بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة6%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63165 / تحميل: 6548
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

أقول: قال ابن أبي الحديد: روى عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ: أنّ عثمان لمّا كثرت شكايته من عليّعليه‌السلام ، أقبل لا يدخل عليه أحد من أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ شكاه إليه، فقال له زيد بن ثابت الأنصاري و كان من شيعته و خاصّته: أ فلا أمشي إليه فاخبره بموجدتك فيما يأتي إليك؟ قال:

بلى. فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و عداده في بني زهرة، و امّه عمّة عثمان في جماعة فدخلوا عليه.

ثمّ قال له زيد: إنّ اللّه قدّم لك سلفا صالحا في الإسلام، و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به، فأنت للخير كلّ الخير أهل، و عثمان ابن عمّك، و والي هذه الامّة، فله عليك حقّان: حقّ الولاية و حقّ القرابة و قد شكا إلينا أنّ عليّا يعرض لي، و يردّ عليّ أمري، و قد مشينا إليك نصيحة لك، و كراهية أن يقع بينك و بين ابن عمّك أمر نكرهه لكما.

فقال عليّعليه‌السلام : و اللّه ما احبّ الاعتراض، و لا الردّ عليه، إلاّ أن يأبى حقّا للّه لا يسعني أن أقول فيه إلاّ بالحقّ، و و اللّه لأكفنّ عنه ما وسعني الكفّ.

فقال المغيرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا، و كان من شيعة عثمان و خلصائه: إنّك و اللّه لتكفّنّ عنه أو لتكفّنّ فإنّه أقدر عليك منك عليه و إنّما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعذارا [ إعزازا ] إليك ليكون له الحجّة عندهم عليك.

فقال له عليعليه‌السلام : يا بن اللعين الأبتر، و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع، أنت تكفّني؟ فو اللّه ما أعز اللّه امرأ أنت ناصره، اخرج أبعد اللّه نواك، ثمّ أجهد جهدك، فلا أبقى اللّه عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم.

فقال زيد: إنّا و اللّه ما جئناك لنكون عليك شهودا، و لا ليكون مشينا [ ممشانا ] إليك حجّة، و لكن [ مشينا فيما بينكما ] التماس الأجر أن يصلح اللّه

٢٦١

ذات بينكما، ثمّ قام فقاموا معه( ١) .

قال ابن أبي الحديد: و هذا الخبر يدلّ على أنّ اللفظة «تكفّني» لا «تكفيني» كما ذكره الرضيّ، لكنّ الرضيّ طبّق هذه اللفظة على ما قبلها، و هو قوله: «أنا أكفيكه» و لا شبهة أنّه رواية اخرى( ٢) .

قلت: و رواه أعثم الكوفي في (تاريخه) مثل (ابن أبي الحديد) و زاد: أنّ الأصل في وقوع المشاجرة بين عليّعليه‌السلام و عثمان، أنّ عثمان أراد إخراج عمّار بعد أبي ذرّ إلى الربذة أيضا.

و مختصر روايته: أنّ عمّار لمّا سمع بوفاة أبي ذر في الربذة ترحّم عليه في حضور عثمان، فغضب و قال: ارسلوه إلى محل كان فيه أبو ذر. فقال له عمّار: مجاورة الكلاب و الخنازير أحبّ إليّ من جوارك.

و خرج من عنده و عزم عثمان على إخراجه، فاجتمع بنو مخزوم حلفاء عمّار إلى عليّعليه‌السلام و قالوا له: ضربه مرّة و فتقه اخرى، و الآن أراد إخراجه، فالق عثمان ينصرف عن هذا و إلاّ تكون فتنة. فدخل عليّعليه‌السلام على عثمان و قال له: أخرجت أبا ذر و هو من أجلّ الصحابة حتّى مات في الغربة، فانصرف وجوه المسلمين عنك و الآن أردت اخراج عمّار فاتّق اللّه. فغضب عثمان و قال:

يجب إخراجك أوّلا حتّى لا تجترى‏ء أمثال عمّار و فسادهم منك.

فقال له عليّعليه‌السلام : إنّك لا تقدر على ذلك، و فساد أمثال عمّار من أعمالك لا منّي، فأعمالك خلاف الدين فينكرون عليك. ثم خرج من عنده فاجتمع الناس إليه و قالوا: أراد عثمان أن يخرجنا جميعا حتّى نموت بعيدين من أهالينا.

فقالعليه‌السلام : قولوا لعمّار: لا يخرج من بيته. فاطمأن بنو مخزوم

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٢ ٣٠٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٣.

٢٦٢

باستظهارهعليه‌السلام ، و قالوا له: لو كنت معنا لم يقدر عثمان على إضرارنا. فبلغ ذلك إلى عثمان، فشكاهعليه‌السلام إلى الناس فقال له زيد بن ثابت: لو تأذن القى عليّا.

فخرج هو و المغيرة بن الأخنس إليهعليه‌السلام إلى آخر ما مرّ( ١) .

و تاريخ تأليف كتاب أعثم سنة (٢٠٤) كما صرّح به مترجمه المتوفى، و كلّ منهما عامّيّ( ٢) .

قول المصنّف: «و من كلام لهعليه‌السلام » اقتصر عليه في (المصرية)( ٣ ) ، مع أنّه قال المصنّف بعده: «و قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان، فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام للمغيرة» كما يشهد له نقل (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٤ ) مع اختلاف يسير، و اخترنا لفظ ما في (ابن ميثم) لكون نسخته بخطّ المصنّف.

____________________

(١) الفتوح لابن أعثم الكوفي ١: ١٦، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر، بيروت.

(٢) قال ياقوت في معجم الأدباء ٢: ٢٣٠ ٢٣١ ما لفظه: «أحمد بن أعثم الكوفي أبو محمّد الاخباريّ المؤرّخ، كان شيعيّا، و هو عند أصحاب الحديث ضعيف، و له كتاب التاريخ إلى آخر أيّام المقتدر، ابتدأه بأيام المأمون، و يوشك أن يكون ذيلا على الأوّل، رأيت الكتابين». و عدّ العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في البحار ١: ٢٥ كتاب الفتوح من كتب تواريخ العامّة، و قال: و تاريخ الفتوح للأعثم الكوفي و تاريخ الطبري و... و قال حاجي خليفة في كشف الظنون في ذيل عنوان فتوحات الشام: و صنّف فيها أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفيّ و ترجمه أحمد بن محمّد المنوفيّ إلى الفارسية. و قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة ٣: ٢٢١: قال المنوفيّ في أوّل ترجمة «الفتوح»: «ذكر عندي كتاب الفتوح الذي ألّف سنة ٢٠٤» و هذا فيه غلط في تاريخ التأليف جزما، فإنّ ياقوت المعاصر للمترجم، لأنّه توفي سنة ٦٢٦، أخبر بأنّه رأى الكتابين: الفتوح المنتهي إلى عصر الرشيد، و التاريخ المنتهي فيه إلى أيّام المقتدر المقتول سنة ٣٢٠، و هما لأحمد بن أعثم. فمؤلّف هذا التاريخ كيف يكون تأليف فتوحه سنة ٢٠٤؟ فالظاهر أنّ المترجم بما أنّه لم يظفر بتاريخ ابن أعثم و إنّما ظفر بفتوحه فقط المنتهي إلى حدود سنة ٢٠٤، حسب ذلك تاريخ الفراغ لمؤلّفه و ترجمه الى الفارسية....

(٣) نهج البلاغة ٢: ٢٥.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١، شرح ابن ميثم ٣: ١٦٣.

٢٦٣

ثمّ من مشاجراتهعليه‌السلام مع عثمان غير ما في المتن ما في (مروج المسعودي): أنّ عليّاعليه‌السلام لمّا رجع من تشييع أبي ذرّ استقبله الناس و قالوا له:

إنّ عثمان عليك غضبان لتشييعك لأبي ذرّ، فقالعليه‌السلام : غضب الخيل على اللّجم( ١ ) إلى أن قال: فقال له عثمان: أو لم يبلغك أنّي نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟ فقال له عليّعليه‌السلام : أو كلّ شي‏ء أمرتنا به نرى طاعة اللّه و الحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟ لا و اللّه. قال عثمان: أقد مروان إلى أن قال:

قال عثمان لهعليه‌السلام : فو اللّه ما أنت عندي بأفضل من مروان. فغضب عليعليه‌السلام و قال: ألي تقول هذا القول، و بمروان تعدلني؟ إلى أن قال: فلمّا كان من الغد و اجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاعليه‌السلام و قال: إنّه يعيبني و يظاهر من يعيبني يريد بذلك أبا ذرّ و عمّارا و غيرهما فدخل الناس بينهما، فقالعليه‌السلام : ما أردت بتشيع أبي ذرّ إلاّ اللّه( ٢) .

و ما في (تاريخ الثقفي) على ما في تقريب الحلبي عن عبد الرحمن بن معمّر عن أبيه قال: لمّا قدم بأبي ذرّ من الشام إلى عثمان كان ممّا أنّبه( ٣ ) عثمان به أن قال: أيّها النّاس، إنّه يقول: إنّه خير من أبي بكر و عمر. قال أبو ذرّ: أجل، أنا أقول و اللّه لقد رأيتني رابع أربعة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما أسلم غيرنا، و ما أسلم أبو بكر و لا عمر، و لقد ولّيا و ما ولّيت.

فقال عليّعليه‌السلام : و اللّه لقد رأيته و إنّه لربع الإسلام. فردّ عثمان ذلك على عليعليه‌السلام ، و كان بينهما كلام، فقال عثمان: و اللّه لقد هممت بك. قال عليّعليه‌السلام :

____________________

(١) قال الميدانيّ في مجمع الأمثال ٢: ٥٦ ما لفظه: يضرب لمن يغضب غضبا لا ينتفع به، و لا موضع له، و نصب «غضب» على المصدر، أي: غضب غضب الخيل.

(٢) مروج الذهب ٢: ٣٥٠ ٣٥١، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

(٣) التأنيب: المبالغة في التوبيخ و التعنيف. النهاية ١: ٧٣، مادة (أنب).

٢٦٤

و أنا و اللّه لأهمّ بك. فقام عثمان و دخل بيته( ١) .

و نقل (ابن أبي الحديد) أيضا مقدارا من مشاجراته( ٢) .

هذا، و قالوا: كان اسم أبي المغيرة بن أخنس أبيّا، فلمّا خرجت قريش إلى بدر، و أتاهم الخبر عن أبي سفيان بسلامة العير، قال ابيّ لبني زهرة و كان حليفا لهم: ارجعوا. فرجعوا. فقيل: خنس بهم أبيّ، فسمّي الأخنس( ٣) .

قولهعليه‌السلام : «يا بن اللعين» قال ابن أبي الحديد: جعلعليه‌السلام أباه لعينا، لأنّه كان من أكابر المنافقين، ذكره أصحاب الحديث كلّهم في المؤلّفة الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم، و أعطاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل لتأليفه( ٤) .

قلت: و روى (أسباب نزول الواحدي): أنّ فيه نزل و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا و يشهد اللّه على ما في قلبه و هو ألدّ الخصام.

و إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و اللّه لا يحبّ الفساد. و إذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم و لبِئسَ المِهاد( ٥) .

ففيه قال السّدي: أقبل الأخنس بن شريق الثقفي إلى المدينة فأظهر الإسلام، فأعجب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منه، و قال الأخنس: إنّما جئت اريد الاسلام، و اللّه يعلم إنّي لصادق. ثمّ خرج من عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّ بزرع القوم من

____________________

(١) نقله عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار، ٨: ٣٣٧ ط الكمباني.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٤ ٢٥٥.

(٣) اسد الغابة ١: ٤٧ ٤٨، الإصابة ١: ٢٥.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٥) أسباب النزول: ٣٩، و الآيات ٢٠٤ ٢٠٦ من سورة البقرة.

٢٦٥

المسلمين و حمر، فأحرق الزرع و عقر الحمر، فأنزل فيه تلك الآيات( ١) .

و منه يظهر قول ابن أبي الحديد: أسلم يوم الفتح( ٢) .

قال ابن أبي الحديد: و أبو الحكم بن الأخنس أخو المغيرة، قتله أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم احد كافرا في الحرب، و الحقد الذي في قلب المغيرة عليهعليه‌السلام من جهة أخيه هذا( ٣) .

قلت: و خرج ابنه عبد اللّه بن المغيرة، و ابن أخيه عبد اللّه بن أبي عثمان يوم الجمل عليهعليه‌السلام في الناكثين فقتلا( ٤) .

و في (إرشاد محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد): مرّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل في القتلى على عبد اللّه بن المغيرة، فقالعليه‌السلام : أمّا هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار، فخرج مغضبا لقتل أبيه و هو غلام حدث حيّن( ٥ ) لقتله.

ثمّ مرّعليه‌السلام بعبد اللّه بن أبي عثمان بن الأخنس، فقالعليه‌السلام : أمّا هذا فكأنّي أنظر إليه و قد أخذ القوم السيوف هاربا يعدو من الصفّ، فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت فقتله( ٦) .

«الأبتر» قال ابن أبي الحديد: جعلعليه‌السلام أباه أبتر، لأنّ من كان عقبه ضالاّ خبيثا، فهو كمن لا عقب له، بل من لا عقب له خير منه( ٧) .

قلت: الأصل في كلامهعليه‌السلام قوله تعالى: إنّ شانِئكَ هوم الأبتر( ٨ ) نزل

____________________

(١) أسباب النزول: ٣٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٤) الجمل للمفيد: ٣٩٣ ٣٩٤.

(٥) الحين بالفتح: الهلاك يقال: حان يحين حينا، و حيّنه اللّه فتحيّن. (لسان العرب ٣: ٤٢٣ ٤٢٤، مادة: حين).

(٦) الإرشاد ١: ٢٥٥ ٢٥٦، الجمل: ٣٩٣ ٣٩٤، بحار الأنوار ٣٢: ٢٠٨.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٨) الكوثر: ٣.

٢٦٦

في العاص أبي عمرو بن العاص.

و في (الأسباب) أيضا: تحدّث العاص مع النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند باب بني سهم، ثمّ دخل المسجد فقالت له قريش: من كنت تحدّث؟ قال ذاك الأبتر و قد كان ابنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة مات، و كانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر فأنزل تعالى سورة الكوثر( ١) .

«و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع» قال ابن أبي الحديد: قالعليه‌السلام ذلك لكون المغيرة من ثقيف، و في نسب ثقيف طعن فهم يزعمون أنّهم من هوازن من قيس عيلان، و قيل: إنّهم من إياد بن نزار، و قيل: إنّهم من بقايا ثمود( ٢) .

و قال الحجّاج: يزعمون أنّا من بقايا ثمود و قد قال تعالى: و ثمودَ فما أبقى( ٣) .

قلت: و مع كونه بهذه المثابة من الخباثة افتعل له سيف الوضّاع خبرا في كون قاتله من أهل النّار( ٤ ) ، لكونه قتل مع عثمان يوم الدار( ٥) .

«أنت تكفيني؟ فو اللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره» يعنيعليه‌السلام عثمان.

«و لا قام من أنت منهضه» أي: مقيمه، و ناهضة الرجل بنو أبيه الذين يغضبون له، هذا، و في (بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي): لمّا قتل عليّعليه‌السلام بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي فراغ منه فأرسل إلى امرأته فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض بلاد الجزيرة، فقتله

____________________

(١) أسباب النزول: ٣٠٦ ٣٠٧.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٣ ٣٠٥.

(٣) المصدر نفسه ٨: ٣٠٦، و الآية ٥١ من سورة النجم.

(٤) تاريخ الطبري ٤: ٣٩٠، سنة ٣٥.

(٥) تاريخ الطبري ٤: ٣٨٢، سنة ٣٥، شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٦.

٢٦٧

و بعث برأسه إلى معاوية و هو أول رأس حمل في الإسلام فبعث معاوية بالرأس إلى امرأته في السجن إلى أن قال: فسمعها الاسلع الهلالي، و كان رجلا أسود أصلع أصعل، تذكر معاوية فقال: من تعني هذه عليها لعنة اللّه.

فالتفتت إليه، فلمّا رأته قالت: خزيا لك و جدعا، أ تلعنني و اللعن بين جنبيك، و ما بين قرنك إلى قدميك، اخسأ يا هامة الصعل و وجه الجعل، فأذلل بك نصيرا و اقلل بك نصيرا. فبهت الاسلع منها و اعتذر إليها( ١) .

و في (كنايات الجرجاني) قال أبو حيان: رأيت أبا حامد في مجلس ابن أمّ شيبان يناظر خصما له، فابتدر أبو جعفر الأبهري ليتكلّم مداخلا، فأنشد أبو حامد:

فإن تك قيس قدمتك لنصرها

فقد خزيت قيس و ذلّ نصيرها( ٢)

«اخرج عنّا أبعد اللّه نواك» في (الصحاح): النوى: الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد و هي مؤنّثة( ٣) .

«ثمّ ابلغ جهدك» في (الصحاح): قال الفرّاء: الجهد بالضمّ الطاقة، و بالفتح من قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ غايتك و المراد فيما تستطيع من الإيذاء و الإضرار( ٤) .

«فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت» شيئا ممّا يأتي من يديك. و قد قالعليه‌السلام نظير هذا الكلام لحبيب بن مسلمة الفهريّ لمّا بعثه معاوية إليهعليه‌السلام في صفّين ففي (الطبري): أنّ حبيبا قال لهعليه‌السلام : كان عثمان خليفة مهديّا، يعمل بكتاب اللّه، و ينيب إلى أمر اللّه، فاستثقلتم حياته، و استبطأتم وفاته، فعدوتم عليه

____________________

(١) بلاغات النساء لابن أبي طاهر البغدادي: ٨٧، دار النهضة الحديثة، بيروت.

(٢) الكنايات للجرجاني: ١٠٠، مطبعة السعادة، مصر.

(٣) الصحاح ٦: ٢٥١٦، مادة (نوى).

(٤) المصدر نفسه ٢: ٤٦٠، مادة (جهد).

٢٦٨

فقتلتموه فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنّك لم تقتله نقتلهم به، ثمّ اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.

فقالعليه‌السلام له: و ما أنت لا أمّ لك و هذا الأمر؟ اسكت فإنّك لست هنا لك و لا بأهل له فقام و قال: و اللّه لترينّي بحيث تكره. فقالعليه‌السلام : و ما أنت، و لو أجلبت بخيلك و رجلك؟ لا أبقى اللّه عليك إن أبقيت عليّ أحقرة و سوءا؟ اذهب فصوّب و اصعد [ صعّد ] ما بدا لك( ١) .

٢٦٩

١١ - الخطبة (١٣٠) و من كلام لهعليه‌السلام لأبي ذرّ رحمه اللّه لما اخرج إلى الرّبذة:

يَا؟ أَبَا ذَرٍّ؟ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اُهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ اَلرَّابِحُ غَداً وَ اَلْأَكْثَرُ حُسَّداً وَ لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرَضِ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اِتَّقَى اَللَّهَ لَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ اَلْحَقُّ وَ لاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ اَلْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ أقول: قال ابن أبي الحديد: روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في (سقيفته) عن عبد الرزّاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: لمّا أخرج أبو ذرّ إلى الربذة أمر عثمان، فنودي في الناس أن لا يكلّم أحد أبا ذرّ، و لا يشيّعه. و أمر مروان أن يخرج به فخرج به، و تحاماه الناس إلاّ عليّ بن

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٧، سنة ٣٧.

٢٧٠

أبي طالبعليه‌السلام و عقيلا أخاه، و الحسن و الحسين عليهما السلام و عمّارا، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسنعليه‌السلام يكلّم أبا ذرّ، فقال له مروان: ألا تعلم أنّ الخليفة قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم ذلك فاعلم. فحمل عليّعليه‌السلام على مروان بالسوط بين اذني راحلته، و قال له: تنحّ نحّاك [ لحاك ] اللّه إلى النّار فرجع مروان مغضبا إلى عثمان، فأخبره الخبر، فتلظّى على عليّعليه‌السلام . و وقف أبو ذرّ فودّعه القوم، و معه ذكوان مولى امّ هاني بنت أبي طالب.

قال ذكوان: فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال له عليّ: يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه. أنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، و نفوك إلى الغلى [ الفلا ]، لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منها مخارجا. يا أبا ذرّ لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، و لا يوحشنّك إلاّ الباطل.

ثمّ قال لأصحابه: ودّعوا عمّكم. و قال لعقيل: ودّع أخاك. فتكلّم عقيل، فقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذرّ و أنت تعلم أنّا نحبّك، و أنت تحبّنا، و اتّق اللّه فإنّ التقوى نجاة، و اصبر فإنّ الصبر كرم، و اعلم أنّ استثقالك الصبر من الجزع، و استبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس و الجزع.

ثمّ تكلّم الحسنعليه‌السلام فقال: يا عمّاه لو لا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت.

و [ لا بدّ ظ ] للمشيّع أن ينصرف، لقصر الكلام و إن طال الأسف، و قد أتى القوم إليك ما ترى، فضع عنك [ همّ ظ ] الدنيا بتذكّر فراقها، و شدّه ما اشتدّ منها برخاء [ برجاء ] ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّك و هو عنك راض.

ثمّ تكلّم الحسينعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ اللّه تعالى قادر على أن يغيّر ما ترى، و اللّه كلّ يوم هو في شأن، و قد منعك القوم دنياهم، و منعتهم دينك،

٢٧١

فما أغناك عمّا منعوك، و أحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل اللّه تعالى الصبر و النصر، و استعذ به من الجشع و الجزع، فإنّ الصبر من الدين و الكرم، و إنّ الجشع لا يقدّم رزقا، و الجزع لا يؤخّر أجلا.

ثمّ تكلّم عمّاررضي‌الله‌عنه مغضبا فقال: لا آنس اللّه من أوحشك، و لا آمن من أخافك. أما و اللّه لو أردت دنياهم لأمّنوك، و لو رضيت أعمالهم لأحبّوك، و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا، و الجزع من الموت، و مالوا إلى سلطان جماعتهم عليه، و الملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، و منحهم القوم دنياهم، فخسروا و الدّنيا و الآخرة، و ذلك هو الخسران المبين.

فبكى أبو ذرّ و كان شيخا كبيرا، و قال: رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مالي بالمدينة سكن و لا شجن( ١ ) غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين، فافسد الناس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلاّ اللّه، و اللّه ما اريد إلاّ اللّه صاحبا، و ما أخشى مع اللّه وحشة.

ثمّ رجعوا إلى المدينة، فقال عثمان لعليّعليه‌السلام : ما حملك على ردّ رسولي، و تصغير أمري؟ فقال: أمّا رسولك، فأراد أن يردّ وجهي فرددته. قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ؟ قال: أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال: أقد مروان. قال: ممّ؟ قال: من شتمه و جذب راحلته. قال: أمّا راحلته فراحلتي بها، و أما شتمه إيّاي، فو اللّه لا شتمني شتمة إلاّ شتمتك مثلها، و لا أكذب عليك.

فغضب عثمان، و قال: لم لا يشتمك، كأنّك خير منه؟ قال عليّعليه‌السلام : أي و اللّه و منك. ثمّ قام فخرج إلى أن قال: فقالت قريش و بنو اميّة لمروان: أ أنت

____________________

(١) الشجن بفتحتين: الحاجة (المصباح المنير ١: ٣٦٨، مادة: شجن).

٢٧٢

رجل جبهك علي، و ضرب راحلتك، و قد تفانت وائل في ضرع ناقة، و ذبيان و عبس في فرس، و الأوس و الخزرج في نسعة أ فتحمل لعليّ ما أتاه إليك؟

فقال مروان: و اللّه لو أردت ذلك لما قدرت عليه( ١) .

قلت: و رواه محمّد بن يعقوب في (روضته) عن عدّة من أصحابه، عن سهل الآدميّ، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن حفص التميمي، عن أبي جعفر الخثعميّ قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذرّ إلى الربذة شيّعه أمير المؤمنينعليه‌السلام و عقيل و الحسنانعليهما‌السلام و عمّار، فلمّا كان عند الوداع قالعليه‌السلام له: يا أبا ذرّ، إنّما غضبت للّه عزّ و جلّ، فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فأرحلوك عن الفناء و امتحنوك بالبلاء و و اللّه لو كان السماوات و الأرض على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه جعل اللّه له منها مخرجا، فلا يؤنسنّك [ يونسك ] إلاّ الحقّ، و لا يوحشنّك [ يوحشك ] إلاّ الباطل.

ثمّ تكلّم عقيل فقال: يا أبا ذرّ، أنت تعلم أنّا نحبّك، و نحن نعلم أنّك تحبّنا، فإنّك قد حفظت منّا [ فينا ] ما ضيّع الناس إلاّ القليل، فثوابك على اللّه عزّ و جلّ، و لذلك أخرجك المخرجون و سيّرك المسيّرون، فاتّق اللّه، و اعلم أنّ استثقالك [ استعفاءك ] البلاء من الجزع، و استبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس و الجزع و قل: حسبي اللّه و نعم الوكيل.

ثمّ تكلّم الحسنعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ القوم قد أتوا إليك ما ترى، و إنّ اللّه عزّ و جلّ بالمنظر الأعلى، فدع عنك ذكر الدّنيا بذكر فراقها، و شدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو عنك راض.

ثمّ تكلّم الحسينعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ اللّه تعالى قادر على أن يغيّر ما ترى و هو كلّ يوم في شأن، إنّ القوم منعوك دنياهم، و منعتهم دينك، فما

____________________

(١) السقيفة و فدك: ٧٦ ٧٩. شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٢ ٢٥٥، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

٢٧٣

أغناك عمّا منعوك، و ما أحوجهم إلى ما منعتهم، فعليك بالصبر و إنّ الخير في الصبر، و الصبر من الكرم، و دع الجزع فإنّ الجزع لا يغنيك.

ثمّ تكلّم عمّاررضي‌الله‌عنه فقال: يا أبا ذرّ، أوحش اللّه من أوحشك، و أخاف من أخافك، إنّه و اللّه ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلاّ الركون إلى الدّنيا و الحبّ لها، ألا إنّما الطاعة مع الجماعة، و الملك لمن غلب عليه، و إنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها، و وهبوا لهم دينهم فخسروا الدّنيا و الآخرة و ذلك هو الخسران المبين.

ثمّ تكلّم أبو ذرّ فقال: عليكم منّي السلام و رحمة اللّه و بركاته، بأبي و امّي هذه الوجوه فإنّي إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و مالي بالمدينة شجن و لا سكن غيركم، و إنّه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة، فزعم أنّه يخاف أن افسد على أخيه الناس بالكوفة، و آلى باللّه أن يسيّرني إلى بلدة لا أرى بها أنيسا و لا أسمع لها حسيسا( ١ ) ، و إنّي و اللّه ما اريد إلاّ اللّه عزّ و جلّ صاحبا و مالي مع اللّه وحشة حسبي اللّه لا إله إلاّ هو عليه توكّلت و هو ربّ العرش العظيم( ٢) .

قول المصنّف: «و من كلام لهعليه‌السلام لأبي ذرّرضي‌الله‌عنه لمّا خرج» هكذا في (المصرية)( ٣ ) ، و الصواب: «لمّا اخرج» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٤) ، و أيضا لم يخرج هو بل اخرج كما عرفت و تعرف.

«إلى الربذة» في (المعجم): الربذة من قرى المدينة على ثلاثة أميال

____________________

(١) الحسيس: الصوت الخفيّ. (المصباح المنير ١: ١٦٦، مادة: حسس).

(٢) الكافي ٨: ٢٠٦ ٢٠٨، و الآية ١٢٩ من سورة التوبة.

(٣) نهج البلاغة ٢: ١٧.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٢، شرح ابن ميثم ٣: ١٤٥.

٢٧٤

[ إيام ]، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت في فيد تريد مكة، و بها قبر ابي ذر( ١) .

قال ابن أبي الحديد: اعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أوّلا إلى الشام، ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام.

و أصل هذه الواقعة أنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال، و اختصّ زيد بن ثابت بشي‏ء منها، جعل أبو ذرّ يقول بين الناس و في الطرقات و الشوارع: بشّر الكافرين بعذاب أليم، و يرفع بذلك صوته، و يتلو قوله تعالى:... و الّذين يكنزون الذّهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم( ٢ ) ، فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت.

ثمّ إنّه أرسل إليه مولى من مواليه: أن انته عمّا بلغني عنك. فقال أبو ذرّ:

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه؟ فو اللّه لأنّ أرضي اللّه بسخط عثمان أحبّ إليّ من أن اسخط اللّه برضا عثمان.

فأغضب عثمان ذلك و أحفظه، فتصابر و تمالك [ تماسك ] إلى أن قال عثمان يوما، و الناس حوله: أ يجوز للإمام أن يأخذ من بيت المال شيئا قرضا، فإذا أيسر قضى؟

فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذرّ: يا بن اليهوديّين، أ تعلّمنا ديننا فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، و تولّعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها.

____________________

(١) معجم البلدان ٣: ٢٤.

(٢) التوبة: ٣٤.

٢٧٥

فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذرّ لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها، و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، و ردّها عليه.

ثمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذرّ: يا معاوية، إن كانت هذه من مال اللّه فهي الخيانة، و إن كانت من مالك فهي الإسراف. و كان أبو ذرّ يقول بالشام: و اللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها، و اللّه ما هي في كتاب اللّه و لا سنّة نبيّه، و اللّه إنّي لأرى حقّا يطفأ و باطلا يحيا، و صادقا مكذّبا، و إمرة [ أثرة ] بغير تقى، و صالحا مستأثرا عليه.

فقال حبيب بن مسلمة الفهريّ لمعاوية: إنّ أبا ذرّ لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة( ١) .

و قال ابن أبي الحديد أيضا: روى شيخنا الجاحظ في (سفيانيّته) عن جلاّم بن جندل الغفاريّ، قال: كنت عاملا [ غلاما ] لمعاوية على قنّسرين و العواصم في خلافة عثمان، فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار تحمل [ بحمل ] النار، اللهمّ العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، اللهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.

فازبأرّ( ٢ ) معاوية و تغيّر لونه و قال: يا جلاّم، أ تعرف الصارخ؟ قلت: لا.

قال: من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثمّ قال: أدخلوه. فجي‏ء بأبي ذرّ بين قوم يقودونه، حتّى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدوّ اللّه و عدوّ رسوله تأتينا كلّ يوم فتصنع ما تصنع، أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن عثمان

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٥ ٢٥٧.

(٢) ازبأرّ الرجل: اقشعرّ. (لسان العرب ٦: ١٣، مادة: زبر).

٢٧٦

لقتلتك، و لكنّي أستأذن فيك.

قال جلاّم: و كنت احبّ أن أرى أبا ذرّ، لأنّه رجل من قومي، فالتفتّ إليه فإذا رجل أسمر ضرب( ١ ) من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره حنى [ جنأ ]، فأقبل على معاوية و قال: ما أنا بعدوّ للّه و لا لرسوله، بل أنت و أبوك عدوّان للّه و لرسوله، أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر، و لقد لعنك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و دعا عليك مرّات أن لا تشبع، و سمعته يقول: «إذا ولي الامة الأعين الواسع البلعوم، الذي يأكل و لا يشبع، فلتأخذ الامّة حذرها منه».

فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذرّ: بل أنت ذلك، أخبرني بذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و سمعته يقول و قد مررت به: «اللهمّ العنه و لا تشبعه إلاّ بالتراب»، و سمعته يقول: «است( ٢ ) معاوية في النار». فضحك معاوية و أمر بحبسه، و كتب إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إليه: «أن احمل جندبا على أغلظ مركب و أوعره». فوجّه به من سار به الليل و النّهار، و حمله على شارف( ٣ ) ليس عليها إلاّ قتب، حتّى قدم به المدينة، و قد سقط لحم فخذيه من الجهد. فلمّا قدم بعث إليه عثمان أن الحق بأيّ أرض شئت. قال: بمكّة؟ قال: لا. قال: بيت المقدس؟ قال: لا. قال: بأحد المصرين؟ قال: لا، و لكنّي مسيّرك إلى الربذة.

فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات.

قال: و في رواية الواقديّ: أنّ أبا ذرّ لمّا دخل على عثمان قال له:

____________________

(١) الضرب: الرجل الخفيف اللحم. قال طرفة:

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحيّة المتوقّد

 (الصحاح ١: ١٦٨، مادة: ضرب).

(٢) الاست: العجز. و قد يراد به حلقة الدبر، و أصلها سته على فعل بالتحريك، يدلّ على ذلك أنّ جمعه أستاه، مثل جمل و أجمال. (الصحاح ٦: ٢٢٣٣، مادة: سته).

(٣) ناقة شارف: عالية السنّ. (أساس البلاغة: ٢٣٣، مادة: شرف).

٢٧٧

لا أنعم اللّه بقين عينا

نعم و لا لقّاه يوما زينا

تحيّة السّخط إذا التقينا

فقال أبو ذرّ: ما عرفت اسمي «قينا». و في رواية اخرى، قال: لا أنعم اللّه بك عينا يا جنيدب فقال: أنا جندب، و سمّاني النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد اللّه، فاخترت اسمه الذي سمّاني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنّا نقول:

يد اللّه مغلولة( ١ ) و إنّ اللّه فقير و نحن أغنياء( ٢ ) ؟ فقال أبو ذرّ: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال اللّه على عباده و لكنّي أشهد أنّي سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا، جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا».

فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من النبيّ؟ قالوا: لا. قال عثمان:

ويلك يا أبا ذرّ أ تكذب على النّبيّ؟ فقال أبو ذرّ لمن حضر: أما تدرون أنّي صدقت قالوا: لا و اللّه ما ندري. فقال عثمان: ادعوا لي عليّا. فلمّا جاء فقال عثمان لأبي ذرّ: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص. فأعاده، فقال عثمان لعليّعليه‌السلام : أ سمعت هذا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: لا، و قد صدق أبو ذرّ. قال عثمان:

كيف عرفت صدقه؟ قال: لأنّي سمعت النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «ما أظلّت الخضراء، و لا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ». فقال من حضر: أمّا هذا، فسمعناه كلّنا من النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال أبو ذرّ: احدّثكم أنّي سمعت هذا من النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتتّهموني ما كنت أظنّ أنّي أعيش حتّى أسمع هذا من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ٣) .

و قال ابن أبي الحديد: و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن

____________________

(١) المائدة: ٦٤.

(٢) آل عمران: ١٨١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٧ ٢٥٩.

٢٧٨

صبهان، مولى الأسلميّين، قال: رأيت أبا ذرّ يوم دخل به على عثمان، فقال له:

أنت الذي فعلت و فعلت فقال أبو ذرّ: نصحتك فغششتني، و نصحت صاحبك فاستغشّني قال عثمان: كذبت و لكنّك تريد الفتنة و تحبّها، قد أنغلت( ١ ) الشام علينا. فقال له أبو ذرّ: اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.

فقال له عثمان: مالك و ذلك لا امّ لك قال أبو ذرّ: ما وجدت عذرا لي إلاّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فغضب عثمان و قال: أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب اضربه، أو أحبسه، أو اقتله، فإنّه فرّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام.

فتكلّم عليّعليه‌السلام و كان حاضرا فقال: اشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون:... و إن يَكُ كاذِباً فعليه كذبُهُ و إن يكُ صادِقاً يُصِبكم بعض الذي يَعِدكُم إنّ اللّه لا يهدي من هو مسرفٌ كذّابٌ( ٢ ) فأجابه عثمان بجواب غليظ، و أجابه عليّعليه‌السلام بمثله، و لم يذكر الجوابين تذمّما منهما( ٣) .

قلت: ذكر إبراهيم الثقفي الجوابين و هما: أنّ عثمان قال لهعليه‌السلام : بفيك التراب فقالعليه‌السلام له: بل بفيك( ٤) .

و قال ابن أبي الحديد: قال الواقدي: ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذرّ، أو يكلّموه. فمكث كذلك أيّاما ثمّ أتى به فوقف بين يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان أما رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم؟ أما إنّك لتبطش بي بطش جبّار [ عنيد ].

فقال عثمان: اخرج عنّا. قال أبو ذرّ: فما أبغض إليّ جوارك فإلى أين

____________________

(١) أنغلهم حديثا سمعه: ثمّ إليهم به، و النغل: الإفساد بين القوم و النميمة. (لسان العرب ١٤: ٢٢٢، مادة: نغل).

(٢) غافر: ٢٨.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٩.

(٤) بحار الأنوار ٨: ٣٢٤ ط الكمباني، عن تقريب المعارف.

٢٧٩

أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ قال: إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أ فأردّك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق. قال: لا، إنّك إن تخرج إليها تقدم على قوم اولى شبه و طعن على الأئمّة و الولاة، اخرج إلى البادية. قال: أصير أعرابيّا بعد الهجرة؟ قال: نعم. قال أبو ذرّ: فاخرج إلى بادية نجد. قال: لا تعدونّ الربذة( ١) .

و قال: و روى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة: أنّ أبا الأسود الدؤلي قال: كنت احبّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعا، أم أخرجت كرها؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم، فاخرجت إلى المدينة، فقلت: دار هجرتي و أصحابي. فأخرجت من المدينة إلى ما ترى.

ثمّ قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ مرّ بي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربني برجله و قال: لا أراك نائما في المسجد. فقلت: بأبي أنت و أمّي غلبتني عيني، فنمت فيه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك، و تسمع و تطيع. فسمعت و أطعت، و اللّه ليلقينّ اللّه عثمان و هو آثم في جنبي( ٢) .

قلت: و روى الثقفيّ في (تاريخه) كما في (تقريب الحلبيّ) كثيرا ممّا رواه الواقدي( ٣) .

و روى أيضا: أنّ أبا الدرداء و صاحبا له لقيا رجلا شهدا الجمعة عند معاوية بالجابية، فقال الرجل: خبر كرهت أن اخبركما به. فقال أبو الدرداء:

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٩ ٢٦٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٦٠ ٢٦١.

(٣) نقله عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار، ٨: ٣٣٦ ٣٣٨ ط الكمباني.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وتدل القرائن على أنّ البيعة ليست من إبداعات المسلمين ، بل هي سنّة متّبعة بين العرب قبل الإسلام ، ولهذا السبب فإنّ طائفة من «الأوس والخزرج» جاءوا في بداية الإسلام خلال موسم الحج من المدينة لي مكّة وبايعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة ، وكان تعاملهم في قضية البيعة يوحي بأنّها أمر معروف ، وبعدها وخلال فرص ومناسبات متعدّدة جدّد النّبي البيعة مع المسلمين ، وكانت إحداها هذه البيعة التي عرفت ببيعة الرضوان في الحديبيّة ، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكّة ، وسيأتي بيانها وشرحها في تفسير «سورة الممتحنة» بإذن الله!

ولكن كيف تتم البيعة؟! بصورة عامّة تتمّ البيعة كما يلي :

يمدّ المبايع يده إلى يد المبايع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال!

وربّما ذكر شروطا أو حدودا لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة!

وقد تقع البيعة أحيانا على أن لا يفرّ المبايع أبدا أو أن يبقى على عهده وبيعته حتى الموت «وكان هذان المعنيان جميعا في بيعة الرضوان كما صرّحت بذلك التواريخ».

وكان النّبي الكريم يقبل بيعة النساء أيضا لكن لا على أن يمددن أيديهنّ إلى يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها في طرف آخر.

وكان يشترط في البيعة أحيانا على عمل معيّن أو ترك عمل معيّن كما اشترط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النساء المبايعات له بعد مكّة على ألّا( يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) (١) .

وعلى كلّ حال فإنّ في أحكام البيعة بحوثا مختلفة نشير إليها هنا على نحو

__________________

(١) الممتحنة ، الآية ١٢.

٤٦١

الإيجاز والاختصار وإن كانت مسائل هذا البحث محاطة بهالة من الإبهام في الفقه الإسلامي :

١ ـ «ماهية البيعة» نوع من العقد والمعاهدة بين المبايع من جهة والمبايع من جهة أخرى ، ومحتواها الطاعة والإتّباع والدفاع عن المبايع ، ولها درجات طبقا للشروط الذي يذكرونها فيها : ويستفاد من لحن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنّ البيعة نوع من العقد اللازم من جهة المبايع ، ويجب العمل طبقا لما بايع عليه ، ويكون مشمولا بالقانون الكلّي «أوفوا بالعقود» فعلى هذا لا يحقّ للمبايع الفسخ ، ولكن المبايع له أن يفسخ البيعة إن وجد في الأمر صلاحا وفي هذه الصور يتحرر للمبايع من بيعته(١) .

٢ ـ ويرى البعض أنّ البيعة شبيهة بالانتخابات أو نوعا منها ، في حين أنّ الانتخابات على العكس منها تماما ، أي أنّ ماهيتها نوع من إيجاد المسؤولية الوظيفة والمقام للمنتخب ، أو بتعبير آخر هي نوع من التوكيل في عمل ما بالرغم من أنّ الانتخاب يقتضي وظائف على المنتخب أيضا «كسائر الوكالات» في حين أنّ البيعة ليست كذلك!

وبتعبير آخر إنّ الانتخابات تعني إعطاء «المقام» وكما قلنا هي شبيهة بالتوكيل في حين أنّ البيعة تعهد بالطاعة!

ومن الممكن أن يتشابه كلّ من البيعة والانتخاب في بعض الآثار ، لكن هذا التشابه لا يعني وحدة المفهوم والماهية أبدا

ولذلك لا يمكن للمبايع أن يفسخ البيعة ، في حين أنّ المنتخبين لهم الحق في الفسخ في كثير من المواطن بحيث يستطيع جماعة ما أن يعزلوا المنتخب

__________________

(١) نقرأ في حادثة كربلاء أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرم وأحلّ بيعته من أصحابه بعد أن أظهر تقديره لهم وشكرهم على مواساتهم إيّاه لينطلقوا حيث يشاءون فقال : «انطلقوا في حلّ منّي ليس عليكم منّي ذمام» لكنّهم لم يتركوا الحسين عليه‌السلام وبقوا على وفائهم [الكامل : لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٥٧].

٤٦٢

«فلاحظوا بدقة»!

٣ ـ وبالنسبة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين المنصوبين من قبل الله تعالى لا حاجة لهم بالبيعة ، أي أنّ طاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام المعصوم والمنصوب من قبل الله واجبة سواء على من بايع أو لم يبايع!

وبتعبير آخر : إنّ لازم مقام النبوّة والإمامة وجوب الطاعة كما يقول القرآن الكريم :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .

لكن ينقدح هنا هذا السؤال وهو إذا كان الأمر كذلك فعلام أخذ النّبي من أصحابه ـ البيعة كرارا ـ أو المسلمين الجدد ، وقد ورد في القرآن الإشارة إلى حالتين منها بصراحة إحداهما «بيعة الرضوان» ـ محل البحث ـ والأخرى «البيعة مع أهل مكّة» المشار إليها في سورة الممتحنة!.

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول : لا شك أنّ هذه المبايعات كانت نوعا من التأكيد على الوفاء ، وقد أديّت في ظروف خاصة ولا سيما في مواجهة الأزمات والحوادث الصعبة لتنبض في ظلّها روح جديدة في الأفراد كما وجدنا تأثيرها المذهل في بيعة الرضوان في البحث السابق!.

إلّا أنّه فيما يتعلّق بمبايعة الخلفاء فقد كانت البيعة على أساس أنّها قبول لمقام الخلافة وإن كنّا لا نعتقد بخلافة من يخلف النّبي والتي تؤخذ البيعة لها عن طريق الناس ، بل هي من قبل الله وتتحقّق بالنص من قبل النّبي أو الإمام السابق على اللاحق!

ومن هذا المنطلق فإنّ البيعة التي بايعها المسلمين لعليعليه‌السلام أو للحسن أو الحسينعليهما‌السلام فيها (جنبة) تأكيد على الوفاء وهي شبيهة ببيعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ ـ هل البيعة في العصر الحاضر مقبولة على أنّها أصل إسلامي ، أو بتعبير آخر : هل يمكن تعميم البيعة ، وهل للجماعة الفلانية أن تختار شخصا لائقا وواجدا

__________________

(١) النساء ، الآية ٥٩.

٤٦٣

للشرائط الشرعية كأن يكون آمرا للقوات المسلّحة أو رئيسا للجمعية أو رئيسا للحكومة فتبايعه؟ فهل أنّ مثل هذه البيعة مشمول بأحكام الشارع للبيعة؟!

وحيث أنّه لا يوجد عموم ولا إطلاق في القرآن والسنّة في خصوص البيعة فمن المشكل تعميم هذه المسألة وإن كان الاستدلال بعموم الآية( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) غير بعيد!

ولكن مع هذا الإبهام في المسائل المرتبطة بالبيعة فإنّ هناك مانعا من أن نعوّل بصورة قطعية على( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وخاصة أنّنا لا نجد في الفقه أي مورد للبيعة لغير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام المعصوم.

وينبغي الالتفات إلى هذه «اللطيفة» وهي أن مقام نيابة الوليّ الفقيه في نظرنا مقام منصوص عليه من قبل الأئمة المعصومينعليهم‌السلام ولا حاجة له بالبيعة وبالطبع فإنّ اتباع الناس للولي الفقيه وطاعتهم له يمنحه الإمكان من الاستفادة من هذا المقام ويعطيه ـ كما هو مصطلح عليه ـ بسط اليد ، لكنّ هذا لا يعني أنّ مقامه مشروط بتبعيّة الناس له ، ثمّ إنّ اتباع الناس إيّاه لا علاقة له بالبيعة ، بل هو عمل بحكم الله في شأن ولاية الفقيه «فلاحظوا بدقّة».

٥ ـ وعلى كلّ حال فإنّ البيعة مرتبطة بالمسائل الإجرائية ولا علاقة لها بالأحكام ، أي إنّ البيعة لا تمنح أحدا حق «التشريع والتقنين» أبدا بل يجب أن تؤخذ القوانين من الكتاب والسنّة ثمّ تنفذ في حيّز الواقع ، ولا كلام لأحد في هذا.

٦ ـ يستفاد من الرّوايات أنّ البيعة مع الإمام المعصوم ينبغي أن تكون خالصة لله ، وبتعبير آخر هي من الأمور التي يلزم فيها قصد القربة.

فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ثلاثة لا يكلمهم اللهعزوجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم ، رجل بايع إماما لا يبايعه إلّا للدنيا ، إن أعطاه ما يريده وفى له وإلّا كفّ ورجلا بايع رجلا بسلعته بعد العصر فحلف باللهعزوجل لقد أعطى بها كذا وكذا فصدّقه وأخذها ولم يعط فيها ما قال

٤٦٤

ورجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل»(١) . «والتعبير بالعصر لعلّه لشرف هذا الوقت أو لأنّ كثيرا من الباعة يبيعون أجناسهم بالقيمة التي اشتروها في هذا الوقت».

٧ ـ «نكث البيعة» من الذنوب الكبيرة ، ونقرأ حديثا عن الإمام موسى بن جعفر أنّه قال : «ثلاث موبقات ، نكث الصفقة ، وترك السنّة ، وفراق الجماعة»(٢) .

ويظهر أنّ المراد من «ترك السنّة» هي ترك القوانين التي جاء بها النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفراق الجماعة معناها الإعراض عنها لا محض عدم المشاركة في الجماعة.

٨ ـ البيعة في كلام الإمام عليعليه‌السلام

هناك في نهج البلاغة كلمات تؤكّد على البيعة وقد عوّل الإمام عليعليه‌السلام عليها مرارا وأنّ الناس بايعوه.

ومن جملتها أنّه قال في بعض خطبه : «أيّها الناس إنّ لي عليكم حقّا ولكم عليّ حق فأمّا حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعملوا» ثمّ يضيفعليه‌السلام : «وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة بالمشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين أمركم»(٣) .

ويقولعليه‌السلام ـ في مكان آخر : «لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة»(٤) .

وفي خطبته التي خطبها قبل حرب الجمل والتحرّك من المدينة نحو البصرة أشار الى بيعة الناس إيّاه وأن يثبتوا على ما بايعوه فقالعليه‌السلام : «وبايعني الناس غير

__________________

(١) الخصال : باب الثلاثة ـ الحديث ٧٠.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ١٨٥.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ٣٤.

(٤) نهج البلاغة الخطبة ١٣٦.

٤٦٥

مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيّرين»(١) .

ونقرأ أخيرا في بعض كتبه لمعاوية حين لم يبايع الإمام عليّا وكان يريد الانتقاد من

عليعليه‌السلام قوله : «بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد»(٢) .

ويستفاد من بعض عبارات النهج أنّ البيعة ليست أكثر من مرة واحدة ولا سبيل لتجديد النظر فيها وليس فيها اختيار الفسخ ، ومن يخرج منها فهو طاعن ، ومن يتريث ويفكر في قبولها أو ردّها فهو منافق.

[إنّها بيعة واحدة لا يثنّى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار ؛ الخارج منها طاعن والمروّي فيها مداهن](٣) .

ويستفاد من مجموع هذه التعابير أنّ الإمامعليه‌السلام استدلّ على من لم يقبلوا بأنّ إمامته منصوص عليها من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكانوا يتذرّعون بحجج واهية ـ بالبيعة التي كانت عندهم من المسلم بها ، ولم تكن لهم الجرأة على أن يرفضوا طاعة الإمام ويسمعوا لمعاوية وأمثال معاوية ، فكما أنّهم يرون مشروعية الخلافة للخلفاء الثلاثة السابقين ، فعليهم أن يعتقدوا بأنّ خلافة الإمام مشروعة أيضا وأن يذعنوا له «بل إنّ خلافته أكثر شرعية لأنّ بيعته كانت أوسع وكانت حسب رغبة الناس ورضاهم».

فبناء على هذا لا منافاة بين الاستدلال بالبيعة ومسألة نصب الإمام بواسطة الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأكيد البيعة.

لذلك فإنّ الإمام يشير في مكان من (نهج البلاغة) نفسه بحديث الثقلين الذي

__________________

(١) نهج البلاغة من كتاب لهعليه‌السلام رقم ١.

(٢) من كتاب له رقم ٦ ، وينبغي الالتفات إلى أنّ التعويل على بيعة الخلفاء السابقة هو لأنّ معاوية كان منصوبا من قبلهم وكان يدافع عنهم فلا منافاة بين هذا وما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية.

(٣) نهج البلاغة : من كتاب له برقم ٧.

٤٦٦

هو من نصوص الإمامة(١) كما يشير في مكان آخر إلى مسألة الوصية والوراثة(٢) . [فلاحظوا بدقّة].

كما يشيرعليه‌السلام في بعض عباراته الأخرى إلى لزوم الوفاء بالبيعة وعدم إمكان الفسخ والنكث وتجديد النظر وعدم الحاجة إلى التكرار وهذه هي مسائل مقبولة بالنسبة للبيعة أيضا.

ويستفاد من هذه التعابير ضمنا بصورة جيّدة أنّ البيعة إذا كانت فيها «جنبة» إكراه أو إجبار أو أخذت على حين غرّة من الناس فلا عبرة بها ولا قيمة لها بل البيعة الحق التي تكون في حال الاختيار والحرية والإرادة والتفكّر والتدبّر.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٨٧.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٢.

٤٦٧

الآيتان

( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) )

التّفسير

من بركات صلح الحديبيّة مرّة أخرى!

تتحدّث هاتان الآيتان كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبيّة والوقائع التالية لها ـ عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق.

فتقول الآية الأولى منهما :( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) .

ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله للمسلمين سواء في أمد قصير أم بعيد حتى أنّ جمعا من المفسّرين يعتقدون أنّ المغانم التي تقع في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة داخلة في هذه العبارة أيضا.

أمّا قوله :( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) فيرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد منه مغانم

٤٦٨

خيبر التي توفّرت خلال أمد قصير جدا بعد حادثة الحديبيّة!

غير أنّ البعض يرى أنّ كلمة «هذه» إشارة إلى فتح الحديبيّة الذي يعدّ أكبر غنيمة معنوية!

ثمّ يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين ـ في هذه الحادثة ـ فيقول :( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) .

وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العدد والعدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو ـ في مأمن منه وأن يلقي الله رعبا ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم!.

ويرى جماعة من المفسّرين أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما جرى في خيبر إذ كانت بعض القبائل من «بني أسد» و «بني غطفان» قد صمّموا أن يهجموا على المدينة في غياب المسلمين وأن ينهبوا أموالهم ويأسروا نساءهم!

أو أنّها إشارة إلى تصميم جماعة من هاتين القبيلتين على أن ينهضوا لنصرة يهود خيبر فألقى الله الرعب في قلوبهم فصرفهم عن ذلك.

غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب ظاهرا! لأنّنا نشاهد شرطا لهذا التعبير بعد بضعة آيات ورد في شأن أهل مكّة كما جاء في الآية محل البحث ، وهو منسجم مع أسلوب القرآن الذي هو أسلوب إجمال وتفصيل!

المهم أنّه طبقا للرّوايات المشهورة فإنّ سورة الفتح جميعها نزلت بعد حادثة الحديبيّة وخلال عودة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة!

ثمّ يضيف القرآن في تكملة الآية مشيرا إلى نعمتين كبريين أخريين من مواهب الله ونعمه إذ يقول :( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) .

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ الضمير في لتكون عائد على الغنائم الكثيرة الموعودة ، وبعضهم يراه عائدا على حماية المسلمين وكف أيدي الناس عنهم ، غير أنّ المناسب أن يعود الضمير إلى جميع حوادث الحديبية ومجرياتها بعد

٤٦٩

ذلك لأنّ كلّا منها آية من آيات الله ودليل على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووسيلة لهداية الناس إلى الصراط المستقيم ، وكان في قسم منها (جنبة) أخبار بالمغيّبات ، وكان بعضها لا ينسجم مع الظروف العادية ، وهي في المجموع تعدّ معجزة واضحة من معاجز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الآية التالية أعطى الله بشارة أخرى للمسلمين إذ قال :( وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في أنّ هذا الوعد يشير إلى أية غنيمة؟ والى أي نصر؟!

يرى بعضهم أنّه إشارة إلى فتح مكّة وغنائم حنين.

ويرى آخرون أنّه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النّبي (كفتح فارس والروم ومصر) كما يحتمل أيضا أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره(١) .

عبارة( لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) إشارة إلى أنّ المسلمين لم يحتملوا قبل ذلك أن يظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم ، إلّا أنّه وببركة الإسلام والإمدادات الإلهية نالوا هذه القدرة والقوّة!

واستنبط بعض المفسّرين من هذه الجملة أنّ المسلمين كانوا يتحدّثون عن مثل هذه الفتوحات ، إلّا أنّهم كانوا يرون أنفسهم غير قادرين وخاصّة أنّنا نقرأ في قصة الأحزاب يوم بشّر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بفتح بلاد فارس والروم واليمن اتخذ المنافقون كلامه هزوا!

وجملة( قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها ) إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو الفتوحات ، ويرى بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى إحاطة علمه ، غير أنّ المعنى الأوّل أكثر انسجاما مع تعابير الآية الأخرى ، وبالطبع لا مانع في الجمع بينهما

__________________

(١) أخرى : هنا صفة لمحذوف تقدير (ومغانم أخرى لم تقدروا عليها) وهي منصوبة لعطفها على (وعدكم الله مغانم كثيرة)

٤٧٠

وأخيرا فإنّ آخر جملة في الآية( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) هي في الحقيقة بمنزلة بيان العلة للجملة السابقة ، وهي إشارة إلى أنّه مع قدرة الله على كلّ شيء فلا عجب أن ينال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية ، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء!

* * *

ملاحظة

قصة غزوة خيبر :

لمّا عاد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة نحو المدينة أمضى شهر ذي الحجة كلّه وأياما من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة ، ثمّ تحرّك بألف وأربعمائة نفر من المسلمين الذين كانوا حضروا الحديبيّة نحو «خيبر» [حيث كان مركزا للتحرّكات المناوئة للإسلام وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحيّن الفرص لتدمير ذلك المركز للفساد].

وقد صمّمت قبيلة غطفان في البداية أن تحمي يهود خيبر غير أنّها خافت بعدئذ عواقب أمرها (فاجتنبت حمايتها لهم).

فلمّا وصل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريبا من قلاع خيبر أمر أصحابه أن يقفوا ثمّ رفع رأسه الشريف للسماء ودعا بهذا الدعاء :

«اللهمّ ربّ السماوات وما أظللن وربّ الأرضين وما أقللن ، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها».

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقدموا بسم الله» ، وهكذا وصلوا خيبر ليلا وعند الصباح ـ حيث علم أهل خيبر بالخبر ـ وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام ، ثمّ فتح

٤٧١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القلاع قلعة بعد اخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها وآخرها وكان فيها «مرحب» قائد اليهود المعروف.

وفي هذه الأيّام أصاب رأس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجع شديد كان ينتابه أحيانا حتى أنّه لم يستطع الخروج من خيمته ـ يوما أو يومين وفي هذه الأثناء وطبقا لما ورد في التاريخ الإسلامي ، حمل أبو بكر الراية في يده وتوجّه بالمسلمين نحو معسكر اليهود غير أنّه سرعان ما عاد وهو صفر اليدين دون نتيجة ، ومرّة أخرى أخذ عمر الراية وحمل بالمسلمين بصورة أشد فما أسرع ما عاد دون جدوى

فلمّا بلغ الخبر مسمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «والله لأعطينها غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يأخذها عنوة!».

فاشرأبت الأعناق من كلّ جانب ترى من هو المقصود ، وقد حدس جماعة منهم أنّ مقصوده (علي)عليه‌السلام ، إلّا أنّ عليا كان مصابا بوجع في عينه فلم يكن حاضرا حينئذ ، ولمّا كان الغد أمر النّبي بأن يدعو له عليا ، فجاء راكبا على بعير له حتى أناخ قريبا من خباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أرمد قد عصّب عينيه.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لك؟

قال عليعليه‌السلام : رمدت بعدك.

فقال له : أدن مني ، فدنا منه ، فتفل في عينيه ، فما شكا وجعا حتى مضى بسبيله.

ثمّ أعطاه الراية.

فتوجّه عليعليه‌السلام بجيش الإسلام نحو القلعة الكبرى (من خيبر) فرآه رجل يهودي من أعلى الجدار فسأله من أنت؟ فقال : أنا علي بن أبى طالب. فنادى اليهودي : أيّتها الجماعة حان اندحاركم ، فجاء «مرحب» آمر الحصن ونازل عليا فما كان إلّا أن هوى إلى الأرض صريعا بضربة عليعليه‌السلام ، فالتحمت الحرب بين المسلمين واليهود بشدّة فاقترب عليعليه‌السلام من باب الحصن فقلعه فدحاه فرماه بقوّة

٤٧٢

خارقة إلى مكان آخر ، وهكذا فتحت القلعة ودخلها المسلمون فاتحين.

واستسلم اليهود وطلبوا من النّبي أن يحقن دماءهم لاستسلامهم ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغنم الجيش الإسلامي الغنائم المنقولة ، وأودع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأرض والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف حاصلها(١) .

* * *

__________________

(١) نقلا بتلخيص عن [الكامل في التاريخ لابن الأثير] ج ٢ ، ص ٢١٦ ـ ٢٢١.

٤٧٣

الآيات

( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) )

التّفسير

لو حدثت الحرب في الحديبيّة!؟

هذه الآيات تتحدّث أيضا عن أبعاد أخر لما جرى في الحديبيّة وتشير إلى

٤٧٤

«لطيفتين» مهمّتين في هذا الشأن!

الأولى : هي أنّه لا تتصوّروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكّة في الحديبيّة لانتصر المشركون والكفرة!( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

وليس هذا منحصرا بكم بل :( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) .

فهذا هو قانون إلهي دائم ، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم الله على عدوّهم ، وربّما حدث في هذا الشأن إبطاء أو تعجيل لامتحان المؤمنين أو لأهداف أخرى ، ولكنّ النصر النهائي على كل حال هو حليف المؤمنين

لكن في موارد كمعركة أحد مثلا حيث أنّ جماعة لم يتّبعوا أمر الرّسول ومالت طائفة منهم إلى الدنيا وزخرفها فلوّثت نياتها وعكفت على جمع الغنائم فإنّها ذاقت هزيمة مرّة ، وهكذا بعد!

اللطيفة المهمّة التي تبيّنها الآيات هي أن لا تجلس قريش فتقول : مع الأسف إنّنا لم نقاتل هذه الطائفة القليلة العدد ، أسفا إذا بلغ «الصيد» مكّة فغفلنا عنه أبدا ليس الأمر كذلك فبالرغم من أنّ المسلمين كانوا قلّة وبعيدين عن الوطن والمأمن وفاقدين للأعتدة والمؤن. ولكن مع هذه الحال لو وقع قتال بين المشركين والمؤمنين لانتصر المؤمنون ببركة قوى الإيمان ونصر الله أيضا ألم يكونوا في بدر أو الأحزاب قلة وأعداؤهم كثرة ، فكيف انهزم الجمع وولّوا الدبر في المعركتين؟!

وعلى كلّ حال فإنّ بيان هذه الحقيقة كان سببا لتقوية روحية المؤمنين وتضعيف روحية الأعداء وإنهاء القيل والقال من قبل المنافقين ، ودلّ على أنّه حتى لو حدثت حرب في هذه الظروف غير الملائمة بحسب الظاهر فإنّ النصر سيكون

٤٧٥

حليف المؤمنين الخلّص!

واللطيفة الأخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت :( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) .

حقا كان ما حدث مصداقا جليّا «للفتح المبين» ونعم ما اختاره القرآن له من وصف ، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مرارا نحو المدينة وسعى سعيا عجيبا لإيقاع الهزيمة بالمسلمين ، إلّا أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم ، فأيّ فتح مبين أكبر من هذا الفتح إذ ينال المسلمون هذا التفوّق على العدو دون أن تسفك قطرة دم واحدة من المسلمين!؟

ولا شكّ أنّ ما جرى في الحديبيّة كان يعدّ في جزيرة العرب عامة نصرا للمسلمين وهزيمة لقريش.

هذا وقد ذكر جماعة من المفسّرين في نزول هذه الآية أنّ مشركي مكّة عبّؤوا أربعين رجلا للهجوم على المسلمين (بصورة خفية) في الحديبيّة ، غير أنّ المسلمين أفشلوا مؤامرتهم وأجهضوا مكيدتهم ـ بفطنتهم ـ فأسر المسلمون هؤلاء الأربعين جميعا وجاءوا بهم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخلّى عنهم سبيلهم.

وقال بعضهم : أنّهم كانوا ثمانين أرادوا أن يهجموا على المسلمين من جبل التنعيم عند صلاة الغداة وبالاستفادة من العتمة ، وقال بعضهم : كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستظلّ تحت الشجرة ليكتب معاهدة الصلح مع ممثل قريش وعلي مشغول بالإملاء ، فحمل عليه ثلاثون شابّا من أهل مكّة بأسلحتهم ولكن بمعجزة مذهلة فشلت خطتهم وأسر جميعهم وخلّى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم سبيلهم(١) .

وطبقا لشأن النّزول هذا فإنّ جملة( مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) إشارة إلى

__________________

(١) (مجمع البيان) ج ٩ ، ص ١٢٣ ، مع شيء من التصرف كما ذكر هذا الشأن (القرطبي) بتفاوت يسير و (أبو الفتوح الرازي) و (الآلوسي في روح المعاني) و (الشيخ الطوسي في التبيان) و (المراغي) وأضرابهم.

٤٧٦

الإنتصار على هذه الطائفة ، في حين أنّه طبقا للتفسير السابق يكون المقصود هو النصر الكلّي للمسلمين على المشركين وهذا التّفسير أكثر انسجاما مع مفاد الآية

ممّا يستلفت النظر أنّ القرآن يؤكّد على عدم القتال في بطن مكّة ، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى لطيفتين :

الأولى : إنّ مكّة كانت مركزا لقوّة العدو ، وعلى القاعدة كان على أهل مكّة [المشركين] أن يغتنموا الفرصة المناسبة فيحملوا على المسلمين فقد كانوا يبحثون عنهم وعن فرصة للقضاء عليهم فإذا هم في دارهم وفي قبضتهم فما كان ينبغي أن يتركوا هذه الفرصة بهذه البساطة ، لكنّ الله سلب عنهم قدرتهم وصرفهم عنهم!

الثانية : إنّ مكّة كانت حرم الله الآمن. فلو وقع القتال فيها لسألت الدماء فتهتك حرمة الحرم من جانب ، وتكون عارا على المسلمين وعيبا أيضا. إذ سلبوا أمن هذه الأرض المقدّسة ، ولذلك فإنّ من نعم الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى المسلمين أنّه وبعد هذه القضية بسنتين فتح عليهم مكّة وكان ذلك من دون سفك دم أيضا

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة أخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبيّة وحكمتها إذ تقول الآية :( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) (١) .

كان أحد ذنوبهم كفرهم ، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله ، أي مكّة (الهدي في العمرة ينحر [أو يذبح] في مكّة وفي الحج بمنى) على حين ينبغي أن يكون بيت الله للجميع وصدّ المؤمنين عنه من أعظم الكبائر ، كما يصرّح القرآن بذلك في مكان آخر من سورة :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (٢) .

__________________

(١) «معكوفا» مشتق من العكوف ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.

(٢) البقرة ، الآية ١١٤.

٤٧٧

ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدّة! لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلما ذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول :( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (١)

وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.

فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول : إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم ، وهذا عيب وعار كبير!

وقال بعضهم أيضا ، إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ ، لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبة ظاهرا.

«المعرّة» من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» «والعرّ على زنة الحر» في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحيانا ثمّ توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كلّ ضرر يصيب الإنسان.

ولإكمال الموضوع تضيف الآية :( لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) .

أجل ، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكّة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أية صدمة

كما يرد هذا الاحتمال أيضا وهو أنّ أحد أهداف صلح الحديبيّة أنّ من المشركين من فيه قابلية الهداية فيهتدي ببركة هذا الصلح ويدخل في رحمة الله.

والتعبير بـ «من يشاء» يراد منه الذين فيهم اللياقة والجدارة ، لأنّ مشيئة الله تنبع من حكمته دائما ، والحكيم لا يشاء إلّا بدليل ولا يعمل عملا دون دقّة وحساب

ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة :( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) أي لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكّة ولم يكن هناك

__________________

(١) جواب لولا في الجملة الآنفة محذوف والتقدير : لمّا كفّ أيديكم عنهم ، أو : لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا إيّاكم

٤٧٨

خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذابا أليما.

صحيح أنّ الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز ، ولكنّ سنّة الله ـ في ما عدا الموارد الاستثنائية ـ أن تكون الأمور وفقا للأسباب العاديّة.

جملة «تزيلوا» من مادة زوال ، وهنا معناها الانفصال والتفرّق.

ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين

ومن جملة هذه الروايات نقرأ في الرواية أنّه سأل رجل الإمام الصادقعليه‌السلام : ألم يكن عليعليه‌السلام قويا في دين الله؟ قالعليه‌السلام : بلى. فقال : فعلام إذ سلّط على قوم (في الجمل) لم يفتك بهم فما كان منعه من ذلك؟!

فقال الإمام : آية في القرآن!

فقال الرجل : وأية آية؟!

فقال الصادقعليه‌السلام قوله تعالى :( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً )

ثمّ أضافعليه‌السلام : أنّه كان للهعزوجل وودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين ، ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتى تظهر وودائع اللهعزوجل (١) .

أي أن الله سبحانه يعلم أنّ جماعة سيولدون منهم في ما بعد وسيؤمنون عن اختيارهم وإرادتهم ولأجلهم لم يعذب اللهءاباءهم وقد أورد هذا القرطبي في تفسيره بعبارة اخرى.

ولا يمنع أن تكون الآية مشيرة إلى المؤمنين المختلطين بالكفّار في مكّة وإلى المؤمنين الذين هم في أصلاب الكافرين وسيولدون في ما بعد!

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٠ ، وروايات أخر متعددة وردت أيضا في هذا المجال!.

٤٧٩

الآية

( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) )

التّفسير

التعصّب «وحمية الجاهلية» أكبر سدّ في طريق الكفّار :

هذه الآية تتحدّث مرّة أخرى عن (مجريات) الحديبيّة وتجسّم ميادين أخرى من قضيتها العظمى فتشير أوّلا إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان بالله ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول :( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) (١) .

ولذلك منعوا النّبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت الله ويؤدّوا مناسكهم وينحروا «الهدي» في مكّة. وقالوا لو دخل هؤلاء ـ الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب ـ

__________________

(١) يستوفي الفعل (جعل) مفعولا واحدا أحيانا وذلك إذا كان معناه «الإيجاد» كالآية محل البحث وفاعله الذين كفروا ومفعوله الحمية والمراد بالإيجاد هنا البقاء على هذه الحالة والتعلّق بها ، وقد يستوفي هذا الفعل (جعل) مفعولين وذلك إذا كان بمعنى (صار).

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607