بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199413 / تحميل: 7652
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي «متكتفاً»، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان: «هل الغاية تبرر الواسطة؟» وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان: «هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟». وبعنوان «المقاصد والوسائل» وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان: «تزاحم المهم والأهم» واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح..

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الواسطة؟

الجواب:

إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون: «النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين».

ثانياً: إن علماء الشيعة يأخذون - دائماً أو غالباً - ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية:

ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية ٢٨ من سورة آل عمران: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه

في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة». فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال

٤١

الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية ١٠٦ من سورة النحل: «من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

قال المفسرون: إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب: كفر عمار. فقال النبي: كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له: لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية ٢٨ من سورة غافر: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه». فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية ١٩٥ من سورة البقرة: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

ومن السنة استدلوا بحديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث « رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق». والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، «وما اضطروا إليه» صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم «باب ما رخص فيه من الكذب»: «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب».

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال: روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

ونعى الشاطبي في الجزء الرابع من الموافقات ص ١٨٠ على الخوارج «إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم».

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر» ص ٧٦: «يجوز

أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه».

وقال أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية - في الجزء الثاني من كتاب «أحكام القرآن» ص ١٠ طبعة ١٣٤٧هجري:

قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم

٤٢

بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه» قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى «من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص ٦١ مطبعة مصطفى محمد «لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط: يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء».

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة. أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي فأشهر من أن تذكر.

ولا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب اللّه، وسنة نبيه ما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وأقوال أئمة السنة، وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، وكيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة إذا شابتها أدنى شائبة من رياء؟

وأود أن أوجه هذا السؤال لمن نسب الشيعة إلى النفاق والرياء من أجل التقية: ما رأيك فيمن قال - من علماء السنة - إن جبرئيل ليلة أسرى بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين: أحدهما من لبن، وآخر من خمر، وخيره بين شرب

أيهما شاء (كتاب الفروق ج ١ ص ١٢ طبعة ١٣٤٥هجري وصحيح البخاري ج ٦ باب سورة بني إسرائيل).

وأيضاً ما رأيك فيمن أفتى - منهم - بأن من ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، ومن تركها نسياناً يجب عليه أن يقضي. (كتاب نيل الأوطار للشوكاني ج ٢ ص ٢٧ طبعة ١٩٥٢).

وغريبة الغرائب أن يُعذر المفتي على فتواه التي خالف بها الاجماع والقواعد والنص والقياس الجلي السالم عن المعارض، ولا يعذر من يفتي بالتقية مستنداً إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. (الفروق للقرافي ج ٢ ص ١٠٩).

٤٣

وبالتالي، فإن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرّض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان.

في عام ١٩٦٠ أقامت الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً دولياً للغزالي في دمشق، وكنت فيمن حضر وحاضر، فقال لي بعض أساتذة الفلسفة في مصر فيما قال: أنتم الشيعة تقولون بالتقية.. فقلت له: لعن اللّه من أحوجنا إليها. إذهب الآن أنّى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عندهم عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة.

البداء:

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على جواز النسخ، ووقوعه في الشريعة الإسلامية، ومعناه في اصطلاح المفسرين وأهل التشريع أن اللّه يشرع حكماً كالوجوب أو التحريم، ويبلغه لنبيه، وبعد أن يعمل النبي وأمته بموجبه يرفع اللّه هذا الحكم وينسخه ويجعل في مكانه حكماً آخر، لإنهاء الأسباب الموجبة لبقاء الأول واستمراره، وهذا النوع من النسخ ليس بعزيز، فإنه موجود في الشرائع السماوية والوضعية، واستدل المسلمون على جوازه ووقوعه بأدلة، منها أن الصلاة كانت في بدء الإسلام لجهة بيت المقدس، ثم نسخت، وتحولت إلى جهة البيت الحرام، كما نطقت الآية ١٤٤ من سورة البقرة: «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام».

ونتساءل: إذا جاز النسخ على اللّه بهذا المعنى في الأمور التشريعية فهل يجوز عليه ذلك في الأشياء الكونية والطبيعية، وذلك بأن يقدر اللّه ويقضي بإيجاد شيء في الخارج، ثم يعدل ويتحول عن قضائه وإرادته؟

اتفق المسلمون جميعاً على عدم جواز النسخ في الطبيعيات، لأنه يستلزم الجهل وتجدد العلم للّه، وحدوثه بعد نفيه عنه. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ويسمى هذا بالبداء الباطل، وقد نسبه البعض إلى الإمامية جهلاً أو تجاهلاً، رغم تصريحاتهم المتكررة بنفيه.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن الإمام الصادق أنه قال: من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه.

وبعد أن نفى المسلمون جميعاً البداء بهذا المعنى أجازوا بداء لا يستدعي الجهل وحدوث العلم

٤٤

لذات اللّه، وهو أن يزيد اللّه في الأرزاق والأعمار، أو ينقص منهما بسبب أعمال العبد، قال المفيد شيخ الشيعة الإمامية في كتاب «أوائل المقالات» باب القول في البداء والمشيئة: «البداء عند الإمامية هو الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال».

وتدل على هذا الآية ٦٠ من سورة غافر: «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» وروى الترمذي في سننه باب لا يرد القدر إلا الدعاء أن النبي قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر(١) .

وبالتالي، فقد اتفق السنة والشيعة بكلمة واحدة على أن أية صفة تستدعي الجهل وتجدد العلم فهي منفية عن اللّه سبحانه بحكم العقل والشرع، سواء أعبّرنا عنها بالبداء أو بلفظ آخر، وعليه فلا يصدق القول بأن الشيعة أجازوا البداء على اللّه دون السنة، لأن المفروض أن البداء المستلزم للجهل باطل عند الفريقين، والبداء بمعنى الزيادة أو النقصان في الأرزاق والآجال جائز عند الفريقين. فأين محل النزاع والصراع؟

هذا، إلى أن الإمامية قد تشددوا في صفات الباري أكثر من جميع الفرق

_____________________

(١) انظر كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي ص ٢٧٧.

٤٥

والطوائف، وبالغوا في تنزيهه عن كل ما فيه شائبة الجهل والظلم والتجسيم والعبث، وما إليه. فلم يجيزوا على اللّه ما أجازه الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية الذين قالوا بأن الخير والشر من اللّه، وإنه سبحانه يكلف الإنسان بما لا يطاق، وإنه تعالى علواً كبيراً يأمر بما يكره، وينهى عما يحب، ويفعل بدون غرض (كتاب المواقف ج ٨ للإيجي وشرحه للجرجاني، وكتاب الفروق للقرافي ج ٢ وكتاب المذاهب الإسلامية لأبي زهرة). كما أن الإمامية قد نفوا التجسيم عن اللّه الذي قال به الحنابلة، ومنهم الوهابية الذين رووا عن النبي: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط. قط».(العقيدة الواسطية لابن تيمية المطبوعة مع الرسائل التسع سنة ١٩٥٧ ص ١٣٦).

الرجعة:

قال فريق من علماء الإمامية: إن اللّه سبحانه سيعيد إلى هذه الحياة قوماً من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر اللّه بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة. وأنكر الفريق الآخر ذلك، ونفاه نفياً باتاً.

ونقل هذا الاختلاف الشيخ الإمامي الثقة أبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية ٨٣ من سورة النمل: «ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون».

قال: استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. ووجه الدلالة - بزعم هؤلاء - أن اليوم الذي يحشر اللّه فيه فوجاً من كل أمة لا يمكن أن يكون اليوم الآخر بحال، لأن هذا اليوم يُحشر فيه جميع الناس لا فوج من كل أمة لقوله تعالى في الآية ٤٨ من سورة الكهف: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً». فتعين أن يكون الحشر في هذه الدنيا لا في الآخرة.

أما الذين أنكروا الرجعة من علماء الإمامية فقد قالوا: إن الحشر في الآية يراد به الحشر في اليوم الآخر، لا في هذه الحياة، والمراد بالفوج رؤساء الكفار والجاحدين، فإنهم يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

ومهما يكن، فإن غرضنا الأول من نقل كلام الشيخ الطبرسي الإمامي هو التدليل على أن علماء الإمامية لم يتفقوا بكلمة واحدة على القول بالرجعة. وقد اعترف باختلافهم الشيخ أبو زهرة، حيث قال في كتاب «الإمام الصادق» ص ٢٤٠ ما نصه بالحرف: «ويظهر أن فكرة

٤٦

الرجعة على هذا الوضع ليست أمراً متفقاً عليه عند إخواننا الإثني عشرية، بل فيهم فريق لم يعتقده».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٤٧٣ طبعة ١٩٥١: «الرجعة أمر نقلي، إن صح النقل به لزم اعتقاده، وإلا فلا». وقال ص ٥١٥ يتعلق بالبداء: «أجمع علماء الإمامية في كل عصر وزمان على أن البداء بهذا المعنى باطل ومحال على اللّه، لأنه يوجب نسبة الجهل إليه تعالى، وهو منزه عن ذلك تنزيهه عن جميع القبائح، وعلمه محيط بجميع الأشياء إحاطة تامة جزئياتها وكلياتها، لا يمكن أن يخفى عليه شيء، ثم يظهر له».

ولو كانت الرجعة من أصول الدين أو المذهب عن الإمامية لوجب الاعتقاد بها، ولما وقع بينهم الاختلاف فيها، أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الثاني ص ٣١٦ طبعة ١٣٤٨ هجري، ورواها أيضاً أبو داود في سننه ج ٢ ص ٥٤٢ طبعة ١٩٥٢، وكالأحاديث التي رويت عن النبي في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات (كتاب مجمع الزوائد للهيثمي ج ١ ص ٢٢٨ طبعة ١٣٥٢ هجري).

إن هذه الأحاديث التي رواها السنة في الدجال وعرض أعمال الأحياء على الأموات، وما إلى ذاك تماماً كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت. فمن شاء آمن بها، ومن شاء جحدها، ولا بأس عليه في الحالين. وما أكثر هذا النوع من الأحاديث في كتب الفريقين(١) .

____________________

(١) ولنفترض أن الشيعة كلهم أو بعضهم يقولون بالرجعة. فماذا يكون؟. وهل هذا القول كفر وزندقة؟. لقد اعتقد المسلمون منذ أن وجدوا، حتى اليوم أن المسيح (ع) حي بروحه وجسده، ومع ذلك نشر شيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمود شلتوت مقالاً مطولاً في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ١٥ / ١١ / ١٩٦٣ قال فيه: إن عيسى قد مات حقيقة، كسائر الانبياء، ومع ذلك لم يكفر شيخ الأزهر، ولا كفره أحد، فعلام هذا التهويش حول الرجعة.

٤٧

الجفر:

جاء في بعض مؤلفات السنة والشيعة أن عند أهل البيت علم الجفر، وأنهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن كتب السنة التي جاء فيها ذكر الجفر المواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني الحنفي، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وقال أبو العلاء المعري:

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

ونفى أفراد من السنة والشيعة ذلك، ولم يعتقدوا بشيء يسمى الجفر عند أهل البيت ولا عند غيرهم.

ما هو علم الجفر؟

واختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه، فمن قائل بأنه نوع من علم الحروف تستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. ومن قائل بأنه كتاب من جلد(١) ، فيه بيان الحلال والحرام، وأصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم ودنياهم، وعلى هذا فلا يمت الجفر إلى الغيب بصلة.

ومن الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، وهو الشريف الجرجاني بالأول، وإن الجفر الذي عند أهل البيت تستخرج منه الحوادث الغيبية، وأن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإمامية، وهو السيد محسن الأمين، ويقول بالثاني، وإنه علم الحلال والحرام فقط.

قال الجرجاني في كتاب «المواقف وشرحه» ج ٦ ص ٢٢ ما نصه بالحرف: «الجفر والجامعة كتابان لعليرضي‌الله‌عنه ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٢٩٥: «ليس

________________________

(١) الجفر في أصل اللغة ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ثم أطلق على جلد الشاة.

الجفر علماً من العلوم، وإن توهم ذلك كثيرون، ولا هو مبني على جداول الحروف، ولا ورد به خبر ولا رواية - إلى أن قال - ولكن الناس توسعوا في تفسيره، وقالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند، شأنهم في أمثال ذلك».

٤٨

وقال في «أعيان الشيعة» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٦ طبعة ١٩٦٠: «الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام، وما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، وصلاح دنياهم».

السيد الأمين الذي تثق الإمامية كافة بعلمه ودينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، ويثبته علماً من أعلام الأحناف، ويقول: «عندهم علم ما يحدث إلى انقراض العالم». وبهذا يتبين ما في قول الشيخ أبي زهرة وغيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإمامية، ونسبوا لهم الزعم بأن أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إن غير الإمامية من الفرق الإسلامية يدّعون أمثال ذلك، ثم ينسبونه إلى الأمامية، لا لشيء إلا لشينعوا، ويهوشوا، وكذلك فعلوا في دعوى تحريف القران والنقص منه، ودعوى الإيحاء والإلهام.

هذا، إلى أن مسألة الجفر ليست من أصول الدين ولا المذاهب عند الإمامية، وإنما هي أمر نقلي، تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، ويرفضها إذا لم تثبت، وهو في الحالين مسلم سني، إن كان سنياً، ومسلم شيعي، إن كان شيعياً.

الخلاصة:

إن الإمامية يدينون بأن الإمامة تكون بالنص لا بالانتخاب، وإن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نص صراحة على علي بن أبي طالب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وينفون عنه علم الغيب، ويقولون بالتقية عند خوف الضرر، وينفون - متفقين - صفة البداء عن اللّه المستلزمة للجهل، وحدوث العلم، ويختلفون في الرجعة.

مصحف فاطمة:

نسب إلي الإمامية القول بأن عند فاطمة بنت الرسول مصحفاً، فيه زيادات عن هذا القرآن الكريم، وقبل أن نبين حقيقة هذه النسبة نشير إلى عقيدة المسلمين

في صيانة الكتاب العزيز.

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، ما عدا فرقة صغيرة شاذة من فرق الخوارج، فإنها أنكرت أن تكون سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام يتنزه عن مثلها كلام اللّه سبحانه. ونسب إلى بعض المعتزلة إنكار سورة أبي لهب، لأنها سب وطعن لا يتمشى مع منطق الحكمة والتسامح. ونحن لا نتردد، ولا نتوقف في تكفير من أنكر كلمة واحدة من القرآن، وأن

٤٩

جحود البعض، تماماً كجحود الكل، لأنه طعن صريح فيما ثبت عن النبي بضرورة الدين، واتفاق المسلمين.

أما النقصان بمعنى أن هذا القرآن لا يحتوي على جميع الآيات التي نزلت على محمد، فقد قال به أفراد من السنة والشيعة في العصر البائد، وأنكر عليهم يومذاك المحققون وشيوخ الإسلام من الفريقين، وجزموا بكلمة قاطعة أن ما بين الدفتين هو القرآن المنزل دون زيادة أو نقصان للآية ٨ من سورة الحجرات: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». والآية ٤١ من سورة فصلت: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين، وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة، لا من السنة، ولا من الشيعة. فإثارة هذا الموضوع، والتعرض له - في هذا العصر - لغو وعبث، أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين.

وإذا عذرنا محب الدين الخطيب والحفناوي والجبهان وأضرابهم من المأجوردين فإنا لا نعذر أبداً الشيخ أبا زهرة، لأنه في نظرنا أجلّ، وأسمى علماً وخلقاً من ألف خطيب وخطيب من أمثال محب الدين. لذا وقفنا حائرين متسائلين: ماذا أراد فضيلته من إثارة هذا الموضوع في كتاب «الإمام الصادق» مع علمه ويقينه أنه أصبح في خبر كان، وأنه لا قائل به اليوم من الشيعة ولا من السنة؟ ماذا أراد الشيخ أبو زهرة من حملته الشعواء على الشيخ الكليني صاحب

الكافي الذي مضى على وفاته أكثر من ألف سنة؟ هل يريد الشيخ أن يدخلنا في جدل عقيم، ونحن نطلب الوفاق والوئام معه ومع غيره؟ وحيثما أجلت الفكر في سبب هذه الحملة لم أجد لها تفسيراً إلا التأثر بالبيئة والوراثة.

وهل من شيء أدل على ذلك من قوله في ص ٣٦: «لا نستطيع قبول روايات

الكليني، لأنه الذي ادعى أن الإمام جعفر الصادق قد قال: إن في القرآن نقصاً وزيادة، وقد «كذبه» - كذا - كبار العلماء من الاثني عشرية، كالمرتضى والطوسي وغيرهما، ورووا عن أبي عبد اللّه الصادق نقيض ما ادعاه الكليني» وكرر هذه العبارة وما إليها في صفحات الكتاب مرات ومرات. إن أبا زهرة يصور الكليني، وكأنه قد تفرد بهذا القول دون غيره، وتصويره هذا بالتضليل أشبه، كما يتضح مما يلي:

ولست أدري كيف ذهل الشيخ عن وجه الشبه فيما نقله الكليني في الكافي، وما نقله كل من البخاري ومسلم في صحيحه؟ قال البخاري في ج ٨ ص ٢٠٩ طبعة سنة ١٣٧٧ هجري:

٥٠

«جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي؟ فمن عقلها ووعاها فليحدث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن اللّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». ونقل البخاري أيضاً في ص ٨٦ ج ٩ باب «الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي».

هذا ما جاء على لسان الخليفة الثاني في صحيح البخاري، وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه ص ١٠٧ القسم الأول من الجزء الثاني طبعة سنة ١٣٤٨ هجري، ولم يذكر فيه «أن لا ترغبوا عن آبائكم» إلخ مع العلم بأن ليس في القران ما يشعر بوجوب الرجم والرغبة عن الآباء. وقال السيوطي في «الإتقان» ج ١ ص ٦٠ مطبعة حجازي بالقاهرة: «أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان

الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عد ل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال - أي أبو بكر - اكتبوها، فإن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده».

وإذا كان أبو زهرة لا يقبل أحاديث الكليني، لأنه روى حديث التحريف - كما قال - فعليه أن لا يقبل أحاديث البخاري جملة وتفصيلاً، لمكان هذا الحديث الصريح الواضح بالتحريف بشهادة عمر بن الخطاب. وإن ما ذكره الكليني في هذا الباب لا يختلف في النتيجة عما ذكره البخاري ومسلم. فلماذا تحامل الشيخ على الكليني، وسكت عنهما؟ بل قال أبو زهرة في كتاب الإمام زيد ص ٢٤٥: «والبخاري ذاته، وهو أصح كتب السنة إسناداً قد أخذت عليه أحاديث وما كان ذلك مسوغاً لتكذيب البخاري ولا مسوغاً لنقض الصحيح الذي رواه وعدم الأخذ به.

وأيضاً روى البخاري في الجزء الرابع «باب طفة إبليس وجنوده» عن عائشة أنها قالت: «سحر النبي، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله».

٥١

وقد كذبه في ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، قال ما نصه بالحرف: «وقد أجازوا من فعل الساحر ما هم أطم وأفظع، ذلك أنهم زعموا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال: إنه يخيل لي أني أقول الشيء، ولا أقوله، وأفعله، ولم أفعله - إلى أن قال الجصاص -: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين». (الجزء الأول من أحكام القرآن للجصاص ص ٥٥ طبعة سنة ١٣٤٧ هجري».

وكذب البخاري في ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق، حيث قال: «وقد رووا أحاديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُحر. حتى كأنه يفعل الشيء، وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً، وهو لا يأتيه. وهذا يصدق قول المشركين فيه. «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً». وليس المسحور إلا من خولط في عقله، وخيل إليه أن شيئاً يقع، وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه».

والآن، وبعد هذه الأرقام بماذا تجيب - أيها الشيخ -؟ قلت: إنك لا تقبل روايات الكليني، لأن الطوسي والمرتضى كذباه في رواية التحريف. ونقول

لك: إن الإمام الجصاص، والإمام عبده كذبا البخاري في رواية سحر النبي. وقال الأول: إن هذا من وضع الملحدين. وقال الثاني إن السحر يستلزم تصديق المشركين وتكذيب الرسول. وعليه فأنت بين أمرين: إما أن لا تقبل روايات البخاري والكليني معاً، وإما أن تقلبهما معاً، ولا أظنك تفعل هذا ولا ذاك. بل تقبل البخاري، دون الكليني، وتناقض نفسك بنفسك. وهذا هو منطق كل من رد وتحامل على علماء الإمامية.

لقد ذهل الشيخ أبو زهرة عن ذلك، وذهل أيضاً عن أن مخالفة المرتضى والطوسي للكليني إنما هي كمخالفة مالك لأبي حنيفة، والشافعي للاثنين، وأحمد للثلاثة في كثير من المسائل. وإذا كان اختلاف علماء الإمامية فيما بينهم يستدعي طرح أقوالهم كلاً أو بعضاً فكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السنة، وأئمة المذاهب. إن اختلاف أنظار العلماء في صحة الحديث وضعفه كاختلافها في الأحكام نفسها لا يستدعي تكذيبهم، وطرح أقوالهم. بل إن أبا زهرة صرح في كتاب «المذاهب الإسلامية» ص ٢١ بأن الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختص بعلماء طائفة دون أخرى؟

وبعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة نعود إلى الحديث عن مصحف فاطمة، وقد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، وأنه كان من إملاء رسول اللّه على علي، قال الإمام

٥٢

الصادق: عندنا مصحف فاطمة، أما واللّه، ما فيه حرف من القرآن، ولكنه من إملاء رسول اللّه، وخط علي. قال السيد محسن الأمين في «الأعيان» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٨: إن نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.

وفي كتاب الكافي أن المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة. فما أجابه عنها إلا الإمام الصادق، ولما سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة. إذن مصحف فاطمة كتاب مستقل وليس بقرآن. فنسبة التحريف إلى الإمامية على أساس قولهم بمصحف فاطمة جهل وافتراء.

والأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأن لعائشة قرآنا، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ج ٢ ص ٢٥ طبعة

حجازي بالقاهرة ما نصه بالحرف: «قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ أبي، وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى».

أرأيت كيف يتهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، ومسألة الإيحاء وغيرهما..

وبالتالي، فإن غرضي من هذا الفصل، وما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنه لا شيء عند الإمامية إلا ويوجد له أصل عند السنة تفصيلاً أو إجمالاً، منطوقاً أو مفهوماً، وعليه فلا وجه لطعن أبي زهرة، ومن تقدم، أو تأخر. اللهم إلا التعصب وتأكد الأنقسام والاقتراق(١) .

____________________

(١) وقع في يدي كتاب، وأنا أحرر هذا الفصل، وكنت أبحث وأفتش في المكتبات التجارية وغيرها عن المصادر، واسم الكتاب «حركات الشيعة المتطرفين، وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول» لمحمد جابر عبد العال مدير الشؤون الاجتماعية بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط عشواء، وشحنه بالكذب والافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، ولكن كلمة حق ظهرت على فلتات قلمه، وهو يكتب مقدمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: «إننا نعلم أن بين أهل السنة من تعصب على الشيعة، وأمعن في ذلك إمعاناً جعله يرميهم دون تثبيت باتهامات يتبين لذي العين البصيرة أنها باطلة، أملاها التعصب والتشاحن المذهبي».

٥٣

الشّيعَة والفُرس

قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: إن خصوم الشيعة نسبوا إليهم «ما يعلمون وما لا يعلمون». وكرر ذلك في صفحات الكتاب، لشتى المناسبات. منها قوله في صفحة ١٨٧ طبعة دار المعارف بمصر:

لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم، أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا، وأكثر مما سمعوا، ثم لا يكتفون بذلك، وإنما يحملون هذا كله على عليّ نفسه، وعلى معاصريه(١) .

وقال في صفحة ١٨٩:

وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يُحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيقون إليهم أكثر مما قالوا، وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثم يتقدم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الامور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.

وقال في صفحة ٩٨ و ٩٩:

«إن ابن سبا كان متكلفاً منحولاً(٢) قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين

____________________

(١) وسنرى في الفصل التالي أن أحمد أمين في أيامه الأخيرة نقض أقواله بحق الشيعة التي سطرها في فجر الإسلام وضحاه. وهكذا يشهد قطبان كبيران بأن الشيعة اتهموا بأشياء كذباً وافتراء.

(٢) ألف السيد مرتضى العسكري كتاباً في ابن سبا أثبت بالأرقام أنه منحول لا وجود له في الواقع.

٥٤

الشيعة و غيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب - أي مذهب الشيعة - عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم، والتنكيل بهم. ان ابن سبا شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج».

هذي هي الصفات التي تميز خصوم الشيعة اليوم، وقبل اليوم: جدال بدون علم ومعرفة، واختراع أشخاص لا أساس لهم ولا أصل، لغاية الكيد والتنكيل، وافتراء الأعاجيب والأكاذيب، لإشاعة الفتنة والتضليل. أدرك ذلك كله، وشهد به الدكتور طه حسين حين بحث التاريخ موضوعياً وللحقيقة وحدها، مجرداً عن الأهواء والغايات، وأعلن هذه الحقيقة بلسان واضح مبين، وقدم الشواهد والدلائل، وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى طرف منها، ونذكر الآن لوناً آخر من الأكاذيب التي تهدف فيما تهدف إلى اخراج الشيعة من الإسلام كلية:

لقد زعم خصوم الشيعة فيما زعموا أن التشيّع دين مستقل ابتدعه الفرس كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال متسترين باسم التشيع.

وفند هذا الزعم بالأدلة والأرقام السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»، والشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة»، وكثير من المستشرقين، منهم فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» وآدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وجولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة»، وغيرهم. ويتلخص ما ذكروه من الردود، وما نضيفه إليها بما يلي:

١ - أثبتنا فيما تقدم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الباعث الأول لفكرة التشيع، وأرجعنا ما تدين به الإمامية إلى نصوص الكتاب والسنة، وذكرنا عدداً وافراً من الصحابة الذين قالوا بوجود النص على علي بالخلافة.

٢ - قال السيد الأمين في القسم الأول من الجزء الأول ص ٤٩ طبعة سنة ١٩٦٠:

«إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل منهم. وجل علماء السنة وأجلاؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي

والنسائي وابن ماجة، والرازي والبيضاوي وفخر الدين الرازي، وصاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني، وأبي القاسم البلخي والقفال والمروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي، والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي، وغيرهم ممن لا يبلغهم الإحصاء.

٥٥

ومن دخل من الفرس وتشيع فحاله حال من تشيع من سائر الأمم، كالعرب والترك والروم وغيرهم لا باعث له إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم جاز أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام ، لأنه غلب وقهر الجميع لا الفرس وحدهم.

والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة اللّه في خلقه. إن الذين نشروا التشيع في قم وأطرافها الأشعريون، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج، وغلبوا عليها، واستوطنوها، وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج إليها وزاد الانتشار واتسع في إيران في عصر الصفوية الذين نصروا التشيع، وهم عرب، لأنهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر، لا يمكن بحال أن يتعصبوا للأكاسرة، والذين يجوز في حقهم ذلك هم قدماء الفرس، وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن».

أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران هم بين عربي أصيل، كالإمام الرضا والأشعريين(١) أو من أصل عربي كالصفوية، وأن الذين دعموا التسنن وناصروه هم فرس أقحاح، كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم. فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام، كما زعم خصوم الشيعة فأولى ثم أولى أن يحاولوا تحقيق غاياتهم عن طريق التسنن لا التشيع، إذ

______________________

(١) في سنة ٨٣ هجري خرج ابن الأشعث على الحجاج، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان بينهم خمسة إخوة: عبد اللّه والأحوص وعبد الرحمن وإسحق ونعيم أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو عمهم، وكان المتقدم من هؤلاء عبد اللّه وكان له ولد يتشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل التشيع إلى أهلها (الكنى والألقاب) ترجمة القمي.

٥٦

المفروض أن سبب التشيع في إيران يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف. ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشيء إلا للكيد والتنكيل، كما قال الدكتور طه حسين. وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

وقال الشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة» ص ٨ المطبعة الزهراء بالنجف:

«كان للإمام ثلاثة حروب: الجمل، وصفين والنهروان. وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية. أكانت قريش من الفرس أم الأوس والخزرج، أم مذحج، أم همدان، أم طي، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟ وهل كان زعماء جيشه غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم هاشم المرقال، أم مالك الأشتر، أم صعصعة بن صوحان، أم أخوه زيد، أم قيس بن سعد، أم ابن عباس، أم محمد بن أبي بكر، أم حجر بن عدي بن حاتم، وأمثال هؤلاء من القواد؟».

أما أصحاب الحسن والحسين فكلهم عرب، وجلهم من أصحاب أبيهما أمير المؤمنين.

وقال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص ٢٤١ طبعة سنة ١٩٥٨ يرد على المستشرق دوزي الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل:

«أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إن التشيع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي». وقال في ص ١٤٨: «كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء القبائل.

وهذا يعزز ما قاله السيد الأمين في الأعيان من أن التشيع في إيران جاء من أصل عربي لا من أصل فارسي».

وقال المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية» ص ١٠٢ وما بعدها

طبعة سنة ١٩٥٧ ما ملخصه:

«إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية، يخالف الإسلام. فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عمان وهجر وصعدة. أما إيران فكانت كلها سنة ما عدا

٥٧

«قم» وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية، حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل، كما نقل المقدسي».

وإذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغير إيران، فهل جاء غلو بعض أهالي أصفهان في معاوية، ورفعه إلى منصب النبوة والرسالة، هل جاء هذا الغلو في معاوية نتيجة لتشيع الفرس؟ إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة، كما قال الدكتور طه حسين. قالوا: إن الغلو في علي جاء من الفرس. ثم ينقل عالم من علمائهم مثل المقدسي أن بعض الفرس غالى في معاوية، حتى جعلوه نبياً مرسلاً. ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول: إن الفرس كانوا على التسنن حين كان سكان الجزيرة العربية على التشيع؟ وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليه آراءه وأحكامه.

وقال المستشرق جولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة» ص ٢٠٤ طبعة ١٩٤٦:

«إن من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه، ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية. فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(١) » وما هؤلاء

________________

(١) إن علماء المسلمين العرب هم الذين أدخلوا التشيع إلى فارس، وأرشدوا الفرس إليه. بشهادة الشيخ أبي زهرة، قال في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص ٩٤٥: «أما فارس وخراسان، وما وراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين ثانياً، وإن التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً، قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها». فالفرس - إذن - تشيعوا على أيدي العرب، ولم يخلقوا التشيع من تلقائهم كيداً للإسلام.

٥٨

المستشرقون الثلاثة كل من نطق بهذه الحقيقة. فهناك كثيرون غيرهم قالوا هذا القول، دون أن يقصدوا الذب والدفاع عن الشيعة، وعقيدة التشيع، وإنما هدفهم الأول بيان الحقيقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. وكنا في غنى عن الاستشهاد بأقوالهم، لو تحرر خصوم الشيعة عن التعصب الأعمى، ونزوات الأهواء والأغراض.

هذا، إلى أن السنة قد أخذوا بعض العادات من غيرهم، كعيد رأس السنة الهجرية الذي أحدثوه في زماننا، وعيد المولد النبوي الشريف تقليداً للمسيحيين الذين يحتفلون بميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الميلادية. وكان علماء السنة، في القرن الثامن الهجري يعدون الاحتفال بالمولد النبوي مخالفاً للسنة، لأنه لا عيد في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد رمضان، وصدرت فتاوى من شيوخهم بتحريمه، على اعتبار أنه بدعة وضلالة(١) . ولو أردنا أن نتعصب لقلنا: إن مذهب التسنن مأخوذ من المسيحيين، لا من الكتاب والسنة.

وبالتالي، فإن الذي اجتذب الفرس وغير الفرس إلى التشيع هو الإسلام الصحيح، وحب الرسول وآله، واستشهاد الأخيار في سبيله، وملاءمته للحياة، ومناصرته للضعفاء والمضطهدين، أجل، كان الفرس منذ عهد الصفويين، حتى اليوم من أقوى الدعائم للشيعة، ومذهب التشيع، وهذا هو السر الذي بعث خصوم الشيعة على أن يصوروا الفرس، وكأنهم أعدى أعداء الإسلام، مع العلم بأنه لولا الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا نعرف أمة خدمت الإسلام، ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره.

وهل من شيء أدل على عداوة هؤلاء للحق والإسلام من تشنيعهم على الشيعة،

______________________

(١) نقله بعض المؤلفين عن كتاب «بيت الصديق» للبكري ص ٤٠٤ طبعة ١٣٢٣ هجري.

٥٩

وسكوتهم عن الخوارج الذين قال عنهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. بل إن الشاطبي أوصى بالستر عليهم، وعدم التعرض لهم، مع اعترافه بمروقهم من الدين. قال في كتاب «الموافقات» ج ٤ ص ١٧٨ وما بعدها مطبعة الرحمانية بمصر ما ملخصه:

«قال النبي: إن من ضئضئي هذا - يعني ذا الخويصرة - قوماً يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وقد بين النبي بهذا الحديث من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين: أحدهما: اتباع القرآن على غير تدبر، ولا نظر في مقاصده ومعاقده. ثانيهما: قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

وذكر الناس من آرائهم غير ذلك، كتكفيرهم لأكثر الصحابة وغيرهم، ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام، وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم بأنه حلال، أو حرام فليس بمؤمن. وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، والقاذف للرجال لا يحد. وأن اللّه سيبعث نبياً من العجم بكتاب ينزله اللّه عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد. وإنكارهم سورة يوسف من القرآن، وأشباه ذلك، وكلها مخالفات شرعية.

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة. وقد أمرنا بالستر على المذنبين». وإذا أمرنا بالستر على من خرج من الإسلام، فهل يجب التقبيح والتشنيع على من هم من الإسلام في الصميم؟! وغريب أن يقول عالم كالشاطبي: إن النبي أخرج الخوارج من الإسلام، ثم يزعم أن أمرهم مرجى إلى اللّه، ويوصي بالستر عليهم، والسكوت عنهم. أليس معنى هذا قال النبي، وأقول؟!

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة

هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام» وضحاه الإمامية هجوماً عنيفاً، ورد عليه يومذاك علماؤهم رداً منطقياً، وأثبتوا بشهادة التاريخ وكتبهم العقائدية أنه أحل العاطفة محل العقل، والتعصب محل العدل، والخيال محل الواقع. ومن الذين تصدوا للرد عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة وأصولها».

وبعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك أصيب بنظره، وعجز عن القراءة والكتابة، وفي أيامه الأخيرة - سنة ١٩٥٢ - استعان بغيره، وأملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحس ولا يشعر بما كان قد أنكره على الإمامية، من ذلك:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

انّه لهو هو ثم أقبلت عليّ فقالت : فداك أبي و امي و اللّه لو استطعت أن أقيك ممّا أنت فيه بنفسي و أهلي لفعلت و كنت بذلك مني حقيقا ، و واللّه لا تركت المعاونة لك و السعي في حاجتك و خلاصك بكلّ حيلة و مال و شفاعة و هذه دنانير و ثياب و طيب فاستعن بها على موضعك و رسولي يأتيك كلّ يوم بما يصلحك حتى يفرّج اللّه عنك ، ثم أخرجت إليّ كسوة و طيبا و مائتي دينار ، و كان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف و يتواصل برها بالسجّان فلا يمتنع من كلّ شي‏ء أريده حتى منّ اللّه عليّ بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة و الأمر إلى أبي فأتيته فخطبتها إليه فردني و قال ما كنت لأحقق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها و قد صيرتنا فضيحة فقمت من عنده منكسا مستحييا و قلت له في ذلك :

رموني و إياها بشنعاء هم بها

أحق أدال اللّه منهم معجلا

بأمر تركناه و ربّ محمد

عيانا فأما عفة أو تجملا

قال إبراهيم ابن المدبر فقلت له ان عيسى صنيعة أخي و هو لي مطيع و أنا أكفيك أمره فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله و قلت له جئتك في حاجة فقال مقضية فقلت جئتك خاطبا إليك ابنتك .

فقال هي لك امة و أنا لك عبد و قد أجبتك فقلت اني خطبتها على من هو خير مني أبا و أما و أشرف صهرا و متصلا محمد بن صالح العلوي فقال لي يا سيدي هذا رجل قد لحقنا بسببه ظنّة و قيلت فينا أقوال فقلت أفليست باطلة ؟

قال : بلى ، قلت فكأنّها لم تقل و إذا وقع النكاح زال كلّ قول و شنيع ، و لم أزل أرفق به حتى أجاب ، و بعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته و ما برحت حتى زوجته و سقت الصداق عنه١ و فيه بعث ابن الزبير ابن الأزرق المخزومي على بعض

____________________

( ١ ) الأغاني لأبو الفرج الاصفهاني ١٦ : ٣٦٤ ٣٦٧ .

٢٦١

أعمال اليمن فأعطى أعطية سنية و بث في قريش منها أشياء جزيلة فأثنت عليه قريش و وفدوا إليه فأسنى لهم العطايا و بلغ ذلك ابن الزبير فحسده و عزله بابراهيم بن سعد بن أبي وقاص فلما قدم عليه أراد أن يحاسبه .

فقال له مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل و قدم مكة فخافت قريش ابن الزبير عليه أن يفتشه أو يكشفه فلبست السلاح و خرجت إليه لتمنعه فلما لقيهم نزلت إليه قريش فسلمت عليه و بسطت له أرديتها و تلقته امائهم و ولائدهم بمجامر الالوة و العود المندلي يبخرون بين يديه حتى انتهى إلى المسجد و طاف بالبيت .

ثم جاء إلى ابن الزبير فسلّم عليه و هم معه مطيفون به فعلم ابن الزبير انّه لا سبيل له إليه فما عرض و لا صرّح له بشي‏ء و مضى إلى منزله .

و في الجهشياري « كان عبد اللّه بن أبي فروة ، و عبد الملك بن مروان ،

و مصعب بن الزبير في حداثتهم اخلاّء لا يكادون يفترقون ، و كان إذا اكتسى عبد الملك كسوة اكتسى الخليلان مثلها فاكتسى عبد الملك حلة ، و اكتسى ابن أبي فروة مثلها ، و بقي مصعب لا يجد ما يكتسي به و كان أقلّهم شيئا فذكر ابن أبي فروة ذلك لأبيه فكساه مثل حليتهما على يد ابنه فلما ولّى مصعب العراق استكتب ابن أبي فروة فكان عنده يوم إذ أتى مصعب بعقد جوهر قد أصيب في بعض بلاد العجم لبعض ملوكهم لا يدري ما قيمته ، فجعل مصعب يقلبه و يعجب منه .

ثم قال لابن أبي فروة ايسّرك ان أهبه لك قال نعم و اللّه أيها الأمير فدعه إليه فرآه قد سر به سرورا شديدا فقال مصعب : و اللّه لأنا بالحلة يوم كسوتنيها أشدّ سرورا منك بهذا ، الآن ، و كان العقد سبب غناء ابن أبي فروة و غنا عقبه ، و ذكر مصعب الزبيري ان عامل خراسان وجد كنزا فيه نخلة كانت

٢٦٢

مصنوعة من الذهب لكسرى عثاكيلها من لؤلؤ و جوهر و ياقوت أحمد و أحضر فحملها إلى مصعب فجمع لها المقوّمين فقوّموها بألفي ألف دينار فقال إلى من أدفعها ؟ فقيل إلى نسائك و أهلك فقال لا بل أرفعها إلى رجل قدم عندنا يدا و أولانا جميلا أدعوا عبد اللّه بن أبي فروة فدفعها إليه فلما قتل مصعب كاتب عبد الملك و بذل له مالا فسلم منه بماله و كان أيسر أهل المدينة .

٩ الحكمة ( ٢٧ ) و قالعليه‌السلام :

أَفْضَلُ اَلزُّهْدِ إِخْفَاءُ اَلزُّهْدِ أقول : فاذا أشاعه فهو دليل حرصه على الدنيا لازهده فيها فالزهد ليس ترك التنعم من نعمه تعالى بل ترك التعلّق بالدنيا كما قال تعالى :لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم .١ فقالواعليهم‌السلام جمع اللّه تعالى الزهد في هاتين الكلمتين ، و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام قال : بينا أنا في المطاف و إذا برجل يجدّب ثوبي ، و إذا هو عباد بن كثير البصري .

فقال يا جعفر بن محمد تلبس مثل هذه الثياب و أنت في هذا الموضع مع المكان الذي أنت فيه من عليّ فقلت ثوب قرقبي اشتريته بدينار و كان عليعليه‌السلام في زمان يستقيم له ما لبس و لو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس هذا مراء مثل عباد و روى أيضا اعتراض سفيان الثوري عليهعليه‌السلام في لباسه ، و قال له ما لبس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ذلك فقالعليه‌السلام : ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في زمان قتر مقتر و ان الدنيا أرخت بعد ذلك عزاليها فأحق أهلها بها أبرارها

____________________

( ١ ) الحديد : ٢٣ .

٢٦٣

ثم تلاعليه‌السلام قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعبادهو الطيبات من الرزق .١ و نحن أحق من أخذ منها ما أعطاه اللّه غير اني يا ثوري ما ترى عليّ من ثوب لبسته للناس ثم اجتذب يد سفيان إليه و رفع الثوب الأعلى و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا فقال هذا لبسته لنفسي و ما رأيته للناس .

ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ جشن و داخل ذلك ثوب لين فقال لبست أنت هذا الأعلى للناس و لبست هذا لنفسك تسترها .

١٠ الحكمة ( ٣٣ ) و قالعليه‌السلام :

كُنْ سَمْحاً وَ لاَ تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لاَ تَكُنْ مُقَتِّراً أقول : التبذير و التقدير مذمومان أما الأول فقال تعالى : .و لا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا ٢ .

و أما الثاني فقال تعالى :قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي اذن لأمسكتم خشية الإنفاق و كان الإنسان قتورا ٣ و انما الممدوح السمح المقدر فقال تعالى :و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما ٤ .

و في الخبر أخذ الصادقعليه‌السلام قبضة من حصى و قبضها بيده فقال هذا « الاقتار » الذي ذكره اللّه تعالى .

____________________

( ١ ) الاعراف : ٣٢ .

( ٢ ) الاعراف : ٣٢ .

( ٣ ) الاسراء : ٢٦ ٢٧ .

( ٤ ) الاسراء : ١٠٠ .

٢٦٤

ثم أخذ قبضة أخرى و أرخى كفّه كلّها ثم قال هذا « الاسراف » الذي ذكره تعالى ثم أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها و قال هذا « القوام » الذي ذكره تعالى .

و في ( الكافي ) جاء سائل إلى الصادقعليه‌السلام فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ فناوله بيده ثم جاء آخر فقالعليه‌السلام : اللّه رازقنا و إياك ثم قال ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يسأله أحد إلاّ أعطاه فأرسلت امرأة ابنها إليه يسأله و قالت له : فإن قال ليس عندنا شي‏ء فقل اعطني قميصك ، ففعل فأخذصلى‌الله‌عليه‌وآله قميصه فرمى به إليه فأدبه اللّه تعالى على القصد فقال :و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوما محسورا ١ و روي ان الكاظمعليه‌السلام سئل عن النفقة على العيال فقال بين المكروهين الاسراف و الاقتار .

١١ الحكمة ( ٤٢٥ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً اِخْتَصُّهُمْ اَللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ اَلْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ « ان للّه عبادا اختصهم اللّه بالنعم لمنافع العباد » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ان « للّه عبادا يختصهم بالنعم » الخ كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و يشهد لكونه « يختصهم » السياق فبعده « فيقرّها » و لزيادة لفظ الجلالة تقدمه هذا و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام « ان من بقاء المسلمين و بقاء الاسلام ان تصير

____________________

( ١ ) الاسراء : ٢٩ .

٢٦٥

الأموال عند من يعرف فيها الحق يصنع فيها المعروف و ان من فناء الاسلام و فناء المسلمين ان تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق و لا يصنع فيها المعروف » و عن الباقرعليه‌السلام : « ان اللّه تعالى جعل للمعروف أهلا من خلقه حبّب إليهم فعاله و وجّه لطلاّب المعروف الطلب إليهم و يسّر لهم قضاءه كما يسّر الغيث للأرض المجدبة ليحييها و يحيي به أهلها و انّه تعالى جعل للمعروف أعداء من خلقه بغّض إليهم المعروف و بغّض إليهم فعاله و حظر على طلاب المعروف الطلب و حظر عليهم قضاءه كما حرّم الغيث على الأرض المجدبة ليهلكها و يهلك أهلها » و عن الصادقعليه‌السلام : « ان للجنّة بابا يقال له المعروف لا يدخله إلاّ أهل المعروف » و عنهعليه‌السلام « أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة يقال لهم ان ذنوبكم قد غفرت لكم فهبوا حسناتكم لمن شئتم » و عنهعليه‌السلام قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان أهل المعروف يعرفون بمعروفهم في الدنيا فبم يعرفون في الآخرة ؟ فقال إذا ادخل اللّه تعالى أهل الجنة الجنّة أمر ريحا عبقة طيبة فلزقت بأهل المعروف فلا يمر أحد منهم بملأ من أهل الجنّة إلاّ وجدوا ريحه فقالوا هذا من أهل المعروف .

و في ( وزراء الجهشياري ) دعا الرشيد صالحا صاحب المصلّى حين تنكّر للبرامكة فقال له : أخرج إلى منصور بن زياد ، فقل له قد صحت عليك عشرة آلاف الف درهم فاحملها إلى في يومك هذا فان هو دفعها إليك كاملة قبل مغيب الشمس من يومك هذا و إلاّ فاحمل رأسه اليّ و إيّاك و مراجعتي في شي‏ء من أمره قال صالح :

فخرجت إلى منصور و هو في الدار فعرفته الخبر .

٢٦٦

فقال : انّا للّه و انّا إليه راجعون ذهبت و اللّه نفسي ثم حلف انّه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف درهم فكيف عشرة آلاف الف درهم فقال له صالح جد في عملك فقال له امض بي إلى منزلي حتى أوصي و اتقدّم في أمري فمضى فما هو ان دخل حتى ارتفع الصراخ من منازله و حجر نسائه فأوصى و خرج و ما فيه لحم و لادم ، فقال صالح : امض بنا إلى أبي علي يحيى بن خالد لعل اللّه أن يأتينا بفرج من جهته فمضى معه فدخل على يحيى و هو يبكي فقال يحيى ما وراءك ؟ فقص عليه القصة فقلق يحيى بأمره و أطرق مفكّرا ثم دعا خازنه فقال كم عندك من المال ؟ قال : خمسة آلاف ألف درهم ، قال احضرني مفاتيحها فأحضرها ثم وجّه إلى الفضل انّك أعلمتني ان عندك فداك أبوك ألفي ألف درهم قدرت أن تشتري بها ضيعة و قد أصبت لك ضيعة يبقى ذكرها و شكرها و تحمدن ثمرتها فوجّه إلينا بالمال فوجّه به .

ثم قال للرسول امض إلى جعفر فقل له ابعث إلى فداك أبوك ألف ألف درهم بحق لزمني ، فوجّه إليه فقال صالح هذه ثمانية آلاف ألف ألف درهم ثم أطرق أطراقه لأنّه لم يكن بقي عنده شي‏ء ثم رفع رأسه إلى خادم على رأسه و قال له امض إلى دنانير فقل لها وجهي الي بالعقد الذي كان الخليفة و هبك إيّاه فجاء به فاذا عقد كعظم الذراع فقال لصالح : اشتريت هذا للخليفة بمائة ألف و عشرين ألف دينار فوهبه لدنانير و قد حسبناه عليك بألفي ألف درهم و هذا تمام المال فانصرف و خل عن صاحبنا قال صالح فأخذت ذلك و رددت منصورا معي فلما صرنا بالباب انشد منصور متمثلا :

٢٦٧

فما بقيا عليّ تركتماني

و لكن خفتما صرد النبال

فقال صالح : ما على ظهر الأرض كلّها رجل هو أنبل من رجل خرجنا من عنده و لا سمعت بمثله في من مضى و لا يكون مثله في من بقى ، و لا على ظهر الأرض رجل أخبث سريرة و لا أردء طبعا من هذا النبطي إذ لم يشكر من أحياه ، قال و صرت إلى الرشيد فقصصت عليه قصة المال و طويت عنه ما قاله المنصور لأني خفت ان سمعه ان يقتله .

فقال لي الرشيد اما اني قد علمت انّه ان نجا لم ينج إلاّ بأهل هذا البيت و قال اقبض المال و اردد العقد على ( دنانير ) فاني لم أكن لأهب هبة و ترجع اليّ قال صالح : فلم أطب نفسا ترك تعريف يحيى ما قال منصور فقلت له لمّا رأيته بعد أن أطنبت في شكره و وصف ما كان منه لقد أنعمت على غير شاكر قابل أكرم فعل بالام قول قال و كيف ذاك فأخبرته بما قال فجعل و اللّه يطلب له المعاذير و يقول « يا أبا علي ان المتحوب القلب ربما سبقه لسانه بما ليس في ضميره و قد كان الرجل في حال عظيم » فقلت و اللّه ما أدري من أي أمر بك أعجب أمن الأول أم من الثاني و لكني أعلم ان الدهر لا يخلف مثلك .

( أيضا ) حكي ان المأمون قال يوما لمحمد بن عباد المهلبي بلغني ان فيك سرفا فقال له « ان البخل مع الوجود سوء ظن باللّه تعالى و اني لأهمّ بالإمساك فاذكر قول اشجع السلمي في جعفر البرمكي :

يحب الملوك ندى جعفر

و لا يصنعون كما يصنع

و ليس بأوسعهم في الغنى

و لكن معروفة أوسع

٢٦٨

و كيف ينالون غاياته

و هم يجمعون و لا يجمع »

فأمر له المأمون بمأة ألف دينار و قال له استعن بها على مروءتك .

« يقرها في أيديهم ما بذلوها فاذا منعوها نزعها منهم ثم حولها إلى غيرهم » و الأصل فيه قوله تعالى : .ان اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم . .١ و قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

« لم يعطك اللّه ما أعطاك من نعم

إلاّ لتوسع من يرجوك احسانا

فان منعت فاخلق ان تصادفها

تطير عنك زرافات و وجدانا »

١٢ الخطبة ( ١٦١ ) و من خطبة لهعليه‌السلام :

لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ وَ لْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ وَ لاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ اَلْجَاهِلِيَّةِ لاَ فِي اَلدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لاَ عَنِ اَللَّهِ يَعْقِلُونَ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً « ليتأس صغيركم بكبيركم » الصدوق في ( ثواب أعماله ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( من عرف فضل شيخ كبير فوقّره لسنّه آمنه اللّه من فزع يوم القيامة ، و من تعظيم اللّه عز و جل إجلال ذي الشيبة المؤمن ) .

« و ليرأف كبيركم بصغيركم » جاء ( رأف ) بالضم و الفتح و الكسر قال الجوهري « قال أبو زيد » « رؤفت بالرجل و رأفت به أراف و رئفت به كلّ ذلك من كلام العرب » و على الأول فليقل ( و ليرؤف ) كما في ( ابن أبي الحديد ) و على الأخيرين ( فليرأف ) كما في ( المصرية ) هذا و في أدب الشرع معاملة الكبير مع

____________________

( ١ ) الرعد : ١١ .

٢٦٩

الصغير معاملته مع ولده كما ان الصغير عليه أن يعامل الكبير معاملة والده و ان من كان في سنّه يجعله كأخيه .

« و لا تكونوا كجفاة الجاهلية » في ( الأغاني ) قتلت بنو سهم و هم بطن من هذيل عمرو بن عاصية السلمي فاستسقاهم ماء فمنعوه ثم قتلوه فقالت اخته

هلا سقيتم بني سهم أسيركم

نفسي فدائك من ذي غلة صادي

فغزا أخوه هذيلا يطلبهم بدم أخيه فقتل منهم نفرا و سبى امرأة فجرّدها ثم ساقها معه عارية إلى بلاد بني سليم فقالت اخته :

الا مت سليم في السياق و أفحشت

و تفرط في سوق العنيف اسارها

لعلّ فتاة منهم ان يسوقها

فوارس منّا و هي باد شوارها١

و قد صاروا أجفى منهم فقتلوا أهل بيت نبيّهم في الشهر الحرام مع تحريم أهل الجاهلية القتال فيه « لا في الدين يتفقهون » .فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ٢ .

« و لا عن اللّه يعقلون »و ما أوتيتم من شي‏ء فمتاع الحياة الدنيا و زينتها و ما عند اللّه خير و أبقى أفلا تعقلون ٣ و هو الذي يحيي و يميت و له اختلاف الليل و النهار أفلا تعقلون ٤ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمي الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ٥ و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به

____________________

( ١ ) الأغاني لأبو الفرج الاصفهاني ١٢ : ١٠٨ .

( ٢ ) التوبة : ١٢٢ .

( ٣ ) القصص : ٦٠ .

( ٤ ) المؤمنون : ٨٠ .

( ٥ ) الحج : ٤٦ .

٢٧٠

الأرض من بعد موتها ليقولن اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعقلون ١ و ( يتفقهون ) و ( يعقلون ) ان كانا بالخطاب كما في ( ابن أبي الحديد ) فالمراد المخاطبون المشبهون بجفاة الجاهلية و ان كانا بالغيبة فالمراد بهما المشبه بهم .

« كقيض بيض في اداح يكون كسرها وزرا و يخرج حضانها شرّا » في نهاية ابن الأثير « في حديث عليعليه‌السلام ( لا تكونوا كقيض بيض في أداح يكون كسرها وزرا و يخرج حضانها شرّا القيض قشر البيض ، و منه حديث ابن عباس « إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم فاذا كان ذلك قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها » : أي شقت من ( قاض الفرخ البيضة فانقاضت ) الخ .

قال ابن أبي الحديد في معنى الكلام « شبههم ببيض الأفاعي في الأعشاش يظن بيض القطا فلا يحل لمن رآه أن يكسره لأنّه يظنّه بيض القطا و حضانه يخرج شرا لأنّه يفقص عن أفعى ، و استعار لفظة الاداحي للأعشاش لأن الاداحي لا تكون إلاّ للنعام تدحو بأرجلها و تبيض فيه و دحوها توسيعها من ( دحوت الأرض ) و القيض : الكسر » الخ و تبعه ابن ميثم و الخوئي و لم أدر من أين خص البيض ببيض الأفاعي فالبيض مطلق و القيض غير دال عليه و لعلّه استند إلى وصف ( و يخرج حضانها شرّا ) إلاّ انّه لا بد في اللفظ من إيماء و ليس كما ان قوله القيض الكسر بلا وجه لأنّه يصير المعنى ( ككسر بيض يكون كسرها وزرا ) و انما القيض القشر كما عرفته من النهاية و في ( القاموس ) « القيض القشرة العليا اليابسة على البيضة أو هي التي خرج ما فيها من فرخ أو ماء و موضعها المقيض » و قال أوس بن حجر يصف قوسا كما في اللسان في ملك .

____________________

( ١ ) العنكبوت : ٦٣ .

٢٧١

فملك بالليط التي تحت قشرها كغرقى بيض كنه القيض من عل كما ان قوله « استعار لفظة الأداحي للأعشاش » لأن الأداحي لا تكون إلاّ للنعام » أيضا بلا وجه فالقطا الذي يفحص في الأرض أيضا له أدحى قال الجوهري « عش الطائر موضعه في افنان الشجر فاذا كان في بجل أو جدار فهو و كر و وكن و إذا كان في الأرض فهو أفحوص و أدحى » فتراه صرح بأن الطير قد يكون له عش و قد يكون له و كر و قد يكون له أدحى و انما توهم ابن أبي الحديد ما قال من قول الجوهري « مدحى النعامة موضع بيضها ، و ادحيها موضعها الذي تفرخ فيه و هو أفعول من ( دحوت ) لأنّها تدحو برجلها ثم تبيض فيه و ليس للنعام عش » فتراه انما قال ليس لها عش بل ادحى و لم يقل ان الأدحى منحصر بها و بالجملة كون المراد بالكلام ما ذكر غير معلوم و الحقيقة فيه لم أقف عليها بعد نسأل منه تعالى الإرشاد انّه ولي الرشاد و لا يبعد أن يكون المراد بالقيض التشقق فانشدوا كما في اللسان لأبي ذؤيب :

فراق كقيض السن فالصبر انّه

لكلّ اناس عثرة و جبور

هذا و في الدميري يقال للقطاة أم ثلاث لأنها أكثر ما تبيض ثلاث قال الشاعر .

و ام ثلاث ان شببن عققنها

و ان متن كان الصبر منها على نصب

أي ان شبت فراخها فارقتها فكان ذلك عقوقا لها و ان متن لم تصبر إلاّ و هي قلقة و النصب و التعب و قال « النعامة تترك بيضها و تخرج لتحصيل طعم فان وجدت بيض نعامة اخرى تحضنه و تنسى بيضها و لعلّها ان تصاد فلا ترجع و لذا يضرب بها المثل في ذلك قال ابن هرمة :

فاني و تركي ندى الأكرمين

و قدحي بكفي زنادا شحاحا

كتاركة بيضها بالعراء

و ملبسة بيض اخرى جناحا

٢٧٢

و في ( ديوان معاني ) شعر العسكري من أجود ما قيل في بيض الحديد من قديم الشعر قول سلامة بن جندل .

إذا ما علونا ظهر نشز كانما

على الهام منا قيض بيض مفلق

و المفهوم منه انّه شبّه بيض الحديد ببيض الطير .

١٣ الحكمة ( ٥٥ ) و قالعليه‌السلام :

اَلصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ أقول : و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنّة فيضربونه فيقال لهم من أنتم ؟ فيقولون أهل الصبر فيقال لهم على ما صبرتم فيقولون كنّا نصبر على طاعة اللّه و نصبر عن معاصي اللّه فيقول تعالى صدقوا ادخلوهم الجنّة و هو قوله تعالى .انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ١ .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة و صبر على الطاعة و صبر على المعصية فمن صبر عند المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء و الأرض و من صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش و من صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش » .

و عن الصادقعليه‌السلام « من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد » .

____________________

( ١ ) الزمر : ١٠ .

٢٧٣

و عنهعليه‌السلام « انّه تعالى أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم و بالا ،

و ابتلي قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة » .

و عنهعليه‌السلام « ان اللّه تعالى بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر و الرفق فقال و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلاو ذرني و المكذبين أولي النعمة .١ و قال .ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنّه ولي حميم و ما يلقاها إلاّ الذين صبروا و ما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم ٢ فصبر حتى نالوه بالعظائم فضاق صدره فانزل تعالىو لقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك و كن من الساجدين ٣ ثم كذّبوه و رموه فأنزلو لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا و اوذوا حتى اتاهم نصرنا .٤ فالزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه الصبر ، فتعدوا و ذكروا اللّه فقال لا صبر لي على ذكر ربي فانزل تعالىو لقد خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام و ما مسّنا من لغوب فاصبر على ما يقولون . .٥ فصبر في جميع أحواله ثم بشّر في عترته بالائمة و وصفوا بالصبر فقالو جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون ٦ .

فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « الصبر من الايمان كالرأس من الجسد فشكر تعالى ذلك له فأنزل .و تمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما

____________________

( ١ ) المزمل : ١٠ ١١ .

( ٢ ) فصلت : ٣٤ ٣٥ .

( ٣ ) الحجر : ٩٧ ٩٨ .

( ٤ ) الانعام : ٣٤ .

( ٥ ) ق : ٣٨ .

( ٦ ) السجدة : ٢٤ .

٢٧٤

صبروا و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه و ما كانوا يعرشون ١ .

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشرى و انتقام فأباح اللّه تعالى له قتال المشركين فأنزل .فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كلّ مرصد . .٢ فقتلهم اللّه على أيدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و احبائه و عجّل له ثواب صبره ، مع ما ادّخر له في الآخرة ، فمن صبر و احتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر اللّه تعالى عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في آخرته .

١٤ الحكمة ( ٥٧ ) و ( ٤٧٥ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَ يَنْفَدُ أقول : هذا من المواضع التي كررها المصنف كما عرفت سهوا و أما قوله و قد روى بعضهم هذا الكلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فانما هو في الموضع الثاني اتفق عليه الكلّ ابن أبي الحديد و ابن ميثم و ( الخطّية ) و نقل ( المصرية ) تحريف .

و أما في الموضع الأول فانما تفرّد بنقله ابن أبي الحديد و ليس في ( ابن ميثم ) الذي نسخته بخط المصنف .

و كيف كان فسر الحياة الطيبة في قوله تعالىمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .٣ بالقناعة و لبعضهم ( إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن على حالة إلاّ رضيت بدونها و من طلب العليا من العيش لم يزل حقيرا و في الدنيا أسير غبونها ) و قال بعض الحكماء لابنه

____________________

( ١ ) الاعراف : ١٣٧ .

( ٢ ) التوبة : ٥ .

( ٣ ) النحل : ٩٧ .

٢٧٥

« العبد حرّ إذا قنع و الحر عبد إذا طمع » و عنهعليه‌السلام « من رضي في الدنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه و من لم يرض من الدنيا بما يجزيه لم يكن فيها شي‏ء يكفيه » و عن الباقرعليه‌السلام « اياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك فكفى بما قال اللّه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله و لا تعجبك أموالهم و لا أولادهم . و لا تمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا . فان دخلك من ذلك شي‏ء فاذكر عيش رسوله فانما كان قوته الشعير و حلوه التمر الخبر .

١٦ الحكمة ( ١٤٠ ) و قالعليه‌السلام :

مَا عَالَ مَنِ اِقْتَصَدَ أقول : هكذا في ( المصرية ) و الصواب ما في ( ابن ميثم ) « ما عال امرؤ اقتصد » و كذا ابن أبي الحديد ( ما عال ) يعني ما افتقر و اما ( ما أعال ) فمعناه ما كثرت عياله و لا معنى له هنا و المقتصد لا يفتقر و يمكنه إعانة آخرين بخلاف غير المقتصد فانّه مع عدم تيسر نفع منه إلى غيره يصير معسرا يوما و الاقتصاد محمود حتى في الانفاق في سبيل اللّه قال تعالىو الذين إذا انفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما ١ و كذا في باقي العبادات ففي ( الكافي ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « ان هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق و لا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباده فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع و لا ظهرا أبقى .

١٧ الحكمة ( ١٥٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَعْدَمُ اَلصَّبُورُ اَلظَّفَرَ وَ إِنْ طَالَ بِهِ اَلزَّمَانُ مصداق قولهعليه‌السلام و شاهد كلامهعليه‌السلام قصّة يوسفعليه‌السلام مع اخوته قال تعالىقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذا أنتم جاهلون قالوا ءانك لأنت يوسف قال انا يوسف و هذا أخي قد منّ اللّه علينا انّه من يتّق و يصبر فان

____________________

( ١ ) الفرقان : ٦٧ .

٢٧٦

اللّه لا يضيع أجر المحسنين قالوا تاللّه لقد آثرك اللّه علينا و ان كنّا لخاطئين ١ و لنعم ما قيل بالفارسية :

صبر و ظفر هر دو دوستان قديم‏اند

بر اثر صبر نوبت ظفر آيد

١٨ الحكمة ( ٢٠٦ ) و قالعليه‌السلام :

أَوَّلُ عِوَضِ اَلْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ اَلنَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى اَلْجَاهِلِ أقول : رواه ابن قتيبة في ( عيونه ) عنهعليه‌السلام إلاّ انّه قال بدل ( على الجاهل ) ( على الجهول ) و روي عن الصادقعليه‌السلام ان الملائكة أيضا أنصاره على الجاهل فروي عنهعليه‌السلام « إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما قلت و قلت و أنت أهل لمّا قلت و ستجزى بما قلت و يقولان للحليم منهما صبرت و حلمت سيغفر اللّه لك ان أتممت على ذلك » فان رد الحليم عليه ارتفع الملكان » .

١٩ الحكمة ( ٤١٨ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْحِلْمُ عَشِيرَةٌ أقول : قال الأحنف « اصبت الحلم انصر لي من الرجال » و في ( الطبري ) كانت في فارس امرأة لم تلد إلاّ الملوك الأبطال فدعاها كسرى أبرويز فقال اني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا و استعمل عليهم رجلا من بنيك فاشيري عليّ أيّهم استعمل قالت هذا فلان و هو اروغ من ثعلب و أحذر من صقر ، و هذا فرخان و هو أنفذ من سنان و هذا شهر براز و هو أحلم من كذا ، فاستعمل أيّهم

____________________

( ١ ) يوسف : ٨٩ ٩١ .

٢٧٧

شئت قال فاني قد استعملت الحليم فاستعمل شهر براز الحليم فسار إلى الروم و ظهر عليهم الخبر .

و في ( العيون ) كان المتمشمش بن معاوية عم الأحنف يفضل في حلمه على الأحنف قيل فأمره أبو موسى أن يقسم خيلا في بني تميم فقسّمها فقال رجل من بني سعد ما منعك أن تعطيني فرسا و وثب عليه فمرش وجهه فقام إليه قوم ليأخذوه فقال دعوني و إيّاه اني لا اعان على واحد ثم انطلق به إلى أبي موسى فلما رآه سأله عمّا بوجهه فقال دع هذا و لكن ابن عمي ساخط فاحمله على فرس فحمله » .

هذا و فيه قال معاوية لا ينبغي أن يكون الهاشمي غير جواد و لا الزبيري غير شجاع و لا المخزومي غير تياه و لا الاموي غير حليم فبلغ ذلك الحسنعليه‌السلام فقال قاتله اللّه أراد أن يجود بنو هاشم فينفد ما بأيديهم و يتشجّع آل الزبير فيفنوا و يتيه بنو مخزوم فيبغضهم الناس و يحلم بنو اميه فيتحببوا إلى الناس .

٢٠ الحكمة ( ٢٢٤ ) و قالعليه‌السلام :

بِكَثْرَةِ اَلصَّمْتِ تَكُونُ اَلْهَيْبَةُ وَ بِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ اَلْمُوَاصِلُونَ وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ اَلْأَقْدَارُ وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ اَلنِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ اَلْمُؤَنِ يَجِبُ اَلسُّؤْدُدُ وَ بِالسِّيرَةِ اَلْعَادِلَةِ يُقْهَرُ اَلْمُنَاوِئُ وَ بِالْحِلْمِ عَنِ اَلسَّفِيهِ تَكْثُرُ اَلْأَنْصَارُ عَلَيْهِ « بكثرة الصمت تكن الهيبة » في ( الكافي ) عن الرضاعليه‌السلام « ان الصمت باب من أبواب الحكمة ان الصمت يكسب المحبة انّه دليل على كلّ خير » و عن

٢٧٨

عيسىعليه‌السلام « لا تكثروا الكلام في غير ذكر اللّه فان الذين يكثرون الكلام في غير ذكر اللّه قاسية قلوبهم و لكن لا يعلمون » و عن الرضاعليه‌السلام كان الرجل من بني اسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين » و قال ابن أبي الحديد قال يحيى البرمكي ما رأيت أحدا قط صامتا إلاّ هبته حتى يتكلّم فاما أن تزداد تلك الهيبة أو تنقص .

« و بالنصفة يكثر المواصلون » هكذا في ( المصرية ) و الصواب ( الواصلون ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) قيل لقيس بن عاصم بم سدت قومك قال ببذل الندى و كف الأذى و نصر المولى ) و في ( الكافي ) عنهعليه‌السلام « الا انّه من ينصف الناس من نفسه لم يزده اللّه إلاّ عزّا » و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و هو يريد غزوة و جاءئه أعرابي و أخذ بغرز راحلته و قال علّمني عملا ادخل به الجنّة قال « ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فاته إليهم و ما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم ، خل سبيل الراحلة » .

و عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله « ثلاث من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظلّ عرش اللّه يوم لا ظل إلاّ ظلّه رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم و رجل لم يقدّم رجلا و لم يؤخر رجلا حتى يعلم ان ذلك للّه رضا و رجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه و انّه لا ينفى منها عيبا إلاّ بدا له عيب و كفى بالمرء شغلا بنفسه من الناس » و عن الصادقعليه‌السلام « من أنصف الناس من نفسه رضى به حكما لغيره » .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « من واسى الفقير من ماله و أنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا » و عن الصادقعليه‌السلام ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده و رجل مشى بين اثنين فلم يمل مع احدهما على الآخر

٢٧٩

بشعيرة و رجل قال بالحق في ما له و عليه » و عنهعليه‌السلام « ما ابتلى المؤمن بشي‏ء أشدّ عليه من ثلاث خصال المواساة في ذات يده و الانصاف من نفسه و ذكر اللّه كثيرا أما اني لا أقول « سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر » و لكن ذكر اللّه عند ما أحل له و ما حرم عليه » و في خبر آخر و لكن ذكر اللّه إذا هجمت على طاعة أو معصية « و بالافضال تعظم الأقدار »

« إذا المرء أثرى ثم قال لقومه

أنا السيد المقضي إليه المعمم

و لم يعطهم شيئا أبوا أن يسودهم

و هان عليهم رغمه و هو ألوم »

« و بالتواضع تتم النعمة » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام أوحى اللّه تعالى إلى موسى تدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي قال يا رب و لم ذاك ، فأوحى إليه « اني قلبت عبادي ظهر البطن فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لي نفسا منك انّك إذا صليت وضعت خدّك على التراب .

« و باحتمال المؤن يجب السودد » قال الشاعر :

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

و في أخلاق أبي حيان قيل لعدي بن حاتم من السيد قال الأحمق في ماله الذليل في عرضه المطرح لحقده المعني بأمر جماعته١ و فيه قال أبو الأسود الدؤلي لعبيد اللّه بن زياد انك لن تسود حتى تصبر على سرار الشيوخ البخر٢ .

و في ( العيون ) « قال قتيبة بن مسلم أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع بن معبد ابن زرارة فقال : قل له : قد كان في قومك دماء و جراح و قد أحبوا أن تحضر المسجد في من يحضر فأتيته فأبلغته فقال يا جارية غذيني فجاءت بأرغفة خشن فثردتهن في مريس ثم برقهن فأكل فجعل شأنه يصغر في

____________________

( ١ ) أخلاق الوزيرين لأبو حيان التوحيدي : ٩٢ تحقيق الطنجي ، المجمع العلمي ، دمشق .

( ٢ ) المصدر نفسه : ٩١ ٩٢ تحقيق الطنجي ، المجمع العلمي ، دمشق .

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617