المباهلة

المباهلة25%

المباهلة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155

  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17958 / تحميل: 8366
الحجم الحجم الحجم
المباهلة

المباهلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تصدير

في حياة علي (ع)، وفي حياة الزهراء عليها السلام، وفي حياة ولديهما عليهما السلام نواحٍ كثيرة للحديث عنهم، وكفايات للإشادة بفضلهم، وفي كلّ ناحية من نواحي الفضيلة والكمال ملتقى مع هؤلاء الأربعة..

وقد التقت في حياتهم وشائج الفضائل والمثل العليا مذ تفتحت أكمام حياتهم، وعرفوا هذا الوجود، وإذا نظرنا إليهم من البداية إلى النهاية لرأيناهم يتقلبون بين أحضان الفضيلة، وقد أسدلت عليهم أبرادها، تلفّهم من الفرع إلى القدم، فلا يساويهم في سموّهم أحد، ولا يدانيهم مخلوق. ولا جرم إن كانوا كذلك وقد تربّوا في البيت الذي خرجت منه الدعوة إلى الإسلام، وكفلهم صاحب الدعوة الإسلامية.

وليس عجباً بعد هذا إن كان في كلّ ناحية من نواحي حياتهم ملتقى للفضائل، فإنّ لهذه التربية أثر فعّال في صبغهم بالصبغة المثالية، وتوجيههم إلى الفضيلة والكمال...

ولقد كان كلّ واحد منهم بحكم التربية، وبحكم الوراثة معجزة خالدة انفصلت من جسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتكون معجزة في صميم الحياة

١

وإنّ حياة كلّ واحد منهم تتصل بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوده الكامل يتصل بوجوده ( ص ) المثالي، وفضائله تتصل بفضائله، من الساعة الأولى التي انفصلوا فيها من وجود، واستقرّوا في وجود آخرٍ.

هذه حقيقة ثابتة يستطيع القارئ أن يراها من خلال حياتهم، وإنّ عرضاً موجزاً لحياتهم كفيل بأن يرينا إنّه بعد النبوة لا نجد فواصل أخرى بين كمال وجوده ( ص ) وكمال وجودهم، وأنّ الله تعالى أعدهم للإنسانية في أعلى مثالية، كما أعدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل.

وفي الحقّ أنّهم المعجزة الخالدة التي كشف الزمن ذيله عنهم، فجاءوا في وسط المعترك الهائج وليسوا منه، وجاءوا بين طرفي الزمن وليسوا من الزمن وإنّما هم إشعاعة من نور الله أفاضه على هذا الوجود، وعلى هذه الإنسانية المعذبة يشقّ الطريق ليهديها في كلّ أجيالها إلى الخير والسعادة، وإلى المُثُل العليا من الكمالات النفسية.

* * *

موضوع هذا الكتاب ناحية واحدة من نواحٍ كثيرة، وآية واحدة من كتاب الله المجيد من بين آيات كثيرة هي آية المباهلة:

( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )

هذا موضوع هذا الكتاب. وإنّ موضوعاً كهذا الموضوع ينكمش

٢

فيه القلم على نفسه متهيّباً فلا يستطيع أن يجري مترسّلاً؛ لتشعّب نواحيه، وترامي أطرافه، ومن ناحية ثانية لما أحيط بهذا الموضوع من أسلاك شائكة متشابكة الأطراف، لا يكاد ينتزع طرف منها حتّى يلتقي بأطراف أخرى متحصّنة بمتارك الزمن القاسي، ومخلفات الأقلام المهوسة التي خلّفت وراءها الزمن مظلماً بالستائر الكثيفة، والسُحُب الداكنة، تتصل بعهدها القديم المظلم.

ولكنّ.. سيف الظلم مفلول الحدّ، ودولته دائماً إلى زوال، وإنّ الحقّ مكفول لسائر الأجناس... وفي الحقّ نور لا تخبو شعلته مهما أحاطوه بحصون كثيفة الجدر، وسوّروه بزبر الحديد، ومهما تراكمت عليه الأصداء، وعبرت عليه الأزمان، ولابد أن يخترق النور هذه الحجب ويكشف الظلمات...

وإنّ السنين الطوال التي مرّت تحمل سيف النقمة مسلولاً، لم يتسنَ لها أن تمسّ ذلك النور، ولم تستطع أن تمدّ يدها إلى القلوب المستنيرة بنور الحقّ.. وإنّ الأيدي العابثة بالحقائق التي أعقبت رسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مرجوا لها أن تمتدّ إلى المبادئ السامية لتفسدها، وما كانت إلاّ أيدٍ عابثة في جدها، هزيلة في أحكامها، غير مرجوّة في نهايتها، كما لم تكن رشيدة في بدايتها.

وإنّ تلك القلوب التي أغمضها ذلّ الاستبداد، وامتهنتها حكومات الاستعباد، لم تمت، ولم تدفن، ولم تهن، ولم تنكل، وإنّما انفردت في زاوية من الزمن تعمل نشيطة في سبيل هدفها في ظلمات الاستبداد، وتحت قوارع النكبات، لا متوانية ولا كسله..

٣

وكان الزمن حريصاً الحرص كلّه على أن يسدّ النوافذ، وأن يحول بين سوانح الفرص، ولكن بالرغم عنه يبدأ القبس ينير الطريق، ويوضح السبل ، ويفلت الأسد من أقفاصه الموصدة، ويزأر زأرته القاصفة، ويرجع بالحلقة المفقودة ليوصلها بأخواتها، وليسلم السلسلة متلاصقة الحلقات، ألا وإنّ يومنا هذا موصول بأيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وموصول بيوم المباهلة وإن جار عليه الزمن، وأراد أن يلفّه بطيّات ماضيه، لولا أنّ كتاب الله المجيد يعالن الناس بذلك اليوم، وبفضل أربعة فقط من مئات الألوف من المسلمين، وإنّ سورة آل عمران تصارحهم بفضل آل محمّد صلى الله عليه وعليهم وسلم، المرموق رغم كلّ حاسد وكلّ مناوئ.

* * *

إن الله بعث محمداً رسولاً هادياً وداعياً مبشراً ونذيراً، يدعو إلى الله الواحد الأحد، ونشر للناس كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، يهدي للتي هي أقوم، نعى ركود العقل، وأهاب بالإنسان إلى التفكير بملكوت السماوات والأرض قبل الإيمان.( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السماوات وَالْأَرْضِ ) ( إِنّ فِي خَلْقِ السماوات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ ) ودعا الإنسان إلى النظر في نفسه( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون ) ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والإبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) .

٤

ودعا الإنسان إلى النظر في آيات الله الذي خلق كلّ شيء فأحسن صنعه، وأحكم تدبيره، وما أودع في هذا الكون من بديع الصنع، وإحكام التنسيق( إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَى‏ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى‏ تُؤْفَكُونَ ) ( فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( ألم نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادا* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا الّيْلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النّهَارَ مَعَاشاً* وَبَنيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً* وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهّاجاً* وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجّاجاً* لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنّاتٍ أَلْفَافاً ) ( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى‏ بِمَاءٍوَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) إلى أمثال ذلك من الآيات.

أجل: أمر بالنظر ثمّ بعد النظر والتفكير في صنع القادر الحكيم، الإيمان بالله الواحد الأحد؛ ليخلّص الإنسان من رقّ تقليد الآباء، وقد نعى على الإنسان الركود، والرجوع إلى الآباء، والأجداد في كثير من الآيات.

وكتاب الله سبحانه الذي شقّ طريقه إلى قلوب الظمأى إلى عدالة الحقّّ لم يتبدل، ولم يصبه تحريف. وإنّما انحرفت نفوس قامت على إنفاذ شريعته ونصوصه، متأثرة بعوامل هدّامة في المبدأ والمنتهى، وما زالت تعيش بين المسلمين، وتمدّ حبائلها وشباكها إلى القلوب والضمائر، فتجرفها عاصبة عيوناً بعصابة من التصّعب المقيت.

٥

بيد أنّ هذا عهد غَبَر، وتولت أيامه، وانتهت دولته إلى أسوأ مصير، وبدأت الحقيقة تنكشف مشعّة لمّاعة، وليس على طالب الحقّ إلاّ أن يضع كتاب الله بين يديه، يقلّب صفحاته الصفحة الصفحة. فليس ثمّة أحد أرحم يطالب بحق من الله، ولا أحد أعلم بالخلق ظاهرهم، وباطنهم منه تعالى. ثمّ يضع سنّة رسول الله يقلبها حديثاً فحديثاً.

وكتاب الله، وسنّة نبيه صريحان بأنّ آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل مَنْ أقلّته الأرض، وأظلّته السماء. والقارئ يقرأ في كتاب الله المجيد المراسيم الإلهية بالتزام جانب آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومودة قرباه، وهم عليٌّ وفاطمةٌ وحسنٌ وحسينٌ عليهم السلام، ومن استوعب القرآن استيعاب تأمّل واستقصاء، وقرأه قراءة تفهم واستنتاج، استخلص منه أعظم المدح والثناء على آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا أريدك أن تقرأ فيه الآيات الثلاث مئة التي أنزلت في عليٍّ ( ع )(١) ، ولكن اقرأ قوله تعالى في سورة الأحزاب ( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال: « نزلت في خمسة، فيّ وفي عليٍّ والحسن

____________________

(١) في ينابيع المودّة: أخرج الطبراني عن ابن عباس (رض) قال: نزلت في عليّ أكثر من ثلثمائة آية في مدحه.

٦

والحسين وفاطمة »(١) .

وجاء في القرآن في سورة حم الشورى( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ‏(٢) وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ كَذِباً ) ، وقد رووا إنّه لما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّى الله عليه وإله وسلم:

«عليٌّ وفاطمة وابناهما »(٣)

____________________

(١) في الكلمة الغرّاء ص ٧ ، وقد أورد الإمام جلال الدين السيوطي، في تفسير هذه الآية من كتابه الدرّ المنثور، عشرين رواية من طرق مختلفة، في أنّ المراد من أهل البيت هنا، إنّما هم الخمسة لا غير. وذكر ابن جرير الطبري - كما في الشرف المؤبّد للنبهاني - خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة في قصر الآية عليهم بالخصوص.

(٢) القربى كالزلفى، وهي بمعنى القرابة، والاستثناء متّصل، والمعنى لا أسألكم على أداء الرسالة شيئاً من الأجر إلاّ أن تودوا قرابتي، ويصح الاستثناء منقطعاً، أي لا أسألكم عليه أجراً، ولكن أسألكم أن تودوا قرابتي.

(٣) أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، كما في الصواعق المحرقة لابن حجر، وأخرجه أيضاً عنه ابن المنذر وابن مردويه والمقريزي والبغوي والثعلبي في تفسيرهما، والسيوطي في درره المنثورة صرّح بذلك النبهاني في أربعينه في الشرف المؤيد.

ونحن لا نريد أن نأتي على كلّ ما جاء في هذه الآيات الكريمة، من رواية وتفسير، وبحسب القارئ أن يطلب الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء، لسماحة الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين، فإنها وضعت خصّيصاً للبحث في هذه الآيات الكريمة والأحاديث الواردة في تفسيرها، وقد أوضح هناك دلالة هذه الآيات بأجلى بيان، وأوضح برهان، فجزاه الله عن الحقّ وأهله خير جزاء المحسنين.

٧

واقرأ إن شئت سورة الدهر - هل أتى - وأمعن النظر في آية الأبرار منها، واستوعب استيعاب متأمل نصوصها، وروح معانيها؛ لتعلم أنّ أهل هذه السورة قد بلغوا الشأو، ووصلوا إلى القمّة العليا، وانتهت بهم المثاليّة إلى أقصى الحدود التي لا تصل إليها الأفكار، ولا تبلغها العقول.

ثمّ اقرأ آية المباهلة من سورة آل عمران( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ؛ لتعلم أنّهم سلام الله عليهم، كما قال فيهم الجاحظ (صفوة الأمم، وخيرة العرب والعجم. ولباب البشر، ومصاص بني آدم، وزينة الدنيا. وحلية الدهر، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن المكارم، وينبوع الفضائل، وأعلام العلم، وإيمان الإيمان) وخيرة الله للتأمين على دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبرهانه على صحّة الإسلام، والدعامة لتركيز الإيمان.

ولقد فهم المسلمون يوم كانوا خلوا من المؤثرات السياسية مزيد عناية الله

٨

بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان سبيلهم إلى فهم ذلك، القرآن الكريم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذه حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، غير أنّا نبخس الحقيقة والواقع حقّهما إذا أنكرنا أنّه كان في الأفق الإسلامي بعض السحب الداكنة كانت تلوح حيناً، وتضمحلّ حيناً آخر، ورسول الله والقرآن المجيد لم يكونا كفيلين باقتلاع بذرة الحقد على عليّ بن أبي طالب ( ع ) التي كانت مغروسة في النفوس، والتي نمت بعد رسول الله (ص)، أو في اليوم الأوّل من وفاته، وامتدت أغصانها في العصور المتوالية، وإلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله، وليس من موضوعنا أن نتبسّط هنا، ولا نريد أن ننغمس في هذا الحديث.

ومهما يكن من أمر فإنّ الآية الكريمة والآيات التي تقدمتها براهين واضحة جليّة على سموّ فضلهم، وعلوّ قدرهم، ورفعة مقامهم، وإنّهم صفوة الصفوة ولباب اللباب، والخيرة الخيّرة من عامة المسلمين، لا يدانيهم أحد من الخلق ولا يضاهيهم، ولا نريد أن نستوعب الكلام في هذه الآيات، ونحيل القارئ الكريم على (الكلمة الغرّاء في تفضل الزهراء) الملحقة بكتاب الفصول المهمّة، الطبعة الثانية لسماحة البحّاثة المتتبع الثبت حجّة الإسلام السيّد عبد الحسين شرف الدين المجاهد في سبيل الله والحقيقة، وهناك تجد ما يزيل كلّ ريب أو شكّ، بأجلى بيان، وأوضح برهان.

* * *

فتح رسول الله ( ص ) مكّة، فجفل العرب الوثنيّون، وهالهم أمر

٩

رسول الله، واضطرب النصارى في نجران، وانخلعت قلوب القسس الذين يديرون شؤون كعبة نجران، وهالهم انتشار الإسلام، وبيناهم في حيرتهم سادرون إذ ورد عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يدعوهم للإسلام، أو إعطاء الجزية، أو ينابذهم الحرب، والحرب كانت علاجاً مرّاً يتجرّعه رسول الله ( ص ) على كره دفعاً للأذى وكفّاً للفتنة، وليس من موضوعنا أن ندخل في هذا البحث.

عظم على رؤساء نجران هذا التحدي من النبي( ص )، وعقدوا مؤتمراً عاماً اجتمع فيه رؤساء النصرانية، ورجال حربها وأحلافهم، يشتورون فيما يجب عليهم أن يصنعوه، لأنّ عوامل الخطر أصبحت تحيط بنجران بصورة خاصة، وبالنصرانيّة بصورة عامّة، وأصبح الإسلام قويّ الدعائم بشمول عدله، وقوّة برهانه، وقد تلقّى الدعوة الإسلامية من تلقّاها وهو مستريح إليها؛ لأنها دعوة طبيعيّة ليس فيها ما ينفيه العقل أو ينافيه، وليس فيها ما يحجزه عن النظر في ملكوت السماوات والأرض، بل الإسلام دعوة إلى ذلك بصراحة رفعت كلّ الحواجز، وسهّلت جميع السبل.

ويلوح أنّ المؤتمر كان صريحاً اتّسع فيه المجال لرجاله المتعاقدين للنظر في الحوادث الجسيمة، التي تقع على مقربة منهم، وتحت سمعهم وبصرهم.

وقد أهمل التاريخ - على عادته - ما دار في ذلك المؤتمر من جدل عنيف بين الأقطاب المشتورين في صحّة رسالته وصدق دعواه.

والذي يلوح أنّه ليس بمستطاع للتاريخ أن يقول كلمته في ذلك، وليس

١٠

في استطاعة المؤرّخين أن يبحثوا عن أصول الحوادث، أو يقولوا كلّ شيء، فإنّ شيئاً مخوفاً كان يكمّ الأفواه، ويلجم الأقلام، ولو أنّ المؤرخين عنوا بانتهاج الحقائق حقّ العناية، لكان للتاريخ صورة صحيحة صادقة ليس فيها التواء ولا إسفاف، ولكن للسلطة كلمة خاصة لابدّ أن توحي بها إلى الأقلام، فلا تستطيع هذه أن تحيد عنها، أو تخرج من محبسها الضيّق، والمؤرخون إنّما يكتبون ما تلوح به لهم السياسة، وما تفرضه عليهم فرضاً؛ ليكونوا بمنجاة من خبثها ولؤمها.

أو لعلهم كما يظنّ بعضهم (إنّ المؤرخين لم يوفّقوا إلى إقامة التاريخ على سنن منطقيّة، وقواعد نقديّة تحتفل ببيان الدوافع والعوامل التي تهيّئ ظروف التاريخ المختلفة، وتحدد له الاتجاهات)(١) ، ونحن نرى أنّه كان للسياسة أثر كبير في توجيه التاريخ، وكان للعقيدة أيضاً أثر في تسييره، أقول هذا وأنا أرى وجوهاً من الأدلّة تفيض في نفسي، ولا معدّي عنها عند تحليل الحوادث التاريخية.

ولاشكّ أنّ هذا الإرهاق السياسي الذي وقعت الأقلام تحت وطأته، وتلك الحدود الضيّقة التي حبست بها الأقلام والأفكار، كانت باعثاً قويّاً إلى توجيه أفكار رجال صالحين من أهل العلم والأمانة، عملوا تحت نكبات الصعاب فدوّنوا كثيراً من الحقائق بأمانة وإخلاص كما هي، بعيدين عن أغراض السياسة وأهدافها.

ولقد كلّف هؤلاء الأعلام بالحق لذات الحقّ، وهو الذي حمّلهم على

____________________

(١) هذا رأي الأستاذ عبد الله العلائلي، وقد استقاه من اللورد اكتن.

١١

تسجيل الحقائق وتدوينها، وهذا الشعور دائماً هو مفتاح أعمالهم، وشفافية نفوسهم الطيّبة، فتحمّلوا النكبات، وصبروا على الأذى، ولم يخفهم سمل العيون، وقطع الأيدي والأرجل، والصلب على جذوع النخل.

ومن الحقائق التي حُملت إلينا على لسان أولئك البررة، بأمانة وإخلاص، حديث مؤتمر نجران، وما دار فيه من جدل وحوار، ونحن نقدّمه إلى القارئ في خاتمة هذا الكتاب، ولعلّ هذا الحديث النادر هو الذي حملنا على إفراد هذا الكتاب.

.. في سنة ١٣٤٧هـ أخرجت المطبعة رسالة سماحة المجتهد الأكبر البحّاثة الجليل السيّد عبد الحسين شرف الدين (الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء)، جاء في الصفحة الثالثة ما نصه بالحرف: (وقد تصدّى سيدنا الشريف المقدّس ابن طاووس لتفصيل المباهلة ومقدماتها، وما كان قبلها في نجران، من المؤامرات، والمناظرات في جلساتهم المنعقدة لذلك، حين دعاهم سيد الأنبياء والمرسلين إلى الله تعالى، وأرسل إليهم في ذلك رسله، فليراجع الإقبال من أراد الوقوف على تفصيل تلك الأحوال، ليرى أعلام النبوة، وآيات الإسلام، وبشائر النبيين بسيّدهم محمّد ( ص )، وبعترته الطيبين الطاهرين، وبذريته المباركة من بضعته سيدة نساء العالمين، وكنتُ أردتُ أن أخرج هذه القصّة من كتاب الإقبال، وأنشرها في رسالة على حدة، تعميماً لفوائدها وتسهيلا لطالبها، ولعلّ بعض أهل الهمم العالية، ممن حبسوا نفوسهم على نشر الحقّ يسبقني إلى ذلك فأكون قد فزت بتنبيهه إلى هذه المهمة).

١٢

جلجل الصوت في سمعي، فإنّ الدعوة جميلة، ومنبعثة عن شعور قلب كبير، استوعبت مشاعري، ووعاها سمعي وبصري، لأنها دعوة الخير مسّت القلب فتحرّك، وقرعت السمع فوعاها الذهن، ولكنّها رهيبة! أمن المستطاع أن تقرن بالتلبية؟. أم هي تبقى عصيّة على هذا القلم القاصر؟!..

لقد حبست نفسي على نشر الحقّ، وأوقفت هذا القلم - إن صحّ التعبير - على نشر الحقّ أيضاً، غير أنّي لست من أهل الهمم العالية الذين يقرنون الدعوة بالتلبية، ولكنّ الصوت العالي المنطلق في الفضاء من الرجل الكبير، كان رنّاناً عذباً مشت على نغماته النفس، وتحركت فيها البواعث القويّة لإخراج هذه الصورة عن مؤتمر نجران، التي حملها إلينا سيّدنا السيّد ابن طاووس، ولكنّها مقدّمة بأحاديث معقبّة بشروح وحواشي، غير أنّها رغبة أبت أن تحققها الأيام، وانحسر الستر عن القضاء فإذا هو باسم ساخر!..

وكيف مضى الزمن والفكرة لم ُتحقق!؟

وليس عجباً أن تبقى الفكرة طوال هذه المدّة إذا كانت مقودة بزمام القضاء والقدر، ولكنّ الفكرة لم تتزحزح عن مكانها الذي ولدت فيه، وإنّما ركدت تحت أكداس من رماد القضاء.

* * *

لم يتغير المبدأ الذي اتّخذته لنفسي منذ تنسّمتُ الحياة العملية في ميادين الأعمال، ولم تتبدل الفكرة، إنّما برزت بروزاً واضحاً منذ سمعت الصوت من الرجل الجليل، وأخذت أمهّد السبل بالمطالعة والبحث عن يوم المباهلة، وإذا

١٣

بكتاب (فجر الإسلام) يشقّ طريقه من الأفق المصري، وله في السمع دويّ مجلجل، وفي القلب طعنات دامية، وفي الضمائر وخزات مؤلمة، فتركت يوم المباهلة وحديث مؤتمر نجران إلى كتاب (تحت راية الحقّ) في الرد على طعون (فجر الإسلام).

كانت طعون كتاب فجر الإسلام قاسية لا يرتكبها أديب مفكّر، ولا يقدم عليها عالم مثقّف، ولكن شاء الأديب الأستاذ أحمد أمين أن يتخلّى عن أدبه وعلمه، وشاء أن يكون مسفّاً ملتوياً، وأبت عليه نفسه أن يكون حرّاً، ودفعته إلى التقليد فكتب مقلّداً، وطعن ظالماً، وتحدّث بغير رويّة فتنكّب عن الصراط السوي، فأنكره الأدب والعلم، وأسف فجفاه الخلق والتوى في الطريق ففقد الثقة.

وكان من الطبيعي لنا أن نترك كتاب (المباهلة)، ونترك كلّ شيء، فإنّ كتاب فجر الإسلام بما يحمله من طعون دامية يحتاج إلى محاسبة دقيقة.

وأقول دقيقة لا لأنّ كتاب فجر الإسلام جاءنا بشيء جديد لم يفترِه من قبل ابن تيمية والشهرستاني وابن حزم الظاهري، ولم يلصقوه بالشيعة، وإنّما يوم أحمد أمين موصول بماضي سلفه، وليس ما في كتابه إلاّ حلقة تلتقي بأخواتها المختفية خلف التاريخ، وكأن تلك الأنفس التي لفّها الماضي بطيّاته تقمّصت في هذا الإنسان الذي يسمونه اليوم أحمد أمين.

وهكذا أسيء إلى العلم والحق مرّة ثانية، لكن مع الفرق بين الإساءتين فإنّ تلك كانت في عصور مظلمة ظالمة غايتها إرضاء المحكوم لحاكمه

١٤

من عقيدة أو سياسة، لا للحق والحقيقة، وتعتبر اليوم أنّها انحرفت عن وجهة الحقّ وغادرته لكن إلى عقبى وخيمة سيّئة أدت إلى سخط المنصفين، وليس معنى هذا إنّه لا يوجد اليوم بين المسلمين من لا يحترم تلك الأقلام المهوشة، فإنّ كتاب فجر الإسلام يعلن بأن لا تزال باقية، ولكن حتماً إنّ هؤلاء سيفقدون قيمتهم الاجتماعية.

والإساءة الثانية كانت في عصر النور والحريّات، ولكنّها تستقى من تلك العصور المظلمة، ولا نعلم الهدف الذي يرمي إليه الأستاذ أحمد أمين وأمثاله، وقد أنار العلم طريق الحياة، وأخذ الشعور بحب التحرر من تلك الآراء البالية يراود النفوس الحرّة، وينير لها الطريق، ولم يبقَ لتلك العناصر الهدّامة أي قيمة، غير إنّه يلوح في الأفق أن عوامل الوراثة لم تمت في النفوس، وإنّما ركدت قليلاً، وهي تعود إلى سيرتها الأولى، وإلى ما كانت عليه من قبل في عهدها الأول، تسير في الأفق الضيّق، منبعثة عن ذلك الشعور الذي لم يعرف الحقّ، وإنّما هدفه النفوذ إلى مآرب خاصة، ولا يبالي من أيٍّ كان طريق النفوذ، لا يعلم واجبه العلمي، وغير مقدّر تبعة ذلك.

هذه حقيقة راهنة لا سبيل إلى نكرانها ما دام يكشف عنها كتاب فجر الإسلام، وليس من موضوعنا أن نسير وراء أهداف الكتاب، وقد كشف عن نوايا الأستاذ أحمد أمين طعونه التقليدية.

وبالجملة فقد انصرفنا عن كتاب المباهلة إلى الرد على مطاعن فجر الإسلام، وكتبنا كتاب (تحت راية الحقّ) وقدّمناه إلى المطبعة ثمّ خرج منها

١٥

عائداً إلى العراق المأوى الذي خرج منه، ولكن مع الأسف لم يكن بالحسبان أنّ الكتاب يحبس في زاوية من زوايا الكمرك في العراق ثمّ يحرق.

أحرق الكتاب فكانت الصدمة عنيفة جدّاً، وعلمت آنئذ أن الحقّ لا يزال سجيناً في قفصه، وكلّ ما يستطيع أن يفعله، فعل الأسود في المحبس الضيّق، وعلمت أيضاً أنّ العلم لا يزال في محبسه الضيق تحوطه سيوف السياسة ورماحها، ولم تهيّئ له الانطلاق والتحرر؛ لأنّ اللحظة المرجوّة لبروز العلم والحقائق لم يأتِ وقتها.

* * *

وفي يوم من أيام سنة ١٣٦٦ كنت جالسا في مكتبة الجامعة في بغداد، مع جماعة من أهل الفضل والأدب، وكان الحديث متنوعاً لم تُحدد أطرافه وإذا بالأستاذ.. وهو أحد المحامين المطّلعين يدخل علينا، ولم يمهلنا نحن الجالسين لحظة واحدة لنعطيه مكانه من مجلسنا، وإنّما توجّه إليّ بالسؤال التالي: أرأيت كتاب الإقبال؟.

استقبلت السؤال بهدوء. ولماذا؟! وما في الإقبال؟ كأنّه كتاب يقرؤه أولئك البررة الذين يجِأرون إلى الله بالدعاء، فإن فيه أعمال الشهور وادعيتها فهل أنت ممن يقرأه؟.

- (إن فيه حديث مؤتمر نجران، وفيه أدب جمّ، وتاريخ أهملته كتب التاريخ، وفيه التعريف بفضل أهل بيت النبوة، آل رسول الله( ص ) الذين غمط حقهم المؤرخون.. أخرجه.. أخرجه للناس وللمستشرقين).

١٦

لقد كان في دعوته حرارة، وفي كلماته صدق، وعلى قسمات وجهه شيء من الجدّ الصريح.

كلمات لمست بإحدى يديها قلبي، وبالأخرى أزاحت الستار عن تلك الفكرة المدفونة، وكأنه شعر أنّ لحديث نجران موطن في نفسي، فأراد أن يزيح الرماد، وينفخ في النار.

نفخ النار. وعاد ذلك الصوت من فم الرجل العظيم الجالس في (صور) بجرسه الرنّان، صيحة عالية عذبة الرنّة، قرعت السمع فهفا إليها القلب، فتقدّمت إلى القلم والكتاب، وعدت إلى الموضوع الذي أهملته من قبل، وها أنا أقدّم هذا الكتاب إلى قرّائي الكرام، تلبية لذلك الصوت الذي حفظه الأثير بين ذرّاته فإن كنت أصبت الهدف فذلك من فضل الله عليّ، وإن أخطأني الحظ فتلك زلّة يغفرها لي الداعي الأوّل وقرّائي الكرام.

١٧

نجران

من الأمور القطعيّة التي لا شبهة فيها، تطور الديانات على اختلاف الأدوار التي مرّت عليها، ولم تطّرد في طريق واحد متدرّجة صعوداً، أو متراجعة هبوطاً، والديانات التي نشأت في الشعوب كانت على أطوار مختلفة، لا يمكن الحكم عليها بالتدرّج، وإنّما كانت صاعدة هابطة، ولم تكن على طور واحد.

ومن الصعب جدّاً التعرّف على تلك الأطوار التي مرت عليها مختلفة في شكلها وطقوسها، لأن كلّ ما وصل إلينا ظنّ لم يؤدي بالبرهان الصحيح على أنّه ليس من موضوعنا الحديث عنها، لنتبسّط في ذلك، ولا تهمنا بقليل ولا كثير.

وأما العقيدة بالإله أو الرب، فهي فكرة سايرت الإنسان في كلّ الأدوار، وآمن بها في أقدم العصور، وإن كانت أحيطت بكثير من الضلال والسخف. ولقد تعددت الأرباب عند الأمم الغابرة فتجاوزت العشرات إلى المئات، وربما كان لكلّ أسرة من الأسر ربّاً تعبده مضافاً إلى إله القبيلة، وربما كان للشخص الواحد ربّاً يعبده وإذا خرج للسفر - إن أذن له - يصحبه، كما هو الشأن عند بعض العرب.

ولم تكن هذه الأرباب نوعاً واحداً، وإنّما هي أنواع شتّى، تمثّل أفكاراً شتّى كالأرباب التي تمثّل مشاهد الطبيعة كالبرق والرعد والمطر، وأرباب

١٨

الأسر والقبائل وإله الخلق إلى غير ذلك، وربما أشاروا بتماثيل مختلفة الصور والأشكال، وقد اختلفت درجات قدسها بنظرهم.

وفي نهاية مطاف أطوار الديانات المختلفة جاء (التوحيد)، ومعناه عندهم كما يلوح لنا: هو إله يعلو جميع الآلهة، وينفرد بالعظمة والجلال.

ثمّ الأديان الكتابيّة - بعد تلك الأطوار - هي التي أشارت إلى الله سبحانه، وأثارت فكرة التوحيد الصحيح، وعلّمت الناس عبادة الإله الواحد الأحد، الذي خلق كلّ شيء، ووسعت قدرته كلّ موجود في السماوات والأرض، وإنّه لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، تفرّد بالكمال، وتنزّه عن النقص، لا تدركه الأبصار، وأحاط بكلّ شيء علمه، وهو على كلّ شيء قدير، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

والسيد المسيح سلام الله عليه هو أحد الدعاة إلى توحيد الله، جاء في جوٍّ مضطرب بالعقائد المفتونة بالفلسفة، فدعا الناس إلى الله، وذكّرهم بالله الرءوف الرحيم، وأمرهم بعبادة الله الواحد الأحد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن في دعوته ما يمسّ الوحدانية بشيء، ولكن الأناجيل - وقد جاءت بعد عصره بجيلين - أشارت إلى أنّ المسيح ابن الله (وأنا قد رأيت وشهدت أنّ هذا هو ابن الله). يوحنا ٢٤ اصحاح ١ ، وأشارت إلى إنّه قال (أنا الراعي الصالح). يوحنا ١٤ اصحاح ١٠. وأشارت إلى إنّه ابن الله (قد أتيت باسم أبي). يوحنا ٤٣ اصحاح ٥ (وكما أن الأب يعرفني اعرف الأب) يوحنا...

ثمّ تطورت النصرانية، وامتزجت بعقائد وثنية، واعتقدت الثالوث المقدّس، أو الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، واعتقدت الكنيسة

١٩

اتحاد هذه الأقانيم الثلاثة. (وأنّ الأب والابن وجود واحد، وإنّك حين تقول الأب، لا تدل على ذات منفصلة عن الابن، أو روح القدس، لأنّه لا انفصال، ولا تركيب في الذات الإلهية) وهم شيء واحد، (وإن كان يستحيل على العقل البشري إدراك كيفية الاتّحاد)(١)

ولم يكن هذا التثليث المتّحد معروفاً عند العرب، ولا مما يصل إليه عقل العربي، ولا من ديانتهم، ولكنّه عبر حوض البحر المتوسط والبحر الأحمر - بحر القلزم - إلى شبه جزيرة العرب، واستقرّ في (نجران) إلى جانب الوثنية في (مكّة) يتصارعان.

* * *

إنّ الوثنية كانت تتصرف بعقول الأسر، والقبائل العربية في شبه جزيرة العرب، ووجدت فيها تربة خصبة، ومنهلاً عذباً، ومرتعاً صالحاً، وقد كان للعرب أفانين شتّى في عبادة الأوثان، وكان لهذه الأوثان في نفوسهم مكانة جليلة، وقدسيّة عظيمة، ويلوح أنّها لم تكن في درجة واحدة من القداسة، فصنم القبيلة أفضل من صنم البيت، وصنم الكعبة أفضل من صنم القبيلة، وقد اختلفت أشكال هذه المعبودات، فالصنم - وهو ما كان متخذاً من خشب، أو معدن على شكل الإنسان - غير الوثن المتّخذ من حجر على شكل الإنسان، وهما غير النصب، وهو صخرة غير ذات صورة معينة.

وكذلك اختلفت درجات هذه الأصنام، فهبل مثلاً كبير آلهة العرب، وهو منصوب على ظهر الكعبة يحجّون إليه من كلّ فجّ عميق.

____________________

(١) المسيحيّة والإسلام للأب لويس اده.

٢٠

ولم يكتفِ العرب بهذه الأصنام الكبرى، بل ربما كان بعضهم، أو أكثرهم يتخذ له صنماً في بيته يطوف به عند خروجه، وساعة أوبته، وربما صحبه معه في سفره.

وكانوا يعتبرونها الوسيط بينهم وبين الله، ويعبدونها لتقرّبهم من الله زلفى، فهم يذكرون الله على ألسنتهم، ويسمون عبد الله وتيم الله، إلاّ أنّهم نسوا عبادة الله، واقتصروا على عبادة هذه الأصنام.

* * *

ولقد تسرّب إلى الجزيرة العربية ديانات أخرى اصطدمت مع ديانتهم، تسربت إليها اليهودية، وكونت لها مستعمرات في شبه الجزيرة أهمّها يثرب، ونشط اليهود لبثّ دعوتهم، وعملوا على نشرها في الجنوب، وتهوّد كثير من أهل اليمن.

وتسرّبت إليها النصرانية، ولم يكن طريقها من الشمال فقط، فإنّ النصرانية امتدّت إلى الحبشة، ثمّ عبرت البحر الأحمر إلى اليمن، ثمّ استقرّت في نجران، وكذلك تسرّبت من الشام إلى الحيرة، وامتدّت على شاطئي دجلة والفرات.

* * *

النصرانية الحقيقية التي جاء بها عيسى ( ع )، ديانة روحيّة مقدّسة، لم تكن لتختلف بجوهرها عن الديانة اليهودية التي جاء بها موسى ( ع )، وكذلك لا تختلف عن الإسلام بقدر ما يتراءى اليوم من الذين يدينون بالأديان الثلاثة.

٢١

وهي دين سامي متقشّف دعا إلى الزهد، والمسالمة (اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) ولم يكن فيها أي جدل في طبيعة السيّد المسيح، ولكنّها اصطدمت بمدرسة الإسكندرية - وكانت ملتقى ثقافات، ومجمعاً من مجامع العلم، والحركة الفكريّة - والتقى الفكر السامي القائل بطبيعة واحدة بالفكر الروماني الوثني، ولم تخرج المسيحيّة بريئة من هذا المجتمع، وإنّما تلقّحت بالتثليث، وبهذا تزحلقت النصرانية عن سموّها الروحي، وهوت من علياء مراتب الإيمان الكامل إلى الجدل في المسيح وأمه عليهما السلام، وعبادة الصور مما قربها إلى الوثنية.

ولم تكن النصرانية من قبل تعرف الصور، ولكن المؤتمرات التي كانت تعقد تباعاً، وتقرر بشأن طبيعة المسيح ( ع ) هي التي كانت تقرر إدخال الصور، وبعض المؤتمرات كان ينفيها، والذي يلوح إنّه كان للأهواء الشخصية أثر كبير في ذلك.

وقد انشقّت النصرانية على نفسها إلى فرق عديدة، فرقة يرون أنّ المسيح هو الله، وأنّ الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح. وأخرى قالت إنّ للمسيح طبيعتين متميزتين، الطبيعة اللاهوتية، والطبيعة الناسوتية. إلى غير ذلك من الفرق، وقد أشار القرآن المجيد وردّ عليها فقال:( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إنّه مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجنّة وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ ) ،( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إلاّ إله وَاحِدٌ ) ،( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ

٢٢

مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) . والمسيح نفسه نفى ما ينسب إليه من ادعاء الإلوهية، كما نصّ على ذلك الكتاب المجيد( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيـسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أعلم مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ ) .

(ويلوح أنّ فكرة التثليث لم تكن قبل القرن الثالث للميلاد، وإنّ أول من نشر فكرة التثليث هو راهب مصري اسمه انتاسيوس، كان البابا العشرين لكنيسة الإسكندرية من سنة 326 - 373)(1) .

والذي يظهر أنّ الذي عبر إلى الجزيرة العربية من هذه العقائد عقيدتان: العقيدة النسطورية، والعقيدة اليعقوبيّة، وانتشرت النسطورية في الحيرة، واليعقوبية عند الغسانيين وسائر بلاد الشام، ويظنّ بعضهم أنّ نجران كانت على مذهب اليعاقبة.

وقد انتشرت التعاليم المسيحيّة بين العرب، ووجد فيهم مَنْ يميل إلى الرهبنة، وبناء الأديرة، واشتهر منهم قس بن ساعدة، وذكروا إنّه (كان يتقفّز القفار، ولا تكنّه دار، يحتسي الطعام، ويأنس بالوحش والهوام)

وذكروا أنّ قسّاً هذا كان أسقف نجران، وكذلك اشتهر منهم أميّة بن السلط، وورقة بن نوفل.

وقد نشط القسس والرهبان للتبشير بالدين المسيحي، وكانوا يردون أسواق العرب لهذه الغاية.

____________________

(1) راجع تاريخ الكنيسة المصرية، هلال شهر ديسمبر 1927.

٢٣

وكان أهمّ موطن للنصرانية في الجزيرة العربية نجران - وهي من مخاليف اليمن من ناحية مكّة - وكانت بلدة زراعيّة خصبة (عامرة بالسكّان تصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود، وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنّى فيها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتدّ إلى الحيرة). وتغنّى بنجران وبكعبتها الشعراء يقول الأعشى:

وكعبة نجران حتم عليـ

ك حتّى تناخى بأبوابها

نزور يزيداً وعبد المسيح

وفيساهم خير أربابها

وشاهدنا الجل والياسمو

ن والمسمعات بقصابها

وبربطنا دائم معمل

فأيّ الثلاثة أزرى بها

وذكروا إنّه أهلها كانوا قبل النصرانية (على دين العرب يعبدون نخلة عظيمة بين أظهرهم، ولها في كلّ سنة عيد، فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه، وحليّ النساء)، وقد ذكروا أسباباً لاعتناق أهلها دين النصرانية، ولكن في كلها مجال للشك، ولا يهمنا تحقيق ذلك.

ومهما يكن من أمر فإنّ نجران تنصّرت، وصارت مركزاً مهماً للنصرانيّة، وبنوا فيها كعبة على غرار الكعبة في مكّة قال ياقوت:

(وكعبة نجران هذه - يقال - بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظّموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمّون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى المباهلة)(1)

____________________

(1) معجم البلدان ج 8، ص 264.

٢٤

وقد غزا ذو نواس نجران بجنوده، ودعاهم إلى اليهوديّة فأبوا عليه، وذكروا في سبب ذلك(أنّ يهوديّاً كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلماً، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران - وهم نصارى - فحمى له ولدينه وغزاهم)، وقتل جماعة بالسيف، وجماعة خدّد لهم أخدوداً من نار، وألقاهم فيه، وبعضهم يرى إنّه نزل في تلك الواقعة قوله تعالى( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى‏ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وللشك في ذلك مجال واسع. وقد استنجد نصارى نجران بالحبشة؛ فانجدوهم، وغزوا بلاد العرب، وهزموا ذا نواس، واستمرّت النصرانيّة في نجران تحميها الحبشة من الجنوب والروم من الشمال.

وكان يتولى كعبة نجران - وإن شئت فقل نجران وتوابعها - ثلاثة: السيّد - واسمه وهب - ويظهر أنّه كان يدير الأمور الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل من غيرهم، وهو ما نسميه اليوم وزير الخارجية، وكان أيضاً رئيسهم في الحرب، وهو ما نسميه وزير الحربية، أو وزير الدفاع. والعاقب - واسمه عبد المسيح - وكان يتولّى الأمور الداخليّة، وهو ما نسميه اليوم وزير الداخلية، والأسقف - وهو أبو حارثة - وكان يتولى الأمور الدينية. ولكن المهمات كانت يشتور الثلاثة فيها. قال ياقوت:

(ووفد على رسول الله ( ص ) وفد نجران، وفيهم السيّد - واسمه وهب - والعاقب - واسمه عبد المسيح - والأسقف - وهو أبو حاتم - وأراد رسول الله ( ص ) مباهلتهم فامتنعوا، وصالحوا النبي ( ص )؛ فكتب لهم كتاباً فلمّا وليّ أبو بكر نفذ ذلك لهم، فلمّا وليّ عمر أجلاهم واشترى أموالهم).

٢٥

وفد نجران

في لحظة قصيرة من الزمن خفق علم الإسلام في الجزيرة العربية، وانطلقت الألسن في البيوت، وفي المساجد، وعلى المآذن، تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله، في كلّ يوم خمس مرات.

وفي لحظة قصيرة جدّاً رأيت القلوب تهتزّ طرباً عندما تنطق الشفاه بهذا الاسم المبارك الأغر.

فإن قرابة عشرين سنة يستظهر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وثنية العرب دين آبائهم وأجدادهم هي لحظة من الزمن قصيرة جداً، وما عشرون عاماً إذا قسناها إلى الجهود الجبّارة، والفتح العظيم، والانتصار الباهر على الوثنية.

لم يكن من حجّة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليظهر فيه على الأديان كلها، فإنّه دين تسكن إليه النفوس مؤمنة بدوام ظله وشمول عدله.

ولم يكن من حاجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليستظهر على الوثنيّة الرعناء، وعلى النصرانية المتزحلقة، وعلى اليهوديّة المتكالبة؛ لأنها دعوة ليس فيها ما ينفيه العقل.

٢٦

وهل محمّد إلاّ رسول الله، أرسله رحمة للعالمين؟

وهل محمّد إلاّ بشير ونذير؟

وأي نفس سامية تتردد في ترك عبادة الأوثان، لعبادة الله الواحد الأحد؟.. وأي نفس سامية مفتوحة للحق ولا تتسع لتعاليم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟.. أليس يدعو الناس إلى الحب والمودة والإخاء في الله، وإلى التراحم والبر والإحسان، وإعطاء السائل والمحروم، والبر باليتيم؟ ويدعوهم فيما يدعوهم إلى فكّ العقل من قيوده، وإلى الحريّة المطلقة، ويدعوهم إلى ترك الرذيلة، وإلى التمسّك بأهداب الفضيلة، ويدعوهم إلى توحيد الله الذي خلق كلّ شيء، وبيده ملكوت كلّ شيء، يدعوهم إلى تحطيم كلّ ما بينهم وبين الله سبحانه، من أغلال لا هبل ولا اللات ولا العزّى؛ فإنها كلّها لا تغني عن الله شيئاً.

* * *

لقد أعدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّ العدد، وهيّأ الله له الأسباب، وجاء نصر الله والفتح، وفتح رسول الله ( ص ) مكّة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقام الرسول( ص ) في المدينة، ومعه المسلمون مستريحين إلى نصر الله، وقد كلل جهادهم بالفوز والظفر، واستتبّ الأمر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، استتباباً جعل العرب الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله ( ص ) يخافون سطوة الإسلام فتوافدوا على رسول الله ( ص )؛ ليدخلوا في دين الله.

ولكنّ هذا كلّه لم يكن تمهيداً كافياً للانتقال العظيم الذي أعدّ له الإسلام، ولنشر الدعوة في المملكتين العظيمتين فارس والروم، فإن رسالة الإسلام عامّة

٢٧

لم تكن لبلاد دون أخرى، أو لقوم دون آخرين، والنصر وإن كان بيد الله، يؤتيه من يشاء من عباده، لكن لا يؤتيه إلاّ لمن أعدّ له كلّ عدده.

والدعوة الإسلامية قد بلغت يومئذ من النضوج في النفوس ما يجعل الإسلام دين الكافة من الناس، والدعوة في ذلك العهد تعدت عن دور التوحيد، والوعد والوعيد، إلى النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

وقد آن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهيّئ المسلمين للانتقال العظيم إلى خارج الجزيرة، إلى الشمال وإلى الجنوب.. وآن له أن يبعث في نفوسهم روح النشاط لفتح المملكتين فارس والروم. وآن للمسلمين أن يفهموا أنّ هذا العلم المبارك الذي يرفرف فوق شبه جزيرة العرب يجب أن يخرج إلى خارجها؛ ليرف أيضاً فوق عروش القياصرة والأكاسرة، ثمّ ليطوف حول حوض البحر الأبيض، ثمّ ينتهي به المطاف إلى ما وراء البحار..

ولم يكن في الدعوة الإسلامية ما يخشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إليه، فإنّه دين الحرية والمساواة، والبر والرحمة وفكّ العقل من القيود والأغلال، تتقبله النفوس مرتاحة إليه.. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتردد يوماً في دعوة الملوك إلى الإسلام، ولكنّه أراد أن يهيّئ أصحابه للنهوض، فخرج عليهم يوماً فقال:

« أيها الناس: إنّ الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم.»

- وكيف اختلف الحواريّون يا رسول الله

- « دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريبا قرّ وسلّم،

٢٨

وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل.»

ثمّ ذكر لهم إنّه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى نجاشي الحبشة.

وذكروا إنّه لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، وانقادت له العرب، أرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام، أو الإقرار بالجزية، أو الإذن بالحرب، أكبر شأنه أهل نجران، وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب، ومن انضوى إليهم، ونزل بهم من دهماء الناس على اختلافهم هناك في المذاهب النصرانية، من الاروسية والسالوسية والمارونية والنسطورية، وقد امتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعباً، وإنّهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول الله ( ص ) وهم: عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهديل بن عبد الله أخو تيم بن مرّة، وصهيب بن سنان، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فإخوان في الله، وإن أبوا فإلى خطة الخسف، الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وأن أبوا فآذنوهم على سواء، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم لهم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) .

ذعر الأساقفة ذعراً شديداً، وهزّ الكتابٌ نجرانَ هزّاً عنيفاً؛ فعقدوا مؤتمراً عاماً في كعبتهم اجتمع فيه رؤساء نجران، وأهل الرأي من الأقيال

٢٩

واجتمع من القبائل من عك وحمير وانمار، ومن دنا منهم سبباً ونسباً، فكان مؤتمراً عامّاً اشتوروا فيه، وأفاضوا في الرأي والجدل العنيف، في حديث مفصّل يجده القارئ في خاتمة هذا الكتاب(1) .

ويلوح لنا أنّ المشادّة كانت عنيفة بينهم، فيما يجب أن يتخذوه من حيطة؛ ليأمنوا غزو الإسلام، وليحتفظوا بكعبتهم (لأنّهم أصابوا بموضعهم من دينهم شرفاً، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعاً.)

ويلوح أيضاً أنّه كان في هؤلاء الأساقفة من هو مؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، مصدّق بدعوته.

وذكروا إنّه اجتمع عامة الناس على السيّد والعاقب، يسألونهما - بعد هذا الجدال العنيف - عن رأيهما، وما يعملان في دينهم فقاولا لهم: (تمسكوا بدينكم حتّى يكشف لنا دين محمّد، وسنسير إلى يثرب، وننظر ما جاء به، وفيما يدعو إليه).

قالوا: (وتجّهز السيّد والعاقب والأسقف، ومعهم أربعة عشر راكباً من نصارى نجران، وسبعون رجلاً من أشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم - وفيهم قيس بن الحصين ويزيد بن عبد المدان - فاغترز(2) القوم ظهور

_________________________

(1) أهمل المؤرخون هذا المؤتمر، كما أهملوا كثيراً من الحقائق الأخرى، ومرواً بيوم المباهلة، وبالمؤتمر مروراً عابراً، ونحن وضعنا هذه الرسالة؛ لنقدم للقرّاء هذا المؤتمر المنعقد في نجران، بما فيه من حوار، وإشادة بفضل آل رسول الله وصدق رسالة محمّد صل الله عليه وإله وسلم .

(2) غرز الرجل رجله في الغروز - الركاب - وضعها فيه.

٣٠

خيولهم وأقبلوا لوجوههم إلى المدينة).

وقالوا: (ولما استراث(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر أصحابه، أنفذ إليهم خالد بن الوليد، في خيل سرّحها معه لمشارفة أمرهم فالفوهم وهم عائدون)

وقالوا أيضاً: (ولما دنوا من المدينة أحب السيّد والعاقب أن يباهيا المسلمين، وأهل المدينة بأصحابهما، وبمن خف من بني الحرث معهما، فاعترضاهم وقالا لو كففتم صدور ركابكم، ومسستم الأرض، فألقيتم عنكم تفثكم(2) وثياب سفركم، وشننتم(3) عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل، فانحدر القوم عن الركاب، فأماطوا من شعثهم(4) ، وألقوا عنهم ثياب بذلتهم(5) ولبسوا ثياب صونهم(6) من الأتحميات(7) والحرير والحبر، وذرّوا المسك في لممهم(8) ومفاوقهم ثمّ ركبوا الخيل واعترضوا الرماح على مسابح(9) خيلهم، وأقبلوا يسيرون زردقا(10) واحداً، وكانوا من أجمل العرب صوراً، وأصحّهم أجساماً وخلقاً،

____________________

(1) استراث الخبر استبطأه.

(2) أي أزلتم الوسخ عنكم.

(3) شن الماء عليه أي صبّه.

(4) الشعث ككتف المغبر الرأس، وأماط كشف، أي أزالوا الغبرة التي لحقتهم من السفر.

(5) البذلة من الثياب ما يستعمل كلّ يوم.

(6) الثياب التي تحفظ قيمتهم، وتلفت أنظار الناس إليهم.

(7) أتحم الحائك الثوب وشاه.

(8) الشعر المجاوز شحمة الأذن فهو لمة، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة.

(9) المسبح منتهى معرفة الفرس، وقيل هو منتهى منبت العرف تحت القربوس، أي وضعوا الرماح على فرابيس الخيل عرضاً؛ استهانة - بالمسلمين وعدم المبالاة على حد قول الشاعر:

جاء شقيق عارضاً رمحه

إنّ بني عمك فيهم رماح

والذي يتهيب الأمر لابد أن يكون على استعداد فيحمل رمحه متهيئاً للطوارئ.

(10) أي صفحاً واحداً.

٣١

فلمّا تشوفهم الناس أقبلوا نحوهم، فقالوا (ما رأينا وفداً أجمل من هؤلاء)، وكان المحارث بن كعب يقول (ما رأينا وفداً مثلهم).

(وأقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، وحانت صلاتهم فضربوا ناقوسهم في المسجد، وقاموا يصلّون إلى المشرق فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك، فكفّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم يدعُهم ولم يسألوه، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته، فلمّا كان بعد ثلاث دعاهم إلى الإسلام فقالوا:

(يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبي المبعوث من بعد الروح عيسى عليه السلام إلاّ وقد تعرّفناه فيك، إلاّ خلّة هي أعظم الخلال آية ومنزلة، وأجلاها أمارة ودلالة)!!..

- رسول الله ( ص ) « وما هي؟. »

- (إنّا نجد في الإنجيل من صفة النبي.. من بعد المسيح إنّه يصدّق به ويؤمن به، وأنت تسبّه وتكذب وتزعم إنّه عبد)!!..

- « بل أصدّقه وأصدّق به وأؤمن به، وأشهد أنّه النبي المرسل من

٣٢

ربه عزّ وجلّ وأقول: إنّه عبد لا يملك نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً، ولا حياة ولا نشورا. »

- وهل تستطيع العبيد أن تفعل ما كان يفعل، وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة؟!. ألم يكن يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وينبئهم بما كانوا يكنّون في صدورهم، وما يدّخرونه في بيوتهم؟ فهل يستطيع هذا الأمر إلاّ الله عزّ وجلّ أو ابن الله؟!.

- « قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر قومه بما في نفوسهم، وبما يدّخرون في بيوتهم، وكلّ ذلك بأذن الله عزّ وجلّ، وهو عبد الله.. غير مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً، يأكل الطعام ويظمأ وينصب، والله باريه وربّه الأحد الحقّ، الذي ليس كمثله شيء وليس له ندٌّ»

-: فأرنا مثله جاء من غير فحل ولا أب.

-: « هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقاً من غير أب ولا أم، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء، ولا أصعب وإنّما أمره إن أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )

فقالوا: (فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تبيّناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك فهلم فلنلاعنك(1) أينا أولى بالحق، ونجعل لعنة على الكاذبين

____________________

(1) يلوح من هذه الرواية أنّ وفد نجران طلب الملاعنه، ويخالفها روايات شتّى، ويظهر منها أنّ الذي طلب المباهلة هو رسول الله(صلّى الله عليه وإله)، وهذا الذي يظهر من القرآن المجيد.

٣٣

فإنها مثلة وآية معجلة)

(فغشيه الوحي، ونزل عليه قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )

وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل في ذلك عليه من القرآن وقال:

« إنّ الله أمرني أن أصير إلى ملتمسكم، وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم. »

- ذلك آية ما بيننا وبينك، وإذا كان الغد باهلناك. ثمّ انصرفوا إلى أماكنهم)

* * *

تذوق الرجال العارفون من الوفد حلاوة ما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من آي القرآن الحكيم، وأدركوا صدق الحديث، وأدركوا شدّة الخطر الذي يحوطهم فيما إذا باهلوا، ولقد توفرت لدى بعضهم الأمارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة رسالته، وإن كان الجهل والتعصب كانا يسيطران على بعض ذوي الشأن منهم، فكان يعتز بالحول والطول!..

ويظهر لنا أنّ بعضهم غلبت عليه شهواته في حب الرياسة، والجاه العريض

٣٤

الذي نالوه من ملوك النصرانية، وهذا النعيم الترف الباذخ (أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟. أكرمونا، ومولوّنا، ونصبوا لنا كنايسنا، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب نفوسنا بدين يستوي فيه الشريف والوضيع؟)

ومن اليسير أن نعرف أن هذه الارستقراطية هي التي عصبت عيونهم عن الالتجاء إلى الواقع المحسوس، وتغلبت على عقولهم، والانتقال من ارستقراطية إلى ديمقراطية تتصل بالروح والعقل، لا تقوى عليها النفوس المشغوفة بالملكية والثراء وحب الرياسة.

وعلى الغالب إنّ فكرة القوّة، وفكرة الثراء وحب الجاه، شعور مردّه في بعض الأحيان إلى الغيرة النفسية التي تحصل عادة من المفضول على فاضله المتغلب عليه بالبرهان القطعي، والدليل الواضح، وقد برز الآن واضحاً في نفوس النجرانيين، بيد إنّه مهما كان لهذه العناصر من مظاهر الجدّ في النفوس، وأرادت أن تظهر بالمظهر الحازم في الساعة الحاسمة، فإنها لا تلبث أن تنهزم مخذولة من قوّة الحقّ. وبحسبنا أن نطالع صورة ثانية يرسمها النجرانيون حينما انصرفوا إلى منزلهم من الحرى، وخلا بعضهم إلى بعض، وقد اعتصرت يد الأسى تلك القلوب المشغوفة بذلك البذخ، وتلك الأموال التي تغدقها عليهم النصرانية من الشمال، ومن الجنوب. وهذا رجل من العارفين يرشد قومه إلى الحقيقة فيقول لهم: (قد جاءكم محمّد بالفصل من أمره وأمركم فانظرا أولاً بمن يباهلكم، أبكافة أتباعه أم بأهل المكانة من أصحابه. أم بذوي التخشّع.. والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً؟! فإن جاءكم بالكثرة، وذوي الشدّة، فإنما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذاً لكم دونه. وإن جاءكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء

٣٥

سجية الأنبياء وصفوتهم، وموضع بهلتهم. فإياكم والإقدام إذا على مباهلتهم. فهذه لكم إمارة فانظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينهم)!!

هذا قسط من الرأي الصائب، والنصيحة الرشيدة، وهو كافٍ للقارئ أن يفهم منه أنّهم على علم سابق من سيرة الرسل، وأوليائهم الذين طبعوا على غرارهم، وجليّ بعد هذا أنّ أهل التخشّع هم الصفوة من أتباع الرسل والأنبياء، وموضع ثقتهم وبهلتهم.

وهذه كلمات تلقي ضوءاً على جانب كبير من الحقّ، وهي في مجموعها صورة صادقة للحقيقة رسمتها كلمات الله في كتبه المنزّلة على أنبيائه ورسله، وهي نصيحة على كلّ حال. ونصيحة موفقة في كثير من نواحيها.

وجدير بمن كان يصطفيهم الأنبياء، أن يكونوا القدوة لكلّ جيل من الأجيال، يجب على المؤمنين الاقتداء بهم، والاسترشاد برشدهم، وحقيق بالمؤمنين اتّباعهم في الطريق التي يسيرون عليها؛ لأنّهم لا يدلّون إلاّ على خير، ولا يشردون إلاّ إلى حقٍّ، كما ورد في الحديث عن عمّار بن ياسر «.. يا عمّار إن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك عليٌّ وادياً، فاسلك وادي علي، وخلّ عن الناس. إنّ علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى. يا عمّار طاعة عليٍّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله. »

* * *

وأصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو بتعير أوسع المسلمون، وإن بلغوا مئات الألوف في عهد صاحب الرسالة ( ص ) ولم يكن طريقهم إلى الدين طريقاً واحداً، ولم يكن هدفهم واحداً، ولم يصل الدين إلى أعماق قلوبهم

٣٦

بنسبة واحدة، والذين امتازوا بهديهم، وأخلاقهم، وكمالهم النفسي، كانوا أفراداً قلائل، أولئك هم النخبة الممتازة، ومن بين هذه النخبة الممتازة أفراد هم صفوة الصفوة، ولباب اللباب، هم (أهل بهلة الأنبياء)، وموضع عناية الله سبحانه، وهداة الخلق إلى الحقّ، لا يقاس بهم أحد، ولا يساويهم في المنزلة عند الله أحد، وهم (سجية الأنبياء، وصفوتهم)، الذين اصطفوهم من بين المؤمنين، ولو سئل الله بهم أجاب سؤال السائلين.

وما كادت تطالع أساقفة نجران وجوه أهل بهلة الأنبياء حتّى ارتدوا على أعقابهم، ترتعد فرائصهم، فإنّهم بعد لم يثوبوا إلى رشدهم من الدهشة التي أخذتهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى طالعتهم هذه الوجوه المشعّة بالنور الربّاني في الساعة الحاسمة، فاحتوتهم الدهشة ثانية، وطاشت عقولهم، فقد رأوا وجوهاً لو سئل الله أن يزيل بها جبلاً لأزاله.

ودنت اللحظة الفاصلة التي كادت أن تفصل بين عهدين، وتحسم بين مبدأين إلى النهاية التي لا تتصل بحدّ من الزمن، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول الفصل من أمره وأمرهم، ولا بقاء على الدوام إلاّ للإصلاح.

ولا شكّ بأنّ المسيحيّة لم يبق لها شكلها الروحي، والعالم يحتاج المصلح الذي يطهّر العقيدة من دنس الرذائل التي عمت أطراف العالم.

وأسقف نجران أبى وامتنع عن أن يباهل، فإنّه تلمّس الحقيقة في الوجوه التي خرجت لتباهله، وليس في نجران، ولا في غيرها من يدفع لعنة الله الحاطمة، والعذاب النازل فيما لو سأل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ورفعت تلك الأيدي للتأمين على دعاء نبيه، وعرفوا إنّه لن يخطئهم السهم المراش فيما إذا باهلوه، وإنهم في نقطة التحوّل، والعقل لا يتصور

٣٧

في البراهين أقوى من برهان الوجدان والعيان، وهذه سحب البلاء تتدافع في الفضاء.

وعرفوا أيضاً أنّ النصرانيّة قد بلغت حدّها المحدود برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهى أجلها الذي أجّلت له، وانطوى بين تلافيف الزمن كما طويت شرائع من قبل، وليلحق آخرها بأولها، وحاضرها بماضيها.

واستيقن الأسقف أنّ يومهم هذا لم يعد موصولاً بماضيه، وإنّما هي شريعة جديدة وُعِدوا بها على لسان السيّد المسيح، وكتاب جديد ورسالة نهجت للناس الطريق الأمثل، ومضت تشقّ طريقها إلى أرواح الناس؛ لتجلوها من صدأ الإجرام الخُلُقي، الذي انغمس في مبائتها العالم بأسره.

وهذا محمّد رسول الله بحقّ يتقدم إلى الأمم، وبيده كتاب الله المجيد، ينير البصائر، ويرسم للناس المثل العليا من الفضائل التي تأخذ بيد البشرية إلى السعادة الدائمة.

٣٨

السمر

اجتاز الركب سكك المدينة على خيوله المطهمة، تفوح منه رائحة المسلك، وعليهم ثياب صونهم من الحرير اللمّاع، والحبر الموشى، على سرج مزركشة بالذهب الوهاج، قد اعترضوا الرماح على مناسج خيلهم، وكانوا من أجمل العرب صوراً.

* * *

وبعد - لم يكن عجباً إذا افتتن الضعفاء بالوفد النجراني، الذي يتمتع بكل المغريات للنفوس الضعيفة.

وليس عجباً أيضاً إذا كان هذا الوفد حديث أهل المدينة، فقد دخلها وفود كثيرة في السنة العاشرة وقبلها، يقدّمون الطاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس فيهم مثل وفد نجران، في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة. يقول المحارث بن كعب: (ما رأينا وفداً مثلهم).

* * *

كانت صورة الوفد تمر في نفس أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، ولكنّه مرور عابر في نفوس بعضهم، وهي أهون عليهم من أن تثير شيئاً، فإنّ الرسالة السماوية نهجت لهم الطريق الأمثل. على حين استقرارها

٣٩

في نفوس البعض الآخر مجلوّة بترفها المغدق، ونعيمها الباذخ، رهيبة اللمعان، رنانّة الجرس، هفتْ إليها النفوس الضعيفة، واستوعبت مشاعراً وقلوباً ما أضاءها النور المنبثق من رسالة السماء، والضوء المنير من مصباح محمّد صلى الله عليه وآله وسلم..

* * *

كان الترف الناعم، والنعيم الباذخ، والعيش الليّن، الذي يتمتع به وفد نجران حديث جماعة من أهل المدينة في سمرهم ومجالسهم.

وأين المحتاج الذي يستطيع أن يردّ طرفه عن حياة ناعمة، ونعيم ترف ودنياً مزهوّة؟

وأيّ المحرومين لا يفكر في هذا النضار الوهّاج المدلي في صدورهم؟ وقد صنعوا منه مقايض سيوفهم، ووشوا به حبرهم، وسرج خيولهم ، ثمّ لا تنكمش نفسه، ولا يستهويه الذهب اللمّاع، ولم تكن نفوسهم قد اكتملت بمناهج الدعوة الإسلامية، ولم تتصل بأرواحهم لينظروا إلى زخرف الحياة نظر ازدراء، وليجعلوا متعها تحت مواطئ الأقدام، فإنّ الإسلام هدى إلى الصراط القويم، والهدى رحمة من الله تجلو النفس، وصفاء يمحو الظلمة، وسعادة تصوغ النفس من جوهر تتضاءل أمامه المادة فلا يبقى لها أيّ ثمن.

* * *

ليلة مظلمة. لا يكاد ملتمس يحس فيها بطريقه لولا قبس ترسله النجوم المتلألئة في الصفحة السماء، تفتح يدها مرّة وتقبضها أخرى.. تقدّمت جيوش الظلام تسدل الستائر - وقد ألقى النهار سلاحه - على يثرب مدينة الرسول

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155