المباهلة

المباهلة25%

المباهلة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155

  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18003 / تحميل: 8427
الحجم الحجم الحجم
المباهلة

المباهلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولم يكتفِ العرب بهذه الأصنام الكبرى، بل ربما كان بعضهم، أو أكثرهم يتخذ له صنماً في بيته يطوف به عند خروجه، وساعة أوبته، وربما صحبه معه في سفره.

وكانوا يعتبرونها الوسيط بينهم وبين الله، ويعبدونها لتقرّبهم من الله زلفى، فهم يذكرون الله على ألسنتهم، ويسمون عبد الله وتيم الله، إلاّ أنّهم نسوا عبادة الله، واقتصروا على عبادة هذه الأصنام.

* * *

ولقد تسرّب إلى الجزيرة العربية ديانات أخرى اصطدمت مع ديانتهم، تسربت إليها اليهودية، وكونت لها مستعمرات في شبه الجزيرة أهمّها يثرب، ونشط اليهود لبثّ دعوتهم، وعملوا على نشرها في الجنوب، وتهوّد كثير من أهل اليمن.

وتسرّبت إليها النصرانية، ولم يكن طريقها من الشمال فقط، فإنّ النصرانية امتدّت إلى الحبشة، ثمّ عبرت البحر الأحمر إلى اليمن، ثمّ استقرّت في نجران، وكذلك تسرّبت من الشام إلى الحيرة، وامتدّت على شاطئي دجلة والفرات.

* * *

النصرانية الحقيقية التي جاء بها عيسى ( ع )، ديانة روحيّة مقدّسة، لم تكن لتختلف بجوهرها عن الديانة اليهودية التي جاء بها موسى ( ع )، وكذلك لا تختلف عن الإسلام بقدر ما يتراءى اليوم من الذين يدينون بالأديان الثلاثة.

٢١

وهي دين سامي متقشّف دعا إلى الزهد، والمسالمة (اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) ولم يكن فيها أي جدل في طبيعة السيّد المسيح، ولكنّها اصطدمت بمدرسة الإسكندرية - وكانت ملتقى ثقافات، ومجمعاً من مجامع العلم، والحركة الفكريّة - والتقى الفكر السامي القائل بطبيعة واحدة بالفكر الروماني الوثني، ولم تخرج المسيحيّة بريئة من هذا المجتمع، وإنّما تلقّحت بالتثليث، وبهذا تزحلقت النصرانية عن سموّها الروحي، وهوت من علياء مراتب الإيمان الكامل إلى الجدل في المسيح وأمه عليهما السلام، وعبادة الصور مما قربها إلى الوثنية.

ولم تكن النصرانية من قبل تعرف الصور، ولكن المؤتمرات التي كانت تعقد تباعاً، وتقرر بشأن طبيعة المسيح ( ع ) هي التي كانت تقرر إدخال الصور، وبعض المؤتمرات كان ينفيها، والذي يلوح إنّه كان للأهواء الشخصية أثر كبير في ذلك.

وقد انشقّت النصرانية على نفسها إلى فرق عديدة، فرقة يرون أنّ المسيح هو الله، وأنّ الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح. وأخرى قالت إنّ للمسيح طبيعتين متميزتين، الطبيعة اللاهوتية، والطبيعة الناسوتية. إلى غير ذلك من الفرق، وقد أشار القرآن المجيد وردّ عليها فقال:( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إنّه مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجنّة وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ ) ،( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إلاّ إله وَاحِدٌ ) ،( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ

٢٢

مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) . والمسيح نفسه نفى ما ينسب إليه من ادعاء الإلوهية، كما نصّ على ذلك الكتاب المجيد( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيـسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أعلم مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ ) .

(ويلوح أنّ فكرة التثليث لم تكن قبل القرن الثالث للميلاد، وإنّ أول من نشر فكرة التثليث هو راهب مصري اسمه انتاسيوس، كان البابا العشرين لكنيسة الإسكندرية من سنة ٣٢٦ - ٣٧٣)(١) .

والذي يظهر أنّ الذي عبر إلى الجزيرة العربية من هذه العقائد عقيدتان: العقيدة النسطورية، والعقيدة اليعقوبيّة، وانتشرت النسطورية في الحيرة، واليعقوبية عند الغسانيين وسائر بلاد الشام، ويظنّ بعضهم أنّ نجران كانت على مذهب اليعاقبة.

وقد انتشرت التعاليم المسيحيّة بين العرب، ووجد فيهم مَنْ يميل إلى الرهبنة، وبناء الأديرة، واشتهر منهم قس بن ساعدة، وذكروا إنّه (كان يتقفّز القفار، ولا تكنّه دار، يحتسي الطعام، ويأنس بالوحش والهوام)

وذكروا أنّ قسّاً هذا كان أسقف نجران، وكذلك اشتهر منهم أميّة بن السلط، وورقة بن نوفل.

وقد نشط القسس والرهبان للتبشير بالدين المسيحي، وكانوا يردون أسواق العرب لهذه الغاية.

____________________

(١) راجع تاريخ الكنيسة المصرية، هلال شهر ديسمبر ١٩٢٧.

٢٣

وكان أهمّ موطن للنصرانية في الجزيرة العربية نجران - وهي من مخاليف اليمن من ناحية مكّة - وكانت بلدة زراعيّة خصبة (عامرة بالسكّان تصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود، وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنّى فيها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتدّ إلى الحيرة). وتغنّى بنجران وبكعبتها الشعراء يقول الأعشى:

وكعبة نجران حتم عليـ

ك حتّى تناخى بأبوابها

نزور يزيداً وعبد المسيح

وفيساهم خير أربابها

وشاهدنا الجل والياسمو

ن والمسمعات بقصابها

وبربطنا دائم معمل

فأيّ الثلاثة أزرى بها

وذكروا إنّه أهلها كانوا قبل النصرانية (على دين العرب يعبدون نخلة عظيمة بين أظهرهم، ولها في كلّ سنة عيد، فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه، وحليّ النساء)، وقد ذكروا أسباباً لاعتناق أهلها دين النصرانية، ولكن في كلها مجال للشك، ولا يهمنا تحقيق ذلك.

ومهما يكن من أمر فإنّ نجران تنصّرت، وصارت مركزاً مهماً للنصرانيّة، وبنوا فيها كعبة على غرار الكعبة في مكّة قال ياقوت:

(وكعبة نجران هذه - يقال - بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظّموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمّون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى المباهلة)(١)

____________________

(١) معجم البلدان ج ٨، ص ٢٦٤.

٢٤

وقد غزا ذو نواس نجران بجنوده، ودعاهم إلى اليهوديّة فأبوا عليه، وذكروا في سبب ذلك(أنّ يهوديّاً كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلماً، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران - وهم نصارى - فحمى له ولدينه وغزاهم)، وقتل جماعة بالسيف، وجماعة خدّد لهم أخدوداً من نار، وألقاهم فيه، وبعضهم يرى إنّه نزل في تلك الواقعة قوله تعالى( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى‏ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وللشك في ذلك مجال واسع. وقد استنجد نصارى نجران بالحبشة؛ فانجدوهم، وغزوا بلاد العرب، وهزموا ذا نواس، واستمرّت النصرانيّة في نجران تحميها الحبشة من الجنوب والروم من الشمال.

وكان يتولى كعبة نجران - وإن شئت فقل نجران وتوابعها - ثلاثة: السيّد - واسمه وهب - ويظهر أنّه كان يدير الأمور الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل من غيرهم، وهو ما نسميه اليوم وزير الخارجية، وكان أيضاً رئيسهم في الحرب، وهو ما نسميه وزير الحربية، أو وزير الدفاع. والعاقب - واسمه عبد المسيح - وكان يتولّى الأمور الداخليّة، وهو ما نسميه اليوم وزير الداخلية، والأسقف - وهو أبو حارثة - وكان يتولى الأمور الدينية. ولكن المهمات كانت يشتور الثلاثة فيها. قال ياقوت:

(ووفد على رسول الله ( ص ) وفد نجران، وفيهم السيّد - واسمه وهب - والعاقب - واسمه عبد المسيح - والأسقف - وهو أبو حاتم - وأراد رسول الله ( ص ) مباهلتهم فامتنعوا، وصالحوا النبي ( ص )؛ فكتب لهم كتاباً فلمّا وليّ أبو بكر نفذ ذلك لهم، فلمّا وليّ عمر أجلاهم واشترى أموالهم).

٢٥

وفد نجران

في لحظة قصيرة من الزمن خفق علم الإسلام في الجزيرة العربية، وانطلقت الألسن في البيوت، وفي المساجد، وعلى المآذن، تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله، في كلّ يوم خمس مرات.

وفي لحظة قصيرة جدّاً رأيت القلوب تهتزّ طرباً عندما تنطق الشفاه بهذا الاسم المبارك الأغر.

فإن قرابة عشرين سنة يستظهر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وثنية العرب دين آبائهم وأجدادهم هي لحظة من الزمن قصيرة جداً، وما عشرون عاماً إذا قسناها إلى الجهود الجبّارة، والفتح العظيم، والانتصار الباهر على الوثنية.

لم يكن من حجّة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليظهر فيه على الأديان كلها، فإنّه دين تسكن إليه النفوس مؤمنة بدوام ظله وشمول عدله.

ولم يكن من حاجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليستظهر على الوثنيّة الرعناء، وعلى النصرانية المتزحلقة، وعلى اليهوديّة المتكالبة؛ لأنها دعوة ليس فيها ما ينفيه العقل.

٢٦

وهل محمّد إلاّ رسول الله، أرسله رحمة للعالمين؟

وهل محمّد إلاّ بشير ونذير؟

وأي نفس سامية تتردد في ترك عبادة الأوثان، لعبادة الله الواحد الأحد؟.. وأي نفس سامية مفتوحة للحق ولا تتسع لتعاليم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟.. أليس يدعو الناس إلى الحب والمودة والإخاء في الله، وإلى التراحم والبر والإحسان، وإعطاء السائل والمحروم، والبر باليتيم؟ ويدعوهم فيما يدعوهم إلى فكّ العقل من قيوده، وإلى الحريّة المطلقة، ويدعوهم إلى ترك الرذيلة، وإلى التمسّك بأهداب الفضيلة، ويدعوهم إلى توحيد الله الذي خلق كلّ شيء، وبيده ملكوت كلّ شيء، يدعوهم إلى تحطيم كلّ ما بينهم وبين الله سبحانه، من أغلال لا هبل ولا اللات ولا العزّى؛ فإنها كلّها لا تغني عن الله شيئاً.

* * *

لقد أعدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّ العدد، وهيّأ الله له الأسباب، وجاء نصر الله والفتح، وفتح رسول الله ( ص ) مكّة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقام الرسول( ص ) في المدينة، ومعه المسلمون مستريحين إلى نصر الله، وقد كلل جهادهم بالفوز والظفر، واستتبّ الأمر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، استتباباً جعل العرب الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله ( ص ) يخافون سطوة الإسلام فتوافدوا على رسول الله ( ص )؛ ليدخلوا في دين الله.

ولكنّ هذا كلّه لم يكن تمهيداً كافياً للانتقال العظيم الذي أعدّ له الإسلام، ولنشر الدعوة في المملكتين العظيمتين فارس والروم، فإن رسالة الإسلام عامّة

٢٧

لم تكن لبلاد دون أخرى، أو لقوم دون آخرين، والنصر وإن كان بيد الله، يؤتيه من يشاء من عباده، لكن لا يؤتيه إلاّ لمن أعدّ له كلّ عدده.

والدعوة الإسلامية قد بلغت يومئذ من النضوج في النفوس ما يجعل الإسلام دين الكافة من الناس، والدعوة في ذلك العهد تعدت عن دور التوحيد، والوعد والوعيد، إلى النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

وقد آن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهيّئ المسلمين للانتقال العظيم إلى خارج الجزيرة، إلى الشمال وإلى الجنوب.. وآن له أن يبعث في نفوسهم روح النشاط لفتح المملكتين فارس والروم. وآن للمسلمين أن يفهموا أنّ هذا العلم المبارك الذي يرفرف فوق شبه جزيرة العرب يجب أن يخرج إلى خارجها؛ ليرف أيضاً فوق عروش القياصرة والأكاسرة، ثمّ ليطوف حول حوض البحر الأبيض، ثمّ ينتهي به المطاف إلى ما وراء البحار..

ولم يكن في الدعوة الإسلامية ما يخشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إليه، فإنّه دين الحرية والمساواة، والبر والرحمة وفكّ العقل من القيود والأغلال، تتقبله النفوس مرتاحة إليه.. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتردد يوماً في دعوة الملوك إلى الإسلام، ولكنّه أراد أن يهيّئ أصحابه للنهوض، فخرج عليهم يوماً فقال:

« أيها الناس: إنّ الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم.»

- وكيف اختلف الحواريّون يا رسول الله

- « دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريبا قرّ وسلّم،

٢٨

وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل.»

ثمّ ذكر لهم إنّه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى نجاشي الحبشة.

وذكروا إنّه لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، وانقادت له العرب، أرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام، أو الإقرار بالجزية، أو الإذن بالحرب، أكبر شأنه أهل نجران، وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب، ومن انضوى إليهم، ونزل بهم من دهماء الناس على اختلافهم هناك في المذاهب النصرانية، من الاروسية والسالوسية والمارونية والنسطورية، وقد امتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعباً، وإنّهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول الله ( ص ) وهم: عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهديل بن عبد الله أخو تيم بن مرّة، وصهيب بن سنان، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فإخوان في الله، وإن أبوا فإلى خطة الخسف، الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وأن أبوا فآذنوهم على سواء، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم لهم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) .

ذعر الأساقفة ذعراً شديداً، وهزّ الكتابٌ نجرانَ هزّاً عنيفاً؛ فعقدوا مؤتمراً عاماً في كعبتهم اجتمع فيه رؤساء نجران، وأهل الرأي من الأقيال

٢٩

واجتمع من القبائل من عك وحمير وانمار، ومن دنا منهم سبباً ونسباً، فكان مؤتمراً عامّاً اشتوروا فيه، وأفاضوا في الرأي والجدل العنيف، في حديث مفصّل يجده القارئ في خاتمة هذا الكتاب(١) .

ويلوح لنا أنّ المشادّة كانت عنيفة بينهم، فيما يجب أن يتخذوه من حيطة؛ ليأمنوا غزو الإسلام، وليحتفظوا بكعبتهم (لأنّهم أصابوا بموضعهم من دينهم شرفاً، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعاً.)

ويلوح أيضاً أنّه كان في هؤلاء الأساقفة من هو مؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، مصدّق بدعوته.

وذكروا إنّه اجتمع عامة الناس على السيّد والعاقب، يسألونهما - بعد هذا الجدال العنيف - عن رأيهما، وما يعملان في دينهم فقاولا لهم: (تمسكوا بدينكم حتّى يكشف لنا دين محمّد، وسنسير إلى يثرب، وننظر ما جاء به، وفيما يدعو إليه).

قالوا: (وتجّهز السيّد والعاقب والأسقف، ومعهم أربعة عشر راكباً من نصارى نجران، وسبعون رجلاً من أشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم - وفيهم قيس بن الحصين ويزيد بن عبد المدان - فاغترز(٢) القوم ظهور

_________________________

(١) أهمل المؤرخون هذا المؤتمر، كما أهملوا كثيراً من الحقائق الأخرى، ومرواً بيوم المباهلة، وبالمؤتمر مروراً عابراً، ونحن وضعنا هذه الرسالة؛ لنقدم للقرّاء هذا المؤتمر المنعقد في نجران، بما فيه من حوار، وإشادة بفضل آل رسول الله وصدق رسالة محمّد صل الله عليه وإله وسلم .

(٢) غرز الرجل رجله في الغروز - الركاب - وضعها فيه.

٣٠

خيولهم وأقبلوا لوجوههم إلى المدينة).

وقالوا: (ولما استراث(١) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر أصحابه، أنفذ إليهم خالد بن الوليد، في خيل سرّحها معه لمشارفة أمرهم فالفوهم وهم عائدون)

وقالوا أيضاً: (ولما دنوا من المدينة أحب السيّد والعاقب أن يباهيا المسلمين، وأهل المدينة بأصحابهما، وبمن خف من بني الحرث معهما، فاعترضاهم وقالا لو كففتم صدور ركابكم، ومسستم الأرض، فألقيتم عنكم تفثكم(٢) وثياب سفركم، وشننتم(٣) عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل، فانحدر القوم عن الركاب، فأماطوا من شعثهم(٤) ، وألقوا عنهم ثياب بذلتهم(٥) ولبسوا ثياب صونهم(٦) من الأتحميات(٧) والحرير والحبر، وذرّوا المسك في لممهم(٨) ومفاوقهم ثمّ ركبوا الخيل واعترضوا الرماح على مسابح(٩) خيلهم، وأقبلوا يسيرون زردقا(١٠) واحداً، وكانوا من أجمل العرب صوراً، وأصحّهم أجساماً وخلقاً،

____________________

(١) استراث الخبر استبطأه.

(٢) أي أزلتم الوسخ عنكم.

(٣) شن الماء عليه أي صبّه.

(٤) الشعث ككتف المغبر الرأس، وأماط كشف، أي أزالوا الغبرة التي لحقتهم من السفر.

(٥) البذلة من الثياب ما يستعمل كلّ يوم.

(٦) الثياب التي تحفظ قيمتهم، وتلفت أنظار الناس إليهم.

(٧) أتحم الحائك الثوب وشاه.

(٨) الشعر المجاوز شحمة الأذن فهو لمة، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة.

(٩) المسبح منتهى معرفة الفرس، وقيل هو منتهى منبت العرف تحت القربوس، أي وضعوا الرماح على فرابيس الخيل عرضاً؛ استهانة - بالمسلمين وعدم المبالاة على حد قول الشاعر:

جاء شقيق عارضاً رمحه

إنّ بني عمك فيهم رماح

والذي يتهيب الأمر لابد أن يكون على استعداد فيحمل رمحه متهيئاً للطوارئ.

(١٠) أي صفحاً واحداً.

٣١

فلمّا تشوفهم الناس أقبلوا نحوهم، فقالوا (ما رأينا وفداً أجمل من هؤلاء)، وكان المحارث بن كعب يقول (ما رأينا وفداً مثلهم).

(وأقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، وحانت صلاتهم فضربوا ناقوسهم في المسجد، وقاموا يصلّون إلى المشرق فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك، فكفّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم يدعُهم ولم يسألوه، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته، فلمّا كان بعد ثلاث دعاهم إلى الإسلام فقالوا:

(يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبي المبعوث من بعد الروح عيسى عليه السلام إلاّ وقد تعرّفناه فيك، إلاّ خلّة هي أعظم الخلال آية ومنزلة، وأجلاها أمارة ودلالة)!!..

- رسول الله ( ص ) « وما هي؟. »

- (إنّا نجد في الإنجيل من صفة النبي.. من بعد المسيح إنّه يصدّق به ويؤمن به، وأنت تسبّه وتكذب وتزعم إنّه عبد)!!..

- « بل أصدّقه وأصدّق به وأؤمن به، وأشهد أنّه النبي المرسل من

٣٢

ربه عزّ وجلّ وأقول: إنّه عبد لا يملك نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً، ولا حياة ولا نشورا. »

- وهل تستطيع العبيد أن تفعل ما كان يفعل، وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة؟!. ألم يكن يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وينبئهم بما كانوا يكنّون في صدورهم، وما يدّخرونه في بيوتهم؟ فهل يستطيع هذا الأمر إلاّ الله عزّ وجلّ أو ابن الله؟!.

- « قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر قومه بما في نفوسهم، وبما يدّخرون في بيوتهم، وكلّ ذلك بأذن الله عزّ وجلّ، وهو عبد الله.. غير مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً، يأكل الطعام ويظمأ وينصب، والله باريه وربّه الأحد الحقّ، الذي ليس كمثله شيء وليس له ندٌّ»

-: فأرنا مثله جاء من غير فحل ولا أب.

-: « هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقاً من غير أب ولا أم، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء، ولا أصعب وإنّما أمره إن أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )

فقالوا: (فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تبيّناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك فهلم فلنلاعنك(١) أينا أولى بالحق، ونجعل لعنة على الكاذبين

____________________

(١) يلوح من هذه الرواية أنّ وفد نجران طلب الملاعنه، ويخالفها روايات شتّى، ويظهر منها أنّ الذي طلب المباهلة هو رسول الله(صلّى الله عليه وإله)، وهذا الذي يظهر من القرآن المجيد.

٣٣

فإنها مثلة وآية معجلة)

(فغشيه الوحي، ونزل عليه قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )

وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل في ذلك عليه من القرآن وقال:

« إنّ الله أمرني أن أصير إلى ملتمسكم، وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم. »

- ذلك آية ما بيننا وبينك، وإذا كان الغد باهلناك. ثمّ انصرفوا إلى أماكنهم)

* * *

تذوق الرجال العارفون من الوفد حلاوة ما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من آي القرآن الحكيم، وأدركوا صدق الحديث، وأدركوا شدّة الخطر الذي يحوطهم فيما إذا باهلوا، ولقد توفرت لدى بعضهم الأمارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة رسالته، وإن كان الجهل والتعصب كانا يسيطران على بعض ذوي الشأن منهم، فكان يعتز بالحول والطول!..

ويظهر لنا أنّ بعضهم غلبت عليه شهواته في حب الرياسة، والجاه العريض

٣٤

الذي نالوه من ملوك النصرانية، وهذا النعيم الترف الباذخ (أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟. أكرمونا، ومولوّنا، ونصبوا لنا كنايسنا، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب نفوسنا بدين يستوي فيه الشريف والوضيع؟)

ومن اليسير أن نعرف أن هذه الارستقراطية هي التي عصبت عيونهم عن الالتجاء إلى الواقع المحسوس، وتغلبت على عقولهم، والانتقال من ارستقراطية إلى ديمقراطية تتصل بالروح والعقل، لا تقوى عليها النفوس المشغوفة بالملكية والثراء وحب الرياسة.

وعلى الغالب إنّ فكرة القوّة، وفكرة الثراء وحب الجاه، شعور مردّه في بعض الأحيان إلى الغيرة النفسية التي تحصل عادة من المفضول على فاضله المتغلب عليه بالبرهان القطعي، والدليل الواضح، وقد برز الآن واضحاً في نفوس النجرانيين، بيد إنّه مهما كان لهذه العناصر من مظاهر الجدّ في النفوس، وأرادت أن تظهر بالمظهر الحازم في الساعة الحاسمة، فإنها لا تلبث أن تنهزم مخذولة من قوّة الحقّ. وبحسبنا أن نطالع صورة ثانية يرسمها النجرانيون حينما انصرفوا إلى منزلهم من الحرى، وخلا بعضهم إلى بعض، وقد اعتصرت يد الأسى تلك القلوب المشغوفة بذلك البذخ، وتلك الأموال التي تغدقها عليهم النصرانية من الشمال، ومن الجنوب. وهذا رجل من العارفين يرشد قومه إلى الحقيقة فيقول لهم: (قد جاءكم محمّد بالفصل من أمره وأمركم فانظرا أولاً بمن يباهلكم، أبكافة أتباعه أم بأهل المكانة من أصحابه. أم بذوي التخشّع.. والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً؟! فإن جاءكم بالكثرة، وذوي الشدّة، فإنما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذاً لكم دونه. وإن جاءكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء

٣٥

سجية الأنبياء وصفوتهم، وموضع بهلتهم. فإياكم والإقدام إذا على مباهلتهم. فهذه لكم إمارة فانظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينهم)!!

هذا قسط من الرأي الصائب، والنصيحة الرشيدة، وهو كافٍ للقارئ أن يفهم منه أنّهم على علم سابق من سيرة الرسل، وأوليائهم الذين طبعوا على غرارهم، وجليّ بعد هذا أنّ أهل التخشّع هم الصفوة من أتباع الرسل والأنبياء، وموضع ثقتهم وبهلتهم.

وهذه كلمات تلقي ضوءاً على جانب كبير من الحقّ، وهي في مجموعها صورة صادقة للحقيقة رسمتها كلمات الله في كتبه المنزّلة على أنبيائه ورسله، وهي نصيحة على كلّ حال. ونصيحة موفقة في كثير من نواحيها.

وجدير بمن كان يصطفيهم الأنبياء، أن يكونوا القدوة لكلّ جيل من الأجيال، يجب على المؤمنين الاقتداء بهم، والاسترشاد برشدهم، وحقيق بالمؤمنين اتّباعهم في الطريق التي يسيرون عليها؛ لأنّهم لا يدلّون إلاّ على خير، ولا يشردون إلاّ إلى حقٍّ، كما ورد في الحديث عن عمّار بن ياسر «.. يا عمّار إن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك عليٌّ وادياً، فاسلك وادي علي، وخلّ عن الناس. إنّ علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى. يا عمّار طاعة عليٍّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله. »

* * *

وأصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو بتعير أوسع المسلمون، وإن بلغوا مئات الألوف في عهد صاحب الرسالة ( ص ) ولم يكن طريقهم إلى الدين طريقاً واحداً، ولم يكن هدفهم واحداً، ولم يصل الدين إلى أعماق قلوبهم

٣٦

بنسبة واحدة، والذين امتازوا بهديهم، وأخلاقهم، وكمالهم النفسي، كانوا أفراداً قلائل، أولئك هم النخبة الممتازة، ومن بين هذه النخبة الممتازة أفراد هم صفوة الصفوة، ولباب اللباب، هم (أهل بهلة الأنبياء)، وموضع عناية الله سبحانه، وهداة الخلق إلى الحقّ، لا يقاس بهم أحد، ولا يساويهم في المنزلة عند الله أحد، وهم (سجية الأنبياء، وصفوتهم)، الذين اصطفوهم من بين المؤمنين، ولو سئل الله بهم أجاب سؤال السائلين.

وما كادت تطالع أساقفة نجران وجوه أهل بهلة الأنبياء حتّى ارتدوا على أعقابهم، ترتعد فرائصهم، فإنّهم بعد لم يثوبوا إلى رشدهم من الدهشة التي أخذتهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى طالعتهم هذه الوجوه المشعّة بالنور الربّاني في الساعة الحاسمة، فاحتوتهم الدهشة ثانية، وطاشت عقولهم، فقد رأوا وجوهاً لو سئل الله أن يزيل بها جبلاً لأزاله.

ودنت اللحظة الفاصلة التي كادت أن تفصل بين عهدين، وتحسم بين مبدأين إلى النهاية التي لا تتصل بحدّ من الزمن، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول الفصل من أمره وأمرهم، ولا بقاء على الدوام إلاّ للإصلاح.

ولا شكّ بأنّ المسيحيّة لم يبق لها شكلها الروحي، والعالم يحتاج المصلح الذي يطهّر العقيدة من دنس الرذائل التي عمت أطراف العالم.

وأسقف نجران أبى وامتنع عن أن يباهل، فإنّه تلمّس الحقيقة في الوجوه التي خرجت لتباهله، وليس في نجران، ولا في غيرها من يدفع لعنة الله الحاطمة، والعذاب النازل فيما لو سأل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ورفعت تلك الأيدي للتأمين على دعاء نبيه، وعرفوا إنّه لن يخطئهم السهم المراش فيما إذا باهلوه، وإنهم في نقطة التحوّل، والعقل لا يتصور

٣٧

في البراهين أقوى من برهان الوجدان والعيان، وهذه سحب البلاء تتدافع في الفضاء.

وعرفوا أيضاً أنّ النصرانيّة قد بلغت حدّها المحدود برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهى أجلها الذي أجّلت له، وانطوى بين تلافيف الزمن كما طويت شرائع من قبل، وليلحق آخرها بأولها، وحاضرها بماضيها.

واستيقن الأسقف أنّ يومهم هذا لم يعد موصولاً بماضيه، وإنّما هي شريعة جديدة وُعِدوا بها على لسان السيّد المسيح، وكتاب جديد ورسالة نهجت للناس الطريق الأمثل، ومضت تشقّ طريقها إلى أرواح الناس؛ لتجلوها من صدأ الإجرام الخُلُقي، الذي انغمس في مبائتها العالم بأسره.

وهذا محمّد رسول الله بحقّ يتقدم إلى الأمم، وبيده كتاب الله المجيد، ينير البصائر، ويرسم للناس المثل العليا من الفضائل التي تأخذ بيد البشرية إلى السعادة الدائمة.

٣٨

السمر

اجتاز الركب سكك المدينة على خيوله المطهمة، تفوح منه رائحة المسلك، وعليهم ثياب صونهم من الحرير اللمّاع، والحبر الموشى، على سرج مزركشة بالذهب الوهاج، قد اعترضوا الرماح على مناسج خيلهم، وكانوا من أجمل العرب صوراً.

* * *

وبعد - لم يكن عجباً إذا افتتن الضعفاء بالوفد النجراني، الذي يتمتع بكل المغريات للنفوس الضعيفة.

وليس عجباً أيضاً إذا كان هذا الوفد حديث أهل المدينة، فقد دخلها وفود كثيرة في السنة العاشرة وقبلها، يقدّمون الطاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس فيهم مثل وفد نجران، في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة. يقول المحارث بن كعب: (ما رأينا وفداً مثلهم).

* * *

كانت صورة الوفد تمر في نفس أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، ولكنّه مرور عابر في نفوس بعضهم، وهي أهون عليهم من أن تثير شيئاً، فإنّ الرسالة السماوية نهجت لهم الطريق الأمثل. على حين استقرارها

٣٩

في نفوس البعض الآخر مجلوّة بترفها المغدق، ونعيمها الباذخ، رهيبة اللمعان، رنانّة الجرس، هفتْ إليها النفوس الضعيفة، واستوعبت مشاعراً وقلوباً ما أضاءها النور المنبثق من رسالة السماء، والضوء المنير من مصباح محمّد صلى الله عليه وآله وسلم..

* * *

كان الترف الناعم، والنعيم الباذخ، والعيش الليّن، الذي يتمتع به وفد نجران حديث جماعة من أهل المدينة في سمرهم ومجالسهم.

وأين المحتاج الذي يستطيع أن يردّ طرفه عن حياة ناعمة، ونعيم ترف ودنياً مزهوّة؟

وأيّ المحرومين لا يفكر في هذا النضار الوهّاج المدلي في صدورهم؟ وقد صنعوا منه مقايض سيوفهم، ووشوا به حبرهم، وسرج خيولهم ، ثمّ لا تنكمش نفسه، ولا يستهويه الذهب اللمّاع، ولم تكن نفوسهم قد اكتملت بمناهج الدعوة الإسلامية، ولم تتصل بأرواحهم لينظروا إلى زخرف الحياة نظر ازدراء، وليجعلوا متعها تحت مواطئ الأقدام، فإنّ الإسلام هدى إلى الصراط القويم، والهدى رحمة من الله تجلو النفس، وصفاء يمحو الظلمة، وسعادة تصوغ النفس من جوهر تتضاءل أمامه المادة فلا يبقى لها أيّ ثمن.

* * *

ليلة مظلمة. لا يكاد ملتمس يحس فيها بطريقه لولا قبس ترسله النجوم المتلألئة في الصفحة السماء، تفتح يدها مرّة وتقبضها أخرى.. تقدّمت جيوش الظلام تسدل الستائر - وقد ألقى النهار سلاحه - على يثرب مدينة الرسول

٤٠

( ص ) ومصدر النور.. هو ذا الليل يوغل إيغالاً، ويلبس الفضاء بردته السوداء فتمتد على الكون روعة السكون، وليس فيه ما يعكّر الصفحة السماء إلاّ هذه الغيوم التي تدفعها الرياح إلى الفناء.

ليلة مشهودة، لم تتصل بما قبلها ولا بما بعدها، فإن اضطرابات فكريّة ضربت حصارها على الأفكار، والعقول؛ فحارت في شأنها، فإنّ يداً قويّة تمرست بعواصم من القوة لم تؤثر فيها قوّة الحقّ.

ليلة مشهودة، تزخر بالحوادث، وتموج بألوان من الأفكار، والناس لا يعلمون أنّها تحمل الحادث الخطير، وإنّ له شأناً بين الحوادث الخالدة الذكر، وكلّ ما يعلمون أن الأفكار تتدافع، كلما اجتمع اثنان أو أكثر، كما تتدافع أمواج البحر في الريح العاصفة.

* * *

فرغ المسلمون من صلاتهم، وما كان ليطيب لأكثرهم العودة إلى منازلهم، ولكنهم تكتّلوا في مسجدهم حيث أقاموا صلاتهم، يتحدثون كلّ وما يعنيه من أمر الحياة، أو شؤون المسلمين العامة.

ولقد كان الوفد النجراني سفراً ضخماً تجمعت فيه كلّ الأحاديث، وفيه نواح كثيرة للحديث، فليس عجباً إذا كان حديث جماعات من المسلمين في هذه اللحظة من الزمن الحالك السواد، فقد كان هذا الإغراق في الترف، حرياً بأن يدفع الناس للحديث عنه، وكان هذا العنت الشديد منه حرياً بأن يكون موضعاً للعجب وللحديث، وإنّ النفوس الفاحصة عن الوقائع، أميل إلى التوغل في الحديث عن نهاية المطاف في الحادث، وإنّه مشهد يعسر نسيانه، وفيه مغريات

٤١

قد لمست أكثر القلوب بكلتا راحتيها.

وفي زاوية المسجد حلقة مستديرة كبيرة، فيها ألوان الأفكار، ومختلف الأذواق والميول يتصل حديثها بالوفد مباشرة.

المحارث بن كعب - أرأيتم وفد نجران في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة، وقد ملأت القلوب؟ والحق أننا (ما رأينا وفداً مثلهم)، ولكن في حديثهم عن المسيح استحالة لا تصل إليها العقول، وما أقربها إلى الوثنية التي كنّا ندين بها قبل الإسلام، ولا أدري كيف يتوصل العقل البشري إلى اتحاد أقانيم ثلاثة في حقيقة واحدة، ثمّ لا يؤثر إطلاق الأب على الابن، أو الابن على الأب، أو هما على روح القدس، إن هذا لشيء عجاب.

بشير - ليس الذنب ذنب الأديان، وإنّما الأديان جميعها غايتها الاندماج في الكمال الروحي، وإنها جميعها تربط البشرية في فكرة واحدة - الله - الواحد الأحد، وما نراه من تشعّب المذاهب، واختلاف العقائد، ليس هو من طبيعة الأديان التي جاءت بها رسل الله إلى خلقه، وإنّما هو من ذنب القائمين عليها من بعد الرسل، والفكرة المسيحيّة التي قررها الإنجيل، فكرة واحدة لا تختلف عن الإسلام، وهي لا تتصل بما نراه اليوم من نزاع حول طبيعة المسيح، وأمّه، والأقانيم الثلاثة.

والمسيحية في حقيقتها دين مقدّس بحث عن العلاقة بين الإنسان وخالقه، وبين الروح ومصدرها، والشبهات المرتكزة التي نراها هي بعيدة عن الناموس الأكبر الذي جاء به عيسى بن مريم.

وهذه النصرانية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، واعتنقها الملوك والأمراء

٤٢

وأهل الغنى والثراء، قد تزحلقت إلى ما تراه، وهي اقرب إلى الوثنية.

ونجران أهمّ موطن للنصرانية في البلاد العربية، وهؤلاء القسس قد شاهدوا وثنية العرب تنهزم أمام الإسلام، وهم اليوم يحاولون أن لا تنهزم النصرانية كما انهزمت الوثنية، ويحاولون أن لا ينخذلوا أمام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كما انخذل زعماء الوثنية، وإذن ليس عجباً أن يظهروا بهذا المظهر الخلاّب، واحسب أنّ الخاطر الأولّ لهذا الوفد هو العبث بالمسلمين عن طريق الغنى والثراء، فإنّه المشهد الذي يشقّ طريقه إلى النفوس سريعاً، ويعسر على الذاكرة نسيانه طوال الأيام، ولكن ما أقصر مرمى عيونهم، فإنّ رسالة الإسلام مضت تشقّ طريقها إلى الأرواح والقلوب، ونهجت للناس المنهج الأمثل، وتلقّى الناس الإسلام مرتاحين إليه فلا يُغري المسلمين الثراء. وركام المادة قد داسه المسلمون تحت حوافر خيولهم، في ساحات التضحية في سبيل الله.

أنس - التوحيد دعامة الإسلام الكبرى، وطبيعيّ أن يصطدم بالعقائد التقليدية التي عليها الناس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعُ إلى ذلك قبل أن يدعو إلى فكّ قيود العقل، والتأمّل في ملكوت السماوات والأرض. والتوحيد أشرف العقائد وأجدرها بالإنسان في أرفع حالاته العقلية، غير أنّ هؤلاء القسس لم يأتوا عن طريق المعقول في دعواهم في عيسى عليه السلام، وليس في حقائبهم من البراهين على الثالوث المتّحد، إلاّ الخوارق التي جاء بها عيسى من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإنّه خُلق من غير أب، وليس هذا بالشيء الجديد في رسالة الرسل والأنبياء، ولقد

٤٣

كان لموسى من قبل عيسى أمثال هذه المعجزات، وقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم، فخلقه أبلغ من خلق عيسى.

لقد حاججهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المنطق والعقل، إلاّ إنّه يلوح أنّهم ركبوا متن غرورهم، وسدّروا في الغيّ جاحدين كلّ دليل وبرهان، وكأن كُتب على الإنسانية أن تبقى على الأعين هذه الحجب والغشاوات، التي تصدّ عن الهدى.

أبو سعيد - إنّ الأمر تعدّى عن طوره المعقول، وقد أفسد الديانون القائمون على الشرائع وتنفيذها فكرة التوحيد؛ لأهواء نفسيّة، وأغراض شخصيّة، وفكرة الله في الإسلام بلغت غاية المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية المقدسة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحمل بكلتا راحتيه القرآن، يشع بالنور، وسحر البيان، وقد بالغ في تقرير ما ينبغي الاعتقاد به في الذات الإلهية، كلّ ذلك بمقياس من العقل، والمنطق، والبرهان الواضح.

ولكنّ القسس واتباعهم، عصبوا عيونهم بعصابة من التقليد؛ فلم يبصروا النور، ولا تلمسوا الهدى الذي يدعو إليه القرآن، وقد غلبت على عقولهم فتنة البذخ والترف، الذي هم عليه.

إن هذه المتع الجوفاء التي تحجب عن الأبصار الضوء، وعن القلوب النور، وهذه المعالم الفاخرة تسهّل السبل للإنسان من أن ينغمس في النعيم الزائل، أفلا تنظر إليهم، وما من واحد منهم إلاّ ويهمس في أذن الآخر مشيراً إلى حلّة المسلمين الزاهدة، وكيف يولّي نبي المسلمين الدنيا ظهره معرضاً عنها؟. ولقد حدّثني بعض من أرسله النبي إلى نجران أنّ أحد رجال هذا الوفد التفت إلى محدّثه وقال :

٤٤

(.. أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟ أكرمونا، وموّلونا، ونصبوا لنا كنايسناّ، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب النفوس بدين يستوي فيه الشريف والوضيع)

ابن أرقم - هذه حقيقة واضحة يستطيع كلّ أحد أن يتلمّسها، في رجال هذا الوفد، وكأنهم يرون الحياة في أثوابهم، لا بقلوبهم، وقديماً قالوا: إنّ قوّة المرء بقلبه، ورجال نجران انحرفوا عن جادة المسيح عليه السلام، إلى اصطناع أساليب تضمن لهم العيش باسم الدين.

في اللحظة الأخيرة ولم تنفع البراهين، ولم يؤمن وفد نجران بحجج الوحي المبين، أوحى الله تعالى إلى نبيه( ص )( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، وليس وراء برهان المشاهدة برهان آخر.

طائف - إنّ الله سبحانه أمر نبيه أن يباهل وفد نجران، صوت جلجل في فضاء المسجد رنان الجرس لم يسمعه أحد إلاّ تلفت حواليه، وتهللت أسارير وجهه، وسرى في المدينة كنسمة الصبح العليلة، تحمل صوت الحقّ الناعم إلى النفوس الخاشعة، ويعبق شذاها بالأمل الباسم في مرحلة التمييز - تمييز الحقّ من الباطل - ، والترجيح في كفتي الميزان العادل.

البراء بن عازب - لقد انبلج الصبح عن شمسه، واستبان الحقّ من الباطل، فإنّ كشف الحقيقة عن طريق المشاهدة أوقع تجلّياً بأكمل الوجوه،

٤٥

وأوضحها في النفوس. ولهذه المباهلة قيمة تزيد عن قيمة المنطق، والأقيسة؛ لأنّها قيمة الشهود في النفس الحسّاسة، والعقل الواعي. وإنّ البراهين، والأدلّة جميعاً لا تغني في ساعة الجدل إذا لم يتلمّس العقل قيمها المحسوسة، وإذا كانت أدلة المؤمن أرجح من أدلة المنكر، وتلمسها المنكر بعقله الواعي، فقد أغنى الدليل غناه، وإلاّ فليس في البراهين، والأقيسة شيء أدلّ، وأصلح للاقناع من وضع الحقّ والباطل في كفتيّ الميزان.

قيس - حقّاً ما تقول، قد أينع الغرس إذا كان هؤلاء يبصرون بعين، أو يسمعون بأذن، أو يرجعون إلى عقل، وأما وهم ليسوا كذلك - وقد فتنهم زخرف الحياة - فإنّ الجدل لا تغني فيه البراهين والأدلّة، ولا تجلوه الأقسة، والحقائق المهلوسة فإن 1 زائد 1 يساوي 2 هذا في واقع الأمر، أمّا في الجدل الديني والعقيدة فإنّ 1 زائد 1 يساوي 4 أو 5 أو ألفاً، وكأنّه خفي عليكم أنّ مسألة الثالوث مشكلة تطلب الحل، ولقد استحال حلّها، ويستحيل على العقول حلّها، ولكنّ النصرانية اليوم قررتها، وإن امتنع الحل، وهل هذا إلاّ من عمل الرهبان القائمين على تنفيذ شريعة المسيح.

البراء - إنّ للإنسان وعياً يشعر معه بما في هذا الكون من جمال ونظام، وأسرار وألغاز، وقد يحتجب ذلك عن إنسان، فلا يدرك شيئاً من هذا الجمال، والنظام والأسرار، ولكن هذه المباهلة ترجيح بين نوعين من الأدلّة والبراهين. وليس دلّ على تهيؤ الجو الصالح لانبثاق النور، والهدى من ترجيح هذا النوع من البرهان الملموس بالمشاهدة، فإنّ لعنة الله الأبدية لابد أن تقع على الكاذب منهما، ولا يسلم الكاذب من العذاب المحيط الشامل.

٤٦

رجل - أترون أن رسول الله ( ص ) يخرج لمباهلتهم منفرداً أم يخرج معه أصحابه وأهله؟؟

أنس - لاشكّ بأنّه يخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة، وجماعة من الأنصار.

البراء - على هونك، إنّ هذا تراث من عوسج، خلقته لنا النوازع النفسية، والميول الشخصية، التي حاربها الإسلام، وما أجملها لو أننا تحررنا من سيطرة هذه النوازع التي تقلبت على سائر الحدود، ولم يقيدها حدٌّ، ولقد كانت الميول من قديم الزمن، وقد أشغلت المفكرين ورجال الإصلاح لكن بدون جدوى.

إنّك لتعلم وكلّ أحد يعلم أنّ صحب محمّد ( ص ) ليسوا فئة واحدة موحدة الهدف، وإنّما هم فئات، وأغراضهم شتّى، وأهدافهم مختلفة، ولا أريد أن أقول أنّا نحيط بحكمة الله تعالى؛ لنعلل هذا الاختلاف، ولكنّ الميزان الذي بأيدينا، والذي يحسن أن نزن به الأشخاص، إنّما هو العمل فقط، وأعمال كلّ شخص هي التي ترجّحه في كفّة الميزان، وأغلب الظن أنّ رسول الله ( ص ) إذا أراد أن يصحب أحداً، إنّما يصحب معه الرجل المعدوم العثرات، الزاهد في الحياة، وإذا كنّا لا نُحكّم النوازع النفسية، ولا نميل مع الأغراض، فكل أحد يعلم بأنّ في صحب محمّد من هم أدنى إليه مجلساً، وأقرب من ربّه مقاماً، أئمة إيمان، أذلّوا النفوس، وقهروا الأبدان، وفنيت قلوبهم ونفوسهم في ذات الله، رضوا من الحياة بما دون الكفاف، وهم غير من ذكرت.

غلب على الجالسين وجوم آفته ضيق أفق نفوسهم

٤٧

عن تفهم نفسية الصحابة واحداً واحداً، وكأنّهم رجعوا إلى الماضي يفتّشونه حادثاً فحادثاً؛ ليميزوا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سهل - حقّاً إنّا لا نملك الميزان الصحيح، ولكنّ شيئاً واحداً لا يجوز أن ننساه، ونغفل عنه فإنّ منطق الحوادث التي رأيناها منذ بدء الدعوة إلى الإسلام يقضي قضاء لا معدى عنه، إنّ رسول الله سيصحب معه ابن عمّه عليّ بن أبي طالب فإنّه (من أهل البيت، لا يقاس به أحد، وهو مع رسول الله ( ص ) في درجته)، وهو وزيره، وكاشف الكرب عن وجهه في المواقف الكثيرة من حروبه. وليس في المسلمين من يضاهي عليّاً بمكانه، وزهده، وإخلاصه، وعلمه، وفضله، وعلوّ منزلته، فقد بلغ الغاية القصوى، وارتقى إلى أعلى مرتقى. ولقد حدثني مَنْ سمع رسول الله يقول:

« من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في عزمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب »(1) وهو الرجل الذي لا يخزيه الله أبداً، يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله(2) ، وهو من رسول الله بمنزلة هارون من موسى. ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

____________________

(1) أخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في صحيحه، والتفسير الكبير في تفسير آية المباهلة، إنّه متّفق على صحته.

(2) من حديث سهل الساعدي رواه البخاري ومسلم.

٤٨

البراء - لم يكن ما حدثتنا به إلاّ حلقة من حلقات فضائل عليّ، ولقد تساندت فضائله بعضها إلى بعض، وانتشرت انتشار عمود الصبح، تجلي ظلمة القلوب، وله في قلوب خلّص المسلمين حضوة، وفي نفوسهم ولاء.

إنّ علياً نهج لنفسه الرسالة السماوية مثلاً يسير عليه في كلّ خطوة من خطواته، وفي كلّ حركة من حركاته، وعند كلّ نفس من أنفاسه، ومن استوعب حياة هذا الفتى؛ عرف كيف ذهب يشقّ طريقه إلى الله تعالى، ولقد تفتّحت جوانب قلبه للرسالة المحمدية؛ فوعاها، وآمن بها إيماناً لا يشبهه إيمان، ورأيناه في البدء أول من يبادر إلى اعتناق الإسلام، ثمّ سار مع الأيام يشبع غرائزه من المنهلين العذبين القرآن، وأخلاق النبي، وصفت نفسه صفاء استوعب لبّ الإسلام من مصدريه.

ولقد أصبح الرجل الأول بين المسلمين، والمصدر الأول والأخير بعد رسول الله، نضج هذا الفتى نضوجاً لم ينضجه أحد من صحب محمّد ( ص ) نضج في تفكيره في هذا الكون، ونضج بملازمته لصاحب الرسالة، منذ فجر صباه في سن الطفولة، فليس ثمة أحد يضاهي علياً بما دلف إليه من تعاليم الإسلام، وأخلاق محمّد( ص ).

وفي الحقّ أنّ هذا الفتى نبتةٌ غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام؛ فاندفع يسير كما يشاء له النبي، ويريد له كتاب الله؛ فبلغ غاية الشأو كما صار ملتقى المنبعين كتاب الله وسنة رسوله، وقد قرن النبي حبّ عليّ بحبّه، وبغضه ببغضه.

٤٩

ولكنّ هذا حدث خطير يحمل في دقائقه معالم الحكمة، وفي روحه وتشريعه معالم الإنذار بغضب الله، وقد أنبأت عنه كلمات الله، ولم يسبق له مثيل في الإسلام، ولا قبله فلا تسيّره مشيخة الأصحاب، ولا كثرة الرجال والعدد، وإنّ محمداً في كلّ عمل من أعماله، مقيّد بمبدأ يسيّره ربّه عليه، في الطريق الآخاذ إلى المثل العليا، التي أعدّت للإنسان الكامل بسائر أنواع الكمالات النفسية والسياسية، فقد يسمح له ظرفه بأن يصحب علياً وغيره، وقد لا يسمح له، وقد يكون من السياسة أن يصحبه، وقد لا يكون، والأمر وراء ذلك كلّه ينزل من السماء.

يمرّ حذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار يتحدثون بدعوة رسول الله ( ص ) وفد نجران إلى المباهلة، وحذيفة يقول: إنّ الوحي غشي النبي، ونزل عليه( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .

البراء - صدق الله العظيم، هذا ما كان يختلج في نفسي، ويعتقده ضميري.

بشير - أترى يخرج ومعه جميع نسائه، أم يقتصر على عائشة، وحفصة، وأم سلمة؟.

زيد - أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها، وقومها، ونساؤه من حرمت عليهن الصدقة(1) .

رجل - يلتفت إلى البراء بن عازب - الإنسان لا يدعو نفسه، فمن هي النفس التي هي نفس رسول الله، ويدعوها إلى المباهلة،.. ومن هم الأبناء الذين تعينهم الآية الكريمة؟.

____________________

(1) أخرجه مسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ.

٥٠

البراء - لا أعلم! إلى حذيفة، وسلمان، وعمار، وأبي ذر فإنّهم من خلّص أصحاب النبي وأعلم بالسر.

يذهبون إلى حلقة مؤلفة من أربعة، يتناجون بصوت خافت، كأنهم يحفرون قبراً لسرٍّ، يريدون أن يدفنوه في ضمائرهم.

بشير - إلى حذيفة: يا أبا عبد الله، لقد أشار الله سبحانه إلى قصّة الوفد في كتابه المجيد بأبلغ، وأسمى ما تعرفه البلاغة من السموّ، وإنّ هذه المباهلة قد رسمت المنهج الأمثل للمتخاصمين في الله..، ولكن من هم الأبناء الذين يدعوهم رسول الله، ومن هم النساء، والأنفس؟..

حذيفة - إنّ الحافز لهذه المباهلة، هو الحرص على توطيد دعامة الحقّ، وواضح أنّ مقياس الاختيار، إنّما هو فضل الأشخاص الذين يقع عليهم الاختيار، وعلى مقدار تمتّعهم بالفضيلة والتقوى، يقع عليهم الاختيار، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتّجه إلاّ حيث يوجهه الله تعالى، ويلوح لي أنّ الذين سيقع عليهم اختياره هم: عليّ من الأنفس، وفاطمة من النساء، والحسن والحسين من الأبناء.

بريدة - (يلتفت إلى حذيفة، وهو مضطرب الأعصاب) أيترك عمّه العبّاس، وأبا بكر، وعمر، ويختار هذا الشاب الفتى، ويجعله كنفسه!، ثمّ يترك أحبّ نسائه إليه، وأعزّهنّ عليه عائشة، ثمّ يترك أبناء عمّه، وعمومته، وأبناء المهاجرين، والأنصار، ثمّ يختار طفلين ليباهل بهم هذا الوفد الجبّار؟!.. ليس هذا من المنطق

٥١

الصحيح في شيء.

أبو ذر - يلتفت إلى بريدة بغضب شديد - لأمّك الهبل، أنّها كلمات جوفاء، لا تملأ جوفاً مثلما تملؤه ذرّة من هذه الذرّات المبعثرة في الفضاء، ولا يجهل أحد أنّك خاضع في حديثك لتيارات جاشت بها نفسك حقداً وحسداً، وهما يصطنعان لك هذه الأساليب. أيقال لمثل ابن أبي طالب ذلك؟!

قل لي هل وقعت عينك، أو عين أحد، على أحد أنقى صحيفة من عليّ صنو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن فاطمة بضعته التي من أغضبها فقد أغضب رسول الله، ومن أغضب رسول الله فقد أغضب الله، ومن ريحانتيه من الدنيا، سيدي شباب أهل الجنّة؟.

ولا أظنّ أنّ أحداً من المسلمين لم يسمع رسول الله يقول: « إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك(1) ، وإنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(2) . ولقد رأيته آخذاً بيد عليّ فيقول: « يا علي أنت أخي ووصيي ووزيري وأميني، مكانك منّي مكان هارون من موسى، إلاّ إنّه لا نبي بعدي. من مات وهو يحبّك ختم الله عزّ وجلّ له بالأمن والإيمان، ومن مات وهو يبغضك، لم يكن له نصيب في الإسلام.»

حذيفة - (إلى بريده) أرى الأفضل لنا أن نهيّئ قوانا العقلية لنصل

____________________

(1) أخرجه أحمد، والبزار - كما في ينابيع المودّة - « من تركها غرق.»

(2) أخرجه الطبراني في الأوسط، والصغير، وأبو يعلى، وأحمد عن أبي ذر.

٥٢

عن طريق الروح والعقل إلى الواقع، وإنّ الاهتداء لواقع الأمر عن طريق القوى الروحية والعقلية، هو أعلى ما تصل إليه أفكار المفكّرين، وإنّه العنت كلّ العنت، الوصول إلى الحقائق عن طريق الرأي، وكم رأينا، وسمعنا أن الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات في طريق التفكير، وبالأخير لا أراه يصل، وإن وصل فإنّه يصل وهو محطّم القوى، وحسبنا جميعاً أن نرجع إلى كتاب الله، فإنّه حفظ لنا كثيراً من الآيات في فضل هؤلاء النفر، ولحظات قصيرة في تلك الآيات الكريمة كافية للتدليل على فضل العترة المباركة، (ولكنّ الحسد أهلك الجسد)، وأخيراً أحب أن أطلعك، إن الله سبحانه اختار عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ ليؤمنوا على دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الاختيار من رسول الله.

٥٣

يوم المباهلة

استيقظت المدينة المنورة من نومها، ومسحت عن عينها فترة الكرى، وشبحت العيون فإذا صورة ثانية من الزمن، غير التي يعرفونها بالأمس الماضي.

الأرض واجفة.. والشمس كاسفة.. والسحب داكنة..

أصبحت البلدة الطبيبة غيرها بالأمس. ولم تكن كعهدها بالهدوء.. الناس في جيئة وذهوبة..

أصبحوا، وفي القلوب خلجات..

أصبحوا، وعلى الشفاه همسات صغت إليها الآذان، وأرهفت غرب الأذهان..

لم يبقَ من لا يتحدّث، ثمّ هو لا يستفيض في الحديث.. والحديث كلّه عن المباهلة، والمباهلة سفر ضخم، فيه كلّ لون وكلّ حديث.

إنّهم ليحزنهم التطيّر المشفي على الجزع! إنّهم يشفقون من المستقبل!.

مدّت الأعناق لترى الساعة الرهيبة، وصغت الآذان للرعد القاصفة.

إنّها لقريبة جدّاً ساعة المباهلة، أو ساعة الإنذار بلعنة الله على الكاذبين.

٥٤

هذه الشمس تركت خباءها تزحف، وشيء مجهول يزحف معها، يجلجل صوته كالرعدة القاصفة. ها هي المسامع تستك والفرائص ترتعد.

ساعة من الزمن منتظرة هي الزمن كلّه.. إنّها الساعة الأخيرة على أحد المتباهلين، أكانت هذه الساعة وليداً جديداً لم يشاهد لها مثيلات من قبل؟! أم هي خلجات القلوب ترقب الحادث الجديد؟..

إنّها ارتسامات الشعور الهادئ المضطرب معاً.. عيون تنظر من كوة الحياة إلى صنفين.. إنّها العقل الواعي يقارن بين عهدين: العهد الماضي، والعهد الحاضر. وبين مبدئين.. كلمة واحدة وليس بعدها أخرى، ثمّ ترتفع السجف ويتضح الحقّ مشعّاً..

أمل باسم يطفح بالنور.. وقلوب معتمة حيرى عصف بها الأسى، وتكاد تفرّ من أقفاصها لو فتح لها الباب.

* * *

يوم مشهود يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة(1) ، تطلّع الناس فيه إلى بزوغ شمسه، كما تطلّعوا إلى سابقه يوم دخل الوفد، ولكلّ يوم منهما حدوده ومقاييسه فلا تغيب آثارهما. يحمل اليوم الأول فتنة البذخ إلى نفوس الضعفاء.

والثاني يحمل الدعوة سافرة.. أجل إنّه اليوم الذي يحمل بين

____________________

(1) هذا هو المشهور وقيل كانت المباهلة في يوم الواحد والعشرين وقيل الخامس والعشرين وقيل في السابع والعشرين.

٥٥

تلافيفه المفاجأة الكبرى، والدعوة سافرة لا يسترها شيء، وهي من مقولة الأرقام، وليست من مقولة الجدل والبرهان..

يوم ليس كمثله يوم. يحمل بين طرفيه الحادث الخطير، يجر في أعقابه ألف حادث وحادث، يحمل في طيّاته عدالة السماء، وغضب جبّار السماوات والأرض؛ ليعطي كلاًّ من المتباهلين نصيبه منهما، ويكاد الناس أن يؤمنوا أنّها النهاية بعد أن ترفع الأكف للابتهال، وتجأر الألسن بالدعاء.

يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة يوم مشهود.. مصدر عظمة في سلسلة الأيام الإسلامية.. يومٌ تألّق نوره بين الأيام المشعّة في الرسالة المحمدية.

يوم مشهود حقّت فيه كلمة الله العليا.. وتمّت الغلبة للإسلام..

يوم مشهود. عنت قبة رقاب أولئك السادة لشريعة الحقّ، وأعطوا الجزية عن يد..

يوم مشهود. يبسم بالأمل الزاهر. يطوي الصفحة من حياة، ويفتح الصفحة أخرى، يتلقاها العقل من مصدرها بالبرهان المشاهد. ولاشك في أنّها من ألمع صفحات تاريخ الإسلام.

يوم مشهود. لا شبيه له ولا مثيل، ولا يقاس به يوم إلاّ كان القياس خطأً؛ لما تبين فيه من الحقّ، وظهر فيه من فضل آل محمّد صلى الله عليه وعليهم وسلم على سائر الناس.. وآل محمّد لا يقاس بهم أحد.

يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة ناصع الجبين، مشرق المحيا، تتراءى خلاله العظمة باهرة الجلال، َتلفّت إلى حيث شئت فإنّك ترى روحيّة عالية،

٥٦

وقدسيّة سامية، تتصلان بأعماق النفس.

يوم مشهود. قف منه حيث شئت فإنّما تقف على عظمة الرسالة المحمديّة، تتجلّى في نفس واحدة من الأنفس الكثيرة، وامرأة واحدة من نساء كثيرات، وطفلين لا غير. هم جميعاً صفوة الصفوة، ولباب اللباب، الذين اختارهم الله لكرامته، وأعدّهم لهداية أمته من بعد نبيه..

يوم مشهود.. اختصم فيه خصمان بربهم..

* * *

لقد جاءت الساعة المرتقبة، واللحظة المنتظرة، لحظة فقط تتفجّر فيها براكين الأرض، وترسل السماء شهب النار. لحظة واحدة يهلك فيها الكبير، ويفنى الصغير، حيث زلزلت الأرض زلزالها.

انطلقت الأبصار إلى الجهة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ترقب الثغر الباسم، والجبين المشرق، والوجه الأغر..

يا لجلال الله. هو ذا رسول الله، يخرج ووجه يشعّ بالنور تسيّجه هيبة الله..

يا لعظمة الحقّ، وجلال الإيمان. هو ذا يحتضن الحسين، ويمسك بيمناه الحسن، وخلفه بضعته الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله، وهذا عليّ يمشي خلفها باهر الجلال، يرتدي بُردة من مهابة الله.

* * *

المباهلة هي القول الفصل في نهاية الجدل، وقد اختارها الله لنبيه، واختار له الأشخاص الذين يؤمّنون على دعائه.

٥٧

وبعد - فالعقل لا يصل إلى صورة أرفع من هذه الصورة، وإلى أشخاص في رتبة هؤلاء، أو أرفع؛ لئلاّ يقع من العليم الحكيم الترجيح بدون مرجّح في المرحلة الحاسمة.. ولأن العقل لا يساند الاختيار إلاّ إذا وقع على الأمثل فالأمثل من المثل العليا. وليس في مكنون علم الله سبحانه أمثل من هؤلاء.

فالله( عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ )

* * *

(أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشجرتين فقصدتا(1) ، وكسح(2) ما بينهما حتّى إذا كان الغد، أمر بكساء اسود رقيق، فنشر على الشجرتين) على هيئة المخيّم.

(وخرج السيّد والعاقب بولديهما، وعليهما من الحلي والحلل ما يلفت الأنظار، ومعهم نصارى نجران، وفرسان بني الحرث على خيولهم، وهم على أحسن هيئة كأنّهم ليوث غابٍ). واجتمع الناس من أهل المدينة، وَمن حولها من الأعراب، وأهل الألوية؛ يرقبون الحادث، لا يعرفون ما هو مقبل عليهم، عندهم ثقة تامة، ولكن يرتادهم شكّ، ولهم إيمان راسخ، ولكن يراوده قلق، وقد ضرب الاضطراب عليهم نطاقه، والقلق مدّ رواقه، فهذه وجوهٌ عليها غبرة ترهقها قترة، وهذه وجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة.. الشمس تسير بأفقها مضطربة كاضطراب هذه القلوب.. هذه الرياح تهبّ من حول أناس بألوان مختلفة، تارة مهيباً وأخرى رهيباً. الناس جمود يتحركون.. صامتون يتكلمون، آمنون وجلون.. حيارى وما هم بحيارى، وأوشك الناس يتبيّنوا أنّ الانقلاب

____________________

(1) أي كسرتا.

(2) كنس ما بينهما.

٥٨

فخذلتهم عقولهم، وخانهم صلب إيمانهم.

(وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتضناً الحسين، وبيده الحسن، ومن خلفه فاطمة الزهراء، ومن خلفها عليّ.. فتقدّموا إلى أن وقفوا تحت ذلك الكساء، على الهيئة التي خرج عليها) يقول لهم: «إذا دعوت امّنوا - قولوا آمين -» وأرسل إلى السيّد والعاقب يدعوهما إلى المباهلة.

جفل الوفد، وانكمش على نفسه، فإنّهم لم يثوبوا إلى أنفسهم من دهشتهم بالأمس حينما اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذ عليهم آفاق الأرض والمساء، حتّى احتوتهم الدهشة ثانية، مزرية بما سبق من الدهشة، وقد امتدّ بهم البصر، فإنّهم يرون النور يشعّ من هذه الأوجه الكريمة.

- لم يأتِنا أبو القاسم بأهل الكبر والشدّة من أتباعه. وإنّما جاءنا بالأعزّة، والأحبّة من أهل التخشّع، وبهلة الأنبياء، والصفوة الصفوة المختارة.

* * *

تمرّ لحظات يتهيّب فيها الوفد ويحار.. لحظت كأنها الدهر الخالد. لحظات قاسية، لم يعانِها أحد على نحو ما عاناها القسس، ولم يشقّ بها أحد مثل ما شقي بها هؤلاء. إنّها الساعة الأخيرة، وإنّه ليكاد اليقين يمسّ قلوبهم بصدق محمّد صلى الله عليه وآله وسلم... يأس جامح ملك قلوبهم.

* * *

يتقدم السيّد والعاقب إلى رسول الله ( ص )

- يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟!

- « أباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله »، هؤلاء وأشار إلى

٥٩

علي وفاطمة والحسن والحسين).

- (فما نراك جئت لتباهلنا بالكبر ولا الكثر. ولا أهل الشارة ممن نرى ممن آمن بك واتبعك، وما نرى هنا معك إلاّ هذا الشاب والمرأة والصبيين، أبهولاء جئتنا نباهلك؟!

- أجل: « بهؤلاء، وهم خير أهل الأرض، وأفضل الخلق. »

استكت أسماعهم، وارتعدوا كأنما الأرض تريد أن تسيخ بهم. ساعة خاصمتها الرياح المختلفة في هبوبها، والأعاصير الهوجاء، ثمّ رجعوا إلى أسقفهم.

- أبا حارثة ماذا ترى؟

- ماذا أرى؟ (إنّي لأرى وجوها لو سئل الله بها أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله.. أفلا ترون محمداً رافعاً يديه ينظر إلى ما تجيئان به؟. وحقِّ المسيح إن نطق فوهُ بكلمة فلا نرجع إلى أهلٍ ولا إلى مالٍ)

أفلا ترون الشمس تغيّر لونها، والأفق تتجمع فيه السحب الداكنة، والرياح تهبّ هائجة، سوداء حمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟

(لقد أطلّ العذاب، انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها، وإلى الشجر كيف تساقط أوراقها، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا؟!)

(والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيٌ مرسل، ولقد جاءكم بالأمر الفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قومٌ نبيّاً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن وكان الاستئصال.. وإنّما عهدكم بإخوانكم حديث، وقد مسخوا قردة وخنازير..

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155