وقعة الجمل

وقعة الجمل33%

وقعة الجمل مؤلف:
المحقق: السيد تحسين آل شبيب الموسوي
تصنيف: متون تاريخية
الصفحات: 167

وقعة الجمل
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38616 / تحميل: 6487
الحجم الحجم الحجم
وقعة الجمل

وقعة الجمل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مقدمة الطبعة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف خلقه محمد المصطفى (ص)، وعلى آله عدل القرآن وثقله، سفن النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وغرق، الذي جعل محبتهم ومودتهم أجرا للرسالة، وطهرهم من الرجس والدنس تطهيرا وعلى صحبه المؤمنين والتابعين لهم بإحسان.

وبعد: فإن كتاب المراجعات لسماحة سيدنا الامام شرف الدين (قدس سره) يعتبر بحق من أهم ما أنتجه الفكر الاسلامي والامامي في توضيح قضايا الامامة وإثبات وجهتها الحقة بعد وفاة الرسول الاعظم، وهو في الحقيقة كتاب يدعو لوحدة وجمع الكلمة بين المسلمين فانه يضع حدا فاصلا لكثير من الخلافات التي كانت سببا في تباعدهم وتباغضهم، فبعد التفهم لتلك القضايا على أساس البحث العلمي والدقة الموضوعية ينحسر الجهل ويسفر الصبح ويرجع النصاب إلى أهله.

ثم أن المؤلف (قدس سره) عند طبع الكتاب لاول مرة سنة ١٣٥٥ هـ قام بالتعليق عليه فخرج أحاديثه على المصادر الموجودة عنده والتزم تعيين الصفحة والجزء والباب غير أنه لوحظ:

٢١

أولا:

أنه قد فاته كثير من المصادر للاحاديث والآيات في كتب الجمهور فيذكر للحديث أو الآية مصدرا أو مصدرين، وهذا ما وقع في أكثر أحاديث الثقلين وحديث السفينة، والآيات النازلة في شأن أهل البيت (ع) التي احتج بها، وهذه الموارد لها الاهمية الكبرى في الاستدلال على قضية الامامة، مع ما لها من عشرات المصادر.

ثانيا:

أهمل في أكثر الموارد تعيين الطبعة وهذا ما يشق على المطالع عند المراجعة وتطبيقه على المصدر.

ثالثا:

ان التخريجات التي دأب عليها السيد (قده) انما تتطابق مع الطبعات القديمة لمصادر الحديث التي كانت متوفرة لديه، وهذه فعلا صارت نادرة: وإنما توجد في المكتبات العامة وبعض الخاصة. وقد احتلت مكانها اليوم طبعات اخرى أحدث وأوسع انتشارا فكان لابد من تطبيق التخريجات عليها.

رابعا:

ان بعض الاحاديث أو الحقائق التاريخية أشار إليها وتركها دون تخريج.

فلهذا، وغيره صارت الحاجة ماسة إلى تعليقة عليها تسهل على المراجعين تحصيل المصادر للاحاديث والآيات التي يستدل بها.

وقد تلقى سماحة سيدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ـ دام ظله ـ عدة رسائل من القراء يشكون بعض الملاحظات.

فأحس سماحة السيد الاستاذ بأهمية التعليق عليها وسد هذا الفراغ، فأناط بي ذلك فامتثلت أمره.

٢٢

فقمت بالتعليق مستقلا عن الكتاب متلافيا للملاحظات الآنفة الذكر، فصرت أخرج الاحاديث والآيات على الطبعات الجديدة بما تيسر لي.أولا.

وثانيا: أحشد مختلف المصادر للآية أو الحديث التي فاتت المؤلف (قده) مع تعيين الجزء والصفحة ورقم الحديث ان وجد وتعيين اسم المطبعة(١) بل تعدد الطبعات بما تيسر، وما فاتنا من المصادر أضعاف ما ذكرناه.

وثالثا: أضفت جملة من الاحاديث وبعض الحقائق التي لم يشر إليها المؤلف مع ذكر مصادرها، فيكون ذلك تتمة للمراجعات في مصادرها وأحاديثها.

رابعا: قمت بإثبات ودعم القضايا التي ذكرها المؤلف من دون الاشارة إلى مصادرها. ثم وضعت رقملا متسلسلا من أول المراجعات إلى آخرها ويقابله رقم متسلسل في (تتمة المراجعات) فعند المراجعة إلى عين الرقم يحصل على المصادر.

هذا وأسأل المولى سبحانه وتعالى أن يكون خالصا لوجهه وان ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد لله رب العالمين.

حسين الراضي

__________________

(١) هذا في الطبعة الاولى وأما في هذه الطبعة جعلنا فهرست للمصادر التي يتكرر ذكرها كثيرا مع تعيين اسم المطبعة.

٢٣

تنبيه:

ج = المجلد

ح = حديث

ص = صفحة

ط = طبع. ط ٢ = الطبعة الثانية.

ـ = إلى مثلا ١٦ ـ ١٩ أي من صفحة ١٦ إلى صفحة ١٩.

المصدر الذي لم نذكر اسم المطبعة له في أثناء الكتاب أثبتناه في آخر الكتاب في الفهرست وذلك لاجل تكرره كثيرا.

هذا وقد تم وضع أرقام متسلسلة للتخريجات بكاملها.

كما أضيفت تعليقات جديدة أشير إليها في مواضعها بنجمة (*).

٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *

٢٥

٢٦

حياة المؤلف(١)

بقلم آية الله علم الهدى سماحة الشيخ مرتضى آل ياسين

لست ببالغ من تعريفك ـ أيها القارئ الكريم ـ بالسيد المؤلف مبلغ تعريف هذا الكتاب به ، وحسبك منه ـ وانت تقرؤه في هذا الكتاب ـ أن تعرف به بطلا من ابطال العلم ، وفارسا من فرسان البيان ، تأتيه حين تأتيه مالكا لامرك ، مسيطرا على نفسك ، فاذا استقر بك المقام عنده ، لم تتمالك دون أن تضع قيادك بين يديه ، فاذا هو يتملك زمام أمرك ، ويدخل إلى قرارة نفسك ، فيسيطر عليك بطبيعة قوته وأدبه وعلمه.

وأنت لا تخشى مغبة العاقبة من هذه السيطرة فإنها سيطرة مضمونة الخير ، مأمونة الشر ، بعيدة عن الكيد والمكروه ، بعد الصحة عن الفساد ، وكن واثقا أكبر الثقة ـ حين يأخذك بيانه وبرهانه ـ أنه إنما يرد بك مناهل مترعة الضفاف ، بنمير ذي سلسبيل ، كلما كرعت من فراته جرعة ، تحلبت شفتاك لجرعات تحسب أن ليس لظمئك راويا غيرها.

هذا بعض ما يعرفك به الكتاب عن مؤلفه ، أفتراني أبلغ من تعريفك به أبعد مما يعرفك هو بنفسه؟ كلا فإن للسيد عبدالحسين في الحياة مناحي وميادين لا أراني موفيا عليها ، وانا في هذا السبيل الضيق القصير ، ويوشك أن

__________________

(١) نقلت عن الطبعة الثانية التي طبعت في دار الساعة ـ بغداد ـ ١٣٦٥ هـ ـ.

٢٧

يكون الامر يسيرا لو أن المترجم له غير هذا الرجل ، ويهون الامر لو كان من هؤلاء الرجال المحدودة حياتهم وأعمالهم ، أما رجل كهذا الرجل الرحب العريض ، فمن الصعب جدا أن يتحمل كاتب عب‌ء الحديث عنه ، والتوفر عليه ، لانه يشعر حين يقف اليه أنه يقف إلى جبل ينبض بألوان من الحياة ، متدفقة من كل نواحيه وجوانبه ، فلا يكاد يرد كل لون إلى مصدره إلا ببحث عليه مسؤوليات من المنطق والعلم ، قد ينوء بها عاتق المؤرخ الامين.

ويكفيك من تعريفه ـ على سبيل الاجمال ـ ما يعرفك به الكتاب من فنه وعلمه ، وكنا نود لو يتاح لنا ان نقف وقفة خاصة لهذه الناحية الفنية المتعبة ، ولا سيما ونحن منه في سبيل العلم والفن اللذين اجتمعا للمؤلف فصاغا هذا الكتاب متساندين صياغة قدرة وابتداع ، قل أن نجد لها ندا في مقدور زملائه من الاعلام( أمد الله في حياة أحيائهم ) .

ولكن إحكام الكتاب على هذا النحو من قوة العارضة في الادب ، وبعد النظر في البحث ، وسلامة الذوق في الفن وحسن التيسير في ايضاح المشاكل ، وتحليل المسائل ، أطلق له لسانا من البيان الساحر اغنانا عن الاخذ بالاعناق إلى مواضع جماله ، فكل بحث فيه لسان مبين عن سره، يناديك حين تغفل عنه ، ويدعوك بصوته حين تمر به سهوان ، ولا تقدر لنفسك أن تتملاه أو تعجب به.

وكتاب فيه هذه الحياة لا ينفك عن صاحبه بحال ، ولا تحسب ان للكتب حياة خاصة مستقلة ، فليست حياة الكتب غير حياة المؤلفين والكتاب نفسها ، فاذا سمعت نبأة ، وأدركت حسا في كتاب ، فانما تسمع جرس الكاتب ، وتحس حسه عينه.

وبعد فسأتركك عند هذا القدر من المعرفة بهذا الامام ، ولك أن تكتفي

٢٨

به ، ولك أن لا تكتفي منه، فبحسبي ان أشعرك بطرف مما عرفت منه ، وانا انغمس في هذه ـ المراجعات ـ. وبحسبك مني أن ترى منزلته من نفسي : كعالم يضم إلى علمه فنا من الادب منقطع النظير ، ولك أن تثق بي حين تعتبرني دليلا ، امينا سليم الاختيار بترجمة هذه الذخيرة ، وضمها إلى مؤثلات لغتنا الحية.

مولده ونشأته :

على اني لا أرى لك ان تقتصر من معرفته على هذا المقدار ، كما لا أرى لك ان تجتزئ بطائر اسمه ، وسعة شهرته في العالم الاسلامي ، وانما أرى ان تتجاوز ذلك إلى الاحاطة بشيء من حياته ؛ وبشيء من ظروفه التي قدرت له هذه الحياة.

ولد السيد عبدالحسين شرف الدين ـ أورف الله ظله ـ في الكاظمية سنة ١٢٩٠ هـ ـ. من أبوين كريمين تربط بينهما أواصر القربى ، ويوحد نسبهما كرم العرق ، فابوه الشريف يوسف بن الشريف جواد بن الشريف اسماعيل ، وامه البرة (الزهراء) بنت السيد هادي بن السيد محمد علي ، منتهيين بنسب قصير إلى شرف الدين أحد أعلام هذه الاسرة الكريمة.

ثم درج في بيت مهدت له اسباب الزعامة العلمية ؛ ورفعت دعائمه على أعلام لهم في دنيا الاسلام ، ذكر محمود ، وفضل مشهود ، وخدمات مشكورة ، فكانت طبيعة الارث الاثيل ، تحفزه للنهوض من جهة اخرى ، وتربيته الصالحة ـ كانت قبل ذلك ـ تصوغه على خير مثال يصاغ عليه الناشئ الموهوب ، فهو أنى التفت من نواحي منشئه الكريم ، استقى النشاط والتوفر على ما بين يديه من حياة : مؤملة لخيره ولخير من وراء‌ه من الناس.

٢٩

ثم شبل في هذا البيت الرفيع ؛ يرتع في رياض العلم والاخلاق ، ويتوقل في معارج الكرامة ، فلما بلغ مبلغ الشباب الغض اصطلحت عليه عوامل الخير ، وجعلت منه صورة للفضيلة ، ثم كان لهذه الصورة التي انتزعها من بيته وبيئته وتربيته أثر واضح في نشأته العلمية ، ثم في مكانته الدينية بعدئذ. فلم يكد يخطو الخطوة الاولى في حياته العلمية حتى دلت عليه كفايته ، فعكف عليه طلابه وتلامذته ، وكان له في منتديات العلم في سامراء والنجف الاشرف صوت يدوي ، وشخص يومأ اليه بالبنان.

ومنذ ذلك اليوم بدأ يلتمح نجمه في الاوساط العلمية ، ويتسع اشراقه كلما توسع هو في دراسته ، وتقدم في مراحله حتى ارتاضت له الحياة العلمية ، على يد الفحول من اقطاب العلم في النجف الاشرف وسامراء ، كالطباطبائي ، والخراساني ، وفتح الله الاصفهاني ، والشيخ محمد طه نجف ، والشيخ حسن الكربلائي ، وغيرهم من اعلام الدين وأئمة العلم.

ولما استوفى حظه العلمي من الثقافة الاسلامية العالية ، كان هو قد صاغ لنفسه ذوقا عاليا ، ساعدته على انشائه ملكاته القوية ، وسليقته المطبوعة على حسن الاداء ، وتخير الالفاظ ، وقوة البيان ، وذرابة اللسان ، وسعة الذهن ، فكان بتوفيقه بين العلم والفن ممتازا في المدرسة ، مضافا إلى ما كان له من الميزة الفطرية في ناحيتي الفكر والعقل.

على انه لم يكتف من مدرسته بتلقي الدروس واكتناز المعارف فقط ، بل استفاد من ملابسات الحياة العامة التي كانت تزدحم على ابواب المراجع من اساتذته ، وانتفع من الاحداث المؤتلفة ، والحوادث المختلفة التي كانت تولدها ظروف تلك الحياة ، فكان يضع لما اختلف منها ، ولما ائتلف حسابا ،

٣٠

ويستخرج منه نفعا ويقدر له قيمة ، وينظر اليه نظرة اعتبار ، ليجمع بين العلم والعمل ، وبين النظريات والتطبيق.

اذن فقد كانت مدرسته ـ بالقياس اليه ـ مدرستين : يعاني في إحداهما المسائل العلمية ، ويعاني في الثانية المسائل الاجتماعية ، ثم تتزاوج في نفسه آثار هذه وآثار تلك مصطلحة على انتاج بطولته.

في عاملة :

وحين استعلن نضجه ، ولمع فضله في دورات البحث ومجالس المذاكرة والتحصيل ؛ عاد في الثانية والثلاثين من عمره ـ إلى جبل عامل ـ جنوب لبنان ، موقورا مشهورا مملوء الحقائب ، ريان النفس ، وريق العود ، ندي اللسان ، مشبوب الفكر ، وكان يوم وصوله يوما مشهودا ، قذفت فيه عاملة بابنائها لتستهل مقدمه مشرقا في ذراها واجوائها ، واستقبلته مواكب العلماء والزعماء والعامة ، إلى حدود الجبل من طريق الشام في مباهج كمباهج العيد.

ولم تكن عاملة ـ وهي منبت اسرته ـ مغالية أو مبالغة بمظاهر الحفاوة به ، أو بتعليق أكبر الآمال عليه ، فانها علمت ـ ولما يمض عليه فيها غير زمن يسير ـ أنه زعيمها الذي ترجوه لدينها ودنياها معا ، فتنيط به الامل عن « عين » بعد ان اناطته به عن « اذن » ، وتتعلق به عن خبرة ، بعدما تعلقت به عن سماع ، وتعرف به الرجل الذي يضيف عيانه إلى اخباره ، أمورا لم تدخل في الظن عند الخبر.

اصلاحه :

وابتدأت في عاملة حياة جديدة ، شأنها الشدة في الدين ، واللين في

٣١

الاخلاق ، والقوة في الحق ، والهوادة مع الضعفاء ، والامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتطامن لاهل الدين ، والتواضع للعلماء ، وكانت يومئذ اقطاعيات منكرة ، لا تملك العامة معها من امر نفسها شيئا ، ولا تفهم من الحياة في ظلها غير معناها المرادف للرق والعبودية ، أو لا يفسح لها ان تفهم غير ذلك من حياتها الهينة المسخرة للاقوياء من جبابرة الناس وطواغيتهم ، فلما استقر به المقام في عاملة ، لم يستطع اقرار هذا النظام الجائح المستبد بحقوق الجماعة ، ولم يجد من نفسه ، ولا من ايمانه ، ولا من بره ، مساغا للصبر على الاقطاعية هذه ، وإن ظاهرها الاقوياء ، والمتزعمون، والمستعمرون ، وكل من يتحلب ضرعها المادي الحلوب ، لذلك ثار بها وبهم ، وأنكر عليها وعليهم ، واستغلظ الشر بينه وبينهم ، فجمعوا له وأجلبوا عليه ، وسعوا فيه ، وكان كل سعيهم بورا.

اثر بلاغته :

وكان لمنابره البليغة ، ولاساليب ارشاداته البارعة ، اكبر الاثر في تحقيق اصلاحه المنشود ، ولا غرو فان للسيد المؤلف مقاما خطابيا يغبطه عليه خطباء العرب ، ويعتز به الدين والعلم والادب.

وخطابته ككتابته تستمد معانيها وقوتها وغزارتها من ثقافته كلها ، وترتضع في الموضوع الخاص اثداء شتى من معلوماته الواسعة ، فاذا قرأته أو سمعته رأيت مصادر ثقافته كلها منهلة متفتحة الافواه كشرايين الثدي وعروقه ، ترفده من كل موضع وعاه في حياته ما ينسجم وموضوعه الذي هو بسبيله ، وعلى ذوقه الممتاز ان يضع اطراف ما يتدفق اليه في هيكل الموضوع الذي بين يديه ، ويركزه في مكانه ، حتى اذا انتهى انهى اذن بحثا نافعا كله غذاء ومتاع.

واعظم به ـ إلى جانب هذه البلاغة ـ متخيرا لآلئ معانيه ، وازياء افكاره

٣٢

يقدرها تقديرا ، ويرصفها رصفا ، ويبعث فيها حياة تنبضها بما يريد لها من دلالة في مفهوم أو من منطوق باوصافه ، واضافاته ، وبكل تآليفه المنسوقة المنسجمة.

ثم اعظم به محدثا اذا تشاجن الحديث وتشقق وانساب على سفينة ، يمخر العباب ، فهناك النكتة البارعة ، والطرفة اللامعة ، والنادرة الحلوة ، والخبر النافع.

من هذا وذاك علقت به النفوس ؛ واجتمع عليه الرأي ، فقاد للخير وابتغى المصلحة. وتكاملت له زعامة عامة ، يحل منها في شغاف الافئدة والقلوب ، ولم تكن هذه الزعامة مرتجلة مفاجئة ، بل كانت عروقها واشجة الاصول ، عميقة الجذور ، تتصل بالاعلام من آبائه ، والغر من اعمامه واخواله ، ثم صرفت هذا الميراث الضخم يده البانية ، فأعلت اركانه ومدت شطآنه وخلجانه.

بيته :

فبيته في ذرى عاملة ، مطنب مضروب ، للقرى والضيفان ، تزدحم فيه الوفود ، وتهدى اليه الحشود اثر الحشود ، ويصدر عنه الكروب بالرفد المحمود ، وهو قائم في تيار الموجتين المتعاكستين بالورد والصدر ، هشاشا طلق المحيا لا يشغله تشييع الصادر ، عن استقبال الوارد ، ولا يلهيه حق القائم عن حقوق القاعد ، ولكنه يجمع الحقوق جميعا ويوفق بينها ، فيوزعها عادلة متناسبة.

ولاريحيته الكريمة جوانب انفع من هذا الجانب ، وابعد اثر ، فهو مفزع يأوي اليه المحتاجون والمكروبون ، وملجأ يلوذون به في الملمات يستدفعون

٣٣

به المكاره ، حين تضيق بها صدور الناس، وتشتد بهم آلامها ، فاذا طفت بيته ، رأيت ألوان الغايات ، تدفع بألوان من المحتاجين اليه ، المعولين عليه في مختلف احوالهم ، وأوضاعهم الخاصة والعامة ، مما يتصل بدينهم أو دنياهم ، وتراه قائما بين هؤلاء وهؤلاء ، يجودهم بنفحاته العلوية ، ويغدق عليهم من اريحيته الهاشمية ؛ ويبذل لهم من روحه وراحته ما يملأ به نفوسهم مرحا وسرورا ، ثم لا يسألهم على ذلك جزاء ولا شكورا.

وها هو لا يزال ، مد الله في حياته ، يملي على تاريخه من احداثه الجسام ، ومآتيه الغر في خدمة الله والمؤمنين والوطنية الصحيحة ، ما تضيق عنه هذه العجالة.

خدماته

أما خدماته المناضلة ضد الاستعمار الاجنبي فحدث عنها ولا حرج ولا يتسع مجالنا هذا لتفصيل القول في ذلك النضال ، ولكن بوسعي ان اقول لك بكلمة مجملة : إن خدماته العظيمة في العهد التركي ، ثم في العهد الفرنسي ، ثم في ايام الاستقلال ، كانت امتدادا لحركات التحرير ، وارتقاء بها نحو كل ما يحقق العدل ويوطد الامن ، وينعش الكافة على أن السلطات في العهود كلها لم تأل جهدا في مقاومته ، ومناوأة مشاريعه بما تقاوم به السلطات الجائرة من الدس والاضطهاد وقتل المصالح ، ولعل المحن التي كابدها هذا الامام الجليل في سبيل إسعاد قومه ، لم يكابد نارها إلا أفذاذ من زعماء العرب وقادتهم ، ممن ابلوا بلاء‌ه وعانوا عناء‌ه.

وناهيك بما فاجأته به سلطة الاحتلال الفرنسي حين ضاقت به ذرعا ، إذ أوعزت إلى بعض جفاتها الغلاظ باغتياله. واقتحم ابن الحلاج عليه الدار في غرة ، وهو بين اهله وعياله ، دون ان يكون لديه احد من اعوانه ورجاله ، ولكن

٣٤

الله سبحانه وتعالى اراد له غير ما ارادوا ، فكف ايديهم عنه ، ثم تراجعوا عنه صاغرين يتعثرون باذيال الفشل والهوان ، وما يكاد يذيع نبأ هذه المباغتة الغادرة في عاملة ، حتى خفت جماهيرهم إلى صور ، تزحف اليها من كل صوب وحدب ، لتأتمر مع سيدها فيما يجب اتخاذه من التدابير ازاء هذا الحدث ، غير ان السيد صرفهم بعد ان شكرهم ، واجزل شكرهم ، وارتأى لهم ان يمروا بالحادث كراما.

ثم تلا هذا الحادث احداث واحداث اتسع فيها الخرق ، وانفجرت فيها شقة الخلاف ، حتى ادت إلى تشريد السيد باهله ومن اليه من زعماء عاملة إلى دمشق ، وقد وصل اليها برغم الجيش الفرنسي الذي كان يرصد عليه الطريق ، إذ كانت السلطة الغاشمة تتعقبه بقوة من قواتها المسلحة لتحول بينه وبين الوصول إلى دمشق ، وحين يئست من القبض عليه ، عادت فسلطت النار على داره في (شحور) فتركتها هشيما تذوره الرياح ، ثم احتلت داره الكبرى الواقعة في (صور) بعد ان أباحتها للايدي الاثيمة ، تعيث بها سلبا ونهبا ، حتى لم تترك فيها غاليا ولا رخيصا ، وكان أوجع ما في هذه النكبة تحريقهم مكتبة السيد بكل ما فيها من نفائس الكتب واعلاقها ، ومنها تسعة عشر مؤلفا من مؤلفاته ، كانت لا تزال خطية إلى ذلك التاريخ.

في دمشق :

وظل في دمشق تجيش نفسه بالعظائم وتحيط به المكرمات ، في ابهة من نفسه ، ومن جهاده ، ومن ايمانه ، وكان في دمشق يومئذ مداولات ملكية ، واجتماعات سياسية ، وحفلات وطنية ، تتبعها اتصالات بطبقات مختلفة من الحكومة والشعب ، كان السيد في جميعها زعيما من زعماء الفكر ، وقائدا من قادة الرأي ، ومعقدا من معاقد الامل في النجاح.

٣٥

وله في هذه الميادين مواقف مذكورة ، وخطابات محفوظة ، سجلها له التاريخ بكثير من الفخر والاعجاب.

ولم يكن بد من اصطدام العرب بجيش الاحتلال ، فقد كانت الاسباب كلها مهيأة لهذا الاصطدام ؛ حتى اذا التقى الجمعان في « ميسلون » واشتبكا في حرب لم يطل امدها ، ودارت الدائرة على العرب لاسباب نعرض عنها.

غادر السيد دمشق إلى فلسطين ومنها إلى مصر بنفر من اهله ، بعد أن وزع اسرته في فلسطين بين الشام ؛ وبين انحاء من جبل عامل ، في مأساة تضيف أدلة إلى الادلة على لؤم ، فقد ظل ثقل من أهله الذين ذهبوا إلى « عاملة » ليالي وأياما لا يجدون بلغة من العيش يحشون بها معد صغارهم الفارغة ، على أنهم يبذلون من المال اضعاف القيمة ، ويبسطون أكفهم بسخاء نادر ، وأخيرا لم يجدوا حلا بغير توزيع قافلتهم في الاطراف المتباعدة ، بين من بقي من اوليائهم واصدقائهم على شيء من الوفاء أو الشجاعة.

في مصر :

حين وصل مصر احتفلت به ، وعرفته بالرغم من تنكره وراء كوفية وعقال ، في طراز من الهندام على نسق المألوف من الملابس الصحراوية اليوم ؛ وكانت له مواقف في مصر وجهت اليه نظر الخاصة من شيوخ العلم ، واقطاب الادب ، ورجال السياسة ، على نحو ما تقتضيه شخصيته الكريمة.

ولم يكن هذا اول عهده بمصر فقد عرفته مصر قبل ذلك بثمان سنين ، حين زارها في اواخر سنة تسع وعشرين ، ودخلت عليه فيها سنة ثلاثين وثلاثمائة والف هجرية ، في رحلة علمية جمعته باهل البحث ، وجمعت به قادة الرأي من علماء مصر ، وعقدت فيها بينه وبين شيخ الازهر يومئذ ـ الشيخ

٣٦

سليم البشري ـ اجتماعات متوالية تجاذبا فيها اطراف الحديث وتداولا جوانب النظر في امهات المسائل الكلامية والاصولية ، ثم كان من نتاج تلك الاجتماعات الكريمة هذه (المراجعات) التي نحن بصددها.

في فلسطين :

وحدثت ظروف دعته إلى أن يكون قريبا من عاملة ، فغادر مصر في اواخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة والف هجرية إلى قرية من فلسطين تسمى (علما) تقع على حدود جبل عامل ، وفي هذه القرية هوى اليه اهله وعشيرته ، ولحق به اولياؤه المشردون في هذا الجهاد الديني الوطني ، فكانوا حوله في القرى المجاورة. وكان في (علما) كما يكون في جبل عامل من غير فرق كأنه غير مبعد عن داره وبلده ، يتوافد اليه الناس من قريب ومن بعيد ، ولا يكاد يخلو منزله من أفواج الناس ، فيهم الضيوف ، وفيهم طلاب الحاجات ، وفيهم رواد القضاء ، والفقه ، وفيهم من تستدعه الحياة السياسية أن يعرف ما عند السيد من وجه الرأي.

وانسلخت شهور في (علما) تصرفت فيها الامور تصرفا يرضي السيد بعض الرضا ، وأبيح للسيد ان يعود إلى عاملة بعد مفاوضات ادت إلى العفو عن المجاهدين عفوا عاما ، والى وعد من السلطة بانصاف جبل عامل ، وانهاضه ، واعطائه حقوقه كاملة.

العودة :

وحين اطمأنت نفسه بما وعدته به السلطة ، عاد إلى جبل عامل ، ولم تسمح نفسه بأن يعود والمجاهدون مبعدون ، لذلك جعل بيروت طريق عودته ـ وطريقه بعيدة عنها ـ ليستنجز العفو العام عن المجاهدين ، وكذلك

٣٧

كان ، فانه لم يخرج من بيروت حتى كان المجاهدون في حل من الرجوع إلى وطنهم واهليهم.

ولعل جبل عامل لم يشهد يوما ابهج ولا احشد من يوم عودته ، ولعله لن يشهد يوما كهذا اليوم ، يحشر فيه الجبل من جبله وساحله ، في بحر من الناس يموج بعضه فوق بعض ، وتطفوا فوقه الاعلام رفافة بالبشر ، منحنية بالتحية ، والهتاف ، مجلجلة كجلجة الرعد في اذن الجوزاء.

ويبدأ من ذلك اليوم موسم للشعر ، تفتقت فيه القرائح العاملية عن ذخائر ممتعة من الادب العالي ، وتفتحت سلائقهم عن اصدق العواطف ، واسمى المشاعر تنبض بها قوافيهم تهز المحافل في إبداع وتجويد ، صباح ، مساء ، ولقد امتد هذا الموسم الادبي زمنا طويلا اجتمع في ايامه ولياليه ضخم القيمة ، ضخم الحجم ، يمكن اعتباره مصدرا لتاريخ الفكر والسياسة في جبل عامل خلال هذه الفترة.

منزلته في العالم الاسلامي :

ترتسم على كل افق من آفاق هذا العالم الاسلامي ، اسماء معدودة لرجال معدودين ، امتازوا بمواهب وعبقريات ، رفعتهم إلى الاوج الاعلى من آفاقهم ، فاذا اسماؤهم كالنجوم اللامعة تتلألأ في كبد السماء.

أما الذين ترتسم اسماؤهم في كل افق من تلك الآفاق ، فقليل ، وقليل هم ، وليسوا إلا اولئك الذين علت بهم الطبيعة ، فكان لهم من نبوغهم النادر ما يجعلهم افذاذاً في دنيا الإسلام كلها ، ومن هؤلاء الافذاذ سيدنا المؤلف « اطال الله عمره » فقد شاء‌ت الإرادة العليا أن تبارك علمه وقلمه ، فتخرج منهما للناس نتاجا من افضل النتاج ، وقد لا أكون مبالغا حين استبيح لقلمي

٣٨

ان يسجل : أن السيد المؤلف يتقدم بما انتج إلى الطليعة من علماء الشيعة الذين كرسوا حياتهم طوال اعمارهم لخدمة الدين والمذهب. وبهذا استحق ان يتصدر مجلس الخاصة في العالم الاسلامي اليوم.

حياته العلمية :

وقد يلوح مما قدمنا أن المشاكل الاجتماعية المتراكمة من حوله ، تصرفه عن النظر في حياته العلمية ، وتزحزحه عن عمله الفني. والواقع ان رجلا يمنى بما مني به « سيدنا » ينصرف عادة عما خلق له من علم وتأليف ، فإن ما يحيط به من المشكلات يضيق بالنظر في امر المكتبة ، والكتابة ، لولا بركة وقته ، وسعة نفسه ، وقدرة ذهنه.

فهو ـ على حين انه يوفي حق تلك المشكلات الشاغلة ـ يوفي حق علمه فيبلغ من المكتبة نصيب الذي تحتاجه حياته العلمية ، وهو منذ ترك النجف الاشرف على اتصال مستمر بالبحث والمطالعة والكتابة والمناظرة. يخلو كل يوم في فتراته إلى مكتبته يستريح إلى ما فيها من موضوعات ، وينسى من وراء‌ها من حياة مرهقة لاغبة.

مؤلفاته

وليس أدل على هذا من انتاجه ، هذا الانتاج الغزير الثري النبيل. وإن مؤلفاته لتشهد بأنه من الحياة العلمية ؛ كمن ينصرف اليها ، ولا يشغل بغيرها ، وأدل ما يدل منها على ذلك ، كيفية مؤلفاته لا كميتها ؛ فهي وإن كانت كثيرة حتى بالقياس إلى رجل يتفرغ اليها ، فإنها من الاصالة، والعمق ، والاستيعاب ، حيث لا تدل على ان مؤلفها رجل يمتحنه الناس بتلك المشاغل ، ويبتلونه بما عندهم من مشاكل ، فهي بما فيها من قوة ، ومتانة ،

٣٩

وغور ، ونحت وتفكير ، أدل على اتصاله الدائم بحياته العلمية من جهة ، وادل على فضله وخصوبة سليقته ، من جهة اخرى.

بهذا الميزان يرجح علم الرجل وفضله ، ثم يرجح به امتياز ما كتب ، وهو امتياز قليل النظير ، فإن المؤلفين المكثرين ، كثيرا ما تظهر عليهم السطحية ، ويميز كتبهم الحشو ، أما المؤلف فليس فيما قرأنا من مؤلفاته مبتذل سطحي ، ولا رخيص سوقي ، بل كل ما كتب انيق رقيق ، رفيع عميق ، يجمع بين سمو الفكر وترف اللفظ ، وهو ما أشرنا اليه في صدر كلامنا من كونه حريصا على المزاوجة بين علمه وفنه ، فاذا قرأت فصلا علميا خالصا خلت ـ لقوة اسلوبه ونصاعته ـ أنك تقرأ فصلا ادبيا يروعك جماله المستجمع لكل العناصر الادبية.

على أنا حين نتجاوز هذه النقطة ، فمؤلفاته كثيرة من حيث الكمية أيضا ، وهذا يضاعف القيمة. إنه يدل على ملكة خصبة اصيلة لا يؤخرها أشد العوائق عن الاتقان ، وانها لتثبت له بطولة فكر ، واليك ثبتا بآثار هذه البطولة.

لآلئه المنضودة :

١ ـ المراجعات هذا نموذج صادق لما كتب ، ولا اريد ان احدثك عنه فان لسانه أبين من حديثي وانطق.طبع في مطبعة العرفان بصيداء سنة ١٣٥٥ ونفدت نسخه ، وترجم إلى اللغة الفارسية ، وبلغني انه ترجم إلى اللغة الانكليزية ، ترجمه السيد زيد الهندي. وانه ترجم إلى اللغة الاوردية ايضا.

٢ ـ الفصول المهمة في تأليف الامة : كتاب من أجل الكتب الاسلامية ، يبحث مسائل الخلاف بين السنة والشيعة على ضوء (الكلام) والعقل والاستنتاج والتحليل. تم تأليفه سنة ١٣٢٧ هـ ـ ، وطبع مرتين بصيداء ـ جبل عامل ـ زاد فيه بالطبعة الثانية سنة ١٣٤٧ هـ ـ ، والفصول المهمة يغنيك عن

٤٠

والزبير يقيمان حيث ادركهما الصلح على ما في ايديهما ، حتى يرجع امين الفريقين ورسولهم كعبُ بن سُور من المدينةِ ، ولا يضّار واحد من الفريقين الاخر في مسجد ، ولا سوق ، ولا طريق ، ولا قرضة(١) ، بينهم عيبة مفتوحة ، حتى يرجع كعب بالخبر ، فإنّ رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير ، فالامر امرهما ، وإن شاء عثمان حتى يلحق بطيته(٢) ، وإن شاء دخل معهما ، وان رجع بأنهما لم يُكرْها فالامر أمر عثمان ، فإنّ شاء طلحة والزبير ، أقاما على طاعة عليّ ، وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما ، والمنجون اعوانَ الفالج(٣) »(٤) .

عائشةُ أمّ المؤمنين تنبحها كِلابُ الحوأبِ

لقد حذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنةِ التي اخبر بهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

وجاء هذا التحذير في جمعٍ من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه :

__________________

(١) القرضة : الموضع من النهر يستقي منه ، ومن البحر محط السفن.

(٢) طيته : اي لوجهه الذي يريده.

(٣) الفالج : الظافر الفائز.

(٤) جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٢١.

٤١

« ليتَ شِعْري أيَّتُكنَّ صاحبة الجَملِ الأَدبَب(١) ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتلُ عن يَمينها وشِمالها خَلقٌ كثيرٌ ، كُلُّهم في النار ، وتنجُو بعد ما كادَتْ »(٢) .

وفي حديث آخر فيما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه ، ثمّ اردفه بتحذير شديد الى عائشة :

« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثمّ قال لعائشة : « اياك ان تكونيها »(٣) ومرة اخرى يصرّحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ باسمها علناً كما جاء في رواية عليّ بن مُسهر ، عن هشام بن عُرْوة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ : « يا عائشة إنّي رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملاً يحملك في سدافة(٤) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت »(٥) .

وفي رواية سالم بن ابي الجعد ، انه ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ خروج بعض نسائه فضحكت عائشة ، فقال : « انظري يا حميراء لا تكونين هي » ثمّ التفت الى عليّ فقال : « يا ابا الحسن إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها »(٦) .

__________________

(١) الادبب : الجمل الكثير الشعر ، القاموس : ١٠٩.

(٢) اعلام النبوة : ١٥٥ ، مناقب آل ابي طالب ٣ : ١٤٩.

(٣) ورد الحديث بهامش الكامل في التاريخ ٣ : ٣٦٦.

(٤) السدافة : الحجاب والستر.

(٥) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٤٣٢ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٥.

(٦) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٤.

٤٢

اذن ، جميع القرائن الواردة في احاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، سواء كانت تلويحاً أو تلميحاً تدلُّ على انّ المعنية بصاحبة الجمل هي عائشة. وكانت هي أيضاً تعلم علم اليقين بأنها هي التي تنبحها كلاب الحوأب ! كيف لا تعلم هي صاحبة الجمل وكثير من المسلمين يعرفون بأن لها يوماً تنفرُ فيه مع الغادرين والناكثين ؟

فعن حُذيفة قال : لو احدثكم بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لوجمتموني(١) ! قالوا : سبحان الله نحن نفعل ؟ قال : لو احدثكم أنّ بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها تقاتلكم ، صدّقتم ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدّق بهذا ؟

قال : تأتيكم أمّكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها من حيث يسؤكم وجوهكم(٢) .

بعد هذه المقدمة الموجزة ، هل يمكننا ان نصدق على ان عائشة عند مسيرها الى البصرة ، وعلمت بالموضع أنّه هو الحوأب الذي اخبرها رسول الله به ، استرجعت وأرادت الرجوع. كما ورد الخبر عند كثير من الرواة ، فيذكر المسعودي : ( وسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فأنتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فعوتْ كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما

__________________

(١) يقال وجم الشيء اي كرهه.

(٢) مناقب آل ابي طالب ١ : ١٤٠.

٤٣

اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : رُدُّوني الى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، لا حاجة لي في المسير ، فقال الزبير : بالله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس ، فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم ، فكان ذلك أوّل شهادة زور أقيمت في الاسلام )(١) .

فمن يقرأ الحديث في الوهلة الاولى يعتقد أو يتصور ان عائشة المسكينة قد غرر بها ، وأرادت الاصلاح بين فئتين مؤمنتين عند مسيرها الى البصرة ، وعندما بلغت الموضع الذي نبحتها كلابه ، واستفسرت من سائق جملها واعلمها انه الحوأب تذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لها ، فأسترجعت وصاحت ردوني ، كأنها ندمت على خروجها ، وأرادت العودة لولا قسم الزبير وطلحة بأن هذا ليس هو الحوأب ! وايضاً لولا شهادة الخمسين علجاً لصفعت الزبير وطلحة على فعلهما القبيح ، ولعقرت الجمل الذي يحمل على ظهره السوء والمنكر.

لكن عائشة كانت تعلم علم اليقين أنّ هذه الشهادة هي شهادة زور ، وهي على قناعة بأن هذا المكان هو الحوأب بعينه ، وان الجمل الذي يحملها هو الذي أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ . وهذا ما يؤيده كثير من القرائن والحجج الدامغة التي خلفتها لنا ام المؤمنين عائشة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٤

فهي ألم تترك قول الله تعالى خلف ظهرها ؟ وتخرج متبرجة بين الملأ من الناس والعسكر ، مخالفة لامر الله تعالى ، والله تعالى يقول في خطابه لنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ :( وقرن في بيوتكنّ ولا تتبرجنّ تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة ) (١) .

وإذا كانت ارادت الرجوع لمجرد سماعها اسم الموضع ، فما بالها لم ترجع عندما تواقف الجيشان واطبقت حلقات الفتنة ، ثمّ انها لم تكتف ان تجلس في بيتها وتراقب الموقف وما ستؤول إليه الامور ، بل خرجت الى الحرب ووقفت امام جيش الغدر تحرض وتؤلب الناس على القتال ، وتلقي عليهم الخطب الرنانة لإثارة الحماس فيهم والاستبسال في القتال لكسب هذه الجولة التاريخية ، وتنهي حكومة العدل بقيادة ابن عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

هل استرجعت وقررت الخروج ولو في اللحظات الحالكة التي مرت بها عندما نشب القتال ، وهي ترى الناس حولها أكواماً من الجثث مقطوعة الايدي والرؤوس ؟

هل كانت ستعظم ما فعلته من إباحة دماء المسلمين ويُتْم اطفالهم ، وزعزعة الحياة الاجتماعية في البصرة.

لكن قول الامام عليّعليه‌السلام لها كان شافياً ، وقاطعاً عنها كل سبيل ،

__________________

(١) الاحزاب ٣٣ : ٣٣.

٤٥

ففي رواية الاصبغ بن نباتة ، قال : لما عقر الجمل وقف عليّعليه‌السلام على عائشة ، فقال لها : « ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : ذيت وذيت(١) . فقال : « اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأت أذنيك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ، أمّا أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأمّا أمواتهم ففي النار على ملة اليهود »(٢) .

هذه عائشة ام المؤمنين صاحبة الجمل الادبب ، وقد جاءت مصداقاً لقوله تعالى :( التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ) (٣) وقد سئل الامام الصادقعليه‌السلام عن معنى هذه الاية فقال : « عائشة هي نكثت ايمانها »(٤) .

وقوله تعالى :( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ) (٥) كما روى سالم بن مكرم عن ابيه في معنى هذه الاية الكريمة ، قال : سمعت ابا جعفرعليه‌السلام يقول : هي الحميراء.

واخيراً نقف عند قول الصادق الامينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، حيث يجلو الحيرة ويزيح اللثام عن نفسيات ونوازع هذه المرأة العجيبة ، حيث جاء في صحيح البخاري بأسناده عن نافع ، عن عبدالله ، قال : قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌

__________________

(١) ذيت وذيت ، مثلُ كيت وكيت.

(٢) الكافية : ٣٤ ح ٣٥.

(٣) سورة النمل ٩٢ : ١٦.

(٤) رواه العياشي في تفسيره ٢ : ٢٦٩ ح ٦٥.

(٥) العنكبوت : ٤١ ، رواه الكراجكي في كنز الفوائد ١ : ٤٣٠ ح ٧.

٤٦

خطيباً واشار نحو مسكن عائشة فقال : « هنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان »(١) .

حديث عائشة عن هزيمة اصحاب الجمل

لقد اصطف الطرفان في الموضع المعروف بالخُريبة القريب من البصرة ، ومن ثمّ تهيؤا للقتال ، وكان اميرُ المؤمنين يناشدهم بالرجوع الى العقل وحقن دماء المسلمين ، لكنهم أصروا على الحرب ، وكانت عائشة على ظهر جملها ( عسكر )(٢) تُؤلب وتحرض الناس على القتال.

وإذا كان ( عسكر ) في بداية الامر عند خروج عائشة من مكّة تريد البصرة متباهياً على اقرانه ، حيث كُلّف بحمل ام المؤمنين على ظهره دون غيره ، وما هذا الا تكريم له ، لكن المسكين لا يدري ما تؤول إليه عاقبة امره ، حتى وقف في ذلك اليوم العصيب وهو يوم الخميس ١٠ جمادى الثانية سنة ٣٦ ه‍ ، وكانت على ظهره ام المؤمنين عائشة والسهام تتساقط عليه كالمطر ، ورمي الهودج بالنشاب والنبل حتى صار

__________________

(١) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٧.

(٢) عسكر : اسم جمل عائشة اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن وقد هرب منها عند بيعة الامامعليه‌السلام بالخلافة ، فأتى مكّة وصادف فيها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم واخرين من بني اميّة ، فأعطى عائشة وطلحة والزبير اربعمائة الف درهم ، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكراً ، وكان قد اشتراه بمائتي دينار.

انظر : مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٧

كالقنفذ(١) ، لابد انه لعن ذلك اليوم الذي استوت فيه على ظهره عائشة ، وكم كان بوده ان يقذا هذه الهودج الذي يحمل الشرّ بداخله الى الجحيم ويهرب بجلده ، لكنه لا يستطيع حيث بني ضبة يتسابقون على مسك زمامه ، وكلما قطعت يد ماسك الزمام ، أخذه رفيقه الاخر حتى تقطع يده ، وهكذا أربت الايدي التي قطعت على السبعين يداً(٢) ، فأين يجد المسكين عسكر فرصة للهروب ، حتى ضربه رجل على عجزه فسقط لجنبه ، وفي خبر حبة القرني قال : كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجاً أشدّ منه(٣) . اما عن حديث عائشة عن هزيمة القوم ، فقد روى الواقدي ، عن رجاله العثمانية عن عائشة ، في ذكر الحال وهزيمة القوم في الحرب وشرح الصورة ورأيها فيما كان ذلك ، فقال : حدثنا محمد بن حميد ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن امها كبشة بنت كعب ، قالت : كان أبي لقي على عثمان حُزناً عظيماً وبكاهُ ولم يمنعهُ من الخروج إلا انّ بصرهُ ذهبَ ، ولم يُبايع علياً ولم يقرَبه بُغضاً له ومقتاً ، وخرج عليّعليه‌السلام من المدينةِ فلما قدمت عائشةُ منصرفةً من البصرة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٣) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٢.

وروى الواقدي ، عن موسى بْنِ عبدِاللهِ ، عن الحسين بْنِ عطيَّة ، عن ابيه ، قال شهدتُ الجملَ مع عليّعليه‌السلام ، فلقد رأيتُ جمل عائشة وعليه هَوْدَجُها وعليه دروع الحديد ؛ ثمّ لقد رأيتُ فيه من النبلِ والنُشابِ أمراً عظيماً ، ثمّ عُقر فما سمعتُ كصوته شيئاً قط.

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٧٧ ، نهاية الارب ٢٠ : ٧٧.

٤٨

جاءَها أبي فسلّمَ على الباب ، ثمّ دخل وبينها وبينهُ حجَابٌ فذكرت له بعض الامر ولم تشرحهُ له ، فلما أمسينا بعثنا الى عائشة واستأذنا عليها فأذِنتْ لنا ، قالت كبشة : فدخلتُ في نسوة من الانصار فحدثتنا بمخرجها وأنها لا تظنُّ الامر يبلغُ الى ما بلغَ.

ثم قالت : لقد عُمِلَ لي على هودجِ جملي(١) ، ثمّ ألبسَ الحديد ودخلتُ فيه ، وقمتُ في وسطٍ من الناس أدْعو إلى الصُلْحِ والى كتاب اللهِ والسنة ، فليس أحدٌ يسمع مِنْ كلامي حرفاً ، وعجَّلَ من لقينا بالقتال ، فرموا النبل وصرعتُهُم القومُ فلا أُدْرك حتى قُتِلَ من أصحاب عليِّ رجلٌ أو رجلانِ ، ثمّ تقاربَ الناسُ ولحُمَ الشرّ فصار القوم ليس لهم همّةٌ إلا جملي ، ولقد دخلتْ عليَّ سهامٌ فجرحتني ـ فأخرجت ذِراعها وأرتنا جرْحاً على عَضُدِها فبكتْ وأبكتنا ـ قالت : وجعل كلّما أخذ رجلٌ بخطام جملي قُتلَ ، حتى أخذهُ ابنُ أُختي عبدالله ، فصحتُ به وناشدتهُ بالرحمِ أنْ يتجافاني.

فقال : يا أُماه ! هو الموتُ ، يُقتلُ الرجلُ ـ وهو عظيم الغِنى عن الأصحاب ـ على نيته خيرٌ مِنْ أنْ يُدْرك وقد فارقتهُ نيتهُ.

__________________

(١) روى بن ابي سبرة ، عن علقمه بن ابي علقمة ، عن ابيه ، قال : جعلنا الهودج من خشب فيه مسامير الحديد ، وفوقه دروع من حديد ، وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدمٌ احمرُ ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك من القوم.

انظر : الاخبار الطوال : ١٤٩ ، الفتوح م ١ : ٤٨٨ ، مناقب الخوارزمي : ١٨٨.

٤٩

فصحت : واثُكلَ اسماء ! فقال : يا أُماهُ ! اِلْزمي الصمتَ وقد لَحُمَ ما ترينَ ! فأمسكْتُ. وكان ممن معنا فتيانٌ احداثٌ مِنْ قريشٍ وكان لا علمَ لهم بالحرب ولم يشهدوا قتالاً ، فكانوا جُزراً للقوم ، فإنا لعلى ما نحن فيه وقد كان الناسُ كُلُّهم حولَ جَملي فأُسْكُتِوا ساعةً ، فقلتُ : خيرٌ ام شرّ ؟ إنّ سكوتكم ضِرْسُ القتال ، فإذا ابنُ ابي طالب أنظرُ إليه يباشر القتالَ بنفسه واسمعهُ يصيح : « الجمل ! الجمل ! ». فقلت : أراد والله قتلي ، فإذا هو قد دنا منه ومعه محمد بنُ أبي بكر أخي ومُعاذ بنُ عبيدالله التميمي وعمارُ بنُ ياسر فقطعوا البطانَ ، وأحتملوا الهودجَ فهو على أيدي الرجال يَرّفلُونَ به ، إذْ تفرقَ من كان معنا فلم أُحِسَّ لهم خبراً ، ونادى منادي عليّ بن ابي طالب : « لا يُتبعْ مُدبرٌ ، ولا يُجهز على جريحٍ ، ومَنْ طرحَ السِلاحَ فهو آمِنٌ ».

فرجعْت الى الناس أرواحُهُم فمشوا على الناس واستحيوا من السعْي ، فأُدْخِلْتُ منزلَ عبدالله بن خلف الخُزاعي وهو والله رجلٍ قد قُتِلَ وأهلُهُ مستعبرونَ عليه ، ودخل معي كلُّ من خاف علياً مِمَّن نصب له ، وأحْتُمل ابنُ أختي عبدالله جريحاً ، فوالله إنّي لعلى ما انا عليه وأنا أسألُ ما فعل أبو محمد طلحةُ ؟ إذ قال قائل : قُتِلَ ! فقلتُ : ما فعلَ أبو سليمانَ ؟ فقيل : قد قُتلَ ! فلقد رأيتُني تلك الساعةَ جَمدتْ عيناي وانقطعتُ مِنَ الحُزْنِ واكثرتُ الاسترجاعَ والندامةَ ، وذكرتُ من قُتِلَ فبكيتُ لِقتلِهم فنحن على ما نحن عليه ، وأنا أسأل عن عبيدالله ، فقيل لي : قُتِلَ فأزددتُ هَمّاً وغَمّاً حتى كاد ينصدعُ قلبي ، فوالله لقد بقيتُ

٥٠

ثلاثةَ ايام بلياليهنّ ما دخلَ فمي طعامٌ ولا شرابٌ ، وإني عند قومٍ ما يُقصِّرونَ في ضيافتي ، وإنّ الخُبُر في منازلهم لكثيرُ ، ولكنّي أُعالجُ الشِبعَ من الطعام فما أقدِرُ ، فنعوذ باللهِ من الفتنةِ ! ولقد كُنتُ ألَّبتُ على عثمان حتى نِيلَ منهُ ما نيلَ ، فلما قُتلَ ندمتُ وعلمتُ أنّ المسلمين لا يستخلفون مِثلَهُ أبداً ، كان والله أجلّهُم حِلْماً ، وأعبَدهم عبادةً ، وابذلهم عند النائبةِ ، وأوْصَلهُم للرحمِ.

قالتْ كبشة بنتُ كَعْبٍ ، فرجعتُ الى أبي فقال : ما حَدّثتُكم به عائشة ؟ فأخبرتُهُ بما قالت. فقال : يرحمُ اللهُ عائشة ويرحمُ الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشدَّ الناسِ عليه ، ولقد فزعتْ وثابتْ وأرادتْ ان تأخذ بثأرهِ فجاء خِلافُ ما أرادتْ فرحمهما اللهُ جميعاً ، ثمّ قال : رحمَ اللهُ عُمَر بن الخطاب كان والله يرى هذا كُلّهُ ، قال يوماً : إن كان يصيرُ اختلافٌ فأنما يكون بينكم ، وإن كان بينكم دخلَ عليكم ما تكرهُونَ(١) .

* * *

__________________

(١) انظر مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٧ ، ٣٧٩ ، ٣٨٠.

٥١

٥٢

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه :

هو السيد ضامن ابن السيد شدقم بن زين الدين علي بن بدر الدين حسن النقيب ابن حسين الشهيد ابن علي بن شدقم بن ضامن بن محمد الحمزي الحسيني المدني ، من ذرية ابي القاسم الطاهر المحدث بن يحيى النابه بن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيدالله الاعرج ابن الحسين الاصغر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام (١) .

وجده بدر الدين الحسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة ٩٢٢ الذي ينقل عنه السيد ضامن في كتابه ( التحفه )(٢) .

ولم نعثر على سنة مولده ، وأما سنة وفاته فيستفاد مما جاء في مجلة المجمع العراقي(٣) ، وفي مجلة سومر العراقية(٤) ، من الحديث

__________________

(١) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

(٢) الذريعة ٣ : ٤١٩.

(٣) مجلة المجمع العراقي ٦ : ٢٢٧.

(٤) مجلة سومر ١٣ : ٥٠.

٥٣

عن الجزء الثالث من كتابه ( تحفة الازهار ) انه كان حياً سنة ١٠٨٨ ه‍(١) .

مكانته العلمية :

كان المصنف; عالماً فاضلاً اديباً كاتباً مشهوراً ، قال المرحوم محسن الامين : « والذي وجدته في مسودة الكتاب ( تحفة الازهار ) هو كما ذكر : ضامن بن شدقم بن علي المعروف بين المؤلفين ».

وابوه أيضاً كان عالماً كما ذكر المرحوم محسن الامين : « في كتاب يظن انه اسمه كتاب ( الانوار ) مؤلفه من اصحابنا من اهل أواسط القرن الثالث عشر ، رأيته في بغداد عام ١٣٥٢ ما صورته :

السيد ضامن ابن السيد العالم السيد شدقم المدني »(٢) .

وقال عنه صاحب الاعلام : ضامن بن شدقم بن علي بن حسن النقيب المدني : أديب إمامي ، له علم بالانساب. صنف ( تحفة الازهار وزلال الانهار في نسب الائمة الاطهار ) نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد تحت رقم (٦٥٧) ، ونسخة ثانية مجلدان ، في مكتبة محمد رضا كاشف الغطاء ، بالنجف(٣) .

وذكر هذا الكتاب صاحب الذريعة ، فقال : وهو كبير في مجلدين المجلد الاول في الحسنين أوله : ( الحمدلله المحسن المتفضل الكريم

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٢.

(٣) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٤

الوهاب ، ذو الجود والنعم الجسام بغير حساب إني قد جمعت هذه الحديقة الفائقة الانيقة الزاهرة المثيرة ، فرتبتها على أحسن ترتيب في نسل ابي محمد الحسن ).

وأول المجلد الثاني : ( الحمدُ لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجازى ، ولا شريك له فيوازي لما مَنَّ الله تعالى عليّ باتمام الجلد الاول من تحفة الازهار وزلال الانهار ، فحداني الشوق الى إلحاق الجلد الثاني ، وهو مختص بنسب أبناء ابي عبدالله الحسين السبط ، ورتبته على ترتيب المجلد الاول المختص بنسب اولاد ابي محمد الحسن ، والعقب في الحسين منحصر في إبنه عليّ الاوسط زين العابدين ...

وعند ذكر جعفر الحجة كما جاء في نسبه قال : الى عامنا هذا سنه ثمان وثمانون والف(١) .

وعن الكتاب قال السيد محسن الامين : وفي النسخة التي رأيناها في طهران قال في بعض المواضع فيها : يقول جامعه الفقير الى الله الغني ، ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني : وصلت الى البصرة في شهر ربيع الثاني سنة ١٠٦٨ ه‍ فأجتمعت بالسيد الشريف الحسيب النسيب عمدة السادة النجباء ، وزبدة الاماثل الاطباء ، أو الطبيب الحاذق ، وبقية الحكماء الفائق ، عبد الرضا بن شمس الدين بن علي. وفي موضع آخر يقول : جامعه الفقير الى الله الغني ضامن بن شدقم بن

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٥

علي الحسيني المدني ، وصلت الى الدورق(١) في العشر الاول من جمادى الثانية سنة ١٠٦٨ ه‍ ، وفي شهر ذي الحجة سنة ١٠٩٢ ه‍ اجتمعت في البصرة بالسيد ناجي الخ وفي شهر شوال سنة ١٠٨٠ ه‍ اجتمعت بالسيد يحيى في اصفهان الخ وفي جمادى الثانية سنة ١٠٨٢ ه‍ اجتمعت في اصفهان بالسيد يعقوب الخ فذكروا لي انسابهم.

ويظهر من كتابه انه ساحَ وكتب في سياحته جملة من الانساب.

ومن شعرهِ :

سبحان من اصبحت مشيئتهُ

جارية في الورى بمقدارِ

في عامنا اغرق العراق وقد

احرق ارض الحجاز بالنارِ

كان من المعاصرين للسيد زين العابدين بن نور الدين بن عليّ بن الحسين الموسوي ـ يروي السيد عبد الرضا بن شمس الدين بن علي الحسيني نزيل البصرة ، من العلماء الاجلة في عصره ، ويظهر انه من تلاميذ البهائي ، والسيد الداماد(٢) .

* * *

__________________

(١) الدورق : بفتح اوله ، وسكون ثانيه ، بلد بخوزستان ، وهو قصبة كورة سرق يقال لها : دورق الفرس ، فيها آثار قديمة لقباذ بن دارا ، وقد نسب إليها قوم من الرواة ، منهم : أبو عقيل الدورقي الازدي التاجي ، واسمه بشير بن عقبة ، سمع الحسن وقتادة وغيرها. وقد نسب قوم الى لبس القلانس الدورقية منهم : احمد بن ابراهيم بن زيد الدورقي ، وقيل ان الانسان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له : دورقي.

أنظر : معجم البلدان ٢ : ٤٨٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

٥٦

التعريف بالكتاب

لقد صنف السيد ضامن كتابه هذا عن أحداث فتنة البصرة التي اشعل فتيلها الزمرة الناكثة عند تولي امير المؤمنينعليه‌السلام زمام الخلافة بعد مقتل عثمان ، وسماهُ ب‍ ( وقعة الجمل ) ، ودوّن المصنف; الاحداث والوقائع التي شهدتها مدينة البصرة بعد انحياز رموز الشر إليها ، تدعو الناس الى نكث بيعة الامام عليّعليه‌السلام ، وَتعدُّ العدَّة من الرجال والسِّلاح لقتاله والقضاء على حكومته الفتية.

لقد جاء هذا الكتاب وان كان مختصراً ، إلا انه كان غزيراً في مادتهِ التي لا يستغني عنها الباحث عن الحقيقة في بطون الكتب القديمة ، والتي حفظت لنا التاريخ.

نسخة الكتاب ومنهج التحقيق :

لقد تمت مقابلة النسخة الخطّية التي حصلت عليها من ( مركز احياء الميراث الاسلامي ) والتي جعلتها كأصل مع المصادر التي دونت احداث معركة الجمل من كلا الفريقين ، كما اشرتُ الى الاختلاف الذي وقع بين النسخة والمصادر ، وقد علقت عليها في هامش الكتاب.

٥٧

كما اشرتُ الى بعض الوقائع والاحداث التي لم يذكرها المصنف ، واشرت إليها في الهامش ايضاً ، مع ترجمة بعض من ورد ذكرهم في النسخة الخطية.

كما قمتُ بكتابة مقدمة تمهيدية لهذا السفر القيم ، وذكرت بإيجاز الاسباب التي دعت الذين سماهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بالناكثين ، الى نكث البيعة ، والاستدلال بما ورد من أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بحق العترة: وبحق من ناصبهم العداء.

كما ذكرت رسائل الناكثين وعائشة الى من كتبوا لهم يطالبونهم بنكث بيعة امير المؤمنينعليه‌السلام وتأليب الناس على حكومته ، كما تطرقت الى موقف طلحة والزبير من قضية حصار عثمان وتحريض الناس على قتله ثمّ بعد ذلك المطالبة بدمه.

نسأل الله تعالى ان يثيبنا على عملنا هذا ، ونأمل ان يخرج هذا الكتاب بحلةٍ جديدة ليضع بين يدي القارئ الكريم ، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.

سيد تحسين آل شبيب الموسوي

* * *

٥٨

٥٩

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167