بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٧

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 621

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 621 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104483 / تحميل: 9048
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقال الإمام الصادق ـ في جواب السائل عن الكيفية له ـ: لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه(١) .

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

١ ـ الأقيسة العقليّة.

٢ ـ التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً، نأتي بالبيان التالي :

١ ـ الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية. ».

__________________

(١) الكافي: ج ١ باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث ٢، ٥.

٢١

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة »(١) .

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه: « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلّا لكان عرضاً »(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال، وفوق ما يتصوّر من الكمال، وليس للنقص إليه سبيل، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا: إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة، فالمالك الحقيقيّ لها هو الله سبحانه، والمعطي لها هو الله سبحانه. قال تعالى:( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٨ ـ ١٨٥ ( ط صيدا ).

(٢) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: ص ٧٦ ـ ٨٠ ـ ٨١ ـ ٩٢.

٢٢

يقول العلّامة الطباطبائي: نحن أوّل ما نفتح أعيننا، يقع ادراكنا على أنفسنا، وعلى أقرب الاُمور منا، وهي صلتنا بالكون الخارج، لكنّا لا نرى أنفسنا إلّا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلّا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو الله سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / ١٥ ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه، وكينونته ووجوده منه، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلّا مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ، قادر، بصير، حليم، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح، القدّوس، العلي، الكبير، المتعال، إلى غير ذلك، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي، ونفي كلّ صفة نقص عنه(١) .

ترى أنّه ـ قدس الله سره ـ استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

__________________

(١) الميزان: ج ٨ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٣

الملك له لا لغيره، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

٢ ـ مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / ٥٣ )(١) .

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال: « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه »(٢) .

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلّا من هو عالم بما يريد فعله ،

__________________

(١) والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى الله سبحانه.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٤ ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه، استدلال بآيات وجوده على كماله.

٢٤

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام، والاختلاف في بعض الأحوال ولـمـّا كان ذلك واقعاً على حد واحد، ونظام واحد، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم »(١) .

وهناك ـ وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب ـ طريقان آخران نشير إليهما.

٣ ـ المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين: فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن الله سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلّا بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

٤ ـ المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

__________________

(١) الاقتصاد، الهادي الى سبيل الرشاد: ص ٢٨، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد: ص ١٩٤.

٢٥

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك، ولا يمازجه الريب، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلّا لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله:( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / ١٧ ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ).

وقوله:( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / ١٣ ).

وقوله:( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / ٢٨ ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

٢٦

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / ٧٢ ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته، - علّل - باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / ٤٥ ).

وقوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / ١٨٣ ).

وقوله ( في آية الوضوء ):( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / ٦ ).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي(١) .

ونذكر من باب المثال قولهم: « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب: فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٧

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

١ ـ صحّة المادّة.

٢ ـ صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلّامة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلّا عن استعمال صحيح »(١) .

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة، قال تعالى:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / ١٢٥ ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه: إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٨٨.

٢٨

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول ـ من أيّ ابن اُنثى صدر ـ ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لـمّا تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، رفضته الحنابلة قائلة: بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال: قرأت على عليّ القومسي، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول :

لـمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري: وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه(١) .

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

__________________

(١) تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص ٣٩١.

٢٩

الفطرة التي دعا إليها القرآن، ولا يشذ عنها إلّا من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات الله عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

٣٠

أسماؤه وصفاته

في القرآن الكريم

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

١ ـ مغايرة الاسم للمسمّى.

٢ ـ كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

١ ـ الفرق بين الاسم والصفة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

وقال:( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الاسراء / ١١٠ ).

وقال:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( طه / ٨ ).

٣١

وقال:( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال:( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى، وتقدمه عليه أو كونه علامة له، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها(١) .

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال: هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين(٢) .

يلاحظ عليه: إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

__________________

(١) اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٢٧ ( طبع القاهره ).

٣٢

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره، والثاني كالعالم والقادر، والثالث كالرازق والخالق، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال الله عالم وخالق ورحمان ورحيم، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلّامة الطباطبائى: لا فرق بين الصفة والاسم، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف، فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان(١) .

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من أنّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم، والعالم والقادر أسماء الله الحسنى الحقيقية، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

__________________

(١) الميزان: ٨ / ٣٦٩.

٣٣

والتحقّق والتعيّن، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم، والتعيّن بما هو هو، هو الوصف، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه: إنّ الذات الأحدية، بما أنّه وجود غير متناه، عار عن المجالي والمظاهر، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة، فهو مع هذا التعيّن اسم، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات، وصف.

يقول الحكيم السبزواري: « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم »(١) . ويقول في موضع آخر: « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم، ونفس التعيّن هو الصفة »(٢) .

ويقول أيضاً: « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا »(٣) .

__________________

(١) شرح الاسماء الحسنى: ١٩.

(٢) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٥.

(٣) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٤.

٣٤

٢ ـ هل الاسم نفس المسمّىٰ أو غيره

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل، يقول الرازي: إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية(١) .

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول: إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو الله فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته(٢) .

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلّا منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ١٨.

(٢) شرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧.

٣٥

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني، ولـمـّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلّا أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه(١) .

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك‍ « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثمّ إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :

١ ـ قالوا: إنّ الله تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو الله تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

٢ ـ وقالو: إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / ٤٠ ).

والقوم ما عبدوا إلّا تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

__________________

(١) وراجع مقالات الاسلاميين: ص ٢٩٠ ـ الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

٣٦

٣ ـ قالوا: اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

٤ ـ قالوا: إذا قال القائل: محمد رسول الله فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

٥ ـ قالوا: إنّ لبيد يقول: « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر »(١) .

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال، وذلك بأن لا يسمّى به غيره، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير الله تعالى باسم من أسماء الله فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء الله عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢.

٣٧

أمّا الدليل الثاني: فلأنّ المراد من قوله سبحانه:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلّا التسمية وهي أسماء بلامسميات، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلّا الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلّا أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث: فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات، فالله سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع: فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا: محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس: فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدّا أنّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلّا فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما »(١) .

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية، فقال: الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها: إنّ أسماء الله كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو الله تعالى بأسمائه، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

__________________

(١) لاحظ لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢، وشرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨، وشرح المقاصد للتفتازاني: ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠.

٣٨

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من أنّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك: إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي، والقادر، والعالم أسماء للاسم، كما يكون الحياة، والقدرة، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلّا من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه، وإليك ما روي عنهم: في

٣٩

ذلك الباب :

١ ـ روى الكليني عن عبد الاعلى، عن أبي عبد الله7 قال: « اسم الله غيره، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء »(١) فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق ـ إلى أن قال ـ: والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره(٢) .

٢ ـ روي الكليني عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله7 قال :

« من عبد الله بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً »(٣) .

ترى أنّه7 يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف ـ فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر بالله لأنّ الشك كفرٌ به.

ب ـ ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

__________________

(١) أي لفظ « الشيء ».

(٢) الكافي: ج ١ باب حدوث الأسماء ص ١١٢ الحديث ٤، وتوحيد الصدوق باب أسماء الله: ص ١٩٢ الحديث ٥.

(٣) الكافي: ج ١ باب المعبود ص ٨٧ الحديث ١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

استنطق الخوارج لقتل عبد اللَّه بن خباب، فأقروا به، فقال: انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة، فتكتبوا كتائب، و أقرت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الاخرى من قتل ابن خباب، و قالوا: و لنقتلنّك كما قتلناه. فقالعليه‌السلام و اللَّه لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا، و أنا اقدر على قتلهم به لقتلتهم. ثم التفت إلى أصحابه و قال: شدوا عليهم، فأنا أول من يشد عليهم، و حمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات، كل حملة يضرب به حتى يعرج متنه، ثم يخرج فيسويه بركبتيه، ثم يحمل به حتى أفناهم( ١) .

و روى (أمالي الشيخ) مسندا عن المغيرة بن الحارث: ان الناس فروا جميعا يوم حنين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الا سبعة من بني عبد المطلب أبو سفيان و ربيعة و نوفل بنو الحرث بن عبد المطلب و العباس و ابنه الفضل و أمير المؤمنينعليه‌السلام و اخوه عقيل، و النبيّ على بغلته الدلدل و هو يقول:

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

إلى أن قال: قال العباس لابنه: ما تلك البرقة. قال: سيف عليّ يزيل به بين الاقران. فقال: بر ابن برّ فداه عم و خال. قال: فضرب عليّعليه‌السلام يومئذ أربعين مبارزا كلهم يقدّه حتى أنفه و ذكره. قال: و كانت ضرباته مبتكرة( ٢) .

و روى (صفين نصر بن مزاحم) عن ابن نمير الأنصاري أو أبيه قال:

و اللَّه لكأني اسمع عليّاعليه‌السلام حين سار أهل الشام ذلك بعد ما طحنت رحا مذحج فيما بيننا و بين عك و لخم و جذام و الاشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي من حين استقبلت الشمس ثم ان عليّا قال: حتى متى نخلي بين هذين الحيين قد فنيا، و أنتم وقوف تنظرون إليهم، أما تخافون مقت اللَّه. ثم

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢: ٢٨٢.

(٢) أمالي أبي جعفر الطوسي ٢: ١٨٧، المجلس ٥.

٤٨١

توجّه إلى القبلة و رفع يديه ثم نادى: «يا اللَّه يا رحمن يا واحد يا صمد يا إله محمّد، اللهم اليك نقلت الاقدام، و أفضت القلوب، و رفعت الأيدي، و امتدت الأعناق، و شخصت الأبصار، و طلبت الحوائج. إنّا نشكو إليك غيبة نبينا،

و كثرة عدونا، و تشتت أهوائنا، ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و انت خير الفاتحين» سيروا على بركة اللَّه. ثم نادى لا إله إلاّ اللَّه و اللَّه أكبر.

قال الأنصاري: لا و اللَّه الّذي بعث محمّدا بالحق نبيا ما سمعنا برئيس منذ خلق اللَّه السماوات و الأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، انه قتل في ما ذكر العادّون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا، فيقول: معذرة إلى اللَّه تعالى و إليكم من هذا، لقد هممت أن أفلقه و لكن حجزني أني سمعت النبيّ يقول كثيرا: «لا سيف الا ذو الفقار، و لا فتى الا عليّ» و انا أقاتل به دونه.

قال: فكنا نأخذ السيف من يده فنقّومه، ثم يتناوله من أيدينا فيتقحم به في عرض الصف، فلا و اللَّه ما ليث بأشد نكاية في عدوه منه رحمة اللَّه عليه رحمة واسعة( ١) .

و عن زيد بن وهب قال: مر عليعليه‌السلام يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة،

و اني لأرى النبل يمر بين عاتقه و منكبيه، و ما من بنيه أحد إلاّ يقيه بنفسه،

فيكره عليّعليه‌السلام ذلك و يأخذ بيده فيلقيه بين يديه أو من ورائه، فبصر به أحمر مولى بني امية، فقال: عليّ و رب الكعبة قتلني اللَّه ان لم أقتلك أو تقتلني. و أقبل نحوهعليه‌السلام ، فخرج إليه كيسان مولى عليّ فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بني امية و خالط عليّا ليضربه بالسيف، فانتهزه عليّعليه‌السلام ، فوضع يده في جيب درعه، فجذبه، ثم حمله على عاتقه، و كأني انظر إلى رجليه يختلفان على عنق

____________________

(١) وقعة صفين: ٤٧٧.

٤٨٢

عليّعليه‌السلام ، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه و عضده، فكأني أنظر إلى عليّعليه‌السلام قائما و شبلاه يضربان الرجل حتى اذا قتلاه( ١) .

و فيه بعد ذكر طلبهعليه‌السلام لمعاوية إلى المبارزة و اباء معاوية فبرز عروة بن داود الدمشقي و قال: ان كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إليّ، فتقدمعليه‌السلام إليه، فقال له أصحابه: ذر هذا الكلب، فإنّه ليس لك بخطر.

فقال: و اللَّه ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه دعوني و إيّاه، ثم حمل عليه، فضربه،

فقطعه قطعتين سقطت إحدهما يمنة و الاخرى يسرة، فارتج العسكران لهول الضربة. ثم قالعليه‌السلام : يا عروة، اذهب فأخبر قومك، أما و الّذي بعث محمّدا بالحق لقد عاينت النار و أصبحت من النادمين( ٢) .

و فيه: قال الشعبي: ذكر معاوية بعد عام الجماعة يوم صفين، فقال عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد: أما و اللَّه لقد رأيت يوما من الايام و قد غشينا ثعبان مثل الطود الأرعن قد أثار قسطلا حال بيننا و بين الافق، و هو على أدهم سائل يضربهم بسيفه ضرب غرائب الابل كاشرا عن أنيابه كشر المخدر الحرب. فقال معاوية: و اللَّه انه يجالد و يقاتل عن ترة له( ٣) .

و في (بلدان الحموي): قال الدار قطني: كان الجوزجاني من الحفاظ المصنفين، لكن كان فيه انحراف عن عليّعليه‌السلام . قال ابن عديس: كنا عنده،

فالتمس من يذبح له دجاجة، فتعذر عليه، فقال: يتعذر عليّ ذبح دجاجة و عليّ قتل سبعين ألفا في وقت واحد( ٤) .

و في (تاريخ الطبري): قال الزبير بن الحرث، قلت لأبي لبيد لم تسب عليّا،

____________________

(١) وقعة صفين: ٢٤٩.

(٢) وقعة صفين: ٤٥٨.

(٣) وقعة صفين: ٣٨٧.

(٤) معجم البلدان ٣: ١٨٣.

٤٨٣

قال: لأنه قتل منا يوم الجمل ألفين و خمسمائة و الشمس هاهنا.

و قال ابن أبي يعقوب: قتل عليّعليه‌السلام يوم الجمل ألفين و خمسمائة ألف،

ثلاثمائة و خمسون من الازد، و ثمانمائة من بني ضبة، و ثلاثمائة و خمسون من سائر الناس( ١) .

«و سأجهد» أي: سأسعى «في أن اطهر الأرض» فالأرض تنجس بالأشخاص الرجسة كما بالأعمال الرجسة، و في (الكافي) عن أبي الحسنعليه‌السلام : حق على اللَّه ألا يعصى في دار الا أضحاها للشمس حتى تطهرها( ٢) .

و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ساعة من امام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة،

و حدّ يقام للَّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.

و عن أبي جعفرعليه‌السلام : حد يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة و أيامها( ٣) .

«من هذا الشخص المعكوس» قال ابن دريد في (جمهرته): عكست البعير عكسا اذا عقلت يديه بحبل، ثم رددت الحبل من تحت بطنه فشددته بحقوه،

و البعير معكوس.

و قال الجوهري: العكس أن تشد حبلا في خطم البعير إلى رسغ يديه ليذل و اسم ذاك الحبل العكاس، و العكس درك آخر الشي‏ء إلى أوله،

و منه عكس البلية عند القبر، لانها كانوا يربطونها معكوسة الرأس إلى ما يلي كلكلها و بطنها، و يقال إلى مؤخرها مما يلي ظهرها، و يتركونها

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٥٤٧، سنة ٣٦.

(٢) الكافي ٢: ٢٧٢ ح ١٨.

(٣) الكافي ٧: ١٧٤ و ١٧٤ ح ١ و ٨.

٤٨٤

على تلك الحال حتى تموت.

«و الجسم المركوس» في (الأساس): أركسه و ركسه: قلبه على رأسه.

و هو منكوس مركوس، و هذا ركس رجس، و أركسه في الشّر ردّه فيه كلّما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها( ١) .

في (صفين نصر) عن صعصعة: برز من أهل الشام رجل من ذي يزن اسمه كريب بن الصباح، ليس في أهل الشام يومئذ اشهر شدة بالبأس منه،

فنادى: من يبارز، فبرز إليه المرتفع بن وضاح الزبيدي فقتله كريب، ثم نادى من يبارز فبرز إليه الحارث بن حلاج فقتله كريب، ثم نادى من يبارز، فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتله كريب، ثم رمى بأجسادهم بعضهم فوق بعض، ثم قام عليها بغيا و اعتداء، ثم نادى هل بقي مبارز، فبدر إليه عليّعليه‌السلام و قال له: ويحك لا يدخلنك ابن آكلة الاكباد النار و اني أدعوك إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيه. فقال كريب: ما أكثر ما سمعنا هذه المقالة منك، لا حاجة لنا فيها،

أقدم إذا شئت. فقالعليه‌السلام : لا حول و لا قوة الا باللَّه، ثم مشي إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها يتشحط في دمه، ثم نادىعليه‌السلام من يبارز، فبرز إليه الحارث ابن وداعة الحميري فقتله، ثم نادى من يبارز، فبرز إليه المطاع بن المطلب فقتله، ثم نادى من يبارز، فلم يبرز إليه أحد، ثم نادىعليه‌السلام : يا معشر المسلمين الشهر الحرام بالشّهر الحرام و الحُرُمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا اللَّه و اعلموا انّ اللَّه مع المتقين( ٢ ) ، ثم قال: ويحك يا معاوية هلم إليّ فبارزني و لا تقتلن الناس بيننا.

فقال عمرو: اغتنمه منتهزا، قد قتل عليّ ثلاثة من أبطال العرب و اني أطمع أن

____________________

(١) أساس البلاغة: ١٧٦، مادة (ركس)، و الآية ٩١ من سورة النساء.

(٢) البقرة: ١٩٤.

٤٨٥

تظفر به. فقال له معاوية: ان تريد إلاّ أن اقتل فتصيب الخلافة، اذهب إليك فليس يخدع مثلي( ١) .

و روى أيضا: أن عليّاعليه‌السلام ركب فرسه الّذي كان للنبيّ و كان يقال له المرتجز، ثم تعصب بعمامة النبيّ السوداء، ثم نادى «أيها الناس من يشري نفسه للَّه يربح، هذا يوم له ما بعده، ان عدوكم قد قرح كما قرحتم» فانتدب له من بين العشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا وضعوا سيوفهم على عواتقهم،

و تقدمهم عليّ و هو يقول:

دبّوا دبيب النمل لا تفوتوا

و أصبحوا بحربكم و بيتوا

حتى تنالوا الثار أو تموتوا

أو لا فاني طالما عصيت

قد قلتم لو جئتنا فجئت

ليس لكم ما شئتم و شئت

و حمل الناس حملة واحدة، فلم يبق لاهل الشام صف الا انتقض،

و اهمدوا ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية و عليّعليه‌السلام يضربهم بسيفه و هو يقول:

اضربهم و لا أرى معاوية

الأخرز العين العظيم الحاويه

هوت به في النار ام هاويه

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب تمثل بأبيات عمرو بن الاطنابة:

أبت لي عفتي و أبى بلائي

و أخذي الحمد بالثمن الربيح

فثنى رجله عن الركاب الخ. و ذكر فزعه إلى عمرو في تدبير و تدبيره له رفع المصاحف( ٢) .

____________________

(١) وقعة صفين: ٣١٥.

(٢) وقعة صفين: ٤٠٣.

٤٨٦

«حتى تخرج المدرة» الحجر الصغير «من بين حبّ الحصيد» شبهعليه‌السلام معاوية بحجر و مدر يكون في الحنطة و الشعير فينقيان من المدره إذا أريد طحنهما للطعام.

هذا، و جهدعليه‌السلام أن يطهر الأرض من ذاك الرجس النجس القذر الكدر،

لكن تخلية الناس لهعليه‌السلام يوم السقيفة و يوم الشورى و تقديمهم للاول المستلزم لحكومة الثاني و للثالث عليه، ثم عدم جدهم معهعليه‌السلام في مجاهداته مع معاوية، و قيام الناكثين و القاسطين و المارقين في قباله، و ترك كثير من الناس له، و لحوقهم لمعاوية أوجبت في حكمة اللَّه تعالى تسليط معاوية عليهم، ثم باقي بني امية و كذلك نولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون( ١) .

و روى محمّد بن يعقوب في (نوادر نذر كافيه) عن عدي بن حاتم ان أمير المؤمنينعليه‌السلام قال في يوم التقى هو و معاوية بصفين، و رفع صوته ليسمع أصحابه: و اللَّه لأقتلن معاوية و أصحابه، ثم يقول في آخر قوله «ان شاء اللَّه» يخفض بها صوته قال عدي: و كنت قريبا منهعليه‌السلام فقلت: يا أمير المؤمنين انك حلفت على ما فعلت ثم استثنيت، فما أردت بذلك. فقال لي: ان الحرب خدعة، و أنا عند المؤمنين غير كذوب، فأردت ان أحرض أصحابي عليهم كيلا يفشلوا و كي يطمعوا فيهم، فأفقههم ينتفع بها بعد اليوم إن شاء اللَّه،

و اعلم ان اللَّه جلّ ثناؤه قال لموسىعليه‌السلام حيث أرسله إلى فرعون فقولا له قولا لينا لعلّه يتذكّر أو يخشى( ٢ ) و قد علم اللَّه انه لا يتذكر و لا يخشى،

____________________

(١) الانعام: ١٢٩.

(٢) طه: ٤٤.

٤٨٧

و ليكون ذلك أحرص لموسىعليه‌السلام على الذهاب( ١) .

٢ - الحكمة (٣١٨) وَ قِيلَ لَهُعليه‌السلام بِأَيِّ شَيْ‏ءٍ غَلَبْتَ اَلْأَقْرَانَ فَقَالَ:

مَا لَقِيتُ رَجُلاً إِلاَّ أَعَانَنِي عَلَى نَفْسِهِ قال؟ الرضي؟: يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب أقول: هكذا في (المصرية) و «رجلا» محرف «أحدا» بشهادة (ابن أبي الحديد و الخطية)، و ليس في الثاني «قال الرضي» و لا «بذلك»، و في نسختي من ابن ميثم هنا سقط( ٢) .

و كيف كان ففي (إرشاد المفيد): لما انهزم الأحزاب و ولوا عن المسلمين الدبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على قصد بني قريظة، و انفذ إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام في ثلاثين من الخزرج و قال له: انظر بني قريظه هل نزلوا حصونهم، فلما شارف سورهم سمع منهم الهجر، فرجع إلى النبيّ فأخبره، فقال: دعهم فان اللَّه سيمكّن منهم، ان الّذي أمكنك من عمرو بن عبدود لا يخذلك، فقف حتى يجتمع الناس إليك، و بشر بنصر من عند اللَّه، فإن اللَّه تعالى قد نصرني بالرعب من بين يدي مسيرة شهر. قالعليه‌السلام : فاجتمع الناس إليّ و سرت حتى دنوت من سورهم، فأشرفوا عليّ، فلما رأوني صاح صائح منهم قد جاءكم قاتل عمرو،

و قال آخر اقبل إليكم قاتل عمرو، و جعل بعضهم يصيح ببعض و يقولون ذلك،

و ألقى اللَّه في قلوبهم الرعب و سمعت راجزا يرتجز:

قتل عليّ عمرا

صاد عليّ صقرا

____________________

(١) الكافي ٧: ٤٦٠ ح ١.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٢٢٦، و يوجد في شرح ابن ميثم ٥: ٤٠١، جميع ذلك.

٤٨٨

قصم عليّ ظهرا

أبرم عليّ أمرا

هتك على سترا

فقلت: الحمد للَّه الّذي أظهر الاسلام و قمع الشرك( ١) .

و فيه بعد ذكر فتح مكة بلغ أمير المؤمنينعليه‌السلام ان اخته امّ هاني آوت أناسا من بني مخزوم منهم الحرث بن هشام و قيس بن السائب، فقصدعليه‌السلام نحو دارها مقنّعا بالحديد، فنادى: اخرجوا من آويتم، فجعلوا يذرقون كما يذرق الحباري خوفا منه، فخرجت إليه أم هاني و هي لا تعرفه فقالت: يا عبد اللَّه، أنا ام هاني ابنة عم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و اخت عليّ بن أبي طالب، انصرف عن داري. فقالعليه‌السلام لها: أخرجوهم. فقالت: و اللَّه لأشكونّك إلى النبيّ، فنزع المغفر عن رأسه، فعرفته، فجاءت تشتد حتى التزمته و قالت: فديتك حلفت لأشكونك إلى النبيّ. فقال لها: اذهبي فأبري قسمك( ٢) .

و قال الوليد بن عقبة ردا على معاوية لما قال له و لمروان و عتبة: لا تستطيعون ان تشجروا عليّا بالرماح لأنه ما قابله أحد الا هلك الا عمرو بن العاص لخصيتيه فقال:

دعا للقاه في الهيجاء لاق

فاخطأ نفسه الاجل القريب

سوى عمرو وقته خصيتاه

نجا و لقلبه منها و جيب

كأن القوم لما عاينوه

خلال النقع ليس لهم قلوب

فلما سمع ذلك عمرو بن العاص غضب و قال كما في (صفين نصر) ان كان الوليد صادقا فليقف حيث يسمع صوت عليّ، و قال:

يذكّرني الوليد دعا عليّ

و بطن المرء يملؤه الوعيد

____________________

(١) الارشاد: ٥٧.

(٢) الارشاد: ٧٢.

٤٨٩

متى يذكر مشاهدة قريش

يطر من خوفه القلب الشديد

كما أن عمرا قال في رد معاوية لما شمت بكشفه و كانعليه‌السلام دعا معاوية إلى البراز فأبى:

معاوى ان ابصرت في الخيل ابا

حسن يهوى دهتك الوساوس

و ايقنت ان الموت حق و انه

لنفسك ان لم تمض في الركض حابس

فانك لو لاقيته كنت بومة

اتيح لها صقر من الجور آنس

دعاك فصمت دونه الاذن هاربا

فنفسك قد ضاقت عليها الا مالس

و ايقنت ان الموت أقرب موعد

و ان الّتي ناداك فيا الدهارس

أبى اللَّه إلاّ انه ليث غابة

أبو اشبل تهدي إليه الفرائس(١)

و في (إرشاد المفيد): و من آيات اللَّه تعالى فيهعليه‌السلام : انه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران، و منازلة الأبطال ما عرف لهعليه‌السلام من كثرة ذلك على مر الزمان، ثم انه لم يوجد في ممارسي الحروب الا من عرته بشر و نيل منه بجراح أو شين الا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فانه لم ينله مع طول زمان حربه جراح من عدو و لا شين، و لا وصل إليه أحد منهم بسوء حتى كان من امره مع ابن ملجم على اغتياله اياه ما كان، و هذه اعجوبة افرده اللَّه بالآية فيها.

____________________

(١) وقعة صفين: ٤١٨.

٤٩٠

و من آيات اللَّه تعالى فيهعليه‌السلام انه لا يذكر ممارس للحروب لقي فيها عدوا الا و هو ظافر به حينا و غير ظافر به حينا، و لا نال أحد منهم خصمه بجراح الا و قضى منها وقتا و عوفي منها زمانا، و لم يعهد من لم يفلت منه قرن في حرب و لا نجا من ضربته أحد فصلح منها سواه، فانه لا مرية في ظفره بكل قرن بارزه، و اهلاكه كل بطل نازله الخ( ١) .

قلت: و أما نجاة عمرو بن العاص و بسر بن ارطأة منهعليه‌السلام فانما لكشفهما عورتهما، فتركهما تكرما.

و في (أدب كتاب الصولي): القط أكثر ما يستعمل فيما وقع السيف في عرضه، و القد لما وقع في طوله، و منه قولهم كان عليّ بن أبي طالب إذا علا بسيفه شيئا قدّه، و إذا اعترضه قطّه.

و في (نهاية ابن الأثير): في الحديث «كانت ضربات عليّ بن أبي طالب مبتكرات لا عونا» أي: ان ضربته كانت بكرا يقتل بواحدة منها، و لا يحتاج أن يعيد الضربة ثانيا( ٢) .

و في (مناقب السروي): كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج من بيته تبعه «أحداث المشركين يرمونه بالحجارة حتى أدموا كعبه و عرقوبه، و كان عليّعليه‌السلام يحمل عليهم فينهزمون، فنزل كأنّهم حُمر مستنفرة. فرّت من قسورة( ٣) .

و قيل لخلف الأحمر: ايما أشجع عنبسة و بسطام أم عليّعليه‌السلام ؟ فقال:

انما يذكر عنبسة و بسطام مع الناس و البشر، لا من يرتفع عن هذه الطبقة.

____________________

(١) الإرشاد: ١٦٢.

(٢) النهاية ١: ١٤٩، مادة (بكر).

(٣) مناقب السروي ٢: ٦٨. و الآيتان ٥٠ و ٥١ من سورة المدثر.

٤٩١

فقيل له: فعلى كل حال. قال: و اللَّه لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما( ١) .

و في (فصول المرتضى): قد جاء الأثر من طرق شتى بأسانيد مختلفة عن زيد بن وهب قال: سمعت عليّاعليه‌السلام يقول و قد ذكر حديث بدر و قتلنا من المشركين سبعين و أسرنا سبعين، و كان الّذي أسر العباس رجل قصير من الأنصار، فأدركته، فالقى العباس عليّ عمامته لئلا يأخذها الأنصاري، و أحب أن أكون أنا الّذي اسرته، و جئت به إلى النبيّ، فقال الأنصاري لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : جئتك بعمّك العباس أسيرا. فقال العباس: كذبت ما أسرني إلا ابن أخي، و لكأني بحلجته و حسن وجهه، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الملائكة الّذين أيدني اللَّه تعالى بهم على صورة عليّ ليكون ذلك أهيب لهم في صدور الأعداء.

و جاء عن أبي جعفر محمّد بن عليّعليه‌السلام في حديث بدر: لقد كان يسأل الجريح من المشركين فيقال له: من جرحك؟ فيقول: عليّ بن أبي طالب فاذا قالها مات( ٢) .

هذا و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ممن نصر بالرعب، فقد عرفت من خبر الارشاد أنه قال: نصرني ربيّ بالرعب من بين يدي مسيرة شهر. و كيف لا و قد قال تعالى: و للَّه العزة و لرسوله و للمؤمنين( ٣) .

و في (تاريخ الطبري): كان أبي بن خلف يلقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة فيقول: يا محمّد ان عندي العود أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها. فيقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل أنا اقتلك ان شاء اللَّه. فلما اسند النبيّ يوم احد في الشعب، أدركه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٤٦.

(٢) الفصول المختارة ٢: ٢٣٨ و ٢٣٩.

(٣) المنافقون: ٨.

٤٩٢

أبي و هو يقول: اين محمّد لا نجوت ان نجوت. فقال القوم للنبيّ: أيعطف عليه رجل منا. قال: دعوه، فلما دنا تناول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الحربة من الحارث ابن الصمة فطعنه في عنقه، فلما رجع ابي إلى قريش، و قد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني و اللَّه محمّد. قالوا: ذهب و اللَّه فؤادك و اللَّه ان بك بأس. قال: إن محمّدا قال لي بمكة أنا اقتلك، فو اللَّه لو بصق عليّ لقتلني، فمات بسرف في قفولهم إلى مكة( ١) .

و مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله القائمعليه‌السلام ، روى النعماني عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه( ٢ ) هو أمرنا امر اللَّه تعالى الا نستعجل به،

يؤيده بثلاثة أجناد بالملائكة و بالمؤمنين و بالرعب، و خروجه كخروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و ذلك قوله تعالى: كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ و إنّ فريقا من المؤمنين لكارهون( ٣) .

بل كانواعليهم‌السلام كلهم كذلك، فمسلم بن عقبة الّذي كان صاحب وقعة الحرة بالمدينة، و بايع الناس على انهم عبيد ليزيد و من أبى امره على السيف،

و عامل مشائخ بني اميّة بما هو مذكور في السير، أرتعب من عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، ففي مروج المسعودي: نظر الناس إلى عليّ بن الحسين و قد لاذ بالقبر و هو يدعو، فأتى به إلى مسرف و هو مغتاظ عليه، فتبرا منه و من آبائه،

فلما رآه و قد أشرف عليه ارتعد و قام له و أقعده إلى جانبه و قال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف الا شفعه فيه، ثم انصرف عنه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٢٠٠، سنة ٣.

(٢) النحل: ١.

(٣) غيبة النعماني: ١٣٢. و الآية ٥ من سورة الأنفال.

٤٩٣

إلى أن قال: و قيل لمسلم: رأيناك تسب هذا الغلام و سلفه، فلما أتى به رفع منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملئ قلبي منه رعبا( ١) .

و لمهابتهعليه‌السلام كان الناس يتنكبون له إذا دخل المطاف، مع ان في ذاك المقام السلطان و السوقة سواء، و يشهد له قصتهعليه‌السلام مع هشام، فقال الفرزدق فيه أبياتا منها:

يغضي حياء و يغضي من مهابته

فلا يكلّم إلاّ حين يبتسم

هذا، و من قصص الرعب ما في (تاريخ الطبري) عن شبيب الخارجي قال لأصحابه: قتلت أمس رجلين أحدهما أشجع الناس و الآخر أجبن الناس،

خرجت عشية أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته ثم خرج قبل أصحابه، و خرجت معه،

فقال: كأنك لم تشتر شيئا. فقلت: ان لي رفقاء قد كفوني ذلك. فقلت له: أين ترى عدونا هذا قد نزل؟ قال: بلغني انه نزل قريبا منا، و ايم اللَّه لوددت اني قد لقيت شبيبهم هذا. قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم. قلت: فخذ حذرك فأنا و اللَّه شبيب،

و انتضيت سيفي فخر و اللَّه. فقلت له: ارتفع ويحك و ذهبت أنظر، فاذا هو قد مات، فانصرفت الخبر( ٢) .

و ما في (عيون القتيبي) عن خلف الأحمر قال: كان أبو عروة السباع يصيح بالسبع و قد احتمل الشاة، فيسقط، فيموت، فيشق بطنه، فيوجد فؤاده قد انخلع.

و ما في (أغاني الاصبهاني): لقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا اهوج و عليه حلة جيدة، فقال لتأبط شرا: بم تغلب

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ١٠١، سنة ٧٧.

٤٩٤

الرجل و انت كما أرى دميم ضئيل. قال: باسمي، انما أقول ساعة ألقى الرجل انا تأبط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت. قال: هل لك أن تبيعني اسمك؟ قال: نعم. قال: فبم تبتاعه. قال: بهذه الحلة و بكنيتي. قال له افعل، ففعل و قال له تأبط شرا لك اسمي و لي كنيتك، و اخذ حلته و أعطاه طمريه و في ذلك يقول:

ألا هل أتى الحسناء أنّ حليلها

تأبط شرا و اكتنيت ابا وهب

فهبه تسمى اسمي و سمّيت باسمه

فأين له صبري على معظم الخطب

و أين له بأس كبأسي و سورتي

و أين له في كل فادحة قلبي

و لبعضهم في أبي الندي:

ينال من الأعداء خوف أبي الندي

و هيبته ما لا تنال العساكر

٣ - من الخطبة (١٩٠) بعد ذكر أمر الله تعالى له بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين و جهاده معهم:

أَنَا وَضَعْتُ فِي اَلصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ اَلْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ؟ رَبِيعَةَ؟

وَ؟ مُضَرَ؟ «أنا وضعت في الصغر» هكذا في (المصرية)، و كلمة «في الصغر» زائدة لعدم وجودها في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ١ ) و عدم صحة معناها «بكلاكل» أي: صدور، و نقله ابن ميثم (بكلكل) و اشار إلى نقل ابن أبي الحديد (بكلاكل)( ٢ ) «العرب» حتى سمّوهعليه‌السلام قتّال العرب، ففي (المناقب): قال عمر بن سعد يوم

____________________

(١) توجد الكلمة في شرح ابن أبي الحديد ١٣: ١٩٧، و شرح ابن ميثم ٤: ٣٠٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٣: ١٩٧، و شرح ابن ميثم ٤: ٣١٢.

٤٩٥

الطف لقومه: الويل لكم أتدرون من تبارزون؟ هذا ابن أنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه من كل جانب( ١) .

و وصفه بكلاكل العرب كناية عن إذلالها، كبعير تسقطه على الصدر فلا يقدر على التحرك، كما ان قولك «ألقي عليه كلكلا» كناية عن اضمحلاله له،

كبعير يسقط بصدره على انسان، قال الراجز:

لو انها لاقت غلاما طائطا

ألقى عليها كلكلا علا بطا

و حينئذ فالباء في «بكلاكل» للتعدية لا زائدة، كما قال ابن أبي الحديد و ابن ميثم( ٢ ) ، فمعنى «وضعت بالشي‏ء» غير معنى وضعت الشي‏ء.

قال ابن دريد: و ربما قالوا الكلكال في الشعر، قال دكين الراحز:

أقول إذ خرّت على الكلكال

يا ناقتي ما جلت من مجال

و قال الجوهري: الكلكل ربما جاء في الشعر مشددا، قال الشاعر:

كأن مهواها على الكلكل

موضع كفي راهب يصلي

«و كسرت نواجم» أي: طوالع (القرون) هكذا في (المصرية)، و الصواب:

«قرون» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٣ ) (ربيعة و مضر) و المراد بهما هنا القبيلتان اللتان يضرب بهما المثل في الكثرة، و الاصل فيهما مضر و ربيعة ابنا نزار بن معد بن عدنان، قال الجوهري: يقال لمضر «مضر الحمراء» و لربيعة «ربيعة الفرس» لانهما لما اقتسما الميراث اعطي مضر الذهب، و اعطي ربيعة الخيل، و يقال: كان شعار مضر في الحرب العمائم، و الرايات الحمر، و لاهل اليمن الصفر، و فسر بعضهم به

____________________

(١) مناقب السروي ٤: ١١٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٣: ١٩٧، و شرح ابن ميثم ٤: ٣١٢.

(٣) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٣: ١٩٧، لكن في شرح ابن ميثم ٤: ٣١٢، مثل المصرية.

٤٩٦

قول أبي تمام في وصف الربيع:

محمرة مصفرة فكأنها

عصب تيمن في الوغا و تمضر

و في (معارف ابن قتيبة): و أما مضر و ربيعة فاليهما ينسب ولد نزار،

و هم الصريح من ولد إسماعيلعليه‌السلام .

قال ابن أبي الحديد: فان قلت: أما قهره لمضر فمعلوم، فما حال ربيعة و لم نعرف انه قتل منهم أحدا؟

قلت: بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل،

فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل( ١) .

قلت: لا يبعد أن يريدعليه‌السلام بكسره نواجم قرون ربيعة و مضر في حروبهعليه‌السلام في غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان حروبه مع ربيعة و مضر دون اليمن، و لأنهعليه‌السلام ذكر أهل الجمل و صفين كالنهروان قبل هذا الكلام.

و في خطبة الصديقةعليها‌السلام في فدك كما رواها أحمد بن أبي طاهر البغدادي فأنقذكم اللَّه برسوله بعد اللّتيّا و الّتي، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب، كلما حشوا نارا للحرب اطفأها اللَّه، و كلما نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيدا في أولياء اللَّه، و أنتم في بلهنية وادعون آمنون الخ.

و أما في صفين فكان أكثر مقتوليهعليه‌السلام من اليمن اتباع معاوية أهل الشام، فلم لم يذكرهم كما ان أكثر أتباعهعليه‌السلام كانوا من ربيعة، كما أن

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٣: ١٩٨.

٤٩٧

بعضهم من مضر، و بعضهم من اليمن، و هم مذحج و همدان، و قال كما في صفين نصر في ربيعة و مذحج:

جزى اللَّه قوما صابروا في لقائهم

لدى البأس حرت ما أعفّ و أكرما

و أحزم صبرا حين تدعى إلى الوغا

إذا كان اصوات الكماة تغمغما

ربيعة أعني انّهم أهل نجدة

و بأس إذا لاقوا خميسا عرمرما

و قد صبرت عك و لخم و حمير

لمذحج حتى لم يفارق دم دما

و نادت جذام يال مذحج ويلكم

جزى اللَّه شرا أينا كان أظلما(١)

و حتى أن معاوية كان نذر في سبي نساء ربيعة و قتل المقاتلة، فقال خالد بن معمر كما في (صفين نصر):

تمنى ابن حرب نذرة في نسائنا

و دون الّذي ينوي سيوف قواضب(٢)

و كانت ربيعة تعاقدت ألا ينظر رجل منها خلفه حتى يرد سرادق معاوية، فلما نظر معاوية إليهم قد أقبلوا قال:

إذا قلت قد ولّت ربيعة أقبلت

كتائب منهم كالجبال تجالد

و قال لعمرو: ما ترى؟ قال: أرى إلاّ تحنث أخوالي اليوم، فخلى معاوية عن سرادقه لائذا إلى بعض مضارب العسكر، و بعث إلى خالد بن المعمر ان ظفرت فلك إمرة خراسان ان لم تتم، فطمع خالد في ذلك و لم يتم، فأمّره معاوية حين بايعه على خراسان إلاّ أنه مات قبل ان يصل إليها( ٣) .

و في (صفين نصر): جمع عليّعليه‌السلام أهل همدان، فقال: يا معشر همدان، أنتم درعي و رمحي، ما نصرتم الا اللَّه، و لا أجبتم غيره، و في

____________________

(١) وقعة صفين: ٢٨٩.

(٢) وقعة صفين: ٢٩٤.

(٣) وقعة صفين: ٣٠٦.

٤٩٨

هذا اليوم قال عليّ:

و لو كنت بوابا على باب جنّة

لقلت لهمدان ادخلي بسلام(١)

و في (موفقيات الزبير بن بكار) عن عمّه مصعب بن عبد اللَّه: كان عليّ بن أبي طالب شديد الروغان من قرنه، لا يكاد أحد يتمكن منه، و كانت درعه صدرا لا ظهر لها، فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك فيقول: إذا أمكنت عدوّي من ظهري فلا أبقى اللَّه عليه ان أبقى عليّ.

٤ - من الكتاب (٣٦) في كتابهعليه‌السلام إلى عقيل أخيه:

وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي اَلْقِتَالِ فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ اَلْمُحِلِّينَ حَتَّى أَلْقَى اَللَّهَ لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ اَلنَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً وَ لاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اِبْنَ أَبِيكَ وَ لَوْ أَسْلَمَهُ اَلنَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً وَ لاَ مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً وَ لاَ سَلِسَ اَلزِّمَامِ لِلْقَائِدِ وَ لاَ وَطِي‏ءَ اَلظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ اَلْمُتَقَعِّدِ وَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو؟ بَنِي سَلِيمٍ؟

فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي

صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ اَلزَّمَانِ صَلِيبُ

يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ

فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ

«و أما ما سألت عنه من رأيي في القتال فان رأيي قتال المحلّين حتى ألقى اللَّه» كان عقيل كتب إليهعليه‌السلام كما في (خلفاء ابن قتيبة) بعد شخوصه من المدينة في الطريق اني خرجت معتمرا، فلقيت عائشة معها طلحة و الزبير و ذوهما متوجهون إلى البصرة قد أظهروا الخلاف، و نكثوا البيعة، و ركبوا عليك قتل عثمان، و معهم على ذلك كثير من الناس من طغامهم و أوباشهم، ثم

____________________

(١) وقعة صفين: ٤٣٧.

٤٩٩

مرّ عبد اللَّه بن أبي سرح في نحو من أربعين راكبا من أبناء الطلقاء من بني اميّة، فقلت لهم بعد أن عرفت المنكر في وجوههم: أبمعاوية تلحقون عداوة،

و اللَّه انها منكم ظاهرة غير متنكرة، تريدون بها اطفاء نور اللَّه و تغيير أمره،

فأسمعني القوم و أسمعتهم إلى أن قال بعد ذكر سماعه لما وصل إلى مكة غارة الضحاك بن قيس على الحيرة و اليمامة فظننت حين بلغني ذلك أن انصارك خذلوك، فاكتب إليّ يا ابن امي برأيك و أمرك، فان كنت الموت تريد تحملت إليك بني أخيك و ولد أبيك، فعشنا ما عشت، و متنا معك إذا مت، فو اللَّه ما أحب أن أبقى بعدك، فو اللَّه الأعز الأجل ان عيشا أعيشه بعدك في الدنيا لغير هني‏ء و لا مري‏ء و لا نجيع الخ.

فكتب إليه جوابه و فيه هذا( ١ ) ، و مرادهعليه‌السلام بالمحلين الناكثون و القاسطون.

«لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة و لا تفرقهم عني وحشة» لما كان عقيل كتب إليهعليه‌السلام «ظننت أن انصارك خذلوك» قال هذا في جواب كلامه، و كيف لا يكونعليه‌السلام كذلك و هو أمير المؤمنين و قال تعالى في المؤمنين: و للَّه العزة و لرسوله و للمؤمنين( ٢ ) و هوعليه‌السلام سيد المتوكلين و قد قال تعالى: و من يتوكل على اللَّه فهو حسبه( ٣) .

«و لا تحسبنّ ابن أبيك و لو» هكذا في (المصرية و ابن أبي الحديد)، و في (ابن ميثم) (و ان)( ٤ ) «أسلمه» أي: تركه «الناس متضرعا متخشعا» قال الدارمي:

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ٥٤.

(٢) المنافقون: ٨.

(٣) الطلاق: ٣.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٤٨، و شرح ابن ميثم ٥: ٧٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621