بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 198917 / تحميل: 7619
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

كتاب بهج الصباغة

في شرح نهج البلاغة

المجلد الثالث عشر

الشيخ محمد تقي التّستري

١

المجلد الثالث عشر

٢

الفصل الحادي و الأربعون في ما قالهعليه‌السلام في القران

٣

١ في الخطبة ( ١ )

وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لاَ عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي اَلْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي اَلسُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي اَلسُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي اَلْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ « و خلف » نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤

« فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها » ما يتم به الحجّة عليهم .

« إذ لم يتركوهم هملا » أي : سدى كدابة تركوها ترعى ليلا و نهارا بلا راع .

« بغير طريق واضح » ليسلكوه .

« و لا علم » أي : راية .

« قائم » ليؤمّوه فلم يخلفهم كباقي الأنبياء بغير علم لكن كثيرا منهم لم يتركوا غير وصي و نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله خلف في امته كتابا و أوصياء .

روى مسلم في ( صحيحه ) ، عن زيد بن أرقم قال : قام فينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خطيبا بماء تدعى خما بين مكة و المدينة فحمد اللّه و أثنى و وعظ و ذكر ثم قال : أيها الناس انّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، و أنا تارك فيكم الثقلين أوّلهما كتاب اللّه فيه النور فخذوا به و استمسكوا به فحث على كتاب اللّه و رغب فيه ثم قال : و أهل بيتي اذكّركم اللّه في أهل بيتي ، اذكّركم اللّه في أهل بيتي .

« كتاب ربكم فيكم مبينا » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( كتاب ربكم مبينا ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) و لأن ( كتاب ) بدل من ( ما ) فلا معنى لكلمة ( فيكم ) قال تعالى :و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شي‏ء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين ١ .و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم . . ٢ .

« حلاله و حرامه »قل انما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق و ان تشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانا و ان تقولوا

____________________

( ١ ) النحل : ٨٩ .

( ٢ ) النحل : ٤٤ .

٥

على اللّه ما لا تعلمون ١ .و يحل لهم الطيبات و يحرّم عليهم الخبائث . . ٢ قل من حرّم زينة اللّه التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق . .٣ .

« و فرائضه و فضائله » من الصلاة و الصيام و الخمس و الزكاة و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غيرها ، و الانفاق و التفضل و العفو و غيرها .

« و ناسخه و منسوخه » قال القمي في ( تفسيره ) : كانت عدّة النساء في الجاهلية في الوفاة سنة فلمّا بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تركهم على ذلك و انزل :و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير اخراج . .٤ فكانت العدّة حولا فلمّا قوى الاسلام أنزل :و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا . .٥ فنسخت الأولى و مثله ان المرأة كانت في الجاهلية إذا زنت تحبس في بيتها حتى تموت ، و الرجل يؤذى فأنزل تعالى في ذلك :و اللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهنّ سبيلا ٦ و في الرجل :و اللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا و أصلحا فاعرضوا عنهما ان اللّه كان توّاباً رحيما ٧ فلمّا قوى الاسلام أنزل تعالى في ذلك :

____________________

( ١ ) الاعراف : ٣٣ .

( ٢ ) الاعراف : ١٥٧ .

( ٣ ) الاعراف : ٣٢ .

( ٤ ) البقرة : ٢٤٠ .

( ٥ ) البقرة : ٢٣٤ .

( ٦ ) النساء : ١٥ .

( ٧ ) النساء : ١٦ .

٦

الزانية و الزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة . .١ فنسخت هذه تلك و مثله كثير و آية نصفها منسوخة و نصفها متروكة على حالها و ذلك ان المسلمين كانوا ينكحون نساء أهل الكتاب و ينكحونهم فأنزل تعالى و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و لأمة مؤمنة خير من مشركة و لو أعجبتكم و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا و لعبد مؤمن خير من مشرك و لو أعجبكم . .٢ فنهى اللّه أن ينكح المسلم المشركة أو ينكح المشرك المسلمة ثم نسخ ( و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) بقوله في المائدة :

أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حلّ لهم و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن . .٣ و ترك . . و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا .٤ لم ينسخ لأنّه لا يحلّ للمسلمة أن تنكح المشرك و يحل للمسلم أن يتزوج المشركة من اليهود و النصارى .

« و رخصه و عزائمه » قسّم القمي في ( تفسيره ) الرخصية إلى رخصة بعد عزيمة و رخصة مخيّر صاحبها بين الفعل و الترك ، و رخصة باطنها خلاف ظاهرها و قال في الأولى : ان اللّه تعالى فرض الوضوء و الغسل بالماء فقال :

إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . إلى و ان كنتم جنبا فاطّهروا . . ٥ ثم رخّص لمن لم يجد الماء التيمم بالتراب فقال : .و ان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا

____________________

( ١ ) النور : ٢ .

( ٢ ) البقرة : ٢٢١ .

( ٣ ) المائدة : ٥ .

( ٤ ) البقرة : ٢٢١ .

( ٥ ) المائدة : ٦ .

٧

ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم و أيديكم . ١ و مثله قوله :

حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا للّه قانتين ٢ ثم رخّص فقال فأن خفتم فرجالاً أو رُكباناً . ٣ و قال :فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا اللّه قياما و قعوداً و على جنوبكم . . ٤ فقال العالمعليه‌السلام الصحيح يصلّي قائما ،

و المريض جالساً فمن لم يقدر فمضطجعا و هذه رخصة بعد العزيمة و قال في الثانية و اما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار ان شاء أخذ و ان شاء ترك فان اللّه تعالىرخّص أن يعاقب الرجل الرجل على فعله به فقال و جزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على اللّه . ٥ فهذا بالخيار ان شاء عاقب و ان شاء عفا و قال في الثالثة و اما الرخصة التي ظاهرها خلاف باطنها يعمل بظاهرها و لا يدان بباطنها فانّه تعالى نهى ان يتخذ المؤمن الكافر وليّاً فقال :

لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك فليس من اللّه في شي‏ء . . ٦ ثم رخّص عند التقية ان يصلّي بصلاته و يصوم بصيامه و يعمل بعمله في ظاهر و ان يدين اللّه في باطنه بخلاف ذلك فقال : . .

إلا ان تتقوا منهم تقاة . ٧ فهذا تفسير الرخصة ، و معنى قول الصادقعليه‌السلام ان اللّه تعالى يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه .

« و خاصه و عامه » قسّم القمي في ( تفسيره ) العام و الخاص بما لفظه عام

____________________

( ١ ) المائدة : ٦ .

( ٢ ) البقرة : ٢٣٨ .

( ٣ ) البقرة : ٢٣٩ .

( ٤ ) النساء : ١٠٣ .

( ٥ ) الشورى : ٤٠ .

( ٦ ) آل عمران : ٢٨ .

( ٧ ) آل عمران : ٢٨ .

٨

و معناه خاص كقوله تعالى :يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و اني فضلتكم على العالمين ١ قال : انما فضلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصصهم بها و بالعكس كقوله تعالى :من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انّه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . . ٢ لفظه خاص في بني إسرائيل و معناه عام في الناس كلّهم .

« و عبره » قال ( خو ) كقوله تعالى :فأخذه اللّه نكال الآخرة و الاولى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى ٣ و كقوله تعالى :يقلب اللّه الليل و النهار ان في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ٤ و كقوله تعالىو ان لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث و دم لبنا خالصاً سائغاً للشاربين ٥ .

قلت و كقوله تعالى في آخر قصة يوسف :لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب . ٦ و كقوله تعالى :هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا و ظنوا انّهم ما نعتهم حصونهم من اللّه فاتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ٧ و كقوله تعالى :قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل اللّه و اُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين و اللّه يؤيّد بنصره من يشاء ان في ذلك لعبرةً

____________________

( ١ ) البقرة : ٤٧ .

( ٢ ) المائدة : ٣٢ .

( ٣ ) النازعات : ٢٥ ٢٦ .

( ٤ ) النور : ٤٤ .

( ٥ ) النحل : ٦٦ .

( ٦ ) يوسف : ١١١ .

( ٧ ) الحشر : ٢ .

٩

لأولي الأبصار ١ .

« و أمثاله » قال الخوئي كقوله تعالىمثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً . ٢ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة . . ٣ .

قلت و كقوله تعالىو لقد صرَّفنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل فأبى أكثر الناس إلاّ كفورا ٤ و كقوله تعالىيا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه و ابل فتركه صلداً لا يقدرون على شي‏ء ممّا كسبوا و اللّه لا يهدي القوم الكافرين ٥ .

و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللَّه و تثبيتاً من أنفسهم كمثل جنةٍ بربوة أصابها وابل فاتت أُكلها ضعفين فان لم يصبها و ابل فطل و اللّه بما تعملون بصير ٦ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثمرات و أصابه الكبر و له ذرية ضعفاً فأصابها اعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكرون ٧ .

و كقوله تعالى مشيرا إلى المنافقين :مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً

____________________

( ١ ) آل عمران : ١٣ .

( ٢ ) الجمعة : ٥ .

( ٣ ) البقرة : ٢٦١ .

( ٤ ) الاسراء : ٨٩ .

( ٥ ) البقرة : ٢٦٤ .

( ٦ ) البقرة : ٢٦٥ .

( ٧ ) البقرة : ٢٦٦ .

١٠

فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون ١ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ٢ أو كصيب من السماء فيه ظلماتٌ و رعد و برق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت و اللَّه محيط بالكافرين ٣ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا و لو شاء اللّه لذهب بسمعهم و أبصارهم ان اللّه على كلّ شي‏ء قدير ٤ .

و كقوله تعالى :و اتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكرون ٥ .

و كقوله تعالى :مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً و ان أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ٦ .

و كقوله تعالىكمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال اني بري‏ء منك اني أخاف اللّه ربّ العالمين فكان عاقبتهما انهما في النار خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين ٧ .

و كقوله تعالى :لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً

____________________

( ١ ) البقرة : ١٧ .

( ٢ ) البقرة : ١٨ .

( ٣ ) البقرة : ١٩ .

( ٤ ) البقرة : ٢٠ .

( ٥ ) الاعراف : ١٧٥ ١٧٦ .

( ٦ ) العنكبوت : ٤١ .

( ٧ ) الحشر : ١٦ ١٧ .

١١

من خشية اللَّه و تلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكرون ١ و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ٢ .

و كقوله تعالىمشيرا إلى الكفّار مثل ما ينفقون في هذه الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته و ما ظلمهم اللّه و لكن أنفسهم يظلمون ٣ .

و كقوله تعالى :اعلموا انما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من اللّه و رضوان و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ٤ .

و كقوله تعالى :مثل الجنّة التي وُعِد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ و أنهارٌ من لبنٍ لم يتغيّر طعمه و أنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشاربين و أنهار من عسلٍ مصفى و لهم فيها من كلّ الثمرات و مغفرةٌ من ربهم كمن هو خالد في النار و سقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءَهم ٥ .

انما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازَّينت و ظنّ أهلها انّهم قادرون عليها اتاها ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كان لم تغن بالأمس

____________________

( ١ ) الحشر : ٢١ .

( ٢ ) البقرة : ١٧١ .

( ٣ ) آل عمران : ١١٧ .

( ٤ ) الحديد : ٢٠ .

( ٥ ) محمد : ١٥ .

١٢

كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون ١ .

و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح و كان اللَّه على كلّ شي‏ء مقتدرا ٢ ،

للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و للَّه المثل الأعلى . . ٣ .

مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان مثلاً أ فلا تذكرون ٤ يا أيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له ان الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً و لو اجتمعوا له و ان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب ٥ .

اللَّه نور السماوات و الأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنّها كوكبٌ دريّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية يكاد زيتها يضي‏ء و لو لم تمسسه نار نور على نور يهدي اللّه لنوره من يشاء و يضرب اللّه الأمثال للناس و اللّه بكلّ شي‏ء عليم ٦ .

« و مرسله و محدوده » المرسل كقوله تعالى : .و امهات نسائكم . .٧ و المحدود كقوله تعالى : .و ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . .٨ و روى ان ابن مسعود أفتى بجواز نكاح أم غير المدخولة

____________________

( ١ ) يونس : ٢٤ .

( ٢ ) الكهف : ٤٥ .

( ٣ ) النحل : ٦٠ .

( ٤ ) هود : ٢٤ .

( ٥ ) الحج : ٧٣ .

( ٦ ) النور : ٣٥ .

( ٧ ) النساء : ٢٣ .

( ٨ ) النساء : ٢٣ .

١٣

فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام من أين قلت ذلك ؟ فقال : من قوله تعالى :

و ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . ١ فقالعليه‌السلام : ان هذه الآية مستثناة و آية .و امهات نسائكم . ٢ مرسلة .

و من أمثلة المرسل قوله تعالى في كفّارة اليمين : .. أو تحرير رقبة .٣ و في كفارة الظهار : .فتحرير رقبة من قبل ان يتماسّا . ٤ و من أمثلة المحدود قوله تعالى في دية القتل الخطأ في مواضع ثلاثة : و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلَّمة إلى أهله إلا ان يصدقوا فان كان من قوم عدوّ لكم و هو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة و إن كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فديّة مسلمة الى اَهْلِهِ و تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .٥ .

« و محكمه » مثل القمي له بآية الوضوء و آية تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و آية تحريم الامهات و باقي المحارم النسبية و الصهرية و الرضاعية و قال و مثله كثيرا ممّا استغنى بتنزيله عن تأويله .

« و متشابهه » قال القمي : المتشابه ما لفظه واحد و معناه مختلف ، منه الفتنة التي ذكرها اللّه في القرآن فمنها عذاب و هو قوله :يوم هم على النار يفتنون ٦ و قوله : .و الفتنة أكبر من القتل . ٧ و هي الكفر و منه الحبّ

____________________

( ١ ) النساء : ٢٣ .

( ٢ ) النساء : ٢٣ .

( ٣ ) المائدة : ٨٩ .

( ٤ ) المجادلة : ٣ .

( ٥ ) النساء : ٩٢ .

( ٦ ) الذاريات : ١٣ .

( ٧ ) البقرة : ٢١٧ .

١٤

كقوله تعالى : .انما أموالكم و أولادكم فتنة . .١ و منه اختبار و هو قوله تعالى : .الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ٢ و منه الحق و هو على وجوه كثيرة و منه الضلال و هو على وجوه كثيرة فهذا من المتشابه الذي لفظه واحد و معناه مختلف .

هذا ، و لم يكن أحد عالما بجميع ما في الكتاب ممّا عدّهعليه‌السلام من حلاله و حرامه ، و فرائضه و فضائله ، و ناسخه و منسوخه ، و رخصه و عزائمه ،

و خاصه و عامه ، و عبره و أمثاله ، و مرسله و محدوده ، و محكمه و متشابهه ،

غيرهعليه‌السلام روى العياشي في ( تفسيره ) عن الأصبغ قال : قدم عليعليه‌السلام الكوفة فصلّى بهم أربعين صباحا يقرأ بهمسبح اسم ربك الأعلى ٣ فقال المنافقون : لا و اللّه ما يحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن و لو أحسن لقرأبنا غير هذه السورة فبلغه ذلك ، فقال : ويل لهم اني لأعرف ناسخه من منسوخه ،

و محكمه من متشابهه ، و فصله من وصله ، و حروفه من معانيه ، و اللّه ما من حرف نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ و اني أعرف في من نزل و في أي موضع نزل و عن سليم بن قيس قال : سمعت علياعليه‌السلام يقول : ما نزلت آية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أقرأنيها و أملاها عليّ فكتبتها بخطي و علّمني تأويلها و تفسيرها ، و ناسخها و منسوخها ، و محكمها و متشابهها ، و ما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال و لا حرام ، و لا أمر و لا نهي كان أو يكون ، من طاعة أو معصية إلاّ علمنيه و حفظته٤ الخبر

____________________

( ١ ) الانفال : ٢٨ .

( ٢ ) العنكبوت : ٢ .

( ٣ ) الاعلى : ١ .

( ٤ ) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ١ : ١٤ باب علم الأئمة رقم ( ١ و ٢ ) المكتبة العلمية قم .

١٥

« مفسرا » حال من ( كتاب ربكم ) كقوله ( مبينا حلاله و حرامه ) .

« مجمله » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( جمله ) كما في ( ابن أبي الحديد و الخطّية ) فتكون جمع الجملة بمعنى المجمل بقرينة ( غوامضه ) بعد .

« و مبيّنا غوامضه » قال القمي : اما ما تأويله مع تنزيله فمثل قوله :

أطيعوا اللَّه و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم . .١ فلم يستغن الناس بتنزيل الآية حتى فسّر لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أولوا الأمر و مثل قوله تعالى :

اتقوا اللَّه و كونوا مع الصادقين ٢ فلم يستغن الذين سمعوا هذا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتنزيل الآية حتى عرفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصادقون و مثل قوله :

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم . .٣ فلم يستغن الناس الذين سمعوا هذا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اخبرهم كم يصومون و كقوله تعالى :و اقيموا الصلاة و آتوا الزكاة . ٤ فلم يستغن الناس بهذا حتى اخبرهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كم يصلّون و كم يزكّون .

« بين ماخوذ ميثاق في علمه » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( بين ماخوذ ميثاق علمه ) كما في ( ابن أبي الحديد و الخطية و ابن ميثم ) .

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب الاّ يقولوا على اللّه الاّ الحق . ٥ و إذا اخذ اللّه ميثاق الّذين اوتوا الكتاب لتبينّنه للنّاس و لا تكتمونه فنبذوه و راء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ٦ و إذا اخذ اللّه ميثاق

____________________

( ١ ) النساء : ٥٩ .

( ٢ ) التوبة : ١١٩ .

( ٣ ) البقرة : ١٨٣ .

( ٤ ) البقرة : ٤٣ .

( ٥ ) الاعراف : ١٦٩ .

( ٦ ) آل عمران : ١٨٧ .

١٦

النبيّين لمّا آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لمّا معكم لتؤمنن به و لتنصرنَّه قال ءأقررتم و أخذتم على ذلك اصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين فمن تولّى بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون ١ .

« و موسع على العباد في جهله » أخذ جلّ و عزّ معرفته وجوده عليهم و وسّع عليهم جهلهم بكنه ذاته لقصورهم عن فهمه قال تعالى :و انّ إلى ربّك المنتهى ٢ فسر في الخبر انّه إذا انتهى الكلام إليه تعالى يجب الامساك و انّ قوما تكلتموا في ذاته تعالى فباهت عقولهم حتى كان الرّجل ينادي من بين يديه فيجيب من خلفه و ينادى من خلفه فيجيب من بين يديه و مثل ( ابن أبي الحديد ) له بفواتح السّور و ( الخوئي ) بمتشابهات القرآن .

« و بين مثبت في الكتاب فرضه و معلوم في السنة نسخه » قال ابن أبي الحديد نسخ السنّة في رجم الزّاني المحصن ، الكتاب في قوله : .فامسكوهن في البيوت حتى يتوفّاهُنّ الموت ٣ قد عرفت انّ آية .فامسكوهن . .٤ نسخت بآية الزّانية . .٥ و انّما الرّجم غير مذكور في الكتاب بل في السنة و غاية ما يمكن ان يقال : انّ السنة نسخت عموم .فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . ٦ إذا لم نقل بان المحصن عليه الجلد أيضا .

« و واجب في السنة اخذه و مرخص في الكتاب تركه » قال ابن أبي

____________________

( ١ ) آل عمران : ٨١ ٨٢ .

( ٢ ) النجم : ٤٢ .

( ٣ ) النساء : ١٥ .

( ٤ ) النساء : ١٥ .

( ٥ ) النور : ٢ .

( ٦ ) النور : ٢ .

١٧

الحديد مثل صوم يوم عاشورا كان واجبا بالسنّة ثم نسخة صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب .

و قال الخوئي كالتوجه في الصلاة اولا إلى بيت المقدس بالسنة المنسوخ بقوله تعالى : .فول وجهك شطر المسجد الحرام . . ١ و كحرمة مباشرة النساء في الليل على الصائمين المنسوخ بقوله تعالى : .فالان باشروهن . . ٢ .

قلت و كحرمة الاكل بعد صلاة العشاء إذا نام في ليل شهر رمضان في السنة ، المنسوخة بقوله تعالى :. . و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر . . ٣ .

« و بين واجب بوقته » و في ( ابن أبي الحديد ) ( لوقته ) .

« و زائل في مستقبله » كزكاة الفطرة تسقط إذا لم تؤدّ في وقتها و اما صلاة الجمعة فبدل بعد وقتها بصلاة الظهر .

ثم الظاهر ان في الكلام سقطا لان المقام مقام التفضيل بين شيئين الا ان يقال ان الشق الاخر و هو الواجب في الوقت و خارجه كالصلوات اليومية لم يذكر لمعلوميته .

« و مباين بين محارمه » قال ابن أبي الحديد : يجب رفع ( مباين ) خبرا لمحذوف و لا يجوز جره بالعطف على ما قبله لانه ليس في القرآن مباين و غير مباين .

و قال ابن ميثم : عطف على المجرورات السابقة و في معنى الكلام

____________________

( ١ ) البقرة : ١٤٤ .

( ٢ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٣ ) البقرة : ١٨٧ .

١٨

و تقديره لطف فان المحارم لمّا كانت هي محال الحكم المسمى بالحرمة صار المعنى ( و بين حكم مباين بين محاله ) .

و قال الخوئي : انه مجرور لجواز اضافة بين إلى ( شي‏ء ) يقوم مقام شيئين كقوله تعالى : .عوان بين ذلك . . ١ و كقول امري‏ء القيس ( بين الدخول فحومل ) لكون الدخول اسم مواضع .

قلت اما ما قاله ابن ميثم : ففيه تكلف لا تلطف ، و اما ما قاله الخوئي فخبط ، لان ما قاله صحيح جواز اضافة ( بين ) إلى ( محارمه ) بدون عطف عليه و اما ( مباين ) فيجب اما رفعه كما قال ابن أبي الحديد و اما تقدير بين له حتى يصح جره كما قال ابن ميثم و حيث ما قاله ابن ميثم تكلف لا يناسب كلامهعليه‌السلام يتعين رفعه الا ان الظن انه وقع في الكلام تبديل ، و ان قوله ( و مباين ) الخ كان بعد قوله ( و بين مقبول في ادناه ) الخ كما لا يخفى .

« من كبير اوعد عليه نيرانه » روى ( الكافي ) في باب الكبائر عن الجواد عن ابيه عن ابيهعليهم‌السلام قال : دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد اللّهعليه‌السلام فلمّا سلم و جلس تلا قولهالذين يجتنبون كبائر الاثم و الفواحش ٢ ثم امسك ،

فقالعليه‌السلام له : ما اسكتك ؟ قال احب ان اعرف الكبائر من كتاب اللّه تعالى فقال :

نعم يا عمرو اكبر الكبائر الشرك .من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ٣ ثم اليأس من روح اللّه. لا ييأس من رَوح اللّه الا القوم الكافرون ٤ ثم الامن من مكر اللّه تعالى .فلا يأمن مكر اللّه الا القوم

____________________

( ١ ) البقرة : ٦٨ .

( ٢ ) الشورى : ٣٧ .

( ٣ ) المائدة : ٧٢ .

( ٤ ) يوسف : ٨٧ .

١٩

الخاسرون ١ و عقوق الوالدين فجعل تعالى العاق جباراً شقياً ٢ في حكايته عن عيسىعليه‌السلام و براً بوالدتي و لم يجعلني جباراً شقيا ٣ و قتل النفس بغير الحق و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها . . ٤ و قذف المحصنات ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم ٥ و اكل مال اليتيم ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلماً انما ياكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيرا ٦ و الفرار من الزحف و من يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأواه جهنم و بئس المصير ٧ و اكل الربا الذين يأكلون الربوا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ٨ و السحر .و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق . .٩ و الزنا . و من يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب و يخلد فيه مهانا الا من تاب . ١٠ و اليمين الغموس ان الذين يشترون بعهد اللّه و ايمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الاخرة . . ١١ و الغلول . و من يغلل يات بما غل يوم

____________________

( ١ ) الاعراف : ٩٩ .

( ٢ ) مريم : ٣٢ .

( ٣ ) مريم : ٣٢ .

( ٤ ) النساء : ٩٣ .

( ٥ ) النور : ٢٣٠ .

( ٦ ) النساء : ١٠ .

( ٧ ) الانفال : ١٦ .

( ٨ ) البقرة : ٢٧٥ .

( ٩ ) البقرة : ١٠٢ .

( ١٠ ) الفرقان : ٦٨ ٧٠ .

( ١١ ) آل عمران : ٧٧ .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

دون بعض، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلاً، تَعْتَعَ بخالد بن الوليد عامله على " قنسرين " إذ بلغه أنّه أعطى الأشعث عشرة آلاف، فأمر به فعقله " بلال الحبشي " بعمامته، وأوقفه بين يديه على رِجل واحدة مكشوف الرأس على رؤوس الأشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص، يسأله عن العشرة آلاف أهي من ماله أم من مال الأُمة؟ فإن كانت من ماله فهو الإسراف والله لا يحبّ المسرفين، وإن كانت من مال الأُمة فهي الخيانة والله لا يحب الخائنين، ثم عزله فلم يولّه بعد حتى مات .

وكم لعمر مع بعض عمّاله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبّعون! لكنّ معاوية كان أثيره وخلّصه، على ما كان من التناقض في سيرتيهما، ما كفّ يده عن شيء ولا ناقشه الحساب في شيء، وربّما قال له : " لا آمرك ولا أنهاك "، يفوّض له العمل برأيه، فشدّة مراقبة الخليفة الثاني ودقّة محاسبته كانت من نصيب بعض عمّاله، ولم تشمل الجميع على حدّ سواء، إذ أنّ معاوية ـ وهو عامله على الشام ـ كان طليق اليدين يفعل ما تشاء أهواؤه وما تبغيه شهواته.

وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه " الأُموية " وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدّد الإسلام باسم الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفع هذا الخطر أمام أمرين لا ثالث لهما : إمّا المقاومة وإمّا المسالمة، وقد رأيا أنّ المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى صراطه المستقيم .

ومن هنا رأى الحسنعليه‌السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك، لكن أخذ عليه في عقد الصلح أن لا يعدو الكتاب

١٤١

والسنّة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الأُموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن، إلى غير ذلك من الشروط التي كان الإمام الحسن عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها وأنّه سيقوم بنقائضها .

هذا ما أعدَّهعليه‌السلام لرفع الغطاء عن الوجه " الأُموي " المموّه، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائغة، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال " الأُموية " كما هم جاهليّون لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّون لم تنسهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقاد بدر وأُحد والأحزاب .

وبالجملة: فإنّ هذه الخطّة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بدّ، أملاه ظرف الإمام الحسنعليه‌السلام ، إذ التبس الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلّحة ضارية، ما كان الحسنعليه‌السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمة هذا البيتعليهم‌السلام يسترشد الرسالة في إقدامه وإحجامه، امتحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً وخرج منها ظافراً طاهراً.

تهيّأ للحسنعليه‌السلام بهذا الصلح أن يفرش في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنّى له أن يلغم نصر الأُموية ببارود الأُموية نفسها، فيجعل نصرها جفاءً وريحَها هباءً .

لم يطل الوقت حتى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : " يا أهل العراق! إنّي والله لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن

١٤٢

ابن علي جعلته تحت قدميّ هاتين"(١) .

ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجر بكلّ ما يخالف الكتاب والسنّة من كلّ منكر في الإسلام، قتلاً للأبرار وهتكاً للأعراض وسلباً للأموال وسجناً للأحرار، ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحرّة، ويوم مكة إذ نصب عليهم العرّادات والمجانيق .

ومهما يكن من أمر فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الإمام الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحول بينهم وبين ما يبيّتون لرسالة جدّه من الكيد، وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأُموية بالجلاء، والحمد لله رب العالمين.

وبهذا استتبّ لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب .

وقد كاناعليهما‌السلام وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها، فالحسنعليه‌السلام لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسينعليه‌السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهاد صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة قبل أن تكون حسينيّة وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أولي الألباب ممّن تعمّق، لأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني، وراجع أيضاً شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦، وتأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٣

المكاره في صورة مستكين قاعد، وكانت شهادة الطفِّ حسنيّة أولاً وحسينيّة ثانياً ; لأنّ الحسن أنضج نتائجها ومهّد أسبابها .

وقد وقف الناس ـ بعد حادثتي ساباط والطفّ ـ يمعنون في الأحداث; فيرون في هؤلاء الأُمويين عصبة جاهلية منكرة، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله . .(١) .

زبدة المخض :

إذن تتلخّص أسباب الصلح فيما يلي :

١ ـ ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم وعدم انصياعهم لأوامره بعد تأثير دسائس معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخط الرسالي أمام مكر معاوية، وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخط وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه .

٢ ـ ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسنعليه‌السلام استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف بعد الامتنان عليهم بالحرّية، وكل هذه النتائج غير محمودة .

فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له، ولا سيَّما إذا اقترن بتصفية الخط الإمامي وإبادته الشاملة .

٣ ـ صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانية أهل البيتعليهم‌السلام وحفظهم من التصفية

__________

(١) راجع مقدمة صلح الإمام الحسن للشيخ راضي آل ياسين .

١٤٤

والإبادة الأُموية الشاملة بعد إحراز بقاء الحقد الأُموي لبني هاشم ومن يحذو حذوهم، كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلامي الدامي .

٤ ـ حقن دماء المسلمين حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية .

٥ ـ كشف واقع المخطّط الأُموي الجاهلي وتحصين الأُمة الإسلامية ضدّه بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أمية على زمام قيادة الأُمة المسلمة والتلاعب بمصير الكيان الإسلامي ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.

٦ ـ ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لمقارعة الكفر والنفاق المستتر من موقع القوّة .

لقد خفيت الأسباب الحقيقية التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهي الذي اتّخذّه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث وعلى بعض اللاحقين من أصحاب الرؤى السطحية أو المُضَلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق، لكن الأحداث التي أعقبت الصلح والسياسات العدوانية التي انتهجها معاوية وبقية الحكام الأُمويين والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسنعليه‌السلام .

١٤٥

البحث الثالث : ما بعد الصلح حتى الشهادة

الاجتماع في الكوفة :

بعد توقيع الصلح بين الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية اتّفقا على مكان يلتقيان به، ليكون هذا اللقاء تطبيقاً عملياً للصلح، وليعترف كلّ منهماعلى سمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده، فاختارا الكوفة فقصدا إليها، وقصدت معهما سيول من الناس غصّت بهم العاصمة الكبرى، وكان أكثر الحاضرين جند الفريقين، تركوا معسكريهما وحفّوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة .

ونودي في الناس إلى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك إلى الخطيبين الموقِّعَيْنِ على معاهدة الصلح، وكان لا بدّ لمعاوية أن يستبق إلى المنبر، فسبق إليه وجلس عليه(١) ، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها إلاّ فقراتها البارزة فقط .

منها : "أمّا بعد، ذلكم فإنّه لم تختلف أُمة بعد نبيّها إلاّ غلب باطلها حقّها !!". قال الراوي : وانتبه معاوية لما وقع فيه، فقال : إلاّ ما كان من هذه الأُمة، فإنّ حقّها غلب باطلها(٢) .

ومنها : "يا أهل الكوفة! أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج

__________

(١) قال جابر بن سمرة : "ما رأيت رسول الله يخطب إلاّ وهو قائم، فمن حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه" رواه الجزائري في آيات الأحكام: ٧٥، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٢ .

١٤٦

وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ؟ ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين!! ..."(١) .

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب ابن أبي ثابت مسنداً: أنه ذكر في هذه الخطبة عليّاً فنال منه، ثمّ نال من الحسن(٢) .

ثمّ قام الإمام الحسنعليه‌السلام فخطب في هذا الموقف الدقيق خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيتعليهم‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعظ ونصح ودعا المسلمين ـ في أوّلها ـ إلى المحبّة والرضا والاجتماع، وذكّرهم ـ في أواسطها ـ مواقف أهله بل مواقف الأنبياء، ثم ردّ على معاوية ـ في آخرها ـ دون أن يناله بسبٍّ أو شتم، ولكنّه كان بأسلوبه البليغ أوجع شاتم وسابٍّ .

وكان ممّا قالهعليه‌السلام (٣) : "أيّها الذاكر عليّاً ! أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة، وجدّتي خديجة، وجدّتك فُتَيْلَة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً" .

المعارضون للصلح :

أ ـ قيس بن سعد بن عبادة :

اشتهر قيس بموالاة أهل البيتعليهم‌السلام وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام قد عيّنه

__________

(١) صلح الإمام الحسن : ٢٨٥ عن المدائني .

(٢) شرح نهج البلاغة : ٤ / ١٦ .

(٣) نقل نص الخطاب الشيخ آل ياسين في "صلح الإمام الحسن" : ٢٨٦ ـ ٢٨٩ .

١٤٧

والياً على مصر في أوائل خلافته وعندما سمع قيس بن سعد نبأ التوقيع على الصلح بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية غشيته سحب من الأحزان، واستولت عليه موجة من الهموم، لكنّه عاد إلى الكوفة في نهاية المطاف .

وكان معاوية بعد أن خدع عبيد الله بن العباس; قد بعث رسالة إلى قيس يمنّيه ويتوعّده، فأجابه قيس : "لا والله لا تلقاني إلاّ بيني وبينك السيف أو الرمح ..."(١) ، فغضب معاوية لهذا الجواب القاطع فأرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وجاء فيها : "أمّا بعد، فإنّك يهودي تشقى نفسك، وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الجذ، وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران غريباً، والسلام"(٢) .

فأجابه قيس : "أمّا بعد، فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت فيه خرقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك، لم تزل حرباً لله ولرسوله، وحزباً من أحزاب المشركين، وعدوّاً لله ولنبيّه وللمؤمنين من عباده، وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلاّ قوسه، ولا رمى إلاّ غرضه، فشغب عليه من لا تشقّ غباره، ولا تبلغ كعبه، وزعمت أنّي يهوديّ ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أنّي وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ـ يعني الشرك ـ وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام"(٣) .

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٦٧ .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ .

(٣) نفس المصدر : ٢٦٨ .

١٤٨

ولمّا علم معاوية بعودة قيس إلى الكوفة دعاه إلى الحضور لمبايعته، لكن قيس رفض لأنّه كان قد عاهد الله أن لا يجتمع معه إلاّ وبينهما السيف أو الرمح، فأمر معاوية بإحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبرّ قيس بيمينه ولا يحنث، ووقتذاك حضر قيس الاجتماع وبايع معاوية(١) .

ب ـ حجر بن عدي :

وهو من كبار صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن أبدال عصره، وحسب ابن الأثير الجزري في "اُسد الغابة" وغيره، أنّه وصل مقاماً في القرب إلى الله تعالى بحيث أصبح مستجاب الدعوة، وقد قتل شهيداً في "مرج عذراء" وهي إحدى قرى الشام، بأمر معاوية وبواسطة أزلامه، وقد اندلعت إثر شهادته موجة من الاحتجاجات على سياسات معاوية وحتى ندّدت عائشة وآخرون بالجريمة(٢) .

وبالرغم من الحبّ والولاء اللذين يكنهما "حجر" للإمام الحسن وأبيهعليهما‌السلام ، إلاّ أنّ الانفعالات دفعت به إلى ظلمات اليأس والقنوط في اللحظات التي تمّ فيها قرار الصلح، من هنا خاطب الإمامعليه‌السلام وفي حضور معاوية بقوله : "أما والله لوددت أنّك متّ في ذلك اليوم ومتنا معك، ولم نر هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا" .

وحسب المدائني أنّ كلام "حجر" ترك في نفس الإمام بالغ الأسى والحزن، فانبرىعليه‌السلام وبعد أن فرغ المسجد مبيّناً له العلّة التي صالح من أجلها قائلاً : "يا حجر! قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسان يحبّ ما

__________

(١) راجع لمزيد من التفصيل مقاتل الطالبيين وحياة الإمام الحسن.

(٢) اُسد الغابة : ١ / ٣٨٦ .

١٤٩

تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلتُ إلاّ إبقاءً عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن"(١) .

ج ـ عدي بن حاتم :

وعدي من الشجعان والمخلصين لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد نقل أُنه قال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب : "يابن رسول الله! لوددت أنّي متّ قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحقّ الذي كنّا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنيّة من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا"، فأجابه الإمامعليه‌السلام : "يا عدي! إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيتُ دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن"(٢) .

د ـ المُسيَّب بن نجبة وسليمان بن صُرد :

وعرفا بالولاء والإخلاص لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تألّما من الصلح فأقبلا إلى الإمام وهما محزونا النفس فقالا : ما ينقضي تعجّبنا منك ! بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز"، فقال الإمام للمسيّب : "ما ترى؟" قال : والله أرى أن ترجع لأنّه نقض العهد، فأجابه الإمام : "إنّ الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت ..."(٣) .

وجاء في رواية أخرى أنّ الإمامعليه‌السلام أجابه : "يا مسيّب! إنّي لو أردت ـ بما

__________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ١٥ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٤ .

(٣) مناقب ابن شهر آشوب : ٤ / ٣٥، طبعة قم.

١٥٠

فعلت ـ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب منّي، ولكن أردت صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض"(١) .

إلى يثرب :

بقي الإمام الحسنعليه‌السلام في الكوفة أياماً، ثمّ عزم على مغادرة العراق، والشخوص إلى مدينة جدّه، وقد أظهر عزمه ونيّته إلى أصحابه، ولمّا أذيع ذلك دخل عليه المسيّب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التميمي ليودّعاه، فالتفت لهما قائلاً : "الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا إنّه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلاّ أن تضاموا وتنتقصوا، فأمّا نحن فإنّهم سيطلبون مودّتنا بكلّ ما قدروا عليه" .

وطلب منه المسيّب وظبيان المكث في الكوفة فامتنععليه‌السلام من إجابتهم قائلاً : "ليس إلى ذلك من سبيل"(٢) .

ولدى توجّههعليه‌السلام وأهل بيته إلى عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف(٣) .

وسار موكب الإمام ولكنّه لم يبعد كثيراً عن الكوفة حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يردّه إلى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج قد خرجت عليه، فأبىعليه‌السلام أن يعود وكتب إلى معاوية : "ولو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنّي تركتك لصلاح الأُمة وحقن دمائها"(٤) .

وانتهت قافلة الإمام إلى يثرب، فلمّا علم أهلها بتشريفهعليه‌السلام خفّوا

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٧٧ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ .

(٣) تحفة الأنام للفاخوري : ٦٧ .

(٤) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٧ .

١٥١

جميعاً لاستقباله، فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة والرحمة، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ أن نزح أمير المؤمنينعليه‌السلام عنهم .

جاء الحسنعليه‌السلام مع إخوته وأهل بيته إلى يثرب، فاستقام فيها عشر سنين، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ورقيق حنانه وحلمه، ونقدّم عرضاً موجزاً لبعض أعماله وشؤونه فيها .

مرجعية الإمام الحسنعليه‌السلام العلمية والدينيّة :

وتمثّلت في تربيته لكوكبة من طلاّب المعرفة، وتصدّيه للانحرافات الدينية التي كانت تؤدي إلى مسخ الشريعة، كما تصدّى لمؤامرة مسخ السنّة النبويّة الشريفة التي كان يخطّط لها معاوية بن أبي سفيان من خلال تنشيط وضع الأحاديث والمنع من تدوين الحديث النبويّ .

مدرسة الإمام ونشاطه العلمي :

أنشأ الإمام مدرسته الكبرى في يثرب، وراح يعمل مجدّاً في نشر الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء وعظماء المحدّثين والرواة، ووجد بهم خير عون لأداء رسالته الإصلاحية الخالدة التي بلورت عقلية المجتمع وأيقظته بعد الغفلة والجمود، وقد ذكر المؤرّخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم : ابنه الحسن المثنى، والمسيّب بن نجبة، وسويد بن غفلة، والعلا بن عبد الرحمن، والشعبي، ومبيرة بن بركم، والأصبغ بن نباتة، وجابر بن خلد، وأبو الجوزا، وعيسى بن مأمون بن زرارة، ونفالة بن المأموم، وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي، وأبو مريم قيس الثقفي، وطحرب العجلي، وإسحاق بنيسار والد محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن عوف،

١٥٢

وسفين بن الليل، وعمرو بن قيس الكوفيون(١) ، وقد ازدهرت يثرب بهذه الكوكبة من العلماء والرواة فكانت من أخصب البلاد الإسلامية علماً وأدباً وثقافة .

وكما كان يتولّى نشر العلم في يثرب كان يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتأدّب بسنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رفععليه‌السلام منار الأخلاق التي جاء بها جدّه الرسول لإصلاح المجتمع وتهذيبهم، فمن سموّ أخلاقه أنّه كان يصنع المعروف والإحسان حتى مع أعدائه ومناوئيه، وقد بلغه أنّ الوليد بن عقبة قد ألمّ به السقم فمضى لعيادته مع ما عُرف به الوليد من البغض والعداء لآل البيت، فلمّا استقرّ المجلس بالإمام انبرى إليه الوليد قائلاً: "إنّي أتوب إلى الله تعالى ممّا كان بيني وبين جميع الناس إلاّ ما كان بيني وبين أبيك فإنّي لا أتوب منه"(٢) .

وأعرض الإمام عنه ولم يقابله بالمثل، ولعلّه أوصله ببعض ألطافه وهداياه(٣) .

مرجعيّته الاجتماعية :

والتي تمثّلت في عطفه على الفقراء وإحسانه وبذله المعروف، وتجلّت في استجارة المستجيرين به للتخلّص من ظلم الأُمويين وأذاهم .

أ ـ عطفه على الفقراء :

وأخذعليه‌السلام يفيض الخير والبرّ على الفقراء والبائسين، ينفق جميع ما

__________

(١) تاريخ ابن عساكر : ج١٢، صورة فوتوغرافية في مكتبة الإمام أمير المؤمنين .

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٣٦٤ .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ .

١٥٣

عنده عليهم، وقد ملأ قلوبهم سروراً بإحسانه ومعروفه، ومن كرمه أنّه جاءه رجل في حاجة فقال له : "أُكتب حاجتك في رقعة وادفعها إلينا"، فكتبها ذلك الشخص ورفعها إليه، فأمرعليه‌السلام بضعفها له، قال بعض الحاضرين: ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يا بن رسول الله ؟!، فأجابهعليه‌السلام : "بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا من أعطيته بعد مسألة فإنّما أعطيته بما بذل لك من وجهه، وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته، أبكآبة أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد، وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذلك من وجهه فإنّ ذلك أعظم ممّا نال من معروفك" .

لقد كان موئلاً للفقراء والمحرومين، وملجأً للأرامل والأيتام، وقد تقدّمت بعض بوادر جوده ومعروفه التي كان بها مضرب المثل للكرم والسخاء .

ب ـ الاستجارة به :

كانعليه‌السلام في عاصمة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كهفاً منيعاً لمن يلجأ إليه، وملاذاً حصيناً لمن يلوذ به، قد كرّس أوقاته في قضاء حوائج الناس، ودفع الضيم والظلم عنهم، وقد استجار به سعيد بن أبي سرح من زياد فأجاره، فقد ذكر الرواة أنّه كان معروفاً بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام فطلبه زياد من أجل ذلك فهرب إلى يثرب مستجيراً بالإمام، ولمّا علم زياد ذلك عمد إلى أخيه وولده وزوجه فحبسهم، ونقض داره، وصادر أمواله، وحينما علم الإمام الحسن ذلك شقّ عليه الأمر، فكتب رسالة إلى زياد يأمره فيها بأن يعطيه الأمان،

١٥٤

ويخلّي سبيل عياله وأطفاله، ويشيّد داره، ويردّ عليه أمواله(١) .

مرجعيّته السياسيّة :

لقد صالح الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية من موقع القوّة، كما نصّت المعاهدة على أن يكون الأمر من بعده للحسن ولا يبغي له الغوائل والمكائد .

إذن من الطبيعي أن يكون الإمام محور المعارضة والشوكة التي تنغّص على بني أمية ومعاوية ملكهم وتكدّر صفوهم، ونجد في أدعية الإمام ولقاءاته بالحاكمين وبطانتهم ورسائله وخطبه نشاطاً سياسياً واضحاً تمثّل في :

أ ـ مراقبته للأحداث ومتابعتها ومراقبة سلوك الحاكمين وعمّالهم، وأمرهم بالمعروف وردعهم عن المنكر، كما لاحظنا في مراسلته لزياد لرفع الضغط عن سعيد بن أبي سرح، ولومه لحبيب بن مسلمة وهو في الطواف على إطاعته لمعاوية(٢) .

ب ـ النشاط السياسي المنظَّم والذي كان يتمثّل في استقباله لوفود المعارضة، وتوجيههم ودعوتهم إلى الصبر، وأخذ الحزم وانتظار أوامر الإمام التي ستصدر في الفرصة المناسبة، كما تمثّل في تأكيده المستمرّ على الدور القيادي لأهل البيتعليهم‌السلام واستحقاقه للخلافة والإمامة .

ويرى الدكتور طه حسين أنّ الإمام قد شكّل حزباً سياسياً حين مكثه في المدينة، وتولّى هو رئاسته وتوجيهه الوجهة المناسبة لتلك الظروف .

ج ـ عدم تعاطفه مع أركان النظام الحاكم بالرغم من محاولاتهم لكسب عطف الإمام أو تغطية نشاطاته أو إدانتها، وقد تمثّل هذا الجانب في رفضه

__________

(١) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ .

(٢) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٣ .

١٥٥

لمصاهرة الأُمويين وفضحه لخططهم وكشفه لواقعهم المنحرف وعدم استحقاق معاوية للخلافة، وتجلّى بوضوح في مناظراته مع معاوية وبطانته في المدينة ودمشق على حدّ سواء، ونكتفي بالإشارة إلى بعض مواقفه .

رفض الإمامعليه‌السلام مصاهرة الأُمويين :

ورام معاوية أن يصاهر بني هاشم ليحوز بذلك الشرف والمجد، فكتب إلى عامله على المدينة مروان بن الحكم أن يخطب ليزيد زينب بنت عبد الله ابن جعفر على حكم أبيها في الصداق، وقضاء دينه بالغاً ما بلغ، وعلى صلح الحيّين بني هاشم وبني أمية، فبعث مروان خلف عبد الله، فلمّا حضر عنده فاوضه في أمر كريمته، فأجابه عبد الله : إنّ أمر نسائنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه، فأقبل مروان إلى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله، فقالعليه‌السلام : "اجمع مَن أردت" فانطلق مروان فجمع الهاشميّين والأُمويين في صعيد واحد وقام فيهم خطيباً، وبيّن أمر معاوية له .

فردّ الإمامعليه‌السلام عليه، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : "أمّا ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق فإنّا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهله وبناته(١) ، وأمّا قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهن ؟ وأمّا صلح الحيّين فإنّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا ..." .

وفي ختام كلمته قال الإمامعليه‌السلام : "وقد رأينا أن نزّوجها (يعني زينب) من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر، وقد زوّجتها منه، وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة، وقد أعطاني معاوية بها عشرة آلاف دينار" .

__________

(١) كانت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مهر أزواجه وبناته أربعمئة درهم .

١٥٦

ورفع مروان رسالة إلى معاوية أخبره بما حصل، فلمّا وصلت إليه قال : "خطبنا إليهم فلم يفعلوا، ولو خطبوا إلينا لما رددناهم"(١) .

من مواقف الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية وبطانته :

أ ـ مع معاوية في المدينة :

روى الخوارزمي أنّ معاوية سافر إلى يثرب فرأى تكريم الناس وحفاوتهم بالإمام وإكبارهم له ممّا ساءه ذلك، فاستدعى أبا الأسود الدؤلي والضحّاك بن قيس الفهري، فاستشارهم في أمر الحسن وأنّه بماذا يوصمه ليتّخذ من ذلك وسيلة للحطّ من شأنه والتقليل من أهميّته أمام الجماهير، فأشار عليه أبو الأسود بالترك قائلاً :

"رأي أمير المؤمنين أفضل، وأرى ألاّ يفعل فإنّ أمير المؤمنين لن يقول فيه قولاً إلاّ أنزله سامعوه منه به حسداً، ورفعوا به صعداً، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، أحضر ما هو كائن جوابه، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنوبك(٢) ، ويبدي به عيوبك، فإنّ كلامك فيه صار له فضلاً، وعليك كلاً، إلاّ أن تكون تعرف له عيباً في أدب، أو وقيعة في حسب، وإنّه لهو المهذّب، قد أصبح من صريح العرب في عزّ لُبابها، وكريم محتدها، وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين" .

وقد أشار عليه أبو الأسود بالصواب، ومنحه النصيحة، فأيّ نقص أو عيب في الإمام حتى يوصمه به، وهو المطهّر من كلّ رجس ونقص كما نطق

__________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٢٤ .

(٢) الظنوب : العظم اليابس من الساق .

١٥٧

بذلك الذكر الحكيم؟ ولكنّ الضحّاك بن قيس قد أشار على معاوية بعكس ذلك فحبّذ له أن ينال من الإمام ويتطاول عليه قائلاً : "امضِ يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك، فإنّك لو رميته بقوارص كلامك ومحكم جوابك لذلّ لك كما يذلّ البعير الشارف(١) من الإبل" .

واستجاب معاوية لرأي الضحّاك، فلمّا كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيّد المسلمين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فانتقصه، ثم قال :

"أيّها الناس! إنّ صبية من قريش ذوي سفه وطيش وتكدّر من عيش أتعبتهم المقادير، فاتّخذ الشيطان رؤوسهم مقاعد، وألسنتهم مبارد، فأباض وفرخ في صدورهم، ودرج في نحورهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، وأعمى عليهم السُبل، وأرشدهم إلى البغي والعدوان والزور والبهتان، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) وكفى لهم مؤدّباً، والمستعان الله" .

فوثب إليه الإمام الحسن مندفعاً كالسيل رادّاً عليه افتراءه وأباطيله قائلاً :

"أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن نبيّ الله، أنا ابن من جعلت له الأرضُ مسجداً وطهوراً، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، أنا ابن من بعث إلى الجنّ والإنس، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين" .

__________

(١) البعير الشارف : المسنّ الهرم .

١٥٨

وشقّ على معاوية كلام الإمام فبادر إلى قطعه قائلاً : "يا حسن! عليك بصفة الرطب"، فقالعليه‌السلام :"الريح تلقحه والحرّ ينضجه، والليل يبرده ويطيبه، على رغم أنفك يا معاوية" ثم استرسلعليه‌السلام في تعريف نفسه قائلاً :

"أنا ابن مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، ويقرع باب الجنّة، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبيّ قبله، أنا ابن من نصر على الأحزاب، أنا ابن من ذلّت له قريش رَغماً" .

وغضب معاوية واندفع يصيح : "أما أنّك تحدّث نفسك بالخلافة" .

فأجابه الإمامعليه‌السلام عمّن هو أهل للخلافة قائلاً :"أمّا الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنَّة نبيّه، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطّل السنّة، إنّما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكاً فتمتّع به، وكأنّه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه" .

وراوغ معاوية، وانحط كبرياؤه فقال : "ما في قريش رجل إلاّ ولنا عنده نِعَم جزيلة ويد جميلة" .

فردّعليه‌السلام قائلاً :"بلى، من تعزّزت به بعد الذلّة، وتكثّرت به بعد القلّة" .

فقال معاوية : "من أُولئك يا حسن ؟"، فأجابه الإمامعليه‌السلام :"من يلهيك عن معرفتهم" .

ثم استمرعليه‌السلام في تعريف نفسه إلى المجتمع فقال :

"أنا ابن من ساد قريشاً شاباً وكهلاً، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلاً، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق، والفرع الباسق، والفضل السابق، أنا ابن من رضاه رضى الله، وسخطه سخطه، فهل لك أن تساميه يا معاوية ؟" ، فقال معاوية : أقول لا تصديقاً لقولك، فقال الحسن :"الحق أبلج، والباطل لجلج، ولم يندم من ركب الحقّ، وقد خاب من ركب الباطل :

والحقّ يعرفه ذوو الألباب )

فقال معاوية على عادته من

١٥٩

المراوغة : لا مرحباً بمن ساءك(١) .

ب ـ في دمشق :

اتفق جمهور المؤرّخين على أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد وفد على معاوية في دمشق، واختلفوا في أنّ وفادته كانت مرةً واحدةً أو أكثر، وإطالة الكلام في تحقيق هذه الجهة لا تغنينا شيئاً، وإنّما المهم البحث عن سرّ سفره، فالذي نذهب إليه أنّ المقصود منه ليس إلاّ نشر مبدأ أهل البيتعليهم‌السلام وإبراز الواقع الأُموي أمام ذلك المجتمع الذي ضلّله معاوية وحرّفه عن الطريق القويم، أمّا الاستدلال عليه فإنّه يظهر من مواقفه ومناظراته مع معاوية، فإنّه قد هتك بها حجابه .

أمّا الذاهبون إلى أنّ سفره كان لأخذ العطاء فقد استندوا إلى إحدى الروايات الموضوعة فيما نحسب، وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها; لأنّ الإمام قد عرف بالعزّة والإباء والشمم، على أنّه كان في غنىً عن صلات معاوية; لأنّ له ضياعاً كبيرة في يثرب كانت تدرّ عليه بالأموال الطائلة، مضافاً إلى ما كان يصله من الحقوق التي كان يدفعها خيار المسلمين وصلحاؤهم.

على أنّ الأموال التي كان يصله بها معاوية على القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله، فقد ورد أنّه لم يكن يأخذ منها مقدار ما تحمله الدابة بفيها(٢) .

وروى الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : "أنّ الحسن والحسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان"(٣) .

__________

(١) راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ عن الخوارزمي .

(٢) جامع أسرار العلماء ، مخطوط بمكتبة كاشف الغطاء العامة .

(٣) حياة الإمام الحسن : ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617