بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63074 / تحميل: 6545
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة ، فالإنذار يترك فيهم أثرين : الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم ، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة ، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار ، وذلك على خلاف الكفّار عمى القلوب الغافلين الذين لا يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

٢ ـ باعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد».

لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(١) ، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير ، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

٣ ـ «الخشية» كما قلنا سابقا ، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى ، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا ، وهو أنّه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله ، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته ، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء ، اللذين هما عاملا الحركة التكاملة المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

__________________

(١) انظر النحل : ٤٤ وفصّلت : ٤١ ، والزخرف : ٤٤ والقمر : ٢٥ ، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيرا بمعنى «التذكير المطلق».

١٤١

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف ، والخوف ممزوجا بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

٤ ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان ، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان ، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضا أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعا ريائيا ، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضا بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للأمور المغيبة عن حسّنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

٥ ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار ، إذ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البدء ينذر ، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريعزوجل .

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر ، وهو تلك الزلّات التي ارتكبها ، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّا الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ استخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعظم.

٦ ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفضيل ، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل ، والثانية على الثاني.

__________________

(١) الأحزاب ، ٢١.

١٤٢

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ) .

الاستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط ، بل( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) .

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال

١٤٣

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ) .

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كلّ هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما للخلق ، وبناء على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال.

* * *

مسألتان

١ ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب ، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها : «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصى جميع أعمال الفرد على مدى عمره( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(٢) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة ١٩ و ٢٥.

ثانيا : «صحيفة أعمال الامّة» والتي تبيّن الخطوط الاجتماعية لحياتها ، كما

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٤٩.

١٤٤

يقول القرآن الكريم :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .(١)

وثالثها : «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع ، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط ، بل لجميع الحوادث العالمية ، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم ، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

٢ ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : «ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء! قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتّى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . هكذا تجمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء ، طالبا ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(٢) .

هذا الحديث المؤثّر ، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد ، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(٣) .

__________________

(١) الجاثية ، ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، ح ٢٥.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٢ ، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري ، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا ، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلّامة الطباطبائي ـ أيضا ـ بتفاوت يسير.

١٤٥

اتّضح إذا أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، وله في كلّ من تلك الأمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت»عليهم‌السلام حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : «لمّا أنزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا : يا رسول الله ، هو التوراة؟ قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا : فهو القرآن؟ قال : لا ، قال : فأقبل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(١) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي» ، قد إستاء كثيرا من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة ، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع وعدم التمكّن من التّفسير ، إلّا أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الأوّل ، ثمّ يليه قلب وليّه ، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب ، لأنّهما فرع لذلك الأصل ، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب معنى الإمام ، صفحة ٩٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٩.

١٤٦

الكبير ، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟

وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر ، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

١٤٧

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) )

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجا من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها ،

١٤٨

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيها لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحيانا على نفس الناس أيضا ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديما ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

__________________

(١) يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأوّل.

١٤٩

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول :( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) (١) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيحعليه‌السلام (ولا منافاة مع قوله تعالى :( إِذْ أَرْسَلْنا ) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضا) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرّع بها الكثير من الكفّار دائما في مواجهة الأنبياء( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) .

فإذا كان مقرّرا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكا مقرّبا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنسانا ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضا على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

١٥٠

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لا بدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) ومسئوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

( وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الادّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلّا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضا أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسىعليه‌السلام .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) (١) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ،

__________________

(١) تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية ١٣١ ، وذيل الآية ٤٧ من سورة النمل.

١٥١

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لملمدّة(١) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد احتمالان ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت ، ومن الممكن أن ذكر العذاب الأليم إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعا اخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضا أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(٢) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من استقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء :( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٢) وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والاتّهام والقذف.

١٥٢

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة( أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلّا النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(١) .

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة أولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

__________________

(١) التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الأمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

١٥٣

الآيات

( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) )

١٥٤

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول :( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما استطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فردا عاديا ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّا أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

١٥٥

الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «يا قوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجرا ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) (١) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون :( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ عدم الاستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطؤ عن الاستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا

__________________

(١) الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠.

١٥٦

تضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي ألاحظ بوضوح أنّ هناك صوتا يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذا عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا :( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ) .

هنا أيضا يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فما ذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريدون أحدا بضرّ ، إلّا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

١٥٧

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد :( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعند ما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة( فَاسْمَعُونِ ) والجملة السابقة لها( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضا ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية(١) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال :( يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) غافر ـ ٣٨.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم أولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

__________________

(١) راجع الآيات ٣ و ٣٢ يونس ـ ٣ و ٥٢ هود ـ ٢٤ النمل ٢٩ ـ الكهف وغيرها.

١٥٨

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القويّة الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ، حتّى قتلوه(١) .

وفي رواية اخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(٢) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات أخرى من القرآن الكريم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(٣)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم أخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار»(٤) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٨ و ١٩.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٤.

(٣) آل عمران ، ١٦٩.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨.

١٥٩

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرة!!

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(٢) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والاحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، وأصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنبا إلى جنب ،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٣) . ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين :

__________________

(١) بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة احتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو استفهامية ، ولكن يبدو أنّ احتمال كونها استفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون مصدرية.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، ـ صفحة ٢٠.

(٣) الحجرات ، ١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

و لا مري‏ء المأكلة، و إنّي من قريش كواسطة القلادة، يعرف حسبي، و لا أدعى لغير أبي، و أنت من تعلم و يعلم الناس، تحاكمت فيك رجال قريش، فغلب عليك جزّارها، ألأمهم حسبا، و أعظمهم لؤما، فإيّاك عنّي، فإنّك رجس، و نحن أهل بيت الطهارة، أذهب اللّه عنّا الرجس، و طهّرنا تطهيرا. فأفحم عمرو و انصرف كئيبا( ١) .

و كيف لا يستحيون أن يقولوا: إنّ أمير المؤمنين أرسل الحسنين للدفاع عن عثمان؟ و قد قتل بنو امية الحسينعليه‌السلام بعثمان، ففي الطبري: كتب عبيد اللّه بن زياد إلى عمر بن سعد: أمّا بعد فحل بين الحسين و أصحابه و بين الماء، و لا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقيّ الزكيّ المظلوم عثمان( ٢) .

و في (الطبري) أيضا: لمّا جي‏ء برأس الحسينعليه‌السلام إلى عبيد اللّه بن زياد، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلميّ، و قال له: انطلق حتّى تأتي المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص و كان يومئذ أمير المدينة فبشّره بقتل الحسين.

قال: فدخلت على عمرو فقال: ما وراءك؟ قلت: ما سرّ الأمير، قتل الحسين.

فقال: ناد بقتله. فناديت فلم أسمع و اللّه واعية( ٣ ) مثل واعية نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين، فقال عمرو متمثّلا ببيت عمرو بن معدى كرب و ضحك:

عجّت نساء بني زياد عجّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب( ٤)

ثمّ قال: هذه واعية بواعية عثمان( ٥) .

و في (تذكرة سبط ابن الجوزي): قال ابن سعد كاتب الواقدي: دفن رأس

____________________

(١) نقل عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦: ٢٧ ٢٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٤١٢، سنة ٦١.

(٣) يقال: ارتفعت الواعية: الصراخ على الميّت. و سمعت واعية القوم: أصواتهم. (أساس البلاغة: ٥٠٤، مادة: وعى).

(٤) في رواية لسان العرب: بني زبيد بدل: بني زياد. و الأرنب: موضع. (لسان العرب ٥: ٣٣١، مادة: رنب).

(٥) تاريخ الطبري ٥: ٤٦٥ ٤٦٦، سنة ٦١، تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ٢٦٦.

٢٠١

الحسينعليه‌السلام بالمدينة عند امّه و ذكر الشعبيّ أنّ مروان كان بالمدينة فأخذ الرأس، و تركه بين يديه، و تناول أرنبة أنفه و قال:

يا حبّذا بردك في العيدين

و لونك الأحمر في الخدّين

و اللّه لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان( ١) .

و من المضحك أنّ (المسعودي) قال: فلمّا بلغ عليّا أنّهم يريدون قتله، بعث ابنيه و مواليه بالسلاح لنصرته و بعث الزبير ابنه و بعث طلحة ابنه إلى أن قال: و جرح الحسن، و شجّ قنبر، و جرح محمّد بن طلحة( ٢) .

و كيف يرسل طلحة و الزبير ابنيهما لنصرته و هما كانا محرّضين على قتله إلى ساعة قتله؟ ففي (خلفاء ابن قتيبة): أنّ عمّارا لمّا جاء إلى الكوفة لنفر الناس في حرب الجمل قال: يا أهل الكوفة، و إنّ طلحة و الزبير كانا أوّل من طعن على عثمان، و آخر من أمر بقتله( ٣) .

و كيف أرسل طلحة ابنه لنصرة عثمان و قد رماه مروان بسهم مع كونه في جنده فقتله و قال: أخذت ثأري من طلحة في عثمان( ٤) .

و إنّما المحقّق نصرة ابن الزبير لعثمان من نفسه لا من قبل أبيه، حضر لنصره لأمرين أحدهما: أنّه لمّا كان حريصا على الإمارة، و طالبا للخلافة يمكنه أن يدّعي أنّ عثمان في حصاره نصّ عليه، فكان يدّعي ذلك. و الثاني: أنّه علم أنّ عثمان إن قتل، يكون الأمر لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، و كان كخالته أمّ مؤمنيهم في كون ذلك أشدّ عليه من وقوع السماء عليه.

____________________

(١) تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: ٢٦٥ ٢٦٦.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٢: ٣٥٣ ٣٥٤.

(٣) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١: ٦٧.

(٤) أنساب الأشراف ٣: ٢٤٦، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٨٢، الجمل للمفيد: ٣٨٤، تذكرة الخواصّ: ٧٧، شرح ابن أبي الحديد ٩: ١١٣.

٢٠٢

روى المدائني: أنّ ابن الزبير قال يوما لمعاوية: أ تنكر شجاعتي و قد وقفت في الصفّ بإزاء عليّ و هو من تعلم فقال له معاوية: لا جرم أنّه قتلك و أباك بيسرى يديه، و بقيت يده اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. فقال له ابن الزبير: أما و اللّه ما كان ذلك إلاّ في نصر عثمان فلم نجز به، فقال له معاوية: خلّ هذا عنك، فو اللّه لو لا شدّة بغضك لابن أبي طالب لجررت برجل عثمان مع الضبع( ١) .

و كيف يعقل صحّة ما قال اولئك المصنفون؟ و قد قالعليه‌السلام : «إنّ من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، و من خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير منّي»( ٢ ) . فهل كان ناصروه إلاّ كندماء ابن عمّه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان؟ و لمّا أرادوا قتل الوليد أخذ مصحفا مثل عثمان، و قال: يومي [ يوم ] كيوم عثمان( ٣ ) . مع أنّه كان راميا المصحف بالسهم حتّى مزّقه( ٤) .

و في (الطبري): كان مع الوليد مالك المغنّي، و عمرو الوادي المغنّي، فلمّا تفرّق عن الوليد أصحابه، و حصر، قال مالك لعمرو: اذهب بنا. فقال عمرو:

ليس هذا من الوفاء، و نحن لا يعرض لنا لأنّا لسنا ممّن يقاتل، فقال مالك: ويلك و اللّه لئن ظفروا بنا لا يقتل أحد قبلي و قبلك فيوضع رأسه بين رأسينا، و يقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال فلا يعيبونه بشي‏ء أشدّ من هذا فهربا( ٥) .

____________________

(١) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢٠: ١٢٦.

(٢) نهج البلاغة ١: ٧١ ٧٢.

(٣) تاريخ الطبري ٧: ٢٤٦، سنة ١٢٦.

(٤) مروج الذهب للمسعودي ٣: ٢٢٨.

(٥) تاريخ الطبري ٧: ٢٥٢، سنة ١٢٦.

٢٠٣

و لعمر اللّه إنّ المغنّيين كانا أحسن من مروان صاحب عثمان فقد كانا فاسقين بالعمل و قد كان مروان من خبث النفس بحيث لا يوصف فهو الذي قال للوليد بن عتبة ابن عمّ يزيد الذي كتب يزيد إليه: «خذ البيعة لي من الحسين»: احبس الحسين حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فقال له الوليد: اخترت لي التي فيها هلاك ديني و اللّه ما احبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس و غربت عنه من مال الدّنيا و ملكها، و أنّي قتلت حسينا، سبحان اللّه أقتل حسينا أن قال:

لا أبايع و اللّه إنّي لا أظنّ أمرأ يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند اللّه تعالى يوم القيامة. فقال له مروان مستهزئا به: إذا كان هذا رأيك فقد أصبت في ما صنعت( ١) .

و نفس عثمان و نفس مروان واحدة، «فالمرء على دين خليله»( ٢) .

و كيف يصحّ ما قالوا من أنّهعليه‌السلام و طلحة و الزبير بعثوا بنيهم للدفاع عن عثمان؟ و قد عرفت أنّ نافعا حاجّ ابن الزبير، فحجّه بأنّك تعلم أنّ أباك و طلحة و عليّا كانوا أشد الناس على عثمان، و كانوا في أمره من بين قاتل و المراد أبوه و طلحة و خاذل يعني أمير المؤمنينعليه‌السلام و أنت تتولّى أباك و طلحة و عثمان. و كيف ولاية قاتل متعمّد و مقتول في دين واحد( ٣) .

و كيف يصحّ ما قالوا: من أنّهعليه‌السلام بعث ابنيه للدفاع عن قتل عثمان، و كانعليه‌السلام مدافعا عن قتلة عثمان فلمّا قام أبو مسلم الخولاني( ٤ ) في قرّاء

____________________

(١) المصدر نفسه ٥: ٣٤٠، سنة ٦٠.

(٢) رواه الكليني في الكافي ٢: ٣٧٥.

و قال ابن منظور في لسان العرب ٤: ٢٠٢، مادة (خلل): و في الحديث: المرء بخليله، أو على دين خليله، فلينظر امرؤ من يخالل. و أورده الميداني في مجمع الأمثال ٢: ٢٧٥ عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: المرء بخليله، أي: مقيس بخليله.

(٣) الكامل للمبرّد ٢: ٢٢٩ ٢٣٠.

(٤) هو عبد اللّه بن ثوب أحد الزّهاد الثمانية، تابعيّ، أصله من اليمن، أدرك الجاهلية و أسلم قبل وفاة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٠٤

الشام إلى معاوية كما في (صفين نصر) و قال له: علام تقاتل عليّا و ليس لك مثل صحبته و لا قرابته و لا سابقته؟ قال: لست أدّعي ذلك، و لكن ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوما؟ فليدع إلينا قتلته فنقتلهم به، و لا قتال بيننا و بينه إلى أن قال فقال أبو مسلم لعليّعليه‌السلام : قد رأيت قوما مالك معهم أمر.

قال: و ما ذاك؟ قال: بلغ القوم أنّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجّوا و اجتمعوا، و لبسوا السلاح، و زعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان. فقال له عليّعليه‌السلام :

و اللّه ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه، ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك و لا إلى غيرك. فخرج أبو مسلم و هو يقول: الآن طاب الضّراب( ١ ) و إنّما خلّىعليه‌السلام بينه و بينهم ليريه إجماع المسلمين على قتل عثمان، و إباحة دمه.

«و أنا جامع لكم أمره» من طرفه و طرفكم.

«استأثر فأساء الأثرة» فكان عثمان خصّ أقاربه بولاية البلاد حتّى عزل عمرو بن العاص، فطلّق عمرو لذلك اخته امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، و حرّض الناس عليه. و لمّا سمع خبر قتله قال: أنا أبو عبد اللّه إذا حككت قرحة نكأتها( ٢ ) ، إن كنت لاحرّض عليه، حتى لا حرّض عليه الراعي في غنمه في رأس [ي]ره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، و هاجر إلى الشام، توفي سنة ٦٢ ه و دفن في داريّا بدمشق. و كان للعامّة فيه اعتقاد عظيم. و لكنّه من أعوان معاوية و سيّى‏ء الرأي في عليّعليه‌السلام . روي عن الفضل بن شاذان أنّه قال عند ذكره للزّهاد الثمانية: و أمّا أبو مسلم، فإنّه كان فاجرا مرائيا و كان صاحب معاوية، و هو الذي كان يحثّ الناس على قتال عليّعليه‌السلام .

انظر حلية الأولياء ٢: ١٢٢، الأعلام ٤: ٧٥، الكنى و الألقاب ١: ١٥٨.

____________________

(١) وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: ٨٥ ٨٦، شرح ابن أبي الحديد ١٥: ٧٣ ٧٥، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

(٢) قال ابن الأثير في النهاية ١: ٤١٨، مادة (حكك): و في حديث عمرو بن العاص: إذا حككت قرحة دمّيتها، أي: إذا أمّمت غاية تقصّيتها و بلغتها، و في الصحاح ١: ٧٨، مادة (نكأ): نكأت القرحة نكأ، إذا قشرتها.

٢٠٥

الجبل. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش، إنّه كان بينكم و بين العرب باب وثيق فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحقّ من خاصرة [ حافرة ] الباطل، و أن يكون الناس في الحقّ شرعا سواء( ١) .

«و جزعتم فأسأتم الجزع» لأنّهم منعوه الماء في حياته، و منعوا من دفنه بعد قتله. و لا يجوز منع الماء من أحد( ٢ ) . و يجب مواراة أموات جميع الناس المسلم و غيره.

و قال ابن أبي الحديد: أساؤوا الجزع لأنّه كان الواجب عليهم ألاّ يجعلوا جزاءه عمّا أذنب القتل، بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره في الإمامة( ٣) .

قلت: فإذا كان مستحقّا للخلع، كيف يقول بإمامته؟ و قد قال الناس له قبل قتله: أنت مستحقّ للخلع، لمّا رأوا غلامه على جمله، و كتابه إلى عامله على مصر بقتل محمّد بن أبي بكر و من معه و كان بعثه لمّا شكوا إليه ظلم عامله، و قتله الناس بغير حقّ، فأنكر عثمان أن يكون هو بعث الغلام و كتب الكتاب، فقالوا له: إن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لعملك هذا، و إن كنت صادقا استحققت الخلع لعجزك عن أمر الخلافة حيث يكتب غيرك على لسانك مثل هذا، و أنت لا تعلم فاخلع نفسك. فأبى عليهم حتّى قتلوه( ٤) .

و إنّما الأصل في قولهعليه‌السلام : «و أسأتم الجزع» لأنّ عمدة الجازعين و هم قريش و في رأسهم طلحة من تيم، و الزبير من أسد لم يقتلوه غضبا للّه بل لهوى أنفسهم، لأنّه لم يولّهم و ولّى بني أبيه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٣٥٧، سنة ٣٥، و شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٤٤.

(٢) و لذا بعث أمير المؤمنينعليه‌السلام الماء إلى عثمان حين منع من الماء. انظر أمالي الشيخ الطوسي ٢: ٣٢٥، شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٤٨، و بحار الأنوار ط الكمباني ٨: ٣٧٤.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٢٨ ١٢٩.

(٤) تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ٤: ٣٧٥ ٣٧٦، سنة ٣٥، و شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٥٠.

٢٠٦

و في (المروج): حجّ عبد الملك في بعض أعوامه، فأمر للناس بالعطاء، فخرجت بدرة مكتوب عليها «من الصدقة» فأبى أهل المدينة من قبولها و قالوا:

إنّما كان عطاؤنا من الفي‏ء. فقال عبد الملك و هو على المنبر: يا معشر قريش، مثلنا و مثلكم أنّ أخوين خرجا مسافرين، فنزلا في ظلّ شجرة تحت صفاة، فلمّا دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حيّة تحمل دينارا فألقته إليهما، فقالا: إنّ هذا لمن كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيّام كلّ يوم تخرج إليهما دينارا، فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحيّة؟ ألا نقتلها و نحفر هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه، و قال: ما تدري لعلّك تعطب و لا تدرك المال. فأبى عليه، و أخذ فأسا و صرد الحيّة حتّى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها و لم تقتلها فثارت الحيّة فقتلته، و رجعت إلى جحرها، فقام أخوه فدفنه، و أقام حتّى إذا كان الغد خرجت الحيّة معصوبا رأسها ليس معها شي‏ء، فقال لها: يا هذه، إنّي و اللّه ما رضيت ما أصابك، و لقد نهيت أخي عن ذلك، فهل لك أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضرّيني و لا أضرّك، و ترجعين إلى ما كنت عليه؟ قالت الحيّة: لا.

قال: و لم؟ قالت: لأنّي أعلم أنّ نفسك لا تطيب لي أبدا، و أنت ترى قبر أخيك، و نفسي لا تطيب لك أبدا و أنا أذكر هذه الشجّة، و أنشدهم أي عبد الملك شعر النابغة في ذلك:

فقالت أراه [ أرى ] قبرا تراه مقابلي

و ضربة فأس فوق رأسي فاغرة [ فاقره ]

يا معشر قريش، وليكم عمر فكان فظّا غليظا مضيّقا عليكم، فسمعتم له و أطعتم، ثمّ وليكم عثمان فكان سهلا فعدوتم عليه فقتلتموه، و بعثنا عليكم مسلما يوم الحرّة فقتلناكم، فنحن نعلم يا معشر قريش، أنّكم لا تحبّوننا أبدا

٢٠٧

و أنتم تذكرون يوم الحرّة و نحن لا نحبّكم أبدا و نحن نذكر قتل عثمان( ١) .

«و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع» هو نظير قولهعليه‌السلام : «لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا» في إجمال الجواب لعدم تمكّنهعليه‌السلام من بيان الحقيقة و هي بطلان ولايته المستلزمة لبطلان ولاية الأوّل و الثاني.

و في (الأغاني): كان حسّان بن ثابت و النعمان بن بشير و كعب بن مالك عثمانية، يقدّمون بني أميّة على بني هاشم، و يقولون: الشام خير من المدينة.

و اتّصل بهم أنّ ذلك قد بلغ عليّاعليه‌السلام ، فدخلوا عليه، فقال له كعب: أخبرنا عن عثمان: أقتل ظالما، فنقول بقولك؟ [ أم قتل مظلوما، فنقول بقولنا ]، و نكلك إلى الشبهة فيه، و العجب من تيقّننا و شكّك، و قد زعمت العرب أنّ عندك علم ما اختلفنا فيه، فهاته نعرفه، فقال لهم عليّعليه‌السلام : لكم عندي ثلاثة أشياء: استأثر عثمان فأساء الأثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، و عند اللّه ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة. فقالوا: لا ترضى بهذا العرب، و لا تعذرنا فيه [ به ]. فقال لهم عليّ:

أ تردّون عليّ بين ظهراني المسلمين، بلا بيّنة صادقة، و لا حجّة واضحة؟

اخرجوا عنّي، فلا تجاوروني في بلد أنا فيه أبدا. فخرجوا من يومهم، فساروا حتّى أتوا معاوية، فقال: لكم الكفاية أو الولاية. فأعطى حسّانا ألف دينار، و كعبا ألف دينار، و ولّى النعمان حمصا( ٢) .

و في (مواسم الأدب): قال كعب بن مالك الأنصاري لعليّعليه‌السلام : بلغك عنّا أمر لو كان غيرك لم يحتمله، و لو كان غيرنا لم يقم معك عليه، و ما في الناس من هو أعلم منك، و في الناس من نحن أعلم منه و أوضح العلم ما وقف على لسان و أرفعه ما ظهر في الجوارح و الأركان، و نحن أعرف بقدر عثمان من

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ٣: ١٢٧ ١٢٨، و نقله الشارح بتصرّف.

(٢) الأغاني ١٦: ٢٣٣ ٢٣٤، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

٢٠٨

قاتليه و أنت أعلم بهم و بخاذليه، فإن قلت: «إنّه قتل ظالما» قلنا: بقولك، و إن قلت: «إنّه قتل مظلوما» قلنا بقولنا، و إن وكلتنا إلى الشبهة آيسنا بعدك من إصابة البيّنة.

فقالعليه‌السلام عندي في عثمان و فيكم. استأثر فأساء الأثرة و جزعتم فأسأتم الجزع، و للّه عز و جل حكم واقع في المستأثر و الجازع( ١) .

و هوعليه‌السلام و إن أجمل في جواب أولئك العثمانيّة لكون سؤالهم في غير الموقع، إلاّ أنّه بيّن بأفعاله من إيوائه قاتليه، و دفاعه عنهم و بأقواله كما مرّ من قولهعليه‌السلام للخولاني: «إنّي ضربت هذا الأمر أنفه و عينه، فرأيت أنّه ما ينبغي لي أن أدفع قتلته إلى أحد»( ٢ ) و قولهعليه‌السلام لقرّاء الشام و العراق لمّا قالوا له: «إنّ معاوية يقول: إن كنت صادقا أنّك ما أمرت بقتل عثمان، و لا مالأت على قتله، فادفع إلينا قتلته أو أمكنّا منهم»: تأوّل القوم عليه القرآن، و قتلوه في سلطانه و ليس على أضرابهم [ ضربهم ] قود( ٣ ) ، أنّه كان مباح الدم، و به صرّح شيعته عمّار و غيره( ٤) .

و في (فواتح الميبدي): روى إبراهيم النخعي و أبو العالية أنّ قوله تعالى:

ثمّ إنّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون( ٥ ) في شأن المسلمين، و ناظر إلى قتل عثمان و حرب صفين. و قوله تعالى: فمن أظلم ممّن كذب على اللّه و كذّب بالصّدق إذ جاءه أ ليس في جهنّم مثوى للكافرين. و الّذي جاء بالصّدق

____________________

(١) نهج البلاغة خطبة ٣٠.

(٢) وقعة صفّين: ٨٦، شرح ابن أبي الحديد ١٥: ٧٥.

(٣) وقعة صفّين: ١٨٩.

(٤) الإمامة و السياسة ١: ٦٧.

(٥) الزمر: ٣١.

٢٠٩

و صدّق به اولئك هم المتّقون( ١ ) تفصيل اولئك الفرق( ٢) .

٦ - الكتاب (٣٨) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى أهل مصر لما ولّى عليهم الأشتر:

مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ؟ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ فَضَرَبَ اَلْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى اَلْبَرِّ وَ اَلْفَاجِرِ وَ اَلْمُقِيمِ وَ اَلظَّاعِنِ فَلاَ مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ وَ لاَ مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ قول المصنّف: «و من كتاب لهعليه‌السلام إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم الأشتر» روى الطبري عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج، عن مولى للأشتر قال: لمّا هلك الأشتر وجدنا في ثقله رسالة عليّعليه‌السلام إلى أهل مصر: «من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى امّة المسلمين الذين غضبوا للّه حين عصي في الأرض، و ضرب الجور بأرواقه على البرّ و الفاجر، فلا حقّ يستراح إليه، و لا منكر يتناهى عنه»( ٣) .

و رواه (غارات الثقفي) تارة عن المدائنيّ و اخرى عن الشعبيّ( ٤) .

و رواه (أمالي المفيد) أيضا عن الشعبيّ عن صعصعة( ٥) .

و أمّا رواية (الاختصاص)( ٦ ) المنسوب إلى المفيد أيضا فنسبته غير

____________________

(١) الزمر: ٣٢ ٣٣.

(٢) كتاب الفواتح للميبدي، مخطوط.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٩٦، سنة ٣٨.

(٤) الغارات ١: ٢٦٣ ٢٦٦.

(٥) الأمالي للمفيد: ٧٩ ٨٢ عن إبراهيم بن محمّد الثقفي، و في الاختصاص عن الشعبي.

(٦) الاختصاص: ٧٩ ٨٠.

٢١٠

معلومة حيث إنّ كتب المفيد طرزها غير طرزه. و خبر (الاختصاص) غير صحيح حيث تضمّن قتل محمّد بن أبي بكر قبل الأشتر، و هو خلاف الواقع( ١) .

قولهعليه‌السلام : «من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين» روى الكنجيّ الشافعيّ بإسناده عن ابن عبّاس قال: قال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنزل اللّه تعالى آية فيها يا أيّها الذين آمنوا إلاّ و عليّ رأسها و أميرها( ٢ ) «إلى القوم الذين غضبوا للّه» مدحهعليه‌السلام أهل مصر مع كونهم قتلة عثمان بأنّهم غضبوا للّه، دالّ على كون قتل عثمان عملا مرضيّا عند اللّه تعالى فضلا عن إباحته.

و في (الطبريّ): ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان، و نزولهم ذا خشب أمور كثيرة، و منها ما أعرضت عن ذكره كراهة منّي ذكره، لبشاعته( ٣) .

و قال أيضا: قد ذكرنا كثيرا من الامور التي ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها، لعلل دعت إلى الإعراض عنها( ٤) .

قلت: العجب من الرجل يستقصي روايات السريّ عن شعيب، عن سيف مع أنّ أكثرها مفتعلة قطعا، و يترك كثيرا من روايات المدائنيّ و الواقدي و غيرهما ممّن اتّفق على جلاله و صحّة رواياته.

و قال ابن أبي الحديد: هذا الفصل من كلامه يشكل عليّ تأويله، لأنّ أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان، و إذا شهد أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّهم غضبوا للّه

____________________

(١) لا يخفى أنّ في تاريخ قتلهما رضوان اللّه عليهما اختلافا و لا يسمح المقام ذكر ذلك. انظر تاريخ اليعقوبي ٢:

١٩٤، تاريخ الطبري ٥: ٩٤، سنة ٣٨، مروج الذهب ٢: ٤٢٠، أسد الغابة ٤: ٣٢٤، الإصابة ٣: ٤٨٢، الأعلام ٥: ٢٥٩ و ٦: ٢١٩ ٢٢٠.

(٢) كفاية الطالب: ١٣٩ ١٤٠، نظم درر السمطين: ٨٩.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٣٥٦، سنة ٣٥.

(٤) تاريخ الطبري: ٣٦٥، سنة ٣٥.

٢١١

حين عصي في الأرض، فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان، و إتيان المنكر( ١) .

ثمّ ذكر ابن أبي الحديد تأويلا ركيكا( ٢ ) . و لو صحّ تأويله لم يكن في الدنيا أمر باطل. أ فرأيت من اتّخذ إلهه هواة( ٣ ) و من لم ينفعه عيان لا يفيده برهان.

«حين عصي في أرضه» في (الطبري): كتب أهل مصر بالسقيا أو بذي خشب إلى عثمان بكتاب فجاء به رجل منهم حتّى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئا، فأمر به فاخرج من الدار و كان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستّمائة رجل على أربعة ألوية لها رؤوس أربعة، مع كلّ رجل منهم لواء و كان جماع أمرهم إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي و كان من أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إلى عبد الرحمن بن عديس التّجيبيّ فكان في ما كتبوا إليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم أمّا بعد فاعلم... أنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم...( ٤ ) . فاللّه اللّه ثمّ اللّه اللّه فإنّك على دنيا فاستتمّ إليها معها آخرة، و لا تنس [ لا تلبس ] نصيبك من الآخرة فلا تسوغ لك الدنيا. و اعلم [ أنّا ] و اللّه للّه نغضب، و في اللّه نرضى و أنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتّى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة. فهذه مقالتنا لك، و قضيتنا إليك، و اللّه عذيرنا منك( ٥) .

«و ذهب بحقّه» في (الطبري): خرجت عائشة إلى مكّة و عثمان محصور،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه: ١٥٧.

(٣) الجاثية: ٢٣.

(٤) الرعد: ١١.

(٥) تاريخ الطبري ٤: ٣٦٩، سنة ٣٥.

٢١٢

فقدم عليها رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟ فقال: قتل عثمان المصريّين. قالت عائشة: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون أ يقتل عثمان قوما يطلبون الحقّ و ينكرون الظلم و اللّه لا نرضى بهذا. ثمّ قدم آخر فقالت عائشة له: ما صنع الناس؟ قال: قتل المصريّون عثمان. قالت: العجب لأخضر، زعم أنّ المقتول هو القاتل فكان يضرب به المثل: أكذب من أخضر( ١) .

قلت: أخضر أيضا ما كذب. أراد عثمان قتل المصريين فكتب سرّ إلى ابن أبي سرح بقتلهم، إلاّ أنّ لم يرد ذلك فرأوا رسوله و كتابه معه بذلك فرجعوا و قتلوه( ٢) .

«فضرب الجور سرادقه على البرّ و الفاجر و المقيم» أي: البلديّ.

«و الظاعن» أي: الغريب المرتحل.

في (الطبريّ): قال محمّد بن السائب الكلبيّ: إنّما ردّ أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنّه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم، و يصلب بعضهم. فلمّا أتوا عثمان، قالوا: هذا غلامك؟ قال: هذا غلامي انطلق بغير علمي. قالوا: جملك. قال: اخذ من الدار بغير أمري. قالوا: خاتمك. قال: نقش عليه. فقال ابن عديس التجيبيّ حين أقبل أهل مصر:

أقبلن من بلبيس و الصعيد

خوصا كأمثال القسيّ قود

مستحقبات حلق الحديد

يطلبن حقّ اللّه في الوليد

و عند عثمان و في سعيد

يا ربّ فارجعنا بما نريد( ٣)

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٤٤٩، سنة ٣٦.

(٢) المصدر نفسه ٤: ٣٦٧ ٣٦٨، سنة ٣٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٣٦٨، سنة ٣٥.

٢١٣

و عن سفيان بن أبي العوجاء: قدم المصريّون القدمة الأولى، فكلّم عثمان بن محمّد بن مسلمة، فخرج في خمسين راكبا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردّهم، و رجع القوم حتّى إذا كانوا بالبويب، وجدوا غلاما لعثمان معه كتاب إلى عبد اللّه بن سعد، فكرّوا، فانتهوا إلى المدينة، و قد تخلّف بها من الناس الأشتر و حكيم بن جبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عثمان أن يكون كتبه، و قال: هذا مفتعل. قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك قال: أجل، و لكنّه كتب بغير أمري. قالوا: فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك قال: أجل، و لكنّه خرج بغير إذني. قالوا: فالجمل جملك. قال: أجل، و لكنّه اخذ بغير علمي. فقالوا:

ما أنت إلاّ صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع، لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقّها، و إن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك و غفلتك و خبث بطانتك لأنّه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه و غفلته. و قالوا له أيضا: إنّك ضربت رجالا من أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين يعظونك و يأمرونك بمراجعة الحقّ عند ما يستنكرون من أعمالك فأقد من نفسك من ضربته و أنت له ظالم. فقال: الإمام يخطى‏ء و يصيب، فلا أقيد من نفسي لأنّي لو أقدت كلّ من أصبته بخطأ آتي على نفسي، و قالوا له: إنّك أحدثت أحداثا عظيمة [ عظاما ] فاستحققت بها الخلع فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثمّ عدت إليها و إلى مثلها، ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة و الرجوع إلى الحقّ و لا منا فيك محمّد بن مسلمة، و ضمن لنا ما حدث من أمر، فأخفرته فتبرّأ منك، و قال: لا أدخل في أمره. فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجّتك و نبلغ أقصى الإعذار إليك، و نستظهر باللّه عزّ و جلّ عليك، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك [ علينا ] تأمره فينا بالقتل و القطع و الصلب. و زعمت أنّه كتب بغير علمك. و هو مع غلامك و على جملك و بخطّ كاتبك و عليه خاتمك، فقد

٢١٤

وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة، مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم، و الأثرة في القسمة [ القسم ] و العقوبة للأمر بالقسط، و إظهار التوبة، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة إلى أن قال بعد ذكر قول عثمان لهم: إنّه يتوب: قالوا: إن كان هذا أوّل حدث أحدثته ثمّ تبت منه و لم تقم عليه، لكان علينا أن نقبل منك، و لكنّه قد كان منك من الأحداث قبل هذا ما قد علمت إلى أن قال: ثمّ انصرفوا عنه و آذنوه بالحرب، و أرسل عثمان إلى محمّد بن مسلمة أن يردّهم، فقال:

و اللّه لا أكذب اللّه في سنة مرّتين( ١) .

قلت: صدق المصريّون في استحقاق عثمان للخلع، إن صدق أنّ بعث كتاب بخطّ كاتبه على جمله مع غلامه بخاتمه في الأمر بقتل بعض، و قطع بعض، و صلب بعض بدون جناية كان بغير علمه، و إن كان كذب فيه. فيشهد به عقل كلّ عاقل ملحد أو موحّد. فما وجه قول إخواننا بإمامته مع أنّ كذبه كان أمرا بيّنا؟ فلو كان بغير علمه كيف لم يستعظم ذلك، و لم لا يؤاخذ غلامه بذلك؟

و في (الطبري) أيضا: لمّا سمع عثمان بوفد أهل مصر، استقبلهم، و كان في قرية له، فقالوا له: ادع بالمصحف. فدعا به. فقالوا له: افتح السابعة و كانوا يسمّون سورة يونس السابعة فقرأها حتّى أتى على قوله تعالى: قل أ رأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل آللّه أذِنَ لكم أم على اللّه تفترون( ٢ ) قالوا له: قف. أ رأيت ما حميت من الحمى؟ اللّه أذن لك إلى أن قال ثمّ أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج. فعرفها، فقال: استغفر اللّه، فأخذوا ميثاقه إلى أن قال ثمّ رجع الوفد المصريّون راضين فبينا هم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٣٧٥ ٣٧٧، سنة ٣٥، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

(٢) يونس: ٥٩.

٢١٥

في الطريق إذا هم براكب...( ١) .

«فلا معروف يستراح إليه، و لا منكر يتناهى عنه» في (الطبري): لمّا قال المصريّون لعثمان: ما هذا الكتاب الذي كتبت في قتلنا؟ و أنكره، قالوا: إنّا لا نعجّل عليك و إن كنّا قد اتّهمناك، اعزل عنّا عمّالك الفسّاق، و استعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا و أموالنا، و اردد علينا مظالمنا.

قال عثمان: إذن ما أراني في شي‏ء إن كنت أستعمل من هويتم، و أعزل من كرهتم إذن الأمر أمركم قالوا: و اللّه لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلنّ، فانظر لنفسك أو دع. فأبى عليهم و قال: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه اللّه. فحصروه أربعين ليلة( ٢) .

قلت: لعمر اللّه ذاك السربال لم يسربله اللّه، بل سربله عمر بتدبير الشورى شكرا له بما كتب عن أبي بكر في غشوته استخلافه له.

٧ - الخطبة (١٦٤) و من كلام لهعليه‌السلام : قالوا: لما اجتمع الناس عليه، و شكوا ما نقموه على عثمان، و سالوه مخاطبته عنهم و استعتابه لهم، فدخل عليه، فقال:

إِنَّ اَلنَّاسَ وَرَائِي وَ قَدِ اِسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ وَ وَ اَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ وَ لاَ أَدُلُّكَ عَلَى شَيْ‏ءٍ لاَ تَعْرِفُهُ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْ‏ءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ وَ لاَ خَلَوْنَا بِشَيْ‏ءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ وَ قَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَ سَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَ صَحِبْتَ؟ رَسُولَ

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٣٥٤ ٣٥٥، سنة ٣٥، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

(٢) المصدر نفسه ٤: ٣٧١، سنة ٣٥.

٢١٦

اَللَّهِ ص؟ كَمَا صَحِبْنَا وَ مَا؟ اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ وَ لاَ؟ اِبْنُ اَلْخَطَّابِ؟ بِأَوْلَى بِعَمَلِ اَلْحَقِّ مِنْكَ وَ أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص؟

وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا وَ قَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ وَ اَللَّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى وَ لاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وَ إِنَّ اَلطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَ إِنَّ أَعْلاَمَ اَلدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اَللَّهِ عِنْدَ اَللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَ هَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَ أَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَ إِنَّ اَلسُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلاَمٌ وَ إِنَّ اَلْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلاَمٌ وَ إِنَّ شَرَّ اَلنَّاسِ عِنْدَ اَللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَ أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَ إِنِّي سَمِعْتُ؟ رَسُولَ اَللَّهِ ص؟ يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ اَلْجَائِرِ وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لاَ عَاذِرٌ يُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ اَلرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا وَ إِنِّي أَنْشُدُكَ اَللَّهَ أَلاَّ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ اَلْمَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا اَلْقَتْلَ وَ اَلْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ يَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَ يُثَبِّثُ اَلْفِتَنَ فِيهَا فَلاَ يُبْصِرُونَ اَلْحَقَّ مِنَ اَلْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَ يَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلاَ تَكُونَنَّ؟ لِمَرْوَانَ؟

سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلِ اَلسِّنِّ وَ تَقَضِّي اَلْعُمُرِ فَقَالَ لَهُ؟ عُثْمَانُ؟

كَلِّمِ اَلنَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ فَقَالَ ع مَا كَانَ؟ بِالْمَدِينَةِ؟ فَلاَ أَجَلَ فِيهِ وَ مَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ أقول: رواه المدائني كما في (جمل المفيد) عن علي بن صالح قال: ذكر

٢١٧

ابن دأب أنّه لمّا عاب الناس على عثمان ما عابوا، كلّموا عليّاعليه‌السلام فيه فدخل عليه...( ١) .

و رواه (العقد الفريد) مختصرا عن ابن دأب أيضا( ٢) .

و رواه الطبري في ثلاث روايات: روى في إحداها صدره إلى قولهعليه‌السلام :

«فلا تكوننّ لمروان سيّقة»( ٣ ) . و في اخرى قولهعليه‌السلام : «فلا تكوننّ»... و في ثالثة قولهعليه‌السلام : «ما كان بالمدينة»...

ففيه: زعم الواقديّ أنّ عبد اللّه بن محمد حدّثه عن أبيه، قال: لمّا كانت سنة (٣٤) كتب أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضهم إلى بعض: أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد. و كثّر الناس على عثمان، و نالوا منه أقبح ما نيل من أحد، و أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرون و يسمعون ليس فيهم أحد ينهى و لا يذبّ أي عن عثمان إلاّ نفير زيد بن ثابت، و أبو أسيد الساعديّ، و كعب بن مالك و حسّان. فاجتمع الناس، و كلّموا عليّاعليه‌السلام . فدخل على عثمان فقال: «الناس ورائي، و قد كلّموني فيك، و اللّه ما أدري ما أقول لك إلى «و يمرجون مرجا» مثله مع اختلاف يسير. ثمّ بعده: فقال له عثمان: قد و اللّه علمت، ليقولنّ الذي قلت، أما و اللّه لو كنت مكاني ما عنّفتك، و لا أسلمتك، و لا عبت عليك، و لا جئت منكرا أن وصلت رحما، و سددت خلّة، و آويت ضائعا، و ولّيت شبيها بمن كان عمر يولّي. أنشدك اللّه يا علي، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال:

نعم. قال: فتعلم أنّ عمر ولاّه؟ قال: نعم. قال: فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر في رحمه و قرابته؟ قال عليّعليه‌السلام : سأخبرك إنّ عمر كان كلّ من ولّى فإنّما يطأ

____________________

(١) الجمل: ١٨٧ ١٨٨.

(٢) العقد الفريد ٥: ٥٨.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٣٣٧، سنة ٣٤.

٢١٨

على صماخه، و إن بلغه عنه حرف جلبه، ثمّ بلغ به أقصى الغاية، و أنت لا تفعل، ضعفت و رققت [ رفقت ] على أقربائك.

قال عثمان: هم أقرباؤك أيضا. فقال عليّعليه‌السلام : لعمري إنّ رحمهم منّي لقريبة، و لكنّ الفضل في غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها؟ فقد ولّيته. فقال عليّعليه‌السلام : أنشدك اللّه هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليّعليه‌السلام : فإنّ معاوية يقتطع الامور دونك و أنت لا تعلمها [ تعلمها ] فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك و لا تغيّر على معاوية.

ثمّ خرج عليّعليه‌السلام من عنده، و خرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر و قال: إنّ لكلّ شي‏ء آفة، و لكلّ أمر عاهة، و إنّ آفة هذه الامّة، و عاهة هذه النعمة، عيّابون طعّانون يرونكم ما تحبّون، و يسرّون ما تكرهون يقولون لكم و تقولون، أمثال النعام يتبعون أوّل ناعق أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلاّ نغصا و لا يردون إلاّ عكرا، لا يقوم لهم رائد، و قد أعيتهم الامور، و تعذّرت عليهم المكاسب. أما [ ألا فقد ] و اللّه عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، و لكنّه وطأكم برجله، و ضربكم بيده، و قمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، و لنت لكم، و أوطأت لكم كتفي، و كففت يدي و لساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما و اللّه أنا لأعزّ [ لأنا أعزّ ] نفرا، و أقرب ناصرا، و أكثر عددا، و أقمن إن قلت هلمّ [ أتي ] إليّ و لقد أعددت لكم أقرانكم، و أفضلت عليكم فضولا، و كشرت لكم عن نابي، و أخرجتم منّي خلقا لم أكن أحسنه، و منطقا لم أنطق به، فكفّوا عليكم ألسنتكم، و طعنكم و عيبكم على ولاتكم، فإنّي قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقّكم؟ و اللّه ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، و من لم

٢١٩

تكونوا تختلفون عليه و أفضل [ فضل فضل من مال ]، فمالي لا أصنع في الفضل ما اريد فلم كنت إماما فقام مروان فقال: إن شئتم حكّمنا و اللّه بيننا و بينكم السيف، نحن و اللّه و أنتم كما قال الشاعر:

فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم

معارسكم تبنون في دمن الثّرى( ١)

قول المصنف: «و من كلام لهعليه‌السلام » زاد في (ابن أبي الحديد):

«لعثمان»( ٢ ) . و لعلّه كان حاشية خلط بالمتن، فليس في (ابن ميثم)( ٣ ) و نسخة نهجه كانت بخطّ مصنّفه.

«لمّا اجتمع الناس عليه» هكذا في (المصرية)( ٤ ) ، و الصواب: «إليه» كما في (ابن ميثم)( ٥ ) . لكن في (ابن أبي الحديد) بدل الكلام: «قالوا لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام »( ٦) .

«و شكوا ممّا نقموه على عثمان» هكذا في (المصرية)( ٧ ) ، و في (ابن ميثم): «و شكوا ما نقموه على عثمان»( ٨ ) . و في (ابن أبي الحديد): «و شكوا إليه ما نقموه على عثمان»( ٩) .

«و سألوه مخاطبته عنهم» ليس في (ابن أبي الحديد) كلمة «عنهم»( ١ ) ٠.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٣٣٦ ٣٣٩، سنة ٣٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٢٦١.

(٣) شرح ابن ميثم ٣: ٣٠١.

(٤) نهج البلاغة ٢: ٨٤.

(٥) في شرح ابن ميثم ٣: ٣٠١ أيضا: «عليه».

(٦) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٢٦١.

(٧) نهج البلاغة ٢: ٨٤.

(٨) في شرح ابن ميثم ٣: ٣٠١ أيضا: «ممّا».

(٩) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٢٦١.

(١٠) المصدر نفسه.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607