السيدة السكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام

السيدة السكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام37%

السيدة السكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار الأضواء
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 154

  • البداية
  • السابق
  • 154 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35388 / تحميل: 7481
الحجم الحجم الحجم
السيدة السكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام

السيدة السكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام

مؤلف:
الناشر: دار الأضواء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

البيت العلوي الطاهر الشايني لهذا العنصر الاموي الحائد عن سنن الصراط السوي.

ولم يثبت تشيعه من طرق صحيحة وان ارسله المؤرخون حتى انطلى على جملة من الشيعة فذكروه في رجالهم وذهب عنهم ان هذه الاكذوبة أمر دبر بليل إنما افتعلوها ليحملوا الشيعة أوزاراً مما اثبته من المنكرات ومما يشهد بعدم وثوق اولئك المؤرخين بتشيعه مع إرسالهم له انا نراهم يبخسون في تراجمهم حقوق علماء الامامية ويرمونهم بالطامات من عيب في الدين او نقص في المروءة او مروق عن الورع(١) .

مع إكبارهم لكل من مال عن اهل البيت فاعظامهم هذا الرجل بالمدح البالغ حده مع وقوفهم على خلاعته وخفة عقله وبذائة لسانه وفسق جوارحه ليس إلا لما ذكرناه من تحامله على اهل البيت ومن انضوى إلى رايتهم ودعا إلى مبدئهم واعترف بنزاهتهم اعلاماً بأن الرجل من الشيعة وهو اعرف بما هم عليه.

لكن النظرة الدقيقة في التاريخ تفيدنا ان الرجل كما انه مرواني النسب مرواني النزعة ولذلك ألف لاقاربه الامويين من ملوك الاندلس

____________

١ - لاحظ العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ص ٤٠ طبع مصر سنة ١٣٤٢ هـ ج تعرف الرجال الذين طعنوا فيهم ولم يأتوا بشيء سوى الموالاة لاهل البيت كما تعرف الرجال المائلين عن اهل البيت فلقد أكثروا من توثيقهم واطرائهم وقد ذكر عن تهذيب التهذيب لابن حجر بترجمة عمر ابن سعد انه قال عمر بن سعد تابعي ثقة وهو الذي قتل الحسين ثم قال ابن ابي عقيل بعد هذا ( لا حول ولا قوة الا بالله )

ان كان هذا نبياً

فالكلب لا شك ربي

٦١

كتباً وصيرها اليهم سراً فاتته الجائزة منهم سراً(١) .

وارسل كتاب الاغاني الى الحكم الثاني المستنصر وهو في الاندلس قبل ان يخرجه الى العراق فارسل اليه الحكم الف دينار من الذهب العين(٢) .

على انه ليس في كتبه وشعره اي صراحة بانتمائه إلى مذهب اهل البيتعليه‌السلام عدا اشعارات لا تعدو ان تكون تزلفاً منه إلى ملوك وقته آل حمدان وامرائه ممن ينتمون إلى ولاء العترة الطاهرة وذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلون مادحيهم بعطائهم الجزيل.

ومن ذلك تأليف كتاب ( المقاتل ) فانه الفه إلى من عرفت من ملوك الشيعة طمعاً في وفرهم وحصناً لما رامه من المطاعن في اهل البيت حتى تبعد عنه وصمة الافتعال.

وقد اشتمل كتاب المقاتل على كثير من الموضوعات.

واما كتابه ( الاغاني ) فاسمه وموضوعه وسبر اغواره شواهد واضحة على انحرافه عن الطريقة المثلى واندفاعه إلى تدوين ما تحدو اليه الأهواء والشهوات فهو كما قال فيه صاحب ( روضات الجنات ) بترجمة الرجل: ( إن من يتصفحه لم ير فيه إلا هزلاً وإضلالاً وبقصص ارباب الملاهي اشتغالاً وعن علوم اهل البيت اعتزالاً ).

__________________

١ - معجم الادباء ج ١٣ - ص ١٠٠ ط ثاني وتاريخ أبي الفداء ج ٢ - ص ١٠٨ ومرآة الجنان لليافعي ج ٢ - ص ٣٥٩.

٢ - تاريخ الفكر الاندلسي ص ١١ ترجمه عن الاسبانية حسين مؤنس وص ٣٠ من ترجمة ابي علي القالي بقلم محمد عبدالجواد الاصمعي اول الامالي طبعة دار الكتب العربية.

٦٢

ويقول القاضي محمود بن محمد عرنوس: ان كتاب الاغاني اشتمل على كثير من الاخبار الواهية بل الموضوعة(١) .

واما مقام ابي الفرج في الحديث والرواية فكما حدث الخطيب البغدادي عن ابي عبدالله الحسين بن محمد بن القاسم بن طباطبا العلوي قال سمعت أبا الحسن النوبختي يقول: كان ابوالفرج الاصبهاني اكذب الناس انه يدخل سوق الوراقين وهي عامرة مملوة بالكتب فيشتري كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منه(٢) . وقال ابن حجر: قد اتهم ابوالفرج بكثرة ما كتب والظاهر انه صدوق(٣) .

وهذا الاستظهار منه يرشدنا الى شك العلماء فيه والا لذكر من يعتمد عليه ويوثقه ويجزم به ولم يجعله محل الاستظهار.

فهذا ابن الجوزي: لا يثق برواية أبي الفرج محتجاً بانه يصرح بكتبه بما يوجب الفسق عليه وتهاونه بشرب الخمور وربما حكي ذلك عن نفسه ومن تمل كتاب ( الأغاني ) رأى كل قبيح ومنكر(٤) .

وسجل ابن كثير الحنبلي هذه العقيدة في أبي الفرج من دون تعقيب(٥) .

__________________

١ - تاريخ القضاء في الاسلام ص ١٨٢.

٢ - تاريخ بغداد ج ١١ - ص ٣٩٩.

٣ - لسان الميزان ج ٤ - ص ٢٢١.

٤ - المنتظم ج ٧ - ص ٤٠ حوادث سنة ٣٥٦.

٥ - البداية ج ١١ - ص ٢٦٣.

٦٣

ويكفي في انحيازه عن الورع بذاءة لسانه وسبابه المقذع وهجائه الناس واستهانته أكل لحومهم والنيل من الأعراض فهو من المخالفين للامامية قطعاً وانه من المتورطين في السيئات المتحاملين على المؤمنين بالمنكرات ولم تخف هذه الظاهرة على العلامة الحلي فذكره في القسم الثاني من الخلاصة المعقود لمن يتوقف في رواياته.

( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) (١)

__________________

١ - الاعراف / ١٨٦.

٦٤

نظرة الدكتور زكي مبارك في الأغاني

ان كلمة الأستاد زكي مبارك صورت الرجل وكتابه الأغاني بما يفيد القارىء زيادة بصيرة مما عليه من الخلاعة والمروق عن الدين وفراغ الكتاب ( الأغاني ) عن الحقائق التاريخية.

قال في وصف الكتاب:

ان في مقدمة كتاب الأغاني عبارات صريحة في أن المؤلف قصر اهتمامه على امتاع النفوس والقلوب والأذواق، فكتابه مجموعة تغذي بها الأندية ومجامع السمر ومواطن اللهو ومغاني الشرب وقد اهتم بالغناء الذي عرف له قصة تستفاد وحديثاً يستحسن وعلل ذلك بقوله: إذ ليس لكل الأغاني خبر نعرفه ولا في ماله خبر فائدة ولا لكل ما فيه بعض الفائدة رونق يروق الناظر ويلهي السامع.

وهذا التعبير هو الوصف الصادق لما اختاره الأصبهاني ان يدور عليه كتابه حين أراد أن يقدم ما راقه من أيام العرب وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الاسلام وخصوصاً إذ لاحظنا ان كلامه يشعر بأنه مستعد لاهمال ما فيه بعض الفائدة إذ خلا من ذلك الرونق الذي يروق الناظر ويلهي السامع فهو إذن يساير القراء المتطلعين الى النواحي الطريفة من أخبار الملوك والخلفاء والوزراء

٦٥

والكتاب والشعراء ولهذا النحو في التأليف قيمة عظيمة إذا فهمه القاريء على الوجه الصحيح.

ولكن الخطر كل الخطر أن يطمئن الباحثون الى أن لروايات الأغاني قيمة تأريخية وان يبنوا على أساسها ما يشاؤن من حقائق التاريخ.

وقد جاءت أحاديث الأغاني مروية بالسند والرواية بالسند شيء ساحر فتن كثير من الناس وظنوه علماً دقيقاً له آداب وشروط واعتماداً على هذا العلم الدقيق اطمأن كثير من الباحثين الى روايات الأغاني فضلوا وأضلوا في حقائق التأريخ.

ويشهد له أن صاحب الأغاني حدث بسنده عن ابن اخ رزقان عن أبيه قال أدركت مولى لعمرو بن أبي ربيعة شيخاً كبيراً فقلت له حدثني عن عمرو بحديث غريب.

وكلمة غريب لها معناها فيما نحن بسبيله من أخيذ الرواة بالتلفيق والاختلاق فإن البحث عن الأوضاح الغريبة من احاديث ابن أبي ربيعة تدل على ظمأ النفوس الى النادر المستطرف من القصص والأحاديث وما عسى أن يكون ذلك الخبر الغريب هو خبر يشبه من أكثر نواحيه قصة حج أبي نؤاس التي اخترعها ابن دريد.

وقد استمر صاحب الأغاني ينقل من أخبار عمرو بن أبي ربيعة ما طاب له من غير نقد ولا تمحيص ولكنه فطن في بعض ما رواه الى تلفيق الرواة حين عرض الى تزويج الثريا وخروجها الى مصر عمر وغائب فقال:

( وهذا الخبر عندي مصنوع وشعره مضعف يدل على ذلك ولكني ذكرته كما وقع الي ).

٦٦

وهنا يدلنا صاحب الأغاني على ارتيابه في بعض الأخبار ولكن لماذا يذكر ما ارتاب فيه كما يقع اليه من دون تمحيص وتحقيق، نعم أراد أن يقدم ما يروق الناظر ويلهي السامع كما ذكر في مقدمة كتابه هذا ولو مضينا نحصي ما في روايات الأغاني من التلفيق لطال بنا القول فلنكتف بهذه الاشارة.

هذا ما يتعلق بكتاب الأغاني وأما ما يتعلق بأبي الفرج نفسه فنقول:

إن الأصبهاني كان مسرفاً أشنع الاسراف في اللذات والشهوات وقد كان لهذا الجانب من تكوينه الخلقي أثر ظاهر في كتابه فان كتاب الأغاني أحفل كتاب بأخبار الخلاعة والمجون وهو حين يعرض للشعراء والكتاب يهتم بسرد الجوانب الضعيفة من أخلاقهم الشخصية ويهمل الجوانب الحديثة إهمالاً ظاهراً يدل على أنه كان قليل العناية بتدوين أخبار الجد والرزانة والتجمل والاعتدال.

وهذه الناحية من الأصبهاني أفسدت كثيراً من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا عليه.

وان إكثار الأصبهاني من تتبع سقطات الشعراء وتلمس هفوات الكتاب جعل في كتابه جواً مشبعاً بأوزار الاثم والغواية وأذاع في الناس فكرة خاطئة هي اقترن العبقرية بالنزق والطيش والخروج من رعاية العرف والدين.

ولو خلينا الأخبار المروية جانباً ونظرنا فيما حدث به أبو الفرج عن نفسه لعرفنا مبلغ حذقه في وضع الأقاصيص.

قال: كنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في

٦٧

السنة التي توفي فيها معز الدولة وولي بختيار وكانت لأبيه حال كبير ومنزلة من الدولة ورتبة وكان الفتى في نهاية من الحسن وسلاسة الخلق وكرم الطبع يحب الأدب ويميل الى أهله ومضت لي معه سير لو حفظت لكانت كتاباً مفرداً وقد كنت أتي اليه فيدخلني الى حجرة لطيفة كانت مفردة له فنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما فأتيته يوماً وجلس على دكة بباب داره منتظراً له ولما أبطأ علي قمت لأجل لقاء صديق ثم أعود فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند عليه.

يـا من أظـل بباب داره

ويطول حبسـي لانتظاره

وحياة طرفـك واحوراره

ومجال صدغك في مداره

لا حلت عمري عن هواك

ولـو صلـيت بحر ناره

فلما عاد ووقف على الأبيات غضب من فعلي لئلا يقف عليه من يحتشمه وكان شديد الكتمان خصوصاً من أبيه فكتب تحتها:

( ما هذه الشناعة ومن فسح لك هذه الاذاعة وما أوجب خروجك عن الطاعة ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك ملكتك فطغيت وأطعتك فتعديت ما أحتشم أن أقول هذا تعرض للأعراض عنك والسلام ).

فعلمت انني قد اخطأت وسقطت - شهد الله - قوتي فأخذتني الندامة والحيرة ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده فمنعني وقلت يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت فقال لي أنت في أوسع العذر بعد أن لا يكون لها اخت.

ولم تمض إلا مديدة حتى قبض على أبيه وهرب فاحتاج الى الاستتار فلم يأنس هو ولا أهله إلا أن يكون عندي فأنا على غفلة إذ

٦٨

دخل في خف وأزار فكادت مرارتي تنفطر فرحا فلقيته أقبل رجليه وهو يضحك ويقول يأتيها رزقها وهي نائمة هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة وكان أخف الناس روحاً وبتنا في تلك الليلة عروسين لا نعقل سكراً واصطحبنا وقلت هذه الأبيات:

بت وبات الحبيب ندماني

من بعد نـأي وطول هجران

نشـرب فضيـة مـعتقة

بحانة الشـط منـذ أزمـان

وكلما دارت الكـؤوس لنا

ألثـمني فـاه ثـم غنــاني

الـحمد لله لا شـريك له

أطاعنـي الدهر بعد عصيان

 ولم يزل مقيما عندي نحو شهر حتى استقام امر أبيه ثم عاد الى داره فهذه الأخبار التي رواها ابو الفرج عن نفسه تعين اتجاهاته الذوقية في الحياة ومن هنا جاء غرامه يتعقب اخبار الخلاعة والمجون فيمن ترجم له من الشعراء انتهى باختصار(١) .

فإذا كان هذا مقام أبي الفرج في الدين والورع والعفة ومقام كتابه في الحقائق فهل تبقى قيمة لما يحدث فيه ما لم يدعم بقرائن صحيحة خصوصاً بعد أن عرفنا حال من يحدث عنهم ويعتمد في كتابه على روايتهم كآل الزبير واشعب الطامع والهيثم بن عدي وصالح بن حسان الى امثالهم من مجهولين.

وانك لتجد في هذه الرسالة النقل عن كتاب الأغاني فهو من باب الزموهم بما الزموا به انفسهم او لأن تلك النقول لا تنافي شيئاً من مقام من نقل عنه وليس النقل للإعتماد على الكتاب أو على ما فيه من روايات لم نعرف حال سندها.

__________________

١ - النثر الفني ج ١، ص ٢٣٥ وص ٢٤٤ وروى القصة ياقوت في معجم الادباء ج ٥، ص ١٦٠.

٦٩

٧٠

رجال الأغاني

إني لا اجد القارىء بعد هذا البيان الضافي مرتاباً في كذب ما حدث به أبو الفرج في حق السيدة ( سكينة ) ابنة سيد شباب اهل الجنة الحسين بن أميرالمؤنينعليه‌السلام فان الأحاديث التي جاء بها وجدناها مروية عمن ذكرناهم من آل الزبير وأمثالهم من المعروفين بالافتعال أو العداوة لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يردعهم أي رادع عن الكذب الذي هو اقبح المعاصي ومفتاح كل شر وطريق يسلك به الى الفتن ويلحق البغضاء والأحن وعثرة في سبيل النجاح والسعادة ولذلك حرمته الشريعة ( كتاباً وسنة ) وعضدهما العقل واجماع المسلمين.

فلا تقف على صاحب مروأة يكذب في قوله أو خدن شرف يمين في حديثه أو أخي بصيرة يفتعل في قضيته أو رب حجي يتقول فيها يقول استقباحاً منهم لتلك الشنعة المذهبة للاعتبار المزيحة لماء الوجه المسقطة لمنصة الاعتماد واقبح مصاديق الفرية والافتعال إذا كان على لسان صاحب الشريعة او من يحذو حذوه من خلفاء المعصومينعليه‌السلام فان فيه علاوة على القبح الذاتي ادخال ما ليس من الشريعة فيها وهذا هو التشريع المحرم والبدعة التي لا تقال عثرتها ان تعلق الكذب بحكم من احكام الشريعة.

٧١

وان كان الكذب في ثناء رجل لا يستحقه ففيه اغراء بالجهل وان كان في نسبة الفاحشة الى مؤمن فذلك ايذاء وهتك الستر.

واشد افراد الكذب اذا كان وقيعة في الذرية الطاهرة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين شاء لهم المولى سبحانه حسن السمعة وشرف المخبر وهو اجر الرسالة الذي صدر الأمر به( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (١) فإنه عام لسائر أفراد الذرية تكريماً لصاحب الدعوة الإلهية وتمريناً للملأ الديني على البخوع لعامة بنيه وردعاً للأغرار منهم عما لا يليق بساحة سلفهم وشرفهم الوضاح.

وقد عرفت الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إكرام اولاده: الصالح لله والطالح له وان الولد العاق يلحق بالنسب كما عرفت ان السياسة القاسية في العهد الأموي والعباسي استهوت رجالاً جرهم الطمع الى استنزاف ما في ايدي القوم من الثراء المتدفق فدسوا في الأحاديث خزايات تندى منها جبهة الانسانية قصدوا بها الحط من مقام البيت العلوي عن مستوى الفضيلة فانطلت تلكم المخازي على الأجيال المتأخرة فحسبوها مروية عن صاحب الرسالة وعن عظماء الصحابة أو انها من القضايا والحوادث التي لها نصيب من مستوى الحقيقة.

ومن هنا وضع العلماء علم الرجال ليتميز أولئك الدساسين من غيرهم وان محاورة الحتات بن يزيد أبو منازل مع معاوية تفيدنا فقهاً بما عليه ابن هند من بذل الأموال لمقاصده وغاياته ضد أهل البيت فانه وفد مع الأحنف وجارية بن قدامة على معاوية فأعطى معاوية كلا من الأحنف وجارية مائة الف واعطى الحتات سبعين الفا فعتب عليه حيث أنقصه عن صحبه فقال معاوية إني اشتريت

__________________

١ - سورة الشورى آية: ٢٣.

٧٢

منهم دينهم ووكلت الى رأيك في عثمان فقال الحتات فاشتر مني ديني مثلهم فأتم له الجائزة(١) .

وسمع الأحنف رجلاً يقول لمعاوية لو لم تول يزيد أمور المسلمين لأضعتها فعتب عليه فقال الرجل إني أعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأقفال(٢) .

وعلى هذا فهل ترى هؤلاء الى أمثالهم يتورعون عن موافقة الخلفاء بافتعال احاديث وقضايا توافق رغباتهم وهل يمكن للكاتب الركون اليهم في نقل الحقائق وقد عرفت حديث ( مقاتل ) الذي ملئت الطوامير بمروياته مع المنصور فانه قال له: إذا شئت وضعت أحاديث في فضل العباس ولك(٣) .

إني لا استغرب من هؤلاء الرواة المتروكة أقوالهم بنص علماء الرجال إذا تحدثوا بما سولت لهم نفوسهم مما دب ودرج وإنما الغريب من مؤرخ يزعم انه يتحرى الحقائق ثم يستند الى المتفكهين بقذف المسلمين المحبين لاشاعة الفاحشة.

ولم يغب عنه ما في تدوين هذه المفتريات من الخروج على قدس الكتاب المجيد المانع من هتك ستر المؤمن ونسبة القبيح اليه وكيف يغيب عنه وكل مسلم يقرء نهاره وليله قوله تعالى:( ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون ) .(٤)

__________________

١ - الطبري ج ٦، ص ١٣٥.

٢ - ابن خلكان بترجمة الاحنف.

٣ - تاريخ بغداد ج ١٣، ص ١٦٧.

٤ - سورة النور / ١٩.

٧٣

والسر فيه ان كشف العوار يوقع النفرة بين الناس ويؤل الى التباغض ويفت في عضد الاجتماع ويفك عرى الوئام واختلال النظام ولهذا حرم سبحانه وتعالى ( الغيبة ) التي هي ذكر الشخص بما يكره و ( النميمة ) وهي السعاية بين الاثنين بنقل قول السوء من كل منهما للآخر وهكذا ما يجري مجراهما من المحرمات المنافية لحمرة المؤمنين الملقحة للعداوة بينهم المقلقة للسلام.

وفي الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تكاشفتم لما تدافنتم(١) فان النكتة فيه ان كشف السرائر وإيقاف الناس عليها يوجب النفرة والمباينة والاستثقال حتى من دفنه وتشييعه ولو يشاهده عرضة للكلاب.

فاشاعة الفاحشة كما يستوجب تلك الامور ايضاً يضاد الارادة الالهية المستتبعة لرأفة المولى تعالى ولطفه وكراهته للفتن والشرور ونشوب الأحن فالمرتكب لها محارب لله تعالى غادر لحقوق الناس بتلك المغباب الوخيمة وللتحفظ عن هذه الشائنة لم يكتف المولى سبحانه بالوعيد الأخروي حتى اضاف اليه العقاب الدنيوي وهو الحد ان كان قذفاً بالزنا واللواط والسحق والتعزير إن كانت الفاحشة المذاعة في الناس قذفاً بغير ذلك فقال تعالى:( لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة ) ثم نبه جل شأنه على شيء دقيق فقال( الله يعلم ) ما تكنه الضمائر من المحبة لاشاعة الفاحشة وإظهار ما يريد الله ستره ( وانتم لا تعلمون ) ما يترتب على ذلك من الخطر والفساد.

فالنهي عن إشاعة الفاحشة كما يتوجه الى الرواة يشمل من يدون أقوالهم من دون تثبت في النقل فيرسلها في كتابة لأغراض

__________________

١ - تهذيب كامل المبرد ج ١ - ص ٥٤ وعيون اخبار الرضا للصدوق ص ٢١٦ والاماني للصدوق ص ٢٦٧ مجلس ٦٨.

٧٤

دنيوية وشهوات نفسانية وهذا جهل وطغيان فان المولى الجليل القابض عل أزمة العباد القادر على الانتقام منهم عند التمرد على قدسه ومخالفة أمره ونهيه يصفح عنهم ويتلطف عليهم بفيض بره وإحسانه ويخصهم بالخير كله ويثيبهم بالثواب الجزيل تجاه عمل ضئيل ويصفح عن المآثم الكبيرة طيلة عمر العبد إن صدرت ( التوبة ) من صميم الخاطر والندم على ما فرط في جنب الله تعالى والعزم على أن لا يعود الى مثله اللهم إلا أن يغتصب العبد حقوق الناس فالتوبة عنه أما بارضائهم أو أرجاعها اليهم وفي الحديث لو علم الله تعالى أن عبدا ينيب اليه اخر الدهر لمد في عمره الى ذلك الوقت(١) .

وإن تعجب فعجب ان العبد يعصيه وهو في قبضته وفي مستوى قدرته يعيش ويمرح ويسرف ويقترف الآثام لكنه سبحانه يفيض عليه نعمه ظاهرة وباطنة لعله يؤوب الى السعادة ويتوب عما اجترحه من السيئات ولو كانت حالة العبد هذه مع أبيه العطوف عليه وأمه الحنون لرفضوه.

فكما أنه جل شأنه يحب للمؤمن النعيم الخالد عطاء غير مجذوذ أيضاً يود له بقاء الحرمة بين الناس وإسدال الستر على عثراته وهذا هو الجميل في لسان المعصوم ( يا من أظهر الجميل وستر القبيح ).

__________________

١ - شرح الصحيفة للسيد علي خان ص ٣٤٦ روضة ٣٧.

٧٥

٧٦

سكينة من ذوي القربى

لقد وضح من جميع ما ذكرناه للمتأمل البصير أن في التحدث عن سكينة بنت الحسينعليه‌السلام وأمثالها من أهل هذا البيت الطاهر بما يشين الأخلاق والدين كما أنه إشاعة للفاحشة الممنوع منها بنص الكتاب الكريم وأحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خروج على حكم القرآن الناص على مودة القربى.

( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) ولم يخف السر في هذا الحكم لأن سادات هذا العنصر الطاهر لما كانوا منبع أنوار الهداية وعندهم مفاتيح الرشاد ومن ناحيتهم ثبتت المعارف الآلهية وبأياديهم الناصعة تهتدي الناس الى سنن النجاح فرض الله تعالى حبهم المؤدي الى اتباع تعاليمهم وجعله أجراً للرسالة.

وتعميم الحكم لسائر افرادهم الذين لم يقطع بانحراف عقيدة أحدهم عما جاء به جدهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأجل تمرين الملأ الديني على البخوع لعامتهم الحادي الى سلوك مناهجتهم وردعاً للأغرار منهم عما لا يليق بسلفهم وشرفه الوضاح.

مضافاً الى ما ورد من الأحاديث الكثيرة باكرامهم ومساعدتهم على النوائب ودفع الشرور عنهم وان إكرام غير الصالح إنما هو

٧٧

لأجل الرسول الأقدس وتكريماً لمقامه ( لأجل عين الف عين تكرم ).

فإذا كانت الحالة هذه في الذرية الطاهرة وان نقم من بعضهم بعض الأعمال فكيف بالأبرياء منهم الذين لم يسجل العلم اليقيني عليهم ما يشين الدين والأخلاق والمروأة غير أحاديث عرفنا منشأها ومستقاها.

ومن هؤلاء بضعة النبوة سكينة ابنة الحسين فان الوقيعة فيها بتلك السفاسف التي سجلها أبو الفرج وغيره كان مصدرها آل الزبير وأمثالهم المعروفين بالعداء لأهل البيتعليه‌السلام :

اكرم بعين المصطفى جدهم

ولا تهن من آله أعينا

٧٨

سكينة الى كربلاء

تنص دراسات التربية على تأثير الناشيء بنفسيات البيئة ونزعاتها تكفيها بما جبل عليه رجالات البيت من الطموح الى الرقي في العلم والترفع عن الدنايا فالعامل الوحيد لتكيف الناشيء بالصفات الفاضلة أو أضدادها ما يتدراسه أرباب البيت المتربي فيه وليدهم ومن الضروري ان يتخذ الخلف طريقة سلفه ويتحرى التخلق بما عليه من ملكات أما ان تأخذ به الى اعلا مستوى الثقافة أو تنحط الى هوة الضعة وفي الغالب تجد المشاكلة بين الجيل الأول والثاني في المعارف والآداب والصناعات والعادات اللهم الا ان يسود ذلك تطور يغلب تلك المقتضيات.

واذا فتشنا بيوتات العالم فلا نجد بيتا يتحرى المناهج الآلهية والسير على ضوء تعاليم الشريعة الخالدة الا البيت العلوي لأنه ضم رجالات العصمة المودع عندهم أسرار التكوين وعلم الطبايع وفقه الشريعة والنظم الاجتماعية منحة من منشئ كيانهم جل شأنه فمن هذا البيت تؤخذ المعارف ويدرس الخلق الكامل:

بيت علا سمك الضراح رفعة

فكان اعـلا شرفـا وارفعا

بيـت مـن القدس وناهيك به

محط أسرار الهدى وموضعا

اعـزه الله فمـا تهبـط فـي

كـعبته الأمـلاك الا خضعا

٧٩

فكان مأوى الملتجى والمرتجي

فمـا أعـز شـأنه وأمنعـا(١)

واذا كان أئمة الهدى من عترة المصطفى الذين جعلهم الله حجة على البشر بعد النبوة يعلمون الأمة ما فيه مناجحهم ويأخذ بهم الى سعادة الدارين فلا يضنون بمن يتربى في حجورهم من ذكور واناث عن اضائة الطريق الموصل لهم الى الغايات السامية والتنكب عما لا يلائم خطتهم ويستحيل على من تغذى در الامامة تربى في حجور الطاهرين ودرس التعاليم الآلهية الاسفاف مع أهل المجون والأهواء.

والسيدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقت من أبيها سيد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الآلهية ودرست القيم الاسلامية وجارت في المجاهدة والرياضة جدتها الصديقة وعمتها العقيلة حتى حازت ارقى مراتب العبادة التي يرضاها رب العالمين ومن هنا منحها الإمام الحجة الواقف على نفسيات البشر ومقادير اعمالهم ارقى صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في طاعة الله تعالى وهي ( خيرة النساء ).

( من هذا وذاك صحبها ( ابي الضيم ) الى محل شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس وتخاذل القوم عن نصر الهدى واجتماعهم على ازهاق نفس ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واراقة ( دمه الطاهر ) وانهم قادمون على عصبه لا ترقب فيهم إلا ولا ذمة فلم تعبء بتلكم الأهوال التي يشيب لها فود الطفل تسليماً للقضاء وطاعة للرحمن عز شأنه.

__________________

١ - من قصيدة في الصديقة الزهراء للعلامة السيد محمد حسين الكيشوان النجفي.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المحسوسة الدالة على وجوده وقيامه بمهام الإمامة في غيبته(١) .

وتمثل التوقيعات إحدى وسائل اتصال الإمام بالمؤمنين وإيصال توجيهاته إليهم بحكم أوضاع عصر الغيبة التي حددت الاتصالات المباشرة، ومما ساعد على إتباع هذه الوسيلة وقوّة تأثيرها في المؤمنين تمهيد آبائهعليهم‌السلام لذلك باتباع هذا الاسلوب في وقت مبكر خاصةً في عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام الذي قضى شطراً كبيراً من مدة إمامته التي ناهزت خمسة وثلاثين عاماً في سجون العباسيين أو تحت مراقبتهم الشديدة وتعرضهم للأذى الشديد لأصحابه، فكان يتصل بالمؤمنين ويجيب على اسئلتهم الدينية ويتوددهم ويوصل إليهم توجيهاته عبر الرسائل التي لم تنقطع حتى عندما كان في السجن عبر وسائل مبتكرة واشخاص فشلت السلطات العباسية في التعرف على ولائهم للإمام الحقعليه‌السلام .

وقد اشتدّ العمل بهذا الاسلوب في عهد الامامين الهادي والعسكريعليهما‌السلام ، وذلك بسبب ازدياد المراقبة التي فرضتها السلطات العباسية عليهما إذ جعجعت بهما الى (سرّ من رأى) عاصمة الامبراطورية العباسية يومذاك والتي كانت أشبه ما تكون بالقلعة العسكرية، ولذلك كانت تسمى أيضاً «العسكر»، وجعلتهما أشبه ما يكونان بالسجينين في هذه القلعة. وإضافة لذلك فإن تأكيدهما على استخدام هذا الاسلوب جاء كتمهيد مباشر لغيبة ولدهما المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال تعويد المؤمنين على هذا الاسلوب دفعاً للشبهات وإتماماً للحجة ولكي يتقبلوا العمل بما يرد في الرسائل بتسليم إيماني راسخ، خاصةً وأن الإمامعليه‌السلام كان يستخدم الخط نفسه

ـــــــــــ

(١) راجع نماذجها في المجلد الثاني من كتاب معادن الحكمة. لمحمد بن الفيض الكاشاني وكتاب الصحيفة المهدية لوالده وغيرها من كتب الغيبة.

١٢١

الذي كان يستخدمه أبوه في رسائله وذلك تثبيتاً للايمان في قلوب المؤمنين به; وقطعاً للطريق على المستغلين(١) .

وقد جاء قسم من هذه التوقيعات جواباً على أسئلة من المؤمنين عبر السفراء الأربعة، والقسم الآخر كان بمبادرة من الإمام نفسه فيما يرتبط ببعض القضايا المهمة كحمايته للمؤمنين والوكلاء كما رأينا، أو فيما يرتبط بالكشف عن انحراف بعض الوكلاء أو زيف ادعاء منتحلي الوكالة، أو فيما يرتبط بالنص على تعيين السفراء وغير ذلك.

كما اشتملت على ما يحتاجه المؤمنون من معارف الإسلام الحق وأحكامه في مختلف شؤونهم الحياتية عقائدية وفقهية وتربوية وأخلاقية وأدعية وغير ذلك، وما تحتاجه الأمة في عصر الغيبة كالإرجاع الى الفقهاء العدول، والتأكيد على استمرار رعايته في غيبته وتحديد علائم ظهوره وغير ذلك مما سنتعرف على بعض نماذجه في فصل لاحق. كما أن في بعضها نماذج تطبيقية لاستنباط الحكم الشرعي من الأحاديث المروية تعويداً للأمة على العمل الإجتهادي في عصر الغيبة الكبرى(٢) ، وبعبارة جامعة يمكن القول إن هذه التوقيعات كانت من جهة وسيلة لقيادة المؤمنين وحفظ كيانهم; ومن جهة أخرى وسيلة لإكمال ما يحتاجونه في عصر الغيبة الكبرى من حقائق الإسلام وأحكامه.

ـــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي : ٢٢٠.

(٢) راجع مثلاً توقيعاته عليه‌السلام لمحمد بن عبدالله الحميري المروية في كتاب الاحتجاج : ٢ / ٤٨٣ وما بعدها.

١٢٢

لقاء الإمام المهديعليه‌السلام بأتباعه المؤمنين

روت المصادر الروائية المعتبرة الكثير من الروايات التي تتحدث عن التقاء المؤمنين بالإمام المهديعليه‌السلام في غيبته الصغرى، فلايكاد يخلو كتاب من الكتب المصنفة في تواريخ الأئمة أو الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ خاصة، من ذكر مجموعة من هذه الروايات. وقد روى الشيخ الصدوق عن محمد بن أبي عبد الله احصائية لعدد لقاءاته من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، فذكر ثمانية وستين شخصاً(١) وأوصل الميرزا النوري العدد الى (٣٠٤) اشخاص استناداً الى الروايات الواردة في المصادر المعتبرة(٢) وفيها المروية بأسانيد صحيحة، ومعظمهم التقوه في الغيبة الصغرى وبعضهم في حياة أبيهعليهما‌السلام وهذه الروايات تخص الذين رأوه وعرفوه وليس الذين لم يعرفوه.

ويُستفاد من هذه الروايات أنهعليه‌السلام كان يبادر الى الالتقاء بالمؤمنين في الكثير من الحالات ويظهر على يديه المعجزات والدلائل بحيث يجعلهم يؤمنون بأنه هو الإمام ويثبت لهم وجودهعليه‌السلام وإمامته، وهذا ما يصرح به لعيسى الجوهري الذي التقاه في سنة (٢٦٨ هـ) في صابر قرب المدينة المنورة حيث قال له في نهاية اللقاء وبعد ما أراه من الدلائل ما جعله على يقين من هويتهعليه‌السلام :

«يا عيسى ما كان لك أن تراني لولا المكذِّبون القائلون بأين هو؟ ومتى كان؟ وأين ولد؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأيِّ شيء نبّأكم؟ وأيَّ معجز أتاكم؟ أما والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع مارووه وقدَّموا عليه، وكادوه وقتلوه، وكذلك آبائي عليهم السَّلام ولم يصدِّقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجنِّ إلى ما تبيّن.

ياعيسى فخبّر أولياءنا ما رأيت، وإيّاك أن تخبر عدوَّنا فتسلبه. فقلت: يا مولاي ادع لي بالثبات فقال: لو لم يثبّتك الله ما رأيتني، وامض بنجحك راشداً. فخرجت أكثر

ـــــــــــ

(١) كمال الدين : ٢٤٢ .

(٢) النجم الثاقب : ٢ / ٤٤ ـ ٤٨ من الترجمة العربية.

١٢٣

حمداً لله وشكراً»(١) .

ويتضح من روايات التشرف بلقياه في الغيبة الصغرى أنه كان يقوم خلالها أيضاً بقضاء حوائج المؤمنين إقتفاءً لسنّة آبائهِ الطاهرينعليهم‌السلام ، كما كان يقوم خلالها بتوضيح بعض القضايا العقائدية المرتبطة بغيبته الكبرىعليه‌السلام ويقدم لهم الإرشادات التربوية والأدعية المسنونة المرتبطة بغيبته وتوثيق الارتباط بهعليه‌السلام فيها والتي تشتمل أيضاً على توضيح ما سيحققه الله على يديه عند ظهوره.

كما يُستفاد منها أن الكثير من المؤمنين كان يجتهدون في طلب لقياه ويسعون إليه خاصة في موسم الحج لما روي أنه يحضره كل سنة(٢) . وقد دلت بعض الروايات على وقوع الالتقاء به بالفعل في الموسم. كما كان البعض يلجأون الى السفراء الأربعة للفوز بذلك، فكان يسمح للمخلصين منهم بذلك. فمثلاً روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة فقال:

روى محمد بن يعقوب ـ رفعه عن الزُّهريّ ـ قال: طلبت هذا الأمر طلباً شاقاً حتى ذهب لي فيه مال صالح فوقعت إلى العمريّ وخدمته ولزمته وسألته بعد ذلك عن صاحب الزمان فقال لي: ليس إلى ذلك وصول فخضعت فقال لي: بكر بالغداة، فوافيت واستقبلني ومعه شابّ من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة بهيئة التجّار، وفي كمّه شيء كهيئة التجّار.

فلمّا نظرت إليه دنوت من العمريّ فأومأ إليَّ فعدلت إليه وسألته فأجابني عن كل ما أردت ثم مرَّ ليدخل الدار وكانت من الدُّور التي لا نكترث لها فقال العمريُّ: إذ أردت أن تسأل سل فإنّك لا تراه بعد ذا، فذهبت لأسأل فلم

ـــــــــــ

(١) تبصرة الولي : ١٩٧.

(٢) الكافي : ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩، الغيبة للنعماني : ١٧٥ .

١٢٤

يسمع ودخل الدّار، وما كلّمني بأكثر من أن قال: ملعون ملعون من أخّر العشاء الى أن تشتبك النجوم، ملعون ملعون من أخّر الغداة إلى أن تنقضي النجوم ودخل الدار»(١) .

إعلان انتهاء الغيبة الصغرى

قبل ستة أيام من وفاة السفير الرابع أخرج للمؤمنين توقيعاً من الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يعلن فيه انتهاء الغيبة الصغرى وعهد السفراء المعينين من قبل الإمام مباشرة إيذاناً ببدء الغيبة الكبرى ونص التوقيع هو:

«بسم الله الرحمن الرحيم، ياعلي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك ولا توص الى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك. فقد وقعت الغيبة التامة. فلا ظهور إلاّ بإذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وإمتلاء الارض جوراً. وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمَن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم»(٢) .

وكان هذا آخر توقيع صدر عن الإمام في الغيبة الصغرى وهو بمثابة إعلان عن تحقيق تحركه فيها للأهداف المرجوة منها كمرحلة تمهيدية للغيبة الكبرى، فقد ظهر للناس خلالها منهعليه‌السلام مباشرة أو عبر سفرائه من البينات ما يثبت وجوده وإمامته وصحة غيبته الكبرى. وقد تم تدوينها في هذه الفترة من قبل عدد من وجوه العلماء(٣) ، واتضح للاُمة انتفاع الناس من وجوده

ـــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي : ١٦٤، الاحتجاج للطبرسي: ٢ / ٢٩٨، وسائل الشيعة : ٣/١٤٧.

(٢) كمال الدين : ٥١٦، غيبة الطوسي : ٢٤٢.

(٣) يُلاحظ هنا مثلاً أن كتاب الكافي للشيخ الكليني رحمه‌الله وهو من أهم مصادر تراث أهل البيت عليهم‌السلام في المجالات العقائدية والفقهية تم تدوينه خلال فترة الغيبة الصغرى، فقد توفي الشيخ الكليني رحمه‌الله سنة٣٢٩ هـ وهي نفس سنة وفاة الشيخ السمري آخر السفراء أي في نفس سنة انتهاء الغيبة الصغرى.

١٢٥

خلالها ورعايته لمسيرتهم من خلف أستارها، وأمر فيه بالرجوع الى الفقهاء في الحوادث الواقعة وصرح بأن وجوده أمان لأهل الأرض(١) ، كما أن الجيل الذي كان قد عاصر زمان الأئمة كان قد انتهى وظهرت أجيال اعتادت عصر الغيبة وفكرة القيادة النائبة، لذلك فقد تأهلت الأمة للدخول في عصر الغيبة الكبرى(٢) .

ـــــــــــ

(١) كما صرح بذلك عليه‌السلام في توقيعه الذي أجاب فيه على أسئلة إسحاق بن يعقوب، راجع كمال الدين: ٤٨٣، غيبة الطوسي : ١٧٦.

(٢) تأريخ الغيبة الصغرى: ٦٣٠ ـ ٦٥٤ وفيه توضيحات مهمة بشأن نص التوقيع المهدوي الشريف للسمري.

١٢٦

الباب الرابع: وفيه فصول:

الفصل الأول: الغيبة الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام وأسبابها .

الفصل الثاني: إنجازات الإمام المهديعليه‌السلام في الغيبة الكبرى .

الفصل الثالث: تكاليف عصر الغيبة الكبرى .

الفصل الأول: الغيبة الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام وأسبابها

الاطار العام لتحرك الامامعليه‌السلام

إنّ الهدف العام لتحرك الإمام المهديعليه‌السلام في فترة الغيبة الكبرى، هو رعاية مسيرة الأمة الإسلامية وتأهيلها لظهوره والقيام بالمهمة الكبرى المتمثلة بإنهاء الظلم والجور وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كل أرجاء الأرض وتأسيس المجتمع التوحيدي الخالص كما سنفصل الحديث عن ذلك في الفصل الخاص بسيرته بعد ظهورهعليه‌السلام .

وبعبارة أخرى فإن الإطار العام لسيرته ـ عجل الله فرجه ـ في هذه الفترة هو التمهيد لظهوره بما يشتمل عليه ذلك من رعاية الوجود الإيماني وحفظه وتسديد نشاطاته وتطويره عبر الأجيال المتعاقبة التي يعاصرها، وحفظ الرسالة الخاتمة من التحريف إضافة الى القيام بالميسور من مهام الإمامة الأخرى وإن كان ذلك بأساليب أكثر خفاءً مما كان عليه الحال في الغيبة الصغرى، وبذلك يتحقق الانتفاع من وجودهعليه‌السلام كما ينتفع بالشمس إذا غيّبها السحاب.

وهذا الهدف العام لسيرته في هذه الغيبة الكبرى نلاحظه بوضوح فيما ورد بشأن تحركه في هذه الغيبة.

وقبل التطرق لنماذج من هذا التحرك، نلقي نظرة عامة على بعض ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة بشأن علة الغيبة وأسرارها، إذ إن من الواضح أن التمهيد للظهور يكون بإزالة الأسباب التي أدت للغيبة، لذا فإن التعرف على أسباب الغيبة يلقي الأضواء على طبيعة تحرك الإمام المهديعليه‌السلام خلالها.

١٢٧

علل الغيبة في الأحاديث الشريفة

لقد تناولت مجموعة من الأحاديث الشريفة علل وقوع الغيبة. نذكر أولاً نماذج منها استناداً الى العلل التي تذكرها: مشيرين الى أن لكل نموذج نظائر عديدة رواها المحدثون بأسانيد متعددة:

١ ـ روى سدير عن أبيه عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «ان للقائم منّا غيبة يطول أمدها فقلت له: يابن رسول الله ولم ذاك قال: لأن الله عز وجل أبى إلاّ أن يجعل فيه سنن الأنبياءعليهم‌السلام في غيبا تهم، وانه لابدّ له يا سدير من استيفاء مدة غيباتهم، قال الله تعالى: (لتركبنّ طبقاً عن طبق)، أي سنن مَن كان قبلكم(١) .

وروى عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام يقول: «إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له: ولم جُعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدم من حجج الله تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضرعليه‌السلام إلاّ بعد افتراقهما، يابن الفضل ان هذا الأمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا ان الله عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها

ـــــــــــ

(١) اثبات الهداة: ٣ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

١٢٨

حكمة، وان كان وجهها غير منكشف»(١) .

٢ ـ ومنها مارواه زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: «إن للقائم غيبة قبل ظهوره، قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف ـ وأومى بيده الى بطنه، قال زرارة يعني: القتل»(٢) .

ومنها ماروي عن عبد الله بن عطا، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «قلت له إن شيعتك بالعراق كثيرة والله مافي أهل بيتك مثلك; فكيف لا تخرج؟ قال: فقال: يا عبد الله بن عطاء! قد اخذت تفرش اذنيك للنوكى، إي والله ما أنا بصاحبكم، قال: قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من عمى على الناس ولادته; فذاك صاحبكم; إنّه ليس منا احد يشار إليه بالاصبع ويمضغ بالالسن إلاّ مات غيظاً أو رغم أنفه»(٣) .

٣ ـ ومنها ما روي عن الحسن بن محبوب بن ابراهيم الكرخي قال:

«قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام أو قال له رجل: أصلحك الله ألم يكن علي قوياً في دين الله؟ قال: بلى قال: فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يمنعهم ومامنعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل منعته، قال: قلت؟ وأيّ آية هي؟ قال: قول الله عز وجل: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً اليماً). انه كان لله عز وجل ودائع مؤمنون في اصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن عليّ ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرجت الودائع ظهر على مَن ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عز وجل فاذا ظهرت ظهر على مَن ظهر فقاتله»(٤) .

٤ ـ ومنها ماروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «والله لا يكون الذي تمدون

ـــــــــــ

(١) كمال الدين: ٤٨١، علل الشرائع: ١/ ٢٤٥.

(٢) علل الشرائع: ١ / ٢٤٦، غيبة النعماني: ١٧٦، غيبة الطوسي: ٢٠١.

(٣) الكافي: ١ / ٣٤٢، غيبة النعماني: ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٤) علل الشرائع: ١٤٧، كمال الدين: ٦٤١.

١٢٩

إليه أعناقكم حتى تميّزوا وتمحّصوا، ثم يذهب من كل عشرة شيء ولا يبقى منكم إلاّ الأندر، ثم تلا هذه الآية: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين»(١) .

٥ ـ ومنها ماروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال:

«دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا، إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عز وجل: (والعاقبة للمتقين)»(٢) .

٦ ـ ومنها ما روي عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال ـ في جواب من سأله عن علة الغيبة ـ : «لئلا يكون في عنقه بيعة اذا قام بالسيف»(٣) .

وهذا المعنى مروي عن كثير من الأئمة بألفاظ متقاربة، منها ما روي عن المهديعليه‌السلام نفسه أنه قال في توقيعه الى اسحق بن يعقوب في جواب أسئلته: «... وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم). إنه لم يكن أحد من آبائيعليهم‌السلام إلاّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي»(٤) .

٧ ـ ويقول ـ عجل الله فرجه ـ في رسالته الأولى للشيخ المفيد: «نحن، وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، مادامت دولة الدنيا للفاسقين»(٥) .

٨ ـ ويقولعليه‌السلام في رسالته الثانية للشيخ المفيد: «ولو أن أشياعنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالحمد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا،

ـــــــــــ

(١) قرب الأسناد للحميري: ١٦٢ وعنه في بحار الانوار: ٥٢/ ١١٣.

(٢) الآية في سورة الاعراف: ١٢٨، والحديث في غيبة الطوسي: ٢٨٢.

(٣) علل الشرائع: ١/ ٢٤٥، عيون الأخبار الرضا: ١ / ٢٧٣

(٤) كمال الدين: ٤٨٣، غيبة الطوسي: ١٧٦.

(٥) معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٣، بحار الانوار: ٥٣/ ١٧٤.

١٣٠

ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم...»(١) .

هذه نماذج لابرز الأحاديث الشريفة المروية بشأن علل الغيبة، والأسباب التي تذكرها فيها بعض التداخل، نشير إليها ضمن النقاط الثمانية التالية:

١ ـ استجماع تجارب الأمم السابقة

إن الحكمة الإلهية في تدبير شؤون خلقه تبارك وتعالى اقتضت غيبة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ للحكمةِ نفسها التي اقتضت غيبات الأنبياء في الاُمم السابقة، لأن ما جرى في هذه الاُمم مجتمعة يجري على الاُمة الاسلامية صاحبة الشريعة الخاتمة. فمثلما اقتضى تحقيق أهداف الرسالات السماوية غيبة بعض أنبيائها بدليل عدم استعداد الاُمم السابقة لتحقق هذه الأهداف، كذلك الحال مع الأمة الإسلامية فإن تحقق أهداف شريعتها الخاتمة اقتضى غيبة خاتم أوصيائها الإمام المهديعليه‌السلام حتى تتأهل بشكل كامل لتحقق هذه الأهداف، وواضح أن هذا السبب مجمل بل إنه يشكل الإطار العام لعلل الغيبة التي تذكرها الطوائف الأخرى من الأحاديث الشريفة.

والملاحظ في هذه الطائفة من الأحاديث أنّها تعتبر أمر الغيبة من الأسرار الإلهية التي لا تتضح إلاّ بعد انتهاء الغيبة وظهور الإمام والتي لم يُؤذن بكشفها قبل ذلك، الأمر الذي يشير الى أن ما تذكره الأحاديث الشريفة لا يمثل كل العلل الموجبة للغيبة بل بعضها وثمة علل أخرى ليس من الصالح كشفها قبل الظهور ـ للجميع على الأقل ـ، ولكن الإيمان بها فرع الإيمان بحكمة الله تبارك وتعالى وأنه الحكيم الذي لا يفعل إلاّ ما فيه صلاح عباده.

ـــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٢/٣٢٥ وعنه في معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٦ وبحار الأنوار: ٣٥/ ١٧٦.

١٣١

٢ ـ العامل الأمني

مخافة القتل كما جرى مع غيبات أنبياء الله موسى وعيسى وغيرهمعليهم‌السلام ، والأمر في غاية الوضوح مع الإمام المهديعليه‌السلام الذي كانت السلطات العباسية تسعى سعياً حثيثاً لقتله كما رأينا سابقاً. وهذا السبب يصدق بشكل كامل على أصل وقوع الغيبة وفي الغيبة الصغرى على الأقل.

ومعلوم أن المقصود هو حفظ وجود الإمام لكونه حجة الله على خلقه ولكي لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته وهاد بأمره إليه تبارك وتعالى.

أما ما هو سبب اختصاص الغيبة بالإمام الثاني عشر لحفظ وجوده مع أن أباءه الطاهرينعليهم‌السلام كانوا أيضاً حجج الله على خلقه وقد تعرّضوا أيضاً للمطاردة والاغتيال فلم يمت أي منهم إلاّ بالسيف أو السم(١) ؟

فالجواب واضح، فهو ـ عجل الله فرجه ـ آخر الأئمة المعصومينعليهم‌السلام وهو المكلف بإقامة الدولة الإسلامية العالمية وعلى يديه يحقق الله عز وجل وعده بإظهار الإسلام على الدين كله وتوريث الأرض للصالحين، فلابد من حفظ وجوده حتى ينجز هذه المهمة. يُضاف الى ذلك أن السلطات العباسية كانت عازمة على قتله وهو في المهد لعلمها بطبيعة مهمته الإصلاحية العامة.

أما في الغيبة الكبرى فهذه العلة تبقى مؤثرة مالم تتوفر جميع العوامل اللازمة لإنجاز مهمته مثل توفر الأنصار وغير ذلك، لأنه سيبقى غرضاً لسهام مساعي حكام الجور لإبادته قبل أن ينجز هذه المهمة الإصلاحية الكبرى كما جرى على آبائِهِعليهم‌السلام . وهذا الأمر واضح للغاية ويفهم من توضيحات الإمام الباقرعليه‌السلام لعبد الله بن عطاء في الحديث الثاني من هذه الطائفة.

ـــــــــــ

(١) اعتقادات الصدوق: ٩٩ وعنه في اعلام الورى للطبرسي: ٢/٢٩٧ ب٥ المسألة الاُولى من المسائل السبع في الغيبة، الفصول المهمة: ٢٧٢، .

١٣٢

٣ ـ السماح بوصول الحق للجميع لخروج ودائع الله

إنّ إخراج ودائع الله، المؤمنين من أصلاب قوم كافرين يشكّل عاملاً آخر، ولعل المقصود منه إعطاء الفرصة لوصول الدين الحق للجميع كي تتضح لهم أحقية الرسالة الإسلامية التي يحملها الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ وبالتالي تبني أشخاص ينتمون الى المدارس الضالة والأخلاف المنحرفين، للأهداف المهدوية والانتقال بهم الى صفوف أنصار المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ .

وواضح أن هذه العلة تفسر تأخير ظهورهعليه‌السلام ، بصورة واضحة، مباشرة، وبالتالي تفسّر بصورة غير مباشرة ـ غيبته الى حين توفر هذا العامل من العوامل اللازمة لظهوره ـ عجل الله فرجه ـ، باعتبار أنّ ظهوره مقترن بالبدء الفوري في تنفيذ مهمته الإصلاحية الكبرى، التي تتضمن نزول العذاب الأليم على المنحرفين.

٤ ـ التمحيص الاعدادي لجيل الظهور

إنّ التمييز والتمحيص الإعدادي للمؤمنين بهعليه‌السلام يتحقّق من خلال الأوضاع الصعبة الملازمة لغيبتهعليه‌السلام ، ومعلوم أن الإيمان به وبغيبته هو بحدِّ ذاته عامل مهمّ في تمحيص الإيمان وتقوية الثابتين عليه لأنه يمثل مرتبة سامية من مراتب التحرر من أسر التصديق بالمحسوسات المادية فقط. ولذلك كان الإيمان بالغيب اُولى صفات المتقين كما تذكره الآيات الأولى من سورة البقرة، وقد طبقت الأحاديث الشريفة هذه الصفة على الإيمان بالإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في غيبته باعتباره من أوضح مصاديقها لا سيما إذا لاحظنا طول أمدها(١) .

ولذلك نلاحظ في الأحاديث الشريفة مدحاً بالغاً لمؤمني عصر الغيبة الثابتين على الالتزام بالشريعة السمحاء والنهج المهدوي رغم التشكيكات العقائدية الناتجة عن عدم ظهوره المشهود(٢) .

ـــــــــــ

(١) كفاية الأثر ٥٦، ينابيع المودة: ٤٤٢.

(٢) راجع مثل ماروي عن الكاظم عليه‌السلام في وصف المؤمنين الثابتين في عصر الغيبة: «اُولئك منّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم وهم والله معنا في درجتنا يوم القيامة». كمال الدين: ٣٦١، كفاية الأثر: ٢٦٥.

١٣٣

واستناداً الى هذه العلة نفهم أن الغيبة عامل إعداد لأنصار المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال ترسيخ هذا الإيمان بالغيب الذي يتضمن التحرر من أسر الماديات والذي يؤهلهم لنصرة المهدي في إنجاز مهمته الإصلاحية الكبرى.

٥ ـ اتضاح عجز المدارس الاخرى

إنّ إثبات عجز المدارس الأخرى عن تحقيق السعادة والكمال المنشود للمجتمع البشري، فيه تأهيل واضح للمجتمع البشري عموماً للتفاعل الإيجابي مع المهمة الإصلاحية الكبرى للإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ، فهو يزيل العقبات الصادّة عن هذا التفاعل المطلوب لتحقق الأهداف الإلهية خاصة فيما يرتبط بالانخداع بشعارات المدارس الأخرى المادية أو ذات الأصول السماوية والمنحرفة عنها بمرور الزمن .

٦ ـ حفظ روح الرفض للظلم

إنّ الامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فيزيل حكام الجور وحاكمية الفساد بالسيف بعد إتمام الحجة كاملة على المنحرفين خلال الغيبة الكبرى وما قبلها كما أشرنا الى ذلك في النقطة السابقة. فظهورهعليه‌السلام مقترن بالتحرك الجهادي الحاسم، فلا هدنة مع المنحرفين، ومن هنا يلزم توفر هذه الصفة في أتباعه أيضاً، ولعل هذا هو المقصود من تعبير الأحاديث الشريفة «لئلا يكون في عنقه بيعة لطاغية».

وواضح أن هذا الدور الحاسم يجعل تكالب الظالمين عليه أشد إذا كان وجوده ظاهراً قبل تحركه الإصلاحي الشامل وقبل توفر الظروف المناسبة لتحركه والعدد اللازم من الأنصار، فهو في هذه الحالة إما أن يهادن الظلمة ويجمّد أي نشاط له ولو كان غير حاسم كما كان حال آبائهعليهم‌السلام ، وفي ذلك أخطار كثيرة مثل إضعاف روح الرفض للظلم لدى المؤمنين وهم يرون أن إمامهم المكلف بإزالة الظلم بصورة كاملة صامت تجاهه، فضلاً عن أن هذا الموقف السلبي لن يوقف كيد الظالمين ومساعيهم المستمرة لقتله تخلصاً من هاجس دوره المرتقب; وإما أن يتحرك لإنجاز مهمته قبل توفر العوامل اللازمة لنجاحها وهذا الأمر يعني مقتله قبل أن يحقق شيئاً من مهمته الكبرى.

١٣٤

لذا فلابد من تجنب الظهور قبل اكتمال الأوضاع اللازمة لتحركه الإصلاحي الأكبر والاستتار في اسلوب الغيبة بما يمكنه من الاستمرار في نشاطه على صعيد توفير العوامل اللازمة لنجاح مهمته الكبرى عند الظهور.

٧ ـ صلاح أمره وأمر المؤمنين به

إن في الغيبة صلاح أمرهعليه‌السلام وأمر المؤمنين به، وهذه علة مجملة تحدد أحد أوجه الحكمة الإلهية في الأمر بالغيبة بأن في ذلك صلاح أمر الإمامة; ولعله بمعنى أن الغيبة هي أفضل اسلوب ممكن لقيام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ بمهام الإمامة في ظل الأوضاع المضادة لأهداف الثورة المهدوية كما تقدم في الفقرة السادسة، وبأن فيها صلاح شيعته والمؤمنين به; ولعله بمعنى فتح آفاق التكامل والتمحيص في صفوفهم وأجيالهم المتلاحقة كما تقدم في الفقرة الرابعة حتى يُعد الجيل القادر ـ كماً وكيفاً ـ على الاستجابة لمقتضيات الثورة المهدوية الكبرى، أو أن يكون المقصود صلاحهم في حفظ وجودهم من الإبادة قبل تحقق المهمة الإصلاحية المطلوبة أو عجزهم عن نصرة الإمام بالصورة المطلوبة عند قيامه ـ دونما غيبة ـ كما جرى في موقف المسلمين من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام وقبله من خلافة أخيه الإمام الحسن وأبيه أمير المؤمنين ـ سلام الله عليهم ـ .

٨ ـ عدم توفّر العدد المطلوب من الأنصار

والعامل الأخير هو عدم توفر العدد اللازم كماً والمناسب كيفاً من الأنصار لهعليه‌السلام في مهمته الإصلاحية الكبرى التي تحتاج الى عدد كاف من الأنصار وعلى مستويات عالية من الإخلاص للشريعة المحمدية وأهدافها والعلم بها وبمكائد أعدائها بحيث يمتلكون التجربة الجهادية اللازمة لخوض حركة الصراع الحاسمة مع الكفر والشرك والفسق والنفاق. وهذه العلة مكملة للعلة المذكورة في الفقرة الرابعة.

١٣٥

الفصل الثاني: إنجازات الإمام المهديعليه‌السلام في غيبته الكبرى

كما أشرنا في مقدمة الحديث فإن سيرة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ وتحركاته في غيبته الكبرى تتمحور حول هدف التمهيد لظهوره والمساهمة في ازالة العلل الموجبة لغيبته، وعليه يمكننا القول بأنّه يعمل في سبيل ترشيد الأمة واستجماعها لخبرات أجيالها المتعاقبة; وفي سبيل إيصال الحق الى الجميع ودعم وتأييد العاملين من أجل نشر الإسلام النقي وحفظه، وهو يرعى عملية التمييز والتمحيص الإعدادي لجيل الظهور، ويكشف فشل المدارس الأخرى وعجزها عن تحقيق السعادة المنشودة للبشرية، ويساهم في حفظ روح الرفض للظلم ويحبط المساعي لقتلها. إنهعليه‌السلام يقوم بكل ذلك ولكن بأساليب خفية غير ظاهرة قد يتضح الكثير منها عند ظهوره كما يتضح دورهعليه‌السلام في الكثير من الحوادث الواقعة التي تصب في صالح تحقق الأهداف المتقدمة والتي لم تُعرف أسباب وقوعها أو أنّ ما عُرض من الأسباب لم يكن كافياً في تفسيرها.

رعايته للكيان الإسلامي

يقول الإمام المهديعليه‌السلام في رسالته الاُولى للشيخ المفيد: «... فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذ جنح كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء وأصطلمكم الأعداء»(١) .

إن الإمام يتابع أوضاع المؤمنين ويحيط علماً بالتطورات التي تحصل لهم ومحاولات الاستئصال والإبادة التي يتعرّضون لها ويتخذ الإجراءات اللازمة لدفع الأخطار عنهم بمختلف أشكالها، وهذه الرعاية هي أحد العوامل الأساسية التي تفسر حفظ أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام واستمرار وجودهم وتناميه على مدى الأجيال على الرغم من شدة الحملات التصفوية التي عرضوا لها والإرهاب الفكري الحاد الذي مورس ضدهم لقرون طويلة. فهذه التصفيات الجسدية والمحاربة الفكرية الواسعة التي شهدها التأريخ الإسلامي كانت قادرة ولا شك على إنهاء وجودهم جسدياً وفكرياً لولا الرعاية المهدوية.

ـــــــــــ

(١) الاحتجاج: ١/٣٢٣ وعنه في معادن الحكمة: ٢/ ٣٠٣.

١٣٦

حفظ الاسلام الصحيح وتسديد العمل الاجتهادي

إنّ الإمام المهديعليه‌السلام يقوم أيضاً في غيبته الكبرى بحفظ الإسلام النقي الذي يحمله مذهب أهل البيتعليهم‌السلام . وهذه المهمة من المهام الرئيسة للإمامة، ومن مظاهر قيامهعليه‌السلام بها في غيبته تسديد العمل الاجتهادي للعلماء والفقهاء ومنع إجماعهم على باطل بطريقة أو باُخرى: «لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع مَن لا يستحيل منه الغلط والنسيان، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان. وإذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلاّ بوجود معصوم يكون من ورائهم، شاهد لأحوالهم، عالم بأخبارهم، إن غلطوا هداههم، أو نسوا ذكّرهم أو كتموا، علم الحق من دونهم.

وإمام الزمانعليه‌السلام وإن كان مستتراً عنهم بحيث لا يعرفون شخصه، فهو موجود بينهم، يشاهد أحوالهم ويعلم أخبارهم، فلو انصرفوا عن النقل، أو ضلّوا عن الحق لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ومنع منه الى أن يبين الحق وتثبت الحجة على الخلق»(١) .

والمقصود من الظهور هنا ليس الظهور العام بل المحدود لبعض العلماء وبالمقدار اللازم لتبيان الحق، وهذه من القضايا التي بحثها العلماء في باب الإجماع، فمثلاً يقول العلاّمة السيد محمد المجاهد في كتابه مفاتيح الأصول: «... البناء على قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الإمام فإنها تقضي ردهم لو اتفقوا على الباطل فإنه من أعظم الألطاف، فإن امتنع حصوله بالطرق الظاهرة فبالأسباب )الخفية( إن وجود الإمامعليه‌السلام في زمن الغيبة لطف قطعاً; فيثبت فيه كل ما أمكن; لوجود المقتضي وانتفاء المانع. وإن هذا اللطف قد ثبت وجوبه قبل الغيبة فيبقى بعده بمقتضى الأصل )إضافة الى( أن النقل المتواتر قد دل على بقائه.

وقد ورد ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام بألفاظ ومعان متقاربة، فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لكل بدعة يُكاذب بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه ويعلن الحق ويرد كيد الكائدين«، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أهل البيت «أن فيهم في كل خلف عدولاً ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين«.

ـــــــــــ

(١) كنز الفوائد للعلامة الكراجكي: ٢/ ٢١٩.

١٣٧

وفي المستفيض عنهمعليهم‌السلام «إن الارض لا تخلو إلاّ وفيها عالم اذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم الى الحق وإن نقصوا شيئاً تمم ذلك ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم يفرقوا بين الحق والباطل».

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام في عدة طرق: «اللَّهُمَّ إنك لا تخلي الارض من قائم بحجة إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حججك وبيناتك..»، وفي بعضها: «لابد لأرضك من حجة لك على خلقك يهديهم الى دينك ويعلمهم علمك لئلا تبطل حجتك ولئلا يضل تُبّع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إما ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم أو مترقب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم فإنّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فيهم، بها عاملون».

وفي تفسير قوله تعالى:( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) )ورد (في عدّة روايات: «أن المنذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كل زمان إمام منا يهديهم الى ماجاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »، وفي بعضها )عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في الآية(: «والله ماذهبت منا ومازالت فينا الى الساعة».

وعن أبي عبد الله ) الامام الصادقعليه‌السلام (قال: «ولم تخل الارض مُنذ خلقها الله تعالى من حجة له فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولن تخلو الى أن تقوم الساعة ولولا ذلك لم يعبد الله، قيل: كيف ينتفع الناس بالغائب المستور؟! قالعليه‌السلام : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب».

وعن الحجة القائمعليه‌السلام قال: «وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب، وإني لأمان أهل الارض كما أن النجوم أمان أهل السماء».

والاخبار في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، ومقتضاها تحقق الرد عن الباطل والهداية الى الحق; من الإمام في زمن الغيبة والمراد حصولها بالاسباب

١٣٨

الخفية كما يشعر به حديث السحاب )الانتفاع بالإمام كالانتفاع بالشمس إذا غيبها السحاب( دون الظاهرة فانها منتفية بالضرورة، ولا ينافي ذلك تضمن بعضها الاعلان بالحق فانه من باب الاسناد الى السبب...»(١) .

تسديد الفقهاء في عصر الغيبة

وكما أشرنا عند الحديث عن نظام «السفارة والنيابة الخاصة» في الغيبة الصغرى، فإن هذا النظام كان تمهيداً لإرجاع الأمة في الغيبة الكبرى الى الفقهاء العدول كممثلين لهعليه‌السلام ينوبون عنهم كقيادة ظاهرة أمر بالرجوع إليها في توقيعه الصادر الى إسحاق بن يعقوب: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم».

وقد أشار الأئمةعليهم‌السلام من قبل الى هذا الدور المهم للعلماء في عصر الغيبة الكبرى، فمثلاً روي عن الامام علي الهاديعليه‌السلام أنه قال: «لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمكم عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومَردته، ومِن فخاخ النواصب; لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دينه. ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله»(٢) .

والمستفاد من قولهعليه‌السلام «فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم» أن الفقهاء العدول يمثلون في الواقع واسطة بين الاُمة والإمام ـ عجل الله فرجه ـ الأمر الذي يعني أن يحظى بعضهم ـ وخاصةً الذين يحظون بمكانة خاصة في توجيه الاُمة ودور خاص فكري أو سياسي في قيادتها ـ بتسديد من قبل

ـــــــــــ

(١) مفاتيح الأصول: ٤٩٦ ـ ٤٩٧، باب الاجماع.

(٢) الاحتجاج: ٢/٢٦٠ .

١٣٩

الإمام ـ عجل الله فرجه ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبالخصوص في التحركات ذات التأثير على مسيرة الأمة وحركة الإسلام، فهو يتدخل بما يجعل هذه التحركات في صالح الأمة أو بما يدفع عنها الاخطار الشديدة الماحقة، وقد نقلت الكثير من الروايات الكاشفة عن بعض هذه التدخلات والتي لم تنقل أو لم تدون أكثر بكثير. وقسم منها يكون التدخل من قبل الإمام بصورة مباشرة وقسم آخر يكون بصورة غير مباشرة عبر أحد أوليائه(١) .

أصحاب الإمامعليه‌السلام في غيبته الكبرى

يُستفاد من عدد من الأحاديث الشريفة أن للامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ جماعة من الأولياء المخلصين يلتقون به باستمرار في غيبته الكبرى ومن أهل كل عصر، وتصرح بعض الأحاديث الشريفة بأن عددهم ثلاثين شخصاً، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في الغيبة بأسانيدهما عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولابد له في غيبته من عزلة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة»(٢) ، وروى الكليني بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والاُخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه إلاّ خاصة شيعته والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصة مواليه»(٣) ، وتصرح بعض الأحاديث الشريفة بأن الخضرعليه‌السلام من مرافقيه في غيبته(٤) . ولعلهعليه‌السلام يستعين بهؤلاء الأولياء ـ ذوي المراتب العالية في الاخلاص ـ في

ـــــــــــ

(١) جمع الشيخ كريمي الجهرمي مجموعة من هذه الروايات في كتاب ترجمه للعربية تحت عنوان: «رعاية الامام المهدي للمراجع والعلماء الاعلام» منشورات دار ياسين البيروتية والكتاب مطبوع بالفارسية في قم.

(٢) الكافي: ١/ ٣٤٠، غيبة النعماني: ١٨٨، تقريب المعارف للحلبي: ١٩٠.

(٣) الكافي: ١/ ٣٤٠، غيبة النعماني: ١٧٠، تقريب المعارف: ١٩٠.

(٤) كمال الدين: ٣٩٠ وعنه في اثبات الهداة: ٣/ ٤٨٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154