بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62889 / تحميل: 6516
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

مؤلف:
العربية

تتمة الفصل الثامن و العشرون

٤ - الكتاب (٢٧) و من عهد لهعليه‌السلام إلى محمد بن أبى بكر حين قلّده مصر:

فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ اُبْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اَللَّحْظَةِ وَ اَلنَّظْرَةِ حَتَّى لاَ يَطْمَعَ اَلْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لاَ يَيْأَسَ اَلضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ اَلصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ اَلْكَبِيرَةِ وَ اَلظَّاهِرَةِ وَ اَلْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ اَلدُّنْيَا وَ آجِلِ اَلْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ اَلدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا اَلدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ اَلدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ اَلْجَبَابِرَةُ اَلْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ اِنْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ اَلْمُبَلِّغِ وَ اَلْمَتْجَرِ اَلرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ

١

زُهْدِ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اَللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لاَ يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلنَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ اَلْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ اَلْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ اَلدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ وَ لاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لاَ تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ اَلْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْهُ وَ إِنَّ أَحْسَنَ اَلنَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ وَ اِعْلَمْ يَا؟ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ؟ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ؟ مِصْرَ؟ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ اَلدَّهْرِ وَ لاَ تُسْخِطِ اَللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اَللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اَللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ أقول: رواه الشيخان في (أماليهما)، و رواه الثقفي في (غاراته)، و رواه ابن أبي شعبة الحلبي في (تحفه) و رواه الطبري في (تاريخه).

أمّا الشيخان فرويا بإسنادهما إلى كتاب إبراهيم الثقفي عن عبد اللّه بن محمد ابن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سعيد عن فضيل بن الجعد عن أبي إسحاق الهمداني قال: ولّى عليّعليه‌السلام محمد بن أبي بكر مصر و أعمالها و كتب له كتابا و أمره أن يقرأه على أهل مصر و ليعمل بما أوصاه به، فكان الكتاب:

٢

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل مصر و محمد بن أبي بكر، سلام عليكم فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد: فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسؤلون و إليه تصيرون، فإنّ اللّه تعالى يقول: كل نفس بما كسبت رهينة( ١ ) و يقول:

و يحذركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير( ٢ ) و يقول: فو ربّك لنسألنّهم أجمعين. عمّا كانوا يعملون( ٣) .

و اعلموا عباد اللّه أنّ اللّه عزّ و جل سائلكم عن الصغير من عملكم و الكبير فإن يعذّب فنحن أظلم و إن يعف فهو أرحم الراحمين، يا عباد اللّه إنّ أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل للّه بطاعته و ينصحه في التوبة، عليكم بتقوى اللّه فإنّها تجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال اللّه عز و جل: و قيل للذين اتّقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين( ٤) .

اعلموا يا عباد اللّه أنّ المؤمن من يعمل لثلاث: إمّا لخير فإنّ اللّه يثيبه بعمله في دنياه. قال سبحانه لابراهيم: و آتيناه أجره في الدنيا و إنّه في الآخرة لمن الصالحين( ٥ ) فمن عمل للّه تعالى أعطاه أجره في الدنيا و الآخرة و كفاه المهم فيهما و قد قال تعالى يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للّذين أحسنوا في هذه الدّنيا حسنة و أرض اللّه واسعة إنّما يوفّى الصابرون أجرهم

____________________

(١) المدثر: ٣٨.

(٢) آل عمران: ٢٨.

(٣) الحجر: ٩٢ ٩٣.

(٤) النحل: ٣٠.

(٥) العنكبوت: ٢٧.

٣

بغير حساب( ١ ) ، و ما أعطاهم لم يحاسبهم به في الآخرة قال تعالى: للّذين أحسنوا الحسنى و زيادة( ٢ ) و الحسنى هي الجنّة و الزيادة في الدنيا، و إن اللّه تعالى يكفّر بكلّ حسنة سيّئة، قال عز و جل إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين( ٣ ) حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال عز و جل: جزاء من ربك عطاء حسابا( ٤ ) و قال: أولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون( ٥ ) فارغبوا في هذا رحمكم اللّه و اعملوا له و حاضّوا عليه.

و اعلموا يا عباد اللّه أنّ المتّقين حازوا عاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباحهم اللّه ما كفاهم و أغناهم، قال عز اسمه: قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون( ٦ ) ، سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون و شربوا من طيبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون و سكنوا من أفضل ما يسكنون و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون و ركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذّة الدنيا مع أهل الدنيا و هم غدا جيران اللّه، يتمنّون عليه فيعطيهم ما تمنّوه و لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيبا من اللذة، فإلى هذا

____________________

(١) الزمر: ١٠.

(٢) يونس: ٢٦.

(٣) هود: ١١٤.

(٤) النبأ: ٣٦.

(٥) سبأ: ٣٧.

(٦) الأعراف: ٣٢.

٤

يا عباد اللّه يشتاق من كان له عقل و يعمل له بتقوى اللّه، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه.

يا عباد اللّه إن اتّقيتم اللّه و حفظتم نبيّكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر، و أخذتم بأفضل الصّبر و الشّكر، و اجتهدتم بأفضل الاجتهاد، و ان كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما فأنتم أتقى للّه عزّ و جلّ منهم و أنصح لأولي الأمر.

احذروا عباد اللّه الموت و سكرته، فإنّه يفجأكم بأمر عظيم بخير لا يكون معه شرّ أبدا أو بشرّ لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها و من أقرب إلى النّار من عاملها، إنّه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيّ المنزلتين يصير إلى الجنّة أم النّار و عدوّ للّه أم وليّ، فان كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طرقها و نظر إلى ما أعد اللّه له فيها، ففرغ من كلّ شغل و وضع عنه كلّ ثقل، و إن كان عدوا للّه فتحت له أبواب النّار و شرع له طرقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه فيها فاستقبل كلّ مكروه و ترك كلّ سرور، كلّ هذا يكون عند الموت و عنده يكون اليقين، قال اللّه تعالى: الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السّلم ما كنّا نعمل من سوء بلى إنّ اللّه عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرّين( ١) .

عباد اللّه إنّ الموت ليس منه فوت فاحذروه قبل وقوعه و أعدّوا له عدّته، فإنّكم طرد الموت، إنّ أقمتم له أخذكم و إن فررتم منه أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلّكم، الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى خلفكم عند ما تنازعكم إليه

____________________

(١) النمل: ٢٨ ٢٩.

٥

أنفسكم من الشهوات، فكفى بالموت واعظا، و كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: «أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات حائل بينكم و بين الشهوات».

يا عباد اللّه ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشدّ من الموت، القبر، فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته، إنّ القبر يقول كلّ يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود و الهوام، و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، إنّ العبد المؤمن إذا دفن قالت الأرض مرحبا و أهلا قد كنت ممّن أحبّ أن يمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فتتّسع له مدّ البصر، و إن الكافر إذا دفن قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف صنيعي بك، فتضمّه حتى تلقي أضلاعه، و إن المعيشة الضنك التي حذّر اللّه منها عدوّه، عذاب القبر، إنّه يسلّط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا فينهشن لحمه و يكسرن عظمه يتردّدن عليه كذلك إلى يوم يبعث، لو أن تنينا منها تنفخ في الأرض لم تنبت زرعا.

يا عباد اللّه إن أنفسكم الضعيفة و أجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تنزعوا أجسادكم و أنفسكم ممّا لا طاقة لكم به و لا صبر لكم عليه فاعملوا بما أحبّ اللّه و أتركوا ما كره اللّه.

يا عباد اللّه إنّ بعد البعث ما هو أشدّ من القبر، يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه الكبير و يسقط فيه الجنين و تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، يوم عبوس قمطرير، يوم كان شرّه مستطيرا، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم، و ترعد منه السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرض المهاد، و تنشقّ السماء فهي يومئذ واهية و تتغير فكأنها كالدهان، و تكون الجبال

٦

كثيبا مهيلا بعد ما كانت صمّا صلابا، و ينفخ في الصور فيفزع من في السماوات و الأرض إلاّ ما شاء اللّه، فكيف من عصى بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الرجل و الفرج و البطن، إن لم يغفر اللّه له و يرحمه من ذلك اليوم لأنّه يصير إلى غيره، إلى نار قعرها بعيد و حرّها شديد و شرابها صديد و عذابها جديد و مقامعها حديد لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها، دار ليس فيها رحمة و لا تسمع لأهلها دعوة.

و اعلموا يا عباد اللّه ان مع هذا رحمة اللّه التي لا تقصر عن العباد، جنة عرضها كعرض السماء و الأرض اعدت للمتقين، لا يكون معها شرّ أبدا، لذّاتها لا تملّ و مجتمعها لا يتفرق، سكّانها قد جاوروا الرحمن و قام بين أيديهم الغلمان بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان.

ثم اعلم يا محمد بن أبي بكر أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي، أهل مصر، فإذ ولّيتك ما وليتك من أمر الناس فأنت حقيق أن تخاف منه على نفسك و ان تحذر منه على دينك، فإن استطعت ألاّ تسخط ربّك برضا أحد من خلقه فافعل، فإنّ في اللّه عز و جل خلفا من غيره و ليس في شي‏ء سواه خلف منه، إشتدّ على الظالم و خذ عليه، و لن لأهل الخير و قرّبهم و اجعلهم بطانتك و أقرانك إلى أن قال:

يا محمّد بن أبي بكر إعلم أن أفضل العفّة الورع في دين اللّه و العمل بطاعته، و إنّي أوصيك بتقوى اللّه في أمر سرّك و علانيتك و على أيّ حال كنت عليه، و الدّنيا دار بلاء و دار فناء و الآخرة دار الجزاء و دار البقاء، و اعمل لما بقي و اعدل عمّا يفنى و لا تنس نصيبك من الدنيا.

أوصيك بسبع هن جوامع الاسلام: تخشى اللّه عز و جل في النّاس و لا تخش الناس في اللّه، و خير القول ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد

٧

بقضاءين مختلفين فيختلف أمرك و تزيغ عن الحق، و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك و اكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة و أصلح للرعية، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم، و انصح المرء إذا استشارك و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم.

جعل اللّه مودّتنا في الدين، و حلاّنا و إيّاكم حلية المتقين، و أبقى لكم طاعتكم حتى يجعلنا و إيّاكم بها اخوانا على سرر متقابلين.

أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمّد أميركم و اثبتوا على طاعته تردوا حوض نبيكم، أعاننا اللّه على ما يرضيه و السلام و رحمة اللّه و بركاته( ١ ) ( ٢) .

و أمّا ما رواه الثقفي، فروى عن يحيى بن صالح عن مالك بن خالد الأسدي عن الحسن بن إبراهيم عن عبد اللّه بن الحسن قال: كتب عليّعليه‌السلام إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم يخاطبهم فيه و يخاطب محمدا أيضا فيه:

أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه في سرائركم و علانيتكم و على أيّ حال كنتم عليها، و ليعلم المرء منكم أنّ الدنيا دار بلاء و فناء و الآخرة دار جزاء و بقاء فمن استطاع أن يؤثر ما بقي على ما يفنى فليفعل فإنّ الآخرة تبقى و الدنيا تفنى، رزقنا اللّه و إياكم بصرا لما بصرنا و فهما لما فهمنا حتى لا نقصر عمّا أمرنا و لا نتعدى إلى ما نهانا.

و اعلم يا محمد أنّك إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فان عرض لك أمران أحدهما للآخرة و الآخر للدنيا فابدأ بأمر الآخرة، و لتعظم رغبتك في الخير و لتحسن فيه نيّتك، فإنّ اللّه عز و جل يعطي العبد على قدر نيته، و إذا أحبّ الخير

____________________

(١) أمالي المفيد: ٢٦٠ ح ٣ المجلس ٣١.

(٢) أمالي الطوسي ١: ٢٤ الجزء ١.

٨

و أهله و لم يعمله كان إن شاء اللّه كمن عمله، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حين رجع من تبوك «إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا هبطتم من دار إلاّ كانوا معكم ما حبسهم إلاّ المرض» يقول كانت لهم نية ثم اعلم يا محمد أنّي ولّيتك أعظم أجنادي، أهل مصر، و ولّيتك ما ولّيتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف على نفسك و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار فإن استطعت أن لا تسخط ربّك لرضى أحد من خلقه فافعل، فإنّ في اللّه خلفا من غيره و ليس في شي‏ء خلف منه، فاشتدّ على الظالم و لن لأهل الخير و قرّبهم إليك و اجعلهم بطانتك و اخوانك( ١) .

و عن يحيى بن صالح أيضا بالإسناد قال: كتب عليّعليه‌السلام إلى محمد و أهل مصر: أمّا بعد فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه و العمل بما أنتم عنه مسؤولون و أنتم به رهن و إليه صائرون، فإنّ اللّه عز و جل يقول: كلّ نفس بما كسبت رهينة( ٢ ) و قال: و يحذّركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير( ٣ ) و قال فو ربّك لنسألنّهم أجمعين. عمّا كانوا يعملون( ٤) .

فاعلموا عباد اللّه أنّ اللّه سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير، فإن يعذّب فنحن الظالمون و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الراحمين.

و اعلموا أنّ أقرب ما يكون العبد إلى الرّحمة و المغفرة حين ما يعمل بطاعة اللّه و مناصحته في التوبة، فعليكم بتقوى اللّه تعالى فإنّها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها، خير الدنيا و خير الآخرة، يقول سبحانه: و قيل للّذين اتّقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا

____________________

(١) الغارات ١: ٢٢٨ ٢٣٠.

(٢) المدثر: ٣٨.

(٣) آل عمران: ٢٨.

(٤) الحجر: ٩٢ ٩٣.

٩

للّذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتّقين( ١) .

و اعلموا عباد اللّه أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، يقول اللّه عز و جل قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة( ٢ ) ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا من أفضل ما يأكلون و شربوا من أفضل ما يشربون و لبسوا من أفضل ما يلبسون، أصابوا لذّة أهل الدّنيا مع أهل الدنيا مع أنّهم غدا جيران اللّه يتمنّون عليه لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم لذّة أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل؟

و اعلموا عباد اللّه أنّكم إن اتّقيتم ربّكم و حفظتم نبيّكم في أهل بيته، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر و أخذتم بأفضل الصبر و جاهدتم بأفضل الجهاد، و إن كان غيركم أطول صلاة منكم و أكثر صياما إذ كنتم اتقى للّه و أنصح لأولياء اللّه من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخشع.

و احذروا عباد اللّه الموت و نزوله و خذوا له فإنّه يدخل بأمر عظيم، خير لا يكون معه شرّ أبدا و شرّ لا يكون معه خير أبدا، ليس أحد من الناس يفارق روحه جسده حتّى يعلم إلى أيّ المنزلين يصير، إلى الجنة أم إلى النار، أعدوّ هو للّه أم وليّ، فإن كان وليّا فتحت له أبواب الجنّة و شرع له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه عزّ و جلّ لأوليائه فيها، فرغ من كلّ شغل و وضع من كل ثقل، و إن

____________________

(١) النحل: ٣٠.

(٢) الأعراف: ٣٢.

١٠

كان عدوّا فتحت له أبواب النّار و سهّل له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه لأهلها و استقبل كلّ مكروه و فارق كلّ سرور، قال تعالى: خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين( ١) .

و اعلموا عباد اللّه أنّ الموت ليس منه فوت فاحذروه و أعدّوا له عدّته، فانكم طرداء الموت، إن أقمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم و هو ألزم لكم من ظلّكم معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من خلفكم. إلى آخر ما مر عن الاماليّين مع أدنى اختلاف، ففيه بدل قوله «من ذلك اليوم... «و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد ذلك اليوم أشدّ و أدهى»( ٢) .

و أما الحلبي فقال في (تحفه): «و منه إلى محمد بن أبي بكر و أهل مصر:

أمّا بعد فقد وصل كتابك و فهمت ما سألت عنه و أعجبني اهتمامك بما لا بدّ لك منه و ما لا يصلح المسلمين غيره، و ظننت أنّ الذي أخرج ذلك منك نيّة صالحة و رأي غير مدخول، أمّا بعد فعليك بتقوى اللّه في مقامك و مقعدك و سرّك و علانيتك، و إذا أنت قضيت بين الناس فاخفض لهم جناحك و ليّن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظ و النظر، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، و أن تسأل المدعي البيّنة و على المدّعى عليه اليمين، و من صالح أخاه على صلح فأجز صلحه إلاّ أن يكون صلحا يحرّم حلالا أو يحلّل حراما، و آثر الفقهاء و أهل الصدق و الوفاء و الحياء و الورع على أهل الفجور و الكذب و الغدر، و ليكن الصالحون الأبرار إخوانك و الفاجرون الغادرون أعداؤك، و ان أحبّ اخواني الي أكثرهم للّه ذكرا و أشدّهم منه خوفا، و أرجو أن تكون منهم إن شاء اللّه. و إنّي أوصيكم بتقوى اللّه فيما

____________________

(١) الزمر: ٧٢.

(٢) الغارات ١: ٢٣١ ٢٤٤.

١١

أنتم عنه مسؤولون و عمّا أنتم إليه صائرون، فإنّ اللّه تعالى قال في كتابه:

كلّ نفس بما كسبت رهينة( ١ ) و قال و يحذّركم اللّه نفسه( ٢ ) . مثل ما مر مع أدنى اختلاف و الأصل في الجميع واحد.

و أمّا الطبري فروى عن أبي مخنف عن الحارث بن كعب الوالبي عن أبيه قال: كنت مع محمد بن أبي بكر حين قدم مصر فقرأ عليهم عهده «هذا ما عهد عليه عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاّه مصر، أمره بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و خوف اللّه عز و جل في المغيب و المشهد، و باللين على المسلمين و بالغلظة على الفاجرين، و بالعدل على أهل الذمة و بانصاف المظلوم و بالشدة على الظالم، و بالعفو عن الناس و بالاحسان ما استطاع، و اللّه يجزي المحسنين و يعذّب المجرمين، و أمره أن يدعو من قبله أهل الطاعة و الجماعة، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة و عظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره و لا يعرفون كنهه، و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينقص منه و لا يبتدع فيه، ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل، و أن يليّن لهم جناحه و أن يواسي بينهم في مجلسه وجهه، و ليكن القريب و البعيد في الحق سواء، و أمره أن يحكم بين الناس بالحق و أن يقوم بالقسط و لا يتّبع الهوى و لا يخاف في اللّه عزّ و جلّ لومة لائم، فإنّ اللّه جلّ ثناؤه مع من اتّقى و آثر طاعته و أمره على ما سواه( ٣) .

و رواه الثقفي في (غاراته) كما مرّ في سابقه، و مرّ خبر انّ أن محمدا لما قتل أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية و فيها كتاب كتبهعليه‌السلام له فيه أدب

____________________

(١) المدثر: ٣٨.

(٢) تحف العقول: ١٧٦ ١٨٠. و الآية ٢٨ من آل عمران.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٥٥٦.

١٢

و سنّة و أن معاوية كان ينظر فيه و يتعجّب منه و قال لجلسائه: نقول للناس: إنّه كان من كتب أبي بكر، و أنهعليه‌السلام تأسف على وصول ذلك الكتاب إلى معاوية.

و الظاهر عدم نقل ذلك الكتاب لنا لأن المفهوم من الخبر الثاني أنّه كان مشحونا من سنن لا يعرفها الناس، و الكتاب الواصل ليس فيه إلاّ مختصر من الوضوء و الصلاة.

قول المصنف (و من عهد لهعليه‌السلام إلى محمد بن أبي بكر) زادهم (ابن ميثم)( ١ ) و (الخطية) «رحمه اللّه» و (ابن أبي الحديد)( ٢ ) «رضي‌الله‌عنه ».

(حين قلّده مصر) جميع ما نقله المصنف لم يكن حين التقليد بل حينه و بعده كما عرفت من روايات غارات الثقفي، قلّده بعد قيس بن سعد بن عبادة.

قولهعليه‌السلام «و اخفض لهم جناحك» خفض الجناح كناية عن التواضع و يعبّر عنه بالفارسية «بشكسته بالي» و الأصل فيه قوله تعالى لنبيه: و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين( ٣) .

في (تاريخ بغداد): كان موسى بن إسحاق القاضي لا يرى متبسّما قطّ، فقالت له امرأة: أيّها القاضي لا يحلّ لك أن تحكم بين الناس، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «لا يحل للقاضي أن يحكم بين اثنين و هو غضبان» فتبسّم( ٤) .

«و ألن لهم جانبك» قال تعالى لنبيه: فبما رحمة من اللّه لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك( ٥) .

«و ابسط لهم وجهك» قال لقمان لابنه: و لا تصعّر خدك للناس و لا تمش

____________________

(١) شرح ابن ميثم ٤: ٤١٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٣.

(٣) الشعراء: ٢١٥.

(٤) تاريخ بغداد ١٣: ٥٣.

(٥) آل عمران: ١٥٩.

١٣

في الأرض مرحا انّك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا. كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروها( ١) .

«و آس» أي: ساو، و في النهاية أي: إجعل كلّ واحد منهم اسوة خصمه.

«بينهم في اللحظة» أي: النظر بمؤخّر العين.

«و النظرة» أي: تأمّل الشي‏ء بالعين.

في الخبر كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم لحظاته بين جلسائه( ٢ ) ، و قال خالد بن صفوان لوال دخل عليه: قدمت فأعطيت كلاّ بقسطه من نظرك و مجلسك و صلاتك و عدلك حتى كأنّك من كلّ أحد أو كأنّك لست من أحد.

«حتى لا يطمع العظماء في حيفك» أي: جورك.

«لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم» و قالعليه‌السلام لشريح: ثمّ و اس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك و لا ييأس عدوّك من عدلك( ٣) .

روت العامّة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خلا عمر لبعض شأنه و قال:

أمسك عليّ الباب، فطلع الزبير، فكرهته حين رأيته، فأراد أن يدخل، فقلت: هو على حاجة، فلم يلتفت إليّ و أهوى ليدخل، فوضعت يدي في صدره، فضرب أنفي فأدماه، ثم رجع، فدخلت على عمر فقال: ما بك؟ قلت: الزبير، فأرسل إليه، ثمّ دخل الزبير، فجئت لأنظر ما يقول له، فقال له: ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس. فقال الزبير يحكيه و يمطّط في كلامه «أدميتني»، أتحجب عنّا يا ابن الخطاب، فو اللّه ما احتجب عنّي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا أبو بكر. فقال عمر

____________________

(١) الاسراء: ٣٧ ٣٨.

(٢) معاني الاخبار: ٨٢.

(٣) الكافي ٢: ٤١٣ ح ١: الفقيه ٣: ٨ ح ١٠: التهذيب ٦: ٢٢٦ ح ١.

١٤

كالمعتذر: إنّي كنت في بعض شأني، فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقّي منه، و خرج الزبير، فقال عمر: إنّه الزّبير و آثاره ما تعلم( ١) .

«فان اللّه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم و الكبيرة» و كل صغير و كبير مستطر( ٢ ) ، و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا( ٣ ) ، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره. و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره( ٤) .

«و الظاهرة و المستورة» قال لقمان لابنه: يا بني إنّها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها اللّه إنّ اللّه لطيف خبير( ٥ ) ، يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور( ٦ ) و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنّه آثم قلبه( ٧ ) ، إن السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا( ٨) .

و عن أبي جعفرعليه‌السلام : كان في بني إسرائيل قاض كان يقضي بالحق فيهم، فلما حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني و كفّنيني و ضعيني على سريري و غطّي وجهي، فإنّك لا ترين سوء، فلمّا مات فعلت ذلك، ثم مكثت بذلك حينا، ثم إنّها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودة

____________________

(١) رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٢١: ٤٥ ٤٦، بتصرّف.

(٢) القمر: ٥٣.

(٣) الكهف: ٤٩.

(٤) الزلزلة: ٦.

(٥) لقمان: ١٦.

(٦) غافر: ١٩.

(٧) البقرة: ٢٨٣.

(٨) الاسراء: ٣٦.

١٥

تقرض منخره، ففزعت من ذلك، فلمّا كان الليل أتاها في منامها فقال لها:

أفزعك ما رأيت؟ قالت: أجل لقد فزعت. فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلاّ في أخيك فلان، أتاني و معه خصم له، فلمّا جلسا إليّ قلت: اللّهم اجعل الحق له و وجّه القضاء على صاحبه، فلمّا اختصما كان الحق له و رأيت ذلك بيّنا في القضاء، فوجّهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحقّ( ١) .

«فإن يعذّب» قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينقضي كلام شاهد الزور بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار( ٢) .

«فأنتم أظلم» قال ابن أبي الحديد: أفعل ها هنا بمعنى فاعل( ٣) .

قلت: يمكن أن يكون من باب و جزاء سيّئة سيّئة مثلها( ٤ ) و يمكن أن يكون المراد: إنكم أظلم من كلّ عبد عصى سيّده.

«و إن يعف فهو أكرم» من كلّ سلطان يعفو عن رعيته: و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير( ٥) .

«و اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم» قد عرفت في أسانيده أنهعليه‌السلام إستشهد لكلامه بقوله تعالى: قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيّبات من الرزق قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيمة

____________________

(١) الكافي ٧: ٤١٠ ح ٢، التهذيب ٦: ٢٢٢ ح ٢١، أمالي الطوسي ١: ١٢٦ ١٢٧ الجزء ٥.

(٢) الكافي ٧: ٣٨٣ ح ٣.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٥.

(٤) الشورى: ٤٠.

(٥) الشورى: ٣٠.

١٦

كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون( ١) .

«سكنوا من الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت فحظوا» يقال:

حظي فلان عند السلطان، و حظيت المرأة عند الزوج.

«من الدّنيا بما حظي به المترفون» قال ابن دريد: رجل مترف: منعّم( ٢) .

«و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون» قد عرفت من روايات الثقفي انّه بدّل قوله «فحظوا إلى المتكبرون» بقوله «فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون، و شربوا من طيبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون، و سكنوا من أفضل ما يسكنون، و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون، و ركبوا من أفضل ما يركبون»( ٣ ) ، و ما هنا إجمال و ثمة تفصيل، فاللّذائذ الدنيوية منحصرة في هذه الستة من المآكل و المشارب و الملابس و المساكن و المناكح و المراكب.

«ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ» أي: زاد التقوى الذي وصفه تعالى بكونه خير زاد.

«و المتجر الرابح» و هو الايمان و عمل الصالحات.

«أصابوا لذّة زهد الدنيا في دنياهم» لأن الزهد فيها ليس بترك نعيمها بل بعدم العلقة بها كما قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم( ٤ ) ، و أما الحريص فدائما متألم بفوت ما فات من دنياه و عدم حصول زيادة له.

____________________

(١) الاعراف: ٣٢.

(٢) جمهرة اللغة ١: ٣٩٣.

(٣) الغارات باختلاف يسير ١: ٢٣٦، و أمالي المفيد: ٢٦٣، أمالي الطوسي ١: ٢٦.

(٤) الحديد: ٢٣.

١٧

«و تيقنوا أنّهم جيران اللّه غدا في آخرتهم» سلام قولا من ربّ رحيم( ١) ، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار( ٢ ) ، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة( ٣) .

«لا تردّ لهم دعوة» و لهم ما يدّعون( ٤) .

«و لا ينقص لهم نصيب من لذّة» و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا.

عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق و حلّوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا. إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا( ٥) .

«فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه» فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون( ٦) .

«و أعدّوا له عدّته» و أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لو لا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق و أكن من الصالحين. و لن يؤخّر اللّه نفسا إذا جاء أجلها و اللّه خبير بما تعملون( ٧) .

«فإنّه يأتي بأمر عظيم و خطب» أي: شأن.

«جليل، بخير لا يكون معه شرّ أبدا أو شرّ لا يكون معه خير أبدا» قال ابن أبي الحديد: نص في مذهب أصحابنا في الوعيد، أنّ من دخل النّار فليس بخارج منها، و لو كان خارجا منها لكان الموت قد جاءه بشرّ معه خير...( ٨) .

____________________

(١) يس: ٥٨.

(٢) الرعد: ٢٣ ٢٤.

(٣) القيامة: ٢٢ ٢٣.

(٤) يس: ٥٧.

(٥) الإنسان: ٢٠ ٢٢.

(٦) الاعراف: ٣٤.

(٧) المنافقون: ١٠ ١١.

(٨) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٦.

١٨

قلت: يمكن حمل كلامهعليه‌السلام على القرآن و أكثر الأخبار في الاقتصار على ذكر المؤمنين المخلصين و الكافرين دون المؤمنين المسرفين.

و في (اعتقادات الصدوق): قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام : صف لنا الموت.

فقال: على الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور ترد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد و إمّا بشارة بعذاب الأبد، و إمّا تحزين و تهويل و أمر مبهم لا يدرى من أيّ الفرق هو، فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد، و أمّا عدونا المخالف علينا فهو المبشّر بعذاب الأبد، و أمّا المبهم أمره الذي لا يدرى ما حاله فهو المؤمن من المسرف على نفسه يأتيه الخير مبهما محزنا ثم لن يسوّيه اللّه تعالى بأعدائنا و لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا و أطيعوا و لا تتكلوا و لا تستصغروا عقوبة اللّه عزّ و جلّ، فإنّ من المسرفين ما لا يلحقه شفاعتنا إلاّ بعذاب ثلاثمئة ألف سنة.

و سئل الحسنعليه‌السلام عن الموت فقال: أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا انقلبوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد و لا تنفد.

و لما أشتدّ الأمر بالحسينعليه‌السلام نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر بهم تغيّرت ألوانهم و ارتعدت فرائصهم و وجلت قلوبهم و وجبت جنوبهم، و كان الحسين و بعض خصائصه تشرق ألوانهم و تهدأ جوارحهم و تسكن نفوسهم، و قال بعضهم لبعض: انظروا إليه ما يبالي الموت، فقالعليه‌السلام لهم: صبرا بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس و الضرّاء إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائم، فأيّكم يكره أن ينقل من سجن إلى قصر و ما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينقل من قصر إلى سجن و عذاب أليم.

١٩

و قيل لعلي بن الحسينعليه‌السلام : ما الموت؟ فقال: للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة أو فك قيود ثقيلة و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح و أوطأ المراكب و آنس المنازل، و للكافر كخلع ثياب فاخرة و النقل عن منازل أنيسة و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب.

و قيل لمحمد الباقرعليه‌السلام : ما الموت؟ قال: هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ انّه طويل لا ينبه منه إلاّ يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره و رأى في منامه من أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره فكيف حال فرحه في النوم و وجله فيه، هذا هو الموت فاستعدوا له.

و قيل للصادقعليه‌السلام : صنف لنا الموت. فقال: هو للمؤمن كأطيب ريح يشم فينعس لطيبه و ينقطع التعب و الألم كلّه عنه، و للكافر كلسع الأفاعي و لذع العقارب و أشد. قيل له: فإنّ قوما يقولون: إنّه أشدّ من نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض و رضخ بالحجارة و تدوير قطب الأرحية في الأحداق. فقالعليه‌السلام :

كذلك هو على بعض الكافرين و الفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد؟ قيل: فما بالنا نرى كافرا يسهل عليه النزع فينطفى‏ء و هو يضحك و يتحدّث و يتكلّم، و في المؤمنين من يكون كذلك، و في المؤمنين و الكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟ فقالعليه‌السلام : ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه، و ما كان من شدّة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نفيضا نظيفا مستحقا لثواب الأبد لا مانع له دونه، و ما كان من سهولة هناك على الكافر فليتوفّى أجر حسناته ليرد الآخرة و ليس له إلاّ ما يوجب العذاب، و ما كان من شدة على الكافر هناك فهو ابتداء عقاب اللّه عند نفاد حسناته، ذلكم بأن اللّه عدل لا يجور.

و دخل موسى بن جعفرعليه‌السلام على رجل في سكرات الموت لا يجيب

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى هذا الدين محفوظا وإن رحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد أوكلت مهمة حفظ الدين إلى ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته، وهم وراث علمه ومقامه الأئمة الاثنا عشر أولهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وآخرهم الحجة بن الحسن العسكريعليه‌السلام ، وعلى ذلك قامت الأدلة والبراهين أيضا.

ونتيجة ذلك أنه كما أن نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامة شاملة، فكذلك إمامة الأئمةعليهم‌السلام عامة وشاملة، ومعنى ذلك أن إمامة الأئمةعليهم‌السلام ليست مقتصرة على مجتمع معين أو عنصر معين، أو فئة من الناس معينة، فكما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للأبيض والأسود على السواء، فكذلك إمامة الأئمةعليهم‌السلام لكافة الناس.

ومن هنا يتضح لنا وجه آخر في اقتران بعض الأئمةعليهم‌السلام بنساء غير عربيات بل من قوميات أخرى كالفارسية أو الرومية أو غيرهما، وقد وردت الروايات الدالة على ذلك. فإن أم الإمام السجادعليه‌السلام كانت من أصل فارسي(1) ، وكانت أم الإمام الكاظمعليه‌السلام من أشراف الأعاجم(2) ، وكانت أم الإمام الرضاعليه‌السلام من أهل المغرب(3) ، وكانت أم الإمام الجوادعليه‌السلام من أهل النوبة من قبيلة مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت أفضل نساء زمانها، وأشار إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: بأبي ابن خير الإماء النوبية الطيبة(4) ، وكانت أم الإمام الهاديعليه‌السلام

____________________

(1) الأنوار البهية ص 107.

(2) الأنوار البهية ص 179.

(3) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 18.

(4) منتهى الآمال ج 2 ص 523.

٤١

مغربية، ولم يكن لها مثيل في الزهد والتقوى(1) ، وكانت أم الإمام الحسن العسكري في بلدها من الأشراف في مصاف الملوك(2) ، وكانت أم الإمام الحجة بنت قيصر ملك الروم، وأمها من ولد الحواريين، وتنسب إلى وصي المسيح شمعون(3) .

والذي نود أن نشير إليه في هذا الوجه أن الإمامة لما كانت عامة وأن الإمام إمام لكل الناس على شتى اختلاف أعراقهم وأصولهم انحدر بعض الأئمة من جهة أمهاتهم من أصول غير عربية ليكون ذلك علامة بارزة على عالمية إمامتهم، وشمولها لجميع أهل الأرض، وأن لكل من السلالات البشرية طرفا يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر، وأما العروبة فليس لها خصوصية في حد ذاتها من حيث هي،( إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) .

ولعل هناك سرا آخر ينطوي تحت هذا الوجه قد تكشف عنه الأيام نورده كاحتمال ليس إلا، إذ لا نملك دليلا قاطعا عليه، وإن كان في نفسه غير بعيد، وحاصله: أن الإمام المهدي الموعود به على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونطق بذلك القرآن الكريم، وأكدت عليه الروايات المتواترة عن أهل البيتعليهم‌السلام سيكون له الشأن العظيم في إعلاء كلمة الله تعالى، وسيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وسيقوم بأداء مهمته في أغلب أحواله بشكل طبيعي، وإن كان يأتي

____________________

(1) منتهى الآمال ج 2 ص 591.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 649.

(3) منتهى الآمال ج 2 ص 695.

٤٢

بالمعجزة والكرامة تأييدا من الله تعالى، ولا شك أن تلك مهمة شاقة كما شرحتها الروايات والآيات.

وإذا كانت أم الإمام المهديعليه‌السلام تنحدر من سلالة أحد أوصياء عيسى بن مريمعليهما‌السلام فما يدرينا: لعل في ذلك تمهيدا وتسهيلا لإنجاز مهمة الإمامعليه‌السلام في خضوع النصارى والكفار وتسليمهم له نظرا إلى أن أجداده لأمه منهم، فيحرك في نفوسهم الجانب العاطفي للرحم القائمة بينه وبينهم، الأمر الذي يختصر عليه كثيرا من الأمور وينجزها في سهولة ويسر.

على أن ذلك أحد أسباب اللطف العام بأولئك النصارى حيث يكونون على مقربة من الهداية والنجاة.

وبعد هذا نقول: إن أم السيدة فاطمة المعصومة هي أم الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد اجتمعت فيها الكمالات والفضائل التي أهلتها لأن تكون أما لولي اللهعليه‌السلام وحاضنة لكريمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم تسعفنا الروايات الواردة في تاريخ مراحل حياتها إلا بالنزر القليل، وإن كان يكشف عن جلالة قدرها ورفعة مقامها، فقد ورد في بعض الروايات أنها كانت تعيش في بيت الإمام الصادقعليه‌السلام قبل اقترانها بالإمام الكاظمعليه‌السلام ، وكانت جليلة ذات عقل ودين(1) .

روى الصدوق بسنده عن علي بن ميثم أنه قال: اشترت حميدة المصفاة - وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام - وكانت من

____________________

(1) منتهى الآمال ج 2 ص 405.

٤٣

أشراف العجم - جارية مولدة واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى أنها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالا لها.

وكانت علائم الجلالة والنجابة تلوح منها حتى شهدت بذلك مولاتها حميدة المصفاة على ما يروي الصدوق، فقد روى أن حميدة قالت لابنها موسىعليه‌السلام : يا بني إن تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن الله تعالى سيطهر نسلها، إن كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوص بها خيرا(1) .

ولا شك أن الحياة في بيت الإمام الصادقعليه‌السلام ، في حد ذاتها كافية في تأسيس حياة هي أفضل ما تكون، حيث منبع الطهر والعفاف والقداسة والكمال، فإذا انضم إلى ذلك الاستعداد التام كانت النتيجة هي بلوغ الغاية الممكنة، في الكمال والاستقامة.

وقد انعكس ذلك على حياة السيدة تكتم، فكانت من أهل العبادة والتهجد، فإنها لما أنجبت الرضاعليه‌السلام وكان كما تصفه الروايات يرتضع كثيرا، وكان تام الخلقة، قالت: أعينوني بمرضعة، فقيل لها أنقص الدر؟

فقالت: لا أكذب، والله ما نقص، ولكن علي ورد من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت(2) .

وفي ذلك دلالة على عظمة هذه المرأة، ومدى تعلقها بالله تعالى وارتباطها به، ولا شك أن لذلك تأثيرا على ما ينحدر منها من نسل.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

٤٤

تنبيه:

قد تقدم أن الإمام الكاظمعليه‌السلام هو الذي اشترى السيدة تكتم حيث بعث هشاما لابتياعها له، ومر آنفا أن حميدة المصفاة أم الإمام الكاظمعليه‌السلام هي التي اشترتها وظاهر ذلك هو التنافي.

ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: إن الإمام الكاظمعليه‌السلام اشتراها جارية لأمه فمكثت عند أمه مدة، ثم وهبتها أمه إليه، وبذلك يرتفع التنافي بين الروايتين.

وعلى أي تقدير فقد ذكرت الروايات أن السيدة تكتم كانت ذات حظوة عند الإمامعليه‌السلام ، وموضع عنايته، فإنها لما ولدت له الرضاعليه‌السلام سماها الطاهرة(1) .

وكان لها عدة أسماء منها: تكتم، ونجمة، وأروى، وسكن، وسمانة، وأم البنين، وقيل: خيزران، وصقر، وشقراء(2) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 404 - 405.

٤٥

تعدد الأسماء:

ومما يناسب المقام الإشارة إلى ظاهرة تعدد أسماء الجواري والعبيد، والملاحظ أن لأمهات الأولاد عدة أسماء، فإن لأم الإمام الرضاعليه‌السلام كما مر عشرة أسماء، ولغيرها من أمهات الأئمةعليهم‌السلام عدة أسماء، وهي ظاهرة تثير الالتفات، ووراءها حكمة لعلنا نستطيع استجلاءها من خلال ما تسعفنا به المصادر التي تناولت هذه الظاهرة أو أشارت إليها.

ونقول: إن لهذه الظاهرة أصلا شرعيا، فقد ورد النص بذلك، واستفاد الفقهاء منه استحباب تغيير اسم العبد أو الجارية، أما النص فهو ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن ابن أبي عمير (عن رجل) عن زرارة، قال: كنت جالسا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فدخل عليه رجل، ومعه ابن له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ما تجارة ابنك؟ فقال: التنخس، فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : لا تشتر شينا ولا عيبا، وإذا اشتريت رأسا فلا ترين ثمنه في كفة الميزان، فما من رأس يرى ثمنه في كفة الميزان فأفلح، وإذا اشتريت رأسا فغير اسمه وأطعمه شيئا حلوا إذا ملكته، وصدق (وتصدق خ ل) عنه بأربعة دراهم(1) .

قال المحقق في الشرائع: ويستحب لمن اشترى مملوكا أن يغير اسمه(2) .

____________________

(1) الفروع من الكافي ج 5 باب شراء الرقيق الحديث 14 ص 212.

(2) شرائع الإسلام ج 2 ص 58.

٤٦

وقال العلامة في القواعد: ويستحب لمن اشترى مملوكا تغيير اسمه وإطعامه حلوة والصدقة عنه بشئ(1) .

وقال في التذكرة: يكره للرجل إذا اشترى مملوكا أن يريه ثمنه في الميزان، ويستحب له تغيير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلاوة، وأن يتصدق عنه بأربعة دراهم(2) .

وقال صاحب الحدائق: ومنها أنه يستحب لمن يشتري مملوكا أن يغير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلو، وأن يتصدق عنه بشئ(3) .

وغيرها من الأقوال الكثيرة الدالة على ذلك، والتي يظهر منها الاتفاق على هذا الحكم، وإن كان أمرا استحبابيا.

ويبدو الجانب الأخلاقي واضحا في هذا الحكم، فإن للرقية واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان وصيرورته آلة لا يملك من أمره شيئا آثارا سيئة خطيرة.

ولم تكن الرقية تشريعا إلهيا، وليس في الإسلام حكم بمشروعية الاسترقاق الابتدائي، وإنما كان الرق نظاما سائدا بين الناس قبل الإسلام في الأمم السابقة.

ولما جاء الإسلام كان هذا النظام قائما بين الناس فأقره ووضع له أحكاما خاصة من شأنها القضاء عليه قضاء تاما في معالجة حكيمة لهذه المسألة المهمة.

____________________

(1) قواعد الأحكام ص 130.

(2) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 500.

(3) الحدائق الناضرة ج 19 ص 417.

٤٧

وفي الأحكام الجزائية التي وضعها الإسلام عند المخالفات الشرعية أكبر شاهد على ذلك، إضافة إلى ما ندب إليه الدين، ورغب فيه، ووعد عليه الثواب ونيل الدرجات، وإثارة الشعور الإنساني وتحريك الجانب العاطفي عند الأحرار نحو العبيد الذين قهرتهم ظروف معينة أصبحت فيها أمورهم وشؤونهم بأيدي غيرهم.

هذا غير ما فتحه الإسلام من أبواب تمكن العبد من الدخول فيها للانطلاق من قيد الرقية، فإن لذلك دورا آخر ساهم في القضاء على هذه المشكلة.

نعم سوغ الإسلام الاسترقاق في حالة واحدة، وليست هي أمرا ابتدائيا كما ذكرنا، وهي ما ذكرته المصادر الفقهية من جواز الاسترقاق في حالة الحروب بين المسلمين وبين غيرهم من الملل الكافرة، ولكن على ضوء شرائط معينة، وفي حالات خاصة، وقد تكفلت الكتب الفقهية ببيان ذلك ضاربة بذلك أروع المثل الأخلاقية.

وإنما ساغ ذلك لأنه عمل جزائي لوقوفه في مواجهة الإسلام ومحاربته، وقد كان في معرض القتل، إلا أنه لما وقع أسيرا كان جزاؤه أن يسترق، وفي ذلك تخفيف وامتنان عليه، على أن هناك حلولا ذكرت في الفقه تعالج حالة الاسترقاق يتمكن من خلالها الخروج من هذه الحالة.

ومن ذلك يظهر أن الاسترقاق ليس مقصودا في الشرع لذاته، ولا

٤٨

غرضا من أغراضه، وإنما هو أمر استثنائي وظرف طارئ اقتضى ذلك، ولسنا في مقام دراسة هذه الناحية، وتكفينا هذه الإشارة الإجمالية التي يتضح من خلالها عظمة الإسلام وسمو أحكامه وشرف مقاصده ونبل أهدافه.

ثم نقول: إن هذا الإنسان الذي قهرته الظروف فجعلت منه آلة لا يملك من أمره شيئا، يمر بمعاناة وآلام نفسانية خطيرة، وتعتصره المرارة حيث يرى نفسه عبدا حقيرا يستعبده غيره، ممن قد يكون دونه شرفا ومكانة فتنهدم معنوياته وتنسد في وجهه الآمال والأحلام، وربما يتنقل من يد تصفع إلى أخرى تلطم، وهكذا يعيش محطما قد ارتبط مصيره بأيدي الباعة والنخاسين.

ومن هنا تتجلى الحكمة في استحباب تغيير اسمه عند الشراء لأنه بذلك يبدأ حياة جديدة ينسى فيها ماضيه البائس، وأيامه السوداء، وفي ذلك إعانة له على نسيان أو تناسي عهده السابق وتخفيف لآلامه ومعاناته.

وفي إطعامه الحلو دلالة أخرى: فإن فيها إشعارا ببداية عهد جديد لا مرارة فيه، وهكذا في التصدق عنه بشئ.

وأما كراهة أن يرى ثمنه فهي أوضح دلالة وأجلى بيانا في مراعاة الشعور وحفظ الكرامة الإنسانية التي دأب الإسلام على مراعاتها والحفاظ عليها في جميع الأحوال والظروف.

٤٩

ولسنا نقول: إن ما يعانيه هذا الإنسان من الهوان دائمي التحقق والوقوع، وإنما هو مقتضى طبيعة الاسترقاق وشأنه، وإلا فقد ينتقل المملوك من يد رحيمة إلى يد أرحم، ومن عطف إلى ما هو أشد عطفا وشفقة وحنوا، وربما كانت سعادة امرء أن يعيش مملوكا لا أن يعيش طليقا، وفي ما يذكره التاريخ من قصة زيد بن حارثة حيث فضل الحياة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحياة مع أبيه حتى بلغ الأمر أن تبناه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يدعى زيد بن محمد بعد أن تبرأ منه أبوه إلى أن نزل قوله تعالى:( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ) (1) .

وفي ما حدث به التاريخ من سيرة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأولاده مع مماليكهم شواهد تدل على أن ما ذكرناه ليس مطردا وفي جميع الأحوال، فإن كثيرا من أولئك العبيد والجواري قد بلغوا مبلغا من العلم والفضيلة والشرف انحنى لهم التاريخ إجلالا لمقامهم واعترافا بسمو ذواتهم، وإكبارا لعظمتهم، لأنهم حظوا بقلوب عطوفة، ونفوس رحيمة، وعقول ناضجة مدبرة، مكنتهم من تسنم أرقى الدرجات.

إذن فتغيير الاسم يكشف عن حكمة بالغة أراد منها الشرع أن يخفف من شئ من المعاناة التي قد ينالها من قهرته الظروف فساقته إلى سوق الرقيق.

ومن المحتمل أن يكون تعدد الأسماء للشخص الواحد لكونها

____________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن ج 7 ص 335 - 337.

٥٠

تتضمن معاني وإشارات إلى خصائص المسمى، وهذا الأمر نقف عليه في كثير من الناس أحرارا كانوا أو عبيدا، فإن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من اسم يحمل أكثر من معنى وأكثر من لقب كذلك، كما للأئمةعليهم‌السلام وللصديقة الزهراءعليها‌السلام ، وكان ذلك محل عناية من الآداب الشرعية التي لم تغفل هذا الجانب فرغبت في اختيار الاسم الحسن واللقب الحسن والكنية الحسنة.

ومن المحتمل أيضا أن تعدد الأسماء لم يكن عن شئ من ذلك ولا سيما في العبيد والجواري، إذ لا يعيشون حياة مستقرة، ولا يهم البائع أو المشتري اسم سلعته، فيضع بإزائها اسما ما لمجرد التمييز، فتجتمع عدة أسماء للشخص الواحد نتيجة ذلك.

ولعل هناك وجوها أخرى لم ندركها بعد وراء تعدد الأسماء، إلا أن في ما ذكرناه قد يكشف بعض الوجه في تعدد أسماء أمهات الأئمةعليهم‌السلام .

وبذلك لا نحتاج إلى تكلف البحث عن المعنى الاشتقاقي لمعنى الاسم وتطبيق المعنى المناسب على المسمى كما حاول بعضهم(1) أن يوجد المناسبة ولو كانت بعيدة ليستنتج الوجه في التسمية.

وإنما لا نحتاج إلى ذلك لأننا لا نعلم الواضع لهذه الأسماء، لنلتمس الوجه اللائق في التسمية بالاسم المعين، نعم إذا كان الواضع معروفا وهو عالم بمداليل الألفاظ قاصدا لمعانيها فلا بد من حمل كلام الحكيم

____________________

(1) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام (فارسي) ص 83 - 86.

٥١

على ما يناسبه من المعاني، صيانة لكلامه عن اللغو، وقد مر أن الإمام الكاظمعليه‌السلام أطلق اسم الطاهرة على السيدة تكتم بعد أن أنجبت الإمام الرضاعليه‌السلام .

فهذه التسمية منهعليه‌السلام تكشف عن معنى عظيم في المسمى صدر من المعصوم في شأن أم المعصوم، وهو العالم بحقائق الأمور الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو نظير ما ورد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، فقد جاء في كتاب الكافي أنهعليه‌السلام لما بعث من يشتري حميدة أم الإمام الكاظمعليه‌السلام وجئ بها إليه، قال لها: ما اسمك؟ قالت:

حميدة، فقالعليه‌السلام : حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة(1) .

فإنه وإن لم تكن التسمية منهعليه‌السلام إلا أنه إقرار لها وإمضاء منه، بل فسرهعليه‌السلام بتفسير يكشف عن معنى عظيم في هذه المرأة الطاهرة، وقد وصفها الإمام الصادقعليه‌السلام كما في الكافي بقوله: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي كرامة من الله لي، والحجة من بعدي(2) .

وبناء على هذا فبقية الأسماء إن كانت على الوجه الذي ذكرناه فهو، وإلا فلا داعي للتكلف في التماس معنى مناسب فإن بعض ما ذكر من المعاني وتطبيقه عليها بعيد جدا.

هذا، وقد ذكرت ستة أسماء أخرى لأم الإمام الرضاعليه‌السلام غير ما

____________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام الحديث 1 ص 477.

(2) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسىعليه‌السلام الحديث 2 ص 477.

٥٢

ذكرناه، وهي: سكينة، وسلامة، وتحية، ونجية، وسها، وشهد(1) .

وإلى هنا تبين أن أم الإمام الرضاعليه‌السلام والسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من سيدات النساء، وقد بلغت من الشرف والفضل والطهر والعفاف والكمال أعلى المراتب وأرفع الدرجات، حتى أصبحت قرينة المعصوم وأما للمعصوم. فسلام الله عليها وتحياته وبركاته.

____________________

(1) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص 86.

٥٣

ولادة السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام

في ذلك البيت الطاهر ولدت سليلة الطهر والعفاف فاطمة المعصومة، وكانت الظروف التي ألمت بأهل البيتعليهم‌السلام آنذاك عصيبة جدا إلى حد غاب فيها عن المؤرخين والرواة تسجيل أحداث الولادة وتأريخها، أو ذكر شئ مما يتعلق بها، إذ كانت السلطة العباسية قد أحكمت قبضتها وأخذت تتتبع مناوئيها ممن تتوجس منهم وترى أنهم سبب إزعاج لهم ومصدر قلق لسياستهم، وهم العلويون وفي طليعتهم الإمام الكاظمعليه‌السلام صاحب الحق الشرعي الذي ما فتئ يلمح بل ويصرح بأنه صاحب الحق، وأن العباسيين خدعوا الأمة بسياستهم الملتوية حيث أعلنوا للناس أن حركتهم ضد بني أمية إنما كانت غضبا لبني هاشم مما حل بهم من خصومهم الأمويين، وطلبا لثأرهم منهم، وأن دعوتهم كانت للرضا من آل محمدعليهم‌السلام ، وبذلك استطاعوا أن يسيروا عواطف الناس ومشاعرهم نحو تأييدهم، وانطلت اللعبة على أكثر الناس فاستجابوا لهم في سذاجة وحسن نية، وفي غفلة عما بيته

٥٤

العباسيون، حتى انخدع بذلك القواد الذين كان لهم الدور في توطيد الملك والقضاء على بني أمية وإخضاع البلاد، في ظن منهم أن الدعوة للرضا من آل محمدعليهم‌السلام دعوة صادقة، وما علموا أن بني العباس إنما استخدموهم آلات لتحقيق أغراضهم، ولذا ما إن استلم العباسيون زمام الأمر واكتشف هؤلاء القواد أنهم خدعوا فأعلنوا سخطهم حتى فتكوا بهم واستأصلوهم كأبي سلمة الخلال، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما من القادة العسكريين(1) .

ولم تكن هذه اللعبة لتخفى على آل محمدعليهم‌السلام الذين اتخذهم العباسيون درعا تترسوا به من أجل الوصول إلى أغراضهم، وقد كشف الإمام الصادقعليه‌السلام هذه المهزلة العباسية وأخذ حذره ولم يتورط في أحداث هذه الحركة المبيتة في حين قد تورط غيره من بني عمه فانساق معهم، وكان مآله أن فتك به كما فتك بغيره.

وفي هذه الحقبة الزمنية من التاريخ أحداث كبيرة، وهي جديرة بالبحث، ولسنا في صدد الحديث عنها، ولعلنا نشير إلى بعضها في موضع آخر.

أقول: من أجل هذا تحاشى الرواة والمؤرخون من الدنو من أهل البيتعليهم‌السلام في هذه الفترة لتسجيل ونقل بعض الأحداث التي ترتبط بتاريخهم خوفا على أنفسهم من بطش الحكام وغضبهم بل انضم

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 1 ص 347 - 372.

٥٥

بعضهم إلى صفوف الحكام تزلفا وطمعا.

وقد غاب عنا كثير من الحقائق وخفيت علينا وقائع كثيرة، وذهبت في طي النسيان، ومنها تاريخ ولادة السيدة المعصومةعليها‌السلام ، فلم يرد في شئ من الروايات ذكر السنة التي ولدت فيها فضلا عن اليوم أو الشهر.

وما بأيدينا من المصادر التي ذكرت تاريخ ولادتهاعليها‌السلام هي في الحساب متأخرة جدا، ولم تذكر مستندا لذلك، بل ذكر بعض الكتاب أن ذلك أمر مجهول(1) .

ونحن وإن ننقل ما ذكره المؤلفون إلا أننا لسنا على يقين، وتبقى حلقة مفقودة تضاف إلى كثير من الحلقات الضائعة من تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام .

ذكر بعض المؤلفين - ونسبه إلى المؤرخين - أن ولادتهاعليها‌السلام كانت سنة 183 هـ، وهي السنة التي استشهد فيها والدها الإمام الكاظمعليه‌السلام ، في قول أكثر المؤرخين(2) .

وعلى هذا فلم تحظ السيدة المعصومة بلقاء أبيهاعليه‌السلام ورعايته، وعاشت في كنف أخيها وشقيقها الإمام الرضاعليه‌السلام وصي أبيه والقائم مقامه.

واستبعد بعضهم(3) أن تكون ولادتهاعليها‌السلام في تلك السنة، لأن السنوات الأربع الأخيرة من عمرهعليه‌السلام - على أقل التقادير - كان فيها

____________________

(1) رياحين الشريعة ج 5 (فارسي) ص 31.

(2) أعلام النساء المؤمنات ص 576.

(3) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص 103.

٥٦

رهين السجون العباسية، مضافا إلى أنه قد ذكر أن للإمام الكاظمعليه‌السلام أربعا من البنات(1) ، اسم كل منها فاطمة، وأن الكبرى من بينهن هي فاطمة المعصومةعليها‌السلام ، ولذا فلا بد أن تكون ولادتها قبل سنة 179 هـ، وهي السنة التي قبض فيها على الإمامعليه‌السلام وأودع السجن.

ولكن بالالتفات إلى احتمال أن هؤلاء الفاطميات الثلاث - غير الكبرى - لسن من أم واحدة، بل من أمهات شتى، فلا استبعاد في أن تكون ولادتهن في سنة واحدة.

على أنه يمكن القول بأنه قد قبض على الإمامعليه‌السلام وأمهاتهن حوامل بهن، وكانت ولادتهن بعد سنة 179 هـ، وأن فاطمة المعصومة كانت ولادتها في سنة 179 هـ.

ولكن مع ذلك لا يمكن الجزم بشئ، نعم بناء على أن شهادة الإمام الكاظمعليه‌السلام كانت سنة 183 هـ، فمن البعيد أن تكون ولادة السيدة المعصومة في تلك السنة، ولا سيما أنها الكبرى من بين أخواتها الثلاث.

ثم إنه قد ذهب آخرون(2) إلى أن ولادتهاعليها‌السلام كانت في غرة شهر ذي القعدة سنة 173 هـ. والقائل بذلك وإن كان من الباحثين الأجلاء وله باع طويل في التحقيق والتتبع، وأرسل ذلك إرسال المسلمات إلا أنه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ.

____________________

(1) تذكرة الخواص ص 351.

(2) مستدرك سفينة البحار ج 8 ص 261.

٥٧

وبناء على هذا التاريخ تكون السيدة فاطمة قد عاصرت من حياة أبيها عشر سنوات، غير أن السنين الأربع الأخيرة من عمرهعليه‌السلام كان فيها رهين السجون العباسية كما ذكرنا، فلم تحظ منه إلا بست سنوات.

ولم نقف في شئ من المصادر على غير هذين القولين في تحديد سنة ولادتهاعليها‌السلام .

وعلى أي تقدير فقد فتحت هذه السيدة عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حياتها بالحزن والأسى، وإذا كان عمرهاعليها‌السلام ست سنوات يوم قبض على أبيها فهي في سن تدرك فيه غياب الأب عن البيت، وتعي ما يجري في هذا البيت، وما يسوده من الحزن والألم، وما يعانيه أهله من لوعة وعناء، ثم ما يتناهى إلى سمعها من شهادة أبيهاعليه‌السلام ، وما تلاها من أحداث مروعة فيعتصر الألم قلبها الصغير، وهي لا ترجو لأبيها عودة إلى البيت، وترى أن هناك أخطارا تحدق بأهل هذا البيت، وربما أثار ذلك في نفسها كثيرا من التساؤلات حول ما يجري، ولماذا قصد أبوها بالذات، وأهل بيتها بالخصوص، بأنواع الإيذاء من دون سائر الناس، ولكنها ما تلبث أن تدرك أن لهذه القضايا جذورا تمتد إلى زمان جدتها الزهراءعليها‌السلام .

فمن ذلك اليوم الذي عانت فيه أمها فاطمةعليها‌السلام آلام الظلم والعدوان، ومن ذلك اليوم الذي نحي فيه جدها أمير المؤمنينعليه‌السلام عن

٥٨

منصب الإمامة أصبح أهل هذا البيت عرضة لظلم الظالمين وتعدي الغاشمين.

وما كانت السيدة فاطمة المعصومة لتبقى مهملة بلا كفيل، فإنها وإن فقدت أباها وهي في مقتبل العمر إلا أنها عاشت في كنف شقيقها الرضاعليه‌السلام ، وأولاها العناية الخاصة في تربيتها ورعايتها، حتى غدت أفضل بنات الإمام موسى ين جعفرعليهما‌السلام .

ونشأت هذه السيدة تتلقى من أخيها العلم والحكمة في بيت العصمة والطهارة، فأصبحت ذات علم ورواية ومقام وسيوافيك عنه حديث.

أسماء وألقاب:

لا يخفى أن للتسمية أهمية كبيرة، ولها في نظر أهل البيتعليهم‌السلام عناية خاصة، وهي وإن وجدت مع وجود الإنسان باعتبار المدنية الطبيعية المقتضية للتعامل مع الأشخاص والأشياء المختلفة الموجبة للتمييز فيما بينها إلا أن تعاليم أهل البيتعليهم‌السلام أدخلت تعديلات مهمة في وضعها وإطلاقها على الأشخاص والأشياء راعت فيها الجوانب النفسانية والأخلاقية، فحثت على تخير الاسم الحسن، واعتبرت ذلك من حقوق الأبناء على آبائهم.

ففي رواية عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: جاء رجل إلى

٥٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه، وأدبه، وضعه موضعا حسنا(1) .

بل إضافة على ذلك كان أهل البيتعليهم‌السلام يغيرون بعض الأسماء إذ ربما تترك أثرا سلبيا على نفس المسمى.

فقد روى الإمام الصادقعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان(2) .

وروي عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام في حديث إسلام سلمان وأن اسمه كان روزبه، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتراه من امرأة يهودية بأربعماءة نخلة - إلى أن قالعليه‌السلام -: قال سلمان: فأعتقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماني سلمان(3) .

وروى الكليني بسنده عن يعقوب السراج أنه قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، وهو في المهد، فجعل يساره طويلا فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال: ادن إلى مولاك فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد علي بلسان فصيح ثم قال لي: إذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :

انته إلى أمره ترشد فغيرت اسمها(4) .

____________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 7.

(3) كمال الدين وتمام النعمة ص 165.

(4) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسىعليه‌السلام الحديث 3 ص 308.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607