى ، فقال :

( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) .

والجدير بالذكر أنّ ثواب الشاكر ذكر في هذه الآية بوضوح ، ولكن عقاب من يكفر بالنعمة ذكر بصورة غير مباشرة( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) حيث ركزت الآية على كرم الله تعالى ، وهو نهاية رحمة الله ولطفه في دائرة التخاطب مع الإنسان.

ويمكن استفادة نقطة مهمّة اخرى من الجملة الانفة الذكر ، وهي أنّ الله تبارك وتعالى يحذّر عباده من الكفر ويدعوهم للشكر لا لحاجة منه إليهم ، وحتى على فرض كفران النعمة فإنّه يفيض من كرمه ولطفه على الناس لعلّهم يرجعون عن غيّهم ولا يحرمون أنفسهم من أنعُم الله تعالى.

٤٥

وأساساً فإنّ الكتب الإلهية تعود بالنفع على العباد أنفسهم ، فهي بمثابة دروس لهم ، لتربية أنفسهم ، فالباري تعالى غنيٌّ بذاته ولا يحتاج إلى أحد ، لا لطاعة العباد ولا عصيانهم ولا يضرونه بالعصيان شيئاً.

«الآية الثالثة» تحمل مضمون الآية السابقة حيث تستعرض لنا قصة «لقمان الحكيم» :( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .

الحكمة التي أتاها الله تعالى للقمان تشمل معرفة أسرار الكون والعلم بطرق الهداية والصلاح ، والطريقة المثلى للحياة الفردية والاجتماعية ، التي جاءت بصورة نصائح لقمان لابنه في سورة لقمان ، وهي موهبة إلهية ونعمة روحية أكّد الله تعالى على أهميّتها ، كما ذكر في الآية التي قبلها على أحدى النعم المعنوية ، حتى لا يغرق الناس في منزلقات النعم المادية ويتصورون أنّ النعم والمواهب الإلهية تنحصر في الماديّات فقط.

ويجدر هنا الإشارة إلى نقطتين :

«الأولى» إنّ الشكر أتى بصورة الفعل المضارع ، والكفران بصيغة الماضي ، وهي إشارة إلى أنّ مسير التكامل والرقيّ والقرب إلى الله تعالى يحتاج إلى المداومة على الشكر في حين أنّ لحظة من كفران بإمكانها أن تفضي إلى نتائج وخيمة وعواقب مؤلمة.

و «الثاني» إنّ الآية ركّزت على صفتي (الغني الحميد) ، بينما كان التركيز في آية النبي سليمانعليه‌السلام على صفتي (الغني والكريم) وهذا الفرق يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله تعالى غنيٌّ عن شكر المخلوقين ، فالملائكة تسبح بحمده وتقدسه على الدوام ، وإن كان غنيّاً عنهم أيضاً ، ولكن العباد بشكرهم يستوجبون المزيد من النعم عليهم.

«الآية الرابعة» انطلقت للحديث عن الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق وعدم الإيمان والتقوى ، فهم يعيشون الكفران للنعمة بكل وجودهم :

( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ

٤٦

بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

نحن نعلم أنّ القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الإنسان في واقعه السيء ويصفه بصفات ذميمة بصورة مطلقة ، إنّما يقصد الإنسان المنفصل عن الله في حركة الحياة ومن يعيش عدم الإيمان أو ضعف الإيمان ، ولهذا ورد في الآية التي جاءت بعد الآيات مورد بحثنا :( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) .

بهذا الاستثناء يتبيّن أنّ الأفراد الذين يعيشون حالة اليأس من رحمة الله والغافلين والكفورين ، أفراد لم يصلوا في واقعهم النفسي لمرحلة الإيمان بعد.

وعلى العموم يمكن أن نستنتج من الآيات الآنفة الذكر ، أنّ الكفران وعدم الشكر تؤدي بالإنسان إلى التلّوث بصفات سيئة اخرى تحرمه المغفرة والأجر الكبير.

تعبير «لئن أذقنا» تعبير لطيف في الموردين فيقول : إنّ ضعاف النفوس والإيمان إذا سلبت منهم نعمة من النعم ، فسرعان ما يجري على ألسنتهم الكفر ويدب اليأس في قلوبهم ، وإن جاءتهم نعمة إذا بهم يغترّون ويتحركون في أجواء الغفلة والطغيان ، والدنيا هي كلها شيء صغير وحقير ، وما يصل إلى الإنسان منها أصغر وأحقر ، ومع ذلك فإنّهم يتأثرون بسرعة لضعف نفوسهم وضيق آفاق إيمانهم.

ولكن الإيمان بالله تعالى ومعرفة ذاته المقدسة اللّامتناهية في القدرة والعلم ، تمنح الإنسان عناصر القوة والحركة وتعينه على مواجهة أكبر الحوادث السيئة والحسنة دون أن تؤثر في نفسه شيئاً.

وتنطلق«الآية الخامسة» لتشير إلى الأفراد الذين يتوجهون إلى الله تعالى عند وقوع المصيبة ويدعونه ويتوسلون بلطفه بكل وجودهم ، وبمجرّد انقشاع سحائب الأزمة ينسون كل شيء ويكفرون مرّة اخرى :

( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً )

٤٧

وطالما جرّبنا هذا الأمر في حياتنا الشخصية وشاهدنا ضعيفي الإيمان عند ما يمحصون بالبلاء ، كالمرض والفقر والمصائب الاخرى ، يتوجهون باخلاص للباري تعالى وبمجرّد انكشاف تلك المصائب وعودة المياه إلى مجاريها تراهم يتغيّرون ويسلكون طريق الكفر والحال أنّ الإنسان في هذه الأحوال أيضاً يجب عليه التوجه والالتجاء إلى الذات المقدسة أكثر من ذي قبل.

وفي تكملة الآية الكريمة يعبّر القرآن الكريم بتعبير جميل جدّاً حيث يقول :( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ) .

فهنا إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن تكفروا وتتغيّروا فأينما تذهبوا فأنتم تحت سلطته ، وبإمكانه أن يعذبكم في أي مكان كنتم فيه سواء في البرّ أو في البحر؟

ويجب التوجه إلى أنّ كلمتي«الخسف» و «الغرق» في هذه الآية لهما مفهوم مترادف فالأولى يراد بها الاختفاء في الأرض ، والثانية الاختفاء في البحر.

«الآية السادسة» من الآيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرح عاقبة كفران النعم :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) وبعدها يضيف :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) .

هذه التعبيرات تبيّن أنّ كفران النعم الإلهية ، يمكن أن يؤدي بقوم أو بمجتمع بأكمله إلى قعر جهنّم ولا يستبعد نزول العذاب الدنيوي فيها حيث تبدل دنياهم إلى جحيم لا يطاق.

وقد اختلف المفسّرون في المقصود من النعمة في هذه الآية ، فبعض قال : إنّها بركة وجود الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله فالعرب المشركون قد كفروا بالنعمة بانكارهم لدعوته ورفضهم الاذعان لرسالته فاحلّوا قومهم دار البوار ، وفسّرها البعض الآخر بأهل البيتعليهم‌السلام حيث كفر بهم البعض أمثال بني امية ، ولكن على الظاهر أنّ مفهوم الآية أوسع من هذه الدوائر والاطر

٤٨

في مصاديق الآية ويشمل جميع النعم الإلهية ، وما ذكر آنفاً يعدّ من مصاديقها الواضحة ، على الرغم من تصريح الآيات التي وردت بعدها بالأشخاص الذين تركوا الإسلام والتوحيد واختاروا الشرك وعبادة الأصنام ، ولكن هذه النماذج تعتبر أيضاً من مصاديقها البارزة.

وقال البعض الآخر : مثل الفخر الرازي والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ، إنّ سبب النزول لهذه الآية ناظر لأهل مكّة الذين أعطاهم الله تعالى أنواع النِعم وأهمها بعثة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من بين ظهرانيهم ، ولكنهم لم يقدّروا تلك النعمة وكفروا بها ، فأصبحت عاقبتهم أليمة ، فكفرهم بنعمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو نفس كفرهم بالله والرسالة!

ولكننا نعلم أنّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآية بمورد خاص.

وتأتي«الآية السابعة» لتتحدث عن جماعة أنعم الله تعالى عليهم بنعمة ظاهرة وباطنة ، نعمة الأمان والرزق الكثير والنعم المعنوية والروحية التي نزلت عليهم بواسطة نبيّهم ولكنّهم كفروا تلك النعم فعاقبهم الله تعالى بعقاب الجوع والخوف :

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ )

اختلف المفسّرون بأن هذه الآية هل تشير إلى مكان بالخصوص أم إنّها مثال عام كلي ، فبعض يعتقد أنّها أرض مكّة ، وتعبير( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) ، يقوي ذلك الاحتمال ، لأنّه ينطبق بالكامل على أحوال وشرائط مكّة ، إذ هي أرض جافة وصحراء قاحلة غير ذات زرع وماء ولكن الله سبحانه قد باركها وأنزل عليها النعم من كل مكان.

وتعبير( كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) هو قرينة اخرى على أنّها مكّة ، فأرض الحجاز غالباً ما كانت أرضاً غير آمنة إلّا مكّة وذلك ببركة وجود الكعبة الشريفة.

وعند ما وصلت النعم المادية على أهل مكّة إلى الذروة أتمها الله تعالى ببعثة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم كفروا النعم الماديّة والمعنوية ، فابتلاهم الله تعالى بالقحط والخوف ، وهذا هو مصير من كفر بأنعم الله تعالى.

٤٩

ومع ذلك فإنّ مفهوم الآية يمكن أن يكون أعم فيستوعب في مضمونه جميع من يكفر بالنعمة وأرض مكّة هي أحد مصاديق هذه الآية ، حيث ورد في الروايات أن القحط والجوع أخذ منهم مأخذاً كبيراً بحيث كانوا يتغذّون على أجساد الموتى لسدّ جوعهم ، وكذلك في الغزوات الإسلامية ، حيث أضرّت بهم كثيراً.

«الآية الثامنة» من الآيات ، تتطرق إلى قوم من أكفر الناس ، وهم (قوم سبأ) حيث حباهم الله تعالى : بأفضل النعم وأحسنها ، ولكن غرورهم وغفلتهم واتباعهم لأهوائهم ، أعماهم وأضلّهم ، فكفروا ، فأخذهم الله بذنوبهم ومحق تلك النعم من أيديهم ، فقال :

( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) .

وقد ذكر المفسّرون أنّه على الرغم من أنّ أرض اليمن خصبة ولكن لفقدان الأنهار فيها ، كانت أغلب أراضيها بائرة لا يستفاد منها ، ففكر القوم ببناء سدّ يمنع السيول القادمة من الجبال ، فبنوا عدّة سدود وأهمها (سد مأرب) حيث كان يقف أمام السيول بين جبلي بلق العظيمين ، فتجتمع خلفه مياه كثيرة استطاعوا بواسطتها أن يزرعوا ويسقوا به جنائن وبساتين كثيرة قامت على طرفي السدّ ، ونشأت حولها القرى وأصبحت مركزاً عظيماً للنشاط التجاري وتجمع الناس ، فالقرى كانت متصلة ببعضها بحيث أن ظلال الأشجار كانت متصلة على طول الطريق ووفور تلك النعم كان مقترناً مع الأمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي ، فكانت حياتهم هانئة جدّاً ، اجتمعت فيها كل متطلبات الحياة آنذاك ومثل هذه الأجواء كان من شأنها أن تفضي لإطاعة الله تعالى والتكامل الروحي.

ويستمر القرآن الكريم ، فيقول إنّ النعم أصبحت كثيرة جدّاً ممّا حدى بهم لأنّ تتحرك فيهم عناصر الطغيان فنسوا ذكر الله تعالى وأخذوا يتفاخرون ويقسّمون الناس إلى طبقات ، ولكنهم بالتالي ذاقوا وبال أعمالهم فأرسل الباري تعالى عليهم سيل العرم :( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ

٥٠

وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

ومن عجائب هذه القصّة أنّ المفسّرين ذكروا هجوم الجرذان الصحرواية على السدّ فأخذت تنخر فيه من الداخل دون أن يراها الناس المغرورون المشتغلون بالملذّات وكفران النعم ، وفجأة أمطرت السماء مطراً شديداً ، وتحرّك سيل عظيم وتجمعت المياه خلف السدّ ، ولكن جدران السد لم تتحمل كل هذا الضغط ، فانهارت وأخذ السيل طريقه للقرى والأراضي الزراعية ، فلم يُبق لها شيء ، لا مزارع ولا أنعام ، وتبدل كل شيء إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها سوى النباتات البرية ، ففرت الطيور الجميلة وحلّت محلّها الغربان والبوم ، وتفرق الناس إلى الأطراف وأصبحوا من أفقر الناس يأسفون على ماضيهم الجميل ، ولكن هيهات ، حيث لا تفيد ساعة ندم.

نعم فهذه هي حال الأقوام التي تغفل عن ذكر الله وتكفر بأنعمه.

والطريف في الأمر أنّ الأثرياء منهم اعترضوا على قرب المسافات بينهم ، حيث يستطيع أن يسافر كل أحد لقرب المسافة ووفرة الخير في الطريق ، فقالوا : أصبح بإمكان الفقير أن يسافر معنا أيضاً ، فطلبوا من الله تعالى أن يباعد بين أسفارهم حتى لا يستطيع الفقراء السفر معهم أيضاً ، نعم فقد وصلوا إلى أعلى مراتب الطغيان ، فعاقبهم الله تعالى بأشدّ العقاب ، فتفرق جمعهم وأصبحوا مضرباً للأمثال وخصوصاً في الفرقة ، فقالوا فيهم : (تفرقوا أيادي سبأ).

من مجموع الآيات محل البحث تتبين خطورة وبشاعة كفران النعم ، حيث تناولت الآيات هذه المسألة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع وخاصة ما أحلّ الكفران بالأقوام السابقة من نتائج مدمرة وعواقب مشؤومة في حركة الإنسان والحياة.

كفران النعم في الروايات الإسلامية :

تناولت الروايات الإسلامية هذه المسألة بصورة واسعة ومفصلّة وتكلّمت عن آثار حالة الكفران المشؤومة وأضرارها ، وكذلك تناولت بركات الشكر للنعم والمواهب الإلهية ، ومنها :

٥١

١ ـ جاء في حديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«أَسرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفرانُ النِّعْمَةِ» (١) .

٢ ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال :«سَبَبُ زَوالِ النِّعَمِ الكُفرانُ» (٢) .

٣ ـ وعنه أيضاًعليه‌السلام :«كُفرُ النِّعْمَةِ مُزيلُها وَشُكرُها مُستَدِيمُها» (٣) .

٤ ـ في حديث آخر عنهعليه‌السلام :«كُفرانُ النِّعَمِ يُزِلُّ القَدَمَ وَيَسلُبُ النِّعَمَ» (٤)

٥ ـ وأيضاً عنهعليه‌السلام :«آفَةُ النِّعَمِ الكُفرانِ» (٥) .

٦ ـ وعنهعليه‌السلام أيضاً :«كافِرُ النِّعْمَةِ كافِرُ فَضلِ اللهِ» (٦) .

٧ ـ والاستدراج هو أحد عقوبات الباري تعالى ويعني أنّ الله تعالى يغدق على عبده الكافر نعمه ثم يسلبها منه حتى يحس بالألم والعناء الشديدين ، وقد جاء في حديث عن الإمام الحسينعليه‌السلام :«الإِستِدراجُ مِنَ اللهِ سُبحانَهُ لِعَبدِهِ أَنْ يُسْبِغَ عَلَيهِ النِّعَمَ وَيَسلُبَهُ الشُّكرَ» (٧) .

٨ ـ عن الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال :«الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيُّرُ النِّعَمَ البَغيُ عَلَى النّاسِ والزَّوالُ عَنِ العادَةِ فِي الخَيرِ واصطِناعُ المَعرُوفِ ، وَكُفرانُ النِّعَمِ وَتَركِ الشُّكْرِ» (٨) .

٩ ـ وفي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال :«كُفرُ النِّعْمَةِ لُؤمٌ وَصُحْبَةُ الأحمَقِ شُؤمٌ» (٩) .

١٠ ـ وختاماً نختم بحثنا بهذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في معرض حديثه عن جنود العقل وجنود الجهل ، حيث أمر أصحابه بأن يتعرفوا على جنود العقل وجنود الجهل ، وعند ما سأله بعض أصحابه عنه قال :«إنّ اللهَ جَعَلَ للِعَقلِ خَمساً وَسَبعينَ جُندِياً وَضِدَّهُ

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٦ ، ص ٧٠.

٢ ـ غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ١٢١.

٣ ـ المصدر السابق ، ٦٢٧.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٦٣٠.

٥ ـ بحار الانوار ، ج ٣ ، ٢٩٨.

٦ ـ المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٦٣٤.

٧ ـ المصدر السابق ، ج ٧٥ ، ص ١١٧.

٨ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٧٥.

٩ ـ غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ٦٣٠.

٥٢

الجَهلُ إلى أن قال ـ والشُّكرُ وضِده الكُفرانُ» (١) .

ما ذكر في الروايات العشر السابقة ، يبيّن مدى خطورة هذه الرذيلة وآثارها السيئة على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وكيف أنّ الإنسان ينحدر من أوج الكرامة وذروة النعمة إلى قعر الذلّة والمسكنة ، وتسلب منه التوفيقات الإلهية ويبتعد عن الله تعالى ويقترب من الشيطان.

وهنا يجدر الإشارة إلى عدّة نقاط :

١ ـ معنى كفران النعمة

الكفر يعني في الأصل الإخفاء ، وبما أنّ الكافر يسعى في إخفاء وتغطية النعمة ، وقيمتها فسمّي عمله بالكفران.

ومن البديهي أنّ الكفران مرّة يكون بالقلب واخرى باللسان واخرى بالعمل.

ففي قلبه لا يستشعر الإنسان أهمية تلك النعمة ، ويصرّح بلسانه بقلّة النعمة وعدم أهميتها ، وفي العمل لا يتحرك من موقع الاهتمام بمواهب الله عليه ، وبدلاً من أن يستعملها بالخير ، يستعملها بالشر ولذلك قال كبار علماء الأخلاق :

«الشُّكْرُ صَرفُ العَبدُ جَمِيعَ ما أَنْعَمَهُ اللهُ تَعالى فِي ما خُلِقَ لأجلِهِ».

لذلك فالكفران هو استعمال النعم في غير محلها ، فالعين التي وهبها الله تعالى للإنسان ليرى بها طريق الحق والآيات الإلهية ويشخص بها الطريق السوي من البئر لئلا يقع فيه ، فإذا به يستعملها في موارد الحرام ، وكذلك اليد والاذن وغيرها من الجوارح أو المال والثروة.

وكأنّ هذا الكلام مقتبس من كلام الإمام الصادقعليه‌السلام ، حيث يقول :«شُكرُ النِّعمَةِ إجتِنابُ المَحارمِ» (٢) .

وبهذا يتبيّن لنا معنى الشكر وعدم الشكر.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ١ ، ص ١١٠ مع التلخيص.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، ح ١٠ ؛ نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٢٩.

٥٣

٢ ـ عواقب الكفران

الكفران بالنعمة يفضي إلى نتائج سيئة كثيرة في دائرة الماديات والمعنويات في حياة الإنسان فمن ذلك أنّه يتسبب في زوال النعم ، لأنّ الباري تعالى حكيم ، لا يعطي شخصاً شيئاً بدون حساب ولا يسلب أحداً شيئاً بلا مبرر ، فالذين يكفرون بالمنعم فلسان حالهم يقول :

بأننا لا نليق ولا نستحق هذه النعم ، فتوجب الحكمة الإلهية سلب تلك النعم منهم ، والذين يشكرون النعم فلسان حالهم يقول : إننا نستحق تلك النعم الإلهية وزد علينا يا ربّ ، مثلاً عند ما يرى الفلاح أنّ في بستانه أشجاراً مورقة أكثر من غيرها فسوف يعتني بها أكثر من غيرها حتى تنمو وتكبر بسرعة وتثمر ، وإذا شاهد أشجاراً لا تثمر ولا تورق ولا ظلّ لها مهما أهتم بها وبذل لها العناية في مجال السقي والتهذيب ، فكفران الأشجار للنعمة يدعو الفلاح لعدم الاعتناء بها وتركها لحالها.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :

«مَنْ شَكَرَ النِّعَمَ بِجِنانِهِ استَحَقَّ المَزيدَ قَبْلَ أَن يَظهَرَ عَلَى لِسانِهِ» (١) .

وجاء في روايات اخرى نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه وبمجرّد الحمد والثناء يصدر الباري تعالى أمره بزيادة النعم على ذلك العبد ، فقال :«ما أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبدٍ مِنْ نِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ وَحَمِدَ اللهَ ظاهِراً بِلِسانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتّى يُؤمَرَ لَهُ بِالمَزيدِ» (٢) .

وبديهي أنّ الكفران يفضي إلى نتائج معاكسة كذلك ، ويمكن أن يلطف به الله تعالى ويؤخر عنه سلب النعمة ولكن وعلى أية حال إذا لم يتنبه الإنسان وبقي على ما هو عليه في دائرة الغفلة والجحود للنعمة ، فستسلب منه بالتأكيد ، لأنّ ذلك من لوازم الحكمة الإلهية.

ومن جهة اخرى فإنّ الكفران يسبب البعد من الله تعالى وهو الخسران الأكبر ، فعظماء علماء الكلام في أول أبحاثهم ذهبوا إلى أن شكر المنعم هو من أول الدوافع لمعرفة الباري تعالى وأنّ شكر المنعم أمر وجداني ، فعند ما يرى الإنسان نفسه غارقاً بالنعم الظاهرة

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٣٩٩.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، ح ٩.

٥٤

والباطنة ، وأنّها ليست منه فسيسعى لشكر المنعم من خلال البحث عن مصدر النعمة ، وهذا هو الذي يُمهد الطريق لمعرفة الله تعالى ، ولكنّ الناكرين لأنعم الله والذين لا يقدّرون المنعم فسيحرمون من معرفة الله تعالى ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم شكر الخالق يفضي بدوره إلى عدم شكر المخلوق ، فلا يقيم وزناً لجميل الآخرين ومعروفهم ، وكأنّه هو الذي له الحق عليهم ، ممّا يسبّب نفور الناس منه وكراهيتهم له ، وبالتالي سيؤدي إلى العزلة والانزواء في حركة الواقع الاجتماعي وقلّة الصديق والناصر في مقابل المشكلات وتحديات الواقع الصعبة.

أسباب ودوافع الكفران وطرق علاجه :

التقصير في الشكر ينشأ من عدم معرفة الإنسان بالمنعم بصورة كاملة ، وأساساً فانّه لا يتحرك في طريق التدبّر في النعم الإلهية ، فمثلاً عند ما ننظر إلى بدننا وما فيه من عجائب ودقائق وتفاصيل على مستوى الخلقة فسنتوجه إلى أهمية تلك النعم ويتحرك فينا حسّ الشكر لله تعالى.

وعلى سبيل المثال إذا استطاع البشر أن يصنع مثل الأجهزة الموجودة في الإنسان (مثل القلب والكبد والكلية والرئتين) فستكون قطعاً أقل كيفية من صنع خالقها ، وستكلفه الكثير جدّاً ، وعلى هذا فإذا أردنا حساب قيمة ما يوجد لدينا من أعضاء وجوارح بدنية فسيتبين أنّ لدينا وبحوزتنا ثروة كبيرة جدّاً.

أمّا النعم الخارجية ، فيمكن أن تكون جرعة ماء تساوي الدنيا بما فيها ، وقد نقل عن بعض العلماء أنّه دخل على أحد الملوك وكان بيد الملك قدح ماء فأراد أن يشرب فتوجه للعالم الكبير وقال له عِظني ، فقال له العالم : إذا كنت في يوم من الأيّام عطشاناً لدرجة الموت وجاءوك بالماء بشرط أن تتنازل عن الملك ، فهل ستتنازل؟ فقال نعم ، فلا حيلة في ذلك.

فقال له : كيف تتعلق بُملك وحكومة تساوي شربة ماء؟

٥٥

ويرى الإنسان حيناً آخر مريضاً يصرخ من شدّة الألم بحيث يتمنى الموت على هذا الألم ، فلو اعطيت للإنسان الدنيا بأسرها وهو على ذلك المرض ، فلن يقبل بذلك ، بل يرضى أن يأخذوا منه كلّ شيء إلّا العافية.

هناك نعمٌ ظاهرها غير مهم لكنّها إن فقدت فستتعرض حياة الإنسان للخطر ، مثل غدد اللّعاب التي ترطب الشفاه والفم وتلين الأكل وتسهل عملية البلع ، فإذا توقفت هذه الغدد في يوم ما فسيجف الفم ويعسر عليه الأكل ويتوقف عن الكلام وتصبح الحياة مستحيلة ، فذلك الجزء الصغير من بدن الإنسان أهم بكثير من ثروات الدنيا أجمع.

وكذلك في نعمة الشمس والهواء والنباتات والمواهب الاخرى العظيمة وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم :( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١) .

ويجب التنبه أنّ كثيراً من النعم الإلهية لا يتسنى للإنسان معرفتها ، لأنّها لن تُسلب منه ، فبعض النعم والمواهب تعيش مع الإنسان فاذا سلبت منه عرفها وأقرّ بعظمتها ، وبعضها سيبقى في الكتمان وهي كثيرة جدّاً.

مثلاً مسألة الجاذبية فلم يكن أحد يعرف قبل السفر إلى الفضاء وفقدان الجاذبية هناك ، كم هي مهمّة هنا على الأرض ، إذ لولاها لما استطاع الإنسان أن يفعل شيئاً لا زراعة ولا صناعة ولا حركة ، فأقل حركة من الإنسان سيرتطم بالسقف والجدار وستتناثر الأطمعة والأشربة من المائدة ولن يستطيع الإنسان أن يأكل أو يشرب شيئاً ، فحركة الأرض تؤدي إلى قدف كل شيء في الفضاء لو لا الجاذبية وستتحول الأرض إلى صحراء قاحلة محرقة ، فتفكروا إننا لو قضينا العمر في شكر هذه النعمة فهل سنؤدّي شكرها؟

وإذا أضفنا إليها النعم المعنوية وهداية الأنبياء وكلام المعصومينعليهم‌السلام ونزول الكتب الإلهية ، والتي هي أعلى وأهم من النعم الماديّة ، فسنعرف مدى عظمة وقيمة مواهب الرحمن وسنعرف قدرتنا على الشكر كم هي ضعيفة وضئيلة.

فالتوجه لهذه الامور تقلع جذور الكفران وتحيي فيه روح الشكر.

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ١٨.

٥٦

ومنها نعرف طريقة العلاج ، ولذلك قالوا : إنّ أول طريق للشكر هو المعرفة والتفكير بالمواهب والصنائع الإلهية وأنواع نعمه الظاهرة والباطنة(١) .

الطريقة الاخرى : هي النظر في دائرة النعم والمواهب المادية إلى المستويات الدنيا للناس ، فكلما فكّر الإنسان فيها فستبعث فيه روح الشكر ، ولكن إذا نظر إلى من هو أعلى منه من حيث الثروة والنعمة فسوف تستولي عليه الوساوس الشيطانية وتؤذيه.

ومن جهة ثالثة إذا ابتلي بمصائب الدنيا ، فليعلم أنّه يوجد مصائب أكبر من التي اصابته وليشكر الله أنّه لم يتورط بالأكبر والأشد منها.

وقد نقل عن شخص أنّه اشتكى عند أحد العظماء أنّ السارق قد أتى وسرق كل شيء ، فقال له : اذهب واشكر الله تعالى إذ لم يأت الشيطان الى بيتك بدلاً من السارق ، فلو أخذ منك إيمانك فما كنت تفعل؟(٢)

وقد ذكر الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب «التوحيد» المعروف بتوحيد المفضل حقائق توحيدية هامة من موقع تحليل ماهية النعم الإلهية في تفاصيلها الدقيقة ومن خلالها ينفتح الإنسان على المنعم الحقيقي.

ومن جملتها نعمة الكلام والكتابة وقد اعتبرها الإمام الصادقعليه‌السلام عمود الحضارة الإنسانية : وبعد شرح طويل لها قال :

«فَإنّه لَو لَم يَكُن لَهُ لِسان مُهيأ للكَلامِ وَذِهن يَهتَدِي بِهِ للُامورِ لَم يَكُن لِيتَكَلَّمَ أَبَداً ، وَلَو لَم يَكُن لَهُ مُهيأةً وَأَصابِعَ للِكِتابَةِ لِيَكتُبَ أَبداً ، واعتَبر ذَلِكَ مِنَ البَهائِمِ الّتي لا كَلامَ لَها ولا كِتابَةَ ، فَأصلِ ذَلِكَ فَطرَةِ الباري عَزَّ وجَلَّ وما تَفضل بِهِ عَلَى خَلقِهِ ، فَمن شَكَرَ اثِيبَ ، وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العالَمِينَ» (٣) .

__________________

١ ـ معراج السعادة ، ص ٨١٠.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٢٧٧.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ٨٢.

٥٧

الشكر قناة موصلة للنعم الإلهية :

النقطة المقابلة للكفران ، هي شكر الإله ، ومفهومها تقدير النعم بالقلب واللسان والعمل ، أمّا التي بالقلب فهي معرفة الخالق والتسليم إليه والرضا بعطائه وذكر الامور التي تبيّن تقدير وشكر الخالق من قبل المخلوق في مقابل نعمه تبارك وتعالى ، أمّا من الناحية العملية فهو وضع النعم والمواهب الإلهية في المكان اللائق والذي خلقها الله تعالى لأجله.

يقول الراغب في المفردات : الشكر هو بمعنى التصور للنعمة واظهارها ، وقال البعض أن الكلمة في الأصل كانت «كشر» بمعنى الإظهار والابراز (والدابة الشكورة) تطلق على الحيوان الذي يواظب ويهتم بالزرع والماء وتسمن يوماً بعد يوم ، و «العين الشكراء» بمعنى العين المليئة بالماء ولذلك فإنّ الشكر بمعنى امتلاء وجود الإنسان من ذكر المنعم للنعم.

والشكر على نوعين : شكر تكويني وشكر تشريعي ، الشكر التكويني هو شكر المخلوق للمواهب والنعم التي بحوزته وتحت تسلطه ، لتنمو كالشجر والورد والثمرة تكون تحت إشراف الفلّاح الخبير الذي يعرف كيف تثمر الثمار الجيدة ، والكفران هو عدم ظهور أثر للمحافظة والمراقبة فيها من قبل الفلّاح.

لذلك فإنّ الذي يستعمل النعم الإلهية في طريق العصيان فقد كفرها تكوينيّاً.

الشكر التشريعي هو أن يقوم الإنسان بشكر الخالق بالقلب واللسان.

وذكرنا سابقاً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يؤدّي شكر الخالق ونعمه ، لأنّ نفس هذا التوفيق للشكر هو نعمة منه تعالى وهو نفسه يحتاج لشكر آخر ، ولذلك جاء في رواياتنا الإسلامية أنّ أفضل شكر الإنسان هو أظهار العجز عن شكر الله في مقابل نعمه والمعذرة عن ذلك التقصير ، لأنّه لا يستطيع أحد أن يؤدّي ما يستحقه الباري تعالى.

وذكرنا سابقاً الكثير من مطالب الشكر وما يقابلها من الكفران ، ولتكميل هذا البحث نذكر بعض من الآيات والروايات عن المعصومينعليهم‌السلام ، ونكتفي بهذا القدر منها :

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (١) .

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية ٣٢ و ٣٣.

٥٨

وشبيه لهذا التعبير جاء في آيات اخرى.

ومرّة يشير إلى العين والسمع والعقل فإنّها أهمّ وسيلة للمعرفة الإنسانية فيقول :

وأمّا القرآن الكريم فقد جعل الصبر والشكر أحدهما قرين للآخر وهما وسيلتان لتفتح العلم والإيمان في قلب الإنسان فقال :

( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١) .

فالقرآن الكريم أشار في موارد عديدة لوجود هذه الفضيلة (فضيلة الشكر عند الأنبياء العظام) ، وأمرهم بالشكر(٢) ومرّة يخاطب آل داود :

( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) .

ويقول في مكان آخر أنّ شرط رضا الباري تعالى هو الشكر :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤) .

الآيات حول الشكر في القرآن الكريم كثيرة وتصل إلى حوالي ال ٧٠ آية ، والجدير بالذكر أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى في سورة النساء الآية ١٤٧ :

( ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً ) .

مفهوم الآية يبيّن أنّ الشكر إذا صدر بصورة ومعنى حقيقي فإنّ العذاب الإلهي سيرتفع بالكامل ، علاوة على أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى ، فإنّ الشكر هو من الصفات المشتركة مع الباري تعالى ، والفرق أن الإنسان بوضع النعمة في موضعها السليم يكون قد أدّى شكرها ، وفي المقابل يكون شكر الباري تعالى بزيادة المواهب لعباده.

وجاء في بعض الآيات القرآنية أن التوجه والانتباه للنعم الإلهية هو السبب في حثّ الإنسان على الشكر ويكون هو الرادع عن الذنوب ، ونقرأ في سورة الأعراف في خطابه للاقوام السابقة ، الآية ٧٤ :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ٧٨.

٢ ـ راجع الآيات ، النحل ، ٢١٢ ؛ الاسراء ، ٣ ؛ لقمان ، ١٢ ؛ سبأ ، ١٣.

٣ ـ سورة سبأ ، الآية ١٣.

٤ ـ سورة الزمر ، الآية ٧.

٥٩

وفي الآية ٦٩ من نفس السورة يقول :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

وهذا التعبير صريح بأن الشكر يكون سبباً للفلاح.

خلاصة القول ، أنّ أساس كل سعادة وبركة إلهية هو الشكر ، لأنّه يقرّب الإنسان يوماً بعد يوم من الله تعالى ، ويحكم أواصر المحبّة بين العباد وخالقهم ، وهو طريق التقوى والفلاح.

فلسفة الشكر :

الإنسان المنعم قد يتوقع الشكر من الطرف الآخر ، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان ، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً ، أو لأجل موقعه ومركزه الإجتماعي.

ولكن الباري تعالى ، هو الغني عن العالمين ، حتى ولو كفر الناس جميعاً ، فهو لا يحتاج لشكرهم ، ومع ذلك فقد أكد على الشكر ، فمثله كمثل باقي العبادات ، ونتيجته تعود على نفس الإنسان ، وإذا ما دققنا النظر قليلاً فستتوضح فلسفته.

إذا قدّر الشخص النعم الإلهية سواء كان بالقلب أو اللسان أو بالعمل ، فهو يستحق تلك النعمة ، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من أحد من دون دليل ولا يعطي لأحد من دون دليل ، فعند ما يشكر الإنسان النعم فلسان حاله يقول إنني مستحق للنعم ، وحكمة الباري لا توجب له النعمة فقط بل تزيده أيضاً.

ولكن لسان حال الكافر يقول : إننّي غير مستحق للنعمة وحكمة الباري تعالى توجب سلب تلك النعمة منه ، وإذا شكر يوماً وكفر يوماً ، فسيتعامل معه كالتالي :

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وعند ما نقول أنّ الشكر سبب في دوام النعمة فدليله هذا بعينه ، وفي حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :«بِالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمِ» (٢) .

__________________

١ ـ سورة الانفال ، الآية ٥٣.

٢ ـ غرر الحكم.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الخطاب، عن موسى بن بشار العطار(١) ، عن المسعودي، عن عبدالله بن الزبير، عن أبان بن تغلب والربيع بن سليمان وأبان بن أرقم وغيرهم، قالوا: أقبلنا من مكة حتى إذا كنا بوادي الاجفر(٢) إذا نحن برجل يصلي، ونحن ننظر إلى شعاع الشمس، فوجدنا(٣) في أنفسنا، فجعل يصلي ونحن ندعو عليه، حتى صلى ركعة ونحن ندعو عليه ونقول: هذا من شباب أهل المدينة، فلما أتيناه إذا هو أبوعبدالله جعفر بن محمّد عليهما السلام، فنزلنا فصلينا معه، وقد فاتتنا ركعة، فلما قضينا الصلاة قمنا إليه، فقلنا: جعلنا فداك، هذه الساعة تصلي؟ فقال: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت(٤) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) كذا في النسخ: وفي الكافي ٢: ٤٦٦/٣ كتاب العشرة، باب ٣، روى موسى بن يسار القطان عن المسعودي، فالظاهر إتحاده مع ما هنا ووقوع التحريف في أحد الموضعين.

(٢) الاجفر: موضع بين فيد والخزيمية، بينه وبين فيد ستة وثلاثون فرسخا نحو مكة.«معجم البلدان ١: ١٠٢».

(٣) وجد: غضب.

(٤) بحار الانوار ٨٣: ٥٩/١٨.

١٤١

[ ١٩ ]

المجلس التاسع عشر

وهو يوم الجمعة

الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٤٤/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، قال: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن محمّد بن عيسى وأبي إسحاق النهاوندي، عن عبدالله بن حماد، قال: حدّثنا عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله: إن أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتى أصبحت، قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أم أيمن فجاءته، فقال لها: يا أم أيمن، لا أبكى الله عينيك، إن جيرانك أتوني وأخبروني أنك لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينيك، ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكى الليل أجمع. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فقصيها على رسول الله، فإن الله ورسوله أعلم. فقالت: تعظم علي أن أتكلم بها. فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما ترى، فقصيها على رسول الله.

قالت: رأيت في ليلتي هذه، كأن بعض أعضائك ملقى في بيتي. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: نامت عينك يا أم أيمن، تلد فاطمة الحسين، فتربينه وتلينه، فيكون بعض أعضائي في بيتك.

١٤٢

فلما ولدت فاطمة الحسين عليهما السلام، فكان يوم السابع، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحلق رأسه وتصدق بوزن شعره فضة وعق عنه، ثم هيأته أم أيمن ولفته في برد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أقبلت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: مرحبا بالحامل والمحمول، يا أم أيمن، هذا تأويل رؤياك(١) .

١٤٥/٢ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري، عن عليّ بن جابر، قال: حدثني عثمان بن داود الهاشمي، عن محمّد بن مسلم، عن حمران بن أعين، عن أبي محمّد شيخ لاهل الكوفة، قال: لما قتل الحسين بن عليّ عليهما السلام أسر من معسكره غلامان صغيران، فأتي بهما عبيد الله بن زياد، فدعا سجانا له، فقال: خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيق عليهما سجنهما، وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنهما الليل أتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح(٢) .

فلما طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرب إليه بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لعله يوسع علينا في طعامنا، ويزيد في شرابنا.

فلما جنهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح، فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّدا؟ قال: فكيف لا أعرف محمّدا وهو نبيي! قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف جعفرا، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء! قال: أفتعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف عليا، وهو ابن عم نبيي وأخو نبيي! قال له: يا شيخ، فنحن من عترة

______________

(١) بحار الانوار ٤٣: ٢٤٢/١٥.

(٢) القراح من كل شئ: الخالص.

١٤٣

نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيقت علينا سجننا، فانكب الشيخ على أقدامهما يقبلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أي طريق شئتما، فلما جنهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا - يا حبيبي - الليل، واكمنا النهار حتى يجعل الله عزّوجلّ لكما من أمركما فرجا ومخرجا. ففعل الغلامان ذلك.

فلما جنهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جننا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبي، فقد شممت الروائح كلها، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما، فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.

قالت العجوز: يا حبيبي، إن لي ختنا(١) فاسقا، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما. قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت: سأتيكما بطعام، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا.

فلما ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه، فتعال حتى أعانقك وتعانقني وأشم رائحتك وتشم رائحتي قبل أن يفرق الموت بيننا. ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما.

فلما كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتى قرع الباب قرعا خفيفا، فقالت العجوز: من هذا؟ قال: أنا فلان. قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشق مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي. قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من

______________

(١) الختن: كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها، وكذلك زوج البنت أو زوج الاخت.

١٤٤

عسكر عبيد الله بن زياد، فنادى الامير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شئ.

فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمّد خصمك في يوم القيامة. قال لها: ويحك إن الدنيا محرص عليها. فقالت: وما تصنع بالدنيا، وليس معها آخرة؟ قال: إني لاراك تحامين عنهما، كأن عندك من طلب الامير شيئا، فقومي فإن الامير يدعوك. قالت: وما يصنع الامير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البرية؟ قال: إنما لي طلب، افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح، فإذا أصبحت بكرت في أي الطريق آخذ في طلبهما. ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب.

فلما كان في بعض الليل سمع غطيط(١) الغلامين في جوف البيت، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير، فقال له: من هذا؟ قال: أما أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره.

قال لهما: من أنتما؟ قالا له: يا شيخ، إن نحن صدقناك فلنا الامان؟ قال: نعم. قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمة الله وذمة رسوله؟ قال: نعم. قالا: ومحمّد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين؟ قال: نعم. قالا: والله على ما نقول وكيل وشهيد؟ قال: نعم. قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل. فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما. فقام إلى الغلامين فشد أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين.

فلما انفجر عمود الصبح، دعا غلاما له أسود، يقال له: فليح، فقال: خذ هذين الغلامين، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب عنقيهما، وائتني برأسيهما لانطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.

______________

(١) الغطيط: الصوت الذي يخرج مع نفس النائم.

١٤٥

فحمل الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال: إن مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟ قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل: أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا. فانكب الاسود على أقدامهما يقبلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمي في القيامة. ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات، وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني! فقال: يا مولاي، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فإذا عصيت الله فأنا منك برئ في الدنيا والآخرة.

فدعا ابنه، فقال: يا بني، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها، فخذ هذين الغلامين إليك، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما، لانطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا شاب، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال: يا حبيبي، فمن أنتما؟ قالا: من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يريد والدك قتلنا. فانكب الغلام على أقدامهما يقبلهما، وهو يقول لهما مقالة الاسود، ورمى بالسيف ناحية وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بني عصيتني! قال: لان أطيع الله وأعصيك أحب إلى من أن أعصي الله وأطيعك.

قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري، وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلما صار إلى شاطئ الفرات سل السيف من جفنه، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما، وقالا له: يا شيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمّد خصمك في القيامة غدا. فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم. فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من

١٤٦

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقال: ما لكما من رسول الله قرابة. قالا له: يا شيخ، فائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره. قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما. قالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سننا؟ قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئا. قالا: يا شيخ إن كان ولا بد، فدعنا نصلي ركعات. قال: فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة. فصلى الغلامان أربع ركعات، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: يا حي يا حليم(١) يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق.

فقام إلى الاكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة، وأقبل الغلام الصغير يتمرغ في دم أخيه، وهو يقول: حتى ألقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا مختضب بدم أخي. فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنيهما في الماء، وهما يقطران دما.

ومر حتى أتى بهما عبيد الله بن زياد وهو قاعد على كرسي له، وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلما نظر إليهما قام ثم قعد ثم قام ثم قعد ثلاثا، ثم قال: الويل لك، أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا. قال: فما عرفت لهما حق الضيافة؟ قال: لا.

قال: فأي شئ قالا لك؟ قال: قالا: يا شيخ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمك في القيامة. قال: فأي شئ قلت لهما؟ قال: قلت: لا، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.

قال: فأي شئ قالا لك؟ قال: قالا: ائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره. قال: فأي شئ قلت؟ قال: قلت: ليس إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما. قال: أفلا جئتني بهما حيين، فكنت أضعف لك الجائزة، وأجعلها أربعة آلاف درهم؟

______________

(١) في نسخة: يا حكيم. وكذا في الموضع الآتي.

١٤٧

قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلا التقرب إليك بدمهما.

قال: فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قال لي: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله. قال: فأي شئ قلت لهما. قال: قلت: ما لكما من رسول الله قرابة.

قال: ويلك، فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قالا: يا شيخ، ارحم صغر سننا. قال: فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئا.

قال: ويلك، فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قالا: دعنا نصلي ركعات. فقلت: فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة، فصلى الغلامان أربع ركعات. قال: فأي شئ قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفيهما إلى السماء، وقالا: يا حي يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق.

قال عبيد الله بن زياد: فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟ قال: فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له. قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه، ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(١) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) بحار الانوار ٤٥: ١٠٠/١.

١٤٨

[ ٢٠ ]

المجلس العشرون

مجلس يوم الثلاثاء

لأربع ليال بقين من شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٤٦/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رحمه الله، قال: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن المؤدب، قال: حدّثنا أحمد بن عليّ الاصبهاني، عن إبراهيم بن محمّد الثقفي، قال: حدّثنا جعفر بن الحسن، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن محمّد بن عليّ السلمي، عن عبدالله بن محمّد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله الانصاري، أنه قال: لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في علي خصالا، لو كانت واحدة منها في جميع الناس لاكتفوا بها فضلا:

قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني كهارون من موسى.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني وأنا منه.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني كنفسي، طاعته طاعتي، ومعصيته معصيتي.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حرب علي حرب الله، وسلم علي سلم الله.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولي علي ولي الله، وعدو علي عدو الله.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي حجة الله وخليفته على عباده.

١٤٩

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حب علي إيمان، وبغضه كفر.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حزب علي حزب الله، وحزب أعدائه حزب الشيطان.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مع الحق والحق معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي قسيم الجنة والنار.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من فارق عليا فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزّوجلّ.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة(١) .

١٤٧/٢ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: حدّثنا أبوجعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول القاضي في داره بمدينة السلام، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا عليّ بن يزيد الصدائي، عن أبي شيبة الجوهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم وألسنتكم(٢) .

١٤٨/٣ - حدّثنا أحمد بن زياد رضي الله عنه، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدّثنا القاسم بن محمّد البرمكي، قال: حدّثنا أبوالصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعليّ بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه قد ألقم حجرا، قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال له: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الانبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل في قول الله عزّوجلّ:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٣) ، وقوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ

______________

(١) الخصال: ٤٩٦/٥، بشارة المصطفى: ١٩، بحار الانوار ٣٨: ٩٥/١١.

(٢) الخصال: ٣٢١/٥، بحار الانوار ٦٩: ٣٧٢/١٦، و ٧٧: ١١٣/٥.

(٣) طه ٢٠: ١٢١.

١٥٠

مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (١) ، وقوله في يوسف:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٢) ، وقوله عزّوجلّ في داود:( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٣) وقوله في نبيه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم:( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (٤) . فقال مولانا الرضا عليه السلام: ويحك - يا علي - اتق الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله عزّوجلّ برأيك، فإن الله عزّوجلّ يقول:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٥) . أما قوله عزّوجلّ في آدم عليه السلام:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فإن الله عزّوجلّ خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده، لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض تتم مقادير أمر الله عزّوجلّ، فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة، عصم بقوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٦) . وأما قوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنما ظن أن الله عزّوجلّ لا يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ:( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (٧) أي ضيق عليه، ولو ظن أن الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر. وأما قوله عزّوجلّ في يوسف:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) فإنها همت بالمعصية، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها

______________

(١) الانبياء ٢١: ٨٧.

(٢) يوسف ١٢: ٢٤.

(٣) سورة ص ٣٨: ٢٤.

(٤) الاحزاب ٣٣: ٣٧.

(٥) آل عمران ٣: ٧.

(٦) آل عمران ٣: ٣٣.

(٧) الفجر ٨٩: ١٦.

١٥١

والفاحشة، وهو قوله:( كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ) يعني القتل( وَالْفَحْشَاءَ ) (١) يعني الزنا.

وأما داود، فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال عليّ بن الجهم: يقولون: إن داود كان في محرابه يصلي، إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار، فخرج في أثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان(٢) ، فاطلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان أوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه: أن قدم أوريا أمام الحرب، فقدم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية: أن قدمه أمام التابوت، فقتل أوريا رحمه الله، وتزوج داود بامرأته.

قال: فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته، حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل!

فقال: يا بن رسول الله، فما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك، إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عزّوجلّ خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عزّوجلّ إليه الملكين فتسورا المحراب، فقالا:( خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَـٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه، فقال:( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ) (٣) ، ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة حكمه، لا ما ذهبتم

______________

(١) يوسف ١٢: ٢٤.

(٢) في نسخة: حيان، وفي اخرى: جنان.

(٣) سورة ص ٣٨: ٢٢ - ٢٤.

١٥٢

إليه، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ يقول:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (١) إلى آخر الآية؟

فقلت: يا بن رسول الله، فما قصته مع أوريا؟ فقال الرضا عليه السلام: إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام، فذلك الذي شق على (الناس من قبل)(٢) أوريا.

وأمّا محمّد نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقول الله عزّوجلّ له:( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) فإن الله عزّوجلّ عرف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في الآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وأحد من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى صلّى الله عليه وآله وسلّم اسمها في نفسه ولم يبده(٣) ، لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، قال الله عزّوجلّ:( وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) في نفسك، وإن الله عزّوجلّ ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم، وزينب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وفاطمة من علي عليهما السلام.

قال: فبكى عليّ بن الجهم، وقال: يا بن رسول الله، أنا تائب إلى الله عزّوجلّ أن أنطق في أنبياء الله عزّوجلّ بعد يومي هذا إلا بما ذكرته(٤) .

١٤٩/٤ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد الهمداني، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر محمّد بن علي، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين، عن أبيه سيد

______________

(١) سورة ص ٣٨: ٢٦.

(٢) أثبتناه من العيون.

(٣) زاد في نسخة: له.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ١٩١/١، بحار الانوار ١١: ٧٢/١.

١٥٣

الشهداء الحسين بن علي، عن أبيه سيد الوصيين أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطبنا ذات يوم، فقال: أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الايام، وليا له أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابة، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أو زاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين. أيها الناس، من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه.

فقيل: يا رسول الله، وليس كلنا يقدر على ذلك. فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء.

أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله

١٥٤

عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.

أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: فقمت فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الاعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الاعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّوجلّ، ثم بكى، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟

فقال: يا علي، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الاولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك.

ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا علي، من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبك فقد سبني، لانك مني كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله تبارك وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، فاختارني للنبوة، واختارك للامامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي.

يا علي، أنت وصيي، وأبو ولدي، وزوج ابنتي، وخليفتي على امتي في حياتي وبعد مماتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية، إنك لحجة الله على خلقه، وأمينه على سره وخليفته على عباده(١) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ٢٩٥/٥٣، فضائل الاشهر الثلاثة: ٧٧/٦١، بحار الانوار ٩٦: ٣٥٦/٢٥.

١٥٥

[ ٢١ ]

المجلس الحادي والعشرون

مجلس يوم الجمعة

سلخ شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٥٠/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن عمر البغدادي الحافظ، قال: حدّثنا عبدالله بن يزيد، قال: حدّثنا محمّد بن ثواب، قال: حدّثنا إسحاق بن منصور، عن كادح - يعني أبا جعفر البجلي -، عن عبدالله بن لهيعة، عن عبد الرحمن - يعني ابن زياد -، عن سلمة بن يسار، عن جابر بن عبدالله، قال: لما قدم علي عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بفتح خيبر، قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم قولا لا تمر بملا إلا أخذوا التراب من تحت رجليك ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وإنك تبرئ، ذمتي وتقاتل على سنتي، وإنك غدا على الحوض خليفتي، وإنك أول من يرد علي الحوض، وإنك أول من يكسى معي، وإنك أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور، مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم، يكونون غدا في الجنة جيراني، وإن حربك حربي، وسلمك سلمي، وإن سرك سري، وعلانيتك علانيتي، وإن سريرة صدرك كسريرتي، وإن ولدك ولدي، وإنك

١٥٦

تنجز عداتي، وإن الحق معك، وإن الحق على لسانك وقلبك وبين عينيك، الايمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وإنه لن يرد علي الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك حتى يرد الحوض معك.

قال: فخر علي عليه السلام ساجدا، ثم قال: الحمد لله الذي أنعم علي بالاسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية خاتم النبيين وسيد المرسلين، إحسانا منه وفضلا منه علي. قال: فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي(١) .

١٥١/٢ - حدّثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدّثنا العباس بن الفضل المقرئ، قال: حدّثنا أبوالحسن عليّ بن الفرات الاصبهاني، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد البصري، قال: حدّثنا جندل بن والق، قال: حدّثنا عليّ بن حماد، عن سعيد، عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون عليا. قال: قربني إليهم، فلما أن أوقف عليهم، قال: أيكم الساب الله؟ قالوا: سبحان الله! من يسب الله فقد أشرك بالله. قال: فأيكم الساب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قالوا: من يسب رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم الساب عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزّوجلّ، ثم مضى.

فقال لقائده: فهل قالوا شيئا حين قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئا. قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:

نظروا إليك بأعين محمرة

نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك. قال:

خزر الحواجب، ناكسو أذقانهم

نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا. قال: لكن عندي.

______________

(١) إعلام الورى: ١٨٦، بشارة المصطفى: ١٥٥، بحار الانوار ٣٩: ١٨.

١٥٧

أحياؤهم خزي على أمواتهم

والميتون فضيحة للغابر(١)

١٥٢/٣ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: سمعته يقول: من صلى أربع ركعات بمائتي مرة( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) في كل ركعة خمسين مرة، لم ينفتل وبينه وبين الله عزّوجلّ ذنب إلا غفر له(٢) .

١٥٣/٤ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن زيد الشحام، عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، قال: ما من عبد يقول كل يوم سبع مرات: أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار، إلا قالت النار: يا رب أعذه مني(٣) .

١٥٤/٥ - حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن معاوية بن وهب، عن معاذ ابن مسلم، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: اصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافئ من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه(٤) .

١٥٥/٦ - حدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدّثنا أبي، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمّد بن أبي عمير، عن جعفر الازدي، عن عمرو بن أبي المقدام، قال: سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: من قرأ آية الكرسي مرة، صرف الله عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا وألف مكروه من مكروه الآخرة،

______________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣: ٢٢١، فرائد السمطين ١: ٣٠٢/٢٤١، كفاية الطالب: ٨٢، كشف الغمة ١: ١٠٩، بحار الانوار ٣٩: ٣١١/١.

(٢) ثواب الاعمال: ٤٠، بحار الانوار ٩١: ١٧١/٢، ٣.

(٣) بحار الانوار ٨٧: ١/١.

(٤) الخصال: ٢٠/٧١، بحار الانوار ٧١: ٤١٦/٣٨.

١٥٨

أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر(١) ؟

١٥٦/٧ - حدّثنا عليّ بن الحسين بن شاذويه المؤدب رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن عبدالله بن جعفر بن جامع الحميري، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد، عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن مدرك بن الهزهاز، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: يا مدرك، رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلينا، فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون(٢) .

١٥٧/٨ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدثني عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: إن داود عليه السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع إلا جاوبه، فما زال يمر حتى انتهى إلى جبل، فإذا على ذلك الجبل نبي عابد، يقال له: حزقيل، فلما سمع دوي الجبال وأصوات السباع والطير، علم أنه داود عليه السلام، فقال داود: يا حزقيل، أتأذن لي فأصعد إليك. قال: لا. فبكى داود عليه السلام، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا حزقيل: لا تعير داود، وسلني العافية، فقام حزقيل، فأخذ بيد داود فرفعه إليه، فقال داود: يا حزقيل: هل هممت بخطيئة قط؟ قال: لا. قال: فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادة الله عزّوجلّ؟ قال: لا. قال: فهل ركنت إلى الدنيا فأحببت أن تأخذ من شهوتها ولذتها؟ قال: بلى، ربما عرض بقلبي. قال: فماذا تصنع إذا كان ذلك؟ قال: ادخل هذا الشعب فأعتبر بما فيه.

قال: فدخل داود عليه السلام ذلك الشعب، فإذا سرير من حديد، عليه جمجمة بالية وعظام فانية، وإذا لوح من حديد فيه كتابة، فقرأها داود عليه السلام فإذا هي: أنا أروى شلم(٣) ، ملكت ألف سنة، وبنيت ألف مدينة، وافتضضت ألف بكر، فكان آخر

______________

(١) بحار الانوار ٩٢: ٢٦٢/١.

(٢) الخصال: ٢٥/٨٩، بحار الانوار ٢: ٦٥/٤.

(٣) في نسخة: سلم، وفي اخرى: بن أسلم.

١٥٩

أمري أن صار التراب فراشي، والحجارة وسادتي، والديدان والحيات جيراني، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا(١) .

١٥٨/٩ - حدّثنا أحمد بن زياد رضي الله عنه، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، قال: حدّثنا أبوأحمد محمّد بن زياد الازدي، عن أبان بن عثمان وغيره، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: من ختم صيامه بقول صالح أو عمل صالح، تقبل الله منه صيامه. فقيل له: يا بن رسول الله، ما القول الصالح؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والعمل الصالح: إخراج الفطرة(٢) .

١٥٩/١٠ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: أخبرني أحمد ابن محمّد الهمداني، قال: أخبرنا المنذر بن محمّد، قال: حدّثنا إسماعيل بن عبدالله الكوفي، عن أبيه، عن عبدالله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال: خطب أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الناس يوم الفطر، فقال: أيها الناس، إن يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المسيئون، وهو أشبه يوم بيوم قيامتكم، فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم خروجكم من الاجداث إلى ربكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم إلى منازلكم في الجنة أو النار، واعلموا - عباد الله - أن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: ابشروا عباد الله، فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون(٣) .

١٦٠/١١ - وقال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام لبعض أصحابه: إذا كان ليلة الفطر، فصل المغرب ثلاثا، ثم اسجد وقل في سجودك، يا ذا الطول، يا ذا الحول،

______________

(١) كمال الدين: ٥٢٤/٦، بحار الانوار ١٤: ٢٥/٣.

(٢) التوحيد: ٢٢/١٦، معاني الاخبار: ٣٢٥/١، بحار الانوار ٩٦: ١٠٣/١، و ٣١٣/٨، وتقدم في المجلس (١٣) الحديث (٦).

(٣) بحار الانوار ٩٠: ٣٦٢/١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780