بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63033 / تحميل: 6541
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الجاهلية، مع أنّ (الصحاح) إنّما قال: (و إذا علم القامر يفوز قدحه قيل جرى ابناعيان)، لا كما قال ابن أبي الحديد: استعان الإنسان، إذا قال وقت الظفر و الغلبة هذه الكلمة. مع أنّه أيّ ربط للاستعانه بمثل (ابناعيان) و الاستعانة من العون، و ابناعيان من العين و بينهما بون ذكر (الصحاح) و (القاموس) الأوّل في الأوّل( ١ ) و الثاني في الثاني( ٢ ) ، و قد عرفت كلام (الصحاح)، و في (القاموس):

ابناعيان ككتاب طائران أو خطان يخطهما العائف في الأرض، ثم يقول ابناعيان أسرعا البيان و إذا علم...( ٣ ) ، مع أنّك قد عرفت أنّ أصل الاستعانه تصحيف من المصنّف.

«و عونان على العجز و الأود» بالتحريك مصدر أود الشي‏ء بالكسر أي:

اعوج.

ثم الظاهر أنّ طلحة و الزبير لمّا رأيا أنّ عمر كان شريك أبي بكر في خلافته، و بني اميّة لا سيما مروان كانوا شركاء عثمان في خلافته، طمعا منهعليه‌السلام ذلك.

٦ - الخطبة (٢٠٥) و من كلام له ع كلم به؟ طلحة؟ و؟ الزبير؟ بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما، و الاستعانة في الأمور بهما:

لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً أَ لاَ تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْ‏ءٍ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ وَ أَيُّ قَسْمٍ اِسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ.

____________________

(١) الصحاح ٦: ٢١٦٩، مادة: (عون)، القاموس المحيط ٤: ٢٥٠ مادة (عون).

(٢) الصحاح ٦: ٢١٧٢، مادة: (عين)، القاموس المحيط ٤: ٢٥٢، مادة: (عين).

(٣) القاموس المحيط ٤: ٢٥٢، مادة: (عين).

٥٤١

وَ اَللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي اَلْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ وَ لاَ فِي اَلْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ وَ مَا اِسْتَنَّ؟ اَلنَّبِيُّ ص؟ فَاقْتَدَيْتُهُ فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا وَ لاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي اَلْمُسْلِمِينَ وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لاَ عَنْ غَيْرِكُمَا.

وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ اَلْأُسْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَ لاَ وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص؟

قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اَللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اَللَّهِ عِنْدِي وَ لاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى.

أَخَذَ اَللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى اَلْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ اَلصَّبْرَ ثم قال ع رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ أقول: رواه أبو جعفر الاسكافي في (نقض العثمانية) فقال بعد ذكر قصّة بيعتهعليه‌السلام : ثم بعث عليّعليه‌السلام بعمّار بن ياسر و عبد الرحمن بن حنبل إلى طلحة و الزبير و هما في ناحية المسجد، فأتياهما فدعواهما فقاما حتّى جلسا إلى عليّعليه‌السلام فقال لهما: نشدتكما اللّه هل جئتماني طائعين للبيعة، و دعوتماني إليها و أنا كاره لها؟ قالا: نعم، فقالعليه‌السلام : غير مجبرين و لا مقسورين فأسلتما لي بيعتكما و أعطيتماني عهدكما؟ قالا: نعم، قال: فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟ قالا: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقتضي الامور و لا

٥٤٢

تقطعها دوننا، و تستشيرنا في كلّ أمر و لا تستبد بذلك علينا، و لنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، و أنت تقسم و تقطع الأمر و تمضي الحكم بغير مشاورتنا و لا علمنا. فقال عليّعليه‌السلام : لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا، فاستغفرا اللّه يغفر لكما، ألا تخبرانني أدفعتكما عن حقّ واجب لكما فظلمتكما إيّاه؟ قالا: معاذ اللّه. قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي‏ء؟ قالا: معاذ اللّه. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا:

معاذ اللّه. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا، و سوّيت بيننا و بين من لا يماثلنا فيما أفاء اللّه تعالى بأسيافنا و رماحنا، و أوجفنا عليه بخيلنا، و ظهرت عليه دعوتنا، و أخذناه قسرا عمّن لا يرى الإسلام إلاّ كرها. فقالعليه‌السلام :

أما ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فو اللّه ما كانت لي في الولاية رغبة، و لكنّكم دعوتموني إليها و حملتموني عليها، فخفت أن أردّكم فتختلف الامّة، فلمّا أفضت إليّ نظرت في كتاب اللّه و سنّة رسوله، فأمضيت ما دلاّني عليه و اتّبعته، و لم احتج إلى رأيكما فيه و لا رأي غيركما، و لو وقع حكم ليس في كتاب اللّه بيانه و لا في السنّة برهانه، و احتيج إلى المشاورة فيه تشاورتكما.

و أما القسم و الاسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادى‏ء بدء، قد وجدت أنا و أنتما رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم بذلك، و كتاب اللّه ناطق به، و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

و أمّا قولكما: جعلت فيئنا و ما أفاءته سيوفنا و رماحنا سواء بيننا و بين غيرنا، فقديما سبق إلى الإسلام قوم و نصروه بأسيافهم و رماحهم، فلا فضّلهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القسمة و لا آثرهم بالسبق، و اللّه سبحانه موف السابق و المجاهد يوم القيامة أعمالهم، و ليس لكما و اللّه عندي و لا لغيركما إلاّ

٥٤٣

هذا، أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ و ألهمنا و إيّاكم الصبر ثمّ قال: رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه، و رأى جورا فردّه و كان عونا للحقّ على من خالفه.

و رواه ابن عقدة الحافظ بأسانيده، كما نقله محمّد بن الحسن الطوسي في أواخر (أماليه)( ١) .

قولهعليه‌السلام : «لقد نقمتما» أي: أنكرتما و عتبتما.

«يسيرا و أرجأتما» أي: أخّرتما.

«كثيرا» نقمهما اليسير ما عرفت من طلبهما شيئا ليس لهما فيه حق، و إرجاؤهما الكثير ترك طاعتهما الإمام الواجب الإطاعة.

قال ابن أبي الحديد: روى الجاحظ أن طلحة و الزبير أرسلا إلى عليّعليه‌السلام قبل خروجهما محمّد بن طلحة و قالا له: لا تقل له يا أمير المؤمنين، و لكن قل له يا أبا الحسن، لقد فال فيك رأينا و خاب ظنّنا، أصلحنا لك الأمر و وطدنا ليك الإمرة، و أجلبنا على عثمان حتى قتل، فلمّا طلبك النّاس لأمرهم أسرعنا إليك و بايعناك، و قدنا إليك أعناق العرب، و وطى‏ء المهاجرون و الأنصار أعقابنا في بيعتك، حتّى إذا ملكت عنانك، استبددت برأيك عنّا و رفضتنا رفض التريكة، و أذللتنا إذلالة الإماء، و ملكت أمرك الأشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما من الأعراب و نزاع الأمصار، فكنّا في ما رجوناه منك و أمّلناه من ناحيتك كما قال الأوّل:

فكنت كمهريق الذي في سقائه

لرقراق آل فوق رابية صلد

فلمّا أبلغه محمّد بن طلحة ذلك قال عليّعليه‌السلام له: قل لهما فما الذي يرضيكما؟ فذهب و جاء فقال: إنّهما يقولون ولّ أحدنا البصرة و الآخر الكوفة.

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسيّ رحمه اللّه ٢: ٣٣٧ ٣٤١.

٥٤٤

فقال: لاها اللّه إذن يحلم الاديم و يستسري الفساد، و تنتقض عليّ البلاد من أقطارها، و اللّه إنّي لا آمنهما و هما عندي بالمدينة، فكيف آمنهما و قد وليتهما العراقين؟ اذهب إليهما و قل لهما: أيّها الشيخان احذرا من اللّه و نبيّه على امّته، و لا تبغيا المسلمين غائلة و كيدا، و قد سمعتما قول اللّه تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين( ١ ) . فقام و لم يعد إليه و تأخرا عنهعليه‌السلام أيّاما، ثم جاءاه فاستأذناه للخروج إلى مكة للعمرة، فأذن لهما بعد أن أحلفهما ألا ينقضا بيعة، و لا يغدرا به، و لا يشقّا عصا المسلمين، و لا يوقعا الفرقة بينهم، و أن يعودوا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة، فحلفا على ذلك كلّه ثم خرجا ففعلا ما فعلا( ٢) .

و روي انّهما لمّا خرجا قال عليّعليه‌السلام : و اللّه ما يريدان العمرة و إنّما يريدان الغدرة،... فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما( ٣) .

و في (خلفاء ابن قتيبة): كان الزبير لا يشك في ولاية العراق، و طلحة في اليمن، فلمّا استبان لهما أنّ عليّاعليه‌السلام غير موليهما شيئا أظهرا الشكاة، فتكلّم الزبير في ملأ من قريش فقال: هذا جزاؤنا من علي قمنا له في أمر عثمان، حتّى أثبتنا عليه الذنب، و سببنا له القتل، و هو جالس في بيته و كفي الأمر، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا فوقنا. و قال طلحة: ما اللوم إلاّ لنا، كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا و بايعناه و أعطيناه ما في أيدينا و منعنا ما في يده( ٤) .

«ألا تخبراني أي شي‏ء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه و أيّ» هكذا في

____________________

(١) القصص: ٨٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١١: ١٦.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١١: ١٧، و الآية ١٠ من سورة الفتح.

(٤) الإمامة و السياسة ١: ٥١.

٥٤٥

(المصرية)( ١ ) ، و لكن في (ابن ميثم)( ٢ ) : (أو أيّ)، و في (ابن أبي الحديد)( ٣ ) : (أم أيّ).

«قسم» أي: تقسيم.

«استأثرت» أي: استبددت.

«عليكما به» كما كان عثمان يستأثر نفسه و أقاربه على النّاس.

«أم أيّ حق رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه» كما في المتقدمين عليه فقالوا: أمر عمر برجم حامل، فقال له معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على بطنها. فرجع عن حكمه و قال: لو لا معاذ لهلك عمر( ٤) .

و أمر أيضا برجم مجنونة فقال له عليّعليه‌السلام : إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق( ٥ ) . فقال: «لو لا عليّ لهلك عمر»( ٦) .

«و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة» فهوعليه‌السلام كان إماما بتعيين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له من قبل اللّه تعالى، و ليست الخلافة و السلطنة جزء للإمامة كالنبوة و إن كانت حقّها.

«و لا في الولاية» على النّاس.

«إربة» اي: حاجة.

«و لكنّكم دعوتموني إليها و حملتموني عليها فلمّا أفضت» أي: الخلافة.

«إليّ نظرت إلى كتاب اللّه و ما وضع لنا و أمرنا بالحكم به فاتّبعته و ما استن»

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٢١٠.

(٢) في شرح ابن ميثم ٤: ٩ «و أيّ» أيضا.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٧.

(٤) ذكره العلاّمة الأمينيّ رحمه اللّه مع مصادره في الغدير ٦: ١٣٢ فراجع.

(٥) مسند أحمد ١: ١٤٠ و ١٥٤، فضائل الصحابة ٢: ٧١٩، المناقب للخوارزمي: ٨٠.

(٦) هذه الكلمة قالها عمر بن الخطّاب في موارد شتّى، انظر في تبيين مواضعها ملحقات إحقاق الحقّ ٨: ١٨٢ ١٩٢.

٥٤٦

هكذا في (المصرية)( ١ ) ، و الصواب: (و ما استسن) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٢ ) و (الخطية).

«النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتديته» و هكذا كان مذهبهعليه‌السلام في عدم حجيّة غير كتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

«فلم احتج في ذلك إلى رأيكما و لا رأي غيركما» لأنّ كل شي‏ء مذكور في كتاب اللّه و سنة نبيّه، و إن كان باقي الصحابة لم يعرفوا ذلك.

«و لا وقع حكم جهلته فأستشيركما و إخواني المسلمين» كما كان من تقدم عليه كذلك فقالوا: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إنّ زوجي يصوم النّهار و يقوم الليل، و إنّي أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة اللّه. فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك. فجعلت تكرّر إليه القول و هو يكرّر عليها الجواب. فقال كعب بن سور لعمر: إنّها تشكو زوجها في مباعدته إيّاها عن فراشه. ففطن عمر حينئذ و قال له: قد وليّتك الحكم بينهما. فقال كعب لعمر: إنّ اللّه أحلّ لزوجها من النّساء مثنى و ثلاث و رباع، فله ثلاثة أيام و لياليهنّ يعبد فيها ربّه، و لها يوم و ليلة.

فقال له عمر: و اللّه ما أعلم من أي أمر بك أعجب، أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما، اذهب قد وليّتك قضاء البصرة( ٣) .

«و لو كان ذلك» على طريق الفرض.

«لم أرغب عنكما و لا عن غيركما» و إلاّ فكان وقوع ذلك منهعليه‌السلام محالا.

«و أما ما ذكرتما من أمر الاسوة» أي: المساواة بين النّاس في قسمة الغنيمة.

«فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي و لا ولّيته هوى مني، بل وجدت أنا و أنت

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٢١٠.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد ١١: ٧ و شرح ابن ميثم ٤: ٩ «استنّ» أيضا.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ٤٦ ٤٧.

٥٤٧

ما جاء به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرغ منه، فلم احتج إليكما فيما قد فرغ اللّه من قسمه و أمضى فيه حكمه» و هذا دليل على كون التفضيل الذي أحدثه عمر بدعة منكرة، فقد عرفت من رواية الإسكافي( ١ ) أنّهعليه‌السلام قال لهما: ما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالوا: خلافك عمر في القسم أنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا. فقالعليه‌السلام لهما: إنّ كتاب اللّه و سنّة نبيّه على التسوية فكيف يمكن إعمال الرأي في قبالهما.

و كما رضيعليه‌السلام بترك حقّه لمّا قال له ابن عوف: ابايعك على أن تعمل بسنّة الرجلين، دلالة على بطلان سنتهما، كذلك رضي بتزلزل أمره بخروج طلحة و الزبير عليه فيتعقبه قيام معاوية، دون إجابتهما إلى التفضيل، دلالة على كون فعل عمر مخالفا لصريح القرآن و السنّة.

«فليس لكما و اللّه عندي و لا لغيركما في هذا» أي: أمر الأسوة.

«عتبى» أي: حقّ. عودا إلى مقصدكما و ما يرضيكما، لكونها خلاف الشريعة.

«أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ» حتى لا نستدعي الباطل.

«و ألهمنا و إيّاكم الصبر» على العمل بالحقّ.

«ثم قال: رحم اللّه امرأ» هكذا في (المصرية)( ٢ ) ، و الصواب: (رجلا) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٣ ) و (الخطية).

«رأى حقا فأعان عليه»... و تعاونوا على البرّ و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان...( ٤) .

____________________

(١) مضت آنفا.

(٢) نهج البلاغة ٢: ٢١١.

(٣) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨، و لكن في شرح ابن ميثم ٤: ١٠ «امرأ» أيضا.

(٤) المائدة: ٢.

٥٤٨

«أو رأى جورا فردّه» فهو الواجب على كلّ مسلم.

«و كان عونا بالحقّ على صاحبه» هكذا في النسخ( ١ ) ، و الأصحّ ما في رواية الإسكافي( ٢ ) : (و كان عونا للحقّ على من خالفه).

٧ - الخطبة (١٣٦) و من كلام لهعليه‌السلام :

لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ اَلْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَ لَأَقُودَنَّ اَلظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ اَلْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً أقول: الأصل في هذا الكلام ما رواه (الإرشاد): عن الشعبي عنهعليه‌السلام حين تخلّف ابن عمر و سعد و أسامة و حسان و محمّد بن مسلمة عن بيعته، فقال الشعبي: لمّا توقف هؤلاء عن بيعته، حمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيّها النّاس إنّكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان من قبلي، و إنّما الخيار للناس( ٣ ) قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، و إنّ على الإمام الاستقامة و على الرعية التسليم، و هذه بيعة عامّة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام و اتّبع غير سبيل أهله، و لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة، و ليس أمري و أمركم واحدا، و إنّي اريدكم للّه و أنتم تريدونني لأنفسكم، و ايم اللّه لأنصحن للخصم

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٢١١، شرح ابن أبي الحديد ١١: ٨، شرح ابن ميثم ٤: ١٠.

(٢) مضت آنفا.

(٣) قال العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في البحار ٣٢: ٣٣ ما لفظه: «إنّما الخيار» أي: بزعمكم و على ما تدّعون من ابتناء الأمر على البيعة.

٥٤٩

و لأنصفن للمظلوم، و قد بلغني عن سعد و ابن مسلمة و اسامة و عبد اللّه و حسّان امور كرهتها، و الحقّ بيني و بينهم( ١) .

و ما رواه الدينوري مرفوعا قال: لمّا قتل عثمان بقي النّاس ثلاثة أيّام بلا إمام، و كان الذي يصلّي بالناس الغافقي، ثم بايع النّاس عليّاعليه‌السلام فقال: أيّها النّاس بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار قبل أن تقع البيعة، فإذا وقعت فلا خيار، و إنّما عليّ الاستقامة و على الرعية التسليم، و إنّ هذه بيعة عامّة من ردّها رغب عن دين الإسلام و إنّها لم تكن فلتة( ٢) .

«لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة» كما كانت بيعة أبي بكر، كما صرّح به عمر.

ففي (تاريخ اليعقوبي): استأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد فقال: قد تقدّم لكم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرّة، لا يخرجوا فيسللوا بالناس يمينا و شمالا. فقال له عبد الرحمن بن عوف: و لم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن أسكت عنك فلا اجيبك خير لك من أن أجيبك.

ثم اندفع يحدّث عن أبي بكر حتّى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرّها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه( ٣) .

و في (الطبري): عن ابن عباس قال: حججنا مع عمر و إنّي لفي منزلي بمنى إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف فقال: شهدت اليوم عمر و قام إليه رجل فقال: إنّي سمعت فلانا يقول: لو قد مات عمر لبايعت فلانا فقال عمر: إنّي لقائم العشيّة في النّاس احذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا النّاس أمرهم. فقلت له: إنّ الموسم يجمع رعاع النّاس و غوغاءهم، و هم الذين يقربون من مجلسك و يغلبون عليه، و أخاف أن تقول مقالة لا يعونها و لا

____________________

(١) الإرشاد ١: ٢٤٣ ٢٤٤، بحار الأنوار ٣٢: ٣٣.

(٢) الأخبار الطّوال: ١٤٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥٧ ١٥٨.

٥٥٠

يحفظونها فيطيروا، و لكن امهل حتّى تقدم المدينة و تخلص بأصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول فيعوا مقالتك. فقال: و اللّه لأقومن بها أوّل مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس: فلمّا قدمنا المدينة و جاء يوم الجمعة، هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن إلى أن قال فقال عمر على المنبر: بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغرنّ امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك، غير أن اللّه وقى شرّها، و ليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. و أنّه كان من خبره حين توفي النبيّ أنّ عليّا و الزبير و من معهما تخلفوا عنّا في بيت فاطمة، و تخلّفت عنّا الأنصار بأسرها...( ١) .

و قال الجاحظ: إنّ الرجل الذي قال: (لو مات عمر لبايعت فلانا) كان عمّار بن ياسر فإنّه قال: لو قد مات عمر لبايعت عليّاعليه‌السلام ( ٢) .

و روى ابن الهيثم بن عدي في كتابه كما نقل الفضل بن شاذان في (إيضاحه) و المرتضى في (شافيه) و الهيثم من مصنّفيهم كما ذكره المسعودي في أوّل (مروجه)( ٣ ) عن عبد اللّه بن عباس الهمداني، عن سعيد بن جبير عن أبن عمر في خبر قال: أشهد أنّي كنت عند أبي يوما و قد أمرني أن أحبس النّاس عنه، فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال أبي: دويبة سوء و لهو خير من أبيه. فأوحشني ذلك منه فقلت: يا أبة عبد الرحمن خير من أبيه؟ فقال: و من ليس بخير من أبيه لا أمّ لك ايذن له. فدخل فكلّمه في الحطيئة و قد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال له عمر إنّ في الحطيئة أودا فدعني اقوّمه بطول حبسه، فألحّ عبد الرحمن عليه و أبى هو، فخرج عبد الرحمن فأقبل

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٢٠٣ ٢٠٥، سنة ١١، و النقل بتلخيص.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٢: ٢٥.

(٣) مروج الذهب ١: ٧١.

٥٥١

عليّ أبي و قال: أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عمّا كان من تقدم احيمق بني تيم عليّ و ظلمه لي؟ فقلت: لا علم لي بذلك، قال: فما عسيت يا بنيّ أن تعلم؟ فقلت له:

و اللّه أحب إلى النّاس من ضياء أبصارهم، قال: إنّ ذلك لكذلك على رغم أبيك، قلت: أ فلا تجلي عن فعله بموقف في النّاس تبيّن ذلك لهم؟ قال: فكيف لي بذلك مع ما ذكرت إذا يرضخ رأس أبيك بالجندل. قال: ثمّ تجاسر و اللّه فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا فقال: أيّها النّاس إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى اللّه شرّها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه( ١) .

و عن مجالد بن سعيد قال: غدوت يوما إلى الشعبيّ إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا، فأخذ الأزدي في ذكر أبي بكر و عمر، فضحك الشعبي و قال:

لقد كان في صدر عمر ضبّ( ٢ ) على أبي بكر إلى أن قال بعد ذكر استغراب الأزدي لذلك فقال الشعبي له: فكيف تصنع بالفلتة التي وقى اللّه شرها، أ ترى عدوّا يقول في عدوّ يريد ان يهدم ما بنى لنفسه في النّاس، أكثر من قول عمر في أبي بكر؟ فقال الأزدي: سبحان اللّه أنت تقول ذلك؟ فقال: أنا أقوله قاله عمر على رؤس الأشهاد، فلم أدعه...( ٣) .

و المفهوم من سوق الكلام و مقتضى المقام أنّ عمر كان ينكر أن يعقد إمامة ببيعة النّاس، كما صنعت لأبي بكر و اعتقاده أنّ الامامة انّما يجب أن تكون إمّا بنص مفصل كما نصّ أبو بكر عليه، أو مجمل كما صنع هو لعثمان.

و امّا من دعا النّاس إلى بيعته كما أرادت قريش طلحة و الزبير و غيرهما في أيّامه أن يخرجوا من المدينة باسم الجهاد، و كما خرج طلحة و الزبير في أيّام أمير المؤمنينعليه‌السلام باسم العمرة إلى مكة، و يدعو النّاس إلى

____________________

(١) الإيضاح: ١٣٥ ١٣٨، الشافي ٤: ١٢٦ ١٢٩، الصراط المستقيم ٣: ٣٠٢، و النقل بتصرّف و تلخيص.

(٢) الضبّ: الحقد، نقول: أضبّ فلان على غلّ في قلبه، أي أضمره. الصحاح ١: ١٦٧، مادة: (ضبب).

(٣) الإيضاح: ١٣٩ ١٤٠، الشافي ٤: ١٢٦ ١٢٩، و النقل بتصرّف.

٥٥٢

بيعتهم كأبي بكر و يدل على ذلك قول ابن عوف له في رواية اليعقوبي( ١ ) : لم تمنعنا من الجهاد؟ و جواب عمر له: لا اجيبك خير لك، و كما أراد عمّار في رواية الطبري( ٢ ) دعوة النّاس بعد موت عمر إلى أمير المؤمنين، لعدم جرأته على ذلك في أيّام عمر فهو عند عمر أمر منكر ذو مفاسد كثيرة، و إنّما كانت بيعة النّاس لأبي بكر كذلك فلتة و تصادفا و اتفاقا سلموا من عواقبها بأمور:

الأوّل: اجتماع الأنصار لمّا رأوا طمع قريش في الإمارة عليهم بمنعهم نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الوصيّة، و تخلفهم عن جيش أكّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتجهيزه حتى لعن المتخلّف عنه فقالوا: لمّا رأوا ذلك إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبث بضع عشرة سنة في قريش بمكّة فما آمن به أكثرهم، و من آمن به منهم ما قدروا أن يمنعوه عن أعدائه، و انّما استقامت العرب له طوعا و كرها بنصر الأنصار له، فهم أولى بسلطانه من قريش الطامعين.

و الثاني: أنّ سعد بن عبادة رئيسهم كان مريضا، فقال لابنه قيس: إنّي لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلّهم كلامي، فكان يتكلّم سعد و يحفظ ابنه قوله و يسمعه النّاس( ٣ ) ، و لذا قال سعد لعمر لمّا قال اقتلوا سعدا: أما و اللّه لو أن لي بكم قوّة أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها و سككها زئيرا يحجرك و أصحابك، و إذن لألحقنّك و اللّه بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع( ٤) .

و الثالث: أنّ بشير بن سعد الخزرجي ابن عمّ سعد بن عبادة حسده أن يصير أميرا، فبادر إلى بيعة أبي بكر قبل الجميع حتّى قبل عمر، فقال له الحبّاب بن المنذر: عققت عقاق أنفست على ابن عمّك الإمارة( ٥) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥٧ ١٥٨.

(٢) تاريخ الطبريّ ٣: ٢٠٥، سنة ١١.

(٣) تاريخ الطبريّ ٣: ٢١٨، سنة ١١، شرح ابن أبي الحديد ٦: ٥.

(٤) تاريخ الطبريّ ٣: ٢٢١، سنة ١١.

(٥) تاريخ الطبريّ ٣: ٢٢١، سنة ١١، الإمامة و السياسة ١: ٩.

٥٥٣

و الرابع: أنّ الأوس كانوا منافسين للخزرج في الجاهليّة و الإسلام، فاغتنموا الفرصة لمّا رأوا عمل بشير ابن عم سعد معه، فقال اسيد بن حضير رئيس الأوس لهم: و اللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، و لا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد و الخزرج ما كانوا أجمعوا من أمرهم( ١) .

و الخامس: أن أمير المؤمنينعليه‌السلام و بني هاشم كانوا مشتغلين بتجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لم يحضر أحد منهم السقيفة، و لو حضروا كيف يعقل أن يحاجّ أبو بكر مع الأنصار و يقول لهم في مقابل نصرتهم له: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخصّ اللّه المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه، و المواساة له، و الصبر معه على شدّة أذى قومه و تكذيبهم له؟

و كيف يمكن لعمر أن يقول لهم: و اللّه لا ترضى العرب أن يؤمروكم و نبيّها من غيركم، و لكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم، و من ذا ينازعنا سلطان محمّد و إمارته و نحن أولياؤه و عشيرته إلاّ مدل بباطل( ٢) .

فلمّا أخرجوا أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد قهرا إلى بيعتهم قالعليه‌السلام لهم: لا ابايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تأخذوه منّا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم، لمّا كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم؟ فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الإمارة، فإذن أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّا و ميّتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، و إلاّ فبوؤا بالظلم و أنتم تعلمون. و حتّى إنّ بشير بن سعد الذي كان أوّل من

____________________

(١) المصدر نفسه ٣: ٢٢١ ٢٢٢، سنة ١١.

(٢) الإمامة و السياسة ١: ٧ ٨.

٥٥٤

بايع أبا بكر، حتّى قبل عمر، لمّا سمعهعليه‌السلام قال لأبي بكر و عمر نحن أحقّ بهذا الأمر لأنّا أهل البيت إلى آخر ما مر قال لهعليه‌السلام : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلفت عليك، فقالعليه‌السلام له: أفكنت أدع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه و أخرج انازع بسلطانه.

و كذلك لمّا كانعليه‌السلام يخرج بفاطمة ليلا إتماما للحجّة لسؤال الأنصار النصرة، كانوا يقولون لها: يا بنت رسول اللّه قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق قبل أبي بكر ما عدلنا عنه، فتقولعليها‌السلام لهم: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما اللّه حسيبهم( ١) .

و لمّا دعا عمر بالحطب و قال: و الذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنها على من فيها، وقفت فاطمةعليها‌السلام على بابها و قالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم( ٢) .

و السادس: أن أمير المؤمنينعليه‌السلام كان وتر قريش، فلم يرضوا أن ينتقل الأمر إليهعليه‌السلام ، و لم يكن فيهم أنفسهم من يتصديه بشخصه لكون أكثرهم من الطلقاء و المؤلفة، و كون إسلام أبي بكر أقدم من إسلامهم حتّى من إسلام عمر، و كونه ذا سياسة زائدة مع طبيعة لينة، و صيرورة مصاحبته للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار سببا لاشتهاره و مستمسكا للتلبيس به على العامّة، و كون بنته عايشة التي لم تكن في السياسة و الجلارة دون أبيها في بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بواسطتها زيد على مصاحبة غاره أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بالصلاة في مرض موته، و بهما تمسّك عمر في تقديمه. و قد وصف عمر بغض قريش لهعليه‌السلام كبغض الثور لجازره، فقال يوما لابن عباس: أنتم أهل النبيّ و بنو عمّه فما

____________________

(١) المصدر نفسه ١: ١٢.

(٢) المصدر نفسه.

٥٥٥

تقول منع قومكم عنكم؟ قال: لا أدري و اللّه ما أضمرنا لهم إلاّ خيرا، قال: اللهمّ غفرا ان قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة و الخلافة، فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا، و لعلكم تقولون إنّ أبا بكر كان أوّل من أخّركم، أما إنّه لم يقصد ذلك و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل، و لو لا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيبا، و لو فعل ما هناكم مع قومكم أنّهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره.

و السابع: أنّ قريشا كانوا أهل دنيا، و كانوا يريدون الإمارة و السلطنة، و كانوا علموا أنّه إن تصدّى أمير المؤمنينعليه‌السلام للأمر لم يجعله إلاّ في المعصومين من عترته، فجعلوه في أبي بكر و هو نظيرهم ليردّه إليهم، و ليكون لهم به سبب يدعونه، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في كتاب كتبه ليقرأ على النّاس لمّا سألوه عن الثلاثة و قد رواه ابن قتيبة و الثقفي و غيرهما:

و جعلني عمر سادس ستّة فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا احاج أبا بكر و أقول: يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة، فخشوا إن وليت عليهم ألا يكون لهم في هذا الأمر نصيب، فتابعوا إجماع رجل واحد حتّى صرفوا الأمر منّي لعثمان، فأخرجوني منها رجاء أن يتداولوها حين يئسوا أن ينالوها، ثمّ قالوا لي: هلم فبايع و إلاّ جاهدناك. فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا...( ١) .

و رووا عن جندب خبرا طويلا و أنّهعليه‌السلام قال لجندب لمّا قال لهعليه‌السلام : ادع النّاس إلى نفسك: لا يجيبني من المائة واحد، سأخبرك أنّ النّاس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون هم قوم محمّد و قبيلته، و أما قريش في ما بينها

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١٥٥، الغارات للثقفيّ ١: ٣٠٧ ٣٠٨.

٥٥٦

فيقولون إنّ آل محمّد يرون لهم على النّاس بنبوّته فضلا، يرون أنّهم أولياء هذا الأمر دون قريش و دون غيرهم من النّاس، و أنّهم إن ولّوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا، و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها، لا و اللّه لا يدفع النّاس هذا الأمر إلينا طائعين أبدا...( ١) .

و الثامن: أن معين أبي بكر كان مثل عمر تلك الحوزة الخشناء، التي يغلظ كلمها، و يخشن مسّها، و لولاه لمّا تم الأمر له، و قد صرّح النظام بأن عمر هو الذي جعل أبا بكر خليفة. فتارة كان عمر يخاصم الحباب بن المنذر بأنّه من ينازعنا سلطان محمّد و نحن عشيرته، و اخرى يقول: اقتلوا سعدا قتله اللّه.

و يقوم على رأسه و يقول: لقد هممت أن أطأك حتى يندر عصوك، و اخرى يقول في الزبير لمّا خرج بالسيف من عند بني هاشم: عليكم بالرجل فخذوه.

فوثبوا عليه و أخذوا السيف منه، و انطلقوا به فبايع. و يدعو بالحطب على باب أهل البيت و يقول: و الذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنّها، فقيل له إنّ فيها فاطمة. فقال: و إن، فخرج الهاشميون غيرهعليه‌السلام فبايعوا. و اخرى يقول لأبي بكر مرة بعد مرة: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة يعني أمير المؤمنينعليه‌السلام فيرسل أبو بكر قنفذا بأنّ خليفة النبيّ يدعوك فيقولعليه‌السلام :

سريعا كذب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيجي‏ء عمر بنفسه مع جماعة إلى الباب. و مع أنّ فاطمةعليها‌السلام تصيح: يا أبه يا رسول اللّه ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة فانصرف عدّة منهم لأنّ قلوبهم كادت تتصدّع و أكبادهم تتفطّر من بكاء فاطمةعليها‌السلام و كلامها لم يكترث عمر بذلك و بقي مع عدّة حتّى أخرج أمير المؤمنينعليه‌السلام و مضى به إلى أبي بكر و يقول لهعليه‌السلام : إن لم تبايع و اللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، و كانعليه‌السلام يصيح مخاطبا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٥٧ ٥٨.

٥٥٧

ابن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني...( ١ ) فلم يخلّه حتّى أخذ منه البيعة.

و اخرى يقول للعبّاس لمّا قال هو و أبو بكر له بإشارة المغيرة عليهما، أن يجعلا له سهما في الأمر فيضعف عليّ لكون العباس عم النبيّ إي و اللّه و اخرى إنّا لم نأتكم حاجة منّا إليكم، و لكنّا كرهنا أن يكون الطعن منكم في ما اجتمع عليه العامّة، فيتفاقم الخطب بكم و بهم فانظروا لأنفسكم.

و أيضا لمّا قدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاّه المدينة لم يبايع كما في (سقيفة الجوهري) أبا بكر أيّاما، ثم أتى بني هاشم و قال: أنتم الظهر و البطن و الشعار دون الدثار و العصا دون اللحا إلى أن قال: فولاّه أبو بكر الجند الذي استنفرهم إلى الشام، فقال عمر لأبي بكر: أتولّي خالدا و قد حبست عليك بيعتة. و قال لبني هاشم ما قال، ما أرى أن توليه و ما آمن خلافه، فولّى أبو بكر أبا عبيدة و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة و انصرف عن خالد( ٢) .

ثم ما ذكرنا من ميل قريش إلى أبي بكر رغبة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، و قيام عمر بتلك الامور لإتمام بيعة أبي بكر، هو معنى قول عمر في خطبته في الفلتة: (و ليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر)، إلاّ أنّك عرفت الحقيقة و أنّ قطع الأعناق إلى أبي بكر لبيعته، كان على أنحاء منها: تسابق عمر و أبي عبيدة للبيعة لتواطئهما معه بردّها اليهما، و منها سبقة بشير بن سعد حسدا لابن عمّه سعد بن عبادة أن ينال الإمارة ثمّ جميع الأوس حسدا أن ينالها خزرجي، ثم بيعة باقي طوائف قريش من مخزوم و زهرة و اميّة و غيرهم طمعا أن ينالوها بواسطته، و ثمّ بيعة بني هاشم بإحراق البيت و ضرب

____________________

(١) الأعراف: ١٥٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٢: ٥٨ ٥٩، السقيفة للجوهريّ: ٥٢ ٥٣.

٥٥٨

الأعناق لو لم يبايعوا و باقي النّاس بالإكراه.

فرووا عن البراء بن عازب في خبر قال: و إذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، و إذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر. فلم ألبث و إذ أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة و جماعة من أصحاب السقيفة، و هم محتجزون بالأزر الصنعائيّة لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه، و قدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أنكر...( ١) .

ثم بيعة أمير المؤمنين لم تكن محتاجة إلى قطع الأعناق إليه، بل كانت الأعناق تتقطّع دونها، فتداكّوا عليه تداك الإبل الهيم يوم ورودها، قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها، و أقبلوا إليه إقبال العوذ المطافيل على ولدها، حتّى كاد أن يقتل بعضهم بعضا، و حتّى شق عطفاه و حتى وطى‏ء الحسنانعليهما‌السلام و كان يقبض يده فيبسطوها، و يكفها فيجاذبوها بدون غرض نفساني، بل و كان يقبض يده فيبسطوها، و يكفها يجاذبوها بدون غرض نفساني، بل لكونه أقرب النّاس إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّا و ميّتا، و أعلم النّاس بكتابه و سنّته، و سوابقه التي لم يشاركه فيها أحد.

ثمّ إنّ عمر و إن قال في خطبته: «فمن عاد إلى مثل بيعة أبي بكر فاقتلوه»( ٢ ) ، و أراد بذلك أن تبقى الخلافة فيهم و لا تنتقل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيتداولونها بينهم من يد إلى يد ككرة اللعب فقد عرفت أنّه خطب بما خطب لمّا سمع ان عمّارا قال أنه يبايع عليّاعليه‌السلام إن مات عمر إلاّ ان النّاس لمّا رأوا أن من عيّنه عمر في شوراه و هو عثمان، سار فيهم بما سار، خافوا أن يسير باقي أهل شوراه حقيقة (طلحة و الزبير و سعد) بما عاملهم به عثمان، فبادروا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام بتلك الكيفيّة، و قد كان عمّار قال لهم:

رأيتم سيرة عثمان بالأمس، فإن لم تنظروا لأنفسكم تقعون في مثله، فخاب

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١: ٢١٩.

(٢) الإيضاح: ١٣٥ ١٣٨، الشافي ٤: ١٢٦ ١٢٩.

٥٥٩

أمل عمر و بطل ما دبّر في مدة، لكن آل الأمر إلى انقطاعه بقيام طلحة و الزبير، لكونهما من شورى عمر، ثمّ قيام معاوية لكونه والي عمر و لقد كان عمر يتأوّه شديدا حيث يفكّر و يدبّر ألا يدع يرجع الأمر إليهعليه‌السلام يوما، فيحصل له بسط يد فيوضح الأمر للناس، و يحصل له شيعة فرأى أن ذلك لا يحصل له بتمامه، فكان يتمنّى تارة حياة أبي عبيدة الذي كان أبو بكر يقول للناس:

«بايعوا عمر أو أبا عبيدة» و هما يقولان: «كيف نقدمك»، و اخرى حياة سالم مولى أبي حذيفة، و هو من أعوانه و أعوان صاحبه يوم السقيفة.

ثم إنّ من المضحك أن سيف بن عمر الذي طريق الطبري الغالبي إليه (السري عن شعيب عنه) و طريقه النادر (عبيد اللّه عن عمر عنه) أنكر المتواتر من عدم بيعة سعد بن عبادة مع أبي بكر فقال ببيعته، و أنّ الفلتة تأمّل سعد أوّلا فقال: لمّا قام الحبّاب و انتضى سيفه، حامله عمر فضرب يده فندر السيف فأخذه، و وثبوا على سعد و تتابع القوم على البيعة، و بايع سعد و كانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها( ١) .

و كيف أراد سيف ستر كون بيعة أبي بكر فلتة و قد ضرب بها المثل؟

ففي (أدباء الحموي): انفلت ليلة في مجلس الصاحب بن عباد صوت من بعض الحاضرين، و الصاحب في الجدل فقال: كانت بيعة أبي بكر فخذوا في ما أنتم فيه( ٢) .

قولهعليه‌السلام في رواية (أخبار طوال) أبي حنيفة الدينوري و (إرشاد) المفيد: و إنّ هذه بيعة عامّة من ردّها أو (من رغب عنها) رغب عن دين الإسلام( ٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٢٢٣، سنة ١١.

(٢) معجم الأدباء ٦: ٢١٧.

(٣) الأخبار الطوال: ١٤٠، الإرشاد ١: ٢٤٣.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607