جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51007
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51007 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أكان بيت الله في مكة دون منزلة المدينة فعرضه ابن الزبير للخطر، ومنع محمد المدينة أن يعرضها ويعرض أهلها للخطر؟!

وانتصر جيش الأمويين بقيادة الحجاج، وقتل عبد الله بن الزبير بعدما قتل أو فر أو تخلى عنه أصحابه والتحقوا بالحجاج.

ماذا يريد الأمويون أكثر من ذلك؟! الانتصار وقد تحقق لهم كاملاً، وخصمهم ابن الزبير وقد قتل وانتهى أمره ولم يبقَ منه ما يثير الخوف أو القلق أو ما هو دون الخوف والقلق.

لكن الحقد لم ينته.

لكن الحقد بقي قوياً كما كان

فبعد القتل صلب جسد عبد الله، وبقي سنة معلقاً قبل أن يؤذن بإنزاله.

وحين أراد أهله غسله وتكفينه، كانوا لا يتناولون عضواً إلا جاء بأيديهم، فكفنوه عضواً عضواً.

وعذري إلى القارئ، فما كنت لأريد أن أزيد من ألمه، وحياته اليوم لا تحتاج إلى مزيد منه.

١٢١

(٢١)

الدولة الأموية - المروانية

مروان بن الحكم - مقتل طلحة - ولاية العهد لأكثر من واحد

أما أبوه الحكم بن أبي العاص، فكان طريد رسول الله، رفض أن يراه أو يساكنه في المدينة لشدة ما آذاه، وبقي طريداً مبعداً عن المدينة حتى جاء به عثمان في خلافته.

وأما هو فلم يعرف بسابقة ولا بفضل أو دين أو صلاح، ولكنه عرف كأحد أبرز الأشخاص الذين أثاروا المسلمين على عثمان ولعبوا دوراً خطيراً في الأحداث المأساوية التي انتهت بقتله والتي مزقت الأمة الإسلامية وما زالت تمزقها حتى اليوم.

ذلك هو مروان بن الحكم.

كان من أسوأ الحاشية العثمانية وأشدهم كرهاً وقسوة على هؤلاء المطالبين بإصلاح الأمور والعودة بها إلى طريق العدل والصواب، ومنع الاستئثار بأموال المسلمين لصالح عدد منهم، ومروان من أكثر المنتفعين والمستأثرين بها.

ولأنه ابن عم عثمان ومستشاره فقد كان بالغ التأثير على عثمان، فما يحاول هذا أمراً فيه صلاح ورضا للناقمين والساخطين والثائرين، حتى يرده مروان عنه ويحول دون تحقيقه(١) .

وبعد عثمان وما جره قتله على المسلمين، كان مروان من أشد المعارضين والمعادين لعلي، شارك في حرب الجمل ضده إلى جانب طلحة والزبير، لكن ذلك لم يمنعه من قتل طلحة في هذه المعركة، رماه بسهم أصاب أكحله فبقي ينزف حتى مات، إذ كان يتهم طلحة بأنه وراء قتل عثمان وأنه الذي كان يحرض عليه ويشجع على قتله(٢) .

وحين استولى معاوية على الحكم، كانت علاقة مروان به متذبذبة، تقوى مرة وتضعف أخرى، لكنها لا تخرج عن حدود الخلاف بين أمويين.

____________________

(١) انظر في تفصيل ذلك كتب التأريخ كالطبري وابن الأثير.

(٢) انظر كتب التأريخ حول معركة الجمل وترجمة طلحة في كتب التراجم.

١٢٢

ثم مات معاوية، ومات بعده يزيد، فتولى مروان قيادة الأمويين وتوحيد نشاطهم، وتنظيم قوى الشاميين المناصرين لهم في مواجهة عبد الله بن الزبير الذي أعلن نفسه خليفة واستطاع أن يبسط حكمه على كل الأقاليم الإسلامية، حتى الشام نفسها، عدا أجزاء منها بقيت على ولائها للأمويين ورفضت البيعة لابن الزبير والدخول في حكمه.

وكانت معركة المرج التي قادها مروان أول هزيمة تلحق بابن الزبير لكنها لم تكن إلا معركة ينتصر فيها طرف ويخسر طرف، واستمرت المعارك، واستمر كل طرف يهيء للمعركة الفاصلة وجاءت معركة مسكن عام ٧١ التي كانت إيذاناً بنهاية حكم ابن الزبير - كما رأيت في فصل سابق - لكنها جرت في زمن عبدالملك وبعد وفاة مروان بست سنين، ونحن هنا نتحدث عن مروان، فلنعد لحديثه لقد رأيناه في زمن عثمان وهو يسعر النار بين المسلمين ويسخر من هؤلاء المطالبين بالإصلاح ويحرض عليهم ويرفض مطاليبهم ويمنع أي حوار مثمر بينهم وبين الخليفة كان من الممكن أن ينتهي إلى خير للمسلمين: حاكمين ومحكومين، ويحول دون النتائج الخطيرة التي هزت الحياة الإسلامية هزاً عنيفاً ما تزال تعاني منه(١) .

هذا هو تأريخ مروان قبل الخلافة، وما أظنه يسمح بأن ننتظر منه خيراً بعد الخلافة.

فإذا كان معاوية أول من جعل الخلافة حكماً وراثياً، فإن مروان أول من جعل هذا الحكم الوراثي موزعاً بين أولياء عهد متعددين يخلف أحدهم الآخر، وهو فساد جديد أضيف للحياة السياسية الإسلامية التي كانت تعاني أصلاً من فساد خطير.

ماذا يعني يا مروان أنك تجعل الحكم إرثاً لأكثر من واحد ممن يخلفونك، ولن تكون معهم حينذاك ولا يمكن أن تعرف ما يأتي به المستقبل فتحتاط له، وكل احتياط لن يجدي شيئاً حين يتعلق الأمر بالحكم؟!

____________________

(١) انظر تفاصيل الأحداث خلال السنوات الأخيرة التي سبقت مقتل عثمان وموقف مروان فيها، الطبري وابن الأثير وغيرهما من كتب التأريخ.

١٢٣

يعني إنك بإرادتك زرعت أسباب الفتنة والخلاف بين الذين وليتهم عهدك، فالمتقدم منهم سيحاول - وهذا ما حدث - أن يدفع المتأخر ويحرمه (الحق) الذي أعطيته إياه بلا حق، ليسلمه بعد أن يستقر في الحكم، وأحياناً قبل أن يستقر، إلى من هو أحب إليه وأقرب، مستغلاً لتحقيق ذلك، كل ما يجد تحت يديه من وسائل، وقد وفر له الحكم كل الوسائل، غير مبال بوصيتك وعهدك.

هل أخبرك أن عبد الملك ابنك خالف وصيتك وخلع أخاه عبد العزيز الذي وليته الخلافة بعده، ليجعلها في ابنيه الوليد وسليمان، ولولا أن يعاجل الموت عبد العزيز فيريح الاثنين الخالع والمخلوع للقي المسلمون عنتاً وشراً، وصراعاً لابدّ أن يشاركوا فيه ولابدّ أن يقتل كثير أو قليل منهم فيه(١) .

وإن الوليد كتب إلى عماله، بعد أن صارت الخلافة إليه، في عزل أخيه سليمان الذي كان العهد إليه بعد الوليد، ودعا الناس إلى ذلك بعد أن رفض سليمان عرض أخيه بالتنازل عن (حقه)، وإن من بين الذين أجابوه إلى عزل سليمان، الحجاج وقتيبة بن مسلم، ولم يجنب المسلمين شر فتنة جديدة، إلا موت الوليد قبل إكمال خطته، على أن سليمان لم يغفر لقتيبة موقفه السابق منه، حين ولي الخلافة، فكان ذلك الموقف أحد أهم الأسباب في مقتل قتيبة بخراسان(٢) ، ونجى الموت الحجاج من مثل مصير قتيبة.

وهذا أيضاً ما حاوله هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك.

واستمرت ولاية العهد، واستمر ولي العهد، بعد أن تجاوز ولاية العهد إلى الخلافة، في دفع الوارث بعده وإبعاده عن حقه، وهو في الأغلب أخوه، ليديرها في أبنائه: الواحد بعد الآخر، رغم الأخطار والتجارب التي لم تكن - بالتأكيد - بعيدة عنه.

ويستمر الخلاف والنزاع والقتال لاستعادة (الحق) المسلوب.

وتدفع الأمة ثمن هذا من أمنها واستقرارها... ومن دمها.

____________________

(١) انظر تأريخ الطبري أحداث عام ٨٥.

(٢) المصدر السابق احداث على ٩٦ وتأريخ ابن الأثير، أحداث نفس العام (خلافة سليمان بن عبد الملك) والنقائض لأبي عبيدة معمر بن المثنى.

١٢٤

لقد كانت ولاية العهد أمراً مناقضاً للشورى ومصادراً لحقوق الناس ومنافياً لكرامة الإنسان الذي يعامل كمملوك، ينام ومالكه شخص، ثم يصحو ليجد المالك قد تغير، دون أن يكون له رأي في أي من المالكين، بل دون أن يعلم. لقد حدد حاضره ومستقبله، هذا الذي ينام الآن في القبر، وليس عليه إلا الرضا والقبول... وربما الشكر لأنه لم يتعبه في اختيار خليفته!

ولاية العهد إذن كانت أسوأ ما عرفته الإنسانية من أنظمة الحكم، وولاية العهد لأكثر من واحد كانت أسوأ من هذا الأسوأ.

١٢٥

(٢٢)

النجف ومصعب والمختار

حين تتحوّل الشجاعة إلى وحشيّة

كان ذلك قبل ما يقارب السبعين سنة، ما أزال أذكره وكأنه حصل في الأمس القريب، الضيوف خرجوا من ديواننا ولم يبقَ إلا من اعتاد البقاء حتى وقت متأخر من الصباح أو حتى الغداء.

كنت صبياً لا أكاد أفارق الديوان، وجلسات هؤلاء الشيوخ تستأثر بإعجابي، هؤلاء الشيوخ الذين لا يملون الحديث في مسائل الدين والتأريخ واللغة: العروة والطبري والقاموس، والعلامة والمسعودي وابن دريد.

وكنت أتابعهم في حديثهم وخصامهم، لا يضايقني منهم إلا طلباتهم التي لا تنتهي بجلب هذا الكتاب أو ذاك؛ إذ كانت تحرمني من متابعتهم ولو لحظات، وأنا لا أريد أن أضيع لحظة.

ما أحلاها من أيام وأثراها! ما أروع تلك المجالس المهيبة وتلك الوجوه المهيبة يعلوها الوقار والجد، تختصم حتى تقول إنك في حومة معركة، ولم يبقَ إلا أن تسل السيوف، ثم ينتهي الخصام فإذا كل قد عاد إلى هدوئه بعد ما تبين الحق: عاد من معه الحق ومن لم يكن معه، إلى الحديث نفسه ليستكملاه أو إلى حديث أخر و خصام آخر لابدّ أن أشارك فيه بجلب الكتاب الذي سيفصل في الخصام ويفضه.

أيام ما أظنها ستعود، فلم يبق شيء مما كان يشغل ذلك الجيل ويهمه، لم يبق شيء من جد البحث وطلبه والعناء فيه، على توفر الوسائل الآن وقلتها يومذاك.

إيه أيتها النجف، هل تعلم أزقتك الضيقة وبيوتك الخربة القديمة ما ضمت من علم وأدب وفكر؟!!

أية مدينة أنت؟!! أكان ابن أبي طالب اختارك مرقداً له لأنك النجف، أم كنت النجف لأن ابن أبي طالب اختارك مرقداً له؟!!

أية عبقرية التفت عليها جوانبك؟!!

١٢٦

أية درة فريدة لو تركوا إشعاعك فلم يحل دونه أعداء من كل صنف، ساءهم، وهم المتخلفون، أن يصل إلى من حولهم ممن لا يريدون له إلا أن يكون متخلفاً، وإلا أن يبقى متخلفاً، وبقيت، بقيت أنت الدرة الفريدة رغم ذاك؛ لأنك لست حجراً صقل فشع، لأن اشعاعك لم يكن زيفاً ولا خداعاً، لأنه إشعاع النجف، لو ترك لأضاء الأرض كلها.

كان الحديث يومها يدور حول الشجاعة عند العرب ومن اشتهر منهم بها، وهو حديث يستهوي الذين في مثل سني، بل ما أحسب حديثاً يستهوي الذين في مثل سني كحديث الشجاعة والبطولة.

كنت أصغي إليهم، وأذكر أن أحدهم قال، وهو يعرض لشجعان العرب وفرسانهم: إن الشجاعة مع الأخلاق فتوة، والشجاعة بلا أخلاق وحشية.

وأعجبتني الكلمة واختزنتها ذاكرتي.

وتمر السبعون سراعاً، ورأيتني أعود إليها.

ما الذي ذكرني بها بعد هذه السنين الطوال وفي بعضها ما ينسى الأهم منها والأقرب.

كنت أريد الحديث عن واحد من شجعان العرب، لا شك في شجاعته، لكن شجاعته عدمت الأخلاق فتحولت إلى الوحشية: موضوع هذا الكتاب.

هل تعرف مصعب بن الزبير؟ ما أظنك إلا تعرفه كما أعرفه.

فالتأريخ العربي يحتفظ له بمكان واسع فيه، ومكان واسع للأحداث التي رافقته.

لقد كان قائداً لجيش أخيه عبد الله في حربه مع الأمويين وفي حربه مع المختار، وهو موضوع الحديث.

انتصر مصعب وخسر المختار المعركة وقتل.

فهل بلغك الذي فعله مصعب بعد قتل المختار وتشتت جمعه؟

١٢٧

كنت هناك غير بعيد عن الساحة، لم أصدق ما أرى، حاولت أن أكذب عيني، لكن المشهد يجري أمامي، لم تخني عيناي إذن، وليس لي أن اتهمهما.

مصعب يعطي الأمان لسبعة آلاف من أصحاب المختار كانوا قد دخلوا القصر وأغلقوه عليهم(١) .

ويثق هؤلاء بما أعطي لهم من أمان، يلقون سلاحهم ويخرجون مطمئنين.

لا يعلمون شيئاً مما كان ينتظرهم، وما كان لهم أن يعلموا.

وفي الساحة التي تواجه القصر، انتشر عدد من رجال مصعب، وعدد آخر أخذوا أفواه الطرق المتصلة بها، وكلهم جردوا سيوفهم من أغمادها متهيئين لشيء، شيء مرعب مخيف تنطق به عيونهم وحركاتهم، لم أعرفه إلا فيما بعد، حين خرج آخر من في القصر من أصحاب المختار.

ها، لقد عرفت الآن!

وبدأت مذبحة سبعة آلاف من المسلمين الذين خرجوا بعهد مصعب وذمته التي أعطاها لهم.

كانت مذبحة، مجزرة قلما سمعت بمثلها، سبعة آلاف إنسان، لم يقتلوا في معركة، بل في ساحة أعدت للذبح، لا قواعد للذبح، كيف شيءت فاذبح، يضرب الواحد منهم بالسيف فإن لم يمت كان هناك من يجهز عليه بسيف أو بحربة أو بسكين، في أي مكان من جسمه، ينزف حتى يموت، لم يكن الجزارون يعبأون في أي مكان جاءت الضربة، إنهم معجلون، عليهم أن ينتهوا من سبعة آلاف، سريعاً قبل أن يرتفع النهار.

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٩٩ أحداث سنة ٦٧، وتأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢١٥ ط ١٩٦٩ مضيفاً: (فأعطاهم - يعني أصحاب المختار - مصعب الأمان وكتب لهم كتاباً بأغلظ العهود وأشد المواثيق فخرجوا على ذلك فقدمهم فضرب أعناقهم، فكانت إحدى الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام). وأبو هلال العسكري في الاوائل (أول من مشى خلف الجنازة بلا رداء ...)

١٢٨

أشلاء بعضها فوق بعض، لا تميز واحداً من واحد، رؤوس وأيدٍ وأرجل متناثرة هنا وهناك، كلها تنزف فيختلط الدم بالدم، ثم يرتفع الدم ليغطي الساحة، تطفو عليه بقايا أجسام لسبعة آلاف كانوا قبل قليل يفكرون في حياتهم التي سيستقبلونها، وقد اطمأنوا إلى الأمان المعطى لهم من الأمير.

ما أصدقك يا عبد الله بن عمر وأنت تقول لمصعب بعد ذلك اليوم: (أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟! والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً)(١) .

وذهلت، أغمضت عيني، حاولت أن أكذب نفسي، أن أهرب بفكري عما أرى، لكن قطرات من الدم لامست جبيني، لم يعد هناك موضع للتكذيب، أغمضت عيني أم لم أغمضهما.

وحين استعدت الوعي، كان مشهد آخر ليس أقل من الأول داعياً إلى الذهول والاستغراب: رجال من رجال مصعب يقفون أمام باب المسجد، ما الذي يفعلون ولا أحد اليوم فيه؟ أغلقت أبوابه منذ ساعات الصباح الأولى، أتراهم جاؤوا يفتحون المسجد للمصلين؟ لكن المصلين لن يستطيعوا الدخول، فالدم ما زال فائراً يسيل بالأشلاء وسيمنع دخولهم.

ما الذي جاء بهم إذن؟! إن لهم لشأناً كما أظن، فهم في حوار يعلو ويخفت، ومعهم أكياس لا أدري ما فيها.

واستفزني الفضول مع أنه لم يبقَ ما يستفز بعد الذي رأيت، ودنوت نحوهم، سألت أحدهم: ماذا تفعلون هنا، وقد انتهى كل شيء؟!

قال دون أن يلتفت إلي: إن الأمير - يعني مصعباً - أمر أن نسمر كفي المختار على باب المسجد.

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ٦٧.

١٢٩

قلت: أو قد قطعت كفاه؟!

قال: ليست كفاه فحسب، لم يبقَ منه ما يصلح للتقطيع.

ومد يده إلى كيس معه وأخرج منه كفين سلم كل كف منهما لواحد من أصحابه، وأخرج آخر مسامير من كيس ثانٍ.

لم أغمض عيني هذه المرة ولم أهرب بفكري، وانتظرت حتى ثبتوا الكفين جيداً على الباب بمسامير قوية طويلة نفذت إلى مسافة بعيدة فيه ليصعب انتزاعهما.

وتركتهم وهم في طريق عودتهم إلى الأمير مسرورين بالجائزة التي تنتظرهم تجاه ما قاموا به من عمل بطولي رائع.

١٣٠

(٢٣)

عبد الملك بن مروان

قلت للرجل الواقف إلى جنبي وقد أخذته الدهشة كما أخذتني: ما الذي يضحك أمير المؤمنين عبد الملك وقلما رأيته يضحك أدام الله عليه نعمة الضحك؟

قال: والله لو لم تسبقني بالسؤال؛ لسألتك، لابدّ أن أمراً مما يسر أمير المؤمنين قد بلغه فأضحكه، وسآتيك بالخبر فلي بين حاشيته صديق لا يبخل علي به، ولن أتأخر عليك.

وما هي إلا دقائق حتى عاد ليقول لي: لقد تلقى الآن خبر موت أخيه عبد العزيز.

قلت مستغرباً: وهل في هذا ما يضحك؟! أيمكن أن يضحك المرء لفراق صديق حتى يضحك لموت أخ؟! إني لأذكر أخي الذي مات قبل ثلاثين عاماً فلا أملك دموعي، ما أرى صديقك الذي أخبرك إلا واهماً أو مخطئاً أو أراد أن يكتم عنك السبب الحقيقي وراء ضحك أمير المؤمنين.

قال: لم يكن الذي أخبرني واهماً ولا مخطئاً ولا كتم عني شيئاً كما تصورت، لقد كان صادقاً كل الصدق واثقاً كل الثقة، هل كنت يوماً حاكماً أو أميراً؟

قلت: لا، ولا أريد.

قال: هو ذا السبب يا صاحبي، إنك لا تعرف ما يفعل الحكم بالناس - إلا من عصم الله - حين يصبحون حكاماً، إنه يسحرهم، يبدلهم، يجردهم من عواطفهم ومن إنسانيتهم، ألم تسمع مثلنا القائل (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) والآن دعني أشرح لك ما استغربت من ضحك أمير المؤمنين، هل تعرف أن عبد العزيز بن مروان كان المرشح للخلافة بعد أخيه عبد الملك؟

قلت: أعرف ذاك ويعرفه غيري فقد عقد مروان أبوهما ولاية العهد لابنيه: عبد الملك ثم لعبد العزيز من بعده.

١٣١

قال: وهل تعرف أن عبد الملك أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويجعلها في ابنيه الوليد وسليمان الواحد بعد الآخر؟(١) .

قلت: وأعرف هذا، وأعرف أن عبد الملك كان يهيء له ويعد لتحقيقه.

قال: إذن عرفت السبب في ضحك أمير المؤمنين، لقد أراحه موت أخيه مما يمكن أن يثير عزله إياه من مصاعب سيواجهها لو رفض أخوه ذلك وأصر على تنفيذ وصية أبيه، إن أحداً لا يستطيع أن يقدر ما قد يحصل، خصوصاً وإن لعبد العزيز أنصاراً كثيرين وللناس ميل إليه. فأي شيء سيسر أمير المؤمنين ويضحكه أكثر من هذا الموت الذي جنبه كل النتائج التي قد تترتب لو أصر كل منهما على موقفه: عبد الملك على العزل وتنصيب ابنيه، وأخوه على الرفض والاصرار على تنفيذ وصية أبيه.

وعرفت السبب، وعرفت صدق صاحبي أو من أخبره، وعرفت كيف يجرد الحكم المرء من قيم لم يمتلكها عبد الملك ولم ينشأ عليها.

عرفت كيف يكون الغدر بأقرب الناس: بالأخ.

إيه يا ابن مروان! أترى موت أخيك سيغير الوصف الذي تستحقه وأنت تهيء لخلعه وتتخذ الوسائل والأسباب لأبعاده؟!

ماذا تسمي انقلابك على أخيك وخيانتك لعهد أبيك الموثق الواضح وأنت من شهوده؟!

ما الغدر إن لم يكن هذا غدراً والموصي أبوك والموصى له أنت وأخوك؟!

ماذا سيلقى الأبعدون منك: هؤلاء المسلمون الذين كتب عليهم أن تتولى أنت وأمثالك أمور دينهم ودنياهم؟!

لقد كان أول ما ابتلي به المسلمون في حكمك، هو هذا الجلاد الطاغية الذي اسمه الحجاج.

____________________

(١) الطبري أحداث سنة ٨٥.

١٣٢

بأي وجه ستلاقي ربك وأنت تولي عليهم من يخبر هو عن نفسه (إن أكثر لذاته سفك الدماء)(١) .

أية محنة سيعيشها الناس حين يكون سفك دمائهم أكثر وأحب لذات أميرهم إليه؟!

هل تعرف عدد الذين قتلهم سفاحك، هذا الذي ما يزال يجد، كما تجد أنت وأمثالك، من يدافع عنه ويعتذر عن جرائمه؟!

سأخبرك إذن.

لقد قتل الحجاج من مائة وعشرين ألف إلى مائة وثلاثين ألف، صبراً في غير حرب، أي أسرى أو سجناء أو من ظن بهم - مجرد ظن - عدم الولاء للحكم، و« مات هذا (الحجاج) وفي حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألف مجردة »!!

ولا أدري هل ستستغرب بعد، أم يبدو وكأن الأمر أصبح طبيعياً لا يثير استغراباً، إذا أخبرتك أن الحجاج العربي الغيور الشديد الغيرة في عصر الخلافة الشديدة الغيرة (كان يحبس النساء والرجال في موضع واحد...) ومنهن المجردات طبعاً(٢) .

يبقى ما لا أظنه يمثل شيئاً ذا بال في جنب ما تقدم، وهو أن الحجاج كان يحشر من ساقه قدره أن يكون بين المغضوب عليهم، في حبس ليس له ستر يقي المحبوسين حر الشمس في الصيف ولا البرد والمطر في الشتاء(٣) .

ويبقى، ويبقى أن هؤلاء الثمانين ألف من المحبوسين (خمسين ألف رجل وثلاثين ألف امرأة) هم غير الذين قتلهم الحجاج في حياته كما يوضح النص. وكان من الممكن، لو بقي حياً، أن يضافوا إلى المائة والعشرين أو المائة والثلاثين الذين قتلهم قبل أن يموت.

____________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ١٢٥، ١٦٦، و تهذيب التهذيب لابن حجر ج ٢ ص ٢١١، وتأريخ ابن الأثير ج ٤ ص ٢٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ١٦٦.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ١٦٦ - ١٦٧.

١٣٣

وهل تعلم يا ابن مروان أن الحجاج بعد هزيمة ابن الأشعث في دير الجماجم(١) ، وتمزق جيشه، كان يؤتى بالناس للبيعة، فلا يبايعه أحد إلا قال له: (أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم بايعه وإلا قتله)(٢) .

أي خيار هذا الذي روعتم به الناس وسددتم عليهم طريق النجاة: أن يعترف المسلم الذي لم يرتكب إثماً ولا معصية، بالكفر على نفسه أو يذهب برأسه سيف الحجاج، فعل مسلم بن عقبة يوم الحرة في عهد يزيد قبلك حين كان يبايع الناس على أنهم عبيد ليزيد فمن بايعه سلم ومن رفض قتل.

أي عدل هذا الذي لا نراه إلا عند الأمويين وفي حكمهم، ونحن في خير القرون كما يذكر أصحاب الصحاح في أحاديثهم التي يروونها عن النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)؟(٣) .

وهؤلاء المساكين من أهل الذمة الذين تركوا ما كانوا يدينون به وأسلموا، إيماناً منهم بعدالة الإسلام الذي سيساويهم بالمسلمين الآخرين، ومن حقهم أن يعتقدوا ذلك، كيف سمح جلادكم أن يعيد فرض الجزية عليهم وكأنهم لم يسلموا، وكأن شيئاً لم يتغير فيهم، ساخراً منهم ومن إسلامهم، ومن الإسلام؟!

ما حجته فيما فعل؟ إنها الحاجة إلى المال، فالخراج قد انكسر كما يدعون، بعد أن أعفي هؤلاء المسلمون الجدد من دفع ما كانوا يدفعون لبيت المال من مبالغ كانت مفروضة عليهم قبل إسلامهم(٤) .

أرأيت إلى هذه الحجة يتعلق بها في ازدراء من لا يقيم وزناً للإسلام ولا للإنسان!!

إن الذي كسر الخراج - على فرض صحة ذلك - ليس هو ما يدعونه من عدم دفع التي كان يدفعها أهل الذمة قبل إسلامهم، وهي لا تمثل شيئاً إذا قيست بالمبالغ الأسطورية التي كانت تجبى من كل أصقاع الأرض، حرباً أو سلماً ولكن شيء آخر لا يتصل بالجزية ومبالغها من قريب أو من بعيد.

____________________

(١)تأريخ الطبري أحداث سنة ٨٢ (ذكر الأحداث التي كانت فيها).

(٢)تأريخ الطبري ج ٦ ص ٢٦٥.

(٣)صحيح البخاري الأحاديث ٢٦٥١، ٦٤٢٨، ٦٦٩٥، ٢٦٥٢، ١٤٢٩، ٦٦٥٨.

(٤)تأريخ الطبري أحداث سنة ٨٢.

١٣٤

إن الذي كسر الخراج، هو هذا الإسراف المجنون في الإنفاق، هذا العبث الذي لا يمكن تصوره مهما اتسع الخيال، بأموال المسلمين.

فأمية بن عبد الله عامل عبد الملك على خراسان، لم تكن كل موارد خراسان وسجستان لتكفي نفقات مطبخه كما يعترف هو(١) .

فهل سمع أحد أو قرأ أحد عن مثل هذا الهدر المجنون لأموال المسلمين، والاستهانة بها وبهم من واحد فقط من ولاة عبد الملك؟!

أي انتهاك لحقوقهم في أموالهم، وأي ظلم لهم حين ينفق وال أموال إقليمين من أكبر أقاليم الدولة الإسلامية في نفقات مطبخه، ثم يجدها أقل من أن تفي بحاجته، وألوف ألوف المسلمين يفتشون عما يدفعون به الجوع عنهم، وقد لا يجدون؟!

وأظن أن لو كان مع مطبخ أمية مطبخان آخران أو ثلاثة؛ لفرضت الجزية على كل المسلمين، عرباً وغير عرب، لسد نفقات المطابخ... وربما لن تكفي.

وأعود إلى هؤلاء المساكين.

ما الذي يمكن أن يطلب منهم، وما الذي يمكن أن يقدموه، وهم الآن مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، لا فرق بين متقدم ومتأخر، وكان بين المسلمين من تقدم ومن تأخر إسلامه، مع وجود النبي.

لكم أحزنني منظرهم وقد خرجوا لا يعلمون أين يذهبون، لا يملكون إلا البكاء والاستغاثة بالنبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) حتى أن قراء البصرة كانوا يخرجون إليهم متقنعين، فيبكون معهم لما يرون ويسمعون، دون أن يستطيعوا منعاً لما حل بهم(٢) .

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ٧٧ وأمية هو ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي كان عامل عبد الملك بن مروان على خراسان.

(٢) تأريخ الطبري أحداث سنة ٨٣، نهاية أحداث السنة.

١٣٥

أيها البؤساء، هل سيخفف من ألمكم لو أخبرتكم إن المسلمين قبلكم وبعدكم، وممن لم يكونوا مثلكم من أهل الذمة ثم أسلموا، قد شاركوكم ما أنتم فيه، وأصابهم ما أصابكم أو أكثر مما أصابكم، واستغاثوا كما استغثتم بمحمد دون أن ينفعهم تمسكهم واستغاثتهم بمحمد وإيمانهم به وبدينه، وأحسبهم لو خالفوا محمداً وتابعوا هؤلاء الحكام، لكان ذلك أولى أن يجنبهم ما تعرضتم وتعرضوا له.

وهؤلاء الآخرون من سبي خراسان؟ هل سألت عنهم يا أبا الوليد، وهل عرفت كيف ماتوا، وهم أسرى لدى أمير جيشك؟ لقد اشتد البرد في ذلك الوقت فجردوا من ثيابهم ليلبسها غيرهم من أفراد جيشك، فلم يلبثوا أن ماتوا من شدة البرد(١) .

ألم تكن تستطيع أن تزود جيشك بما يقيه برد الشتاء فلا يضطر إلى سلب الأسرى ملابسهم، وتركهم عراة يقاسون البرد؛ الذي قضى عليهم قبل أن يقضي عليهم سيف القائد المسلم.

وأسرى يوم الزاوية؟! لقد كانوا أربعة عشر ألف، قتلتهم كلهم صبرا إلا واحداً فقط، أي إنك قتلت من الأربعة عشر ألف، ثلاثة عشر ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين. ما أرحمك يا حجاج!! لِمَ تركت هذا الواحد فلم تلحقه بأصحابه؟!(٢) .

وأراني سأكتفي بهذا منك، لا لأنه كل ما يمكن قوله عنك، ولكن يكفيك من شر سماعه كما قيل، ثم الخوف من أن يهرب القارئ ويترك القراءة، وليس في الحديث إلا القتل والدم والظلم والعبث بأرواح الناس وأموالهم، وإن لم يكن ذلك ذنبي، فما أنا عبد الملك ولا الولاة ولاتي، ولست أكثر من ناقل لا يريد أن يزور كما يزور الآخرون.

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ٨٥.

(٢) تأريخ الطبري أحداث سنة ٨٢.

١٣٦

(٢٤)

الوليد بن عبد الملك

العدل في قتل الأسرى

لم يكد الوليد يتولى الخلافة بعد أبيه عبد الملك حتى كان أول همه أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد ليصرفها لابنه عبد العزيز، لكن الأمر لم يتم له. ويبدو أن هناك نفوراً لا أعرف سببه بين الخلافة وبين من اسمه عبد العزيز من الأمويين، فكل من كان اسمه كذلك لم يلها منهم.

إذن حاول الوليد أن يزيح سليمان، حاول بكل الوسائل: عرض عليه الأموال الطائلة - وهي أموال المسلمين طبعاً - غير أن سليمان رفض وأصر على البقاء في موضعه من وصية أبيه، فلم يكن من الوليد إلا أن كتب إلى عماله على الأمصار يدعوهم، ويدعو الناس لمبايعة ابنه عبد العزيز ولياً للعهد وخليفة بعده.

وكان فيمن أجابه إلى ذلك، الحجاج بن يوسف، وقتيبة بن مسلم.

وأمام رفض سليمان، قرر الوليد أن يسير هو إلى سليمان لأخذ البيعة منه لابنه، لكنه مات قبل أن يتم له ما أراد.

ورحم الله الموت، لو كان الموت مما يرحم، فكم من مشكلة حلها ولم تكن لتحل لولاه.

ورحم الله (لكن) فما أكبر أثرها في اللغة وأثقل ما تتحمله من بين ألفاظها، ولا أدري ماذا كنا سنفعل لولا هذه الـ (لكن) التي خففت علينا الكثير مما لا نعرف أو لا يسهل قوله.

ومات الوليد وتولى سليمان الخلافة.

لكننا لم نتناول من حكم الوليد ولم نقف إلا عند قضية واحدة، هي محاولة عزل أخيه سليمان.

فهل اقتصر حكم الوليد على هذه القضية، وهل سنكتفي منه بهذه القضية؟

لا، ليس ذاك، لقد كان حكم الوليد حافلاً، بالدم مع الأسف، بالمزيد من الدم، لا لمن قتل في جبهات القتال، وهذا قد يمكن فهمه، ولكن للأسير والمقتول صبراً في غير جبهات القتال.

١٣٧

فقتيبة بن مسلم أمير جيوشه في الشرق صلب من أهل الطالقان في عام ٩٠ (سماطين، أربعة فراسخ في نظام واحد)(١) وأظن الفرسخ يتجاوز الثلاثة كيلومترات، وتستطيع أن تقدر عدد المصلوبين الذين غفل المؤرخون فلم يعرضوا لعددهم.

وبعد ذاك، في عام ٩٣ قدم على قتيبة بأربعة آلاف أسير فأمر بقتلهم. ويعجبني فيه هذه المرة أنه كان في غاية العدل، فقد قتل ألفاً منهم بين يديه، وألفاً عن يمينه ومثلهم عن يساره والألف الرابع من خلف ظهره، ولم يكن يعوزه إلا أن يضاف إلى اسمه (الأمير العادل)(٢) .

ولا أعرف عدد الذين قتلهم هذا القائد وحده، وهم كما رأيت من الأسرى الذين كان لهم دائماً حكم خاص بهم، ولكن الذي أعرفه أن قتل الإنسان أصبح في العهد الذي أتكلم عنه أقرب إلى الهواية، يمارسها من شاء ممن بيدهم السلطة، من الكبير فيهم حتى الصغير.

وإن هذه الهواية لم تقتصر على أسرى الحرب ولا على غير العرب من أسرى الحرب، بل شملت إلى جانب هؤلاء، العرب أنفسهم، وقد أشرت إلى هذا آنفاً، دون القصد إلى التمييز بين العرب وبين غيرهم، فلست مستعداً إلى التفريط بقطرة دم واحدة تراق من غير حق لأي إنسان، أي إنسان.

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ٩٠ وتأريخ ابن الأثير أحداث نفس السنة.

(٢) نفس المصدر أحداث سنة ٩٣.

١٣٨

(٢٥)

سليمان بن عبد الملك

توفيل، الفرزدق وجرير

قد تستغرب أن أبدأ حديثي عن سليمان - على غير ما اعتدت - بهذا الجندي الرومي الذي قتل بعد الأسر في مجلس الخليفة، وليس فيه ما يدعو إلى أن يكون هو بداية الحديث عن سليمان، وليس أكثر من القتل في عهده وفي عهد غيره، حتى أصبح القتل هو قاعدة الحكم في تأريخنا.

لكن مقتل توفيل - وهو الاسم الذي تصورته لهذا الأسير الرومي - يمثل لوناً فريداً من ألوان الجريمة، لا يمكن أن تجده عند غير هؤلاء الذين احترفوا الجريمة، فلم يعد يعنيهم لونها أو شكلها أو حجمها، ثم إن الجريمة هي الجريمة، والوحشية هي الوحشية، لا يغير منها ولا يخفف من بشاعتها اختلاف الضحية: أن يكون عربياً أو مسلماً أو غير عربي وغير مسلم، من أي جنس وأي دين بل أزيد فأرى أن أسباب العداء، إن كانت مفهومة - وقلما كانت كذلك - اتجاه العربي الذي قد يتطلع إلى الحكم أو ينضم إلى من يتطلع إلى الحكم، فهي معدومة عند هذا الرومي وأمثاله من الذين لم يؤتَ بهم إلى القتال إلا مكرهين وينتظرون اليوم الذي يعودون فيه إلى أهليهم وذويهم لو سلموا من القتل.

ولهذا فقد سر توفيل وهو يقع أسيراً في أيدي العرب الذين سمع الكثير عن عدلهم ونبل أخلاقهم وحسن معاملتهم للأسرى الذين يقعون في أيديهم.

لقد نجا أخيراً من الموت الذي كان يحصد أصحابه، وهم يتساقطون أمامه ولا يدري متى سيأتي دوره فيسقط هو كما سقطوا. إن حياة جديدة منحت له بعدما يشبه اليأس منها، لقد كان يردد دائماً: ما أسعدني! لم يكن بيني وبين الموت إلا أن يخطئ سهم أو يصيب سيف فأكون بين الأموات، إنه لن يخوض حرباً بعد اليوم ولن يرى الدماء ولن يضطر إلى قتل الأبرياء مثله، ممن جيء بهم قسراً ليقتلوا أو يقتلوا، لا يدرون لماذا أو ربما دروا لكنهم لا يستطيعون شيئاً، إنه صاحب العرش الذي يسوقهم ليحفظ عرشه، ولم يكونوا إلا من ضحاياه قبل القتل في الحرب، أو في أثناء الحرب، أو بعدما يعودون من الحرب، لمن يعود منهم.

١٣٩

وربما فكر توفيل أنه لن يعود إلى بلده ويفضل أن يبقى ويعيش مع المسلمين، وربما يسلم ويتزوج وينجب، وربما يصطنع له نسباً في إحدى قبائل العرب فيصبح بعد حين، عربياً صليبة ويستبدل بـ (توفيل) حنظلة أو عتيبة.

لكن القدر أو الحاكم كان يريد شيئاً آخر، شيئاً بعيداً جداً عن الحلم الذي كان يراود توفيل ويغمره بالسعاد كلما ألم به.

ففي صبيحة أحد الأيام نودي عليه وعلى أربعمائة من أصحابه للذهاب إلى مجلس الخليفة. واستبشر توفيل خيراً ورأى أن حلمه بدأ يتحقق أخيراً، لم يعد مجرد حلم، لم يدعَ إلى مجلس الخليفة إلا لفك أسره وإطلاقه، ولكن لِمَ يأخذونهم مقيدين؟! تساءل توفيل، وهو يرى قيوده تشل حركته، وأجاب على تساؤله: لعل الخليفة فضل أن يفك بنفسه قيودهم، احتراماً لهم وعطفاً عليهم، ورسالة يوصلونها إلى من هناك في بلاد الروم عن الحكام العرب وعدلهم وتواضعهم!!

وجيء بالأسرى.

كان مجلس الخليفة غاصاً بهؤلاء المسوخ الممالئين للظالمين المبررين لجرائمهم، أو لا قل كانوا أدواتهم في جرائمهم.

الأسرى ساكتون فهم لا يعرفون العربية ولا يعلمون شيئاً مما يدور حولهم، والخليفة لم يتحرك لفك قيودهم كما قدر توفيل.

وبدأ القلق يساور توفيل وأصحابه، ويشتد كلما طالت المدة، وعيونهم تلتقي حيناً وتتباعد حيناً،لا يسمعون إلا ضربات قلوبهم.

وفجأة يأتي من يتحسس رقابهم ويعصب عيونهم، ثم يطلب من كل منهم أن يحني رأسه.

وقبل أن يستطيع توفيل الإجابة على أسئلة بدأت تتكاثر، كان الفرزدق: الشاعر المشهور، قد تقدم نحوه وأهوى على رقبته بالسيف، لكنه لم يقطع الرقبة فيريح توفيل.

وفكرت في هذا البائس الذي لم يمت ولكنه قريب من الموت، وقد تدلّت رقبته، وهو يتذكر أبويه وأيام صباه وأحلامه التي تزاحمت كلها في تلك اللحظات، فتختلط دموعه بدمه الذي ينزف من رقبته.

١٤٠