تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء ١

تسلية المجالس وزينة المجالس10%

تسلية المجالس وزينة المجالس مؤلف:
المحقق: فارس حسون كريم
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 339819 / تحميل: 8349
الحجم الحجم الحجم
تسلية المجالس وزينة المجالس

تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420


ا لكناني وزامل بن عبيد الخزاعي ومالك بن روضة الجُمحي مبارزة. وطعن الأشعث لشُرحِبِيل بن السِمط ولأبي الأعور السلمي، فخرج حوشب ذو الظليم وذو الكلاع في نفر فقالوا: أمهلونا هذه الليلة:

فقالوا: لا نبيت إلّا في معسكرنا، فانكشفوا.

ثم إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أنفذ سعيد بن قيس الهمداني وبشر(٥) بن عمرو الأنصاري إلى معاوية ليدعواه إلى الحق فانصرفا بعد ما احتجّا عليه.

ثم أنفذ أمير المؤمنينعليه‌السلام [ شبث بن ربقي و ](٦) عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وزياد بن خصفة(٧) بمثل ذلك، فكان معاوية يقول: سلّموا إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به، ثمّ نعتزل الأمر حتى يكون شورى، فتقاتلوا في ذي الحجّة وأمسكوا في المحرّم، فلمّا استهلّ صفر سنة سبع وثلاثين أمر أمير المؤمنينعليه‌السلام فنودي في عسكر الشام بالاعذار والانذار، ثم عبّى عسكره فجعل على ميمنة الجيش الحسنين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل، وعلى ميسرته محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال، وعلى القلب عبد الله بن العبّاس والعبّاس بن ربيعة بن الحارث والأشتر والأشعث، وعلى الجناح سعد(٨) بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ورفاعة بن شدّاد البجلي وعديّ بن حاتم، وعلى الكمين عمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة الكناني وقبيصة بن

____________

الجُمحي، وزامل بن عبيد الله الحِزامي، ومحمد بن روضة الجُمحي.

٤ - في المناقب: زياد.

٥ - في وقعة صفّين: بشير. وأضاف إليهما شبث بن رِبعي التميمي.

٦ - من وقعة صفّين والمناقب.

٧ - كذا في وقعة صفّين، وفي الأصل والمناقب: حفص.

٨ - كذا في وقعة صفّين والمناقب، وفي الأصل: سعيد. وكذا في الموضع الآتي.


٤٢١


جابر الأسدي.

وجعل معاوية على ميمنته ذاالكَلاع الحميري وحوشب ذاالظليم، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مَسلمة، وعلى القلب الضحّاك بن قيس الفهري وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد، وعلى الساقة بسر بن أرطاة الفهري، وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاري وهمام بن قبيصة النمري، وعلى الكمين أبا الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي.

فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى معاوية أن اخرج إليّ اُبارزك، فلم يفعل، وقد جرى بين العسكرين أربعون وقعة تغلّب فيها أهل العراق: أوّلها يوم الأربعاء بين الأشتر وحبيب بن مسلمة، والثانية بين المرقال و [ أبي ](١) الأعور السلمي، والثالثة بين عمّار وعمرو بن العاص، والرابعة بين محمد بن الحنفيّة وعبيدالله بن عمر، والخامسة بين عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة، والسادسة بين سعد بن قيس وذي الكلاع، إلى تمام الأربعين، وكان آخرها ليلة الهرير.(٢)

ولأبطال أهل العراق مع أبطال أهل الشام وقعات وحروب وأشعار لا نطوّل بذكرها خوف الملل، ففي بعض أيّامها جال أمير المؤمنينعليه‌السلام في الميدان قائلاً:

أنا علي فاسـألوني تخبروا

ثمّ ابرزوا لي في الوغى وابتدروا

سيفي حسام وسناني يزهرُ

منّا النـبـي الـطاهر المـطّهرُ

وحمزة الخير ومـنّا جعفر

وفـاطـمُ عرسـي وفيـها مفخرُ

 __________________

١ - من المناقب.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٦٤ - ١٦٩.


٤٢٢


هذا لهذا وابن هند محجرٌ

مذبذب مطرد مؤخّر

فاستلحقه(١) عمرو بن الحصين السكوني على أن يطعنه فرآه سعيد بن قيس فطعنه.

و أنفذ معاوية ذا الكلاع إلى بني همدان فاشتبكت الحرب بينهم إلى الليل، ثم انهزم أهل الشام، وأنشد أمير المؤمنينعليه‌السلام :

فوارس من همدان ليسوا بعزل

غداة الوغى من شاكر وشبام

يقودهـم حـامي الحقيقة ماجد

سعيد بن قيس والكريم محام

جزى الله همدان الجنان فإنّهم

سهام العدى في يوم كلّ حمام(٢)

ونادى خال السدوسي من أصحاب عليعليه‌السلام : من يبايعني على الموت؟ فأجابه تسعة آلاف، فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية، فهرب معاوية فنهبوا فسطاطه، وأنفذ معاوية إليه: يا خالد، لك عندي إمرة خراسان [ متى ](٣) ظفرت فاقصر ويحك عن فعالك هذا، فنكل عنه، فتفل أصحابه في وجهه وحاربوا إلى الليل.

وخرج حمزة بن مالك الهمداني من أصحاب معاوية قائلاً لهاشم المرقال:

يا أعور العين وما فينا عور

نبغي ابن عفّان ونلحَى من غَدَر(٤)

____________

١ - في المناقب: فاستخلفه.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٧١ - ١٧٢.

٣ - من المناقب.

٤ - اورد الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٤٧ هكذا:

يا أعور العين وما بي من عَوَر

أثُبت فإنّي لستُ من فَرعَي مُضر

نحن اليمانون وما فينا خَوَر

كيـفَ ترى وقع غُلامٍ من عُذَر


٤٢٣


فقتله المرقال، فهجموا على المرقال فقتلوه رحمة الله عليه، فأخذ سفيان بن الثور رايته(١) فقاتل حتى قتل، فأخذها عتبة بن المرقال فقاتل حتى قتل، فأخذها أبو الطفيل الكناني مرتجزاً:

يا هاشم الخير دخلت الجنّة

قتلت في الله عدوّ السنّة(٢)

فقاتل حتى جرح فرجع القهقرى، وأخذها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي مرتجزاً:

أضربكم ولا أرى مـعاويه

أبرج العين العظيم الحاويه(٣)

هوت به في النار اُمّ هاوية

جاوَرَه(٤) فيها كلاب عاويه(٥)

فهجمو ا عليه فقتلوه، فأخذها عمرو بن الحمق وقاتل أشدّ قتال، وخرج من أصحاب معاوية ذو الظليم، وبرز من عسكر عليّعليه‌السلام سليمان بن صرد الخزاعي، وحملت الأنصار معه حملة رجل واحد، فقُتل ذو الظليم وذو

____________

يَنعى ابن عَفّانٍ ويَلحى مَن غَدَر

سِيّان عِندي مَن سَعى ومن أمَر

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: فجزّ شيبان بن الثور رأسه. وهو تصحيف.

٢ - أورد الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٥٩ هكذا:

يا هاشمَ الخَيرِ جُزيتَ الجنّه

قاتلـتَ في الله عدوّ السّنّه

والتاركي الحقّ وأهلَ الظنّه

أعظِم بِِما فُزتَ به من مِنّه

صيّـرني الدَهر كأنّي شَنّه

يا ليتَ أهلي قد عَلَوني رَنّه

من حَوْبةٍ وعَمَّةٍ وَكَنَّهْ

٣ - الأبرج العين: أي كان بياضها محدقاً بالسواد كلّه. والحاوية: الأمعاء.

٤ - كذا في المناقب، وفي الأصل: خاوية.

٥ - نسب هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٩٩ إلى مالك الأشتر، وبهذا اللفظ:

أضربـُهَمْ ولا أرى مُعاويهْ

الأخزَرَ العَين العظيمَ الحاويهْ

هوتْ به في النار اُمّ هاويه

جاورهُ فيـهاَ كـلابٌ عاويهْ

أغوى طَغاماً لاهَدَته هاديه


٤٢٤


الكلاع وساروا(١) إليهم وكاد معاوية يؤخذ.

وخرج عبدالله بن عمر ودعا محمد بن الحنفية إلى البراز، فنهض محمد فنهاه أبوه، وكان لعنة الله عليه وعلى أبيه يقول:

أنا عُبيد الله ينميني عمر

خيرُ قريشٍ مَن مضى ومن غَبرْ

فقتله عبد الله بن سوار ؛ ويقال: حريث بن خالد(٢) ؛ ويقال: هانئ بن الخطّاب: ويقال: محمد بن الصبيح، فأمر معاوية بتقديم سبعين راية، وبرز عمّار في رايات، فقُتل من أصحاب معاوية سبعمائة رجل، ومن أصحاب عليّ مائتا رجل.

وخرج العراد بن الأدهم ودعا العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، فقتله العبّاس، فنهاه عليّعليه‌السلام عن المبارزة، فقال معاوية: من قتل العبّاس فله عندي كذا ما يشاء، فخرج رجلان لخميان(٣) ، فدعاه أحدهما إلى البراز.

فقال: إن أذن لي سيّدي اُبارزك، وأتى عليّاًعليه‌السلام ، فلبس عليّ سلاح العبّاس، وركب فرسه متنكّراً.

فقال الرجل: أذن لك سيّدك؟ فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا ) (٤) فقتله، ثمّ برز الآخر، فقتله.

__________________

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: وساير، وفي وقعة صفّين: واستدار القوم.

٢ - في وقعة صفّين: ٢٩٩: حُريث بن جابر الحنفيّ.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: نحيبان.

واللخم: حيّ باليمن.

٤ - سورة الحجّ: ٣٩.


٤٢٥


و خرج حَجل بن عامر(١) العبسي فطلب البراز، فبرز إليه ابنه(٢) اُثال، فلمّا رآه أبوه قال: انصرف إلى أهل الشام فإنّ فيها أموالاً جمّة فقال ابنه: يا أبة انصرف إلينا فجنّة الخلد مع عليّ.

وعبّى معاوية أربعة صفوف فتقدّم أبو الأعور السلمي يحرّض أهل الشام، ويقول: يا أهل الشام، إيّاكم والفرار فإنّه سبّة وعار، فدقّوا [ على ](٣) أهل العراق، فإنّهم أهل فتنة ونفاق، فبرز سعيد بن قيس وعديّ بن حاتم والأشتر والأشعث، فقتلوا منهم ثلاثة آلاف ونيّفاً، وانهزم الباقون.

وبرز عبدالله بن جعفر فقتل خلقا كثيراً حتى استغاث عمرو بن العاص، وأتى اُويس القرني وهو متقلّد بسيفين ؛ وقيل: كان معه مرماة ومخلاة من الحصى، فسلّم على أمير المؤمنينعليه‌السلام وودّعه وبرز مع(٤) رجّالة ربيعة، فقتل من يومه، فصلّى عليه أمير المؤمنين ودفنه.

ثم إنّ عمّار كان يقاتل ويقول:

نحن قتلناكم(٥) على تنزيله

ثمّ قتلناكم على تأويـلهِ

ضرباً يزيل الهامَ عن مَقيله

ويذهِل الخليل عن خليله(٦)

____________

١ - في الأصل والمناقب: حجل بن اُثال، والصحيح ما أثبتناه وفقاً لوقعة صفّين: ٤٤٣.

٢ - كذا في المناقب، وهو الصحيح، وفي الأصل: أبوه.

٣ - من المناقب.

٤ - كذا في المناقب، وفي الأصل: معه.

٥ - في المناقب: ضربناكم.

٦ - أورد الرجز في وقعة صفّين: ٣٤١ هكذا:

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويلهِ

ضرباً يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلهِ

ويذهـل الـخليلَ عن خليله

أو يرجعَ الحقُّ إلى سبيلهِ

وما في المناقب يختلف عمّا هو في الأصل ووقعة صفّين.


٤٢٦


ثم قال: والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وهم على الباطل.(١)

و برز أمير المؤمنينعليه‌السلام ودعا معاوية وقال: أسألك أن تحقن دماء المسلمين وتبرز إليّ وأبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، فبهت معاوية ولم ينطق بحرف، فحمل أمير المؤمنينعليه‌السلام على الميمنة فأزالها، ثم حمل على الميسرة فطحنها، ثم حمل على القلب وقتل منهم جماعة، ثم أنشد:

فهل لك في(٢) أبي حسن عليّ

لعلّ الله يمكّن من قفاكا

دعـاك إلى البراز فكعت عنه

ولو بارزته تربت(٣) يداكا

وانصرف أمير المؤمنينعليه‌السلام وخرج متنكّراً، فخرج عمرو بن العاص مرتجزاً:

يا قادة الكوفة من أهل الفتن

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن

كفى بهذا حَزَناً مِنَ(٤) الحَزَن

أضربكم ولا أرى أبا الحسن(٥)

____________

١ - قوله: « ثمّ قال: والله على الباطل » ليس في المناقب. وسيأتي هذا الكلام مكرّراً في ص ٤٥٠، فراجع.

٢ - كذا في المناقب، وفي الأصل: من.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: ثبّت. وانظر الأبيات في وقعة صفّين: ٤٣٢.

٤ - في المناقب: مع.

٥ - رويت هذه الأرجاز والأرجاز التي تليها في وقعة صفّين: ٣٧١ منسوبة إلى عمرو بن العاص، وبهذا اللفظ:

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلجُ ليث كالشَّـطن

يرضى به الشام إلى أرض عدن

يا قادة الكوفة من أهـل الفتن

يأيّها الأشرافُ مـن أهـل اليمن

أضربكم ولا أرى أبا حـسن

أعني عليّاً وابنَ عـمّ الـمؤتَمَن

كفى بهذا حَزَناً مـن الحَـزَن


٤٢٧


فتناكل(١) عنه عليّعليه‌السلام رجاء أن بتبعه عمرو، فتبعه، فرجع أمير المؤمنين إليه مرتجزاً:

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلج ليـث كـالشطن(٢)

يرضى به السادة من أهل اليمن

[ من ساكني نجد ومن أهل عَدَن ](٣)

أبو الحسين فاعلمن وأبو الحسن

جاك يقـتاد العـنان والرسـن

فولّى عمرو هارباً، فطعنه أمير المؤمنين فوقعت في ذيل درعه، فاستلقى على قفاه وأبدى عورته، فصفح عنه أمير المؤمنين استحياء وتكرّماً.

فقال له معاوية: أحمد الله الذي عافاك، وأحمد استك الّذي وقاك.

ففي ذلك يقول أبو نؤاس:

فلا خير في دفع الأذى(٤) بمذلّة

كما ردّها يوماً بسوءته عمرو

ثمّ دعا أمير المؤمنين معاوية إلى البراز، فنكل عنه، فخرج بسر بن أرطاة طامعاً في عليّ، فصرعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاستلقى على قفاه وكشف عورته، فانصرف عليّعليه‌السلام .

فقال أهل العراق(٥) : ويلكم يا أهل الشام، أما تستحيون من معاملة المخانيث؟ لقد علّمكم رأس المخانيث عمرو في الحرب كشف الاساءة.

ولمّا رأى معاوية كثرة براز عليّ أخذ في الخديعة، فأنفذ عمرو إلى ربيعة

__________________

١ - أي نكص وأظهر الجبن.

٢ - الأبلج: المشرق الوجه أو منفصل الحاجبين. والشطن: الحبل المضطرب أو الطويل.

٣ - من المانقب، وليس فيه العجز الأخير: « جاك يقتاد ».

٤ - في المناقب: الردى.

٥ - نسب هذا القول في المناقب إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام .


٤٢٨


فوقعوا فيه، فقال: اكتب إلى ابن عبّاس وغرّه، فكتب:

طال البلاء فما يدرى له آسِ

بعد الإله سوى رِفق ابن عبّاسِ

فكان جواب ابن عبّاس:

يا عمرو حسـبك من خَدعٍ ووَسواسِ

فاذهب فمالك فـي ترك الهدى(١) آسِ

إلاّ بــوادر(٢) طعن فـي نحوركم

تشجى النفوس لـه فـي النقع إفلاسِ

إن عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً

في الأرض أو سلّماً في الاُفق يا قاسي

ثمّ كتب إليه معاوية أيضاً:

إ نّما بي من قريش ستّة نفر: أنا وعمرو بالشام، وسعد وابن عمر في الحجاز، وعلي وأنت في العراق، على خطبٍ عظيم، ولو بويع لك بعد عثمان لأسرعنا فيه.

فأجابه ابن عبّاس:

دعوتَ ابن عبّاس إلى السلم خدعة(٣)

وليس لها حتى تموت بقابِل(٤)

____________

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: الأذى.

٢ - البوادر: جمع البادرة، طرف السهم من جهة النصل. وفي وقعة صفّين: ٤١٣: تواتر.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: بدعة.

٤ - في المناقب: بخادع. والأبيات طويلة وردت في وقعة صفّين: ٤١٦ منسوبة إلى الفضل ابن عبّاس.


٤٢٩


و كتب إلى عليّعليه‌السلام :

أمّا بعد، فإنّا لو علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لِمَ تجهّمنا بعضنا على بعض؟ وإن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرمّ(١) به ما مضى، ونصلح به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على ألاّ تلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيتَ، وأن أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنّك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولاتخاف من الفناء الا ما أخاف، وقد والله رقّت الأجساد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذلّ به عزيز، ويسترقّ به حرّ.

فأجابه أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب الا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحقّ فإلى النار، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك [ اليوم ](٢) ما منعتك أمس، وما استواؤنا في الخوف والرجاء(٣) ، فلست أمضي على الشكّ منّي على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، وليس اُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، وفي أيدينا فضل النبوّة الذي أذللنا به العزيز، وأنعشنا به الذليل، وبعنا بها الحرّ.

____________

١ - في المناقب: نصلح. وكلاهما بمعنى واحد.

٢ - من المناقب.

٣ - في المناقب: والرضا.


٤٣٠


وأمر معاوية ابن خَديج الكندي أن يكاتب الأشعث، والنعمان بن بشير أن يكاتب قيس بن سعد في الصلح، ثمّ أنفذ عمراً وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلمّا كلّموه قال: أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، فإن تجيبوا إلى ذلك فللرشد أصبتم، وللخير وفّقتم، وإن تابوا لم تزدادوا من الله الا بعداً.

فقالوا: قد رأينا أن تنصرف عنّا فنخلّي بينكم وبين عراقكم، وتخلّون بيننا وبين شامنا، فتحقن(١) دماء المسلمين.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : لم أجد إلا القتال أو الكفر بما اُنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ برز الأشتر وقال: سوّوا صفوفكم.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أيّها الناس، من بيع يربح في هذا اليوم - في كلام له - ألا إنّ خضاب النساء حنّاء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في عواقب الاُمور، ألا إنّها إحن بدريّة، وضغائن اُحديّة، وأحقاد جاهليّة، ثم قرأعليه‌السلام :( فَقَاتِلُوا أئمَّةَ الكُفرِ إنَّهُم لَا أيمَانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ ) (٢) .

ثم تقدّمعليه‌السلام وهو يرتجز:

دُبّوا دَبيبَ النَمل لا تفوتوا

وأصبحوا في حربكم وبيتوا

كيما تَنالوا الدين أو تَمُوتوا

أو لا فإنّي طالما عُـصيتُ

__________________

١ - في المناقب: فنحن نحقن.

٢ - سورة التوبة: ١٢.


٤٣١


قد قلتم لو جئتنا فجيتُ(١)

ثمّ حملعليه‌السلام في سبعة آلاف(٢) رجل فكسروا الصفوف.

فقال معاوية لعمرو: اليوم صبر وغداً فخر.

فقال عمرو: صدقت، ولكنّ الموت حقّ، والحياة باطل، ولو حمل عليّ في أصحابه حملة اُخرى فهو البوار.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنّة؟

فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلاً:

أحمد ربّي فهو الحميد

ذاك الّذي يفعل ما يريد

دين قويم وهو الرشيدُ

فقاتل حتى قُتل.

و برز عمّار بن ياسر، وكان له من العمر ثمانون سنة، فجعل يقول:

اليوم نلقى الأحبّه

محمداً وحزبه

والله والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفاتِ هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل، وهو الّذي قال رسو اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه: « عمّار جلدة بين عيني، تقتله الفئة الباغية لانالهم شفاعتي »(٣) ، فقاتل

____________

١ - انظر ديوان الامام علي بن أبي طالب ( طبعة دار الكتاب العربي ): ٥٤ ففي آخره:

قد قلتم لو جئتنا فجيتُ

ليس لكم ما شئتم وشيتُ

بل ما يريدُ المحييُ المميتُ

٢ - في المناقب: في سبعة عشر ألف.

٣ - انظر الأحاديث الغيبيّة: ١ / ٢١٨ - ٢٢٨.


٤٣٢


حتى قُتِل.(١)

و برز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلاً:

كم ذا يُرجّي أن يعيشَ الماكثُ

والناس موروث ومنهم وارث

هذا عليٌَ مَن عَصاه ناكثُ(٢)

فقاتل حتى قتل.

وبرز عديّ بن حاتم قائلاً:

أبعد عمّارٍ وبعد هاشم

وابن بُديل صاحب المَلاحم

ترجو البقاءَ من بعد يا ابن حاتم(٣)

فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.

وبرز الأشتر قائلاً:

سيروا إلى الله ولا تعرّجوا

دينٌ قويم وسبيل مُنهَج(٤)

وقتل جندب بن زهير، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير، وكان أصحاب عليّعليه‌السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية، ويقولون: عليّ المنصور، وهوعليه‌السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول: اللّهمّ إليك نقلت الأقدام، وإليك أفضت القلوب، ورفعت الأيدي، ومدّت الأعناق، وطلبت الحوائج، وشخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

____________

١ - قوله: « وبرز عمّار حتى قُتِل » لم يرد في المناقب.

٢ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٩٨.

٣ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٤٠٣.

٤ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٤٠٤.


٤٣٣


وكانعليه‌السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة ويدخل في غمارهم ويقول: الله الله في البقيّة، الله الله في الحرم والذرّيّة، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل، فلمّا أصبح صلوات الله عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل، وقتل من عسكر معاوية اثنتين وثلاثين ألفاً، فصاحوا: يا معاوية، هلكت العرب، فاستغاث بعمروٍ، فأمره برفع المصاحف.

قال قتادة: كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفاً. وقال ابن سيرين: سبعون ألفاً، وهو المذكور في أنساب الأشراف، ووضعوا على كلّ قتيل قصبة، ثمّ عدّوا القصب.(١)

قلت: أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان، ويكلّ عن وصفها اللسان، ويخفق لذكرها الجنان، ويرجف لهولها الانسان، طار شررها فعمّ الآفاق، وسطع لهبها فعمّ بالاحراق، وارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء، وضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.

يالها فتنة اطّيّرت رؤوس رؤوسها عن أبدانها، وابترت نفوس قرومها بخرصانها، وبرقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها، وضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها، قد كفر النقع شمسها، وأخرس الهول نفسها، وأبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها، وصبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها، لا يسمع فيها إلا زئير اُسد غابها سمر القنا، ولا ترى منها إلا وميض بريق مواضي الأسنّة والضبا، كم افترست ثعالب عواملها ليثاً عبوساً؟ وكم اخترمت بحدود مضاربها أرواحاً ونفوساً؟ وكم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيساً؟ وكم أذلّت بتواصل صولات حملات

__________________

١ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٧٤ - ١٨١، عنه البحار: ٣٢ / ٥٨٠ - ٥٨٩.


٤٣٤


قرومها رئيساً؟

أبدان الشجعان ضرام وقودها، وأجساد الأمجاد طعام حديدها، ما صيحة عاد وثمود بأهول من وقعة صفعتها، ولا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها، طفى نحرها فأعرق، واضطرم جرها فأحرق، وعمّ قطرها فاجتاج فرعها وأصلها، ودارت رحى منونها فطحنت خيلها ورجلها، صبح عادياتها يذهل السامع، وقارعة قوارعها تصخّ المسامع، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها، ويحجم الأبطال لخطر نزالها، اختلط خاثرها بزبادها، واُشبهت أمجادها بأوغادها، وموافقها بمنافقها، ومخخالفها بموالفها، ودنيّها بشريفها، وصريحها بحليفها، وبرّها بفاجرها، ومؤمنها بكافرها، فئة تقاتل في سبيل الله واُخرى كافرة، وفرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا وفرقة ترجو ثواب الآخرة.

قد فتحت أبوا بالجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها ووليّها، وشجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها ونبيّها، طالت ليلة هريرها فكم حلايلاً تمت؟ واضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالاً أيتمت؟ امتدّت ظلمتها، واشتدّت سدفتها، وثلمت صفاحها، وحطمت رماحها، وعلا ضجيجها، وارتفع عجيجها، وتكادمت فحولها، وتصادمت خيولها، وتزأّرت آسادها، وتقطّرت أمجادها.

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام نجمها الثاقب، وسهمها الصائب، وليثها الخادر، وعينها الهامر، وبحرها الزاخر، وبدرها الزاهر، كم أغرق في لجّة بطشه منافقاً؟ وكم أخرق بشهاب سيفه متنافقاً؟

جبريل في حروبه مكتب كتابته، وميكائيل في وقائعه يعجب من


٤٣٥


ضرائبه، وملك الموت طوع أمر حسامه، وروح القدس يفخر بثبات جأشه وإقدامه.

كم فلّ بحدّ غضبه حدّاً؟ وكم قدّ بعزم ضربه قدّاً؟ وكم عفّر في الثرى بصارمه جبيناً وخدّاً؟ وكم بني للاسلام بجهاده فخراً ومجداً؟

اُمثّله في فكرتي، واُصوّره في سريرتي، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه، وجلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه، طوداً يقلّه طرف، وبحراً يظلّه سقف، إن تكلّم بيّن وأوضح، وإن كلم هشم وأوضح، يقط الأصلاب بضربه، ويقصّ الرقاب في حربه، آية الله في خلقه، ومعجز النبيّ على صدقه، ومساويه في وجوب حقّه، ومضاهيه في خَلقه وخُلقه، أفضل خلق من بعده، وأشرف مشارك له في مجده، كلّ من الرسل الاُولى عاتبه ربّه على ترك الأولى ؛ قال سحانه في آدم:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) ، وفي نوح:( إنّي أعِظُكَ أن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (٢) ، وفي الخليل:( قَالَ أوَلَم تُؤمِنْ ) (٣) ، وفي الكليم:( فَعَلتُها إذاً وَأنَا مِنَ الضَّالِّين ) (٤) ، وفي داود:( وَظَنَّ دَاوُدَ أنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٥) ، وفي سليمان:( إنّي أحبَبتُ حُبَّ الخَيرِِ عَن ذِكرِ رَبِّي ) (٦) ، وفي يونس:( وَذَا النُّونِ إذ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ ) (٧) .

وأمير المؤمنين باع نفسه من ربّه، وحبس قلبه على حبّه، ووقف

__________________

١ - سورة طه: ١٢١.

٢ - سورة هود: ٤٦.

٣ - سورة البقرة: ٢٦٠.

٤ - سورة الشعراء: ٢٠.

٥ - سورة ص: ٢٤.

٦ - سورة ص: ٣٢.

٧ - سورة الأنبياء: ٨٧.


٤٣٦


جسده على طاعته، وفرغ روحه لمراقبته، أطلعه سبحانه على جلال عظمته، وكمال معرفته، وسقاه من شراب حبّه، واختصّه بشرف قربه، فما في فؤاده الا إيّاه، وما في لسانه إلا ذكراه، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه، ويصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه، قد استشعر لباس المراقبة، وحاسب نفسه قبل المحاسبة.

يأنس بالظلام إذا الليل سجى، ويستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا، ويستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه، ويستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته، وطار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه، وأزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته، واستأنس بمناجاة صاحب العزّة والجبروت واطّلع على أسرار إلهيّته، وقرع بيد إخلاصه شريف بابه، وأصغى بصماخ( وَتَعِيَهَا اُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (١) إلى لذيذ خطابه، وأشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه، وأحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه، وشاهد بعين يقينه عزّه هيبة سلطانه، وقطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.

كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته، ورفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا، وناجاه بلسان المحبّة وقد برح الخفا، وسقاه بالكأس الرويّة من شراب( يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) ، ويثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين

__________________

١ - سورة الحاقّة: ١٢.

٢ - سورة المائدة: ٥٤.


٤٣٧


يقينه، وتوّجه بتاج( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) (١) ، ونفعه نحلة( وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم ) (٢) ، وجعل له الرئاسة العامّة في خلقه، وقرن طاعته بطاعته، وحقّه بحقّه، وأثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته، ووقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته، ويصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته، وترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.

باهى الله به ليلة الفراش(٣) أمينيه جبرئيل وميكائيل، وناداهما بلسان الابتلاء وهو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق وجليل: إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه، وتلكّأ عن جواب صانعه ومنشيه، فأوحى إليهما: هلّا كنتما كابن أبي طالب؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجَله، وبات مستاقا(٤) بسيوف الأعداء من أجله، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته وحفظه، وامنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام واليقظة.

وكذلك يوم اُحد وقد ولّوا الأدبار، واعتصموا بالفرار، وأسلموا الرسول إلى الجبن، ولم يعد بعضهم إلا بعد يومين، هذا ووليّ الله يتلقّى عنه السيوف

__________________

١ - سورة المائدة: ٥٥.

٢ - سورة الأنعام: ١٥٣.

٣ - حديث مبيت أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحاديث المتواترة والمشهورة، انظر: الفصول المائة في حياة أبي الأئمّة: ١ / ٢٢٧ - ٢٦٣ فقد أوفى الكلام في هذا الحديث.

٤ - كذا في الأصل.


٤٣٨


بشريف طلعته، ويمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته، حتى باهى الله يومئذ ملائكته ببطشه القويّ، ونادى منادٍ من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا عليّ.

وفي بدر إذا التقى الجمعان، واصطدم الفيلقان، وشخصت الأعين، وخرست الألسن، وجبت الجيوب، ووجبت القلوب، كان صلوات الله عليه وآله قاصم أبطالها، وميتّم أشبالها، وليث ناديها، وصل داريها، صبّ الله بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه، وأنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.

صاحب بطشتها الكبرى، وناصب رايتها العظمى، جعل الله الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه وجنده، ولواء الفتح المبين خافقاً على هامة رفعته ومجده، وشمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة، وجموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة، وهل أتاك نبأ الخصم الألدّ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ، البطل الأعبل، وفارس يليل، إذ أقبل برز كالليث القرم، ويهدر كالفحل المغتلم، ويصول مدلّاً بنجدته، ويجول مفتخراً بشدّته، ويشمخ بأنفه كبراً، ويبذخ بخدّه صعراً، قد تحامته الفرسان خوفاً من سطوته، وأحجمت عنه الشجعان حذراً من صولته، وانهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه، وذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه، كالأسد الكاسر في غابه، أو النمر الكاشر عن نابه، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وأحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر، وامتدّت نحوه الأعناق، وشخصت إليه الأحداق، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وهو يؤنّب بتعنيفه، ويجبر بتأفيفه.

فعندها أشرق بدر الحقّ من شفق الفتوّة، وطلعت شمس المجد من برج


٤٣٩


النبوّة، وأقبل علم الاسلام يرفل في ملابس الجلال، وتبدّى نور الايمان يخطر في حلل الكمال، كالطود الشامخ في مجده، أو البحر الزاخر عند مدّه، قد أيّده الله بروح قدسه، وأوجب من ولائه ما أوجب من ولاء نفسه، وأيّده بالعصمة التامّة، وشرّفه بالرئاسة العامّة، كالقمر المنير في كفّه شهاب ساطع، أو الموت المبير إذا علا بسيفه القاطع، حتى إذا قارنه وقاربه وشزره بطرفه عند المصاولة علاه بمشحوذ العذاب لو علا به رضوى لغادر كثيباً مهيلاً، ولو أهوى به على أكبر طود في الدنيا لصبّره منفطراً مقلولاً، فخرّ كالجذع المنقعر، أو البعير إذا نحر، يخور بدمه، ويضطرب لشدّة ألمه، قد سلبته ملابس الحياة أيدي المنيّة، وكسته من نجاح دمه حلّة عدميّة، وكفى الله المؤمنين القتال بوليّه المطلق، صدّيق نبيّه المصدّق، الّذي أعزّ الله الاسلام وأهله بعزمه، وأذلّ الشرك وجنده بقدمه.

فيا من كفر بأنعم ربّه، وأجلب بخيله ورجله على حربه، ورابطه مصابراً، وعانده مجاهراً، وأظهر نفاقه الكامن، وغلّه الباطن، ألم يكن أبوك في تلك المواطن رأساً للمشركين؟ ألم يكن في حرب نبيّه ظهيراً للكافرين؟ ألست ابن آكلة الأكباد البغيّة؟ ألست زعيم العصابة الأمويّة؟ ألست فرع الشجرة الملعونة؟ ألست رأس الاُمّة المفتونة؟ أليس قائد احزاب المشركين أباك؟ أليس أوّل المبارزين في بدر جدّك وخالك وأخاك، اُديرت كؤوس المنون بيد وليّ الله عليهم، وبطرت الحتوف من كثب إليهم، وأنزل سبحانه( فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ ) (١) منهم ذلك بما قدّمت أيديهم، قلبت أشلاءهم بعد الموت في القلب،( وَلَو تَرَى إذ فَزِعُوا فَلَا فَوتَ

__________________

١ - سورة الأنفال: ١٢.


٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592