بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٧

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 621

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 621 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104228 / تحميل: 9030
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٧

مؤلف:
العربية

كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

المجلد السابع

الشيخ محمد تقي الشيخ التّستري (الشوشتري)

١

الفصل السادس عشر في أدعيتهعليه‌السلام

٢

١ - الخطبة (١٧٦) و من كلمات كان يدعو بها:

اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ اَلْأَلْحَاظِ وَ سَقَطَاتِ اَلْأَلْفَاظِ وَ شَهَوَاتِ اَلْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اَللِّسَانِ قول المصنف: «من كلمات كان يدعو بها» هكذا في (المصرية) بلا زيادة، و الصواب: زيادةعليه‌السلام بعده كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ١) .

و كيف كان، ففي (الكافي) عن علي بن النعمان رفعه أنّهعليه‌السلام كان إذا صعد الصّفا استقبل الكعبة، ثم رفع يديه ثم يقول: اللّهم اغفر لي كلّ ذنب

____________________

(١) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٦: ١٧٦ لكن في شرح ابن ميثم ٢: ٢١٣ نحو المصرية.

٣

أذنبته قطّ، فان عدت فعد عليّ بالمغفرة، فانّك أنت الغفور الرحيم. اللّهم افعل بي ما أنت أهله، فانّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني، و إن تعذبني فأنت غنّي عن عذابي، و أنا محتاج إلى رحمتك، فيا من أنا محتاج إلى رحمته ارحمني.

اللّهم لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذّبني، و لن تظلمني،

أصبحت أتقي عدلك و لا أخاف جورك، فيا من هو عدل لا يجور ارحمني( ١) .

و نقل ابن أبي الحديد من أدعية الصحيفة خمسة: الأوّل: «يا من يرحم من لا يرحمه العباد» و الثاني: «اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون» و الثالث: «يا ذا الملك المتأبّد بالخلود» و الرابع: «اللّهم إنّي أعوذ بك من هيجان الحرص» و الخامس: «الحمد للَّه بكلّ ما حمده أدنى ملائكته إليه». ثم قال: إنّها من دعاء أمير المؤمنينعليه‌السلام ، و كان يدعو بها علي بن الحسينعليه‌السلام في أدعية الصحيفة( ٢) .

قلت: إنّ كلمات عترتهعليه‌السلام و علومهم و إن كانت من كلماتهعليه‌السلام و علومه،

إلاّ أنّ أدعية الصحيفة السجادية من إنشاء السجّاد نفسه، و عليه أطبقت الإماميّة سلفا و خلفا، و إنّما نقل كلّ من البحراني و النّوري صحيفة من أدعيتهعليه‌السلام بالأسانيد كما إنّ علي بن طاوس عقد في (مهجه) بابا لدعواتهعليه‌السلام كذلك.

قولهعليه‌السلام «اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به منّي» هو تعالى أعلم بذنب عبده حيث أنّ العبد قد لا يرى بعض الامور ذنبا مع انّه عنده تعالى ذنب، بل أعظم ذنب، كما أنّ العبد ينسى كثيرا من ذنوبه و هو تعالى لا ينسى منها شيئا أصلا.

«فإن عدت فعد عليّ» هكذا في (المصرية و ابن أبي الحديد)، و لكن في (ابن

____________________

(١) الكافي ٤: ٤٣٢ ح ٥.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٦: ١٧٨ ١٨٥.

٤

ميثم و الخطية) «لي»( ١ ) «بالمغفرة» فإنّ شأن العبد الخطأ، و شأن الربّ الغفران.

«اللّهم اغفر لي ما وأيت» أي: وعدت «من نفسي و لم تجد له وفاء عندي» حتّى لا يؤدّي إلى النفاق و منهم من عاهد اللَّه لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ و لنكوننّ من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولّوا و هم معرضون.

فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا اللَّه ما وعدوه و بما كانوا يكذبون( ٢) .

«اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثمّ خالفه قلبي» لأنّ عبادة لم تكن للَّه، لهي ذنب كبير فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا( ٣) .

«اللّهم اغفر لي رمزات الألحاظ» جمع اللحظ: النّظر بمؤخّر العين، قال تعالى: يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصّدور( ٤) .

«و سقطات الألفاظ» قال تعالى في وصف المؤمنين: و الذين هم عن اللغو معرضون( ٥) .

«و شهوات الجنان» بالفتح أي: القلب، و لا يخلو قلب من شهوة امور غير مشروعة.

«و هفوات اللسان» أي: زلاّته.

و عن الصادقعليه‌السلام : كان بالمدينة رجل بطّال يضحك الناس منه فقال: قد أعياني هذا الرجل يعني علي بن الحسينعليه‌السلام أن أضحكه، فمرّ و خلفه

____________________

(١) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٦: ١٧٦، و شرح ابن ميثم ٢: ٢١٣ نحو المصرية.

(٢) التوبة: ٧٥ ٧٧.

(٣) الكهف: ١١٠.

(٤) غافر: ١٩.

(٥) المؤمنون: ٣.

٥

موليان له، فجاء الرجل حتّى انتزع رداءه من رقبته، فمضىعليه‌السلام و لم يلتفت إليه، فأتبعه الناس و أخذوا منه الرداء و جاؤا به إليه، فقال لهم: من هذا؟ قالوا:

رجل بطّال يضحك الناس. فقال: قولوا له، إنّ للَّه يوما يخسر فيه المبطلون( ١) .

٢ - الخطبة (٢١٣) و من دعاء كان يدعو بهعليه‌السلام كثيرا:

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لاَ سَقِيماً وَ لاَ مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ وَ لاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لاَ مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لاَ مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لاَ مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لاَ مُلْتَبِساً عَقْلِي وَ لاَ مُعَذَّباً بِعَذَابِ اَلْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي لَكَ اَلْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لاَ حُجَّةَ لِي وَ لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلاَّ مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لاَ أَتَّقِيَ إِلاَّ مَا وَقَيْتَنِي اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ اَلْأَمْرُ لَكَ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اَللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَايَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ اَلْهُدَى اَلَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ أقول: في (مهج ابن طاوس)، عن كتاب (دفع الهموم و الأحزان لأحمد بن داود النعماني): قال ابن عباس قلت لأمير المؤمنينعليه‌السلام ليلة صفين: أما ترى الأعداء قد أحد قوابنا. فقال: قد راعك هذا؟ قلت: نعم. فقال: اللّهم انّي أعوذبك أن أضام في سلطانك (اللّهم انّي أعوذبك أن اضل في هداك) اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتقر في غناك، اللّهمّ إنّي أعوذبك أن أضيّع في سلامتك، اللّهم إنّي أعوذبك أن

____________________

(١) أخرجه الصدوق في أماليه: ١٨٣ ح ٦ المجلس ٣٩.

٦

اغلب و الأمر إليك( ١) .

هذا، و من دعاء علّمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاله عمير بن وهب كما في ذيل الطبري اللّهم إنّي ضعيف فقوّ في رضاك ضعفي، و خذ إلى الخير بناصيتي، و بلّغني برحمتك ما أرجو من رحمتك، و اجعل الإسلام منتهى رغبتي، و اجعل لي ودّا عند الناس و عهدا عندك( ٢ ) و من دعاء أمير المؤمنينعليه‌السلام في السجود كما في الكافي: إرحم ذلّي بين يديك، و تضرّعي إليك، و وحشتي من الناس، و آنسني بك يا كريم( ٣ ) و كانعليه‌السلام يقول: و عظتني فلم اتّعظ، و زجرتني عن محارمك فلم أنزجر، و عمّرتني أياديك فما شكرت، عفوك عفوك يا كريم أسألك الراحة عند الموت، و أسألك العفو عند الحساب( ٤ ) قول المصنف: «كانعليه‌السلام يدعو به كثيرا» قال ابن أبي الحديد: «كثيرا» صفة مصدر محذوف، أي دعاء كثيرا( ٥) .

قلت: بل صفة لوقت محذوف كما لا يخفى، فإن هذا الدعاء دعاء واحد لا كثير، و إنّما كانعليه‌السلام يقرأه في أوقات كثيرة، فهو مفعول فيه معيّنا، و لا مجال لاحتمال كونه مفعولا مطلقا كما احتمله الخوئي أيضا( ٦) .

قولهعليه‌السلام «الحمد للَّه الذي لم يصبح بي ميّتا و لا سقيما» قد يصبح كثير من الناس ميّتين أو سقيمين، فمن أصبح حيّا معافى يجب عليه

____________________

(١) مهج الدعوات: ١٠٣.

(٢) منتخب ذيل المذيل: ٨١.

(٣) الكافي ٣: ٣٢٧ ح ٢١.

(٤) رواه الكليني في الكافي ٣: ٣٢٧ ح ٢١.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨٥.

(٦) شرح الخوئي ٧: ٢٩.

٧

شكره تعالى على ذلك.

«و لا مضروبا على عروقي بسوء» أي: مرض.

و روى (أمالي الشيخ) عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: في ابن آدم ثلاثمائة و ستون عرقا منها مائة و ثمانون متحركة و مائة و ثمانون ساكنة، فلو سكن المتحرك لم يبق الانسان، و لو تحرّك الساكن لهلك الإنسان و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل يوم إذا أصبح و طلعت الشمس يقول «الحمد للَّه ربّ العالمين كثيرا طيّبا على كلّ حال» يقولها ثلاثمائة و ستين مرّة شكرا( ١) .

و في (الحلية) عن وهب بن منبه قال: عبد عابد خمسين سنة، فأوحى إليه انّي قد غفرت لك. قال: أي ربّ و ما تغفر لي و لم أذنب. فأذن اللَّه لعرق في عنقه، فضرب عليه، فلم ينم و لم يصلّ، ثم سكن، فنام فأتاه الملك، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق. قال الملك: إنّ ربّك يقول: إن عبادتك خمسين سنة تعدل سكون هذا العرق( ٢) .

و في خبر: أنّ كلّ إنسان فيه عرق جذام، فإذا تحرّك سلّط اللَّه عليه الزكام فلا تكرهوه( ٣) .

و قال ابن أبي الحديد: «بسوء» أي: و لا أبرص، و العرب تكنّي عن البرص بالسوء، و من أمثالهم «ما أنكرك من سوء» أي: ليس إنكاري لك عن برص حدث بك فغيّر صورتك، و أراد «بعروقه» أعضاءه( ٤) .

قلت: ما ذكره كلّه غلط و خبط، فلم يقل أحد أنّ السوء كناية عن البرص

____________________

(١) أمالي أبي جعفر الطوسي ٢: ٢١٠، المجلس ٨.

(٢) حلية الأولياء ٤: ٦٨.

(٣) جاء هذا المضمون في الكافي ٨: ٣٨٢ ح ٥٧٧ و ٥٧٩، و طب الأئمة: ١٠٧، و دعوات الراوندي، عنه البحار ٦٢:

١٨٤ ح ٧، و الأخير أقرب لفظا.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨٥.

٨

عند العرب، و إنّما الآية بيضاء من غير سوء( ١ ) كناية عن عدم البرص، كما أن قول أمير المؤمنينعليه‌السلام لأنس لما أنكر تذكّره لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم «إن كنت كاذبا فضربك اللَّه بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة»( ٢ ) كناية عن البرص.

كما أن تفسيره للمثل «ما أنكرك من سوء» بما قال، تفسير ركيك، فهذا الجوهري قال: معنى المثل أنّه لم يكن إنكاري إيّاك من سوء رأيته بك و إنّما هو لقلّة المعرفة( ٣ ) . و قال الميداني: يعني ليس إنكاري إيّاك عن سوء بك لكنّي لا أثبتك( ٤ ) ، كما أن قوله أراد بعروقه أعضاءه أيضا غلط، فالمراد بالعروق الأعصاب، و إنّما حمله على تأويله أنّ البرص يحدث في الأعضاء لا العروق.

«و لا مأخوذا بأسوأ عملي» و لو يؤاخذ اللَّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة( ٥ ) ، و قد يأخذهم إذا أفرطوا في السوء، قال تعالى بعد ذكر ما أنزل بالامم السالفة من العذاب و كذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى و هي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد( ٦) .

«و لا مقطوعا دابري» أي: نسلي بعدم جعله من الظلمة، لأنّه تعالى قال فيهم: فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد للَّه ربّ العالمين( ٧ ) و قال في قوم لوط: إنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين( ٨) .

____________________

(١) النمل: ١٢ و القصص: ٣٢.

(٢) نهج البلاغة ٤: ٧٤، الحكمة ٣١١.

(٣) صحاح اللغة ١: ٥٦ مادة (سوء).

(٤) مجمع الأمثال ٢: ٢٨٥.

(٥) فاطر: ٤٥.

(٦) هود: ١٠٢.

(٧) الأنعام: ٤٥.

(٨) الحجر: ٦٦.

٩

«و لا مرتدا عن ديني» كبعض الناس يمسي مسلما و يصبح مرتدا، و هو فوق كلّ سوء و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا و الآخرة و اولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون( ١) .

و في رجال الكشّي: عن حمران بن أعين قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها. فقال: ألا أخبرك بأعجب من ذلك. فقلت: بلى قال:

المهاجرون و الأنصار ذهبوا إلاّ ثلاثة( ٢) .

و عن الجمع بين صحيحي الحميدي من مسند سهل بن سعد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يرد عليّ الحوض أقوام أعرفهم و يعرفوني، ثم يحال بيني و بينهم، فأقول انّهم امّتي فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي و غيّر و في آخر من مسند ابن عباس، سيجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا ربّ أصحابي، فيقول إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم لن يزالوا مرتّدين على أعقابهم منذ فارقتهم و من مسند أنس: ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتّى إذا رأتيهم و رفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ أي ربّ أصحابي أصحابي، فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. و مثله في مسند ابن مسعود و مسند حذيفة.

و في مسند أبي هريرة قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بينما أنا قائم فإذا زمرة،

حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني و بينهم، فقال: هلمّوا. فقلت: إلى أين؟

قال: إلى النّار و اللَّه قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة إلى أن قال قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا أراه

____________________

(١) البقرة: ٢١٧.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٧: ١٥.

١٠

يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم( ١ ) ( ٢) .

«و لا مستوحشا من إيماني» فكثير من الناس يستوحشون من إيمانهم بعد أنسهم به، لعدم رسوخه فيهم، و قد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهعليه‌السلام «الإيمان مخالط لحمك و دمك، كما خالط لحمي و دمي»( ٣) .

«و لا ملتبسا عقلي» أي: مختلطا، و المؤمن يبتلى بكلّ بلاء و مرض، لكن لا يؤخذ منه عقله.

«و لا معذّبا بعذاب الامم من قبلي» قال تعالى في عاد و ثمود و قارون و فرعون و هامان: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض و منهم من أغرقنا( ٤ ) و قال في مردة اليهود: و جعل منهم القردة و الخنازير( ٥) .

حمد اللَّه تعالى على أنّه لم يصبح به من أحد الأصناف التسعة، فإن حمده تعالى واجب على دفع البلاء كوجوبه على إعطاء النعماء، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا اللَّه تعالى، و لا تسمعوهم فإن ذلك يحزنهم.

____________________

(١) نقل ابن طاووس في الطرائف ٢: ٣٧٦ ٣٧٨، كل هذه الأحاديث عن الجمع بين الصحيحين للحميدي و حديث سهل أخرجه البخاري في صحيحه ٤: ١٤٣ و ٢٢١، و مسلم في صحيحه ٤: ١٧٩٤ ح ٢٢٩٣، و حديث ابن عباس أخرجه البخاري في ٢: ٢٣٣ و ٢٥٦ و ٣: ١٢٧ و ١٦ و ٤: ١٣٣، و مسلم في ٤: ٢١٩٤ ح ٥٨، و حديث أنس أخرجه البخاري في ٤: ١٤١، و مسلم في ٤: ١٨٠٠ ح ٤٠، و حديث ابن مسعود أخرجه البخاري في ٤: ١٤١ و ٢٢١،

و مسلم في ٤: ١٧٩٦ ح ٣٢، و حديث حذيفة أخرجه البخاري في ٤: ١٤١ و مسلم في ٤: ١٧٩٧ ح ٣٢، و حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في ٤: ١٤٢، و مسلم في ١: ٢١٧ و ٢١٨ ح ٣٧ و ٣٩.

(٢) أسقط الشارح هنا فقرة «و لا منكرا لربي».

(٣) أخرجه في ضمن حديث طويل ابن المغازلي في مناقبه: ٢٨٦ و غيره.

(٤) العنكبوت: ٤٠.

(٥) المائدة: ٦٠.

١١

و عن الباقرعليه‌السلام : من نظر إلى مبتلى فقال ثلاث مرّات: «الحمد للَّه الذي عافاني ممّا ابتلاك به، و لو شاء فعل» لم يصبه ذلك البلاء.

و عنهعليه‌السلام : إذا رأيت مبتلى و أنت معافى فقل «اللّهم إنّي لا أسخر و لا أفخر و لكنّي أحمدك على عظيم نعمائك عليّ»( ١) .

«أصبحت عبدا مملوكا» و لا يملكون لأنفسهم ضرّا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا( ٢) .

«ظالما لنفسي» إن اللَّه لا يظلم النّاس شيئا و لكنّ الناس أنفسهم يظلمون( ٣) .

«لك الحجّة عليّ و لا حجّة لي» قل فللَّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين( ٤ ) حجّتهم داحضة عند ربهم( ٥ ) رسلا مبشّرين و منذرين لئلا يكون للنّاس على اللَّه حجّة بعد الرّسل( ٦) .

«و لا أستطيع» هكذا في (المصرية) أخذا من نسخة (ابن أبي الحديد)،

و الصواب: «لا أستطيع» كما في (ابن ميثم) بل و كما في (ابن أبي الحديد) في شرح الفقرة( ٧) .

«أن آخذ إلاّ ما أعطيتني» «لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت».

«و لا أتقي إلاّ ما وقيتني» و قال يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا

____________________

(١) أخرج هذه الأحاديث الكليني في الكافي ٢: ٩٧ و ٩٨ ح ٢٠ و ٢٢ و ٢٣، و الحديث الأخير عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) الفرقان: ٣.

(٣) يونس: ٤٤.

(٤) الأنعام: ١٤٩.

(٥) الشورى: ١٦.

(٦) النساء: ١٦٥.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨٤ و ٨٦، و شرح ابن ميثم ٤: ٣٦.

١٢

من أبواب متفرّقة و ما أغني عنكم من اللَّه من شي‏ء ان الحكم إلاّ للَّه عليه توكّلت و عليه فليتوكّل المتوكّلون و لمّا دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من اللَّه من شي‏ء إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها و إنّه لذو علم لما علّمناه و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون( ١) .

«اللهمّ إنّي أعوذ بك أن افتقر في غناك» و للَّه خزائن السماوات و الأرض( ٢) .

و في الخبر: أوحى تعالى إلى موسىعليه‌السلام : إنّه ما دام لم تنفد خزائني و لن تنفد فلا تغتمّ لرزقك( ٣) .

و إنّما استعاذعليه‌السلام لأن العبد قد يستحق سلب نعمه تعالى إنّ اللَّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم( ٤) .

«أو أضلّ في هداك» إن ربّي على صراط مستقيم( ٥ ) قال تعالى: يضلّ به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضلّ به إلاّ الفاسقين الذين ينقضون عهد اللَّه من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر اللَّه به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون( ٦) .

«أو اضطهد» أي: أصير مقهورا للناس «و الأمر لك» و في نسخة (ابن ميثم) «و لك الأمر»( ٧) .

____________________

(١) يوسف: ٦٧ و ٦٨.

(٢) المنافقون: ٧.

(٣) أخرجه الصدوق في التوحيد: ٣٧٢ ح ١٤ و النقل بالمعنى.

(٤) الرعد: ١١.

(٥) هود: ٥٦.

(٦) أسقط الشارح هنا فقرة: «أو اضام في سلطانك». و الآيات ٢٦ و ٢٧ من سورة البقرة.

(٧) لفظ شرح ابن ميثم ٤: ٣٦ أيضا نحو المصرية.

١٣

«اللّهم اجعل نفسي أوّل كريمة تنتزعها من كرائمي» يكرم على الإنسان جميع جوارحه و قواه كما يكرم عليه نفسه و روحه، و انتزاع النفس أوّلها يلزم إبقاء باقيها إلى حين موته.

و في الخبر: إذا أنا أخذت من عبدي كريمتيه فصبر، لم أرض له ثوابا دون الجنّة( ١) .

«و أوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي» هذا في معنى الأوّل، إلاّ أن الأوّل من حيث أنّ النفس و قواها كرائم على الانسان و هذا من حيث أنّها عوار من الربّ عند العبد، فليس له لو ارتجعها غير أوّل اعتراض و إنكار.

«اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك» بمخالفة أو امرك، و زو اجرك التي قلتها في كتابك و على لسان حججك.

«أو نفتنّ» هكذا في (المصرية) و الصواب: «أو نفتتن» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢ ) «عن دينك» بأن تتّفق أسباب، تخرج العبد عن الدين كما في قوم موسى مع العجل و السامريّ.

«أو تتايع» قال الجوهري: التتايع: التهافت في الشرّ و اللجاج، و لا يكون التتايع إلاّ في الشرّ( ٣) .

«بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك» قال تعالى: و من أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدى من اللَّه( ٤) .

____________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير و أبو نعيم في حلية الأولياء، عنهما الجامع الصغير ٢: ٨٣، و النقل بتصرف في اللفظ.

(٢) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨٤ «أو أن نفتتن» و لفظ شرح ابن ميثم ٤: ٣٦ نحو المصرية.

(٣) صحاح اللغة ٣: ١١٩٢ مادة (تيع).

(٤) القصص: ٥٠.

١٤

٣ - الخطبة (٢٢٣) و من دعاء لهعليه‌السلام :

اَللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لاَ تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقَكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ اَلْإِعْطَاءِ وَ اَلْمَنْعِ إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٢٤ ٢٨ ٣: ٢٦ قول المصنف: «و من دعاء لهعليه‌السلام » و ردت في المكارم من الصحيفة،

فقرات بلفظه و معناه و فقرات بمعناه فقط.

أما الاولى: فما فيه «اللّهم صلّ على محمّد و آله، و صن وجهي باليسار،

و لا تبتذل جاهي بالإقتار، فاسترزق أهل رزقك، و استعطي شرار خلقك،

فأفتتن بحمد من أعطاني، و ابتلي بذم من منعني، و أنت من دونهم ولي الإعطاء و المنع»( ١) .

و أما الثانية: فما فيه «اللّهمّ اجعلني أصول بك عند الضرورة، و أسألك عند الحاجة، و أتضرّع إليك عند المسكنة، و لا تفتنّي بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت، و لا بالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت، و لا بالتضرّع إلى من دونك إذا رهبت، فاستحق بذلك خذلانك و منعك و إعراضك يا أرحم الراحمين»( ٢) .

و لا غرو في توافقهما و تقاربهما، فكلاهما مؤيّد بالروح القدسي.

قولهعليه‌السلام «اللّهم صن وجهي باليسار» صون الوجه أعزّ شي‏ء عند الكرام،

قال أبو تمام:

____________________

(١) الصحيفة السجادية: ١١١ دعاء ٢٠.

(٢) الصحيفة السجادية: ١٠٥ دعاء ٢٠.

١٥

و ما ابالي و خير القول أصدقه

حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي

و قال آخر:

ما جود كفّك إن جادت و إن بخلت

من ماء وجهي و قد أخلقته عوض

و عن الصادقعليه‌السلام : المعروف ابتداء، و أما من أعطيته بعد المسألة فانّما كافيته بما بذل لك من وجهه، يبيت ليلته أرقا متململا بين الرجاء و اليأس لا يدري أين يتوجّه لحاجته ثم يعزم بالقصد لها، فيأتيك و قلبه يرجف، و فرائصه ترعد قد ترى دمه في وجهه لا يدري أيرجع بكآبة أو فرح( ١) .

و مرادهعليه‌السلام باليسار: الكفاف، المطلوب عند أولياء اللَّه حتى لا يحتاج إلى الخلق، لا الغنى المطغى، المطلوب عند أهل الدنيا.

«و لا تبذل جاهي بالإقتار» أي: الإفتقار و ضيق المعاش.

في (الكافي) عن لقمان قال لابنه: يا بنيّ ذقت الصبر، و أكلت لحاء الشجر، فلم أجد شيئا هو أمرّ من الفقر، فان بليت به يوما فلا تظهر الناس عليه فيستهينوك و لا ينفعوك بشي‏ء، إرجع إلى الذي ابتلاك به فهو أقدر على فرجك،

و سله من ذا الذي سأله فلم يعطه أو وثق به فلم ينجه( ٢) .

«فاسترزق طالبي رزقك» و قبيح أن يدع الإنسان الرازق، و يدعو المرزوق،

فكما لا خالق غيره، لا رازق سواه إن اللَّه هو الرّزّاق ذو القوّة المتين( ٣) .

«و استعطف شرار خلقك» فان أكثر النّاس لئام و شرار، و الكرام و الأبرار قليلون، فإذا ابتلي بالإقتار يضطر غالبا الى استعطاف الأشرار.

روي في (الكافي)، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأيدي ثلاث: يد اللَّه العليا، و يد

____________________

(١) أخرجه الكليني في الكافي ٤: ٢٣ ح ٢.

(٢) الكافي ٤: ٢٢ ح ٨.

(٣) الذاريات: ٥٨.

١٦

المعطي التي تليها، و يد المعطى أسفل الأيدي. فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم، إنّ الأرزاق دونها حجب، فمن شاء قنى حياءه و أخذ رزقه، و من شاء هتك الحجاب و أخذ رزقه، و الذي نفسي بيده لئن يأخذ أحدكم جبلا ثمّ يدخل عرض هذا الوادي فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ثم يدخل به السوق فيبيعه بمدّ من تمر و يأخذ ثلثه و يتصدّق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو حرموه.

و عن الصادقعليه‌السلام : جاءت فخذ من الأنصار إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: لنا إليك حاجة. فقال: هاتوا، قالوا: عظيمة تضمن لنا على ربّك الجنّة؟

فنكسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه ثم نكت في الأرض ثم رفع رأسه فقال: أفعل ذلك بكم على ألا تسألوا أحدا شيئا، فكان الرجل منهم يكون في السفر فيسقط سوطه فيكره أن يقول لإنسان ناولنيه فرارا من المسألة فينزل فيأخذه، و يكون على المائدة فيكون بعض الجلساء أقرب إلى الماء منه فلا يقول ناولني حتى يقوم فيشرب و عنهعليه‌السلام : رحم اللَّه عبدا عفّ و تعفّف و كفّ عن المسألة، فإنّه يتعجّل الدنية في الدنيا و لا يغنى الناس عنه شيئا. ثم تمثّلعليه‌السلام ببيت حاتم:

إذا ما عرفت اليأس ألفيته الغنى

إذا عرفته النفس و الطمع الفقر(١)

«و ابتلى بحمد من أعطاني و افتن» هكذا في (المصرية)، و الصواب:

«و افتتن» كما (في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢ ) «بذمّ من منعني» و حمد الناس كذمّهم مذموم، و فاعله ملوم.

«و أنت من وراء ذلك كلّه وليّ الإعطاء و المنع». في (الفقه الرضوي): روى أنّ اللَّه عز و جل أوحى إلى داودعليه‌السلام : ما اعتصم بي عبد من عبادي، دون أحد

____________________

(١) الكافي ٤: ٢٠ و ٢١ ح ٣ و ٥ و ٦.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١: ٢٥٥، لكن في شرح ابن ميثم ٤: ٨٨ نحو المصرية.

١٧

من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثم تكيده أهل السماوات و الأرض و ما فيهنّ، إلاّ جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبيدي بأحد من خلقي دوني،

عرفت ذلك من نيّته، إلاّ قطعت أسباب السماوات من يديه، و أسخت الأرض من تحته، و لم أبال بأي واد هلك.

و فيه: و روي عن العالمعليه‌السلام يقول تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي،

و ارتفاعي في علوي، لا يؤثر عبد هواي على هواه، إلاّ جعلت غناه في قلبه،

و همّه في آخرته، و كففت عليه ضيعته، و ضمنت السماوات و الأرض رزقه،

و كنت له من وراء حاجته، و أتته الدنيا و هي راغمة. و عزّتي و جلالي،

و ارتفاعي في علو مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي، إلاّ قطعت رجاءه، و لم أرزقه منها إلاّ ما قدرت له.

و روي أنّ بعض العلماء كان يقول: سبحان من لو كانت الدنيا خيرا كلّها أهلك فيها من أحبّ، سبحان من لو كانت الدنيا شرّا كلّها أنجى منها من أراد( ١) .

هذا، و واضح أنّ الخبر في جملة «و أنت من وراء ذلك كلّه ولي الإعطاء و المنع» إنّما هو «وليّ» و «من وراء» متعلّق به كقوله «من دونهم» في الصحيفة في قوله «و أنت من دونهم ولي الإعطاء و المنع»( ٢ ) ، و جعل ابن أبي الحديد «من وراء ذلك» الخبر و قال «و انت من وراء ذلك» مثل قولك للملك العظيم «هو من وراء وزرائه»، فيكون «وليّ» خبرا بعد خبر، و يجوز أن يكون «وليّ» هو الخبر و «من وراء» حالا الخ( ٣ ) . و كما ترى.

«إنّك على كلّ شي‏ء قدير» فتقدر على صون وجهي حتّى لا أحتاج إلى

____________________

(١) أخرجه صاحب فقه الرضا فيه: ٣٥٨ و ٣٥٩، و الأحاديث الثلاثة أخرجها البرقي في المحاسن، عنه مشكوة الأنوار: ١٦ و ١٧ و ٢٦٤، و الأول الكليني في الكافي ٢: ٦٣ ح ١.

(٢) الصحيفة السجادية: ١١١ دعاء ٢٠.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٢٥٦.

١٨

غيرك فافعل ذلك بي.

و في (الفقه الرضوي): نروي أنّ رجلا أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسأله، فسمعه و هو يقول: «من سألنا أعطيناه و من استغنى أغناه اللَّه»، فانصرف و لم يسأله،

ثم عاد إليه فسمع مثل مقالته فلم يسأله، حتى فعل ذلك ثلاثا، فلما كان في اليوم الثالث مضى و استعار فأسا و صعد الجبل فاحتطب، و حمله إلى السوق،

فباعه بنصف صاع من شعير، فأكله هو و عياله، ثم دام على ذلك حتى جمع ما اشترى به فأسا، ثم اشترى بكرين و غلاما و أيسر، فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فقال: «أ ليس قلنا من سألنا أعطيناه و من استغنى أغناه اللَّه»( ١) .

٤ - الخطبة (٤٦) و من كلام لهعليه‌السلام عند عزمه على المسير إلى الشام:

اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ اَلسَّفَرِ وَ كَآبَةِ اَلْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ اَلْمَنْظَرِ فِي اَلْأَهْلِ وَ اَلْمَالِ اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلصَّاحِبُ فِي اَلسَّفَرِ وَ أَنْتَ اَلْخَلِيفَةُ فِي اَلْأَهْلِ وَ لاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لِأَنَّ اَلْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً وَ اَلْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً أقول: هكذا في (المصرية) بدون نقل عن المصنف، و فيها سقط ففي (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية): قال السيد: و ابتداء هذا الكلام مروي عن رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد قفّاهعليه‌السلام بأبلغ كلام و تمّمه بأحسن تمام من قوله «لا يجمعهما غيرك» إلى آخر الفصل( ٢) .

قول المصنف: «و من كلام لهعليه‌السلام عند عزمه على المسير الى الشام» في

____________________

(١) فقه الرضا: ٣٦٥.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٣: ١٦٦، لكن لم توجد الزيادة في شرح ابن ميثم ٢: ١٢١.

١٩

(صفّين نصر): لما وضع عليّعليه‌السلام رجله في ركاب دابّته يوم خرج من الكوفة إلى صفّين قال «بسم اللَّه»، فلما جلس على ظهرها قال سبحان الذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين و إنّا إلى ربّنا لمنقلبون( ١ ) ، ثمّ قال: اللّهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر الخ( ٢) .

قولهعليه‌السلام «اللّهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر» قال الجوهري: الوعث:

المكان السهل الكثير الدهس، تغيب فيه الأقدام و يشقّ على من يمشي فيه،

و وعثاء السفر: مشقّته( ٣) .

«و كآبة» قال الجوهري: الكآبة: سوء الحال و الانكسار من الحزن و قد كئب الرجل يكاب كأبة و كآبة( ٤) .

«المنقلب» قال الجوهري: المنقلب يكون مصدرا و يكون مكانا، مثل المنصرف( ٥) .

«و سوء المنظر في الأهل» بالمرض و الموت «و المال» بالفساد و التلف.

«اللّهم أنت الصاحب في السفر، و أنت الخليفة في الأهل» عن الصادقعليه‌السلام : ما استخلف عبد على أهله بخلافة أفضل من ركعتين يركعهما إذا أراد سفرا يقول «اللّهم اني استودعك نفسي و أهلي و مالي و ديني و دنياي و آخرتي و أمانتي و خواتيم عملي» إلاّ أعطاه اللَّه ما سأل( ٦) .

«و لا يجمعهما غيرك» من المخلوقين «لأن المستخلف» في الأهل «لا يكون

____________________

(١) الزخرف: ١٣ و ١٤.

(٢) وقعة صفين: ١٣٢.

(٣) صحاح اللغة ١: ٢٩٦ مادة (وعث).

(٤) صحاح اللغة ١: ٢٠٧ مادة (كأب).

(٥) صحاح اللغة ١: ٢٠٥ مادة (قلب).

(٦) أخرجه الكليني في الكافي ٣: ٤٨٠ ح ١ و غيره.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وقد سمح له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمبيت ليلا في المسجد ، لأنّه لا يملك مكانا للاستراحة والسكن ، وعند ما كثر عدد الغرباء ـ وكلهم سكن المسجد ـ أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد ، أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراجهم من المسجد وتطهيره ، وأغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا بيت علي وفاطمةعليهما‌السلام .

عندها أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء ، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأخرى ، وقام باقي المسلمين بالاهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأخرى.

وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص ، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم ، وقد سمّوا (بأصحاب الصفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).

* * *

٥٤١

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) )

التّفسير

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفنعليهم‌السلام

مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد ، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.

وهنا تذكر موضوعا يتعامل معه الإنسان كثيرا في حياته المادية ، خصوصا المسافرين عبر البحار وسكان السواحل ، حيث تقول الآية :( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) .

«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للاختصار ، وعادة فإن

٥٤٢

الآية تقصد حركة السفن ، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.

«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل ، إلّا أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين ، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد ، وأحيانا كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون منارا للسائرين ، إلّا أنّ وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة ، من آيات الخالق.

فليس مهمّا حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح ، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح ، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.

فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها وعمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الإنسان أن يصل من نقطة إلى اخرى بالاستفادة من هذه الرياح؟

نعم ، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البحارة بخصوص حركة الرياح ، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين ، وأيضا هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس ، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله

٥٤٣

نظام.

في زماننا ، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام ، إلّا أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضا في حركة هذه السفن.

وللتأكيد أكثر تقول الآية :( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ) .

وكاستنتاج تضيف الآية في نهايتها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .

نعم ، فهبوب الرياح ، وحركة السفن ، وخلق البحار ، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأمور كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية ، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى ، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه ، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا ، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء ، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.

«صبار» و (شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر ، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اخرى(١) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة.

فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان ، لأن المؤمن صبور في المشاكل والابتلاءات وشكور في النعم ، وقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر»(٢) .

إضافة إلى ذلك ، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والاستمرار وتخصيص الوقت الكافي ، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.

__________________

(١) إبراهيم ـ ٥ ، لقمان ـ ٣١ ، سبأ ـ ١٩ ، والآية التي نبحثها.

(٢) تفسير الصافي ، مجمع البيان ، الفخر الرازي ، والقرطبي نهاية الآية (٣١) من سورة لقمان.

٥٤٤

فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات ، وعادة فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعا من الشكر.

ومن جانب ثالث ، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة ، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار ، والشكر عند الوصول إلى الساحل.

مرّة اخرى ، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية ، تقول الآية الأخرى :( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.

وكما قرأنا في الآيات الماضية ، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالبا ما ما تكون بسبب أعماله.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان :( وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) .

فلو لا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين ، كما نقرأ ذلك في الآية (٤٥) من سورة فاطر :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

نعم ، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات ، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هو جاء تدمر هذه السفن والبواخر ، إلّا أن لطفه العام يمنع هذا العمل.

( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) (١) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.

فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي ، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي ، واستمروا

__________________

(١) جملة( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ) كما يقول الزمخشري في كشافه : وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة ، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.

٥٤٥

في محاربته عن عداوة وعناد ، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته ، ولا خلاص لهم من عذابه.

«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما ، وبما أن (محيص) اسم مكان ، لذا وردت هذه الكلمة ، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول :( فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم ، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو ، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء ، ولكن( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد ، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل ، حيث توجد الأشواك دائما إلى جانب الورود ، والمحبطات إلى جانب الآمال ، في حين أن الأجر الإلهي لا يحتوي على أي إزعاجات ، بل هو خير خالص ومتكامل.

ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتما ، إلّا أن الجزاء الأخروي أبدي خالد ، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة ، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟

لذا فإننا نقرأ في الآية ٣٨ من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

وأساسا ، فإنّ «الحياة الدنيا» (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة ، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للاستفادة من مثل هذه الحياة ستكون ـ أيضا ـ مثلها في القيمة.

٥٤٦

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع؟!»(١) .

والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل ، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان ، لأن التوكل يعني تفويض الأمور.

وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والارتباط بالمتاع الزائل ، ويقلبون الحقائق ، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها ، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد الثّالث ، ص ٤٢٩ (نهاية الآية ٣٨ من سورة التوبة)

٥٤٧

الآيات

( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) )

التّفسير

المؤمنون لا يستسلمون للظلم :

هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية ، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية ، فردية أو اجتماعية ، مادية أو معنوية ، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة ـ كما يظهر ـ وفي ذلك اليوم لم

٥٤٨

يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد ، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية ، إلّا أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم ، حيث كان الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم ويربّيهم لغرض الاستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين :( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (١) .

«كبائر» جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة ، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟

البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها ، وأحيانا الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.

وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الاعتقادية في أذهان الناس.

ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة «كبيرة» فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيرا ومهما من وجهة نظر الإسلام ، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه ، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بأنّها : «التي أوجب اللهعزوجل عليها النّار»(٢) .

وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اخرى ، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).

«فواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة ، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، وفي الحقيقة فإنّ

__________________

(١) يعتقد غالب المفسّرين أن( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ) عطف لـ( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) في الآية السابقة ، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون لهم مثل ذلك من الثواب) إلّا أن المعنى الأوّل أفضل ظاهرا.

(٢) نور الثقلين ، المجلد الأوّل ، ص ٤٧٣.

٥٤٩

التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر ، للتأكيد على أهمية ذلك.

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الاجتناب عن (الكبائر) ، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق ، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!

أمّا ثاني صفة ، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضا ، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية :( وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) .

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده ، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّا في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.

والطريف في الأمر أن الآية لا تقول : إنّهم لا يغضبون ، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان ، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصة عند ما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق ، بل تقول : إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب ، وبكل بساطة يعفون ويغفرون ، ويحب أن يكونوا هكذا ، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحق وحب الانتقام ، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا ، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان ، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة ، إلّا أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبدا للغضب.

وورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب ،

٥٥٠

وإذا غضب ، حرم الله جسده على النّار»(١) .

الآية الأخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة ، حيث تقول :( وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ) .

( وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) .

( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) (٢) .

( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب ، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة ، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق ، والتسليم حيال أوامره ، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره ، وليست لهم إرادة إزاء إرادته ، ويجب أن يكونوا هكذا ، لأنّ الاستسلام والاستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.

ونظرا لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص ، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس ، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي «الشورى» فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة ، فالإنسان الواحد مهما كان قويا في فكره وبعيدا في نظره ، إلّا أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا ، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأخرى ، إلّا أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم العقول

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٣.

(٢) يقول بعض المفسّرين أنّه متى ما كانت (شورى) مصدرا وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) أو للمبالغة والتأكيد ، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة ، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).

٥٥١

العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض ، عند ذلك ستتوضح الأمور وتقل العيوب النواقص ويقل الانحراف.

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد».

والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين ، ليس في عمل واحد ومؤقت ، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال.

والطريف في الأمر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضا يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الاجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي ، وكان يشاور أصحابه أحيانا بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك ، لكي يكون أسوة وقدوة للناس ، لأن بركات الاستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.

وهناك تفصيلات في نهاية الآية (١٥٩) من سورة آل عمران بخصوص (الاستشارة) و (شروط الشورى) و (أوصاف الذين يجب استشارتهم) و (مسئولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك ، إلّا أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأخرى :

أ ـ الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام ، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة ، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأن الأحكام ليست من شأن الناس ، بل هي من أمر الخالق.

ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضا ، حيث لا يوجد نص خاص بذلك ، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه ، وإلّا فما فائدة( الْيَوْمَ

٥٥٢

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) [يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الاجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].

ب ـ قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة :( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) خاص بالأنصار بخصوص الأنصار ، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقا للشورى ، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعوه في (العقبة) ، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية ، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضا).

وعلى أية حال ، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها ، بل توضح برنامجا عاما وجماعيا.

وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام حيث يقول : «لا ظهير كالمشاورة ، والاستشارة عين الهداية»(٢) .

ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب ، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة ، والتأثير الاجتماعي ، والخلاصة : الإنفاق من كلّ شيء.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين :( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له ، بل يطلبون النصر من الآخرين.

وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالانتصار ضد الظلم ، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه ، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة ، وأيضا فإن المؤمنين مكلفون بإجابته ، كما ورد في الآية (٧٢) من سورة الأنفال حيث نقرأ :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) .

__________________

(١) المائدة ، الآية ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن ، ص ٤٢٥ (باب ٢١ من أبواب الأحكام العشرة).

٥٥٣

هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين ، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضا يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

«ينتصرون» من كلمة «انتصار» وتعني طلب النصر ، إلّا أن البعض فسرها بمعنى «التناصر» والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.

على أية حال ، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده ، فعليه ألا يسكت ، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم ، ومسئولية جميع المسلمين الاستجابة لاستغاثته وندائه.

ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الانتقام والحقد والتجاوز عن الحد ، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول :( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) .

يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين ، وخاصة الإفراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام ، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والانتقام.

وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلّا أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن ، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب ، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسنا بحد ذاته.

وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (١٩٤) من سورة البقرة :( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ ) .

على أية حاله ، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها ، وكأنّما تريد الآية القول : إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى ، وإذا

٥٥٤

ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو ، لأن( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .

صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر ، إلّا أنّه بسبب عفوه ، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الانتقام والاستقرار الاجتماعي ، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع ، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مدينا لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم عليّ.

وتقول الآية في نهايتها :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات :

فأوّلا : قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحيانا السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص ، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.

وثانيا : إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين ، لأن الله لا يحب الظالمين أبدا ، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الاجتماعية.

وثالثا : إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي ، ويقومون بإصلاح أنفسهم ، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.

وبعبارة أوضح ، فإنّ كلّا من العفو والعقاب له موقعه الخاص ، فالعفو يكون عند ما يستطيع الإنسان الانتقام ، وهذا يسمى العفو البناء ، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح ، وأيضا يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.

والعقاب والانتقام والردّ بالمثل يكون عند ما يبقى الظالم مستمرا في غيه وضلاله ، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد ، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف

٥٥٥

فيجب الردّ بالمثل.

وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان أجره على الله فليدخل الجنّة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله؟

فيقال : العافون عن الناس ، فيدخلون الجنّة بغير حساب»(١) .

وهذا الحديث ـ في الحقيقة ـ هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث ، والإسلام الأصيل هو هذا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.

٥٥٦

الآيات

( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) )

التّفسير

الظلم والإنتصار :

تعتبر هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تأكيدا وتوضيحا وتكميلا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب ، والهدف من ذلك أن معاقبة الظالم والانتقام منه من حق المظلوم ، ولا يحق لأحد منعه عن حقه ، وفي نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه ، وعند ذلك صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.

فأوّلا تقول الآية :( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل ، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه ،

__________________

(١) عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

٥٥٧

ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم ، لأن الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم ، ونصر المظلومين مسئولية كلّ إنسان حر ومتيقظ الضمير.

( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

وإضافة إلى عقابهم الدنيوي( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ينتظرهم في الآخرة.

يقول بعض المفسّرين حول الاختلاف بين جملة( يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) وجملة( يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبر)(١) .

البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية).

«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما ، ولكن كثيرا ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين ، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق ، لذا فإن للظلم مفهوما خاصا وللبغي مفهوما عاما يشمل أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.

عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو ، لكي تؤكّد أن الانتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو ، حيث تقول :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (٢) .

«العزم» في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين) ، ويطلق على الإرادة القوية ، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان

__________________

(١) تفسير (الكشاف) ، (روح المعاني) و (روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.

(٢) اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد ، والاثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).

٥٥٨

العزم لها ، وأيا كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.

والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران) ، لأنّه مع عدم وجود الصبر لا يمكن أن يحصل العفو والغفران ، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول الانتقام مهما كان.

ومرة اخرى نذكّر بهذه الحقيقة ، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال القوة والاقتدار ، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضا ، وقد تكون عبارة «من عزم الأمور» لتأكيد هذا المعنى أيضا ، لأنّ التصميم بخصوص شيء معين يحدث عند ما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشيء ، على أية حال فإن العفو الذي يكون مفروضا من قبل الظالم ، أو يشجعه في عمله ويجرئه على ذلك ، غير مطلوب.

بعض الرّوايات فسّرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي (عج) وانتقامه وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الأرض. وكما قلنا عدّة مرات سابقا فإن مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم الآية وشموليته(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٥.

٥٥٩

الآيات

( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) )

التّفسير

هل من سبيل للرجعة؟

الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين ، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي ، فتقول :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) .

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621