جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51002
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51002 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جذور الشر

أحمد عبد الله

١

الإهداء

إلى جميع الذين نالهم الشرّ في بلادنا وما أكثرهم

أهدي هذا الجهد

أحمد

٢

المقدمة

وضحكت وأنا أتابع هؤلاء المزورين الجدد، وهم يجربون حظهم في تمرير خدعة كبيرة هذه المرة، لا تقف عند شخص أو أشخاص محدّدين وإنّما تتجاوزهم لتجعل من هذه الأزمة التي نعيشها منذ زمن طويل، وكأنها ظاهرة شاذة لا تمثل سماحة المسلمين ولا (ديمقراطيتهم)، أو سحابة صيف لن تلبث، مع شيء من الصبر والأناة، أن تنقشع عن صفاء عذب رقيق يعيدنا إلى الحياة السابقة من عصور الإسلام الزاهية؛ حيث الحكم لا يقوم إلاّ على الشورى والعدل واحترام الإنسان والرضا المتبادل بين الحاكم والمحكوم.

هذا هو ما يحاولون تسويقه الآن، وهم على علم، ربما أكثر مني بالمآسي التي عاشها المسلمون في ظل تلك العصور، والمظالم التي تعرضوا لها. وإن ما يجري اليوم ليس إلا امتداداً لما كان قبل اليوم في عصور الإسلام (الزاهية) تلك.

ضحكت، على قلة ما يضحك الإنسان في هذه الأيام، فهؤلاء الأغبياء لا يعلمون أن مزورين مثلهم قد سبقوهم على امتداد عصور طويلة قديمة أفرضوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث مقابل ثمن، كهذا الذي قبضوه، سعت إلى تحصين الحاكم ومنعت حتى التفكير بمحاسبته مهما فعل، وجعلت من الطاعة له مساوية للإسلام، ونزعها لأي سبب خروجاً على الإسلام، لما في ذلك من شق لـ (عصا) المسلمين وتمزيق لوحدتهم. فكأن وحدة المسلمين وقوتهم لا تقوم إلاّ بظلم الحاكم للمحكوم واضطهاده وسلخ جلده، دون أن يكون لهذا الحق في أن يصرخ وأن يقاوم.

هذا هو التأريخ الذي جاء المزورون الجدد ليزوروه ثانية.

ولا أراني مغالياً إذا قلت إنني لا أعرف تأريخاً أكثر تزويراً وتشويهاً من تأريخنا، فأنت لا تقرأ تأريخاً وإنما تقرأ ما يريده الحكام أن يكون تأريخاً.

الأزمة التي نعيشها ليست سحابة صيف، بل سحاباً متراكماً مظلماً كثيفاً يتصل صيفه بشتائه وماضيه بحاضره، ورثناه منذ زمن بعيد، عاشه آباؤنا قبلنا فيما يسمى كذباً: بالعصور الإسلامية الزاهية.

٣

وإذا كان هناك من اختلاف بين عصر وعصر، فهو اختلاف في درجة ما يتعرض له المسلمون من قهر واستبداد.

هذا إذن الوهم الذي عليّ أن أزيحه من طريقنا نحو بناء مستقبل زاهر سعيد، لا تزوير فيه ولا كذب ولا خداع، ننام مستريحين في ظله؛ حتى تنقشع غمامة الصيف عن مستقبل زاهر سعيد كما يريد أن يسخر منا هؤلاء المزورون الجدد.

وسيقولون: مالك وللتأريخ تنبشه: تعيب خلفاءنا ورموزنا وقيمنا، تريد أن تشعل فتنة نائمة، لعن الله من أيقظها.

وأضحك مرة أخرى، وشرُّ البلية ما يضحك. أضحك كثيراً وأنا أسمع ذاك.

لكم وددت أن تكون الفتنة نائمة. إذن سأكون أوّل من يلعن مشعلها ومثيرها ومن يشارك ومن يساعد على إشعالها وإثارتها.

لكن الأمر ليس كما يقولون، بل خلاف ما يقولون، فلم يكن تأريخنا مجرد ماضٍ وانقضی بأحزانه وآلامه، ولا أقول بأفراحه، فلم يكن فيه من فرح إلا للحكام وبطانتهم. وما أحسب الادعاء بغير ذلك إلا تزويراً جديداً يضاف الى تزوير قديم، وتهمة يطلقونها ضد كل من يريد أن يزيل القناع من المجرمين، ليحصن الحاضر، أو المستقبل على الأقل؛ حتى لا نستعبد مجدداً، حتى لا نتعرض لما تعرضت له أجيال طويلة، طويلة جداً، من ظلم وتعسّف واضطهاد، باسم الدين مرة، وطاعة أولي الأمر مرة، والخوف على الإسلام مرة، وحتى نحمي أجيالنا القادمة ممن يمتهنهم ويسلبهم الحياة أو يفرض عليهم حياة يريدها هو ولا يريدونها، حياة ذليلة متخلفة لا يمثلون فيها إلا دور المستعبد الضعيف.

لوددت أن يكونوا صادقين، وإننا نتحدث، حين نتحدث، عن تأريخ وماضٍ، إذن لصرفت قلمي إلى ما هو أولى أن يصرف إليه، وفي الحياة الكثير مما يصرف القلم إليه.

٤

ليت الأمر كان كذلك أو بعض ذلك. فالتأريخ الذي يتكلمون عنه، هو هذا الحاضر الذي نعيش مآسيه وآلامه وأحزانه اليوم.إننا نعيش التأريخ. إن تأريخنا هو حاضرنا أو أن حاضرنا هو تأريخنا وماضينا نعيشه بکل مآسيه وبکل آلامه وأحزانه وأوجاعه، لا أدري إن كنا انتقلنا إليه أم انتقل هو إلينا. وما أحاوله الآن هو أن أدرك هذا الحاضر إن استطعت، فأنقذ ما أقدر على إنقاذه منه. أو إن فاتني ذلك أو تعذر، فلأسرع إلى المستقبل الذي لن يكون في مأمن من هذا الماضي الذي سيزحف إليه بمخالب وأنياب ليشوهه ويسممه ويفسده كما فعل بحاضرنا.

إننا، ودون جميع الأمم، نعيش التأريخ، نتخاصم ونتقاتل فيه. ليتنا أمّة بلا تأريخ أو أمّة لا تعيش التأريخ!

أرأيت إلى هذا الماضي الذي لا يريد أن يتركنا؟ إنه يلاحقنا، يلاحقنا بكل تخلّفه وتعصّبه وجنونه، حتى فيما كان يبدو وكأنه خارج حدود الخلاف أو غير قابل للخلاف.

أرأيت إلى الثورات في تونس ومصر وليبيا؟ كانت الأقلام بنادق ومدافع وأناشيد للثوار المنتفضين ضد الطغاة المستبدين الظالمين.

لكن ما للثورة في البحرين وحدها تفقد (ثوريتها) وللثوار في البحرين وحدهم يفقدون (ثوريتهم) ليتحولوا إلى مجرد... فتتوقف الأقلام وتسكت الأصوات. بل ليتها توقفت وسكتت. لقد راحت تهاجم الثورة والثوار، فتصفهم بأي شيء إلا بما هو وصفهم.

لماذا؟!

ألأن الثوار في البحرين كانوا شيعة؟! وماذا في ذاك مما يعيب؟!

ولا قبل أنهم كانوا كلهم شيعة. فهل كان عليهم أن يسكتوا على الظلم ويقبلوا به ويستسلموا له؟! أكان الظلم هنا غير الظلم هناك؟! أكانوا هواة قتل تحت عجلات المدافع والدبابات؟! أكانت الثورة يوماً هواية يمارسها الثائرون؟!

أكانوا سيثورون لو لم يسلبهم النظام إنسانيتهم؟! لو سار بالعدل فيهم؟!

والله لقد طال بهم الظلم حتى خافوا أن يكونوا جزءاً منه أو أن يكون جزءاً منهم، وأن ستلعنهم الأجيال أن لم يثوروا.

لم اختلف الموقف منهم؟

٥

كيف تحولت ثورتهم إلى فوضى وتخريب، وتحولوا إلى مخربين ومجرمين، وكانت هذه أوصاف الحكام في تونس ومصر وليبيا... وفي البحرين وفي غير البحرين أيضاً؟!

أهناك غير التأريخ أفسر به اختلاف المواقف بين البحرين وبين سواها؟

أهناك غير التأريخ الذي ما نزال نعيشه، لم يتركنا ولم نتركه؟

أرأيت؟! حتى الثورة ضد الظلم والظالمين تغيرت وتغير اسمها بين بلد وبلد، فلم يعد الظلم في البحرين، ظلماً كما هو في غيرها؟!

ألم أكن محقاً حين قلت: ليتنا أمة بلا تأريخ! ليت هذا التأريخ لم يكن!

لكن مهلاً، فليس هذا فكر الثوار. إن فكر الثوار غير هذا. إن الذي تتحدث عنه هو فكر آخر، مختلف تماماً ومعاكس تماماً. إنه فكر هؤلاء الذين يعيشون على هامش الثورات، هؤلاء التافهين الصغار الذين يظهرون في بعض مراحل الثورات حين توشك أن تسجل انتصارها، ليضمنوا لهم مواقع فيها. يتبنون شعاراتها، وقد يزايدون عليها ليفجروها من داخلها إن استطاعوا أو ليخوفوا الناس منها ويبعدوهم عنها أو يبعدوها عنهم.

لا تبتئس فالثوار ليسوا هؤلاء. الثوار ما يزالون ثواراً؛ ثاروا حين رفضوا هذا التأريخ الذي أشبعه التافهون تزويراً، وجعلوا منه مأوى للمجرمين والفاسدين، وأداة لإفساد الفكر والعقل.

الثوار ستلقاهم هناك، تحتضنهم الخيم في الشوارع والميادين يقارعون الظلم والتخلف بصدور عارية وصبر واثق وإيمان لا يضعف ولا يلين.

إنهم التأريخ الجديد الذي سنفخر به. التأريخ الذي لم يكتبه المزوّرون.

٦

(١)

الأمن العراقي

١- الساعة الرابعة من فجر أحد أيام الشتاء عام ١٩٩٢م والعائلة نائمة: أب تجاوز الخمسين وأم وخمسة أولاد: ثلاثة أبناء وبنتان صغراهما زينب، لم تعبر السنة إلاّ منذ قليل، وقبل أيام احتفل أهلها بعيد ميلادها الأول.

مسح الأب عينيه ليتأكد إن كان حلماً ما يسمعه في حديقة البيت من أصوات لم يألفها، وهي تطلب منه بألفاظ لم يألفها أيضاً، أن يشرع بالنزول هو وباقي أفراد عائلته قبل أن يكسر عليهم الباب رجال (الأمن) في نظام صدام: صنف آخر من المجاهدين!!

وكانت الزوجة قد استيقظت وهي تسمع السباب ينهال على زوجها وعليها، ومع السباب، التهديد بأقسى العقاب.

لم تفعل العائلة شيئاً تستحق عليه هذا ولا بعضه، فالرجل صاحب محل في السوق، وهو معروف بحسن سمعته وسلوكه. ومنذ أيام (تبرّع) للحزب بمبلغ كبير. وليس في سيرة الأم ما تؤاخذ عليه (وطنياً) فهي لم تمارس السياسة، ولم تنتم لحزب الدعوة، بل تتجنب أن يذكر اسمه مدحاً أو ذماً مع وجودها. وعادل: أكبر الأولاد في الرابعة عشرة، طالب في الصف الثاني المتوسط. والأُخر: في مراحل مختلفة من الدراسة الابتدائية. كانوا يغطون في نوم عميق، وربما كانوا يحلمون بيوم جديد جميل.

وتتعالى الأصوات شديدة جافة وهي تطلب النزول.

وقبل أن توقظ الأم أولادها، كان الباب قد كسر ودخل رجال الأمن، وقد صوب كل منهم مسدسه باتجاه (أعداء) الوطن من هؤلاء الذين شبعوا من خيراته ثم خانوه!!

هات مفتاح القاصة: كان هذا هو السؤال الذي وجّهه كبيرهم إلى أبي عادل وهو يحدق في وجهه بعيني ثور هائج، والمسدس مصوّب إلى رأسه.

وأنت يا ...

ولم يكمل حين كانت أم عادل تسرع في نزع ما كان عليها من صيغة ذهبية بسيطة وتسلمه بتوسل ورعب إلى هذا الوحش الذي يقف أمامها وقد تدلى شارباه حتى تجاوزا طرفي فمه، والموت في يده لا تدري في أية لحظة يغتالها أو يغتالهم كلهم.

٧

ثم شدت عيون الجميع وأوثقت أيديهم وأنزلوا بملابس النوم التي كانوا فيها، يلوذ الواحد منهم بالآخر، لا يدرون إلى أين. لكن الوحش يدري.

ماما: إلى أين نحن ذاهبون؟ قالت سعاد كبرى الأختين. ولم تجب الأم، فهي الأخرى لا تعلم. ولو علمت لما استطاعت أن تقول شيئاً، وأصابع غليظة عُدمت الرحمة تسوقها بعنف.

ويسأل وسام: ماذا فعلنا؟ ويتلقى جواب سؤاله: ضربة قوية على رأسه من هذا الذي يبدو أنه ضاق بأسئلة المجرمين!!

الوجوه مصفرة مذعورة والأجسام ترتعش من الخوف والبرد. والدموع تسأل ولا تجيب.

وتدفع الأسرة إلى إحدى سيارتين قد غطي زجاجهما بستائر كثيفة، عدا عادل الذي اقتيد إلى السيارة الثانية.

وصرخت الأم وقد فقدت صوت عادل: وأين ابني عادل؟ لكن لكمة قوية على الرأس أسقطت زينب من بين يديها، كانت كافية لأن تفهم أن أي سؤال ممنوع، حتى لو كان عن الابن.

وقبل أن يودع الفجر كانت السيارة التي تحمل العائلة قد انطلقت بسرعة باتجاه الشرق، أما السيارة التي تقل عادل فقد أخذت طريقاً آخر يعرف العراقيون إلى أين يوصل وأين ينتهي.

كان صباحاً حزيناً هذا الذي تستقبله العائلة على غير ما اعتادت، صمت لا يقطعه إلاّ صوت عجلات السيارة وهي تنعطف مسرعة هنا أو هناك لتبلغ هدفها في الوقت المحدد.

وبعد مسيرة مضنية شاقة وقفت السيارة، طلب المرافق الذي يمكن أن تطلق عليه أي وصف إلاّ الإنسان، من أفراد العائلة أن ينزلوا، صوت غليظ متعال لا رحمة فيه ومسدس مصوّب دائماً.

ونزلت العائلة التي لا تعرف أين هي، لتجد عوائل أخرى مثلها قد سبقتها أو وصلت معها.

قال المرافق وهو يصعد إلى السيارة، هو ذا طريق إيران بلدكم الذي جئتم منه، أنتم ....

٨

لم يكن معهم ما يأكلون، لقد أعجلهم رجال صدام، أو منعوهم أن يحملوا شيئاً من الأكل.

وبدأ الأطفال يتضورون من الجوع، يصرخون. إنهم لم يطعموا شيئاً منذ عشاء البارحة، الأب لا يستطيع أن يساعدهم بشيء وهو يراهم وقد شحبت وجوههم. هو الآخر جائع مثلهم لكنه يتصنع الصبر أمامهم ويمنيهم بما يعلم أنه لن يكون. ما أقسى هذه العائلة! ماذا فعلت؟ أية جريمة ارتكبت؟ ما ذنب الأطفال؟ زينب هذه التي التصقت بثدي أمها الذي جفّ لهول ما لاقت.

لكنها ليست وحدها، فها هي العوائل الأخرى التي ألقت بها سيارات الطغاة في نفس المكان، تقاسمها الخوف والبرد والجوع، أطفال ونساء ورجال.

لا أحد يعرف لِمَ جيء بهم على هذا المكان ولِمَ حشروا فيه: هو ذا طريق إيران. هذا كل ما عرفوه، مع سباب كثير وشتائم أكثر.

وسار الموكب، يكفكف الكبار الذين يحبسون دموعهم، دموع الصغار التي لا تنحبس. الخطى متثاقلة بطيئة تزداد تثاقلاً وبطئاً كلما طال الطريق وبعدت المسافة.

لا يدرون إلى أين، كلهم متجهون إلى الشرق كما أمرهم الجلادون.

وماتت زينب ملتصقة بثدي أمّها ثم تبعتها الأم.

لا يعرف الأب الزوج ماذا يفعل، غير دمعة ساخنة جرت على خدّيه؛ ودع بها البنت والزوجة وهو يستعيد أيامه معها، إنه ينتظر مأساة أخرى ستقع غير بعيد.

ويسقط وسام. وتتبعه سعاد ثم سمير ابن الخامسة، الذي أصر على البقاء مع أُمّه وأُخته، إنه لا يعرف معنى الموت بعد، ولا يعرف معنى العذاب بعد.

وليت الذين يدافعون عن صدام يعرفون معنى العذاب الذي عاشه العراقيون، إلاّ أن يكونوا مثله.

٢- لم يكن سعيد قد تجاوز الرابعة من عمره حين اختطفه من أمام داره مجهولون ملثّمون ووضعوه في سيارة مضت به إلى حيث لا يعلم أحد.

كان الطفل كعادة الأطفال عندنا، يلعب مع أصحابه من أطفال الجيران ضحى أحد أيام أيلول من عام ٢٠٠٦، فهو لم يصل سن الدراسة بعد، وأبوه موظف في إحدى دوائر الدولة، والأم داخل المنزل مشغولة بما يشغل به مثلها من النساء.

٩

وفجأة تسمع أم سعيد طرقاً قوياً على الباب، لا تتوقع أحداً في تلك الساعة، النساء مثلها مشغولات في منازلهن، وأبو سعيد في عمله الذي يمتد إلى ما بعد الظهر، لم تفكر في سعيد، الطفل الذي خرج قبل قليل للعب مع أولاد الجيران كما اعتاد، في الشارع، غير بعيد عن البيت.

وأسرعت الأم وقد ضايقها طرق الباب المستمر، ولم تكد تفتح حتى سقطت أرضاً، وهي تسمع الأطفال يخبرونها بخطف ابنها من قِبَل مجهولين.

وتجمّع الجيران وقد خرجوا على صوت أم سعيد التي كانت تضرب على صدرها والدموع تنهمر من عينيها.

ماذا فعل سعيد، هذا الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة؟! أي ذنب يمكن أن يجنيه ليروع بانتزاعه من بيته، وليروع معه هذه الأم المسكينة، وهذا الأب الوادع الذي لم يؤذِ أحداً ولم يعرف غير البيت خارجاً وعائداً إليه من العمل؟! هذا ما كان الجيران يرددونه، وقد التقت عيونهم، مذهولين.

قال أحدهم: لعل الأطفال من أصحابه لم يتيقنوا الأمر ولم يكن خطفاً.

وقال آخر: ربما أراد الخاطفون غيره، وقد تجدونه في الشارع الثاني، أنزلوه هناك بعد ما تبيّن لهم أنه ليس من يطلبون، واتجه، ومعه آخرون لعلهم يجدون سعيداً هناك: في الشارع الثاني أو قريباً منه، لكنهم ما لبثوا أن عادوا دون أن يكون سعيد بينهم.

ولم يخطر في ذهن أحد أن سعيداً، هذا الطفل الذي لم يتجاوز الأربع سنوات يمثل خطراً على الإسلام، ولا اختطافه انتصاراً للإسلام، لو لم ينقل الأطفال وهم يروون الحادث، إنهم سمعوا المختطفين يهتفون حيث وضعوا سعيداً في السيارة: الله أكبر والمجد للإسلام، هذا هو مصير أعداء الإسلام.

وما هي إلا ساعات حتى كان على الهاتف من يقول لأم سعيد إن ابنها قد ذبحه جند (الإسلام) من أتباع الشيخ بن لادن.

ولم تحتمل الأم الصدمة، كانت أقوى منها؛ فسقطت ميتة، ذبحها (اللادينيون) حينما ذبحوا ابنها وانتصار آخر للإسلام!!!

١٠

هذان مثالان لجرائم ليست الأخطر ولا الأبشع في تأريخ طويل يبدأ بمذبحة حلبجة وانتفاضة شعبان لينتهي بـ (خير القرون): الأول الهجري!!

ومن هذين المثالين أحسب القارئ قد عرف ما أريد في هذا الكتاب، فأنا لا أريد أن أبحث في الحروب التي وقعت في هذه المنطقة. والعراق منها بوجه خاص، عبر التأريخ الذي رويناه، فالحروب وقعت فيها وفي غيرها، وتقع فيها وفي غيرها، لم يخل مكان منها قديماً، ولم يخلُ مكان منها حديثاً، وما أظن مكاناً سيخلو منها في مستقبل قريب.

ولا أريد أن أبحث في ما هو دون الحروب مما يقع من أحداث عنيفة، قد تكون دامية في الكثير من الأحيان.

لكني أريد أن أبحث ظاهرة تميز بها تأريخنا وتجدها فيه، أكثر مما تميز بها تأريخ آخر، وأكثر مما تجدها في تأريخ آخر.

تلك هي الوحشية التي ترافق الجريمة فلا يكتفي المجرم بالدم من ضحيته، وليس قليلاً ذلك، بل يضيف إلى جريمته ما يجعل الدم أهون ما فيها وأسهل ما فيها، ولقد قال العرب قديماً، وهم يقولون هذه الأيام أيضاً: (شر من الموت ما اختير معه الموت) يعنون بهذا، الوحشية التي تسبق أو ترافق الموت، وقد تعقبه وتأتي بعده، وأظنها الأبشع.

وأسارع إلى التأكيد صادقاً، أن هذا الأسلوب الوحشي عرفته الكثير من الشعوب والأمم ورافق الكثير من أحداث تأريخها، وهو ما قلته قبل قليل، لا أنكر ذلك ولا أحد ينكره أو يستطيع أن ينكره، لكنه كان خطأ في تأريخهم، وكان تأريخنا خطأ، فيه بعض الفواصل التي تخلو من الوحشية أو تقتصر على ما هو معروف ولا أقول، مقبول منها، أو ما لا يشوه ويسوء. وأقل منها، ما يفخر به الإنسان ويعتز ويحرص على مكان له في ذاكرته يعود إليه، كلما ضاق بجريمة، من ماضيه أو من حاضره، وما أكثر هذه الجرائم، وما أكثر وأطول ضيقنا.

١١

فهذا الأسلوب، إن كانت عرفته الشعوب والأمم الأخرى، فقد بقي محصوراً في مرحلة من تأريخها أو في شخص أو أشخاص منه، ولم يصبح وكأنه رفيق شبه دائم للحكم إلاّ عندنا، وفي تأريخنا.

فليس فيما جاء به صدام وابن لادن وما تقترفه طالبان إلاّ امتداداً لماضٍ طويل سيء حفل بجرائم وأحداث اتسمت بالقسوة والوحشية البعيدة عن قيم الإسلام وقيم الإنسان.

وإذا كان هؤلاء قد تجاوزوا الحدود وزادوا على ما وطّد الأسلاف من مناقب!! فذلك لا يزيد على أن يكون تطوراً (كمياً) في الوحشية وعدواناً على حقوق أولئك الأسلاف فيما ابتكروه وسبقوا إليه.

وأرجو أن يعلم القراء، وأنا أختم المقدمة، أنني لا أريد شتم تأريخي ولا الانتقاص منه، وهو ماضٍ لن يغير منه شتمي وانتقاصي، ولا مدحي وإطرائي، أريد أن نبدأ صفحة لن يكون فيها مكان لصدام أو لابن لادن أو لطالبان الذين وجدوا لهم أماكن وملاجيء وحصونا في صفحات هذا التأريخ، وعوناً لهم في جرائمهم. أن نفيد من تجاربه فلا نكررها ولا نعود إليها، فما لم نعرف الخطأ لن نعرف الصواب.

١٢

(٢)

إجرام البعث

هل كان هتلر إنساناً وهو يدفع بملايين اليهود إلى محارق جماعية (الهلوكوست) دون تمييز بين طفل وشيخ وعجوز، ودون توجيه تهمة إلى أحد منهم غير (يهوديته)؟

وهل كان موسوليني إنساناً وهو يذبح الملايين من الإيطاليين لمجرد الاختلاف في الرأي، ويقتل عمر المختار، الشيخ الذي تجاوز الثمانين، برميه من الطائرة وهي محلقة في الجو فيتمزق جسمه قبل أن يصل الأرض؟

وهل كان ستالين إنساناً وهو يهجّر ملايين الروس إلى سيبريا؛ ليموتوا هناك برداً وجوعاً وتعذيباً؟

وهل كان صدام إنساناً وهو يقتل الملايين من العراقيين بالأسلحة الكيماوية في حلبجة، أو يدفنهم أحياء في الجنوب، أو يهجّرهم عبر الحدود دون زاد أو ماء فلا يعبر الحدود إلاّ أقلّهم ويموت الآخرون في الطريق؟

وهل كان ابن لادن إنساناً وهو يحرض على ذبح الأطفال والنساء والعجزة على (الهوية) ويبارك الذبح والذابح؟

وهل كان الطالبان بشراً وهم يقتلون حتى التماثيل التي يبلغ عمرها آلاف السنين، ويغتالون القرن العشرين بحضارته وإنسانه؟

وهل كان...؟

وهل كان...؟

ليست هذه أسئلة أبحث عن جواب لها؟ فأنا أعرف جوابها، أعرفه جيداً، فلم يكن واحد منهم إنساناً: لا هتلر ولا موسوليني ولا ستالين، ولا صدام ولا ابن لادن، ولم يكن الطالبان بشراً.

لقد كانوا وحوشاً، وليس أخطر على الإنسان من الإنسان حينما يتوحش.

١٣

ثم انتهى هتلر وانتهى فكره النازي.

وانتهى موسوليني وانتهى فكره الفاشي.

وانتهى ستالين وانتهت الستالينية.

وعادت ألمانيا دولة ديمقراطية تحرّم النازية وتعاقب عليها.

وعادت إيطاليا دولة ديمقراطية تحرّم الفاشية وتعاقب عليها.

وعاد الاتحاد السوفيتي قبل أن ينحل ليحارب ستالين والستالينية.

لماذا؟

لأن هتلر وموسوليني وستالين كانوا ظواهر فردية طارئة، فرضتها ظروف داخلية وخارجية معروفة، فانتهت وزالت بزوال أسبابها ودواعيها.

فهل كان صدام وابن لادن وطالبان مجرد ظواهر فردية طارئة في هذا التأريخ العربي الممتد على قرون طويلة من الزمان، وفي هذا الحاضر العربي القائم على ذلك التأريخ والمستند إليه والمتغذي عليه؟

هل ستختفي ظاهرة صدام وابن لادن وطالبان كما اختفت ظاهرة هتلر وموسوليني وستالين؟

هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عليه عبر رحلة طويلة في الزمان وفي المكان.

١٤

(٣)

حلبجة

نوروز عيد الربيع والحب عند الأكرادن وعيد الرقص والغناء والملابس الملونة، ها هو يقترب، إنهم ينتظرونه على شوق، بعد أشهر الشتاء الطويلة في الشمال، لم يبق بينه وبينهم إلاّ أيام قليلة، ستة أيام ليطل عليهم بشمسه الدافئة كما اعتاد، ما أحلى الربيع! ما أحلى أيامه! ما أحلى عيده.

الكل فرحون سعداء وهم يستقبلونه، وكل يوم يقربه منهم ويقربهم منه.

لقد هيؤوا ملابسهم الجديدة، إنه يستحق أن تكون له ملابس جديدة، فهو عيد الربيع، عيد الملابس الجديدة، والسنة الجديدة.

يحتفل به الفتيان والفتيات وهم يحلمون، يرقصون له، يتواعدون فيه، ينشدون - وقد تشابكت أيديهم وقلوبهم وأحلامهم - أناشيد الفرح والحب والأمل.

ويحتفل به الشيوخ، وهم يستذكرون أيامهم العذبة فيه ورقصاتهم الجميلة التي لا يحسنها هؤلاء الشبان كما كانوا يحسنونها هم في تلك الأيام، هكذا كانوا يقولون لبعضهم والابتسامة تشرق على وجوههم، وهم يرون الأبناء والأحفاد يشاركونهم الرقص والحب، والملابس ذات الألوان الربيعية الزاهية.

ويطل صباح السادس عشر من آذار، يخرج أهل حلبجة والقرى المحيطة بها والقريبة منها كعادتهم كل صباح: الفلاح إلى حقله والطالب إلى مدرسته، والطفل يلاعب أصحابه من أطفال القرية غير بعيد عن قريتهم، والنساء مشغولات بإعداد ما يقدمنه للعائد من الحقل أو العائد من المدرسة أو اللعب.

١٥

لم يكن أحد منهم يدري أن هذا اليوم هو آخر يوم في حياتهم، لن يروا العيد بعده: العيد الذي انتظروه منذ سنة حين ودعوا العيد السابق، سيودعون الحياة قبل هذا العيد ولن يروه أبداً، لقد حكم صدام عليهم جميعاً بالموت لا استثناء فيه لأحد، الكل مجرمون يجب أن يموتوا، وما هذا السحاب الذي يرونه إلا الحكم الي سينفذ فيهم، كانوا يستبشرون به كلما أظلهم أو دنا منهم وهو يحمل الحياة لهم ولزرعهم ومواشيهم، لكنه يحمل لهم الموت هذا اليوم.

وبدأ السحاب - الموت

وتحجر طفل على صدر أُمه التي تحجرت هي أيضاً وعينها عليه.

وتقاربت بقايا أجسام كانت حية قبل قليل، إنها واحدة من ألوف العوائل التي نُفّذ فيها الحكم.

وتمنى الذين لم يُنفّذ الحكم فيهم، أن يكون قد نُفّذ، فهم بين مشوّه ومشلول، بين من فقد الرجل أو الرجلين أو اليد أو اليدين، لم تعد الحياة تعني له أكثر من مرارة يعيشها، أو مرارة يتذكرها ويعيشها.

وانقشع السحاب عن خمسة آلاف ضحية: واحدة من أبشع الجرائم التي عرفتها الإنسانية. وكان الضمير العالمي قد مات قبلهم، حكم عليه صدام بالموت، لكنه الموت الذي يتم باتفاق الطرفين، يدفع فيه صدام المال، ويتسلم ثمنه سكوتاً واعتذاراً ودفاعاً عنه؛ فتسابقت حكومات، لجان إلى إنكار الجريمة وبراءة صدام، وتزاحمت وفود على بابه ومعها دهان وصبغ وكلمات وحقائب فارغة.

وحين جاء العيد بعد خمسة أيام، كانت الملابس الجديدة قد تحوّلت إلى أكفان، وعاد سكون الموت يحتل حلبات الرقص والغناء والفرح.

لقد كانوا ينتظرونك أيها العيد ليحتفلوا بك كما اعتادوا، كلهم كانوا ينتظرونك، ينتظرون على شوق إليك.

١٦

لقد رأيت الحزن على وجهك وأنت تقترب من حلبجة في الحادي والعشرين من آذار، بعد خمسة أيام على المجزرة.

وبعد ثلاث سنوات وقبل عيد الربيع أيضاً، يصدر صدام حكماً بإعدام أهل الجنوب ودفنهم أحياء.

لقد أبى القدر إلاّ أن يوحدكم، أحياء وأمواتاً، فها هو المجرم الذي نفّذ فيكم حكم الموت عام ١٩٨٨ ينفذه في إخوانكم عام ١٩٩١ في نفس الشهر وقبل عيد الربيع.

١٧

(٤)

انتفاضة آذار (الانتفاضة الشعبانية)

اليوم هو الأول من آذار أول أشهر الربيع الذي يأتيك باسماً حتى ليكاد يتكلم كما يقول البحتري.

لقد أمضينا شتاء قاسياً، لا في برده وهو ليس بالقليل، وقد انعدمت وسائل التدفئة، بل في أحداثه التي تلاحقت.

الكل أيديهم على قلوبهم لا يدرون ما يأتي به الغد، بل ما تأتي به الساعة المقبلة.

هل سيصبحون؟ أم أنّه الموت الذي كتبه عليهم صدام ينفّذه هو فيهم أو سينفّذه الأميركان، لكنه دائماً بفعله وحمقه.

كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة السابع عشر من كانون الثاني ١٩٩١ رهيبة وستبقى رهيبة، لن ينساها يوماً، العراقيون الذين عاشوها.

أيقظنا دوي كاد يقتلعنا من فراشنا، أحسسنا كأن يوم القيامة الذي نتصوره ولم نره، قد جاء.

القصف يتلاحق ويزداد حدّة وعنفاً، الأطفال مرعوبون يسألون الكبار، المرعوبين أيضاً.

لا أحد يعرف ما يجري، وماذا عليه أن يفعل ليتجنب ما يجري، الكل مضطربون يتساءلون ولا جواب عند أحد.

البيوت تهتز من شدة القصف، ويتركها الناس، ولكن إلى أين؟

لم يعد البرد ما يشغلنا، بل الحياة.

ماذا نفعل الآن؟ إن بغداد تحترق، الطائرات الأميركية تغير بموجات لا انقطاع فيها، وهي تقذف الموت في كل مكان، في كل شارع من شوارع بغداد النائمة أو الساهرة حتى تلك الساعة من الليل.

١٨

هذا هو حصار الدكتاتورية، هذا ما جرّه الطاغية المجرم على العراق كله وليس بغداد فقط.

كنا نعرف أن شيئاً ما، شيئاً مخيفاً مرعباً سيحصل، لكننا لم نكن نتوقع الذي حصل؛ لأنه فوق ما كنا نتوقع.

- والآن بابا ماذا سنفعل؟ قالت آية: بنتي التي كنا سنحتفل قريباً بعيد ميلادها العاشر، وهي توجّه سؤالها مضطربة مذعورة.

ولم أدرِ بم أجيبها لأخفف من اضطرابها وذعرها، والذعر يلف البيت كله، بل البيوت كلها، بغداد كلها مذعورة.

ومضى الليل ليبدأ نهار حزين كئيب تنتشر فيه رائحة الموت والخراب، وملامح مستقبل مظلم قاتم الظلام.

واستمر القصف، ويوم آخر من الذعر والخوف... والزلزال... وأيام أخرى.

ودكّت بغداد كما لم تُدكّ يوماً وتهاوت معالمها وبيوتها وجسورها.

وخلت من ساكنيها: بين من هجرها وفرّ منها، وبين من لزم بيته لا يخرج منه، إلى أين سيذهب لو فكر في الخروج وقد ماتت الحياة، إنها لمجازفة فربما انفجرت فيه قنبلة أو انهد عليه بناء.

بغداد معشوقة الجميع ومدينة العشاق، بغداد الشاطئ وأبي نؤاس ودجلة، ماذا حلّ بها؟! إنها الآن موحشة مهجورة خائفة، قد خلت شوارعها وأظلمت بيوتها.

أسفي عليك بغداد! ما الذي دهاك؟

ما الذي فعله بك هذا المجرم التافه؟ أكان يساوي لحظة رعب من طفلة التصقت على صدر أُمّها؟ أكان يساوي بسمة لطفل يلاعب أترابه في شارع من شوارعك؟

أكنت ستجدين بين كل أعدائك، وأولهم وأشدهم أعداؤك العرب، كهذا العدو الذي كتب عليك أن تكوني أسيرته؟!

أسفي عليك، ماذا لقيت من هذا الوحش المجنون وماذا لقي العراق؟!!

ويأتي فجر الرابع والعشرين من شباط.

العراقيون ساهرون لا يذوقون النوم إلا ليوقظهم حلم مفزع.

١٩

ها هو بوش يعلن بدء العمليات العسكرية.

الجيش العراقي محطم منهوك، قد فقد روح القتال وعزيمة المقاتل؛ لأنه فقد الثقة بالقيادة، لا يدري لماذا يجب عليه أن يموت، لقد خرج قريباً من حرب مجنونة طويلة لم يعرف سبباً لها، قدّم فيها مئات الألوف من الضحايا.

وها هو يفرض عليه الآن أن يخوض حرباً مجنونة أخرى لا يعرف سبباً لها، وسيدفع أضعاف ما دفع من ضحايا في حربه الأولى، فهو يواجه قوة جبارة هائلة لا تكافؤ بينه وبينها في أي حال، وسيخرج الخاسر منها في كل حال.

والجنود يتساءلون: لِمَ نحن هنا؟ لِمَ كتب علينا ألا نخرج من حرب إلا لندخل حرباً؟ لِمَ نعرض أنفسنا للموت في هذه الصحراء، يقتلنا البرد والجوع قبل أن يقتلنا جيش أميركا وجيوش حلفائها، بعيدين عن الأهل والوطن؟

قال واحد منهم: لقد تركت طفلين: زينب وعلي وأُمّهما وليس لهم من عائل سواي.

كان علي يسرع قبلي إلى الباب كلما أردت الخروج صباحاً يحاول أن يمنعني، وزينب ما أحلاها! ما أحلى ابتسامتها، لا ترضى مني إلا بقبلة قبل الخروج، وبوعد بلعبة جديدة عند العودة، آه كيف هم الآن؟! هل سأراهم يوماً؟! لقد انقطعت أخبارهم عني منذ حين.

وقال الآخر: أنا الوحيد الباقي لأبوي الطاعنين في السن، كنا أربعة، قتل ثلاثة منا في الحرب مع إيران، ولم يبقَ لأُمي وأبي غيري، ماذا لو سمعا بقتلي، أو (استشهادي) الوصف الذي سيتكرم به علينا عبد الجبار محسن وهو يسوق خبر قتلنا في بياناته الشهيرة من دار الإذاعة، ما أظنهما سيحتملان الخبر، سيموتان حتماً عند سماعه.

وقال الثالث: في سبيل من نقاتل؟! ألنرضي غرور صدام وحمقه ونزواته؟! أليزداد ابناه وأهله وبطانته عدواناً على الناس في حياتهم وأعراضهم وأموالهم؟! هل لنا عدو غير صدام؟! أليس الأولى بنا أن نوجّه سلاحنا إليه، سيكون القتال ضدّه مشروعاً، بل واجباً، لسنا جبناء ولكننا لا نريد أن نموت دفاعاً عن عدوّنا، هناك القتال لا هنا، هناك عدوّنا الذي يجب أن نتوجّه إليه.

٢٠