الشفاء الإلهيّات

الشفاء الإلهيّات12%

الشفاء الإلهيّات مؤلف:
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 489

الشفاء الإلهيّات
  • البداية
  • السابق
  • 489 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99701 / تحميل: 8948
الحجم الحجم الحجم
الشفاء الإلهيّات

الشفاء الإلهيّات

مؤلف:
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
العربية

المقالة الأولى

وفيها ثمانية فصول

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

الحمد (٢) لله رب العالمين وصلاته على النبي (٣) المصطفى محمد وآله الأكرمين أجمعين.

الفن (٤) الثالث عشر من كتاب الشفاء في الإلهيات.

(٥) (٦) المقالة الأولى وهي ثمانية فصول (٧)

[ الفصل الأول ] ( ا ) فصل (٨)

في ابتداء طلب موضوع (٩) الفلسفة الأولى لتتبين إنيته في العلوم

وإذ (١٠) وفقنا الله ولي الرحمة والتوفيق ، فأوردنا ما وجب إيراده من معاني العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية ، فبالحري أن نشرع في تعريف المعاني الحكمية ، ونبتدئ (١١) مستعينين بالله فنقول :

إن العلوم الفلسفية ، كما قد أشير إليه في مواضع أخرى من الكتب ، تنقسم إلى النظرية وإلى العملية. وقد أشير إلى الفرق بينهما وذكر أن النظرية هي التي نطلب فيها استكمال القوة النظرية (١٢) من النفس بحصول العقل بالفعل ، وذلك

__________________

(١) الرحيم : + وحسبنا الله ونعم الوكيل م

(٢) الحمد ... أجمعين : ساقطة من ب ، ج ، ص

(٣) النبي : + المصطفى م

(٤) الفن ... الإلهيات : الفن الرابع من الجملة الرابعة من كتاب الشفاء فى الإلهيات وهو فن واحد فى عشر مقالات م

(٥) فى الإلهيات : تصنيف الشيخ الرئيس ج

(٦) الإلهيات : + عشر مقالات ج ، ط ؛ + عشر مقولات ص

(٧) وهى ثمانية فصول : ساقطة من ج ، ص ؛ من جملة الإلهيات ثمانية فصول ط ، طا ؛ من الإلهيات وتعرف الأولى بثمانية فصول م

(٨) فصل : الفصل الأول من المقالة الأولى من جملة الإلهيات ط ؛ الفصل الأول من المقالة الأولى طا

(٩) موضوع : + العلم ج

(١٠) وإذ : إذ ج

(١١) ونبتدئ : فنبتدئ ج ، ط

(١٢) هى ... النظرية : ساقطة من م.

٣

بحصول (١) العلم التصوري والتصديقي بأمور ليست هي هي بأنها أعمالنا وأحوالنا ، فتكون الغاية (٢) فيها حصول رأي واعتقاد ليس رأيا واعتقادا في كيفية عمل أو كيفية مبدإ عمل من حيث هو مبدأ عمل.

وأن العملية هي التي يطلب فيها أولا استكمال القوة النظرية بحصول العلم التصوري والتصديقي بأمور هي هي بأنها أعمالنا ، ليحصل (٣) منها ثانيا استكمال القوة العملية بالأخلاق.

وذكر أن النظرية تنحصر (٤) في أقسام ثلاثة هي (٥) : الطبيعي ، والتعليمية ، والإلهية.

وأن الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هي متحركة وساكنة ، وبحثها عن العوارض التي تعرض لها بالذات من هذه الجهة.

وأن التعليمية موضوعها إما ما هو كم مجرد عن المادة بالذات ، وإما ما هو ذو كم. والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكم بما هو كم. ولا يؤخذ (٦) في حدودها نوع مادة ، ولا قوة حركة.

وأن الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادة بالقوام والحد. وقد سمعت أيضا أن الإلهي هو الذي يبحث فيه (٧) عن الأسباب الأولى (٨) للوجود (٩) الطبيعي والتعليمي وما يتعلق بهما ، وعن مسبب (١٠) الأسباب ومبدإ المبادئ وهو الإله تعالى جده (١١).

__________________

(١) بحصول : لحصول ب ، ج ، د ، ص ، ط ، طا

(٢) الغاية : العلم ط

(٣) ليحصل : فيحصل ج ، ص ، ط ، م

(٤) تنحصر : منحصر ح ؛ منحصرة ص ، ط

(٥) هى : فى ج ، م

(٦) يؤخذ : يوجد م

(٧) فيه : ساقطة من ب

(٨) الأولى : الأولى ط ، طا

(٩) للوجود : للوجود ص

(١٠) مسبب : سبب ج

(١١) جده : ساقطة من ب.

٤

فهذا هو قدر ما يكون (١) قد وقفت عليه فيما (٢) سلف لك من الكتب. ولم يتبين لك من ذلك أن الموضوع للعلم الإلهي ما هو بالحقيقة الإلهي ما هو بالحقيقة إلا إشارة جرت في كتاب البرهان من المنطق إن تذكرتها. وذلك أن في سائر العلوم قد كان يكون لك شيء هو موضوع ، وأشياء هي المطلوبة ، ومبادئ مسلمة منها تؤلف البراهين. والآن ، فلست تحقق حق التحقيق (٣) ما الموضوع لهذا العلم ، وهل هو ذات العلة الأولى حتى يكون المراد معرفة صفاته وأفعاله أو معنى آخر.

وأيضا قد كنت تسمع أن هاهنا فلسفة بالحقيقة ، وفلسفة أولى ، وأنها تفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم ، وأنها هي الحكمة بالحقيقة. وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم ، وأخرى أن الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة وأتقنها ، وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل. وكنت (٤) لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى ، وما هذه الحكمة ، وهل الحدود والصفات (٥) الثلاث لصناعة واحدة ، أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تسمى حكمة.

ونحن (٦) نبين لك الآن أن هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى ، وأنه (٧) الحكمة المطلقة ، وأن الصفات الثلاث التي رسم (٨) بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة ، وهي هذه الصناعة. وقد علم أن لكل علم موضوعا يخصه ، فلنبحث الآن عن الموضع لهذا العلم ، ما هو؟ ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنية الله تعالى جده (٩) ، أو ليس ذلك (١٠) ، بل هو شيء من مطالب هذا العلم؟

فنقول : إنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع ، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مسلم الوجود في ذلك العلم ، وإنما يبحث عن أحواله. وقد

__________________

(١) يكون : كان ط. م

(٢) فيما : مما م

(٣) التحقيق : التحقق ب

(٤) وكنت : وقد كنت ج

(٥) والصفات : أو الصفات م

(٦) ونحن : فنحن ج

(٧) وأنه : وأنها ط

(٨) رسم : ترسم طا.

(٩) جده : ساقطة من ب ، ج ، ص ، م

(١٠) ذلك كذلك طا.

٥

علم هذا في مواضع أخرى. ووجود الإله تعالى جده (١) لا يجوز أن يكون مسلما في هذا العلم كالموضوع ، بل هو مطلوب فيه. وذلك لأنه (٢) إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلما في هذا العلم ومطلوبا في علم آخر ، وإما أن يكون مسلما في هذا العلم وغير مطلوب في علم آخر. وكلا الوجهين باطلان (٣).

وذلك لأنه (٤) لا يجوز أن يكون مطلوبا في علم آخر ، لأن العلوم الأخرى إما خلقية أو سياسية (٥) ، وإما طبيعية ، وإما رياضية ، وإما منطقية. وليس في العلوم الحكمية علم خارج عن (٦) هذه القسمة ، وليس ولا في شيء منها يبحث (٧) عن إثبات الإله تعالى جده (٨) ، ولا يجوز أن يكون ذلك. وأنت تعرف هذا بأدنى تأمل لأصول كررت (٩) عليك. ولا يجوز أيضا أن يكون غير مطلوب في علم آخر لأنه يكون حينئذ غير مطلوب (١٠) في علم البتة. فيكون إما بينا بنفسه ، وإما مأيوسا عن بيانه بالنظر ، وليس (١١) بينا بنفسه ولا مأيوسا (١٢) عن بيانه ، فإن عليه دليلا (١٣). ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقي (١٤) أن البحث عنه إنما هو في هذا العلم.

ويكون البحث عنه على وجهين : أحدهما البحث عنه من جهة وجوده ، والآخر من جهة صفاته. وإذا كان البحث عن وجوده في هذا العلم ، لم يجز أن يكون موضوع هذا العلم ، فإنه ليس على علم من العلوم إثبات موضوعه ، وسنبين لك عن قريب أيضا ، أن البحث عن وجوده لا يجوز أن يكون إلا في هذا العلم ، إذ قد (١٥) تبين (١٦) لك من حال هذا العلم أنه يبحث (١٧) عن المفارقات للمادة (١٨) أصلا. وقد لاح لك في الطبيعيات أن الإله غير جسم ، ولا قوة جسم ،

__________________

(١) جده : ساقطة من ج ، ص ، م. (٢) لأنه إن : لأنه م

(٣) باطلان : باطل م. (٤) لأنه : أنه ب ، ج ، م

(٥) أو سياسية : وإما سياسية م. (٦) عن : من ج

(٧) يبحث : بحث ص ، م. (٨) جده : ساقطه من ب

(٩) كررت : تكررت ط. (١٠) مطلوب فى علم البتة : مطلوب البتة ط. (١١) وليس بينا بنفسه : وليس بينا فى نفسه م

(١٢) ولا مأيوسا : هو مأيوس ب ، ج ، م ؛ هو مأيوسا ص

(١٣) دليلا : + بالنظر ط

(١٤) فبقى : فيبقى ب. (١٥) قد : ساقطة من م

(١٦) تبين : يتبين ص ، م. (١٧) بحث : يبحث ج ، ص ، م

(١٨) لمادة : عن المادة ج.

٦

بل هو واحد بريء عن المادة ، وعن مخالطة الحركة من كل جهة. فيجب أن يكون البحث عنه لهذا العلم.

والذي لاح لك من ذلك في الطبيعيات كان غريبا عن الطبيعيات ، ومستعملا فيها ، منه ما ليس منها ، إلا أنه أريد بذلك أن يعجل للإنسان (١) وقوف (٢) على إنية المبدإ الأول فتتمكن منه الرغبة في اقتباس العلوم ، والانسياق إلى المقام الذي هناك ليتوصل (٣) إلى معرفته بالحقيقة. ولما لم يكن بد من أن يكون لهذا العلم موضوع وتبين لك أن الذي يظن أنه هو (٤) موضوعه ليس بموضوعه ، فلننظر : هل موضوعه الأسباب القصوى للموجودات كلها أربعتها إلا (٥) واحدا منها الذي لم يكن القول به. فإن هذا أيضا قد يظنه قوم.

لكن النظر في الأسباب كلها أيضا لا يخلو إما أن ينظر فيها (٦) بما هي موجودات أو بما هي أسباب مطلقة ، أو بما هي كل واحد من الأربعة على النحو الذي نحصه. أعني أن يكون النظر فيها من جهة أن هذا فاعل ، وذلك قابل ، وذلك شيء آخر ، أو من جهة ما هي الجملة التي تجتمع منها.

فنقول : لا يجوز أن يكون النظر فيها بما هي أسباب مطلقة ، حتى يكون الغرض من (٧) هذا العلم هو النظر في الأمور التي تعرض للأسباب (٨) بما هي أسباب (٩) مطلقة. ويظهر هذا من وجوه :

أحدها ، من جهة أن هذا العلم يبحث عن معان ليست هي من الأعراض الخاصة (١٠) بالأسباب بما هي أسباب ، مثل الكلي والجزئي ، والقوة والفعل ، والإمكان والوجوب وغير ذلك.

__________________

(١) للانسان : الإنسان ب ، ط

(٢) وقوف : الوقوف ط

(٣) ليتوصل : يتوصل ب ، ص ، م

(٤) هو : ساقطة من ج ، ص ، م

(٥) لا : إلا ج ، ط ، م

(٦) فيها : ساقطة من ب

(٧) من : فى ب ، ج ، ص ، م

(٨) للأسباب : الأسباب ب ، ج ، ط

(٩) أسباب مطلقة : ساقطة من م

(١٠) الخاصة : الخاصية م.

٧

ثم من التبين الواضح أن هذه الأمور في أنفسها بحيث يجب أن يبحث عنها ، ثم ليست من الأعراض الخاصة (١) بالأمور الطبيعية والأمور التعليمية (٢). ولا هي أيضا (٣) واقعة في الأعراض الخاصة (٤) بالعلوم العملية (٥). فيبقى (٦) أن يكون البحث عنها للعلم الباقي من الأقسام وهو هذا العلم.

وأيضا فإن العلم بالأسباب المطلقة حاصل بعد العلم بإثبات الأسباب للأمور ذوات الأسباب. فإنا ما لم نثبت وجود الأسباب للمسببات من الأمور بإثبات أن لوجودها تعلقا بما يتقدمها في الوجود ، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق ، وأن هاهنا سببا ما. وأما الحس فلا يؤدي إلا إلى (٧) الموافاة. وليس إذا توافى شيئان ، وجب أن يكون أحدهما سببا للآخر (٨). والإقناع الذي يقع للنفس لكثرة ما يورده الحس والتجربة فغير متأكد ، على ما علمت ، إلا بمعرفة أن الأمور التي هي موجودة في الأكثر هي طبيعية واختيارية (٩).

وهذا في الحقيقة مستند إلى إثبات العلل ، والإقرار بوجود العلل والأسباب. وهذا ليس بينا أوليا بل هو مشهود (١٠) ، وقد علمت الفرق بينهما. وليس إذا كان قريبا عند العقل ، من البين بنفسه أن للحادثات مبدأ ما يجب أن يكون بينا بنفسه مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. ثم البيان البرهاني (١١) لذلك (١٢) ليس في العلوم الأخرى ، فإذن يجب أن يكون في هذا العلم.

فكيف يمكن أن يكون الموضوع للعلم المبحوث عن أحواله في المطالب مطلوب الوجود فيه؟ وإذا (١٣) كان كذلك فبين أيضا أنه ليس البحث عنها (١٤) من جهة

__________________

(١) الخاصة : الخاصية م

(٢) التعليميه : العملية م

(٣) أيضا : ساقطة من ب ، ص ، م

(٤) الخاصة : الخاصية م

(٥) العملية : + والمنطقية ج

(٦) فيبقى : فيبقى م

(٧) إلى : ساقطة من ب ، م

(٨) للاخر : الآخر م

(٩) واختيارية : أو اختيارية ص

(١٠) مشهود : مشهور ج ، ص. (١١) البرهانى : ساقطة من ط

(١٢) لذلك : أى بينا بنفسه أن لكل شىء مبدأ م. (١٣) وإذا : فاذا ج ؛ وإذ م

(١٤) عنها : هنا ط.

٨

الوجود الذي يخص كل واحد منها ، لأن ذلك مطلوب في هذا العلم. ولا أيضا من جهة ما هي جملة ما (١) وكل ، لست أقول جملي (٢) وكلي. فإن النظر في أجزاء الجملة أقدم من النظر في الجملة ، وإن لم يكن كذلك في جزئيات الكلي باعتبار قد علمته ، فيجب أن يكون النظر في الأجزاء إما في هذا العلم فتكون هي أولى بأن تكون موضوعة ، أو يكون في علم آخر. وليس علم آخر يتضمن الكلام في الأسباب القصوى غير (٣) هذا العلم. وأما إن كان النظر في الأسباب من جهة ما هي موجودة وما يلحقها (٤) من تلك الجهة فيجب إذن أن يكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود.

فقد (٥) بان أيضا بطلان هذا النظر (٦) ، وهو أن هذا العلم موضوعه الأسباب القصوى ، بل يجب أن يعلم أن هذا كماله ومطلوبه.

__________________

(١) جملة ما : جملة ط

(٢) جملى : مجمل ب ، ص ، م

(٣) غير : عن م

(٤) وما يلحقها : ما يلحقها ط ، م

(٥) فقد : وقد ج

(٦) النظر : الظن ج ، ص ، م.

٩

[ الفصل الثاني ]

( ب ) فصل (١)

في تحصيل موضوع هذا العلم

فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذا العلم لا محالة حتى يتبين (٢) لنا الغرض الذي هو في هذا العلم ، فنقول :

إن العلم الطبيعي قد كان موضوعه الجسم ، ولم يكن من جهة ما هو موجود ، ولا من جهة ما هو جوهر ، ولا من جهة ما هو مؤلف من مبدأيه ، أعني الهيولى والصورة ، ولكن من جهة ما هو موضوع للحركة والسكون. والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلك الخلقيات (٣).

وأما العلم الرياضي فقد كان موضوعه إما مقدارا مجردا في الذهن عن المادة ، وإما مقدارا مأخوذا في الذهن مع مادة ، وإما عددا مجردا عن المادة ، وإما عددا في مادة. ولم يكن أيضا ذلك البحث متجها إلى إثبات أنه مقدار مجرد أو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة ، بل كان في جهة الأحوال التي تعرض له (٤) بعد وضعه.

كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولى بأن لا يكون نظرها إلا في (٥) العوارض التي يلحق أوضاعا أخص من هذه الأوضاع.

والعلم المنطقي ، كما علمت (٦) ، فقد كان موضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلى المعاني المعقولة الأولى من جهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم.

__________________

(١) فصل : الفصل الثاني ب ، ط

(٢) يتبين : يبين م

(٣) الخلقيات : الخلقية ط

(٤) له : وله م

(٥) إلا فى : الآن ط

(٦) علمت : عرفت ج.

١٠

إلى مجهول ، لا من جهة ما هي معقولة ولها الوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلا أو يتعلق بمادة غير جسمانية. ولم يكن غير هذه العلوم علوم أخرى.

ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر (١) ، وعن الجسم بما هو جوهر ، وعن المقدار (٢) والعدد بما هما موجودان ، وكيف وجودهما ، وعن الأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي في مادة غير مادة الأجسام ، وأنها كيف تكون وأي نحو من الوجود يخصها ، فمما يجب أن يجرد له بحث.

وليس يجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوسات ، ولا من جملة العلم بما (٣) وجوده في المحسوسات ، لكن التوهم والتحديد يجرده عن المحسوسات.

فهو إذن من جملة العلم بما (٤) وجوده (٥) مباين.

أما الجوهر فبين أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهر إلا محسوسا.

وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات ، فهو بما هو عدد غير متعلق بالمحسوسات.

وأما المقدار فلفظه اسم مشترك ، فيه ما قد يقال له مقدار ، ويعني (٦) به البعد (٧) المقوم للجسم الطبيعي ، ومنه ما يقال مقدار ، ويعني به كمية متصلة تقال على الخط والسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما. وليس ولا واحد (٨) منهما مفارقا للمادة ، ولكن المقدار بالمعنى الأول وإن كان لا يفارق المادة فإنه أيضا مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذا كان مبدأ لوجودها لم يجز أن يكون

__________________

(١) وجوهر : جوهر ب ، ج ، ص ، ط

(٢) وعن المقدار : والمقدار م

(٣) بما : + هو ص ، ط ، طا ، م

(٤) بما : + هو ح ، ص ، ط

(٥) وجوده : موجود ط ، طا

(٦) ويعنى : فيعنى ص

(٧) البعد : المبعد ط

(٨) واحد : واحدا ب.

١١

متعلق القوام بها ، بمعنى أنه يستفيد (١) القوام من المحسوسات ، بل المحسوسات تستفيد منه القوام. فهو إذن (٢) أيضا (٣) متقدم بالذات على المحسوسات. وليس الشكل كذلك ، فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسما متناهيا موجودا (٤) وحملها سطحا متناهيا. فإن الحدود (٥) تجب للمقدار من جهة استكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل موجودا إلا في المادة ولا علة أولية لخروج المادة إلى الفعل.

وأما المقدار بالمعنى الآخر فإن فيه نظرا من جهة وجوده ، ونظرا من جهة عوارضه. فأما النظر في أن وجوده أي أنحاء الوجود هو (٦) ، ومن (٧) أي أقسام الموجود (٨) ، فليس هو بحثا أيضا عن معنى متعلق (٩) بالمادة.

فأما (١٠) موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنه خارج عن المحسوسات (١١).

فبين (١٢) أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات ، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلا الموجود. فإن بعضها جواهر ، وبعضا كميات ، وبعضها مقولات أخرى ، وليس يمكن أن يعمهما معنى محقق إلا حقيقة معنى الوجود (١٣).

وكذلك قد يوجد أيضا أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس ، وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولى الكلام فيها مثل الواحد

__________________

(١) يستفيد : مستفيد ب ، ج ، ص ، م

(٢) إذن : ساقطة من م

(٣) أيضا : ساقطة من ب ، ج ، ص

(٤) موجودا : ساقطة من م

(٥) الحدود : + يعنى نهايات الأجسام التي ج ، ط

(٦) هو : ساقطة من ب ، ص ، م

(٧) ومن : من ج ، ص

(٨) الموجود : الوجود ب ، ج ، م

(٩) متعلق : يتعلق ب ، ج ؛ ساقطة من م

(١٠) فأما : وأما ج

(١١) المحسوسات : + كلها م

(١٢) فبين ...... بالمحسوسات : ساقطة من م

(١٣) الوجود : الموجود ب ، م.

١٢

بما هو واحد ، والكثير بما هو كثير ، والموافق والمخالف ، والضد وغير ذلك ، فبعضها يستعملها استعمالا فقط ، وبعضها إنما (١) يأخذ حدودها ، ولا يتكلم في نحو وجودها. وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية ، وليست من الأمور التي يكون وجودها إلا وجود الصفات للذوات ولا أيضا هي من الصفات التي تكون لكل شيء. فيكون كل واحد منها مشتركا لكل شيء ولا يجوز أن يختص (٢) أيضا مقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض (٣) شيء (٤) إلا الموجود بما هو موجود (٥).

فظاهر (٦) لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه ، وأنه (٧) يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما (٨) قلنا. ولأنه غني عن تعلم ماهيته وعن إثباته ، حتى يحتاج إلى أن يتكفل علم غير هذا العلم بإيضاح (٩) الحال فيه لاستحالة أن يكون إثبات الموضوع وتحقيق ماهيته في العلم (١٠) الذي هو موضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود ، ومطالبة الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غير شرط.

وبعض هذه أمور (١١) هي له كالأنواع : كالجوهر والكم والكيف ، فإنه ليس يحتاج الموجود في أن ينقسم إليها ، إلى انقسام قبلها ، حاجة الجوهر إلى انقسامات ، حتى يلزمه الانقسام إلى الإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة ، مثل الواحد والكثير ، والقوة والفعل ، والكلي والجزئي ، والممكن والواجب ، فإنه ليس يحتاج الموجود في قبول هذه الأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعيا أو تعليميا أو خلقيا أو غير ذلك.

__________________

(١) إنما : + هى ج ، ص ، ط

(٢) يخص : يخصص ص

(٣) عوارض : + مخصوصة ط

(٤) شىء : بشيء ج ، ط

(٥) موجود : الموجود ط

(٦) فظاهر : فظهر ج ، ص ، طا

(٧) وأنه : فإنه ج

(٨) لما : كما ط

(٩) بإيضاح : إيضاح م

(١٠) فى العلم : للعلم ب ، م

(١١) أمور : الأمور ج ، ص ، ط.

١٣

ولقائل أن يقول ، إنه إذا جعل الموجود هو الموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثبات مبادئ الموجودات فيه ، لأن البحث في كل علم هو عن لواحق (١) موضوعه لا عن مبادئه. فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئ أيضا (٢) هو بحث عن عوارض (٣) هذا الموضوع ، لأن الموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولا ممتنع فيه ، بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجود أمر عارض له ، ومن العوارض (٤) الخاصة (٥) به. لأنه ليس شيء (٦) أعم من الموجود ، فيلحق غيره لحوقا أوليا. ولا أيضا يحتاج الموجود إلى أن يصير طبيعيا أو تعليميا أو شيئا آخر (٧) حتى يعرض له أن يكون مبدأ. ثم المبدأ ليس مبدأ للموجود (٨) كله ، ولو كان مبدأ للموجود كله لكان مبدأ لنفسه ، بل الموجود كله لا مبدأ له ، إنما المبدأ مبدأ للموجود المعلول.

فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجود مطلقا ، بل إنما يبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية ، فإنها وإن كانت لا تبرهن على (٩) وجود مبادئها المشتركة ، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كل واحد منها ، فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها (١٠).

ويلزم هذا العلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها : ما (١١) يبحث عن الأسباب القصوى ، فإنها الأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده ، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كل موجود معلول بما هو موجود معلول (١٢) لا بما هو موجود متحرك فقط (١٣) أو متكمم فقط. ومنها ما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها ما يبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأن مبادئ كل علم

__________________

(١) لواحق : لوازم ب ، م

(٢) أيضا : ساقطة من ب

(٣) عوارض : لواحق ص ، ط

(٤) العوارض : اللواحق ب ، ج ، ص ، م

(٥) الخاصة : الخاصية ج

(٦) شىء : ساقطة من م.

(٧) شيئا اخر : أشياء أخر ط

(٨) للموجود ... للموجود : للوجود كله ولو كان مبدأ للوجود م

(٩) على : ساقطة من م. (١٠) فيها : فيه ج ، ص ، ط ، م

(١١) ما : ساقطة من م. (١٢) بما هو موجود معلول : بما هو وجود معلول م

(١٣) متحرك فقط : متحرك ب.

١٤

أخص هي مسائل في العلم الأعلى ، مثل مبادئ الطب في الطبيعي ، والمساحي في الهندسة ، فيعرض إذن (١) في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئية التي تبحث عن أحوال الجزئيات (٢) الموجودة (٣). فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود ، والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع ، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي فيسلمه إليه ، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه ، وكذلك في غير ذلك. وما قبل ذلك التخصيص كالمبدإ (٤) ، فنبحث عنه ونقرر حاله. فتكون إذن مسائل هذا العلم في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول ، وبعضها في عوارض الموجود ، وبعضها في مبادئ العلوم الجزئية.

فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى ، لأنه العلم بأول الأمور في الوجود ، وهو (٥) العلة الأولى وأول الأمور في العموم ، وهو الوجود والوحدة. وهو أيضا الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم ، فإنها أفضل (٦) علم أي اليقين ، بأفضل المعلوم أي بالله تعالى وبالأسباب (٧) من بعده. وهو أيضا معرفة الأسباب القصوى للكل. وهو أيضا المعرفة بالله (٨) ، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة (٩) للمادة في الحد والوجود. إذ الموجود بما هو موجود ومبادئه وعوارضه ليس شيء منها ، كما اتضح ، إلا متقدم الوجود (١٠) على المادة وغير متعلق الوجود بوجودها. وإن بحث في هذا العلم عما لا يتقدم المادة ، فإنما يبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاج الوجود إلى المادة ، بل الأمور المبحوث عنها فيه هي على (١١) أقسام أربعة : فبعضها بريئة عن المادة وعلائق

__________________

(١) إذن : ساقطة من ب ، ص ، م

(٢) الجزئيات : جزئيات ص ، م

(٣) الموجودة : الموجود ص ، م

(٤) كالمبدإ : وكالمبدإ ب ، م ؛ فكالمبدإ ط

(٥) الوجود وهو : الموجود وهو ط

(٦) علم ... أفضل : ساقطة من م

(٧) وبالأسباب : والأسباب م

(٨) بالله : + تعالى ج

(٩) المفارقة : والمفارقة ط

(١٠) متقدم الوجود : متقدما ص ، م

(١١) على : ساقطة من ج ، ص ، ط ، م.

١٥

المادة (١) أصلا. وبعضها يخالط المادة ، ولكن مخالطة السبب المقوم المتقدم وليست المادة بمقومة له. وبعضها قد يوجد في المادة وقد يوجد لا في مادة مثل العلية والوحدة ، فيكون الذي لها بالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحقق إلى وجود المادة ، وتشترك هذه الجملة أيضا في أنها غير مادية الوجود أي غير مستفادة الوجود من المادة. وبعضها أمور مادية ، كالحركة والسكون ، ولكن ليس المبحوث عنه في هذا العلم حالها في المادة ، بل نحو الموجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم مع الأقسام الأخرى اشتركت في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير (٢) قائم الوجود بالمادة.

وكما أن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة ، لكن نحو النظر والبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة ، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحث عنه بالمادة عن أن يكون البحث رياضيا ، كذلك الحال هاهنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض في هذا العلم (٣) أي شيء هو.

وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة (٤) من وجه ، ويخالفهما من وجه ، ويخالف كل واحد منهما من وجه (٥). أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذا العلم لا يتكلم فيه صاحب علم جزئي ، ويتكلم فيه الجدلي والسوفسطائي. وأما المخالفة فلأن الفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلوم الجزئية وذانك (٦) يتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة بالقوة ، لأن الكلام الجدلي يفيد الظن لا اليقين كما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة (٧) السوفسطائية (٨) فبالإرادة ، وذلك لأن هذا يريد الحق نفسه ، وذلك يريد أن يظن به أنه حكيم يقول الحق وإن لم يكن حكيما.

__________________

(١) مادة : المادة ط

(٢) غير : عن م

(٣) فى هذا العلم : هذا العلم ب ؛ ساقطة من ط

(٤) والسفسطة : والسوفسطائية ج ؛ والسوفسطيقية ص ، م ؛ والسوفسطية ط

(٥) « ويخالف .... وجه » : ساقطة من م

(٦) وذانك : وذينك ص ، ط ، م

(٧) مخالفة : مخالفته ب ، ج ، ص ، ط

(٨) السوفسطائية : للسوفسطيقية ب ، السوفسطية ط ؛ السوفسطيقية م.

١٦

[ الفصل الثالث ]

( ج ) فصل

في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه

وأما منفعة هذا العلم ، فيجب أن تكون قد وقفت في العلوم التي قبل هذا على أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو ، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو ، وأن النافع هو السبب الموصل بذاته إلى الخير ، والمنفعة هي المعنى الذي يوصل به من الشر (١) إلى الخير.

وإذ قد (٢) تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك في منفعة واحدة وهي : تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه (٣) إذا (٤) فتش في رءوس الكتب عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجها إلى هذا المعنى ، بل إلى معونة بعضها في بعض ، حتى تكون منفعة علم ما هي (٥) معنى يتوصل (٦) منه إلى تحقق علم (٧) آخر غيره.

وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد (٨) يقال قولا مطلقا (٩) ، وقد يقال قولا مخصصا. فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصلا إلى تحقيق (١٠) علم آخر كيف كان ، وأما المخصص فأن يكون النافع موصلا إلى ما هو أجل منه ، وهو كالغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس. فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان (١١) لهذا العلم منفعة (١٢).

__________________

(١) الشر : الشىء طا

(٢) وإذ قد : وإذا ج ، م

(٣) ولكنه : لكنه ص ، م

(٤) اذا : انه اذا ج

(٥) هى : هو ب ، ص ، ط

(٦) يتوصل : يوصل م

(٧) تحقق علم : تحقيق معنى ص

(٨) فقد : قد م

(٩) مطلقا : + وقد يقال قولا مطلقا ط

(١٠) تحقيق : تحقق م

(١١) كان : كانت ط. (١٢) المطلق ...... منفعة : ساقطة من م

١٧

وإذا (١) أخذنا المنفعة بالمعنى (٢) المخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع في علم غيره ، بل سائر العلوم تنفع فيه.

لكنا إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام : قسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى أجل منه ، وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى مساو له ، وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى دونه (٣) ، وهو أن يفيد في كمال دون ذاته. وهذا إذا طلب له اسم خاص كان الأولى به الإفاضة ، والإفادة ، والعناية ، والرئاسة ، أو شيء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة في هذا الباب عثرت (٤) عليه.

والمنفعة المخصصة (٥) قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التي تحصل من الأشرف في الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم ، والمخدوم أيضا ينفع الخادم (٦) ، أعني المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجهه (٧) الخاص نوعا آخر ، فمنفعة هذا العلم الذي (٨) بينا وجهها هي إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية ، والتحقق (٩) لماهية الأمور المشترك (١٠) فيها ، وإن لم تكن مبادئ.

فهذا إذن منفعة الرئيس للمرءوس ، والمخدوم للخادم ، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشيء الذي هو المقصود معرفته في هذا العلم إلى الأشياء المقصود (١١) معرفتها في تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك ، فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك.

__________________

(١) وإذا .. بالمعنى : ساقطة من م

(٢) بالمعنى : بالوجه ب ، ص ، ط

(٣) أجل منه ... إلى معنى دونه : ساقطة من م

(٤) أجل منه ... إلى معنى دونه : ساقطة من م

(٥) عثرت : عثرب ، ج ، ص ، ط ، م

(٦) المخصصة : المخصوصة ج

(٧) ووجهه : وجهة م

(٨) الذي : التي ب ، ص ، ط

(٩) والتحقق : والتحقيق ج ، ص ، ط

(١٠) المشترك : المشتركة ج ؛ المشتركة ص ، ط ، طا ، م

(١١) المقصود : المقصودة ج ، ص ، ط.

١٨

وأما مرتبة هذا العلم فهي (١) أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية.

أما الطبيعية ، فلأن كثيرا من الأمور المسلمة في هذا مما تبين (٢) في علم (٣) الطبيعي مثل : الكون ، والفساد ، والتغير ، والمكان ، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك ، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول ، وغير ذلك.

وأما الرياضية ، فلأن الغرض الأقصى في هذا العلم وهو (٤) معرفة تدبير الباري تعالى ، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها ، ومعرفة النظام في ترتيب الأفلاك ، ليس (٥) يمكن أن يتوصل إلا بعلم الهيئة ، وعلم الهيئة لا يتوصل إليه إلا بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة (٦) فهي نوافع غير ضرورية في هذا العلم.

إلا أن لسائل أن يسأل فيقول : إنه إذا كانت المبادئ في علم (٧) الطبيعة والتعاليم إنما تبرهن في هذا العلم وكانت (٨) مسائل العلمين تبرهن بالمبادئ ، وكانت مسائل ذينك العلمين تصير مبادئ لهذا العلم ، كان ذلك بيانا دوريا ويصير آخر الأمر بيانا للشيء من نفسه ، والذي يجب أن يقال في حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح في كتاب البرهان. وإنما نورد منه مقدار الكفاية في هذا الموضع فنقول :

إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند في براهينها إليه بفعل أو بقوة ، بل ربما كان المبدأ مأخوذا في (٩) براهين بعض هذه (١٠) المسائل ، ثم قد يجوز أن تكون في العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفا البتة ، بل إنما

__________________

(١) فهى : فهو ب ، ج ، ط ، م

(٢) تبين : يتبين ص ، م

(٣) علم : العلم ص ، م

(٤) وهو : هو ج ؛ هو هو ط

(٥) ليس : فليس ج ؛ وليس ص ، ط

(٦) والسياسة :

والسياسية ح ، ط

(٧) علم : العلم ج

(٨) وكانت : وقد كانت ط

(٩) فى : + جميع ط

(١٠) هذه : ساقطة من ب.

١٩

تستعمل المقدمات التي لا برهان (١) عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم مبدأ بالحقيقة إذا كان يفيد أخذه اليقين (٢) المكتسب من العلة ، وأما إذا كان ليس يفيد العلة ، فإنما يقال له مبدأ العلم على نحو آخر. وبالحري أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ ، من جهة أن الحس بما هو حس يفيد الوجود فقط.

فقد ارتفع إذن الشك ، فإن المبدأ الطبيعي (٣) يجوز أن يكون بينا بنفسه ، ويجوز أن يكون بيانه في الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به فيها (٤) بعد ، ولكن (٥) إنما تتبين به فيها مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة في العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له في إنتاجه من ذلك المبدأ ، بل له مقدمة (٦) أخرى.

وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعي أو الرياضي أفادنا برهان « إن » وإن (٧) لم يفدنا فيه برهان « اللم » ثم (٨) يفيدنا هذا العلم فيه برهان « لم » خصوصا (٩) في العلل الغائية البعيدة.

فقد (١٠) اتضح أنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التي في العلوم الطبيعية ليس بيانه من (١١) مبادئ تتبين في هذا العلم ، بل من مبادئ بينة بنفسها ، وإما أن يكون بيانه من مبادئ هي مسائل في هذا العلم ، لكن (١٢) ليس تعود فتصير مبادئ لتلك المسائل لعينها بل لمسائل أخرى ، وإما أن تكون تلك المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على وجود ما يراد أن نبين في هذا العلم لميته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه لم يكن بيان دور البتة ، حتى يكون بيانا يرجع إلى أخذ الشيء في بيان نفسه.

__________________

(١) برهان : براهين م

(٢) اليقين : باليقين ص ؛ ليغير ط

(٣) الطبيعى : للطبيعى م

(٤) فيها : فيما ج ، ص ، ط ،

(٥) ولكن : لكن م

(٦) له مقدمة : بمقدمة ص ؛ لمقدمة م

(٧) وإن : ساقطة من م

(٨) ثم : + لم م

(٩) خصوصا : وخصوصا ج ، ص ، ط ، م

(١٠) فقد : وقد ج ، ط

(١١) من : فى ج ، ط ، طا. (١٢) لكن : ولكن ص.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أصفراء لا أنسى هواك ولا ودّي

ولا ما مضى(١)

بيني وبينك من عهد

لقد كان ما بيني زمانا وبينها

كما كان بين المسك والعنبر الورد

أي كما كان بين طيب المسك والعنبر.

وكقوله:

أصفراء كان الودّ منك مباحا

ليالي كان الهجر منك مزاحا

وكان جواري الحي إذ كنت فيهم

قباحا، فلمّا غبت صرن ملاحا

وقد روي:

* ملاحا فلما غبت صرن قباحا*

وقوله: (قباحا فلما غبت) يشبه قول السيد بن محمد الحميري.

وإذا حضرن مع الملاح بمجلس

أبصرتهنّ - وما قبحن - قباحا

فأما قوله: (من البيض لم تسرح سواما) فإنه لا يكون مناقضا لقوله (صفراء)، وإن أراد بالصفرة لونها، لأن البياض هاهنا ليس بعبارة عن اللون؛ وإنما هو عبارة عن نقاء العرض وسلامته من الأدناس؛ والعرب لا تكاد تستعمل بيضاء(٢) إلا في هذا المعنى دون اللون، لأن البياض عندهم البرص، ويقولون في الأبيض الأحمر، ومنه قول الشاعر:

جاءت به بيضاء تحمله

من عبد شمس صلتة الخدّ

ومثله (بيض الوجوه).

فأما قول بشار في القطعة الثانية: (صفراء مثل الخيزرانة) فإنه يحتمل ما تقدّم من الوجوه، وإن كان اللون الحقيقي أخصّ لقوله: (كالخيزرانة) ؛ لأن الخيزران يضرب إلى الصّفرة.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري - وكان).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (البيضاء)، ومن نسخة أخرى: (البياض).

١٤١

ويحتمل أيضا أن يريد (بصفراء) غير اللون الثابت، ويكون قوله: (كالخيزرانة) أنها مثلها في التثني والتعطف.

ولقد أحسن جران العود في قوله في المعنى الّذي تقدم:

كأنّ سبيكة صفراء صبّت

عليها ثمّ ليث بها الإزار(١)

برود العارضين كأنّ فاها

بعيد النّوم مسك مستثار

____________________

(١) رواية البيتين في ديوانه ٤٥ - ٤٦، والثاني مقدم على الأول:

برود العارضين كأنّ فاها

بعيد النّوم عاتقة عقار

كأنّ سبيكة صفراء شيفت

عليها، ثمّ ليث بها الخمار

١٤٢

مجلس آخر

[٦٢]

تأويل آية :( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ؛ [البقرة: ١٥].

فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى؛ وهو مما لا يجوز في الحقيقة عليه؟ وكيف خبّر(١) بأنهم في الطّغيان والعمه(١) وذلك بخلاف مذهبكم؟

الجواب، قلنا: في قوله تعالى :( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) وجوه:

أولها أن يكون معنى الاستهزاء الّذي أضافه تعالى إلى نفسه تجهيله لهم وتخطئته إياهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال؛ وسمّى الله تعالى ذلك استهزاء مجازا وتشبيها(٢) ؛ كما يقول القائل: إن فلانا ليستهزأ به منذ اليوم، إذا فعل فعلا عابه الناس به، وخطّئوه فيه(٣) فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل، وإزراؤهم على فاعله مقام الاستهزاء به؛ وإنما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما في المعنى؛ لأن الاستهزاء الحقيقي هو ما يقصد به إلى عيب المستهزأ به، والإزراء عليه، وإذا تضمنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا المعنى جاز أن يجري عليه اسم الاستهزاء؛ ويشهد بذلك قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها ) ؛ [النساء: ١٤٠]؛ ونحن نعلم أن الآيات لا يصحّ عليها الاستهزاء على الحقيقة ولا السخرية؛ وإنما المعنى: إذا سمعتم آيات الله يكفر بها

____________________

(١ - ١) ف: (بأنه يمدهم في الطغيان والعمه).

(٢) م: (واتساعا).

(٣) ساقطة من م.

١٤٣

ويزرى عليها؛ والعرب قد تقيم الشيء مقام ما قاربه في معناه، فتجري اسمه عليه؛ قال الشاعر:

كم أناس في نعيم عمّروا

في ذرى ملك تعالى فبسق

سكت الدّهر زمانا عنهم

ثمّ أبكاهم دما حين نطق

والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر؛ وإنما شبّه تركه الحال على ما هى(١)   عليه بالسكوت، وشبه تغييره لها بالنطق. وأنشد الفراء:

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

ومثل ذلك في الاستعارة لتقارب المعنى قوله:

سألتني بأناس هلكوا

شرب الدّهر عليهم وأكل(٢)

وإنما أراد بالأكل والشرب الإفساد لهم، والتغيير لأحوالهم، ومنه قول الآخر:

يقرّ بعيني أن أرى باب دارها

وإن كان باب الدّار يحسبني جلدا

والجواب الثاني أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه عز وجلّ أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون ولا يشعرون.

ويروى عن ابن عباس أنه قال في معنى استدراجه إياهم: إنهم كلّما أحدثوا خطيئة جدّد لهم نعمة؛ وإنما سمّى هذا الفعل استهزاء من حيث غيّب عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم؛ كما أن المستهزئ منّا، المخادع لغيره يظهر أمرا؛ ويضمر غيره.

فإن قيل: على هذا الجواب فالمسألة قائمة، وأي وجه لأن يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك؟

قلنا: ليس الهلاك هاهنا هو الكفر، وما أشبهه من المعاصي التي يستحقّ بها العقاب؛ وإنما يستدرجهم إلى الضرر والعقاب الّذي استحقوه بما تقدّم من كفرهم؛ وللّه تعالى أن يعاقب

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): ما هو عليه).

(٢) اللسان (أكل)، ونسبه إلى النابغة الجعدي. ومن نسخة بحاشية الأصل، ف: (سألتني عن أناس).

١٤٤

المستحق بما يشاء أي وقت شاء؛ فكأنه تعالى لمّا كفروا وبدّلوا نعمة الله، وعاندوا رسله لم يغيّر نعمه عليهم في الدنيا؛ بل أبقاها لتكون - متى نزعها عنهم، وأبدلهم بها نقما - الحسرة منهم أعظم، والضرر عليهم أكثر.

فإن قيل: فهذا يؤدّي إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهره ظاهر النعمة على الكفار مما لا يستحق الله به الشكر عليهم.

قلنا: ليس يمتنع هذا فيمن استحقّ العقاب؛ وإنما المنكر أن تكون النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزمه مخالفنا، ألا ترى أن الحياة وما جرى مجراها من حفظ التركيب، والصحة لا تعدّ على أهل النار نعمة؛ وإن كانت على أهل الجنة نعما من حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم.

والجواب الثالث أن يكون معنى استهزائه بهم أنّه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم؛ من نصرة ومناكحة وموارثة ومدافنة، وغير ذلك من الأحكام؛ وإن كان تعالى معدّا لهم في الآخرة أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق، واستسرّوا به من الكفر؛ فكأنه تعالى قال: إن كنتم أيها المنافقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة، وتبطنونه من النفاق، وتطلعون عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنون أنكم مستهزءون؛ فالله تعالى هو المستهزئ بكم من حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا؛ حتى ظننتم أنّ لكم ما لهم، ثمّ ميّز بينكم في الآخرة ودار الجزاء؛ من حيث أثاب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم، وعاقب المنافقين. وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثاني؛ وإن كان بينهما خلاف من بعض الوجوه.

والجواب الرابع أن يكون معنى ذلك أن الله هو الّذي يردّ استهزاءكم ومكركم عليكم؛ وأنّ ضرر ما فعلتموه لم يتعدكم؛ ولم يحط بسواكم؛ ونظير ذلك قول القائل: إن فلانا أراد أن يخدعني فخدعته؛ وقصد إلى أن يمكر بي فمكرت به؛ والمعنى أنّ ضرر خداعه ومكره

١٤٥

عاد إليه ولم يضررني(١) به.

والجواب الخامس أن يكون المعنى أنه يجازيهم على استهزائهم؛ فسمّى الجزاء على الذنب باسم الذنب؛ والعرب تسمّي الجزاء على الفعل باسمه؛ قال الله تعالى:( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ؛ [الشورى: ٤٠]، وقال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) ؛ [البقرة: ١٩٤]، وقال:( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ؛ [النحل: ١٢٦] والمبتدأ ليس بعقوبة، وقال الشاعر(٢) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن شأن العرب أن تسمّي الشيء باسم ما يقاربه ويصاحبه، ويشتد اختصاصه وتعلّقه به؛ إذا انكشف المعنى وأمن الإبهام؛ وربما غلّبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوة التعلّق بينهما، وشدة الاختصاص فيهما؛ فمثال الأول قولهم للبعير الّذي يحمل المزادة:

راوية، وللمزادة المحمولة على البعير رواية، فسموا البعير باسم ما يحمل عليه؛ قال الشاعر(٣) :

 مشي الرّوايا بالمزاد الأثقل

أراد بالروايا الإبل؛ ومن ذلك قولهم: صرعته الكأس واستلبت(٤) عقله، قال الشاعر:

وما زالت الكاس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل

والكأس هي ظرف الشراب، والفعل الّذي أضافوه إليها إنما هو مضاف إلى الشراب الّذي يحلّ الكأس إلاّ أن(٥) الفراء لا يقول الكأس إلا بما فيه(٥) من الشراب؛ وكأنّ الإناء

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة: (لم يضرني).

(٢) هو عمرو بن كلثوم، والبيت من الملعقة: ٢٣٨ - بشرح التبريزي.

(٣) هو أبو النجم العجلي الراجز؛ والبيت من أرجوزته المشهورة التي أولها:

* الحمد للّه الوهوب المجزل*

وهي ضمن الطرائف الأدبية ص ٥٥ - ٧١؛ وقبله:

* تمشي من الردّة مشي الحفّل*

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فسلبت).

(٥ - ٥) حاشية الأصل: (نسخة س:

الفراء يقول: الكأس الإناء بما فيه).

١٤٦

الفارغ لا يسمى كأسا، وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك إلى الكأس على وجه الحقيقة؛ لأن الكأس على هذا القول اسم للإناء وما حلّه من الشراب.

ومثال الوجه الثاني ما ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس؛ قال الشاعر:

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطوالع(١)

أراد: لنا شمسها وقمرها؛ فغلّب.

ومنه قول الآخر:

فقولا لأهل المكّتين: تحاشدوا

وسيروا إلى آطام يثرب والنّخل

أراد بالمكّتين: مكة والمدينة، فغلّب.

وقال الآخر:

فبصرة الأزد منّا والعراق لنا

والموصلان، ومنّا مصر والحرم

أراد بالموصلين الموصل والجزيرة.

وقال الآخر:

نحن سبينا أمّكم مقربا(٢)

يوم صبحنا الحيرتين المنون

أراد الحيرة والكوفة، وقال آخر:

إذا اجتمع العمران: عمرو بن عامر

وبدر بن عمر وخلت ذبيان جوّعا(٣)

وألقوا مقاليد الأمور إليهم

جميعا، وكانوا كارهين وطوّعا

أراد بالعمرين: رجلين؛ يقال لأحدهما عمرو، وللآخر بدر؛ وقد فسره الشاعر في البيت.

ومثله:

____________________

(١) البيت للفرزدق، ديوانه: ٥١٩.

(٢) المقرب: المرأة تدنو ولادتها.

(٣) البيتان في المخصص ١٣: ٢٢٧

١٤٧

جزاني الزّهدمان جزاء سوء

وكنت المرء يجزى بالكرامة(١)

أراد بالزّهدمين رجلين؛ يقال لأحدهما زهدم، وللآخر كردم، فغلّب.

وكلّ الّذي ذكرناه يقوّي هذا الجواب من جواز التسمية للجزاء على الذنب باسمه، أو تغليبه عليه، للمقاربة والاختصاص التام بين الذنب والجزاء عليه.

والجواب السادس ما روي عن ابن عباس قال: يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة، فيقبلون إليه مسرعين؛ حتى إذا انتهوا إليه سدّ عليهم، فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الأبواب وقد أغلقت دونهم؛ ولذلك قال عز وجل:( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ ) ؛ [المطففين: ٣٤ - ٣٥].

فإن قيل: وأي فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟

قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ في نفوسهم، وأعظم في مكروههم؛ وهو ضرب من العقاب الّذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك؛ ثم حيل بينه وبين الفرج وردّ إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه.

فإن قيل: فعلى هذا الجواب، ما الفعل الّذي هو الاستهزاء؟

قلنا: في ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء؛ من حيث كان إظهارا لما المراد بخلافه؛ وإن لم يكن فيه من معنى الاستهزاء ما يقتضي قبحه من اللهو والعبث وما جرى مجرى ذلك.

والجواب السابع أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة؛ لكنّه سماه بذلك ليزدوج اللفظ ويخف على اللسان؛ وللعرب في ذلك عادة معروفة في كلامها؛ والشواهد عليه مذكورة مشهورة.

____________________

(١) اللسان (زهدم) والمخصص ١٣: ٢٢٧، وهو لقيس بن زهير العبسي.

١٤٨

وهذه الوجوه التي ذكرناها في الآية يمكن أن تذكر في قوله تعالى:( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ ) ؛ [الأنفال: ٣٠]؛ وفي قوله تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ الله وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ؛ [النساء: ١٤٢] فليتأمل ذلك.

فأما قوله تعالى:( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) فيحتمل وجهين:

أحدهما أن يريد: أني أملي لهم ليؤمنوا ويطيعوا؛ وهم مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمههم.

والوجه الآخر أن يريد ب( يَمُدُّهُمْ ) أنه يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم، ويمنعها الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم، وتنويره لقلوبهم؛ وكل هذا واضح بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإني لأستحسن لبعض الأعراب قوله:

خليلي هل يشفي النّفوس من الجوى

بدوّ ذوى الأوطان، لا بل يشوقها!(١)

وتزداد في قرب إليها صبابة(٢)

ويبعد من فرط اشتياق طريقها

وما ينفع الحرّان ذا اللّوح(٣) أن يرى

حياض القرى مملوءة لا يذوقها

ولآخر في تذكر الأوطان والحنين إليها:

ألا قل لدار بين أكثبة الحمى

وذات الغضا: جادت عليك الهواضب!

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف (من نسخة): (بدو ذرى الأوطان). والبدو: الظهور، من بدا يبدو إذا ظهر.

(٢) في حاشية الأصل: (إليها؛ ضمير الأوطان أو المرأة)، وفيها أيضا: (إذا قلت صبابة [بالنصب] كان (تزداد متعديا)، أي تزداد أنت، وإذا قلت: (صبابة) [بالرفع] (فتزداد) لازم.

(٣) اللوح: العطش.

١٤٩

أجدّك لا آتيك إلاّ تقلّبت(١)

دموع أضاعت ما حفظت سواكب

ديار تناسمت(٢) الهواء بجوّها

وطاوعني فيها الهوى والحبائب

ليالي؛ لا الهجران محتكم بها

على وصل من أهوى، ولا الظنّ كاذب

وأنشد أبو نصر صاحب الأصمعي لأعرابي:

ألا ليت شعري! هل أبيتنّ ليلة

بأسناد(٣) نجد، وهي خضر متونها!

وهل أشربنّ الدّهر من ماء مزنة

بحرّة ليلى حيث فاض معينها!(٤)

بلاد بها كنّا نحلّ، فأصبحت

خلاء ترعّاها مع الأدم عينها

تفيّأت فيها بالشّباب وبالصّبا

تميل بما أهوى عليّ غصونها

وأنشد الأصمعي لصدقة بن نافع الغنوي:

ألا ليت شعري هل تحنّنّ ناقتي(٥)

بيضاء نجد حيث كان مسيرها!(٦)

فتلك بلاد حبّب الله أهلها

إليك، وإن لم يعط نصفا أميرها(٧)

بلاد بها أنضيت راحلة الصّبا

ولانت لنا أيّامها وشهورها

فقدنا بها الهمّ المكدّر شربه

ودار علينا بالنّعيم سرورها

وأنشد أبو محلّم لسوّار بن المضرّب:

سقى الله اليمامة من بلاد

نوافحها كأرواح الغواني

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (تفتت).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تبادرت).

(٣) الأسناد: جمع سند؛ وهو الجبل، ومن نسخة بحاشية ف: (بأكناف).

(٤) حرة ليلى: موضع لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (حين فاض معينها).

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (هل تخبن ناقتي)، أي تسرعن.

(٦) بيضاء نجد: موضع.

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* إليك وإن لم يعط نصفا أسيرها*

١٥٠

وجوّ زاهر للرّيح فيه

نسيم لا يروع التّرب، وان(١)

بها سقت الشّباب إلى مشيب

يقبّح عندنا حسن الزّمان

وأنشد إبراهيم بن إسحاق الموصلي:

ألا ياحبّذا جنبات سلمى

وجاد بأرضها جون السّحاب!

خلعت بها العذار ونلت فيها

مناي بطاعة أو باغتصاب

أسوم بباطلي طلبات لهوي

ويعذرني بها عصر الشّباب

فكلّ هؤلاء على ما ترى قد أفصحوا بأن سبب حنينهم إلى الأوطان ما لبسوه فيها من ثوب الشباب، واستظلوه من ظلّه، وأنضوه من رواحله، وأنه كان يعذرهم ويحسن قبائحهم.

فعلى أي شيء يغلو الناس في قول ابن الرومي:

وحبّب أوطان الرّجال إليهم

مآرب قضّاها الشّباب هنالكا(٢)

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم

عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا

ويزعمون أنه سبق إلى ما لم يسبق إليه، وكشف عن هذا المعنى مستورا، ووسم غفلا! وقوله وإن كان جيد المعنى سليم اللفظ، فلم يزد فيه على من تقدم ولا أبدع، بل اتبع؛ ولكن الجيد إذا ورد ممّن يعهد منه الرديء كثر استحسانه؛ وزاد استطرافه.

ولقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى:

فسقى الغضى والنّازلية وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب(٣)

وقصار أيّام به سرقت لنا

حسناتها من كاشح ورقيب

خضر تساقطها الصّبا فكأنّها

ورق يساقطه اهراز قضيب

____________________

(١) حاشية الأصل: (قوله: (لا يروع الترب)، من أحسن الكلام؛ أي لا يرفع فيغير؛ فكأن هبوبها يسالم التراب ولا يخوفه بأن يرفعه أو يحركه).

(٢) ديوانه الورقة ٢٠٢.

(٣) ديوانه ١: ٥٧.

١٥١

كانت فنون بطالة فتقطّعت

عن هجر غانية ووصل مشيب

وأحسن في قوله:

سقى الله أخلافا من الدّهر رطبة

سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق(١)

ليال سرقناها من الدّهر بعد ما

أضاء بإصباح من الشّيب مفرق

تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى

بماء الرّبا من بات بالماء يشرق

ولأبي تمام في هذا المعنى ما لا يقصر عن إحسان، وهو:

سلام ترجف الأحشاء منه

على الحسن بن وهب والعراق(٢)

على البلد الحبيب إلى غورا

ونجدا، والأخ العذب المذاق(٣)

ليالي نحن في وسنات عيش

كأنّ الدّهر عنّا في وثاق(٤)

وأيّام له ولنا لدان

غنينا في حواشيها الرّفاق

كأنّ العهد عن عفر لدينا

وإن كان التّلاقي عن تلاق(٥)

____________________

(١) ديوانه ٢: ١٣٨، وفي ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (أبرق الجسون).

(٢) ديوانه ٢١٤ - ٢١٥.

(٣) من نسخة بحاشية الأصل، ت:

* ونجدا والفتى الحلو المذاق*

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: في شعره:

سنبكي بعده غفلات عيش

كأنّ الدّهر عنها في وثاق

وأياما له ولنا لدانا

عرينا من حواشيها الرقاق

وفي ف، وحاشية الأصل من نسخة: (له ولنا لذاذ).

(٥) في حاشية الأصل: (لقتيبة عن عفر، أي بعد خمسة عشرة يوما؛ حتى جاوز الليالي العفر، والعرب تسمي الليالي البيض عفرا لبياضها).

١٥٢

مجلس آخر

[٦٣]

تأويل آية :( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) ؛ [البقرة: ٣٦]:

فقال: كيف خاطب آدم وحواء عليهما السلام بخطاب الجمع وهما اثنان؟ وكيف نسب بينهما العداوة؟ وأي عداوة كانت بينهما؟

الجواب، قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون الخطاب متوجّها إلى آدم وحواء وذرّيتهما، لأن الوالدين يدلان على الذرّية ويتعلق بهما؛ ويقوّي ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم وإسماعيل:( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا ) ؛ [البقرة: ١٢٨].

وثانيها أن يكون الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ولإبليس اللعين؛ وأن يكون الجميع مشتركين في الأمر بالهبوط؛ وليس لأحد أن يستبعد هذا الجواب من حيث لم يتقدم لإبليس ذكر في قوله تعالى:( وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ؛ [البقرة: ٣٥] لأنه وإن لم يخاطب بذلك فقد جرى ذكره في قوله تعالى:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ ) ، [البقرة: ٣٦]؛ فجائز أن يعود الخطاب على الجميع.

وثالثها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء والحية التي كانت معهما، على ما روي عن كثير من المفسرين؛ وفي هذا الوجه بعد من قبل أن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن؛ فلا بد من أن يكون قبيحا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه لم يكن هناك قول في الحقيقة ولا خطاب؛

١٥٣

وإنما كنّى تعالى عن إهباطه لهم بالقول؛ كما يقول أحدنا: قلت: فلقيت الأمير، وقلت: فضربت زيدا، وإنما يخبر عن الفعل دون القول؛ وهذا خلاف الظاهر وإن كان مستعملا.

وفي هذا الوجه بعد من وجه آخر؛ وهو أنه لم يتقدم للحية ذكر في نصّ القرآن، والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس، ولا يسبق وهم إلى تعلق الكناية بغير مكنّى عنه؛ حتى يكون ذكره كترك ذكره في البيان عن المعنى المقصود، مثل قوله تعالى:( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) ؛ [ص: ٣٢]؛( وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) ؛ [الرحمن: ٢٧] وقول الشاعر:

أماوي ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما؛ وضاق بها الصّدر(١)

فأما بحيث لا يكون الحال على هذا فالكناية عن غير مذكور قبيحة.

ورابعها أن يكون الخطاب يختصّ آدم وحواء عليهما السلام، وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب في ذلك؛ لأن التثنية أول الجمع؛ قال الله تعالى:( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) ؛ [الأنبياء: ٧٨]، أراد لحكم داود وسليمان عليهما السلام؛ وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يتأول قوله تعالى:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) ؛ [النساء: ١١] على معنى فإن كان له أخوان؛ قال الراعي:

أخليد إنّ أباك ضاف وساده

همّان باتا جنبة ودخيلا(٢)

طرقا فتلك هماهمي أقريهما

قلصا لواقح كالقسي وحولا

فعبّر بالهماهم وهي جمع عن الهمين؛ وهما اثنان.

فإن قيل: فما معنى الهبوط الّذي أمروا به؟ قلنا: أكثر المفسرين على أن الهبوط هو

____________________

(١) البيت لحاتم

(٢) جمهرة الأشعار: ٣٥٣. وفي حاشيتي الأصل، ف: (خليدة ابنته فرخم، وضافه: نزل به.

جنبه أي ناحية. ودخيلا: داخلا في الفؤاد. قال ابن الأعرابي: أراد: هما داخل القلب، وآخر قريبا من ذلك؛ كالضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه فهو دخيل؛ وإن كان بفنائهم فهو جنبة).

١٥٤

النزول من السماء إلى الأرض ، وليس في ظاهر القرآن ما يوجب ذلك؛ لأن الهبوط كما يكون النزول من علو إلى سفل فقد يراد به الحلول في المكان والنزول به؛ قال الله تعالى:( اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ) ؛ [البقرة: ٦١]، ويقول القائل من العرب: هبطنا بلد كذا وكذا، يريد حللنا، قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت

أيدي المطي بهم من راكس فلقا(١)

فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط(٢) الخروج من المكان وحلول غيره؛ ويحتمل أيضا أن يريد بالهبوط(٢) معنى غير المسافة، بل الانحطاط من منزلة إلى دونها، كما يقولون: قد هبط فلان عن منزلته، ونزل عن مكانه؛ إذا كان على رتبة فانحطّ إلى دونها.

فإن قيل: فما معنى قوله:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) ؟ قلنا: أما عداوة إبليس لآدم وذريته فمعروفة مشهورة، وأما عداوة آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته لإبليس فهي واجبة لما يجب على المؤمنين من معاداة الكفار؛ المارقين عن طاعة الله تعالى، المستحقين لمقته وعداوته، وعداوة الحية على الوجه الّذي تضمّن إدخالها في الخطاب لبني آدم معروفة؛ ولذلك يحذّرهم منها، ويجنبهم؛ فأما على الوجه الّذي يتضمّن أن الخطاب اختص آدم وحواء دون غيرهما؛ فيجب أن يحمل قوله تعالى:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) على أن المراد به الذرية؛ كأنه قال تعالى:( اهْبِطُوا ) وقد علمت من حال ذريتكم أن بعضكم يعادي بعضا؛ وعلّق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية وبين أصلها.

فإن قيل: أليس ظاهر قوله تعالى:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) يقتضي الأمر بالمعاداة، كما أنه أمر بالهبوط، وهذا يوجب أن يكون تعالى آمرا بالقبيح على وجه؛ لأن معاداة إبليس لآدم عليه السلام قبيحة، ومعاداة الكفار من ذريته للمؤمنين منهم كذلك؟

قلنا: ليس يقتضي الظاهر ما ظننتموه؛ وإنما يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة

____________________

(١) ديوانه ٣٧. راكس: موضع، والفلق: المكان المطمئن بين ربوتين؛ وهو منصوب على أنه مفعول به؛ قيل: الفلق: الصبح).

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

١٥٥

بعضهم بعضا؛ فالأمر مختص بالهبوط، والعداوة تجري مجرى الحال؛ وهذا له نظائر كثيرة في كلام العرب. ويجري مجرى هذه الآية في أن المراد بها الحال قوله تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥] وليس معنى ذلك أنه أراد كفرهم كما أراد تعذيبهم وإزهاق نفوسهم؛ بل أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، وكذلك القول في الأمر بالهبوط، وهذا بيّن.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن تمدح السادة الكرام قول الشاعر:

ويل أمّ قوم غدوا عنكم لطيّتهم

لا يكتنون غداة العلّ والنّهل

صدء السرابيل لا توكى مقانبهم

عجر البطون، ولا تطوى على الفضل

قوله: (ويل أم قوم) من الزّجر المحمود الّذي لا يقصد به الشر؛ مثل قولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه! وترّحه ما أسمحه! وقد قيل في قول جميل:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح(١)

إنه أراد هذا المعنى بعينه، وقيل: إنه دعا لها بالهرم وعلوّ السن، لأن الكبير يكثر قذى عينيه وتنهتم أسنانه. وقيل: إنه أراد بعينيها رقيبيها، وبغر أنيابها سادات قومها ووجوههم؛ والأول أشبه بطريقة القوم؛ وإن كان القول محتملا للكل.

فأما قوله:

* لا يكتنون غداة العلّ والنّهل*

فإنما أنهم ليسوا برعاة(٢) يسقون الإبل، بل لهم من يخدمهم ويكفيهم ويرعى إبلهم؛

____________________

(١) أمالي القالي ٢: ١٠٩، واللآلي ٧٣٦، والبيت من شواهد الرضي على الكافية (الخزانة ٣: ٩٣). القذى: كل ما وقع في العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوها. والغر: جمع أغر وغراء؛ وهو وصف لأسنانها بالبياض. وهو السن. والقوادح: جمع القادح؛ وهو السواد الّذي يظهر في الأسنان.

(٢) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (برعاء).

١٥٦

وإنما يكتنى يرتجز على الدّلو السقاة والرعاة؛ وفيه وجه آخر؛ قيل: إنهم يسامحون شريبهم ويؤثرونه بالسّقي قبل أموالهم؛ ولا يصولون عليه ولا يكتنون؛ وهذا من الكرم والتفضّل لا من الضعف.

وقيل أيضا: بل عنى أنهم أعزاء ذوو منعة، إذا وردت إبلهم ماء أفرج الناس لها عنه؛ لأنها قد عرفت فليس يحتاج أربابها إلى الاكتناء والتعرف.

وقد قال قوم في قوله: (يكتنون) : إنه من قوله كتنت يده تكتن إذا خشنت من العمل؛ فيقول: ليسوا أهل مهنة، فتكتن أيديهم وتخشن من العمل؛ بل لهم عبيد يكفونهم ذلك.

وقوله: (صدء السرابيل) فإنما أراد به طول حملهم للسلاح ولبسهم له. والمقانب:

هي الأوعية التي يكون فيها الزاد؛ فكأنه يقول: إذا سافروا لم يشدّوا الأوعية على ما فيها وأطعموا أهل الرفقة؛ وهذه كناية عن الإطعام وبذل الزاد مليحة. وعجر البطون: من صفات المقانب؛ أراد أنها لا توكأ، ولا تطوى على فضل الزاد.

ولبعض شعراء بني أسد، وأحسن غاية الإحسان:

رأت صرمة(١) لابني عبيد تمنّعت

من الحقّ لم تؤزل بحقّ إفالها

فقالت: ألا تغذو فصالك هكذا

فقلت: أبت ضيفانها وعيالها

فما حلبت إلاّ الثلاثة والثّني

ولا قيّلت إلاّ قريبا مقالها

حدابير من كلّ العيال كأنّها

أناضي شقر حلّ عنها جلالها

شكا هذا الشاعر امرأته، وحكى عنها أنها رأت إبلا لجيرانها لم تعط في حمالة(٢) ، ولم تعقر في حق، ولم تحلب لضيف ولا جار؛ فهي سمان. وقوله: (لم تؤزل إفالها) والإفال:

____________________

(١) الصرمة: القطعة من الإبل؛ ما بين العشرين إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين.

(٢) الحمالة: الإبل

١٥٧

الصّغار، وتؤزل؛ من الأزل وهو الضّيق في العيش والشدّة؛ فيقول: فصال هؤلاء سمان لم تلق بؤسا؛ لأن ألبان أمهاتها موفورة عليها.

وحكى عن امرأته أنها تقول له: غذّ(١) أنت فصالك هكذا؛ فقال لها: تأبى ذلك الحقوق وعيالها؛ وهم الجيران والضيفان.

ثم أخبر أنه لم يلتفت إلى لومها، وأنّ الإبل ما حلبت بعد مقالتها إلا مرتين أو ثلاث.

ولا قيّلت، من القائلة إلا بقرب البيوت حتى نحرها ووهبها.

والحدابير: المهازيل؛ وإنما يعني فصاله وهزالها لأجل أنها لا تسقى الألبان؛ وتعقر أمهاتها، وأناضي: جمع نضو(٢) ، فشبه فصاله من هزالها بأنضاء خيل شقر.

وقوله: (حدابير من كل العيال) فيه معنى حسن؛ لأنه أراد أنها من بين جميع العيال:

مهازيل؛ وهذا تأكيد، لأن سبب هزالها هو الإيثار بألبانها؛ واختصّت بالهزال من بين كلّ العيال. والعيال هاهنا هم الجيران والضيفان؛ وإنما جعلهم عيالا لكرمه وأن جوده قد ألزمه مودّتهم؛ فصاروا كأخص عياله.

ومثل ذلك قول الشاعر:

تعيّرني الحظلان أمّ محلّم(٣)

فقلت لها: لا تقذفيني بدائيا(٤)

فإنّي رأيت الضّامرين(٥) متاعهم

يذمّ ويفنى، فارضخي من وعائيا

فلم تجديني في المعيشة عاجزا

ولا حصرما خبّا شديدا وكائيا

الحظلان: الممسكون البخلاء، والحظل الإمساك. وأم محلّم: امرأته. ومعنى قوله:

____________________

(١) د، حاشية ف (من نسخة): (اغذ).

(٢) حاشية الأصل: (كأنه يجمع نضو أنضاء، ثم يجمع أنضاء أناضي؛ فهو جمع الجمع).

(٣) في اللسان: (أم مغلس).

(٤) الأبيات في اللسان (حظل) وعزاها إلى منظور الدبيري.

(٥) رواية اللسان: (الباخلين).

١٥٨

 (تعيرني الحظلان)  أي بالحظلان(١) ؛ تقول: ما لك لا تكون مثل هؤلاء الذين يحفظون أموالهم.

والضامرون أيضا: البخلاء؛ فقال لها: رأيت البخلاء يضنّون بما عندهم وهو يفنى ويبقى الذّم، فارضخي من وعائي؛ وهذا مثل؛ أي أعطي الناس مما عندي؛ وهو من قولك:

رضخ له بشيء من عطيته. والحصرم: الممسك؛ تقول العرب حصرم قوسك، أي شدّد وترها.

وقوله:

* فلم تجديني في المعيشة عاجزا*

أي أنا صاحب غارات، أفيد وأستفيد وأتلف وأخلف فلا تخافي الفقر -

وقال مسكين الدارمي:

أصبحت عاذلتي معتلّة

قرما(٢) ، أم هي وحمى للصّخب

أصبحت تتفل في شحم الدّرى

وتظنّ اللّوم درّا ينتهب

لا تلمها إنها من أمّة

ملحها موضوعة فوق الرّكب(٣)

يقول: إنها تكثر لومي؛ وكأنها قرمة إلى اللوم، كقرم الأشبال إلى اللحم، وهي وحمى تشتهي الصخب. والوحم: شدة شهوة الطعام عند الحمل.

وشحم الذّرى. الأسنمة؛ وأراد ب (تتفل) فيها أي تعوّذ إبلي لتزيّنها في عيني؛ وتعظم قدرها، فلا أهب منها ولا أنحر؛ ثم أخبر أن أصلها من الزّنج. والملح: الشحم، وشحم الزّنج(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل: (بل الفصيح أن يقال: عيرته كذا، وعيرته بكذا من كلام؛ العامة قال النابغة:

وعيّرتني بنو ذبيان خشيته

وهل عليّ بأن أخشاك من عار!

(٢) حاشية الأصل: (في شعره قرمت).

(٣) حاشية الأصل: (أي لا عرق لها في الكرم).

(٤) حاشية الأصل: (أراد أنها ليست بعربية؛ بل زنجية.

١٥٩

يكون على أوراكهم وأكفالهم وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد(١) :

أي ابنة عبد الله وابنة مالك

ويا بنة ذي البرد بن والفرس الورد(٢)

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا؛ فإنّي لست آكله(٣) وحدي

قصيّا كريما، أو قريبا فإنّني

أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

وإنّي لعبد الضّيف ما دام نازلا

وما من صفاتي غيرها شيمة العبد

قال أبو العباس: استثنى الكرم في القصيّ البعيد، ولم يستثنه في القريب؛ لأن أهله جميعا عنده كرام. وأراد بقوله: (عبد الضيف) أنه يخدم الضيف هو بنفسه لا يرضى أن يخدمه عبده.

قال سيدنا أدام الله علوّه: ويشبه ذلك قول المقنّع الكندي:

وإنّي لعبد الضّيف ما دام نازلا

وما بي سواها خلّة تشبه العبدا(٤)

____________________

(١) في الكامل - بشرح المرصفي ٥: ١٤٥؛ ونسبها إلى قيس بن عاصم المنقري، وفي حماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٤: ٢٠٥، وعزاها التبريزي إلى حاتم الطائي ولم ترد في ديوانه. وفي الأغاني (١٢: ١٤٤) بسنده: (تزوج قيس بن عاصم المنقري منفوسة بنت زيد الفوارس الضبي، وأتته في الليلة الثانية من بنائه بها بطعام فقال: فأين أكيلي؟ فلم تعلم ما يريد؛ فأنشأ يقول.. وأورد الأبيات. قال: ) فأرسلت جارية لها مليحة فطلبت له أكيلا، وأنشأت تقول له:

أبي المرء قيس أن يذوق طعامه

بغير أكيل؛ إنه لكريم!

فبوركت حيا ياأخا الجود والندى

وبوركت ميتا قد حوتك رجوم

(٢) أضافها إلى عمها وجدها الأكبرين، لعزتهما بين قبائل العرب؛ وذلك أن زيد الفوارس هو ابن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك، أخي عبد الله بن سعد ابن ضبة. ويريد بذي البردين جد منفوسة من قبل أمها، وهو عامر بن أحيمر بن بهدلة؛ لقب بذلك لما روي أن النعمان أخرج بردي محرق، وقد اجتمعت وفود العرب وقال: ليقم أعز العرب فليلبسهما، فقام عامر، فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ ولم ينازعه أحد في خبر ذكره المرزوقي في شرح الحماسة ١٦٦٨

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (آكله)، بضم الكاف واللام.

(٤) حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي ١١٨٠؛ وفي حاشيه الأصل (من نسخة):

* وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا*

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489