بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة6%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63008 / تحميل: 6539
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

تقدم المسلمين في مجال الاقتصاد السياسي وعلم النفس والعلوم الاجتماعية

في هذا الصدد يقول الكاتب المسيحي جورجي زيدان :

« الغريب هو ان الاوروبيين يتصوّرن انفسهم مؤسسوا علم « الاقتصاد السياسي » ، في حين ان الفارابي العالم المسلم الشهير كتب قبل الف سنة كتاب « السياسية المدنية » وبحث في ذلك ، كما ان « ابن خلدون » العالم المسلم الآخر بحث الموضوع أيضاً(1) .

ويذكر «ميلير» : المسلمون هم أول من اخترع علم النفس(2) .

ويقول احد العلماء الاوروبيون : مؤسس العلوم الاجتماعية هو الفيلسوف المسلم الكبير « ابن الجاثب »(3) .

مصطلحات المسلمين وكلماتهم في اوروبا

يقول السيد سديلو(4) :

________________

(1) تاريخ الحضارة الاسلامية.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) المصدر نفسه.

(4) Mr. Sedillot

٣٢١

« بما ان المسلمين استطاعوا السيطرة علىٰ البحر المتوسط منذ القرن الثامن الميلادي ، فان اغلب المصطلحات الالفاظ المستخدمة في المجال البحري في اللغتين الفرنسية والايطالية ، مأخوذة عن مفردات عربية بالاساس ، مثل : اميرال(1) وساكادر(2) وفلوت(3) وفرجال وكورفت(4) وكرافل(5) وكذلك بوسورل(6) التي يتصورها الكثير خطأ مأخوذة عن الصينيين في حين ان المسلمين هم الذين جاؤا بها الىٰ اوروبا ، كما ان الجيوش الاوروبية عندما عرفت النظام والمراتب في داخلها فقد تعلمت الرتب والمناصب العسكرية وكذلك الصياح في ساحة القتال من المسلمين كما ان كلمات مثال : البارود والقنبلة والهاون ( نوع من المدفعية ) ، اصلها عربي ، وكذلك العديد من المصطلحات الادارية ، مثل : معون وغابل وتاي وتاريف ودوآن وبازا وغيرها من الكلمات التي دخلت القاموس اللغوي الاوروبي من بغداد وقرطبة.

________________

(1) جنرال في القوة البحرية.

(2) Escadre ( سرب ) ، مجموعة سفن قتال بحرية يقودها شخص واحد.

(3) Flutte آلة موسيقية.

(4) Caracelle

(5) Cravelle

(6) Biussule ( بوصلة ).

٣٢٢

اسباب تقدّم المسلمين ورقيهم

الدكتور : ايها الشيخ ! صحيح أن هؤلاء الأوروبيين الذين يفتخرون علينا اليوم إلى هذا الحدّ كانوا تلامذتنا بالامس ؟! كانوا يستجدوننا العلم للحد الذي اصبحوا يختالون بما كسبوه من علومنا ، ويمتصون دماءنا بهذا الشكل ، نهاية في الوقاحة وعدم الوفاء ؟ ولست أعجب من ذلك ، بل أعجب للسبيل الذي جاء به المسلمون من خلاله كل هذا المجد والعظمة ؟

الشيخ : مجد المسلمين وعظمتهم بالامس كانت في تمسكهم بدينهم واحكام الاسلام ، وهذا الأمر لا يدعوا إلى العجب ، لأن الباري عزّ وجلّ وعد عباده بذلك في القرآن فقال جلّ شأنه :

( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

سعادة الدكتور ! أن سبب تقدّم المسلمين وتعاليهم هو ما ذكرناه من تمسكهم بالاسلام ، لانه وكما اشرنا في مباحث سابقة ، ليس الاسلام كالمسيحية ، دين رهبانية وعزلة ، أو مجموعة من النصائح الاخلاقية فقط ، فالاسلام دين يدعو ويُرغّب إلى طلب العلم ، ومن الناحية القانونية يمتلك مجموعة متكاملة في جميع شؤون الحياة المادية منها والمعنوية.

اذن ، فأتباع مثل هذا الدين الطبيعي أن تكون نتيجته التكامل على جميع الأصعدة. ولبيان العوامل والاسباب التي ادت إلى تقدم المسلمين وتكاملهم

٣٢٣

بهذا الشكل السريع ، نشير إلى بعضها مما ورد القرآن الكريم ، وبشكل مجمل :

قَسَمُ القرآن :

القسم والايمان التي جاءت في القرآن هي احدى الدوافع التي رغبت المسلمين في الماضي لتلقّي العلوم ، وعادة يكون ما يُقسم به مقدّساً عند الشخص الذي يقسم ، وكلما كان الطرف الذي يقسم جليلاً وعظيماً ، ازدادت قدسية وعظمة ما يُقسم به.

والقسم في القرآن يصدر عن الله عزّ وجلّ ومع ذلك نجده يقسم بالظواهر الطبيعية في العالم ، مثل : الشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والليل والنهار والزيتون والقلم و الخ.

أجل هذا القسم القرآني ، هدفه لفت انتباه الانسان إلى عظمة الوجود وظاهره ، والحث على دراسة ذلك والتأمل فيه ، والغريب ! هو أن القرآن يقسم بالقلم في عصر مظلم كانت الجزيرة العربية تعيشه قبل اربعة عشر قرناً ، وليس بالقلم فحسب بل وما يصدر عنه ، قال تعالى :

( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومثل هذا القسم غير موجود اليوم حتى في أكثر بلدان العالم تقدّماً.

٣٢٤

ظواهر الوجود ومعرفة الله

تعلمون أن الأصل العقائدي الأول في الاسلام هو معرفة الله ، لكن أهم سبيل يعرضه القرآن لمعرفة الله هو التأمل في اسرار الخلق ، وظواهر الوجود. ولمعرفة رب العالمين الحكيم والقادر ، يدعو القرآن الانسان إلى البحث والدراسة في السماوات والارض واسرارهما وللتأمل في خلق الحيوان والنبات والقوانين المعقدة الموجودة في الوجود وكذلك التأمل في الانسان نفسه كمخلوق من قبل الباري عزّ وجلّ.

أجل ففي ذلك العصر الذي لم يكن فيه شيء يذكر عن علم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان والفيزيولوجيا والتشريح وعلم الفلك بمفاهيمها العلمية الحديثة.

في ذلك العصر كان القرآن الكريم يدعو البشرية إلى تعلم مثل هذه المسائل ومعرفة حقائق العالم العلمية.

مكانة العلم والعلماء من منظار القرآن

العالم الثالث الذي جعل المسلمون يتجهون نحو العلم والمعرفة العلمية للعالم ، هي التعابير التي طرحها القرآن الكريم عن العلم والعلماء. ففي موارد عديدة عبّر القرآن الكريم عن العلم والمعرفة بالنور ، واعتبر الجهل ظلمة ، قال بأن العلماء هم المبصرون والجهلة هي العمي ، وقد اختصّ القرآن الكريم

٣٢٥

العلماء المتقون بالاجلال والرفعة ، وقد استخدم في ذلك تشابيه جميلة وتعابير ظريفة.

الترغيب والحثّ المثمر

وقد اثمرت بسرعة هذه العوامل الثلاث التي ذكرناه بالاضافة إلى ترغيب وحث القرآن وائمة المسلمين لتعلم العلم ، ولم يمض أكثر من نصف قرن على ظهور الاسلام ونشوء المجتمع الاسلامي ، حتى شهد التاريخ أكبر عملية نهوض معرفية في شتى مجالات المعرفة بين المسلمين ، وكان التقدّم سريعاً للحدّ الذي تمكن من تنشأ مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في مختلف المجالات العلمية ومن جميع المناطق التي دخلها الاسلام.

هؤلاء العلماء الذين يعد كل منهم نابغة عصره في مجال تخصصه ، والذين انتشر العلم على ايديهم في العالم.

٣٢٦

ماذا يعني حرمة التشبه بالكفار ؟

اصدقائي الأعزاء !

لا يدفع الاسلام الانسان المؤمن إلى تعلم العلم والمعرفة بجميع فروعها فقط ، بل أنه ألزم المسلمين لتتبع العلم وتعلمه من خلال احكام وأوامر دينية بسيطة في تعابيرها ، لكي يقطع بذلك تبعية المجتمع المسلم إلى غيره من المجتمعات ، وهذه الاحكام كثيرة جداً ، سأكتفي بنقل واحدة منها سمعناها جميعاً ، ولربما ضحكنا منها استهزئنا بها ، واعتبرناها مقولات رجعية ؟ وذلك الحكم ، هو « حرمة التشبّه بالكفار » ومن أجل بيان أفضل للقضية ، وسأقدم لكم هذا الإيضاح :

اصدقائي الأعزاء !

لو ان شعباً غير مسلم ( كافر ) صنع اليوم ـ على سبيل المثال ـ نوع من القبعات سيكون حراماً على المسلمين استعماله ما دام يعتبر وضعه على الرأس تشبّهاً ـ ذلك الشعب الكافر ـ ولكن لو أن مسلماً كان قد اخترع قبعة مشابهة لذلك الطراز ، فان استعامله جائزاً.

وهنا يتّضح أن هذف الاسلام الاساسي من هذا الحكم هو ليس منع المسلمين من استعمال هذا الطراز من القبعات ، بدليل انه كان سيمنعه حتى لو

٣٢٧

كان مخترعه مسلماً ، في حين أن الامر يختلف عن ذلك وأن هدف الاسلام من ذلك التحريم وهذا التجويز هو ايجاد وخلق روح الاستقلال والاعتماد على الذات بين المسلمين ، وتخليصهم من تبعات الحاجة إلى الاخرين وتقليد الشعوب الاجنبية ( الكافرة ) حتى في شؤون حياتهم العادية ، مثل الملابس و الخ.

اصدقاي الأعزاء !

اترك لكم الحكم في هذه القضية ! لو أن المسلمين عملوا بهذا الحكم واحيوه بشكل حقيقي ، أي أنهم أحيوا روح الاستقلال والاعتماد على الذات وعدم التبعية للكافرين ، ألم يكن هذا كافياً لضمان سيادتهم وعزّهم ؟! ولو كانوا عملوا بهذا الأمر المقدس ( عدم التشبه بالكفار ) هل كانوا بحاجة لأن يمدّوا أيديهم نحو الناهبين الدوليين يستعبدونهم ؟! ألم يكن تطبيق هذا الحكم الديني البسيط ، كافياً ، لأن يجعل المسلمين يمتلكون ادواتهم الحضارية دون الحاجة للاخرين ؟ ألم يكن بوسع هذا القانون البسيط أن يجعل المسلمين يخترعون بأنفسهم كل ما يحتاجونه من طائرات وسفن وغواصات و الخ ، كما تمكن المسلمون في الماضي ، ومن خلال فهمهم لحقيقة الحكم المقدس وتطبيقه ، ليس فقط اختراع كل ما يحتاجونه من ادوات ووسائل في حياتهم بل ضمن لهم سيادتهم ومجدهم وعظمتهم على جميع انحاء العالم.

العقيد : كلامك منطقي وصحيح ، ولكن المسلمون اليوم ضعفاء ومضطرون إلى استجداء الدول الأوروبية لتأمين حاجاتهم ومتطلبات حياتهم اليومية.

الشيخ : هذا كلام خاطيء تماماً ، لأنه حتى الدول الصغيرة اليوم تستطيع

٣٢٨

أن تعتمد على نفسها وتقف على قدميها ، وتقطع تبعيتها للعالم الأوروبي المستعمر ، وأن تصنع كل ما تحتاجه بنفسها من خلال عمل جاد وفكر خلّاق ، وأكبر شاهد على ذلك ، دولة اليابان التي تعتبر دولة شرقية صغيرة مقارنة بالكثير من الدول الكبيرة التي لا زالت متخلفة ، فهذا الشعب ومن خلال روح الاستقلال والاعتماد على الذات التي يمتلكها استطاع أن يصنع كل ما يحتاجه ( ويحتاجه الاخرون ! ) في حياتهم اليومية من الابرة حتى السيارة والقطار والسفينة والطائرة و وعشرات البضائع التي تغزوا جميع العالم اليوم. مع أن هذه الدولة الشرقية تمتلك نفس الشروط التي نمتلكها نحن بل وربما اصعب منا ، كما أن عدد سكانها لا يزيد على ثلاثة وثمانون مليون نسمة أيضاً !

لقد قدمت اليابان لجميع الدول الصغيرة درساً في الاعتماد على الذات والروح الاستقلالية من اجل قطع التبعية والخلاص من التخلف ، ( وهو ما أمر به الاسلام قبل قرون من عدم التشبّه بالكفار ) ، وبالاضافة إلى ذلك فالبلدان الاسلامية اليوم تمتلك امكانيات كثيرة بشرية وطبيعية ، وظروفها الاقتصادية والثقافية مساعدة جداً للنهوض والتحرر الحقيقي ، لكنها وبسبب ابتعادها عن الاسلام الحقيقي ، لم تستطع تفعيل امكانيتها وقدراتها العظيمة تلك ، والمؤسف حقاً أن هذه الامكانيات والقدرات اصبحت بذاتها بلاءً على الاُمّة الاسلامية والشعوب المسلمة.

قصة غريبة عن السيد جمال الدين في مصر

حسن ، الطالب الجامعي : بتصوري ان حالة المسلمين اليوم وصلت إلى

٣٢٩

حدّ اليأس من الخلاص والتحرر من هذا العار والذل ، لأنهم ، لم يكتفوا بتقليد اعمى لتلامذة امسهم والتسابق على ذلك ، بل فقدوا جميع قدراتهم البشرية والالهية امامهم وفسحوا المجال بانفسهم للغرب المستعمر أن يتدخل في بلادهم وينفذ في مؤسساتهم كالطاعون ، ومن المستحيل أن تستطيع هذه السفينة المترهلة أن تصل يوماً إلى ساحل الأمان.

الشيخ : اليأس وفقدان الأمل من الذنوب الكبيرة في الاسلام ، وباعتقادي لو رجع الناس إلى الاسلام فانهم يستطيعون تلافي ما فات ، والوقوف امام قوى الاعداء ، بالعمل والسعي المتواصل ، فالاسلام دين الحيوية والنشاط والالهام ، ويمكن أن يبعث الروح في اجساد الشعوب الساكنة ، ولاثبات ما ادعيته لارجع بكم إلى صدر الاسلام حيث تمكن عدّة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً لا تملك شيئاً يذكر من السلاح والعدّة ، أن تقف امام قوّة كبيرة تفوقها اضعافاً مضاعفة في العدد ومدججة بالسلاح والعتاد ، بل وتنتصر عليها وتهزمها هزيمة فادحة ، بل أروي لكي قصّة غريبة عن ثورة السيد جمال الدين الافغاني في مصر ، والتي حدثت في أواخر القرن الماضي بداية عصر النهضة الذي نشهده حالياً.

تأمّلوا بدقّة ما تقرأون

ملخّص القصّة ، هو أنه في سنة 1300 هجرية كانت جميع الدول الاسلامية تخضع لسيطرة مباشرة من قبل الدول الاوروبية ، وكان الخناق يشتدّ يوماً بعد يوم على المسلمين فيها ، ولم تكن من بين تلك الدول إلّا ايران وتركيا لا

٣٣٠

تخضعان بشكل مباشر للسيطرة الاستعمارية ، وكانتا مستقلّتان اسميّاً.

في تلك الحقبة المظلمة قام أحد المسلمين الغيارى وأحد العلماء الأجلاء ، وهو السيد جمال الدين الاسدآبادي « الافغاني » بحركة نهضوية ، بعد رحلات قام بها في ارجاء العالم الاسلامي واطّلع من قرب على المحنة التي يعاني منها المسلمون ، فدعى المسلمين إلى الثورة على واقعهم والخلاص من الانحطاط الذي يعيشونه ، لكن دعوته تلك لم يستجيب لها احد ، سوى الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية فيما بعد ، فسافر مع السيد جمال الدين إلى باريس واخذا يصدران من هناك مجلة « العروة الوثقى » ، وبالمقالات الثورية التي كانا يكتبانها في المجلة التي كانت ترسل إلى الدول العربية والاسلامية ، كانا يحثان المسلمين على النهوض والخروج من جمودهم وغفلتهم ، ولأن تلك الكلمات كانت تخرج من قلوب متحرّقة على الاسلام ووضع المسلمين ، بدأت تجد اثرها في قلوب وعقول الناس شيئاً فشيئاً ، لكن والدول الاستعمارية التفتتبسرعة إلى الأمر وحالت دون وصول المجلة إلى البلدان الاسلامية ( الدول التي كانت تخضع للسيطرة البريطانية والفرنسية ) ، وبهذا فشلت الخطوة الاُولى التي قام بها السيد جمال الدين لتحرير البلدان الاسلامية ، ولكن هذا الفشل لم يجعله ييأس ، لذلك تحرك مباشرة من باريس ومعه الشيخ محمد عبده وحلّوا في مصر ، وقاما هناك بتأسيس جمعية اسمياها « الجمعية الوطنية » ودعيا الشعب المصري للأنخراط في صفوفها ، ولأن الجمعية لم تكن مثل سائر الجميعات والاحزاب في العالم ، لم يكن فيها مكان للبذيئين والسارقين والمنافقين ، كانت الجميعية خلافاً لجميع الاحزاب السياسية لا تسعى لتسلّم السلطة والجلوس على كرسي الحكم ، أو لدعم والحفاظ على سلطة الآخرين

٣٣١

ومن الشخصيات العميلة والضحلة ، لذلك لم ينخرط فيها من كل مصر سوى اربعين شخصاً فهموا معنى التضحية.

وفي الجلسة الخامسة عشر للجمعية الوطنية ، وبحضور جميع الأعضاء ، قام السيد جمال الدين خطيباً فيهم وقال :

ملخّص كلمة السيد جمال الدين

« الهي ، صدقت حيث قلت :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، وقولك حقّ ، فقد تأسست هذه الجمعية المقدّسة باسمك ولنصرة دينك ».

ثم خاطب اعضاء الجمعية فقال :

« ايها السادة الأعزاء : القرآن هو الدستور المقدّس الذي يعتبر دليل حقانية الاسلام حتى يوم القيامة وهو أيضاً ضمان سعادة الانسانية.

آه آه ، على هذا القرآن المقدّس الذي غفل المسلمون عنه فأصبح مهجوراً ، هذا القرآن المقدّس الذي تمكن عالم الامس على الرغم من انحطاطه أن يصل إلى تلك المرتبة الحضارية على ضوء تعاليمه النوارنية.

آه آه على القرآن الذي أصبح يستفاد منه فقط فيما يلي :

تلاوته على قبور الموتى في ليالي الجمعة ، امرار وقت الصائمين ، كفارة الذنوب ، العوبة « المكتبخانات »(1) ، دفع الحسد ، القسم الكاذب ، للاستجداء به

________________

(1) المدارس القديمة أو الملا.

٣٣٢

على ارصفة الطرق ، زينة قماط الطفل ، قلائد للعرائس و الخ.

آه ، على هذا الكتاب السماوي الذي اصبح الاهتمام به اليوم اقل من الاهتمام بديوان حافظ وكتاب المثنوي وديوان الشاعر السعدي ، فلو قرأ شيء من تلك الدواوين في محفل ، لرأيت القوم يشهقون ويزفرون ويفتحون قلوبهم فضلاً عن عيونهم واسماعهم ، وكم هي استفادتهم من المعاني العرشية ! والعرفانية ! والخيالية ! الموجودة في تلك الأبيات.

أي وحقّك اللّهمَّ أنت القائل وقولك الحقّ :( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) .

سبحانك اللّهمَّ أنت القائل وقولك حقّ :( إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .

لقد ادرنا اوجه قلوبنا عن طاعتك المقدّسة ، فأبدلت سعادتنا وعزّنا بالذلِّ والشقاء ».

بعد ذلك نزل السيد جمال الدين من على المنبر ، فيما كان العديد من اعضاء الجمعية قد اغمي عليهم من شدّة البكاء والآخرون أيضاً يبكون ، والسيد جمال الدين كان يبكي أيضاً ويكرر هذه الجملة :

أي وحقِّك اللّهمَّ ، نسيناك ، فأنسينا انفسنا ، حتى اغمي عليه ووقع على الأرض ، وبقي على تلك الحالة ثلاثة ساعات ، فيما كان اعضاء الجمعية في بكاء ونحيب ، بعد ذلك قام السيد جمال الدين من غيبوبته بعد ان دعي له بطبيب ، فرجع اعضاء الجمعية إلى حالتهم الاُولى واستأنفت الجلسة الرسمية.

٣٣٣

المواد السبعة عشر التي ادت إلى ثورة مصر

ثم عادوا للتباحث ، واقترحوا حلولاً للخروج من ذلك الواقع المرّ والمأساوي ، واتّفق الجميع إلى أن عظمة المسلمين ومجدهم السابق كان بسبب تطبيقهم لاحكام الاسلام المقدّسة ، كما أن العامل الوحيد الذي انتهى بهم إلى هذا الشقاء ، هو ابتعادهم عن الاسلام واحكامه ، وعلى هذا الاساس ، فالعلاج الوحيد للحالة المأساوية هو العمل باحكام الاسلام وقوانينه السامية ، ولهذا تم اقرار برنامج عمل يتضمّن سبع عشرة مادّة ، وتعهّد جميع اعضاء الجمعية العمل على تطبيق ذلك البرنامج بمنتهى الجدّية والدقّة ، وهذا نص البرنامج :

1 ـ على كلِّ واحد من اعضاء الجمعية قراءة ما لا يقل عن حزب واحد من القرآن الكريم بدقّة وتأمّل في اليوم.

2 ـ اقامة الصلوات اليومية ( الواجبة ) جماعة.

3 ـ عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4 ـ دعوة غير المسلمين إلى الاسلام.

5 ـ الجدل بالّتي هي أحسن مع المبشرين النصارى.

6 ـ الاحسان للفقراء قدر المستطاع.

7 ـ القيام بأي عمل مشروع يطلب منهم ، أو انهم يقومون بالعمل فور علمهم به حتى لو لم يطلب منهم ذلك.

٣٣٤

8 ـ عدم الاغفال عن صلة الرحم وزيارة الأقرباء.

9 ـ عيادة المرضى.

10 ـ السؤال عن المسلم الذي يفتقد في السوق أو المسجد ، وسبب غيابه ، حتى لو كانت لديه مشكلة ، يسعون في حلّها.

11 ـ زيادة الاشخاص الذين يعودون من سفر مشروع.

12 ـ دفع الحقوق ( المالية ) لمستحقيها.

13 ـ لا يقصروا في ارشاد الناس بقوانين الدين أو شؤوناته.

14 ـ تربية انفسهم وترويضها على الابتعاد عن الصفات الرذيلة خاصة التكبّر والانانية والعجب وحبّ الرئاسة.

15 ـ العفو عن اخطاء وزلّات اخوتهم المسلمين.

16 ـ التعامل بلين مع الناس ومداراتهم.

17 ـ الاحجام عن عمل أو قول ليس فيه نفع مادي أو معنوي لهم أو لسائر المسلمين.

وكان كل عضو يحمل معه دفتراً صغيراً يسجل فيه ما عمله من تلك المواد السبعة عشر ، لكي تسجل جميعها في سجل الجمعية ، ولأن تنفيذ بعض المواد كان يحتاج إلى ميزانية مالية ، لذلك قرّر هؤلاء الاربعون وبشكل أولي بيع كل ما في حياتهم من تجمّلات وتقنعوا باقل العيش واندر الأكل ، لكي يمولوا صندوق الجمعية بتلك الأموال ، لكي لا تتوقّف النشاطات بسبب العجر المالي.

٣٣٥

ابرز اعمال الجمعية الوطنية المصرية لفترة شهر

عمل اعضاء الجمعية الوطنية المصرية بقيادة السيد جمال الدين الاسدآبادي ( الافغاني ) لمدّة شهر واحد بمنتهى الدقّة على ضوء تلك المواد ، وكانت نتيجة العمل وابرز النشاطات كالتالي :

1 ـ عيادة الف وخمسمائة مريض.

2 ـ زيارة الفين وسبمعمائة مسافر.

3 ـ تفقّد خمسمائة مسلم غابوا عن المحافل العامة.

4 ـ قضاء حاجة اثناء عشرة الف محتاج.

5 ـ تاب على ايديهم ثمانمائة سكّير ( معتاد على شرب الخمرة ).

6 ـ ادخال الف وثلاثمائة شخص إلى دائرة المصلّين بعد أن كانوا لا يصلّون.

7 ـ تابت على ايديهم اربعمائة امرأة من الفاحشات والمنحرفات.

8 ـ ونتيجة لنصحهم ، استقال ثمانون شخصاً عن العمل في الدوائر البريطانية.

9 ـ جعلوا خمسمائة ثري مصري يتقاعد عن شراء اشياء للزينة كانت تأتي من الخارج ، خاصة من بريطانيا.

10 ـ منحوا خمسة وسبعين شخصاً متضرراً ، رأسمال للعمل.

٣٣٦

11 ـ أمَّنوا مؤونة مئتين وستّة فقير حقيقي لمدّة سنة.

12 ـ اسلم على ايديهم 35 نصرانيّاً و 15 يهوديّاً و 70 وثني.

13 ـ اقاموا اربع واربعين مجلس مناظرة مع مبشري النصارى الذين كانوا مسنودين من قبل الحكومة الانجليزية في مصر ، وأوردوا عليهم 120 اشكال لم يستطيعوا الاجابة عليها.

كانت هذه اُمّهات اعمال الجمعية التي لا يزيد عددها على اربعين شخصاً ولمدّة شهر واحد فقط.

ردود الفعل على نشاط الجمعية الذي استمر شهراً واحداً

اصدقائي الأعزاء !

إذا اردتم أن تعرفوا كيف أن مجرد العمل بقوانين الاسلام تكون نتيجتها المجد والعظمة للمسلمين واندحار اعداءهم ، انتبهوا إلى ردود الفعل التي حصلت على نشاطات الجميعة الوطنية المصرية والتي استمرت شهراً واحداً :

شاهد اللورد كرومر المستشار المالي البريطاني في مصر ، أن نفوذ بريطانيا في مصر قلّ دفعة واحدة إلى 45% ، فيما تدنّت التجارة البريطانية 35% ، واستقال عن العمل في الدوائر البريطانية ثمانين موظفاً مسلماً مدرّباً ، وليس هناك أحد يتقدّم للعمل في الوظائف الشاغرة ، كما رأى اللورد كرومر وهو لا يصدق من شدّة التعجب ، أن ممثلي الشركات البريطانية وخاصة تلك التي تبيع وسائل الزينة والإناقة والترف ، ارتفعت اصواتهم لعدم وجود

٣٣٧

مستهلكين ، ويقولون أن عوائدنا اقل حتى من ايجارات محلاتنا واجور عمالنا وموظفينا ، كما أن عدداً من المأمورين المصريين المسؤولين عن اخذ الضرائب من محلات المشروبات الكحولية ودور البغاء الرسمية والسينمات والمسارح ، قدموا استقالات عن العمل ، ولاحظ اللورد كرومر نشاطات المبشرين على مدى خمسة وثلاثين سنة لا تعادل 16/1 من نشاطات الجمعية الوطنية المصرية خلال فترة شهر ، كل ذلك خلق عنده وساوس وخوف كبير ، فبعث مباشرة بتقارير مهولة إلى لندن.

تقارير اللورد كرومر

يقول اللورد كرومر في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

« وبهذا اُحذّر قادة بريطانيا من خطر داهم ، فلو بقيت نشاطات الجمعية الوطنية بقيادة السيد جمال الدين سنة اُخرى ، لن تتلاشى سياسة وتجارة الحكومة البريطانية في آسيا وافريقيا فقط ، بل نخاف من وقوع نفوذ جميع الدول الأوروبية بخطر في جميع انحاء العالم ».

ويقول في تقرير ثاني :

« الجمعية الوطنية المصرية ، أسوء صاعقة تقف امام مخطّطاتنا ، لذا يجب اصدار امر عاجل بتشتيت افرادها وحلّها ».

وفي تقرير ثالث له ، يقول :

« الجمعية الوطنية المصرية خير دليل على تسلّط المسلمين المحيّر

٣٣٨

للعقول على ثلث بلدان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً ، بفترة قصيرة ».

وفي تقرير لاحد المبشرين النصارى رفعه إلى كنيسة سان بول التي كانت أكبر كنيسة في ذلك العصر ، يقول :

« ليس هناك اغرب من هذه الحادثة ، وهي تقهقر سبعمائة مليون مسيحي من ابناء الانجيل امام اربعين مسلماً يحملون بين جنباتهم روح عالم دين هو السيد جمال ».

وأيضاً ، يذكر أحد الأطباء الاجانب الذي كان يعمل في مستشفى بور سعيد ، في كتابه الصادر في ذلك الوقت والذي يحمل عنوان « فلسفة الجمعيات » :

« لو استمرت نشاطات الجمعية الوطنية المصرية على شكلها المحيّر للعقول هذا ، إلى عشرين سنة اُخرى ، ستحوّل العالم كلّه ميداناً لأفكارها ».

وفي رسالة بعث يها رئيس البرلمان البريطاني في مصر إلى أحد كبار الصيارفة في لندن ، جاء فيها :

« ومن عجائب العصر ، هو أن السياسة الأوروبية في مصر اليوم ، وغداً في جميع انحاء العالم ، سحقت على يد اربعين نفر من المسلمين ، الذين لا يملكون سلاحاً سوى الدين والعمل بالقوانين الدينيّة ».

ويكتب أحد المسؤولين الانجليز إلى زوجته في لندن ، فيقول :

« ان روح السعادة التي تنتشر في المجتمع الاسلامي اسرع من البرق ، ستؤثر على الشعوب الأوروبية بوجه عام والشعب البريطاني بالخصوص ليس

٣٣٩

فقط التخلي عن مستعمراتهم ، بل حصر انفسهم بقلعة حصينة في مركز العالم بين الشمال والجنوب ».

وجراء كثرة التقارير المرفوعة ، رأت الحكومة البريطانية ان افساح المجال امام هذه الجمعية للعمل سنوات اُخرى ، مع هذا البرنامج الذي تمتلكه الجمعية ، سيجعل من الصعب على أية قوة الوقوف امام قدراتها الخارقة ، لذلك ابرقت إلى الحكومة في مصر امراً بسرعة حلّ الجمعية وتشتيت شمل افرادها ومعاقبتهم بأشد العقوبات ، وكانت النتيجة نفي السيد جمال الدين من مصر بعد ان اعلنت الاحكام العرفية هناك ، وحكم على الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات سجن.

أمّا سائر أعضاء الجمعية فتعرضوا لضغوطات وأحكام مشابهة بشكل يندى له جبين الانسانية ، وبهذا الشكل أفل النجم الذي سطع لشهر واحد في سماء المسلمين ، وعادت بريطانيا إلى نهب خيرات المسلمين وامتصاص دماءهم دون ان يزعجها احد أو يقض مضجعها.

اصدقائي الاعزاء !

والآن الحكم لكم ، فلو كان اربعون مسلماً ومن خلال تمسكهم بتعاليم الاسلام المقدّسة أن يتحولوا إلى قوة بهذا الحجم ترعب الأعداء ، فكيف لو تمسك ستمائة مليون مسلم في عصرنا الحاضر باسلامهم وأحكام دينهم ، ألا يستطيعون اعادة مجدهم وعظمتهم السالفة وينشروا حكومتهم على جميع العالم ؟

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

ولي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل نفسه.

و في (نقض عثمانية) الإسكافي: لم يميّز ابن عمر بين إمام الرشد و إمام الغيّ، فانّه امتنع من بيعة عليّعليه‌السلام ، و طرق على الحجّاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام، زعم لأنّه روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «من مات و لا إمام له مات ميتة جاهليّة» و حتّى بلغ من احتقار الحجّاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش و قال: اصفق بيدك عليها( ١) .

فهذه روايات تسع دالّة صريحة على عدم بيعتهم. و روى أبو مخنف كما في (جمل المفيد) أنّهعليه‌السلام لمّا همّ بالمسير إلى البصرة، بلغه عن سعد و ابن مسلمة و اسامة و ابن عمر تثاقلهم عنه، فبعث إليهم فلمّا حضروا قال لهم:

قد بلغني عنكم هنات كرهتها لكم، و أنا لا اكرهكم على المسير معي. ألستم على بيعتي؟ قالوا: بلى، قال: فما الذي يقعدكم عن صحبتي؟ فقال له سعد: إنّي أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمنا، فإن أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك. و قال له اسامة: أنت أعزّ الخلق عليّ و لكنّي عاهدت اللّه ألا اقاتل أهل (لا إله إلاّ اللّه) و ذكر في قتله رجلا شهد بالوحدانية و ظنّ أنّه قالها تعوّذا في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إنكار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه ذلك و قال عبد اللّه بن عمر: لست أعرف في هذه الحرب بشي‏ء أسألك ألا تحملني على ما لا أعرف. فقالعليه‌السلام لهم: ليس كلّ مفتون يعاتب. ألستم على بيعتي؟ قالوا: بلى، قال: فانصرفوا فسيغني اللّه( ٢) .

و لم نقف في بيعتهم على غير هذا الخبر، مع أنّ أبا مخنف الذي رواه روى ضدّه، مع أنّه يمكن حمل قوله: (ألستم على بيعتي)، على أنّ المراد عدم

____________________

(١) الإسكافي: نقض العثمانية، ملحق بكتاب العثمانية للجاحظ، ٣٠١ تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي بمصر، ١٩٥٥ م.

(٢) الجمل للمفيد: ٩٥ ٩٦.

٥٨١

الإخلال في بيعتي، فإنّهم و إن قعدوا عن مشاهده، إلاّ أنّهم لم يخلّوا في خلافته كطلحة و الزبير و مروان و سعيد بن العاص و الوليد بن عقبة.

و أمّا رواية أبي الحسن المعتزلي في (غرره) المرفوعة، فهي عين هذا الخبر بدليل أنّ ابن أبي الحديد نقلها عنه في شرح قولهعليه‌السلام : (فتداكوا عليّ)، هكذا قال عليّعليه‌السلام لهم: ما كلّ مفتون يعاتب، أ عندكم شكّ في بيعتي؟ قالوا: لا، قال فإذ بايعتم فقد قاتلتم( ١ ) . إلاّ أنّه لمّا أراد تنزيه سعد أحد عشرتهم المبشّرة، و أحد ستّة شوراهم و ابن فاروقهم، نقل كلامهعليه‌السلام عند نفسه بالمعنى فبدّل قولهعليه‌السلام : (انصرفوا فسيغني اللّه عنكم) بقوله: (فإذا بايعتم فقد قاتلتم)، لكنّه كما ترى و هل يصلح العطّار ما أفسد الدهر؟ قولهعليه‌السلام «خذلوا الحقّ و لم ينصروا الباطل» في (الطبري): قال عبد خير الخيواني لأبي موسى: هل كان هذا الرجلان يعني طلحة و الزبير ممّن بايع عليّا؟ قال: نعم، قال: هل أحدث حدثا يحل به نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت فإنّا تاركوك حتّى تدري، هل تعلم يا أبا موسى أحدا خارجا من هذه التي تزعم أنّها فتنة؟ إنّما بقى أربع قرون عليّعليه‌السلام بظهر الكوفة، و طلحة و الزبير بالبصرة، و معاوية بالشام و فرقة اخرى بالحجاز، لا يجبى بها في‏ء و لا يقاتل بها عدوّ. فقال له أبو موسى: اولئك خير النّاس و هي فتنة، فقال له عبد خير: يا أبا موسى غلب عليك غشّك( ٢) .

١١ - الحكمة (٢٦٢) وَ قِيلَ إِنَّ؟ اَلْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ؟ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ أَ تَرَانِي أَظُنُّ؟ أَصْحَابَ اَلْجَمَلِ؟ كَانُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤: ١٠.

(٢) تاريخ الطبريّ ٤: ٤٨٥ ٤٨٦، سنة ٣٦.

٥٨٢

فَقَالَ ع يَا؟ حَارِثُ؟ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَ لَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ اَلْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ وَ لَمْ تَعْرِفِ اَلْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ فَقَالَ؟ اَلْحَارِثُ؟ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ؟ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ؟ وَ؟ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ع إِنَّ؟ سَعْداً؟ وَ؟ عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ عُمَرَ؟ لَمْ يَنْصُرَا اَلْحَقَّ وَ لَمْ يَخْذُلاَ اَلْبَاطِلَ أقول: رواه الجاحظ في (بيانه) و اليعقوبي في (تاريخه) ففي الأوّل:

نهض الحرث بن حوط الليثي إلى عليّعليه‌السلام و هو على المنبر فقال: أ تظن أنّا نظن أنّ طلحة و الزبير كانا على ضلال؟ قال: يا حار إنّه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يعرف بالرجال، فاعرف الحق تعرف أهله( ١ ) و مثله الثاني و زاد: و اعرف الباطل تعرف من أتاه( ٢ ) . و رواه إبراهيم الثقفي كما يأتي كاملا مع اختلاف.

قول المصنف:

«و قيل ان الحارث بن حوت» هكذا في (المصرية)( ٣ ) ، و الصواب: (حوط) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٤ ) و (الخطية) و كما عرفت من (مستنده). ثم ان ابن أبي الحديد قال: (حوط) بالحاء المهملة و يقال: ان الموجود في خط الرضي بالمعجمة( ٥) .

قلت: لم يعلم كون خط الرضي بالمعجمة و إلاّ لذكره ابن ميثم، لكون نسخته بخط مصنفه.

و كيف كان فقال (الجمهرة) في المهملة: إنّهم سمّوا به و لم يذكر في

____________________

(١) البيان و التبيين.

(٢) تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢١٠.

(٣) نهج البلاغة ٣: ٢١٦.

(٤) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٧ و لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٣٧٧ «حوت» أيضا.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٨.

٥٨٣

المعجمة( ١ ) ، كما أنّ (القاموس) ذكر في المهملة جمعا مسمين به( ٢ ) و إن لم يذكر هذا و لم يذكر في المعجمة.

«أتاه فقال أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة» نظير الحارث بن حوط الليثي هذا اربد الفزاري ففي (صفين نصر) و غيره، لمّا خطب عليّعليه‌السلام النّاس و أمرهم بالمسير الى صفين و قال لهم: سيروا إلى أعداء السنن و القرآن، سيروا إلى بقيّة الأحزاب و قتلة المهاجرين و الأنصار قام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال له: أ تريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم؟ كلا و اللّه إذن لا نفعل ذلك. فقام الأشتر فقال: من لهذا؟ و هرب الفزاري و اشتد النّاس على أثره فلحقوه في مكان من السوق تباع فيه البراذين فوطئوه بأرجلهم و ضربوه بأيديهم و نعال سيوفهم حتّى قتل، فقالعليه‌السلام : قتيل عميه ديته من بيت المال( ٣) .

فقالعليه‌السلام «يا حارث» هكذا في (المصريّة)( ٤ ) ، و الصواب (يا حار) بالترخيم كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٥ ) و (الخطيّة) و كما في (مستنده).

«إنّك نظرت تحتك و لم تنظر فوقك فحرت» أي: صرت حيرانا من (حار يحار).

«إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه» هكذا في (المصرية)( ٦ ) ، و الصواب:

____________________

(١) جمهرة اللغة ١: ٥٥٢ حوط.

(٢) القاموس المحيط ٢: ٣٥٦، مادة: (حوط).

(٣) وقعة صفّين: ٩٤ ٩٥، شرح ابن أبي الحديد ١: ٢٧٩.

(٤) نهج البلاغة ٣: ٢١٦.

(٥) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٧ و لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٣٧٧ «يا حارث» أيضا.

(٦) نهج البلاغة ٣: ٢١٦.

٥٨٤

(فتعرف أهله) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم( ١ ) و الخطيّة و مستنده).

«و لم تعرف الباطل فتعرف من أتاه» هكذا في (المصرية و ابن أبي الحديد)( ٢ ) ، و لكن في (ابن ميثم)( ٣ ) أيضا: (فتعرف أهله)، و نسبت ما في المتن إلى نسخة.

و كيف كان فهو كلام في غاية النفاسة نظير قولهعليه‌السلام : «لا تنظروا إلى من قال و انظروا إلى ما قال»( ٤ ) ، فإن النّاس الذين ليس لهم معرفة كاملة يجعلون الرجال ميزان الحقّ و الباطل، و الواجب العكس، فقال تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :... لئن أشركت ليحبطن عملك...( ٥ ) و قد قال تعالى فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين( ٦) .

فالحارث رأى أنّ عايشة يقال لها أمّ المؤمنين أخذا من قوله تعالى في حرمة نكاح أزواج نبيّه... و أزواجه امهاتهم...( ٧ ) إلاّ انّه لم يلاحظ قوله تعالى: يا نساء النبيّ من يأت منكن بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على اللّه يسيرا( ٨ ) و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهليّة الاولى...( ٩) .

كما أنّه رأى أنّ طلحة و الزبير من المهاجرين، و من ستّة الشورى، و لم

____________________

(١) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٧ و لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٣٧٧ «من أتاه» أيضا.

(٢) نهج البلاغة ٣: ٢١٦، شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٧.

(٣) في شرح ابن ميثم ٥: ٣٧٧ «من أتاه» أيضا.

(٤) غرر الحكم و درر الكلم بشرح الخوانساري ٦: ٢٦٦ ح ١٠١٨٩.

(٥) الزمر: ٦٥.

(٦) الحاقّة: ٤٤ ٤٦.

(٧) الأحزاب: ٦.

(٨) الأحزاب: ٣٠.

(٩) الأحزاب: ٣٣.

٥٨٥

يلاحظ أنّهما نكثا و أفسدا في الأرض و قتلا آلافا من المسلمين بغير حقّ، و قد قال تعالى:... فمن نكث فانّما ينكث على نفسه...( ١ ) و الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل و يفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون( ٢ ) أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار( ٣) .

و الحارث و نظراؤه في نظرهم إلى جانب دون جانب مصاديق قول الشاعر:

حفظت شيئا و غابت عنك أشياء

قول المصنف «فقال الحارث فإنّي اعتزل مع سعيد» هكذا في (المصرية)( ٤ ) و الصواب: (سعد)، فإنّ المراد سعد بن أبي وقاص المعروف.

«بن مالك و عبد اللّه بن عمر فقالعليه‌السلام إنّ سعيدا» الكلام فيه كالأوّل.

«و عبد اللّه بن عمر» هكذا في (المصرية)( ٥ ) ، و (بن عمر) زائدة لعدم وجوده في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٦ ) ، و لعدم الاحتياج إليه بعد ذكره في كلام الخصم كما في (سعد).

«لم ينصرا الحق» و هو هوعليه‌السلام ، ففي متواتر الخبر و ظاهر العيان و الأثر كونهعليه‌السلام مع الحقّ و كون الحقّ معهعليه‌السلام ( ٧ ) من أوّله إلى آخره و سلام عليه

____________________

(١) الفتح: ١٠.

(٢) البقرة: ٢٧.

(٣) ص: ٢٨.

(٤) نهج البلاغة ٣: ٢١٦.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) في شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٤٧ و شرح ابن ميثم ٥: ٣٧٧ «ابن عمر» أيضا.

(٧) هذا من الأحاديث المتواترة من طرق الخاصّة و العامّة. جملة من رواته من أعلام العامّة في كتاب الغدير ٣: ١٧٦ ١٨٠، و كتاب التاج الجامع للاصول كتاب الفضائل في فضل عليّ بن أبي طالب، و إحقاق الحقّ ١: ٥٨ و ٧: ٤٧٠، و كذا في بحار الأنوار باب أنّه من الحقّ و الحقّ معه ٣٨: ٢٦.

٥٨٦

يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا( ١) .

«و لم يخذلا الباطل» و هو أعداؤهعليه‌السلام من الناكثين و القاسطين و المارقين، فإنّهما و إن لم يعاوناهم لم يعادياهم فلم يحصلا منهما خذلان كامل.

إلاّ ان الثقفي رواه كما في (أمالي الشيخ) بلفظ آخر فروى عن أبي الوليد الضبي، عن أبي بكر الهذلي قال: دخل الحرث بن حوط الليثي على أمير المؤمنينعليه‌السلام و قال لهعليه‌السلام : ما أرى طلحة و الزبير و عايشة أضحوا إلاّ على حقّ فقالعليه‌السلام : «يا حارث إنّك إن نظرت تحتك و لم تنظر فوقك جزت عن الحقّ. إنّ الحقّ و الباطل لا يعرفان بالناس، و لكن اعرف الحق باتّباع من اتّبعه و الباطل باجتناب من اجتنبه» قال: فهلا أكون كعبد اللّه بن عمر و سعد بن مالك؟

فقالعليه‌السلام : إنّ عبد اللّه و سعدا خذلا الحق و لم ينصرا الباطل متى كانا إمامين في الخير فيتبعان( ٢ ) ؟

هذا و أما سعد فقد مر عنهعليه‌السلام فيه أنّه لم يبايعه لكونه حسودا، و روى سليم بن قيس في كتابه: أنّ سعدا إمام المذبذبين( ٣) .

و في (مروج المسعودي): لمّا حجّ معاوية طاف بالبيت و معه سعد، فلمّا فرغ انصرف إلى دار الندوة و أجلس سعدا معه على السرير، ثم وقع في سبّ عليّعليه‌السلام فزحف سعد و قال لمعاوية: أجلستني معك ثم شرعت في سبّ عليّ، و اللّه لئن يكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعليّعليه‌السلام أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و اللّه لأن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي ما قال له يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله ليس بفرّار يفتح اللّه على يديه» أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه

____________________

(١) مريم: ١٥.

(٢) الأمالي للشيخ الطوسيّ ١: ١٣٣ ١٣٤، بحار الأنوار ٢٢: ١٠٥.

(٣) كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري، ١٥٢، طبع النجف الأشرف.

٥٨٧

الشمس. و اللّه لأن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي ما قال له في غزوة تبوك: «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، و ايم اللّه لا دخلت لك دارا ما بقيت.

و نهض.

و وجدت في كتاب علي بن محمّد بن سليمان النوفلي، في الأخبار عن ابن عايشة و غيره: أنّ سعدا لمّا قال هذه المقالة لمعاوية و نهض ليقوم ضرط له معاوية و قال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت، فما كنت عندي قط ألأم منك الآن، فهلا نصرت عليّا؟ و لم قعدت عن بيعته؟ فإنّي لو سمعت من النبيّ فيه مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما لعليّ ما عشت.

فقال سعد: و اللّه إنّي لأحق بموضعك منك.

فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة و كان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة.

و في ذلك يقول السيّد الحميري:

سائل قريشا بها إن كنت ذا عمه

من كان أثبتها في الدين أوتادا

إن يصدقوك فلم يعدوا أبا حسن

إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا

إن أنت لم تلق تيميّا أخا صلف

و من عدي لحق اللّه جحّادا

أو من بني عامر أو من بني أسد

رهط العبيد ذوي جهد و أوغادا

و رهط سعد و سعد كان قد علموا

عن مستقيم صراط اللّه صدّادا

قوم تداعوا زنيما ثم سادهم

لولا خمول بني زهر لمـّا سادا( ١)

و أما ابن عمر ففي (الطبري): أنّ عمر لمّا تمنى حين وفاته حياة أبي عبيدة و سالم مولى أبي حذيفة حتى يستخلفهما، قيل له: فابنك؟ قال: كيف

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ٢٣ ٢٤، و النقل بتصرّف و تلخيص.

٥٨٨

استخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته( ١ ) ؟

و في (مسترشد الطبري) الإمامي مخاطبا للعامّة: و من فقهائكم و رواة أخباركم ابن عمر الذي قعد عن بيعة عليّعليه‌السلام ثم مضى إلى الحجّاج فطرقه ليلا فقال: هات يدك لابايعك لأمير المؤمنين عبد الملك فإني سمعت النبيّ يقول:

«من مات و ليس عليه إمام فميتته جاهلية» حتى أنكرها عليه الحجّاج مع كفره و عتوّه( ٢) .

و مرّ عن الإسكافي: أنّه بلغ من احتقار الحجّاج له أن أخرج رجله من الفراش، و قال اصفق بيدك عليها.

١٢ - الحكمة (١٤) و قالعليه‌السلام :

مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ أقول: قد عرفت في العنوان التاسع من رواية أبي مخنف التي نقلها (جمل المفيد): أنّهعليه‌السلام قال لسعد و ابن عمر و اسامة و محمّد بن مسلمة لمّا اعتذروا عن تخلّفهم عنه: «ما كل مفتون يعاتب ألستم على بيعتي؟» قالوا:

بلى. قال: «فانصرفوا فسيغني اللّه عنكم». و قلنا ثمة أنّ تبديل أبي الحسين المعتزلي ذيل الخبر: (فانصرفوا فسيغني اللّه عنكم) بقوله: (فاذا بايعتم فقد قاتلتم)، من تصرفاته في الخبر دفعا للطعن عن سعد و ابن عمر مع أنّك قد عرفت أنّ عدم بيعتهم متواترة، و أنّ الخبر شاذ و لو لم نطرحه لا بد من تأويله بكون المراد بكونهم على بيعتهعليه‌السلام عدم إخلالهم بخلافتهعليه‌السلام .

ثم إنّ المراد بقولهعليه‌السلام : (ما كلّ مفتون يعاتب)، أنّ المفتون إنّما يعاتب

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٤: ٢٢٧ ٢٢٨، سنة ٢٣.

(٢) ابن رستم الطبري: المسترشد: ١٦ ط الحيدرية، النجف.

٥٨٩

إذا كانت الفتنة عن التباس الأمر عليه، فيعاتب و يقال له: ويحك الأمر حقيقته كذا و كذا، و إمّا إذا كانت عن تلبيس على نفسه لمرض في قلبه، فلا يعاتب لأن العتاب لا يفيده و مثلهم المغيرة فيأتي أنّهعليه‌السلام قال: «المغيرة عمدا لبس على نفسه ليجعل الشبهات عاذرا لسقطاته».

و مر أنّهعليه‌السلام قال لعمّار لمّا ذهب إلى ابن عمر و ابن مسلمة و سعد و حاجّهم و أفحمهم و انصرف إليهعليه‌السلام : دع هؤلاء الرهط، أمّا ابن عمر فضعيف، و أما سعد فحسود، و ذنبي إلى محمّد بن مسلمة أنّي قتلت أخاه يوم خيبر.

و مرّ في الحادي عشر: أنّ سعدا لمّا ذكر لمعاوية أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيهعليه‌السلام يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله». و يوم تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» قال له معاوية: ما كنت قط عندي ألأم منك الآن لعدم بيعتك معه مع ذلك.

و في (خلفاء ابن قتيبة): أنّ معاوية لمّا كتب إلى سعد: (قد نصر عثمان طلحة و الزبير و هما شريكاك في الأمر و الشورى) كتب إليه سعد: أنّ أهل الشورى ليس منهم أحد أحقّ بها من صاحبه، غير أنّ عليّا كان له من السابقة ما لم يكن فينا، و شاركنا في محاسننا و لم نشاركه في محاسنه، و كان أحقّنا كلّنا بالخلافة، و لكن مقادير اللّه التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه و قدره، و قد علمنا أنّه أحقّ بها منّا و لكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك و التشاجر...( ١) .

هكذا يقول سعد في حقّه و لا يبايعه، فأي عتاب يفيده.

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١٠٠.

٥٩٠

و أمّا قوله: (و لكن مقادير اللّه التي صرفتها عنه) فيقال له: كل شي‏ء يقع في الدّنيا بمقادير اللّه، و لكن الذي صرفتها عنهعليه‌السلام تدابير المنافقين لا مقادير اللّه.

١٣ - الحكمة (٤٠٥) وَ قَالَ ع؟ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ؟ وَ قَدْ سَمِعَهُ يُرَاجِعُ؟ اَلْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ؟

كَلاَماً دَعْهُ يَا؟ عَمَّارُ؟ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْخُذَ مِنَ اَلدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَهُ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ عَلَى عَمْدٍ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَجْعَلَ اَلشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ و قالعليه‌السلام لعمّار بن ياسر و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما:

أقول: رواه (أمالي المفيد) و (خلفاء ابن قتيبة)، ففي الأوّل: مسندا عن مالك بن أنس عن عمّه أبي سهل عن أبيه قال: إنّي لواقف مع المغيرة عند نهوض عليّعليه‌السلام من المدينة إلى البصرة إذ أقبل عمّار فقال له: هل لك في اللّه عزّ و جلّ يا مغيرة، فقال: و أين هو لي يا عمّار؟ قال: تدخل في هذه الدعوة فتلحق بمن سبقك و تسود من خلفك.

فقال له المغيرة: أو خير من ذلك؟ قال عمّار: و ما هو؟ قال: ندخل بيوتنا و نغلق علينا أبوابنا حتى يضي‏ء لنا الأمر، فنخرج و نحن مبصرون، و لا تكون كقاطع السلسلة أراد الضحك فوقع في الغنم. فقال له عمّار: هيهات هيهات أجهل بعد علم و أعمى بعد علم و أعمى بعد استبصار و اسمع لقولي، فو اللّه لن تراني إلاّ في الرعيل الأوّل، فطلع عليهما أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أبا اليقظان ما يقول لك الأعور، فإنّه و اللّه دائما يلبس الحقّ بالباطل و يموّه فيه، و لن يتعلّق من الدين إلاّ بما يوافق الدنيا، ويحك يا مغيرة إنّها دعوة تسوق من يدخل فيها إلى الجنّة.

٥٩١

فقال له المغيرة: صدقت يا أمير المؤمنين إن لم أكن معك فلن أكون عليك( ١) .

و في الثاني: دخل المغيرة على عليّعليه‌السلام فقالعليه‌السلام له: هل لك يا مغيرة في اللّه؟ قال: فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر فتدرك من سبقك و تسبق من معك، فإنّي أرى امورا لا بد للسيوف أن تشحذ لها و تقطف الرؤوس بها. فقال المغيرة: إنّي و اللّه ما رأيت عثمان مصيبا و لا قتله صوابا، و إنّها لمظلمة تتلوها ظلمات، فاريد إن أذنت لي أن أضع و أنا في بيتي، حتّى تنجلي الظلمة و يطلع قمرها فنسري مبصرين نقفو آثار المهتدين و نتّقي سبيل الجائرين.

فقالعليه‌السلام له: لقد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك.

فقام عمّار فقال له: معاذ اللّه يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا، يغلبك من غلبته و يسبقك من سبقته، انظر ما ترى و ما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلاّ في الرعيل الأوّل.

فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان إيّاك أن تكون كقاطع السلسلة فرّ من الضحاء فوقع في الرمضاء.

فقال عليّعليه‌السلام لعمّار: دعه فإنّه لم يأخذ من الآخرة إلاّ ما خالطته الدّنيا، أما و اللّه يا مغيرة إنّها المثوبة تؤدي من قام فيها إلى الجنّة و لمّا اختار بعدها، فإذا غششتنا فنم في بيتك.

فقال المغيرة: أنت و اللّه يا أمير المؤمنين أعلم منّي و لئن لا اقاتل معك لا اعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإيّاه أردت، و إن خطأ فمنه نجوت، و لي ذنوب كثيرة لا قبل لي بها إلاّ الاستغفار منها( ٢) .

____________________

(١) الأمالي للمفيد: ٢١٧.

(٢) الإمامة و السياسة ١: ٥٠.

٥٩٢

قول المصنف: «و قالعليه‌السلام لعمار بن ياسر و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما» قد عرفت من الروايتين أنّ مراجعة عمّار للمغيرة كلاما إنّما كانت في دعوة عمّار للمغيرة إلى بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام و مساعدته على أعدائه، و إنّ المغيرة ما قبل ذلك، و قال لعمّار: مثلك في نصرتك له كمن فر من الضحاء فوقع في الرمضاء، بمعنى أنّك فررت من ضغطة أيّام عثمان فتقع بمساعدتهعليه‌السلام في ضغطات معاوية التي هي أكثر.

قولهعليه‌السلام : «دعه يا عمّار فإنّه لم يأخذ من الدين إلاّ ما قاربه من الدّنيا» هكذا في (المصرية)( ١ ) و لكن في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٢ ) : (إلاّ ما قاربته الدّنيا) و حينئذ فالمراد لم يأخذ من الدّين إلاّ ما قاربته الدّنيا إليه، و أما دين لم تقاربه الدّنيا إليه، فلا يكترث المغيرة به. و يمكن أن يكون (قاربته) فيهما مصحف (قاربه) ففي (الخطيّة): «قاربه الدنيا».

و صدقعليه‌السلام حتى أنّ أصل إسلام المغيرة إنّما كان كذلك.

ففي (الاغاني) و نقله ابن أبي الحديد أيضا: أنّ المغيرة كان يحدّث حديث إسلامه قال: خرجت مع قوم من بني مالك و نحن على دين الجاهلية إلى المقوقس ملك مصر فدخلنا إلى الاسكندرية و أهدينا للملك هدايا كانت معنا و كنت أهون أصحابي على الملك فقبض هدايا القوم و أمر لهم بجوائز، و فضّل بعضهم على بعض و قصر بي فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له. و خرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم و هم مسرورون، و لم يعرض عليّ أحد منهم مواساة، فلمّا خرجوا حملوا معهم خمرا فكانوا يشربون منها فأشرب معهم، و نفسي تأبى أن تدعني معهم و قلت: ينصرفون إلى الطائف و يخبرون قومي بازدراء الملك إيّاي، فأجمعت على قتلهم، فقلت إنّي أجد صداعا

____________________

(١) نهج البلاغة ٣: ٢٥٠.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد ٢٠: ٨ و شرح ابن ميثم ٥: ٤٤٠ «إلاّ ما قاربه من الدنيا» أيضا.

٥٩٣

فوضعوا شرابهم و دعوني، فقلت: رأسي يصدع و لكن اجلسوا فأسقيكم فلم ينكروا من أمري شيئا، فجلست أسقيهم فلمّا دبت فيهم اشتهوا الشرب فجعلت أصرف لهم الكأس و انتزع الكأس فأهمدتهم الخمر حتّى ناموا ما يعقلون، فوثبت إليهم فقتلتهم جميعا و أخذت جميع ما كان معهم و قدمت بالمدينة فوجدت النبيّ في المسجد و عنده أبو بكر و كان عارفا بي، فلمّا رآني قال: ابن أخي عروة، قلت: نعم، قد جئت أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسوله، فقال أبو بكر: أمن مصر أقبلت؟ قلت: نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني و بينهم بعض ما يكون بين العرب و نحن على دين الشرك فقتلتهم و أخذت أسلابهم، و جئت بها إلى النبيّ ليخمسها فإنّها غنيمة من المشركين، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا إسلامك فقبلته و لا نأخذ من أموالهم شيئا و لا نخمسها، لأنّ هذا غدر و الغدر لا خير فيه، فأخذني ما قرب و ما بعد، فقلت: انّما قتلتهم و أنا على دين قومي ثم أسلمت حين دخلت إليك الساعة، فقال: الإسلام يجب ما قبله و كان قتل منهم ثلاثة عشر رجلا و احتوى على ما معهم فبلغ ذلك ثقيفا بالطائف فتداعوا للقتال ثم اصطلحوا على أن حمل عمّه عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية( ١) .

و قال ابن أبي الحديد: و لمّا جاء عروة بن مسعود إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية، نظر إلى المغيرة قائما على رأس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متقلّدا سيفا، فقال: من هذا؟ فقيل له: ابن أخيك المغيرة. قال: و أنت ها هنا يا غدر، و اللّه إنّي إلى الآن ما غسلت سوأتك( ٢) .

و قال أيضا: قال أصحابنا البغداديون: من كان إسلامه على هذا الوجه، و كانت خاتمته ما قد تواتر به الخبر من سبّه على المنابر إلى أن مات

____________________

(١) الأغاني ١٦: ٨٠ ٨٢، شرح ابن أبي الحديد ٢٠: ٩ ١٠، و النقل بتصرّف و تلخيص.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٢٠: ٨.

٥٩٤

عليّاعليه‌السلام ، و كان المتوسط من عمره الفسق و إعطاءه البطن و الفرج سؤلهما و ممالاة الفاسقين، كيف نتولاّه و لا نكشف فسقه و أي عذر لنا في الإمساك عنه( ١) .

قلت: لم ينحصر كشف فسقه بل نفاقه بمعتزلة بغداده، بل كشف ذلك قبلهم عبد الرحمن بن عوف أحد عشرتهم و ستتهم و عثمان بن عفان أحد عشرتهم و ستتهم و إمامهم الثالث و ذو نوريهم.

أمّا الأوّل ففي الجوهري في (سقيفته) و عوانة في (شوراه): أنّه لمّا بايع ابن عوف عثمان قال المغيرة لعثمان: أما و اللّه لو بويع غيرك لمّا بايعناه. فقال له ابن عوف: كذبت و اللّه لو بويع غيره لبايعته، و ما أنت و ذاك يا بن الدباغة؟ لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقرّبا إليه و طمعا في الدّنيا( ٢) .

و أمّا الثاني ففي (الطبري): أنّ النّاس لمّا استسفروا عليّاعليه‌السلام بينهم و بين عثمان، دخل على عثمان و قال له: ممّا أنكر النّاس عليك توليتك الفسقة كابن عامر و الوليد بن عقبة. فقال له عثمان: انشدك اللّه يا عليّ هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنّ عمر ولاّه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني إن وليت ابن عامر في رحمه...( ٣) .

و ان كان فاروقهم أنكر نفاقه حيث جعله من المهاجرين لمّا دافع عنه في زناه، و مانع الشاهد الرابع من أداء شهادته حتى لا يرجم.

ففي (الأغاني) لأبي الفرج بعد ذكر أداء أبي بكرة و نافع و شبل بن معيد شهادتهم في رؤيتهم زنا المغيرة، كالميل في المكحلة: فأمر عمر أن ينحوا و لا يجالسهم أحد من أهل المدينة، و انتظر قدوم زياد فلمّا رآه مقبلا قال: إنّي

____________________

(١) المصدر نفسه ٢٠: ١٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٥٣.

(٣) تاريخ الطبريّ ٤: ٣٣٨، سنة ٣٤.

٥٩٥

لأرى رجلا لن يخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين( ١) .

و في حديث ابن شبه عن السري، عن عبد الكريم بن رشيد عن أبي عثمان قال: لمّا جاء الثالث فشهد بزنا المغيرة، كان عمر كانّما نثر الرماد على وجهه، فلمّا جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه، فرفع عمر رأسه إليه و قال له: ما عندك أنت يا سلح العقاب و صاح أبو عثمان صيحة تحكي صيحة عمر قال عبد الكريم: لقد كدت أن يغشى عليّ لصيحته فقال زياد لعمر: أما أن أحقّ ما حق القوم فليس عندي، و لكني رأيت مجلسا قبيحا و سمعت نفسا حثيثا و ابتهارا، و رأيته متبطنها، فقال عمر أ رأيته يدخل و يخرج كالميل في المكحلة؟

قال: لا( ٢) .

و في كثير من الروايات: قال زياد: رأيته رافعا برجليها و رأيت خصييه مترددين بين فخذيها و سمعت خفرا شديدا و نفسا عاليا، فقال عمر: أ أرأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة؟ قال: لا. فقال عمر: اللّه أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فضربهم فقال أبو بكره بعد أن ضرب: أشهد أنّ المغيرة فعل كذا و كذا، فهمّ عمر بضربه. فقال له عليّعليه‌السلام : إن ضربته رجمت صاحبك.

و حجّ عمر بعد ذلك مرّة فوافق الرقطاء التي رمي بها المغيرة بالموسم فرآه و كان المغيرة يومئذ بالموسم فقال عمر للمغيرة: أ تعرف هذه؟ قال:

نعم، هذه ام كلثوم بنت عليّ، فقال له: ويحك أ تتجاهل عليّ؟ و اللّه ما أظن أبا بكرة كذب عليك، و ما رأيتك إلاّ خفت أن ارمى بحجارة من السماء و كان عليّ بعد ذلك يقول: إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته أحجاره( ٣) .

و في (نقض الاسكافي): كان المغيرة يسبّ عليّاعليه‌السلام على منبر الكوفة

____________________

(١) الأغاني ١٦: ٩٥ ٩٧، و النقل بتلخيص.

(٢) المصدر نفسه ١٦: ٩٧ ٩٨.

(٣) المصدر نفسه.

٥٩٦

لأنّه بلغه أيّام عمر أن عليّا قال: لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره( ١) .

و في (مفاخرات الزبير بن بكار): اجتمع عمرو بن العاص و الوليد بن عقبة و عتبة بن أبي سفيان و المغيرة بن شعبة عند معاوية و قد كان بلغهم عن الحسن بن عليّعليه‌السلام قوارص فقالوا لمعاوية: إنّ الحسن قد أحيا أباه ابعث إليه فليحضر لنسبّه و نسبّ أباه و نوبّخه و نخبّره أن أباه قتل عثمان إلى أن قال: فتكلّم المغيرة فشتم عليّاعليه‌السلام و قال: و اللّه ما أعيبه في قضية يخون و لا في حكم يميل و لكنّه قتل عثمان فقال له الحسنعليه‌السلام : و أما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في مثل هذا، و إنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإنّي طائرة عنك، فقالت النخلة و هل علمت بك واقفة عليّ فأعلم بك طائرة عني؟ و اللّه ما نشعر بعداوتك إيّانا و لا اغتممنا إذ علمنا بها و لا يشقّ علينا كلامك، و إنّ حدّ اللّه في الزنا لثابت عليك، و لقد درأ عمر عنك حقّا اللّه سائله عنه، و لقد سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا لعلمه بأنّك زان...( ٢) .

و لم يكتف عمر بمنع زياد عن شهادته حتى لا يرجم، بل رفع درجته، فإنّه و إن عزله عن البصرة لكون زناه فيها، إلاّ انّه ولاّه الكوفة التي كانت أهم، حتّى صار مثلا بين النّاس (غضب اللّه عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة عزله عن البصرة و ولاّه الكوفة).

إلاّ أنّ عمر كان معذورا في ذلك، فعل ذلك به شكرا له لحمله له و لصاحبه على طلب الخلافة و مساعدته لهما في ذلك.

فروى الجوهري في (سقيفته): أنّ المغيرة مرّ بأبي بكر و عمر و هما جالسان على باب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قبض فقال لهما: ما يقعدكما؟ قالا: ننتظر هذا

____________________

(١) أورده ابن أبي الحديد في نهج البلاغة ٢: ٦٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٦: ٢٨٥ ٢٩٤، و النقل بتصرّف و تلخيص.

٥٩٧

الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليّاعليه‌السلام فقال لهما المغيرة: أ تريدون أن تنظروا خيل الحلبة من أهل هذا البيت و سعوها في قريش تتسع، فقاما إلى سقيفة بني ساعدة( ١) .

و لكن في أخبارنا أنّ إبليس تمثل بصورة المغيرة يوم السقيفة و قال:

أيّها النّاس لا تجعلوها كسرانية و لا قيصرانية و سعوها تتسع و لا تردوها في بني هاشم( ٢) .

و في (خلفاء ابن قتيبة) بعد ذكر امتناع أمير المؤمنينعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر و لحوقه بقبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خطابه للنبي: يا... ابن امّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني...( ٣ ) ، و قول فاطمةعليها‌السلام لأبي بكر: «و اللّه لا دعون اللّه عليك في كلّ صلاة اصلّيها». و قولها له و لعمر بعد تقريرهما بأنّ سخطها من سخط اللّه: «اشهد اللّه و ملائكته انّكما أسخطتماني و لأشكونكما إليه إذا لقيته» فقال المغيرة لأبي بكر: أرى أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه، و تكون لكما الحجّة على علي‏ا و بني هاشم إذا كان العبّاس معكم( ٤) .

و فعل ذلك به لاحتياجه بنفسه إليه بعد، و ليبقى بعده و يساعد ولاة الأمر بعده على استيصال أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ففي (الطبري): لمّا ولّى معاوية المغيرة الكوفة سنة (٤١) قال له: أردت إيصاءك بأشياء كثيرة و أنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني و يسعد سلطاني، و يصلح به رعيتي، و لست تاركا إيصاءك بخصلة، لا تتحمّ عن شتم

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٦: ٤٣، السقيفة و فدك: ٦٨.

(٢) الجوهري: السقيفة و فدك: ٦٨ مكتبة نينوى، طهران، و أورده المجلسي في بحاره ٢٨: ٢٠٥.

(٣) الأعراف: ١٥٠.

(٤) الإمامة و السياسة ١: ١٢ ١٥، و النقل بتصرّف و تلخيص.

٥٩٨

عليّ و ذمه، و العيب على أصحابه و الإقصاء لهم، و ترك الاستماع منهم و عن الترحم على عثمان و إطراء شيعته و الإدناء لهم و الاستماع منهم. فقال له المغيرة: قد جربت و جربت، و عملت قبلك لغيرك فلا يذمم بي دفع و لا رفع و لا وضع...( ١) .

و من اطمينان المغيرة بعمر لمّا قال في الموسم للمغيرة و كان رأى ثمة تلك المرأة: أ تعرفها؟ استهزأ به المغيرة و قال: له: هي امرأتك كما مر، و عمر و إن قال له: ما رأيتك إلاّ خفت أن ارمى بحجارة من السماء، إلاّ أنّه كان جوابا ظاهريا، مع أنّه كان إقرارا من عمر بإبطاله الحدّ في حقّه و إلاّ لم خاف( ٢) .

ثم إنّ المغيرة اجترأ ان يقول لعمر: هي امرأتك لكونها بنتهعليه‌السلام ، لعلمه بعداوته معه و أنّه نكحها إذلالا لهعليه‌السلام ، و لو كان المغيرة تسمى امرأة اخرى لعمر و لو كانت في غاية الدناءة ما احتمل عمر ذلك له مع منزلته تلك عنده.

و من اطمينانه بعمر لمّا لم يأت زياد بلفظ الميل في المكحلة و إن أتى بمعناه، قال المغيرة لزياد حين أراد اداء شهادته: و اللّه لو كنت بين بطني و بطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها( ٣) .

و من اطمينانه بعمر أنّه لمّا دعا بالشهود فتقدم أبو بكرة فقال له عمر:

أ رأيته بين فخذيها؟ فقال أبو بكرة: نعم، و اللّه لكأنّي أنظر تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر أ ليس كلّ ذلك إقرارا من المغيرة في حضور عمر؟ و قد أراد المغيرة في قوله لزياد: «لو كنت بين بطني و بطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها» إفهام زياد أنّ الاستشهاد مجرّد صورة، و عمر

____________________

(١) الطبري، تاريخ الامم و الملوك ٣: ٢١٨ دار الكتب العلمية، بيروت في حوادث، سنة ٤٥١ و ذكره ابن الاثير في الكامل ٣: ٤٧٢ دار صادر.

(٢) الأغاني ١٦: ٩٩.

(٣) الأغاني ١٦: ٩٨.

٥٩٩

معه فلا يؤدي زياد شهادته( ١) .

و من اطمينانه بعمر أنّه لمّا شخص من البصرة إلى عمر رأي: في طريقه جارية فأعجبته فخطبها إلى أبيها، فقال له: أنت على هذه الحال يعني يذهبون بك لإجراء الحدّ عليك و يرجموك فقال لأبيها: و ما عليك أن أعف، فهو الذي نريد، و إن اقتل ترثني. فزوّجه و قدم بها على عمر فقال له: إنّك لفارغ القلب طويل الشبق( ٢) .

و كيف لا يكون فارغ القلب و كان مطمئنا به؟ و لمّا ضرب الثلاثة الحدّ قال لهم المغيرة: اللّه أكبر الحمد للّه الذي أخزاكم.

و عمر و إن كان قال له: اسكت أخزى اللّه مكانا و اراك، إلاّ أنّه قال ذلك لئلاّ يفتضح بدفاعه عنه، مع أنّ الظاهر أنّه دعا على مكان وقع العمل من المغيرة، لعدم كونه مكانا يواريه حتّى يروه و يحصل له كلفة.

و ممّا يدلّ على إعماله الغرض في أمره أنّه ضرب أبا بكرة ضربا شديدا فوق الحدّ، حتّى أمرت امّه بشاة فذبحت و جعلت جلدها على ظهره( ٣) .

هذا و قد قال حسّان في هجو المغيرة في عمله هذا:

لو أنّ اللوم ينسب كان عبدا

قبيح الوجه أعور من ثقيف

تركت الدين و الإسلام لمـّا

بدت لك غدوة ذات النصيف( ٤)

و كيف لا يدافع عمر عنه و هو سمّى عمر أمير المؤمنين؟ فقال الزبير بن بكار: لمّا ولّي عمر قال: كان أبو بكر يقال له خليفة النبيّ، فكيف يقال لي خليفة خليفة النبيّ بطول هذا؟ فقال له المغيرة: أنت أميرنا و نحن المؤمنون( ٥) .

____________________

(١) الأغاني ١٦: ٩٦ ٩٨، و النقل بتلخيص.

(٢) الأغاني ١٦: ١٠٠.

(٣) الأغاني ١٦: ٩٨ ٩٩.

(٤) الأغاني ١٦: ١٠٠.

(٥) لم يشر الزبير بن بكار الى هذا الموضوع في أخبار الموفقيات بل اكتفى بمخاطبة المغيرة بن شعبة لعمر بلقب أمير المؤمنين راجع صفحة ٦٢٠ رقم (٤٠٣) و يذكر ابن هلال العسكري في الأوائل: ١٠٣ أن عمرو بن العاص هو أوّل من سمى عمر بأمير المؤمنين.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607