وقعة الجمل

وقعة الجمل22%

وقعة الجمل مؤلف:
المحقق: السيد تحسين آل شبيب الموسوي
تصنيف: متون تاريخية
الصفحات: 167

وقعة الجمل
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38602 / تحميل: 6485
الحجم الحجم الحجم
وقعة الجمل

وقعة الجمل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والزبير يقيمان حيث ادركهما الصلح على ما في ايديهما ، حتى يرجع امين الفريقين ورسولهم كعبُ بن سُور من المدينةِ ، ولا يضّار واحد من الفريقين الاخر في مسجد ، ولا سوق ، ولا طريق ، ولا قرضة(١) ، بينهم عيبة مفتوحة ، حتى يرجع كعب بالخبر ، فإنّ رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير ، فالامر امرهما ، وإن شاء عثمان حتى يلحق بطيته(٢) ، وإن شاء دخل معهما ، وان رجع بأنهما لم يُكرْها فالامر أمر عثمان ، فإنّ شاء طلحة والزبير ، أقاما على طاعة عليّ ، وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما ، والمنجون اعوانَ الفالج(٣) »(٤) .

عائشةُ أمّ المؤمنين تنبحها كِلابُ الحوأبِ

لقد حذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنةِ التي اخبر بهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

وجاء هذا التحذير في جمعٍ من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه :

__________________

(١) القرضة : الموضع من النهر يستقي منه ، ومن البحر محط السفن.

(٢) طيته : اي لوجهه الذي يريده.

(٣) الفالج : الظافر الفائز.

(٤) جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٢١.

٤١

« ليتَ شِعْري أيَّتُكنَّ صاحبة الجَملِ الأَدبَب(١) ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتلُ عن يَمينها وشِمالها خَلقٌ كثيرٌ ، كُلُّهم في النار ، وتنجُو بعد ما كادَتْ »(٢) .

وفي حديث آخر فيما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه ، ثمّ اردفه بتحذير شديد الى عائشة :

« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثمّ قال لعائشة : « اياك ان تكونيها »(٣) ومرة اخرى يصرّحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ باسمها علناً كما جاء في رواية عليّ بن مُسهر ، عن هشام بن عُرْوة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ : « يا عائشة إنّي رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملاً يحملك في سدافة(٤) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت »(٥) .

وفي رواية سالم بن ابي الجعد ، انه ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ خروج بعض نسائه فضحكت عائشة ، فقال : « انظري يا حميراء لا تكونين هي » ثمّ التفت الى عليّ فقال : « يا ابا الحسن إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها »(٦) .

__________________

(١) الادبب : الجمل الكثير الشعر ، القاموس : ١٠٩.

(٢) اعلام النبوة : ١٥٥ ، مناقب آل ابي طالب ٣ : ١٤٩.

(٣) ورد الحديث بهامش الكامل في التاريخ ٣ : ٣٦٦.

(٤) السدافة : الحجاب والستر.

(٥) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٤٣٢ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٥.

(٦) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٤.

٤٢

اذن ، جميع القرائن الواردة في احاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، سواء كانت تلويحاً أو تلميحاً تدلُّ على انّ المعنية بصاحبة الجمل هي عائشة. وكانت هي أيضاً تعلم علم اليقين بأنها هي التي تنبحها كلاب الحوأب ! كيف لا تعلم هي صاحبة الجمل وكثير من المسلمين يعرفون بأن لها يوماً تنفرُ فيه مع الغادرين والناكثين ؟

فعن حُذيفة قال : لو احدثكم بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لوجمتموني(١) ! قالوا : سبحان الله نحن نفعل ؟ قال : لو احدثكم أنّ بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها تقاتلكم ، صدّقتم ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدّق بهذا ؟

قال : تأتيكم أمّكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها من حيث يسؤكم وجوهكم(٢) .

بعد هذه المقدمة الموجزة ، هل يمكننا ان نصدق على ان عائشة عند مسيرها الى البصرة ، وعلمت بالموضع أنّه هو الحوأب الذي اخبرها رسول الله به ، استرجعت وأرادت الرجوع. كما ورد الخبر عند كثير من الرواة ، فيذكر المسعودي : ( وسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فأنتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فعوتْ كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما

__________________

(١) يقال وجم الشيء اي كرهه.

(٢) مناقب آل ابي طالب ١ : ١٤٠.

٤٣

اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : رُدُّوني الى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، لا حاجة لي في المسير ، فقال الزبير : بالله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس ، فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم ، فكان ذلك أوّل شهادة زور أقيمت في الاسلام )(١) .

فمن يقرأ الحديث في الوهلة الاولى يعتقد أو يتصور ان عائشة المسكينة قد غرر بها ، وأرادت الاصلاح بين فئتين مؤمنتين عند مسيرها الى البصرة ، وعندما بلغت الموضع الذي نبحتها كلابه ، واستفسرت من سائق جملها واعلمها انه الحوأب تذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لها ، فأسترجعت وصاحت ردوني ، كأنها ندمت على خروجها ، وأرادت العودة لولا قسم الزبير وطلحة بأن هذا ليس هو الحوأب ! وايضاً لولا شهادة الخمسين علجاً لصفعت الزبير وطلحة على فعلهما القبيح ، ولعقرت الجمل الذي يحمل على ظهره السوء والمنكر.

لكن عائشة كانت تعلم علم اليقين أنّ هذه الشهادة هي شهادة زور ، وهي على قناعة بأن هذا المكان هو الحوأب بعينه ، وان الجمل الذي يحملها هو الذي أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ . وهذا ما يؤيده كثير من القرائن والحجج الدامغة التي خلفتها لنا ام المؤمنين عائشة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٤

فهي ألم تترك قول الله تعالى خلف ظهرها ؟ وتخرج متبرجة بين الملأ من الناس والعسكر ، مخالفة لامر الله تعالى ، والله تعالى يقول في خطابه لنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ :( وقرن في بيوتكنّ ولا تتبرجنّ تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة ) (١) .

وإذا كانت ارادت الرجوع لمجرد سماعها اسم الموضع ، فما بالها لم ترجع عندما تواقف الجيشان واطبقت حلقات الفتنة ، ثمّ انها لم تكتف ان تجلس في بيتها وتراقب الموقف وما ستؤول إليه الامور ، بل خرجت الى الحرب ووقفت امام جيش الغدر تحرض وتؤلب الناس على القتال ، وتلقي عليهم الخطب الرنانة لإثارة الحماس فيهم والاستبسال في القتال لكسب هذه الجولة التاريخية ، وتنهي حكومة العدل بقيادة ابن عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

هل استرجعت وقررت الخروج ولو في اللحظات الحالكة التي مرت بها عندما نشب القتال ، وهي ترى الناس حولها أكواماً من الجثث مقطوعة الايدي والرؤوس ؟

هل كانت ستعظم ما فعلته من إباحة دماء المسلمين ويُتْم اطفالهم ، وزعزعة الحياة الاجتماعية في البصرة.

لكن قول الامام عليّعليه‌السلام لها كان شافياً ، وقاطعاً عنها كل سبيل ،

__________________

(١) الاحزاب ٣٣ : ٣٣.

٤٥

ففي رواية الاصبغ بن نباتة ، قال : لما عقر الجمل وقف عليّعليه‌السلام على عائشة ، فقال لها : « ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : ذيت وذيت(١) . فقال : « اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأت أذنيك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ، أمّا أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأمّا أمواتهم ففي النار على ملة اليهود »(٢) .

هذه عائشة ام المؤمنين صاحبة الجمل الادبب ، وقد جاءت مصداقاً لقوله تعالى :( التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ) (٣) وقد سئل الامام الصادقعليه‌السلام عن معنى هذه الاية فقال : « عائشة هي نكثت ايمانها »(٤) .

وقوله تعالى :( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ) (٥) كما روى سالم بن مكرم عن ابيه في معنى هذه الاية الكريمة ، قال : سمعت ابا جعفرعليه‌السلام يقول : هي الحميراء.

واخيراً نقف عند قول الصادق الامينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، حيث يجلو الحيرة ويزيح اللثام عن نفسيات ونوازع هذه المرأة العجيبة ، حيث جاء في صحيح البخاري بأسناده عن نافع ، عن عبدالله ، قال : قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌

__________________

(١) ذيت وذيت ، مثلُ كيت وكيت.

(٢) الكافية : ٣٤ ح ٣٥.

(٣) سورة النمل ٩٢ : ١٦.

(٤) رواه العياشي في تفسيره ٢ : ٢٦٩ ح ٦٥.

(٥) العنكبوت : ٤١ ، رواه الكراجكي في كنز الفوائد ١ : ٤٣٠ ح ٧.

٤٦

خطيباً واشار نحو مسكن عائشة فقال : « هنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان »(١) .

حديث عائشة عن هزيمة اصحاب الجمل

لقد اصطف الطرفان في الموضع المعروف بالخُريبة القريب من البصرة ، ومن ثمّ تهيؤا للقتال ، وكان اميرُ المؤمنين يناشدهم بالرجوع الى العقل وحقن دماء المسلمين ، لكنهم أصروا على الحرب ، وكانت عائشة على ظهر جملها ( عسكر )(٢) تُؤلب وتحرض الناس على القتال.

وإذا كان ( عسكر ) في بداية الامر عند خروج عائشة من مكّة تريد البصرة متباهياً على اقرانه ، حيث كُلّف بحمل ام المؤمنين على ظهره دون غيره ، وما هذا الا تكريم له ، لكن المسكين لا يدري ما تؤول إليه عاقبة امره ، حتى وقف في ذلك اليوم العصيب وهو يوم الخميس ١٠ جمادى الثانية سنة ٣٦ ه‍ ، وكانت على ظهره ام المؤمنين عائشة والسهام تتساقط عليه كالمطر ، ورمي الهودج بالنشاب والنبل حتى صار

__________________

(١) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٧.

(٢) عسكر : اسم جمل عائشة اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن وقد هرب منها عند بيعة الامامعليه‌السلام بالخلافة ، فأتى مكّة وصادف فيها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم واخرين من بني اميّة ، فأعطى عائشة وطلحة والزبير اربعمائة الف درهم ، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكراً ، وكان قد اشتراه بمائتي دينار.

انظر : مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٧

كالقنفذ(١) ، لابد انه لعن ذلك اليوم الذي استوت فيه على ظهره عائشة ، وكم كان بوده ان يقذا هذه الهودج الذي يحمل الشرّ بداخله الى الجحيم ويهرب بجلده ، لكنه لا يستطيع حيث بني ضبة يتسابقون على مسك زمامه ، وكلما قطعت يد ماسك الزمام ، أخذه رفيقه الاخر حتى تقطع يده ، وهكذا أربت الايدي التي قطعت على السبعين يداً(٢) ، فأين يجد المسكين عسكر فرصة للهروب ، حتى ضربه رجل على عجزه فسقط لجنبه ، وفي خبر حبة القرني قال : كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجاً أشدّ منه(٣) . اما عن حديث عائشة عن هزيمة القوم ، فقد روى الواقدي ، عن رجاله العثمانية عن عائشة ، في ذكر الحال وهزيمة القوم في الحرب وشرح الصورة ورأيها فيما كان ذلك ، فقال : حدثنا محمد بن حميد ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن امها كبشة بنت كعب ، قالت : كان أبي لقي على عثمان حُزناً عظيماً وبكاهُ ولم يمنعهُ من الخروج إلا انّ بصرهُ ذهبَ ، ولم يُبايع علياً ولم يقرَبه بُغضاً له ومقتاً ، وخرج عليّعليه‌السلام من المدينةِ فلما قدمت عائشةُ منصرفةً من البصرة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٣) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٢.

وروى الواقدي ، عن موسى بْنِ عبدِاللهِ ، عن الحسين بْنِ عطيَّة ، عن ابيه ، قال شهدتُ الجملَ مع عليّعليه‌السلام ، فلقد رأيتُ جمل عائشة وعليه هَوْدَجُها وعليه دروع الحديد ؛ ثمّ لقد رأيتُ فيه من النبلِ والنُشابِ أمراً عظيماً ، ثمّ عُقر فما سمعتُ كصوته شيئاً قط.

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٧٧ ، نهاية الارب ٢٠ : ٧٧.

٤٨

جاءَها أبي فسلّمَ على الباب ، ثمّ دخل وبينها وبينهُ حجَابٌ فذكرت له بعض الامر ولم تشرحهُ له ، فلما أمسينا بعثنا الى عائشة واستأذنا عليها فأذِنتْ لنا ، قالت كبشة : فدخلتُ في نسوة من الانصار فحدثتنا بمخرجها وأنها لا تظنُّ الامر يبلغُ الى ما بلغَ.

ثم قالت : لقد عُمِلَ لي على هودجِ جملي(١) ، ثمّ ألبسَ الحديد ودخلتُ فيه ، وقمتُ في وسطٍ من الناس أدْعو إلى الصُلْحِ والى كتاب اللهِ والسنة ، فليس أحدٌ يسمع مِنْ كلامي حرفاً ، وعجَّلَ من لقينا بالقتال ، فرموا النبل وصرعتُهُم القومُ فلا أُدْرك حتى قُتِلَ من أصحاب عليِّ رجلٌ أو رجلانِ ، ثمّ تقاربَ الناسُ ولحُمَ الشرّ فصار القوم ليس لهم همّةٌ إلا جملي ، ولقد دخلتْ عليَّ سهامٌ فجرحتني ـ فأخرجت ذِراعها وأرتنا جرْحاً على عَضُدِها فبكتْ وأبكتنا ـ قالت : وجعل كلّما أخذ رجلٌ بخطام جملي قُتلَ ، حتى أخذهُ ابنُ أُختي عبدالله ، فصحتُ به وناشدتهُ بالرحمِ أنْ يتجافاني.

فقال : يا أُماه ! هو الموتُ ، يُقتلُ الرجلُ ـ وهو عظيم الغِنى عن الأصحاب ـ على نيته خيرٌ مِنْ أنْ يُدْرك وقد فارقتهُ نيتهُ.

__________________

(١) روى بن ابي سبرة ، عن علقمه بن ابي علقمة ، عن ابيه ، قال : جعلنا الهودج من خشب فيه مسامير الحديد ، وفوقه دروع من حديد ، وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدمٌ احمرُ ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك من القوم.

انظر : الاخبار الطوال : ١٤٩ ، الفتوح م ١ : ٤٨٨ ، مناقب الخوارزمي : ١٨٨.

٤٩

فصحت : واثُكلَ اسماء ! فقال : يا أُماهُ ! اِلْزمي الصمتَ وقد لَحُمَ ما ترينَ ! فأمسكْتُ. وكان ممن معنا فتيانٌ احداثٌ مِنْ قريشٍ وكان لا علمَ لهم بالحرب ولم يشهدوا قتالاً ، فكانوا جُزراً للقوم ، فإنا لعلى ما نحن فيه وقد كان الناسُ كُلُّهم حولَ جَملي فأُسْكُتِوا ساعةً ، فقلتُ : خيرٌ ام شرّ ؟ إنّ سكوتكم ضِرْسُ القتال ، فإذا ابنُ ابي طالب أنظرُ إليه يباشر القتالَ بنفسه واسمعهُ يصيح : « الجمل ! الجمل ! ». فقلت : أراد والله قتلي ، فإذا هو قد دنا منه ومعه محمد بنُ أبي بكر أخي ومُعاذ بنُ عبيدالله التميمي وعمارُ بنُ ياسر فقطعوا البطانَ ، وأحتملوا الهودجَ فهو على أيدي الرجال يَرّفلُونَ به ، إذْ تفرقَ من كان معنا فلم أُحِسَّ لهم خبراً ، ونادى منادي عليّ بن ابي طالب : « لا يُتبعْ مُدبرٌ ، ولا يُجهز على جريحٍ ، ومَنْ طرحَ السِلاحَ فهو آمِنٌ ».

فرجعْت الى الناس أرواحُهُم فمشوا على الناس واستحيوا من السعْي ، فأُدْخِلْتُ منزلَ عبدالله بن خلف الخُزاعي وهو والله رجلٍ قد قُتِلَ وأهلُهُ مستعبرونَ عليه ، ودخل معي كلُّ من خاف علياً مِمَّن نصب له ، وأحْتُمل ابنُ أختي عبدالله جريحاً ، فوالله إنّي لعلى ما انا عليه وأنا أسألُ ما فعل أبو محمد طلحةُ ؟ إذ قال قائل : قُتِلَ ! فقلتُ : ما فعلَ أبو سليمانَ ؟ فقيل : قد قُتلَ ! فلقد رأيتُني تلك الساعةَ جَمدتْ عيناي وانقطعتُ مِنَ الحُزْنِ واكثرتُ الاسترجاعَ والندامةَ ، وذكرتُ من قُتِلَ فبكيتُ لِقتلِهم فنحن على ما نحن عليه ، وأنا أسأل عن عبيدالله ، فقيل لي : قُتِلَ فأزددتُ هَمّاً وغَمّاً حتى كاد ينصدعُ قلبي ، فوالله لقد بقيتُ

٥٠

ثلاثةَ ايام بلياليهنّ ما دخلَ فمي طعامٌ ولا شرابٌ ، وإني عند قومٍ ما يُقصِّرونَ في ضيافتي ، وإنّ الخُبُر في منازلهم لكثيرُ ، ولكنّي أُعالجُ الشِبعَ من الطعام فما أقدِرُ ، فنعوذ باللهِ من الفتنةِ ! ولقد كُنتُ ألَّبتُ على عثمان حتى نِيلَ منهُ ما نيلَ ، فلما قُتلَ ندمتُ وعلمتُ أنّ المسلمين لا يستخلفون مِثلَهُ أبداً ، كان والله أجلّهُم حِلْماً ، وأعبَدهم عبادةً ، وابذلهم عند النائبةِ ، وأوْصَلهُم للرحمِ.

قالتْ كبشة بنتُ كَعْبٍ ، فرجعتُ الى أبي فقال : ما حَدّثتُكم به عائشة ؟ فأخبرتُهُ بما قالت. فقال : يرحمُ اللهُ عائشة ويرحمُ الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشدَّ الناسِ عليه ، ولقد فزعتْ وثابتْ وأرادتْ ان تأخذ بثأرهِ فجاء خِلافُ ما أرادتْ فرحمهما اللهُ جميعاً ، ثمّ قال : رحمَ اللهُ عُمَر بن الخطاب كان والله يرى هذا كُلّهُ ، قال يوماً : إن كان يصيرُ اختلافٌ فأنما يكون بينكم ، وإن كان بينكم دخلَ عليكم ما تكرهُونَ(١) .

* * *

__________________

(١) انظر مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٧ ، ٣٧٩ ، ٣٨٠.

٥١

٥٢

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه :

هو السيد ضامن ابن السيد شدقم بن زين الدين علي بن بدر الدين حسن النقيب ابن حسين الشهيد ابن علي بن شدقم بن ضامن بن محمد الحمزي الحسيني المدني ، من ذرية ابي القاسم الطاهر المحدث بن يحيى النابه بن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيدالله الاعرج ابن الحسين الاصغر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام (١) .

وجده بدر الدين الحسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة ٩٢٢ الذي ينقل عنه السيد ضامن في كتابه ( التحفه )(٢) .

ولم نعثر على سنة مولده ، وأما سنة وفاته فيستفاد مما جاء في مجلة المجمع العراقي(٣) ، وفي مجلة سومر العراقية(٤) ، من الحديث

__________________

(١) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

(٢) الذريعة ٣ : ٤١٩.

(٣) مجلة المجمع العراقي ٦ : ٢٢٧.

(٤) مجلة سومر ١٣ : ٥٠.

٥٣

عن الجزء الثالث من كتابه ( تحفة الازهار ) انه كان حياً سنة ١٠٨٨ ه‍(١) .

مكانته العلمية :

كان المصنف; عالماً فاضلاً اديباً كاتباً مشهوراً ، قال المرحوم محسن الامين : « والذي وجدته في مسودة الكتاب ( تحفة الازهار ) هو كما ذكر : ضامن بن شدقم بن علي المعروف بين المؤلفين ».

وابوه أيضاً كان عالماً كما ذكر المرحوم محسن الامين : « في كتاب يظن انه اسمه كتاب ( الانوار ) مؤلفه من اصحابنا من اهل أواسط القرن الثالث عشر ، رأيته في بغداد عام ١٣٥٢ ما صورته :

السيد ضامن ابن السيد العالم السيد شدقم المدني »(٢) .

وقال عنه صاحب الاعلام : ضامن بن شدقم بن علي بن حسن النقيب المدني : أديب إمامي ، له علم بالانساب. صنف ( تحفة الازهار وزلال الانهار في نسب الائمة الاطهار ) نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد تحت رقم (٦٥٧) ، ونسخة ثانية مجلدان ، في مكتبة محمد رضا كاشف الغطاء ، بالنجف(٣) .

وذكر هذا الكتاب صاحب الذريعة ، فقال : وهو كبير في مجلدين المجلد الاول في الحسنين أوله : ( الحمدلله المحسن المتفضل الكريم

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٢.

(٣) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٤

الوهاب ، ذو الجود والنعم الجسام بغير حساب إني قد جمعت هذه الحديقة الفائقة الانيقة الزاهرة المثيرة ، فرتبتها على أحسن ترتيب في نسل ابي محمد الحسن ).

وأول المجلد الثاني : ( الحمدُ لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجازى ، ولا شريك له فيوازي لما مَنَّ الله تعالى عليّ باتمام الجلد الاول من تحفة الازهار وزلال الانهار ، فحداني الشوق الى إلحاق الجلد الثاني ، وهو مختص بنسب أبناء ابي عبدالله الحسين السبط ، ورتبته على ترتيب المجلد الاول المختص بنسب اولاد ابي محمد الحسن ، والعقب في الحسين منحصر في إبنه عليّ الاوسط زين العابدين ...

وعند ذكر جعفر الحجة كما جاء في نسبه قال : الى عامنا هذا سنه ثمان وثمانون والف(١) .

وعن الكتاب قال السيد محسن الامين : وفي النسخة التي رأيناها في طهران قال في بعض المواضع فيها : يقول جامعه الفقير الى الله الغني ، ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني : وصلت الى البصرة في شهر ربيع الثاني سنة ١٠٦٨ ه‍ فأجتمعت بالسيد الشريف الحسيب النسيب عمدة السادة النجباء ، وزبدة الاماثل الاطباء ، أو الطبيب الحاذق ، وبقية الحكماء الفائق ، عبد الرضا بن شمس الدين بن علي. وفي موضع آخر يقول : جامعه الفقير الى الله الغني ضامن بن شدقم بن

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٥

علي الحسيني المدني ، وصلت الى الدورق(١) في العشر الاول من جمادى الثانية سنة ١٠٦٨ ه‍ ، وفي شهر ذي الحجة سنة ١٠٩٢ ه‍ اجتمعت في البصرة بالسيد ناجي الخ وفي شهر شوال سنة ١٠٨٠ ه‍ اجتمعت بالسيد يحيى في اصفهان الخ وفي جمادى الثانية سنة ١٠٨٢ ه‍ اجتمعت في اصفهان بالسيد يعقوب الخ فذكروا لي انسابهم.

ويظهر من كتابه انه ساحَ وكتب في سياحته جملة من الانساب.

ومن شعرهِ :

سبحان من اصبحت مشيئتهُ

جارية في الورى بمقدارِ

في عامنا اغرق العراق وقد

احرق ارض الحجاز بالنارِ

كان من المعاصرين للسيد زين العابدين بن نور الدين بن عليّ بن الحسين الموسوي ـ يروي السيد عبد الرضا بن شمس الدين بن علي الحسيني نزيل البصرة ، من العلماء الاجلة في عصره ، ويظهر انه من تلاميذ البهائي ، والسيد الداماد(٢) .

* * *

__________________

(١) الدورق : بفتح اوله ، وسكون ثانيه ، بلد بخوزستان ، وهو قصبة كورة سرق يقال لها : دورق الفرس ، فيها آثار قديمة لقباذ بن دارا ، وقد نسب إليها قوم من الرواة ، منهم : أبو عقيل الدورقي الازدي التاجي ، واسمه بشير بن عقبة ، سمع الحسن وقتادة وغيرها. وقد نسب قوم الى لبس القلانس الدورقية منهم : احمد بن ابراهيم بن زيد الدورقي ، وقيل ان الانسان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له : دورقي.

أنظر : معجم البلدان ٢ : ٤٨٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

٥٦

التعريف بالكتاب

لقد صنف السيد ضامن كتابه هذا عن أحداث فتنة البصرة التي اشعل فتيلها الزمرة الناكثة عند تولي امير المؤمنينعليه‌السلام زمام الخلافة بعد مقتل عثمان ، وسماهُ ب‍ ( وقعة الجمل ) ، ودوّن المصنف; الاحداث والوقائع التي شهدتها مدينة البصرة بعد انحياز رموز الشر إليها ، تدعو الناس الى نكث بيعة الامام عليّعليه‌السلام ، وَتعدُّ العدَّة من الرجال والسِّلاح لقتاله والقضاء على حكومته الفتية.

لقد جاء هذا الكتاب وان كان مختصراً ، إلا انه كان غزيراً في مادتهِ التي لا يستغني عنها الباحث عن الحقيقة في بطون الكتب القديمة ، والتي حفظت لنا التاريخ.

نسخة الكتاب ومنهج التحقيق :

لقد تمت مقابلة النسخة الخطّية التي حصلت عليها من ( مركز احياء الميراث الاسلامي ) والتي جعلتها كأصل مع المصادر التي دونت احداث معركة الجمل من كلا الفريقين ، كما اشرتُ الى الاختلاف الذي وقع بين النسخة والمصادر ، وقد علقت عليها في هامش الكتاب.

٥٧

كما اشرتُ الى بعض الوقائع والاحداث التي لم يذكرها المصنف ، واشرت إليها في الهامش ايضاً ، مع ترجمة بعض من ورد ذكرهم في النسخة الخطية.

كما قمتُ بكتابة مقدمة تمهيدية لهذا السفر القيم ، وذكرت بإيجاز الاسباب التي دعت الذين سماهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بالناكثين ، الى نكث البيعة ، والاستدلال بما ورد من أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بحق العترة: وبحق من ناصبهم العداء.

كما ذكرت رسائل الناكثين وعائشة الى من كتبوا لهم يطالبونهم بنكث بيعة امير المؤمنينعليه‌السلام وتأليب الناس على حكومته ، كما تطرقت الى موقف طلحة والزبير من قضية حصار عثمان وتحريض الناس على قتله ثمّ بعد ذلك المطالبة بدمه.

نسأل الله تعالى ان يثيبنا على عملنا هذا ، ونأمل ان يخرج هذا الكتاب بحلةٍ جديدة ليضع بين يدي القارئ الكريم ، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.

سيد تحسين آل شبيب الموسوي

* * *

٥٨

٥٩

٦٠

٦١

٦٢

٦٣

مقدمة الكتاب

في السبب الموجب لوقعة الجمل

قال الشيخ المفيد(١) ; في أرشاده(٢) :

روي عن ابي ذر جندب بن عبدالله الغفاريرضي‌الله‌عنه قال : دخلت على أمير المؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام بالمدينة في زمن خلافة عثمانرضي‌الله‌عنه فرأيته مطرقاً رأسه ـ كئيباً ـ فقلتُ له : جعلتُ فداك ، ما أصاب قومك ؟!

فقالعليه‌السلام : صبراً جميل والله المستعان.

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد بن جبير ، المعروف بابن المع لم لان اباه كان معلماً بواسط.

وكان من اجلاء مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم ، قال عنه النجاشي :

فضله اشهر من ان يوصف في الفقه والكلام والرواية. ولد سنة ٣٣٦ ه‍ وتوفي سنة ٤١٣ ه‍ ، وصلّى عليه الشريف المرتضى بميدان الاشنان ، وضاق على الناس مع كبره ، ودفن في داره سنين ثمّ نقل الى مقابر قريش بالقرب من الامامين الكاظم والجواد. انظر : النجاشي : ٣٩٩ ، لسان الميزان ٥ : ٣٦٨ ، الفهرست : ٢٧٩ ، تاريخ بغداد ٣ : ٣١.

(٢) الارشاد ١ : ٢٤١ ، ٢٤٢ مع بعض الاختلاف اليسير.

٦٤

فقلت : والله إنّك لصبور.

قال : « فماذا أصنع ؟! ».

قلتُ : قُم وادع الناس الى نفسك ، واخبرهم أنّك اولاهم بالقيام واحقهم بالامر ، لما فضلك الله تعالى عليهم وعظم شأنك فيهم ، وقد سبق لك النصّ الصريح من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ في اماكن عديدة سمعوها منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

فإن دان لك الكل وتمّ لك الامر ذلك ما كنا نبغي ، وإلا فلا بد من ان يجيبك عشرة فتميل بهم على المتمردين اخوان الشياطين ، فينصرك الله تعالى عليهم ، لأنّك على الحقّ وهم على الباطل ، وهو قوله تعالى :

( وَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِمتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) (١) . وقوله تعالى :( كَم مِّن فِئَةْ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة بِإذنِ اللهِ واللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

فقالعليه‌السلام : « أتراهُ يا ابا ذر ؟! ».

قلتُ : والله ، إني لأرجو لك من اللهِ ذلك.

قالعليه‌السلام : « اني لا أرجو من كلِّ مائةٍ اثنين ، ألست تعلم من اين ذلك ؟ ، انما تنظر الناسُ الى قريشٍ ، وإنّ قريشاً تقول : إنّ آل محمّدٍ

__________________

(١) يونس ١٠ : ٨٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٤٩.

٦٥

يرون لهم فضلاً على سائر الناس ، وإنّهم اولى بالامر من دون قريش ، وإنّهم إنْ وَلُوهُ لم يخرج عنهم هذا السُّلطان الى احدٍ ابداً ، وحتى كان في غيرهم تداولتموهُ بينكم ، ولا ـ والله ـ لا تدفعُ قريشٌ إلينا السُّلطان وهم خاضعون ابداً ».

فقلتُ : أفلا تأمرني أرجعُ في آخرِ النّاس بمقالتك هذهِ ، فأقم وادعهم إليك.

قال [ لي ] : « يا ابا ذر ، ليس هذا زمان ذلك ».

قال أبو ذر; : فمضيتُ الى العراق ، فكلّما حدثتُ الناس بشيءٍ من فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ومناقبه التي أوجَبَها الله تعالى له على عباده بنصِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، زبروني وأهانوني ، حتى إنهم رموني الى الوليد بن عُقبه فحبسني(١) .

قال جدّي حسن المؤلف ( طاب ثراه )(٢) : وفي يوم السبت ثامن عشر من ذي الحجة سنة ٣٥ من الهجرة بايعت الناس أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام من المهاجرين والانصار وقوم من قريش وغيرهم ، فمنهم مَنْ أظهر الوفاق وهو مصر على النفاق.

فأمرعليه‌السلام كاتبه عبدالله بن رافع بتقسيم ما في بيت المال على المهاجرين لكل رجل ثلاثة دنانير ، ثمّ على الانصار مثل ذلك ، ثمّ من

__________________

(١) في الارشاد : الوحيد بن عقبه والصواب كما في الاصل.

(٢) جده بدر الدين حسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة ٩٩٢ ه‍.

٦٦

حضر من الناس كلهم الاحمر والاسود فيما صنع به مثل ذلك.

فقال سهيلُ بن حنيف الانصاري : يا أمير المؤمنين ، هذا غلامي بالامس فاعتقته اليوم(١) .

فقالعليه‌السلام : نعطيه كما نعطيك ، فأعطاه ثلاثة دنانير ولم يفضل أحداً على احدٍ.

وقد تخلف يومئذٍ عن المبايعة له عبدالله بن الزبير ، وجماعة من قريش ، وطلحة بن عبدالله ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن عمر ، وسعيدُ بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وسعد بن ابي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وحسان بن ثابت ، واسامةُ بن زيد ، وغيرهم من قريش. فصعدعليه‌السلام المِنبَر ، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، ثمّ قالعليه‌السلام (٢) :

« أيُّها الناس ، إنّكم بايعتموني على ما بُويعَ(٣) عليه غيري مَنْ كانَ قَبْلي ، وإنَّما الخيارُ الى الناسَ قبلَ أنْ يُبايعوا فإذا بايَعُوا فلا خِيارَ لهُم ، وإنّ على الامام الاستقامة(٤) وعلى الرّعيّةِ الاطاعة والتسليم ، وهذه بيعةٌ عامةٌ ، فَمَنْ رَغِبَ عنه رغب عن دين الاسلام واتبع غيرَ سبيل الهُدى(٥) ،

__________________

(١) بحار الانوار ٣٢ : ٣٨ ح ٢٤ ، آمالي الشيخ الطوسي ٢ : ٢٩٨.

(٢) الارشاد ١ : ٢٤٣ مع بعض الاختلاف اليسير.

(٣) في النسخة الخطبة : بايعتموني برضى منكم واختيار على ما بويع.

(٤) في الخطبة : على الاستقامة.

(٥) في الارشاد : اهله.

٦٧

ولم تَكُنْ بَيعتكم لي فلتة وليسَ أَمري وأمْركُم واحداً ، ألا وإِنّي أريدُكم للهِ عزّوجلّ وأنتم تريدونني لأَنْفُسِكُم ، وايْمُ اللهِ ، لأَنصحَنَّ(١) للخصوم ، ولأنصفنَّ للمظلوم(٢) ، وقد بَلغني عن ( عَبْدُاللهِ وسعدٍ ومروانٍ ومحمدٍ وحسانٍ واسامةٍ )(٣) امورٌ كَرِهْتُها ، والحقُّ بيني وبينَهُم ».

قال : فجلسوا جميعاً ، وتحدثوا نجياً ، ثمّ جاء إليه الوليد بن عُقبة بن ابي معيط وقال : يا أبا الحسن ، إنّك قد وترتنا جميعاً ! اما انا فقتلت ابي يوم بدر صبراً ، وخذلت اخي يومَ الدار.

واما سعيد فقتلت اباه يوم بدرٍ في الحرب وكان ثور(٤) قريش.

واما مروان فسخفت(٥) أباه عند عثمان إذ ضمه إليه(٦) .

ونحنُ نبايعك اليوم على ان تضع عنّا ما قد صنعنا ، وان تقتل قتلة

__________________

(١) في الاصل : لانصحى وهو تصحيف ، وقد أثبتناه من الارشاد.

(٢) في الاصل : لا نطعن وهو تصحيف ، والصواب كما اثبت من الارشاد.

(٣) في الارشاد [ سعد وابن مسلمة واسامة وعبد الله وحسان بن ثابت ].

(٤) سقطت من الاصل وهكذا وردت في البحار.

(٥) في الاصل : فأستخفيت فهي لا تلائم العبارة والصواب كما في البحار.

(٦) ما ذكره المسعودي في مروج الذهب م ٢ : ٣٦٢ قال : واتاه جماعة من تخلف عن بيعته من بني اميّة : منهم سعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة بن ابي معيط ، فجرى بينه وبينهم خطب ، وقال له الوليد : إنا لم نتخلف عنك رغبة عن بيعتك ، ولكنا قوم وترنا الناس ، وخفنا على نفوسنا ، فعذرنا فيما نقول واضح ، اما انا فقتلت أبي صبراً ، وضربتني حدا ، وقال سعيد بن العاص كلاماً كثيراً وقال له الوليد : اما سعيد فقتلت اباه ، واهنت مثواه ، واما مروان فإنّك شتمت اباه ، وعبت عثمان في ضمه اياه.

٦٨

عثمان ، فإنّا ان خفناك تركناك والتحقنا عنك الى غيرك.

فقالعليه‌السلام : « اما وتري فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم [ ما اصبتم فليس علي ] انه مالي ان اضع حق الله عنكم ولا عن غيركم ، وما قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم لقتلتهم بالامس ، ولكن لكم عليّ ان خفتموني ان أؤمنكم وان خفتكم ان أسيّركم فمضى الوليد الى أصحابه واخبرهم فتفرقوا على أظهار العداوة [ وأشاعة الخلاف ](١) ، وكتبوا الى معاوية بن ابي سفيان بالشام يستنهضونه في طلب دم عثمان ، وأوعدوه بالقيام معه وان يكونوا له اعواناً وانصاراً ، فأجابهم الى ذلك الا انه المؤثور(٢) عليهم.

اخبار الامام عليّعليه‌السلام بنقض القوم بيعتهم

فجاءَ عمّار بن ياسر الى ابي الهَيثم وابي ايوب وسهيل بن حنيف وجماعة من المهاجرين والانصار ، وقال : اعلموا ان هؤلاء النفر قد بلغنا عنهم ما هو كذا وكذا من الخلاف والطعن على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقاموا وأتوا إليه ، وقالوا : يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك هذا الحيّ من قريش فأنهم قد [ نقضوا بيعتهم لك وخالفوا أمرك ](٣) ، وقد دعونا في السِّرّ الى رفضك ، [ فهداك الله الى مرضاته وأرشدك الى

__________________

(١) أيضاً سقطت من الاصل. انظر بحار الانوار ٣٢ : ١٩.

(٢) يعني المقدم عليهم.

(٣) في البحار : نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك.

٦٩

عباده ](١) ، وذلك لانهم كرهوا الاسوة ، وفقدوا الأثرة ، لما واسيت بينهم وبين الاعاجم ، انكروا واستشاروا عدوّك وعظموه ، واظهروا الطلب في دم عثمان فرقةً للجماعة وتأليفا لاهل الضلالة ، [ فرأيك منهم سديد ، ونحن معك على كل باغ عنيد ](٢) .

فخرجعليه‌السلام ودخل المسجد مرتدياً بطاقٍ ، مؤتزراً ببردٍ قطري ، متقلداً بسيفه ، متنكباً على قوسه ، فصعد المنبر ، وقال :

بعد ان حمد الله عزّوجلّ واثنى عليه ، وصلى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ « اما بعد ، ايّها الناس ، فإنا نحمد الله ربنا والهنا ووليّنا ووليّ النعم علينا ، الذي اصبحت نعمتهُ علينا ظاهرةً ، وباطنةً امتناناً منه بغير قولٍ منّا ولا قوة لنشكر ام نكفر ، فمن شكر زاده ، ومن كفر عذّبه ، فأفضل النّاس عند الله منزلةً واقربهم من الله وسيلةً اطوعُهُم لامره واعلمهُم بطاعته واتبعهم لسنةِ [ نبيه محمد رسوله ](٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واحياهم لكتابه ليس لأحدٍ عندنا فضلٌ إلا بطاعةِ الله وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

هذا كتابُ الله بين أظهرنا ، وعهدُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وسيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلا جاهلٌ معاندٌ عن الحقّ منكر للصدق ، قال الله تعالى :( يا ايّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) .

__________________

(١) في البحار : هداك الله لرشدك.

(٢) لم ترد هذه العبارة في البحار.

(٣) في البحار : لسنة رسوله.

٧٠

ثم انّهعليه‌السلام صاح بأعلى صوته :( [يا ايّها الذين آمنوا ](١) أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فإن تولوا فإنّ الله لا يحبُ الكافرين ) .

ثم قال : يا معشر المهاجرين والانصار ،( أتمنون على الله [ورسوله ](٢) باسلامكم بل الله يمنّ عليكم ان هداكم للايمان ان كنتم صادقين ) . ثمّ قالعليه‌السلام : انا أبو الحسن ، ( وكان لا يقولوها إلا إذا غضب )(٣) . ثمّ قال : إلا ان هذِهِ الدنيا التي اصبحتم تتمنونها وترغبون فيها ، واصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له ، فلا تغرّنكم [ الحيوة الدّنيا ](٤) فقد حذرتموها فاستتموا نعَم الله بالصبر لانفسكم على طاعةِ اللهِ ، والذلّ لحكمهِ جلّ ثناؤه.

فأما هذا الفيء فليسَ لاحدٍ على أحدٍ فيه أثرة وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله ، وانتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتابُ الله به أقررنا وله اسلمنا ، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرضَ به فليتول كيف شاء فانّ العامل بطاعةِ اللهِ والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه.

ثم انهعليه‌السلام نزل عن المنبر وصلى ركعتين(٥) .

__________________

(١) لم ترد في البحار.

(٢) سقطت من الاصل.

(٣) في البحار : وكان يقولها إذا غضب.

(٤) لم ترد في البحار.

(٥) بحار الانوار ٣٢ : ١٩ ، ٢١.

٧١

مناشدة أمير المؤمنينعليه‌السلام للزبير وطلحة

ثم بعثعليه‌السلام عمّار بن ياسر وعبد الرحمن بن حَسْل الى طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وهما في ناحية من المسجد ، [ فأتيا بهما ](١) فجلسا بين يديه ، فقالعليه‌السلام لهما :

« نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وانا كارهٌ لها ؟ » قالا : نعم.

قال : « غير مجبورين ولا مقهورين(٢) فأسلمتما لي بيعتكما ، واعطيتماني عهدكما » ؟ قالا : نعم.

قال : « فما دعاكم بعد هذا الى ما أرى ».

قالا : اعطيناك بيعتنا على ان لا تقضي الامور ولا تقطعها من دوننا ، وان تستشيرنا في كل امرٍ ولا تستبدّ بذلك علينا ، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت ، [ فرأيناك قسمت القسم وقطعت الامر وقضيت بالحكم بغير مشاورتنا ولم تعلمنا ](٣) .

فقالعليه‌السلام : « لقد نقمتما يسيراً وارجأتما كثيراً ، فاستغفرا الله يغفر لكما.

__________________

(١) في البحار : فأتياهما فدعواهما فقاما.

(٢) في البحار : مقسورين.

(٣) في البحار : فأنت تقسم القسم وتقطع الامر وتمضي الحكم بغير مشورتنا ولا علمنا.

٧٢

ألا تخبراني ادفعتكما عن حقٍّ وجب لكما عليّ(١) فظلمتكما(٢) اياه ؟ ». قالا : معاذ الله !

قال : فهل استأثرتُ من هذا المال لنفسي بشيء ؟

قالا : معاذ الله.

قال : « أفوقع حكمٌ في حقٍّ لاحدٍ من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه ؟ »

قالا : معاذ الله.

قال : « فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي ؟ »

قالا : نعم ، خلافك لعمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه في القسم ، لأنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا ، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما افاء الله بأسيافنا ورماحنا ، وقد أوجفنا عليه بخيلنا [ ورجلنا وظهرت عليهم دعوتنا واخذناه قسراً وقهراً ](٣) ممن لا يرى الاسلام إلا كرهاً عليه.

فقالعليه‌السلام : « [ أمّا ما ذكرتما أني احكم بغير مشورتكما ](٤) فوالله ما كان لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها فخفت ان اردكم فتختلف الامة ، فلما أفضت اليّ نظرت في كتاب الله وسنة رسوله

__________________

(١) لم ترد في البحار.

(٢) في الاصل : وطلبتكما.

(٣) في الاصل : وركابنا على دعوة الاسلام لا جوراً ولا قهراً.

(٤) في البحار [ اما ذكرتموه من الاستشارة بكما ].

٧٣

فأمضيتُ ما دلاني عليه فأتبعته ولم أحتج الى رأيكما فيه ولا أرى غيركم ، ولو وقع ما ليس في كتاب الله بيانه ، [ ولا في سنة رسول الله برهانه ](١) ، واحتيج الى المشاورة فيه لشاورتكما فيه.

وأمّا القسم والاسوة وانّ ذلك [ لم أحكم فيه بادئ بدء ](٢) وقد وجدت انا وانتما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ يحكم بذلك وكتاب الله ناطقٌ به ، [ وهو الكتاب ](٣) ( الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِهِ تنزيلٌ من حكيم حميد ) .

واما قولكما : جعلت فيئنا وما افاءتهُ سيوفنا ورماحنا سواءً بيننا وبين غيرنا. فقديماً سبق الى الاسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ في القسم ولا آثرهم بالسبق والله سبحانه مُوفّ السّابق والمجاهد يوم القيامة ، وليس لكما والله عندي ولا لغير كما إلا هذا ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم الى الحق والهمنا واياكم الصبر.

ثم قالعليه‌السلام : رحم الله امرءاً رأى حقّاً فأعان عليه ، ورأى جوراً فردّه وكان عوناً للحقّ على من خالفه »(٤) .

( لعل المراد قولهعليه‌السلام فقديماً سبق الى الاسلام يعني به نفسه ، حيث

__________________

(١) في : البحار ولا في السنة برهانه.

(٢) في الاصل [ لم اكلم فيه البادئ بدء ] عبارة ركيكه وصوابه كما في البحار.

(٣) سقطت من الاصل.

(٤) انظر : بحار الانوار ٣٢ : ٢١ ، ٢٢.

٧٤

لم يسبق إليه سابق ولم يلحق بأثره في جميع ما امره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لاحقٌ ، فأنهعليه‌السلام جميع اعماله بالكتاب المجيد والسنة الواضحة

في السبب الموجب لنكث طلحة بن عبيدالله والزبير

بن العوام لبيعتهما امير المؤمنين عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام

قال المسعودي : لما قتل عثمان بايعت الناس امير المؤمنين عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام بالخلافة ، كتبعليه‌السلام الى معاوية بن ابي سفيان بالشام :

« امّا بعد فأن الناس قتلوا عثمان من غير مشورة مني ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا اتاك كتابي هذا فبايع لي الناس ، وأوفد اليّ اشراف اهل الشام »(١) .

فلم يكن منه له جواب غير انه كتب كتاباً الى الزبير بن العوام وبعثه مع رجل من بني عبس فمضمونه :

بسم الله الرحمن الرحيم

الى الزبير بن العوام(٢) من معاوية بن ابي سفيان سلام الله عليكم اما بعد ، فأني قد بايعت لك اهل الشام فأجابوني الى بيعتك فأستوثقتهم كما استوثق الحلف(٣) ، فدونك الكوفة والبصرة [ لا

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٢٣٠ ، بحار الانوار ٣٢ : ٦.

(٢) في البحار : لعبدالله الزبير امير المؤمنين.

(٣) في الاصل : الجلب وهو تصحيف وصوابه كما في البحار.

٧٥

يسبقك عليهما عليّ بن ابي طالب ](١) فأنه لا شيء بعد هذين المصرين وقد بايعتهم لطلحة بن عبيدالله من بعدك ، فعليكما(٢) بالظهور في طلب دم عثمانرضي‌الله‌عنه ، فأدعوا الناس الى ذلك بالجدّ والتشهير ، ظفركما(٣) الله تعالى وخذل مناوئيكما.

قال جدي حسن ( طاب ثراه ) : انّ معاوية كتب الى الزبير :

اما بعدُ ، فإنّك الزبير بن العوام ابن اخي خديجة بنت خويلد ، وابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، وحواريه وسلفه ، وصهر ابي بكر ، وفارسُ المسلمين ، وانت الباذل في الله مهجتهُ له بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث فخرجتَ كالثعبان المتسلخ بالسيف المنصلت ، تخبط خَبْطَ الجمل الرَّديع ، كل ذلك قوة ايمان وصدق يقين منك ، وقد سبقت لك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ البشارةُ بالجنة ، ثمّ جعلك عمررضي‌الله‌عنه احد المستخلفين على الامة.

فانهض يا أبا عبدالله فإن الرعية اصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي ، فسارع ـ رحمك الله ـ في حقن الدماء ولَمّ الشَّعث ، واجمع الكلمة لصلاح ذات البين قبل تفاقم الامور وانتشار الامة ، فقد اصبح الناسُ على شفا جُرُفٍ هارٍ عمّا قليل منهار ، ان لم يُرأب ، فشمِّر لتأليف

__________________

(١) في البحار : لا يسبقنك لها ابن ابي طالب.

(٢) سقطت من البحار.

(٣) في البحار : اظهركما.

٧٦

الامة وابتغِ الى ربّك سبيلاً ، فقد أحكمتُ لك الامر على من قبلي لك ولصاحبك على ان الامر للمقدّم ، ثمّ لصاحبه من بعده ، جعلكما الله من أئِمة الهدى ، وبُغاة الخير والتقوى ، وسلك بكما قصد المهتدين ، ووهبكما رُشد الموفقين والسلام(١) .

مكاتبة معاوية بن ابي سفيان الى بني امية

وكتب الى مروان بن الحكم :

اما بعدُ ، فقد وصل اليّ كتابُكَ بشرحِ خبر قتل امير المؤمنين عثمانرضي‌الله‌عنه ، وما رَكبوه به ونالوه منه جَهْلاً بالله وجرأةً عليه ، واستخفافاً بحقِّهِ ، [ ولأماني لوّحَ ](٢) الشيطان بها في شركِ الباطل ليُدهْدهِم(٣) في أَهْويَّاتِ الفِتَن ، ووَهداتِ الضلال ، ولعمري لقد صَدقَ إِبليسُ عليهم ظَنَّهُ ، اقتَنَصَهم بأنشَوطة فَخِّه ، فعَلَى رسْلِك يا عبدالله تَمشي الهُوَيْنَى وتكون اَوّلا ، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفَهْد الذي لا يصطاد إلا غيلةً(٤) ، ولا يتشازر(٥) الا عند حيلة ، وكالثعلب(٦) لا يُفلِت الا رَوَغاناً ، وأخْفِ نفَسك منهم اخفاء القُنْفُذ رأسَه عند لمسِ الأكُفّ ، وامتهِنْ

__________________

(١) انظر : جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٠٠.

(٢) في الاصل غير واضحة واثبتناها من جمهرة رسائل العرب.

(٣) دهده الحجره متدهده : دحرجه فتدحرج.

(٤) الغيلة : الاحتيال.

(٥) تشازر القوم : نظر بعضهم الى بعض شزراً ، والشزر : النظر بمؤخر العين.

(٦) في جمهرة رسائل العرب : كالثعلب.

٧٧

نَفَسك امتهانَ مَن ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أمورهم بَحْثَ الدّجاج عن حَبِّ الدُّخَن عند فقاسها ، وأنغل(١) الحجاز فأني مُنغل الشام ، والسلام(٢) .

وكتب الى سعيد بن العاص :

اما بعدُ ، فقد ورد عليّ كتاب مروان بن الحكم من ساعةٍ حين وقعت النازلةُ ، تصل بها البُرُد(٣) بسير المطيّ الوَجيف(٤) ، يتوجس(٥) كتوجُّس الحيَّة الذَّكر خوف ضربة الفأس وقبضة الحاوي(٦) ، ومروان لا يكذبُ أهله ، فعلام الافكاك(٧) يابن العاص ولات حين مناص ؟ وذلك انكم يا بني اميّة عمَّا قليل تسألون أَدْنى العيش من ابعد المسافة ، فَيُنكِرُكم من كان بكم عارفاً ، ويصدُّ عنكم مَن كان لكم واصِلاً ، فتتفرقون في البلاد ، وتتمنون لمظة(٨) المعاش.

الا وان امير المؤمنين عُتِبَ عليه فيكم ، وقُتِلَ في سببكم ، فقبيح القعود عن نُصرته ، والطلب بدمهِ ! وانتم بنو اميّة ، ودون الناس منه

__________________

(١) انغل الحجاز : اي افسدهُ.

(٢) جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٠١.

(٣) البُردُ : جمع بريد.

(٤) وجف الفرس : عدا.

(٥) تتوجس : تسمع الى الصوت الخفي.

(٦) الحاوي : جامع الحيّات.

(٧) الافكاك : التراخي.

(٨) اللماظة : ما يبقى في الفم من الطعام.

٧٨

رَحماً وقُرباً وطُلاب ثأره ، فأصبحتم متمسكين [ بشظف معاشٍ زهيدٍ ](١) قليل يُنزع منكم عند التخاذُل ، وضعْفِ القُوى.

فإذا قرأت كتابي هذا فدِبّ دبيبَ البُرد في الجسد النَحيف ، وسَرّ سير النجوم تحت الغمام ، واحشدُ حشد(٢) الذرة في الصّيف لأنجحارها في الصّرد ، فقد ايدتكم بأسدٍ وتيمْ ، وكتب في آخر الكتاب(٣) :

تالله لا يَذْهَبُ شيخي باطِلاً

حتى أُبيرَ مالِكاً وكاهِلاً

القاتِلين المَلِكَ الحلاحِلا

خيرَ مَعدٍ حَسَباً ونائِلاً

وكتب الى عبدالله بن عامر :

اما بعدُ ، فإنّ المنبر مركب ذلول سهل الرّياض لا ينازعك اللّجام ، وهيهات ذلك إلا بعد ركوب اثباج(٤) المهالك ، واقتحام امواج المعَاطب ، فكأني بكم يا بني أميَّة شعارير(٥) كالاوراق تقودها الحُداة(٦) ، أو كَرخَم الخَنْدَمة(٧) تَذْرِفُ خوفَ العُقاب ، فثب الآن قبل ان

__________________

(١) سقطت من الاصل واثبتناها من جمهرة رسائل العرب.

والشظف : شدة العيش.

(٢) اي اجمع جمع الذرة.

(٣) جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٠٢.

(٤) اثباج : جمع ثبج بالتحريك ، وهو ما بين الكاهل الى الظهر.

(٥) يقال : ذهبوا شعاليل وشعارير اي متفرقين.

(٦) الحداة : جمع الحادي وهو سائق الابل.

(٧) الخندمة : جبل بمكة.

٧٩

يستشري الفساد ، ونَدبُ السَّوْطِ جديد ، والجُرْحُ لمَّا يَنْدَمِل ، ومن قبل استضراء الأَسَد ، والْتقَاءِ لحيْيهِ على فريستهِ ، وساوِر الامر مساورة الذئْب الأَطَلس(١) كَسِيرة القطيع ، ونازل الرأي ، وانَصِب الشَّرَك ، وأرمِ عن تمكن ، وضَع الهناء مواضع النُّقَب(٢) ، واجعل اكبر عُدَّتك الحذَرَ ، وَأَحَدَّ سَلاحِك التحريضَ ، وأَغْضِ عن العَوْراء ، وسامح عن اللّجُوجَ ، واستعِطِف الشارد ، ولاين الأَشوَس(٣) ، وقوِّ عزم المُريد ، وبادِرِ العَقَبة ، وأزْحَفْ زَحْفَ الحَيَّة ، وإسبق قبل أَن تُسْبَقَ ، وقُمْ قبل ان يقامَ لك ، واعلم أنّك غيرُ مَتروك ولا مُهْمَل ، فأني لك ناصح امين ، والسلام.

ثم انه كتب في اسفل الكتاب هذه الابيات شعراً(٤) :

عليك سلامُ الله قيسَ بن عاصم

ورَحْمَتُهُ ، ما شاء أن يترحَّما

تحية مَن أَهدى السلام لأَهله

إذا شَطَّ داراً عن مزارك سَلَّما

فما كان قيسٌ هلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ

ولكنّه بنيان قومٍ تَهدَّما

وكتب الى الوليد بن عُقْبة بن أبي معيط :

اما بعدُ ، يا ابْن عُقْبة : كِنُّ الجيش ، وطيبُ العيش ، أطيبُ من سَفْعِ

__________________

(١) الذئب الاطلس : الذي في لونه غبرة الى السواد.

(٢) الهناء : القطران ، والنُقَب بضم ففتح : القطع المتفرقة.

(٣) الشوس بالتحريك : النظر بمؤخر العين تكبراً أو تغيظاً.

(٤) انظر : جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٠٣.

والابيات لعبدة بن الصليب يرثي بها قيس بن عاصم كما في رواية الاصفهاني في الاغاني ١٨ : ١٦٣ وفيه يقول :

تحية من أوليته منك نعمة

إذا زار عن شحط بلادك سلما

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167