فدك في التاريخ

فدك في التاريخ0%

فدك في التاريخ مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 148

فدك في التاريخ

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف:

الصفحات: 148
المشاهدات: 12475
تحميل: 11812

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 148 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12475 / تحميل: 11812
الحجم الحجم الحجم
فدك في التاريخ

فدك في التاريخ

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

فدك : قرية في الحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية في مطلع تأريخها المأثور. وكان يسكنها طائفة من اليهود ، ولم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النصف من فدك وروي انّه صالحهم عليها كلها.

وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي ، فكانت ملكا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ثم قدمها لابنته الزهراء ، وبقيت عندها حتى توفي أبوهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتزعها الخليفة الأولرضي‌الله‌عنه ـ على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة ـ وأصبحت من مصادر المالية العامّة وموارد ثورة الدولة يومذاك حتى تولّى عمر الخلافة فدفع فدكاً إلى ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقيت فدك عند آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن تولّى الخلافة عثمان بن عفان فاقطعها مروان بن الحكم على ما قيل ، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء. ولكن الشيء الثابت هو ان أمير المؤمنين علياً انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان ـ كسائر ما نهبه بنو اُمية في أيّام خليفتهم ـ.

وقد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك انّ علياً لم

٢١

يدفعها عن المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج.

ولا أريد أن أفتح في الجواب بحث التقية على مصراعيه وأوجه بها عمل أمير المؤمنين ، وانّما امنع ان يكون أمير المؤمنين (ع) قد سار على طريقة الصديق ، فان التأريخ لم يصرح بشيء من ذلك بل صرح بأن أمير المؤمنين كان يرى فدكاً لأهل البيت ، وقد سجل هذا الرأي بوضوح في رسالته إلى عثمان بن حنيف كما سيأتي.

فمن الممكن انّه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها بحاصلات فدك وليس في هذا التخصيص ما يوجب اشاعة الخبر لأن المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده كما يحتمل انّه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن اولاده عليهم الصلاة والسلام(1) بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة.

ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية وأكثر من الاستخفاف بالحق المهضوم فاقطع مروان بن الحكم ثلث فدك وعمر بن عثمان ثلثها ، ويزيد ابنه ثلثها الآخر ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيّام ملكه ثم صفت لعمر بن عبدالعزيز بن مروان فلما تولّى هذا الأمر رد فدكاً على ولد فاطمةعليها‌السلام وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه انّ فاطمةعليها‌السلام قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم ؟ فكتب إليه : أما بعد ، فاني لو كتبت اليك آمرك أن تذبح

__________________

(1) وهذا أقرب الاحتمالات ، لان الأول تنفيه رسالة أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف اذ يقول : وسخت عنها نفوس آخرين. والثالث يبعده قبول الفاطميين فيما بعد لفدك عند ما أعطيت اليهم في فرص متباعدة.

٢٢

بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمةعليها‌السلام من عليعليه‌السلام ، فنقمت بنو امية ذلك على عمر بن عبدالعزيز وعاتبوه فيه وقالوا له : هجنت فعل الشيخين وقيل : انّه خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال لهم انكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت انّ أبا بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني عن أبيه عن جده انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني ، ويرضيني ما أرضاها ، وان فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبدالعزيز أبي فورثتها أنا واخوتي عنه فسألتهم ان يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي فرأيت ان اردها على ولد فاطمة فقالوا له : فان أبيت إلا هذا فامسك الاصل واقسم الغلة ، ففعل.

ثم انتزعها يزيد بن عبدالملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم.

فلما قام أبو العباس السفاح بالأمر وتقلد الخلافة ردها على عبدالله ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن وردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ثم قبضها موسى بن المهدي من أيديهم.

ولم تزل في أيدي العباسيين حتى تولّى المأمون الخلافة فردها على الفاطميين سنة (210) وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة : أما بعد ، فان أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرابة به أولى من استن بسنته وسلم لمن منحه منحة وتصديق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته واليه في العمل بما يقربه إليه رغبته ، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها وكان ذلك أمراً ظاهراً

٢٣

معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تدع منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين ان يردها إلى ورثتها ويسلمها اليهم تقرباً إلى الله تعالى ، باقامة حقه وعدله والى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتنفيذ أمره وصدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتاب إلى عماله فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفذ عدته انّ فاطمة رضي الله عنها لاُولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لها وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها إلى محمّد ابن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمّد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين اياههما القيام بها لأهلها. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب إليه والى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأعلمه من قبلك وعامل محمّد بن يحيى ومحمّد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام.

ولما بويع المتوكل على الله انتزعها من الفاطميين واقطعها عبدالله ابن عمر البازيار وكان فيها احدى عشرة نخلة غرسها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده الكريمة فوجه عبدالله بن عمر البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد ففلج.

وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه اياها عبدالله بن عمر البازيار.

٢٤

هذه المامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط ولا يجمع على قاعدة ، وانّما حاكت اكثره الأهواء ، وصاغته الشهوات على ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية ، وعلى هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة ، وظروف متباعدة حيث توكل فدك إلى أهلها واصحابها الاولين ويلاحظ ان مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبرى بنظر المجتمع الإسلامي وأسياده ، ولذا ترى حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة ، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت مباشرة فهو إذا استقام اتجاهه ، واعتدل رأيه ، رد فدكاً على الفاطميين ، واذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أوّل القائمة من أعمال ذلك الخليفة.

ويدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنويّة في النظر الإسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي انشأها حينما رد المأمون فدكاً ومطلعها : ـ

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

برد مأمون هاشم فدكا

وقد بقيت كلمة بسيطة وهي ان فدكاً لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعا متواضعاً كما يظن البعض ، بل الأمر الذي أطمئن إليه انّها كانت تدر على صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل السنوي منها وان ورد في بعض طرقنا الإرتفاع به إلى أعداد عالية جداً.

ويدل على مقدار القيمة الماديّة لفدك أمور ـ :

( الأول ) : ما سيأتي من انّ عمر منع أبا بكر من ترك فدك للزهراء لضعف المالية العامّة مع احتياجها إلى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة وثورات العصاة.

٢٥

ومن الجلي أن أرضاً يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة ، وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابد انّها ذات نتاج عظيم.

( الثاني ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك : ان هذا المال لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فان تحميل الرجال لا يكون إلا بمال مهم تتقوم به نفقات الجيش.

( الثالث ) : ما سبق من تقسيم معاوية فدكاً أثلاثاً ، واعطائه لكل من يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثاً ، فان هذا يدلّ بوضوح على مدى الثروة المجتناة من تلك الأرض ، فانّها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على امراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والاموال الطائلة.

( الرابع ) : التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان ، وتقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.

٢٦
٢٧

ـ 3 ـ

تاريخ الثورة

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

أبدت رجال لنا نوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الترب

* * *

صبت عليّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا

قد كنت أرتع تحت ظل محمد

لا أخشى ضيما وكان جماليا

واليوم أخضع للذليل واتقي

ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

( الزهراء )

٢٨

اذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الأساسية لاقامة بناء تاريخي محكم لقضايا اسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامّة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مدار لبحثه كالحياة الدينية والاخلاقية والسياسية إلى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الإنساني على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات ، وينشئه التعبد والتقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذروة ، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج. لا من قيود لم يستطع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه.

واما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيراً كان أو شراً ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث

٢٩

ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة ، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الاخاذ تاريخ اجيالنا السابقة ، فليس ذلك تاريخاً لاُولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوماً ما وكانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس ، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر ، بل هو ترجمة لاُشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.

فاذا كنت تريد ان تكون حراً في تفكيرك ، ومؤرخا لدنيا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب ، فضع عواطفك جانباً أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد ، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد ان اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك ان تكون اميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على اسّس صحيحة من التفكير والاستنتاج.

كثيرة جداً هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح ان يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها وأن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني احياناً حينما يتوسع الباحث في انطباعاته عن الموضوع ، ولكنها صورة باهتة في أكثر الاحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من النشاط والحركة والعمل وسوف تجد فيما يأتي امثلة بمقدار ما يتسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقررت فيه المسألة الأساسية في تاريخ الإسلام على شكل لا يتغير ، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين ..

٣٠

كلنا نود ان يكون التاريخ الإسلامي في عصره الأول الزاهر طاهراً كل الطهر ، بريئا مما يخالط الحياة الإنسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى ، فقد كان عصراً مشعاً بالمثاليات الرفيعة ، اذ قام على انشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الاطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم. بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود ، واليه تسير كما كان استاذهم الأكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الإلهي المنبعث من كل صوب وحدب ، وفي كل جهة من جهات الوجود ، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.

ان عصراً تلغى فيه قيمة الفوارق الماديّة على الاطلاق ، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون ، ومجالات تنفيذه ، ويجعل مدار القيمة المعنويّة ، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله التي هي تطهير روحي ، وصيانة للضمير ، وارتفاع بالنفس إلى آفاق من المثالية الرفيعة ، ويحرم في عرفه احترام الغني لأنّه غني ، واهانة الفقير لأنّه فقير ، ولا يفرق فيه بين الأشخاص إلا بمقدار الطاقة الانتاجية ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ويتسارع فيه إلى الجهاد لصالح النوع الإنساني الذي معناه الغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه الدنيا ، واخراجها عن حساب الاعمال.

( أقول ) : ان العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والاعجاب والتقدير ، ولكن ماذا أراني دفعت الى

٣١

التوسع في أمر لم أكن أريد ان أطيل فيه ؟ وليس لي ان افرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع في أمر آخر ، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلى ذلك ، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة أنا أفهم هذا جيداً ، واوافق عليه متحمساً ، ولكني لا أفهم ان يمنع عن التعمق في الدرس العلمي ، أو التمحيص التاريخي لموضوع كموضوعات الساعة التي نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن ، أو يحضر علينا ان نبدأ البحث في مسألة فدك على أساس ان أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة ومقاييسها ، أو ان نلاحظ أن قصّة الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن مرتجلة ولا وليدة يومها اذ دلنا على ذلك سير الحوادث حينذاك ، وطبيعة الظروف المحيطة بها.

واكبر الظن ان كثيراً منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره مذهبا جعله يعتقد ان رجالات الزمن الخالي ، وبتعبير أوضح تحديداً انّ أبا بكر وعمر واضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامّة يومئذ لا يمكن ان يتعرضوا لنقد أو محاكمة ، لأنهم بناة ذلك العصر والواضعون لحياته خطوطها الذهبية ، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر ، وتجريدهم عن شيء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.

واريد ان اترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادة لبحث طويل ، ولمحة من دراسة مهمة قد اعرض لها في فرصة أخرى من فرص التأليف ، واكتفي الآن ان اتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع.

صحيح ان الإسلام في أيّام الخليفتين كان مهيمنا ، والفتوحات متصلة والحياة متدفقة بمعاني الخير ، وجميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي الشامل ، واللون القرآني المشع ، ولكن هل يمكن ان نقبل ان التفسير الوحيد لهذا وجود الصديق أو الفاروق على كرسي الحكم ؟.

٣٢

والجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع ولكنا نعلم ان المسلمين في أيّام الخليفتين كانوا في اوج تحمسهم لدينهم ، والاستبسال في سبيل عقيدتهم ، حتى أن التاريخ سجل لنا ان شخصاً أجاب عمر حينما صعد يوماً على المنبر وسأل الناس : لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين ؟ ـ اذن كنا نستتيبك فان تبت قبلناك فقال عمر : وان لم ؟ ـ قال : نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من إذا اعوججنا اقام اودنا.

ونعلم ايضاً ان رجالات الحزب المعارض ـ واعني به أصحاب علي ـ كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة ، وكان أي زلل وانحراف مشوه للون الحكم حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب ، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصراً ، ويوم ولى أقاربه. ويوم عدل عن السيرة النبويّة المثلى ، مع انّ الناس في أيّام عثمان كانوا أقرب إلى الميوعة في الدين واللين والدعة منهم في أيّام صاحبيه.

ونفهم من هذا ان الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في اسّس السياسة ونقاطها الحساسة لو ارادوا إلى ذلك سبيلا ، لانهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمبادئه ، وجاعلاً لنفسه حق الاشراف على الحكم والحاكمين ، ولأنهم يتعرضون لو فعلوا شيئاً من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي لم يكن يزال يؤمن بان الحكم الإسلامي لابد ان يكون مطبوعاً بطابع محمدي خالص وان الشخص الوحيد الذي يستطيع ان يطبعه بهذا الطابع المقدّس هو علي وارث رسول الله ووصيه وولي المؤمنين من بعده.

وأما الفتوحات الإسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الأيام ولكننا جميعاً نعلم أيضاً ان ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في ايام

٣٣

الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كل شان من شؤون الحرب ومعداته وأساليبه يتهيّأ بعمل أشبه ما يكون بالعمل الاجماعي من الأمة الذي تعبر به عن شخصيتها الكاملة تعبيراً عملياً خالداً ، ولا يعبر عن شخصيّة الحاكم الذي لم يصل إليه من لهيب الحرب شرر ، ولم يستقل فيه برأي ، ولم يتهيّأ له إلا بأمر ليس له فيه أدنى نصيب ، فان خليفة الوقت سواء أكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلم بكلمة الحرب عن قوة حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها بل أعلن عن قوة الكلمة النبويّة التي كانت وعدا قاطعاً بفتح بلاد كسرى وقيصر اهتزت له قلوب المسلمين حماسة واملاً بل ايماناً ويقيناً ، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته إلى مجالات العمل إلا حين ذكر هذا الحديث النبوي ، فقد كان هو والايمان المتركز في القلوب القوة التي هيأت للحرب كل ظروفه وكل رجاله وامكانياته ، وأمر آخر هيأ للمسلمين أسباب الفوز ، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل بحكومة الشورى عن قرب أو بعد ، وهو الصيت الحسن الذي نشره رسول الله للإسلام في آفاق الدنيا ، واطراف المعمورة ، فلم يكن يتوجه المسلمون إلى فتح بلد من البلاد إلا كان امامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم ومبادئهم.

وفي أمر الفتوحات شيء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيئوا بقية الأمور وهو ما يتلو الفتح من بثّ الروح الإسلامية ، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد المفتوحة ، وتعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معنى وراء الشهادتين ، ولا أدري هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية أو نشك في ذلك كل الشك كما صار إليه بعض الباحثين وكما يدلّ عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الإسلامية

٣٤

كانت الظروف كلّها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية المنتجة التي قامت على عهدهما ، وفي بناء الحياة السياسية الخاصة التي اتخذاها.

ولا أدري ماذا كان موقفهما لو قدر لهما ولعلي ان يتبادلوا ظروفهم فيقف الصديق والفاروق موقف الإمام ويسود في تلك الظروف التي كانت كلّها تشجع على بناء سياسة ، ومنهج لحكم جديد ، وانشاء حياة لها من ألوان الترف ، وضروب النعيم حظ عظيم ، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف كما عاكسها أمير المؤمنين ؟ فضرب بنفسه مثلاً في الإخلاص للمبدأ والنزاهة في الحكم.

وأنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً إلى سيرة رشيدة في الحكم ، واعتدال في السياسة والحياة ، ومرغمين على ذلك ، وانّما اعني انّ الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.

كما انّي لا أريد ان اجردهما عن كل أثر في التاريخ ، وكيف يسعني شيء من ذلك وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الإسلامي كله ، وانّما عنيت انهما كانا ضعيفي الأثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة وما ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.

اكتب هذا كله وبين يدي كتاب ( فاطمة والفاطميون ) للأستاذ عباس محمود العقاد ، وقد جئته بشوق بالغ لاُرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء ، وأنا على يقين من ان أيّام التعبد بأعمال السالفين وتصويبها على كل تقدير قد انتهت وان الزمان الذي يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الإنساني ديناً كانت أو مذهباً

٣٥

أو تاريخاً أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الإسلام بعد أن طال قروناً ، ولعل الخليفة الأول كان هو أوّل من أعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الإنسانية والقدر وهدده وتوعده ولكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيئ إلى روح الإسلام واذن فكان لي ان اتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الأستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فإذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة وقصيرة جداً وإلى حد استبيح لنفسي أن أنقلها واعرضها عليك دون ان أطيل عليك فقد قال :

( والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه غير انّ الصدق فيه لا مراء انّ الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحقّ وانّ الصديق أجلّ من ان يسلبها حقّها الذي تقوم به البيّنة عليه ، ومن اسخف ما قيل انّه انّما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة إليه فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع ان أحداً بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شيء من هذا في اشاعة ولا في خبر يقين وما نعلم تزكية لذمّة الحكم من عهد الخليفة الأول أوضح بيّنة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادعاه عليه مدع وانّما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ اقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم أجمعين انتهى ).

ونلاحظ قبل كل شيء أنّ الأستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار ولا يصل الحديث فيه إلى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها ، واعتقد ان في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا ، وتلاحظ أيضاً.

٣٦

أنّه بعد أن جعل مسألة فدك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه رأى انّ فيها حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال ( أحداهما ) انّ الصديقة أرفع من ان تنالها تهمة بكذب والأخرى انّ الصديق أجل من ان يسلبها حقّها الذي تثبته البيّنة. فإذا لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال ففيم الجدال الذي لا قرار له ولم لا تنتهي مسألة فدك إلى مقطع للقول متفق عليه.

وأنا أفهم انّ للكاتب الحرية في ان يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارئ مدارك ذلك الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلّها في الحساب ليخرج منها بتقدير معين ولكني لا أفهم ان يقول انّ المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي إلا برأي مجرد عن المدارك يحتاج إلى كثير من الشرح والتوضيح وإلى كثير من البحث والنظر فإذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها إلى البيّنة ؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الإسلام عن ان يحكم العالم استناداً إلى علمه ؟ واذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك ؟ هذه أسئلة ومعها أسئلة أخرى أيضاً في المسألة تتطلب جواباً علمياً ، وبحثاً على ضوء أساليب الإستنباط في الإسلام.

واريد ان أكون حراً واذن فاني استميح الأستاذ ان الاحظ ان تزكية موقف الخليفة والصديقة معاً أمر غير ممكن ، لأنّ الأمر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه وانتهاء المطالبة إلى هذا الحد لوسعنا ان نقول انّ الزهراء طلبت حقّها في نفس الأمر والواقع ، وانّ الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ

٣٧

المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها ، لأنّها عرفت انّها لا تستحق فدكاً بحسب النظام القضائي وسنن الشرع ، ولكننا نعلم انّ الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بلغت مبلغ الإتّهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.

واذن فنحن بين اثنتين : احداهما ان نعترف بأن الزهراء قد ادعت بإصرار ما ليس لها بحقّ في عرف القضاء الإسلامي والنظام الشرعي وان كان ملكها في واقع الأمر ، والأخرى ان نلقي التبعة على الخليفة ونقول انّه قد منعها حقّها الذي كان يجب عليه ان يعطيها إيّاه أو يحكم لها بذلك على فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية ، فتنزيه الزهراء عن ان تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع والإرتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقّها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان إلا إذا توافق النقيضان.

ولنترك هذا إلى مناقشة أخرى ، فقد اعتبر الأستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بيّنة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن حدود الشريعة لأنّه لو أعطى فدكاً لفاطمة لارضاها بذلك وارضى الصحابة برضاها ، ولنفترض معه انّ حدود القانون الإسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأنّ فدكاً صدقة ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الأستاذ بأنّهم يرضون بذلك ؟ أكان هذا محرماً في عرف الدين أيضاً ؟ أو أنّ أمراً ما أوحى إليه بأن لا يفعل ذلك ؟ بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته وعداً قاطعاً بأن تصرّف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامّة ؟

وأمّا ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما إذا كان سخيفاً حقاً.

٣٨

اذا عرفنا ان مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً ولا جدالاً ، وأن درس مسائل السالفين ليس كفراً ولا زندقة ولا تشكيكاً في أعلام النبوّة كما كانوا يقولون ، فلنا ان نتساءل عمّا بعث الصديقة إلى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف أو لم يشأ ان يعرف هيبة للسلطة المهيمنة أو جلالاً للقوة المتصرفة يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد ، وشررها المتطاير ، وبقي الحكم من اشعاعة نور متألقة تلقي ضوءاً عليه ، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار بل كانت بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الأخير ، ويومها الأخير ، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات ونتائج ، ولا تتعرض لضعف أو تردد.

وما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة ، أو بالاحرى هدف الخليفةرضي‌الله‌عنه نفسه في ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط أو لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أولياته ثم يذكر بينها خصومة أهل البيت ، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه وموقفه السلبي بل الإيجابي المعاكس أو انّه كان منقاداً للقانون ، وملتزماً بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون ، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل وان لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة ، واعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض أو اجتماع الغرضين على نقطة واحدة ، وبالاحرى ان تقوم على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها آمال بواسم ، وموجات من الاحلام ضحك لها الخليفة كثيراً وسعى في سبيلها كثيراً أيضاً.

اننا ندرك بوضوح ، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الأكبر قد توفرت له

٣٩

كل بواعث الثورة على الأوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الأمر.

واننا نحسن أيضاً إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عمّا تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.

واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الإسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الأولى إلى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح إلى النقطة المستعدة في طبيعتها إلى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.

أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الأول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.

والآخر موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.

وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده إلى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري إلى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان

٤٠