جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51008
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51008 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويضحك الحاضرون من الفرزق الذي لم يحسن قطع رقبة هذا الأسير.

ويضحك أمير المؤمنين، وهذا أهم ما كان يشغل المسلمين!!. من شخص يتعذب حتى وهو يقتل، حين لا يقطع السيف رقبته بضربة واحدة، لكنه كان سيحرم أمير المؤمنين حينئذٍ لذة الضحك، وهي مشكلة لا أعرف كيف كان سيحلها المسلمون الذين ما أظنهم جرؤوا على الضحك في حضرة أميرالمؤمنين هذا لو لم يسبقهم إليه.

ويتعالى الضحك، وكنت أتمنى أن يتعالى الاستنكار.

ويعطى سيف آخر لشخص آخر ليكمل قطع رقبة توفيل التي بقيت مدلاة.

ويتحول توفيل، هذا الإنسان، ويتحول قتله، إلى جزء من شعر النقائض بين جرير والفرزدق، لا يعيد الحياة لتوفيل الذي لم يعرف ولم يسمع بجرير ولا بالفرزدق، ولا بأحد ممن ورد اسمه في ذلك الشعر مدحاً أو ذماً(١) .

وأنتهي من حديث توفيل الذي سأجعله رمزاً لكل هؤلاء الأسرى البؤساء.

وأعود إلى حديث سليمان الذي ما إن تولى الخلافة حتى سارع إلى نصب ابنه أيوب ولياً للعهد وخليفة بعده.

فإذا تركنا حديث ولاية العهد التي أصبحت شاغل الحكم والحاكمين والمحكومين؛ فإنك لن تجد غير الدم وغير قتل الأسرى صبراً يتسابق الأمراء والقادة فيه، فقد قتل يزيد بن المهلب، أمير سليمان على خراسان، أربعة عشر ألف أسير تركي في مدينة دهستان(٢) .

وأربعة عشر ألف آخرين في مدينة جرجان قتلهم صبراً.

وفي وقعة أخرى فيما وراء النهر، نصب يزيد هذا جذوع النخل للأسرى (فرسخين: عن يمين الطريق ويساره فصلبهم أربعة فراسخ...)(٣) .

____________________

(١) انظر تفصيل القصة في تأريخ الطبري أحداث سنة ٩٩، وتأريخ ابن الأثير النقائض لأبي عبيدة معمر بن المثنى.

(٢) تأريخ الطبري أحداث سنة ٩٨ وابن الأثير أحداث نفس السنة والبدء والتاريخ وفتح جرجان وطبرستان ج ٦.

(٣) تأريخ الطبري أحداث سنة ٩٨ وتأريخ ابن الأثير أحداث نفس السنة والبدء والتأريخ ج ٦ فتح جرجان وطبرستان.

١٤١

لكن يبدو أن الأمير يزيد لم يعد يكتفي بالألوف من الأسرى يقتلهم صبراً، فقد أقسم مرة أن يجري وادي جرجان بدمهم حتى تطحن الارحاء ويخبز، فقاد اثني عشر ألف أسير إلى الوادي وقال لأفراد جيشه: من طلبهم (الأسرى) بثأر فليقتل، فكان الرجل يقتل الأربعة والخمسة، وأجري الماء في الوادي على الدم. وعليه ارحاء ليطحن بدمائهم. ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل. ونعم ما أقسم يزيد! ليته حنث بقسمه. ليته لم يبر بقسمه ودفع كفارة الحنث باليمين. وما أظن الحنث في هذه اليمين أو مثلها يحتاج إلى كفارة. أليس ذلك ارضى لله من أن يسيل الوادي بدماء الأسرى، وهم اسرى؟!

أرأيت أبشع من هذه الصور التي ما مرت علي في حلم إلا قمت فزعاً مذعوراً أتحسس رقبتي؟!

ماذا فعل الأمويون بالناس، وأية جريمة بقيت لم يرتكبوها؟!

بل ماذا فعلوا بالإسلام نفسه وقد صبغوه بالدم ينزف من جسمه، وجسم غيره؟!

ماذا سيقولون للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لو لاقوه، ولابدّ أنهم ملاقوه، ولابدّ أنه سائلهم؟!

ولولا أني أردت أن أقتصر في كتابي على الوحشية المتصلة بالجريمة، تسبقها أو تعقبها أو تصحبها، دون أن أتجاوزها إلى سواها، وليس قليلاً سواها.

لولا ذاك، لعرضت مثلاً، وأنا أتحدث عن سليمان، لإفراطه في الأكل وشدة حرصه وشرهه إليه، والذي يصفه لنا المسعودي قائلاً: (إن سليمان خرج من الحمام ذات يوم وقد اشتد جوعه، فاستعجل الطعام، ولم يكن فرغ منه، فأمر أن يقدم عليه ما لحق من الشواء، فقدم إليه عشرون خروفاً، فأكل أجوافها مع أربعين رقاقة، ثم قرب ذلك الطعام فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئاً(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ١٧٥.

١٤٢

(٢٦)

عمر بن عبدالعزيز

نقطة الضوء في النفق

أرأيت إلى نفق طويل مظلم قد أجهدك السير فيه، يضربك حائط هنا ويدمي قدميك شوك هناك، وأنت تلتمس الخروج فلا تجده ولا تدري متى تجده، فتستسلم ليأسك وتظن أن ليس وراء هذا الظلام إلا ظلام.

وفجأة ومن بعيد يلوح لك ضوء فتسرع إليه بعد طول العناء، وأنت تعيش الظلام في الظلام، وتحس الراحة والأمن وتستعيد الأمل المفقود.

ولكنك ما أن تطمئن وتحاول أن تنسى ألمك ونصبك ويأسك، حتى تهب ريح عاتية شديدة تطفيء تلك الشمعة فتعود إلى الظلام نفسه، يضربك حائط هنا ويدمي قدميك شوك هناك.

ذلك هو عمر بن عبد العزيز: نقطة الضوء في تأريخ مظلم شديد الظلام قبله، وتأريخ مظلم شديد الظلام بعده.

رحمك الله يا أبا حفص، لكم عانيت من نفسك ومن أهلك حتى استطعت أن ترى الحق وألا تغمض عينيك عنه.

رحمك الله وأنت تسوس الناس وقد فسدوا وأخلق دينهم، وانتزع منهم، من كان قبلك، إنسانيتهم، قبل أن ينتزع دينهم.

نعم ما اخترت لنفسك حياً ونعم ما اخترت لنفسك ميتاً.

فطبت حياً وطبت ميتاً.

أيها الاستثناء الذي لا استثناء معه على امتداد حكم ظالم طويل قبله وبعده.

لقد بقيت حياً ومات كل الذين قتلوك.

فسلام عليك وتحية لك، وسقى الله قبراً ضمك.

١٤٣

(٢٧)

يزيد بن عبد الملك

حبابة، عباس بن فرناس

لكم أعجبني المنظر! ومن ذا الذي يراه فلا يعجبه؟!

أمير المؤمنين يهم بالطيران، وحبابة تتعلق به ضارعة متوسلة: إلى من تكل المسلمين يا أمير المؤمنين؟! من لهم بعدك؟! من سينصف ضعيفهم من قويهم ويسد حاجة محتاجهم ويقيم فروض دينهم؟!(١)

وضحكت.

ضحكت من طيران أمير المؤمنين، ولكني ضحكت أكثر من خوف حبابة وقلقها واهتمامها بمن سيتولى شؤون المسلمين، لو أصر أمير المؤمنينن على الطيران، وقد غلبه السكر فحدث له لا قدر الله!! ما حدث للعباس بن فرناس كما تذكر الرواية المتداولة.

لا تقلقي يا حبابة وليطمئن بالك فأمور المسلمين ستكون أفضل، دون شك، لو طار أمير المؤمنين، ولو طار كل أمراء المؤمنين مثله، وكلهم مثله.. سيكونون في خير وعافية لو لم تمنعي سيدك من الطيران وتحرميني الاستمتاع بمشاهدته وهو يطير.

أظنك عرفته عزيزي القارئ، إنه يزيد بن عبد الملك ثالث أبناء عبد الملك بن مروان، الذي آلت إليه (ملكية) المسلمين إرثاً من جده مروان بن الحكم، ثم من أبيه عبد الملك.

وأما التي منعته أن يطير فهي حبابة الجارية التي أولع بها وبرفيقتها سلامة، وترك شؤون الناس يلهو بها من يلهو ممن لا يخشى عقاباً ولا حساباً، لقد قضى حياته بين هاتين ينتقل من حضن هذه إلى حضن تلك ثملاً مخموراً.

يزيد بن عبد الملك هذا، أو يزيد حبابة - سلامة؛ كما يعرفه الناس، كان الخليفة المفترض الطاعة على المسلمين كما يصر هؤلاء المشوهون المتخلفون الذين ينافس حديثهم قديمهم في وجوب طاعة الخليفة والامتثال لأمره وعدم الخروج عليه، حرصاً كما يقولون على الإسلام وصوناً له، وهم، يعلم الله ويعلمون، لا يقولون ذلك إلا دعماً للظلم وتزكية للظالمين.

____________________

(١) الأغاني ترجمة يزيد بن عبد الملك، وتأريخ الطبري خلافة يزيد بن عبد الملك.

١٤٤

وعلى كل فما كنت لأحفل بحب يزيد لحبابة وغير حبابة، وما كنت لأعرض له، فهذا شأنه: شاب مترف قد جمعت له الدنيا دون تعب ولا جهد، فأراد أن يستمتع بكل لذاتها، وليس في لذاتها ما هو ممتنع عليه.

ولكني أتحدث هنا عن أمير (المؤمنين) يزيد، عن خليفة أمة تمثل نصف الكرة الأرضية أو أكثر من نصفها في ذلك العصر، والويل لهذه الأمة حين لا يفكر خليفتها إلا في جاريتين، ولا ينصرف همه إلا إليهما وإلى إرضائهما وإشباع حاجته منهما!!

وأخاله كان صادقاً كل الصدق في تصوير حاله وهو يتمثل ببيت نسمعه دائماً لكثرة الاستشهاد به:

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

إذن ألقى خليفة المسلمين العصا وقد بلغ غاية مناه: حبابة وسلامة، وموائد شرب غنية بكل أنواع الخمر، وما يلزم الخمر وما يستطاب مع الخمر!!

وماذا يهم المسلمين غير هذا؟ وماذا يريد المسلمون غير سعادة خليفتهم، وليس كحبابة وسلامة من يقدر أن يدخل السعادة على قلبه؟!

فإذا تركت حديث حبابة وسلامة والخمر والطيران، وأنا لم أتناوله إلا لمساسه بحياة الناس ومعاناتهم وتأثيره عليهم، فما الذي فعله يزيد وماذا شهد حكمه؟

هل انتهى مسلسل القتل، وقتل الأسرى على وجه الخصوص؟

لا أظن، فهذا قائده عمر بن هبيرة يقتل سبعمائة أسير من الروم كانوا قد أخذوا بعد انتهاء الحرب.

وهذا يزيد نفسه حمل إليه في دمشق تسعة فتية من آل المهلب بعدما قتل كبارهم في قندابيل. مدينة مما وراء النهر(١) . فأمر بهم فقتلوا جميعهم، حتى غلام منهم يبدو أنه أنف أن يبقى حياً بعد مقتل من كانوا معه من أهله، فطلب أن يقتل فقتل معهم.

____________________

(١) ماوراء النهر اصطلاح يكثر ترداده في كتب التأريخ، ويراد به الأقاليم التي تقع بعد نهر جيحون أواسط آسيا، وهي بلاد واسعة تحتل مكاناً كبيراً في التأريخ الإسلامي.

١٤٥

ويحك يا يزيد، إنهم غلمان وصبيان لم يشتركوا في حرب ولم يحملوا سلاحاً، وقد جيء بهم أسرى بعدما قتل الكبار من أهلهم، هلا رحمتهم وقد قتلت آباءهم وإخوتهم وأيتمتهم؟! هلا تركتهم وقد تركتم المجرمين والقتلة واللصوص يعبثون بأرواح الناس وأموالهم؟!

ألم تشغلك حبابة وسلامة عن القتل، أم كان القتل مما لا يشغلكم عنه شيء؟!

وأنت يا حبابة، ما أظنك إلا على حق وأنت تصرخين: من للمسلمين بعدك؟! من الذي سيقتل أطفالهم الأسرى يا أمير المؤمنين؟!

وحين يتعلق الأمر بأرواح الناس، فإن الحديث عن أموالهم سيكون غير ذي شأن.

فهل ألغى يزيد الضرائب والأعباء المالية الجديدة التي كان محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج بن يوسف قد فرضها على المسلمين، فرفعها عنهم عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة؟!

سأترك الحديث لابن الأثير؛ قال: (وعمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده، ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثماً عاجلاً، فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان على اليمن فجعل عليهم خراجاً مجدداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما جدده محمد بن يوسف وقال: لأن يأتيني من اليمن حفنة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوضيعة، فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها وقال لعامله: خذها منهم ولو صاروا حرضاً!! - وهو الضعيف أو الشديد المرض المشرف على الهلاك - والسلام)(١) .

ألم يكفك يا يزيد ما لا يفنى من المال الذي امتلأت به خزائنك، فتطلب إعادة ما فرضه ظلماً محمد بن يوسف من أعباء مالية جديدة على المسلمين الذين لم تبقوا لهم شيئاً بعدما استأثرتم بكل شيء؟

____________________

(١) تأريخ ابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢.

١٤٦

أكانت حبابة وسلامة وموائد الخمر تحتاج إلى كل هذه الأموال؟!

وأضحك، لا مما جرى وليس فيه ما يضحك، بل من هؤلاء المرتزقة المزورين المتخلفين، وكأني أراهم الآن وهم يبحثون عما يعتذرون به عن يزيد، بعد أن أجهدوا أنفسهم في البحث عما يعتذرون به عن يزيد آخر، سابق.

١٤٧

(٢٨)

هشام

زيد بن علي، المغيرة بن سعيد

على مسافة غير بعيدة من الكوفة، هذه المدينة المضطهدة الثائرة دوماً، وإلى يمين الذاهب منها إلى بغداد، سترى صحناً كبيراً يتوسطه قبر ترف فوقه راية خضراء، إنه قبر زيد بن علي بن الحسين: أحد كبار الثوار على الطغيان والطغاة من حكام الأمويين، بل أحد كبار الثوار على امتداد التأريخ الإسلامي.

نحن الآن في بداية عام ١٢٢، ونشاط غريب يلف الكوفة، شيء ما يوشك أن يحدث، شيء كبير سيتجاوز الكوفة وغير الكوفة لو قدر له أن يتم.

وعيون السلطة تراقب كل حركة وتتابع كل داخل وخارج، وقد سدت أفواه الطرق ومنافذ المدينة بقوات استقدمت من الشام، فالحكم لا يثق بالكوفيين ولا بعموم العراقيين.

ويوسف بن عمر(١) ينتقل إلى الحيرة ليكون قريباً من ساحة الأحداث في الكوفة، وأقدر على مواجهة ما يجري، وها هو يأمر بأخذ كل من كان قادراً على الحرب من أهل الكوفة من المتهمين بمعاداة الحكم أو الميل لزيد، وحشرهم - بعد نزع سلاحهم - داخل مسجدها الكبير الذي أغلقت أبوابه وشددت الحراسة عليه من جميع جهاته.

بيوت المدينة تفتش بيتاً بيتاً بحثاً عن زيد ومن بقي من أنصاره.

لكن زيداً ماض في خطته لا يتراجع، لا ينثني، إنه على الحق، ويكفيه ذلك قوة ومضاء وعزماً، وهذا ما أخرجه، وهذا ما حشد الثائرين حوله، لقد ساءه ما ساء المسلمين جميعاً من ظلم لا يريد أن يقف عند حد: من سلم على روحه من الناس لم يسلم على ماله، وهذا أيسر الاثنين.

لم يعد السكوت ممكناً على هؤلاء الذين لا يجرؤهم على الظلم مثل السكوت عليه، إن السكوت جريمة، والنقد والتوجع لم يعودا مجديين، لم يعد لهما موضع وقد تجاوز الظلم كل موضع. ليس إلا الثورة، لابد من الثورة، مهما كان الثمن الذي سيدفع فيها،

____________________

(١) يوسف بن عمر الثقفي أحد ولاة الأمويين الجبابرة الطغاة، كان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق والمشرق كله قتل عام ١٢٧ ثأراً بخالد بن عبد الله القسري.

١٤٨

ولا ثورة دون ثمن، بل إن الثورات لتقاس أحياناً بما يدفع فيها من ثمن، الثورة؛ إنها الحل الوحيد والأخير لمن يأبى الظلم ويرفض احتماله ويريد إزالته.

وفي آخر ليلة من محرم، محرم الذي شهد مأساة الإنسانية قبل واحد وسبعين عاماً في كربلاء - غير البعيدة عن الكوفة - يخرج زيد مع من بقي من أصحابه.

ويستقتل الثوار من أصحاب زيد، ويكلفون قوات الأمويين من الخسائر ما لا يمكن تصوره إلا من ثوار مؤمنين بما ثاروا له.

ويبقى زيد في قلة من أصحابه يواجه تلك القوات، لا يشدون على جبهة منها إلا هزموها وشتتوها.

ويقتل زيد، يصيبه سهم لم يمهله طويلاً حتى تنتهي حياة هذا الثائر الكبير، وتنتهي، إلى حين، الثورة التي سيتابعها بعده ابنه يحيى، وسيتابعها الثوار من نفس المدرسة التي تعلم فيها زيد.

ويقتل أصحاب زيد ويتراجع أو يختفي من بقي منهم.

فهل يخلص القتل زيداً مما بعد القتل؟

هل ينتهي الحقد بقتل زيد وفشل ثورته وزوال الخطر منه ومنها؟

أترى هشام بن عبد الملك سيرضيه من زيد مجرد القتل؟

إذن سأحسن الظن به كثيراً، وهو ما لا يريده.

وتستخرج جثة زيد من المكان الذي دفن فيه.

ويقطع الرأس ليرسل إلى (أمير المؤمنين) الذي يأمر بنصبه على باب دمشق وكأنه لافتة ترحب بزائريها، ثم لا يكتفي، فيرسل الرأس إلى المدينة؛ ليستمتع بمشاهدته من فاته ذلك من أهل المدينة، حيث ولد زيد وحيث منازل أهله وأسرته.(١)

ويعلق الجسد عارياً بعد قطع الرأس، وظل معلقاً ثلاث سنين، من عام ١٢٢ حتى موت هشام واستخلاف الوليد بن يزيد عام ١٢٥.

وحين تولى الخليفة الجديد أمر بإنزال جسد زيد أو ما بقي منه.

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ١٢٢، وتأريخ ابن الأثير أحداث نفس السنة، وكتب التأريخ الأخرى.

١٤٩

وقلت: لعل الوليد أراد أن يبدأ عهده بما يجمل صورته لدى الناس ويقرّبه إليهم ويزيل بعض ما رسخ في نفوسهم من مظالم الأمويين، فيبدأ بإنزال جسد بقي معلقاً ثلاث سنين.

ولكني كنت مخطئاً، كما كنت دائماً في أحكامي على أمراء المؤمنين.ما أنتهي من خطأ إلا لأقع في خطأ، فالوليد لم يأمر بإنزال جسد زيد ليدفنه، ولو فعل لكنت مصيباً في شيء من أمره، ولاتهمت نفسي بالتجني عليه وعليهم.

وأنزل جسد زيد كما أمر الوليد، ولكن لا ليدفن، فذلك ما أخطأ فيه الذين سمعوا بإنزال الجسد كما سمعت، بل ليحرق، لقد كان يلوم هشام أنه تركه طول تلك المدة فلم يحرقه(١) .

آه يا حقد أمراء المؤمنين! والله لو وزع بعضه على أهل الأرض لأصبح كل من عليها حاقداً.

وطويل يا قارئي الكريم حديث الصلب والحرق بعد القتل عندنا. طويل لا ينتهي مع الأسف.

فلأكمل حديث زيد القتيل بحديث هشام القاتل.

فهشام هو الرابع من أبناء عبد الملك بن مروان، الذي تولى الخلافة بعد صراع لم يكن إلا فصلاً من صراع تكرر وصراع سيتكرر مع كل خليفة وكل ولاية عهد - رأيناه قبل هشام وسنراه بعد هشام - في زمن الأمويين ثم في زمن العباسيين، وحتى عصورنا المتأخرة.

وبعد زيد سأنتقل إلى هؤلاء البؤساء من أهل الذمة، وما أظن الذي أصابهم إلا كان واحداً من الأسباب التي حملت زيداً على الثورة، فيبدو أنهم أصبحوا الاحتياطي المالي للحكم كلما احتاج إلى المال.

هل تذكر ما فعله الحجاج من إعادة فرض الجزية على من أسلم من أهل الذمة؟ لقد أعاده هشام حين تولى الخلافة، ففي عام ١١٠ (دعا أشرس بن عبد الله، والي هشام على خراسان، أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية فأجابوا إلى ذلك فلما أسلموا وضع عليهم الجزية وطالبهم بها...)(٢) .

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ١٢٢، وتأريخ ابن الأثير.

(٢) تأريخ الطبري أحداث سنة ١١٠، وتأريخ ابن الأثير احداث نفس السنة.

١٥٠

أرأيت إلى الخلق يسابق الدين؟!

فلا أنت بالذي احترمت عهدك يا اشرس، ولا أنت بالذي احترمت دينك.

وموضوع الجزية وإعادة فرضها على من أسلم كان من بين أهم ما دعا المسلمين الجدد إلى ترك الإسلام الذي لم يحفظ لهم حقوقهم ولم يساوهم بأمثالهم المسلمين، الذين أصبحوا الآن جزءاً منهم، بعد إعلان إسلامهم ودخولهم فيه. فخسر الإسلام والمسلمون ألوفاً من الذين كانوا سينضمون إليهم ويلتحقون بهم وهم يقاتلون فيما وراء النهر، بل إن عدداً من صالحي المسلمين وخيارهم قد انتصروا لهؤلاء وأيدوهم واعتبروا ما فعله والي هشام غدراً ونكثاً بعهد قطعه لهم، وهو على كل حال مخالف لأحكام الإسلام وتشديده على الوفاء بالعهود.

فإذا تجاوزنا موضوع الجزية وهو من الانتهاكات الخطيرة لحقوق المسلمين الجدد، وعدواناً لا يقبله الإسلام على من دخله وشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإننا سنواجه ما هو أشد وأقسى وأدعى لأن يثير الغضب والإنكار، وهو قتل الأسرى الذي لم ينقطع ولم يتوقف؛ فقد قتل ثمانون أسيراً أكثرهم من بني تميم من أصحاب الحارث بن سريج(١) في إحدى معاركه ضد جيش السلطة في ماوراء النهر.

وعقوبة حرق أخرى كدت أنسى حديثها في زحمة العقوبات، كان البطل فيها هذه المرة والي هشام على العراق خالد بن عبد الله القسري، فحين أُتي خالد بالمغيرة بن سعيد وبيان - أظنه ابن سمعان التميمي - في عدد لا يتجاوز الستة أو السبعة أشخاص، قيل إنهم خرجوا بظهر الكوفة، وإن كنت أشك كثيراً في أن يخرج على السلطة وجيشها وكل إمكاناتها، ستة أو سبعة أو عشرة أشخاص لا مدد لهم من جيش ولا قوة تسندهم.

____________________

(١) الحارث بن سريج بصيغة التصغير، المجاشعي التميمي أحد الثوار على الحكم الأموي، استمر ثائراً فيما وراء النهر أكثر من عشر سنين حتى مقتله سنة ١٢٨.

١٥١

ولأترك شكّي فليس محله هنا؛ لأعود إلى موضوع العقوبة القديمة الجديدة، فقد أمر خالد بحزم قصب ونفط فأحضرا، وأمر المغيرة أن يتناول حزمة منها فضعف، فصبت السياط على رأسه، فتناول حزمة فاحتضنها فشد عليها، ثم صب الزيت عليه وعلى القصب، وأشعلت فيهما النار فاحترق المغيرة والقصب. وهو ما فعله خالد مع الآخرين من أصحاب المغيرة(١) .

فأنت الآن أمام عقوبة من نوع مبتكر، ليس هو السجن ولا قطع العنق بالسيف، وإنما الحرق بالنفط يصب على القصب وقد شد المتهم إليه.

وبعد هذا الجانب المشرق، سأنتقل إلى جانب مشرق آخر!! هو ما يتعلق بأموال المسلمين التي امتلأت بها خزائن الخليفة والحاشية والولاة.

ومن الحق أن أعترف بأن هذا ليس خاصاً بعهد هشام؛ إذ يشاركه فيه، وقد يزيد عليه كل أمراء المؤمنين وكل حواشيهم وولاتهم في العهود التي سبقت أو تلت عهد هشام، لكننا نتحدث الآن عن هشام الذي يروي الطبري أن غلة أموال واليه على العراق: خالد بن عبد الله القسري الذي ورد ذكره قبل قليل قد بلغت عشرين ألف ألف، كما زدات غلة ابنه على العشرة آلاف ألف(٢) أي أن غلة أموال شخصين فقط من المقربين إلى الخليفة تبلغ أو تزيد على الثلاثين ألف ألف. ولاحظ أن هذا المبلغ لا يمثل إلا الغلة لا أصل المال؟!

تبقى القضية التي أصبحت ملازمة للحكم منذ ودعنا الشورى، وأحسبك عرفتها، تلك هي قضية أو مشكلة ولاية العهد، سمها كما شيءت، فهشام، متبعاً سيرة الذين مضوا من أسلافه، حاول هو أيضاً إبعاد الوليد بن يزيد عن ولاية العهد وجعلها في ابنه مسلمة، وألح على الوليد أن يخلع نفسه منها ويبايع لمسلمة، فأبى، فتنكر له هشام وآذاه وعمل سراً في البيعة لابنه، فأجابه قوم منهم خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي وبنو القعقاع بن خليد العبسي وغيرهم من خاصته، الذين سيتعرضون لسخط الوليد وغضبه حين تفشل خطة هشام ويتولى الخلافة الوليد بعده.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٩.

(٢) تأريخ الطبري ج ٧ احداث سنة ١٢٠.

١٥٢

(٢٩)

الوليد بن يزيد

النسف في البحر بعد الحرق والصلب والقتل

وهذا الرجل كفاني الكثير مما يمكن قوله، فقد كان صريحاً مع نفسه ومع الناس، وكشف كل أوراقه بلغتنا اليوم، فلست في حاجة إلى أن أقرأ ما بين السطور؛ لأنه لا يوجد شيء بينها، وهي مكتوبة بعبارات واضحة تغني عن هذه (البين)، ثم إنه ابن الذي أراد أن يطير لو لا حبابة.

ولست معنياً بلهوه ومجونه، ولا بكفره وإلحاده، فما أكثر اللاهين الماجنين، وما أكثر الكافرين الملحدين في تأريخنا وتأريخ غيرنا.

وما أحسبني سأتوقف عند البيتين اللذين يواجهانك عند كل من تحدث عن الوليد، أو كتب عنه بتفصيل يتفاوت بين الواحد والآخر، وكأن الحديث عن الوليد لا يتم إلا بذكرهما:

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقني الوليد

مع القصة المرافقة لهما.

وما أحسبني سأتوقف عند القصة الأخرى التي ستواجهك هي أيضاً عند كل من تحدث عن الوليد أو كتب عنه.

أتذكر يا ابن يزيد يوماً كان عندك ابن عائشة فقلت له: غنني، فغناك بأبيات طربت لها، فقلت له: أحسنت والله يا أميري، أعد بحق عبد شمس، فأعاد، فقلت: أحسنت والله، بحق أمية أعد، فأعاد، فجعلت تتخطى من أب إلى أب، تأمره بالإعادة حتى بلغت نفسك، فقلت: أعد بحياتي، فأعاد، فقمت إلى ابن عائشة فأكببت عليه ولم تبقِ عضواً من أعضائه إلا قبلته وأهويت إلى تريد أن تقبله، وابن عائشة يضمه بين فخذيه مستعظماً ذلك من أمير المؤمنين!! فأبيت إلا أن تبر قسمك، فما كان منه إلا أن رضخ، ومن يستطيع أن يعصي أمير المؤمنين حين يقسم؟! ثم نزعت ثيابك فألقيتها على ابن عائشة، وبقيت عارياً، فسارع أفراد حاشيتك مذهولين، ثم عادوا يركضون وهم يحملون ثياباً أخرى يسترون بها أمير المؤمنين.

١٥٣

ومن أراد القصة كاملة فليراجعها في كتب الأدب والتأريخ(١) .

لكم ساءني هذا المنظر الذي ربما أضحك سواي، وهو يرى الخليفة عارياً يمسك بابن عائشة الذي يحاول الهرب منه فلا يستطيع!!

لكم أحزنني أن تنحدر خلافة المسلمين إلى هذا المستوى، وقلت في نفسي: أكان يمكن لمثل هذا المأفون الخليع المجنون أن يكون يوماً خليفة، لولا ولاية العهد التي ورثناها ممن تمنعني الخطوط الحمراء أو بعد الحمراء، من التعرض لهما.

ألم أكن محقاً وأنا أكثر الحديث عنها في أكثر من موضع في هذا الكتاب وفي غير هذا الكتاب؟!!

وسأتجاوز كل هذا، فقد سبق أن قلت في بداية حديثي عن الوليد: إنني لا أريد الحديث عنه كواحد من اللاهين الماجنين ولا من الكافرين الملحدين، ولكني أريد الحديث عن هذه الأمة، عن هذه الملايين المظلومة المقهورة، من الذي سيحميهم ومن الذي سيرعى حقوقهم، إن بقي شيء منها ولا أظن، إذا كان ولي أمورهم وخليفتهم و(أمير مؤمنيهم) لا يصحو ولا يفيق من سكر، وكل ما يشغله شرب وغناء وجارية؟!!

ما أظنني في حاجة إلى جواب.

تبقى لدي ملاحظتان أو ثلاث، أرى أن أشير إليهما استكمالاً لصورة الوليد.

فمن هذه الملاحظات، أن هذا اللاهي الماجن أو الكافر الملحد، لم ينسه لهوه ومجونه ولا كفره وإلحاده، موضوع ولاية العهد بعده، فهو ما أن تولى الخلافة حتى أسرع في عقدها لابنيه الحكم ثم عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار لأخذ البيعة لهما، كل ذلك ولما يمضِ على توليه الخلافة غير ثلاثة أشهر.

وهكذا ترانا أمام هذه المشكلة التي أصبحت جزءاً من تأريخنا.

____________________

(١) - الأغاني، ترجمة محمد بن عائشة.

١٥٤

ومنها، هذه الصورة الجديدة التي أضافها الوليد، إلى صور العقوبات السابقة المتعددة، للقتل والتعذيب والتمثيل التي مارسها الأمويون قبله، فحين ثار يحيى بن زيد وفشلت ثورته وقتل، لم يكتفِ الوليد بحز رأسه ولا بصلبه، بل كتب إلى واليه يوسف بن عمر بإنزاله من خشبته وإحراقه، ثم نسفه في البحر.

وهذه صورة جديدة يعود للوليد الفضل في ابتداعها، على كثرة صور القتل والتعذيب في تأريخنا كما رأيت، وكما سترى؛ فالوليد لا يريد أن يكتفي بإحراق يحيى كما فعل بأبيه زيد من قبل، وأبى إلا أن يضيف جديداً بعد صلب الابن وإحراقه، وهو نسفه في البحر.

ومن هذه الملاحظات، أنه منذ قيام الدولة الأموية مع معاوية وحتى زوالها، فإن الوليد هو الوحيد من بين الخلفاء الأمويين، الذي لم يمت بشكل طبيعي، وإنما قتل في ثورة، كانت العصبية اليمانية من أقوى عناصرها؛ لأسباب ليس هنا محل ذكرها. وشارك فيها عدد من أهل بيته من الأمويين، كان أبرزهم وأشدهم تحريضاً عليه وطعناً فيه، ابن عمه يزيد بن الوليد المعروف بيزيد الناقص والمتولي الخلافة بعده.

لم يقتل واحد من الخلفاء الأمويين الذين سبقوا الوليد، رغم أن سيرة بعضهم لم تكن لتفضل سيرته، لكن اشتهار الوليد بالشرب واللهو حتى أصبحت سيرته موضوع تندر على كل لسان، وعداء اليمانية، وانقسام البيت الأموي، وما لحقه من ضعف، وكره الناس للحكم وتمني الخلاص منه، ثم، وربما كان هذا هو الأهم، وإن لم يكن بعيداً عما سبق، ظهور الدعوة العباسية وما كانت تحققه من دعم وتأييد وانتشار خصوصاً في الأقاليم الشرقية من الخلافة.

كل هذه الأسباب سهلت الثورة على الوليد وقتله، لكن الثورة لم تتوقف ولم تنته بقتل الوليد، وإنما استمرت وامتدت، ولم تتوقف إلا بسقوط الحكم الأموي كله وقيام الحكم العباسي على أنقاضه.

١٥٥

(٣٠)

يزيد بن الوليد

الحكم الذي لم يدم أكثر من ستة أشهر - رأي المعتزلة

لم يكن مقتل الوليد إلا السبب المباشر لتصاعد الأحداث التي انتهت بسقوط الحكم الأموي.

فقبل قتل الوليد كان هذا الحكم يعيش أزمة تزداد حدة واتساعاً مع كل يوم جديد.

الناس ضاقوا بالحكم وثقلت عليهم أيامه ويئسوا من إصلاحه، وهم يفتشون عمن يخلصهم منه.

والخطر القادم من الشرق يغذي عوامل النقمة والكره له ويزيد من الجرأة عليه.

والبيت الحاكم تعصف به الخلافات وقد انقسم إلى مراكز قوى لكل فريق يناصره ويدعمه، من داخل البيت نفسه أو من خارج البيت، لكن الأمر لم يصل بينهم، وإن قارب، إلى نسف كل الجسور وإلى الاقتتال وسفك الدم، كان هناك شيء يجمعهم كلما أوشكت الأمور أن تبلغ ذاك: ربما الخوف من ثورة - والظروف كلها مهيأة لها - تقضي على الحكم وعليهم.

وجاء قتل الوليد ليقتل ما بقي من حطام أمل لدى البعض من أفراد هذا البيت باحتواء الأزمة وتلافي الخطر والعودة بالأمور إلى وضعها الطبيعي، أو السابق على الأقل، وليفجر ما لم يكن قد تفجر من البيت ويشعل النار في كل جانب منه، فالمشارك في القتل والساعي فيه والمحرض عليه هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ابن عمر الخليفة المقتول لحا، والذي تولى الخلافة بعده، بدعم اليمنية وتبنيها لدعوته؛ لأسباب لا أرى مجالاً لذكرها الآن(١) .

وهكذا تحول صراع الرأي إلى صراع السلاح بين أبناء العمومة من أفراد البيت الحاكم، وصراع بين الشاميين الذين يمثلون قوة الحكم وسنده منذ قام وتأسس، فسليمان بن هشام بن عبد الملك مثلاً يخرج من السجن ويقبل إلى دمشق مناصراً ليزيد ومتهماً الوليد بالكفر لما كان بينه وبين أبيه هشام من عداء شديد كانت ولاية العهد أهم أسبابه.

____________________

(١) انظر كتابنا (المعتزلة بين الحقيقة والوهم) الفصل المخصص لثورة يزيد.

١٥٦

وأهل الأردن وفلسطين يثورون على يزيد ويولون أمرهم أحد أبناء سليمان بن عبدالملك بن مروان.

وأهل حمص الذين يثورون على العباس بن الوليد، أخي يزيد، ويطالبون بدم الوليد.

ومروان بن محمد بن مروان يظهر الخلاف ليزيد والمطالبة بدم الوليد، ثم لا يلبث أن يبدل موقفه ويبايع يزيد بالخلافة.

وما أسرع ما تطورت الأحداث بين أنصار الوليد والمطالبين بدمه من أهله وأهل الشام وبين يزيد الخليفة الجديد وأنصاره من أهله وأهل الشام.

وما أسرع ما وصلت هذه الأحداث حد القتل وقطع الرؤوس، وبلوغ ما لا صلح معه ولا عودة إلا بتصفية أحد الفريقين، وهذا ما أضعفهم كلهم وعجل في نهايتهم.

إذن كان يزيد رجلاً سيء الحظ، فقد قضى الأشهر الستة أو على رواية، المكثر، الستة واليومين التي امتدت خلافته، في قتال أو استعداد لقتال، لا خارج حدود الخلافة ومع أعدائها التقليديين من روم وغيرهم، وإنما داخل حدود الخلافة، وعلى أرض الشام بالذات، وبين أفراد البيت الحاكم نفسه.

لكني أريد أن ألاحظ أن يزيد بن الوليد، وهو الناقص كما يلقبه المؤرخون(١) ، والذي يوصف عادة بالزهد والنسك، حتى فضله البعض على عمر بن عبد العزيز(٢) . يزيد هذا لم يعف ولم يترك سيرة من سبقه من خلفاء الأمويين في التمثيل بالجثث وقطع الرؤوس ونصبها على الرماح والطواف بها.

فحين قتل الوليد بن يزيد قطعت كفه اليسرى وبعث بها إلى يزيد قبل وصول رأسه، وعند وصول الرأس، أمر به يزيد فنصب للناس على رمح وطيف به في أحياء دمشق، ولم يحل الزهد والنسك الصادق أو المرائي الذي كان يظهره وهو ما اعتقده، دون ارتكاب ما كان يفعله السابقون له ممن لم يعرفوا بزهد ولا نسك(٣) .

____________________

(١) قيل له الناقص لنقصه أرزاق بعض الجنود، وقيل إن أول من سماه الناقص هو مروان بن محمد، شتمه فقال: الناقص بن الوليد فتبعه الناس في التسمية.

(٢) ذلك هو رأي المعتزلة في المفاضلة بين الاثنين، انظر كتابنا (المعتزلة بين الحقيقة والوهم) الفصل الخاص بثورة يزيد بن الوليد.

(٣) الطبري، أحداث عام ١٢٦.

١٥٧

(٣١)

مروان بن محمد

قطع الأيدي والأرجل - سقوط الحكم الأموي

كل شيء يشير إلى قرب نهاية الحكم الأموي، وأن هذا الحكم يعيش أيامه الأخيرة.

البيت الحاكم مشغول بالقتال بين أجنحته المختلفة كما رأيت دون أن يهتم بخطورة ما يجري في أطراف امبراطوريته بل فيما هو أدنى وأقرب إليه من أطراف امبراطوريته. ما يشغل كل جناح أو حزب فيه هو لمن سيكون الفوز في هذا القتال؟ من سيخرج منتصراً في هذه المعركة الداخلية التي شغله التفكير بالانتصار فيها عن التفكير بنتائجها، وبأنها لن تنتهي إلا بخسارة الكل، سيخرج الكل منها خاسرين، لن يكون الفوز من نصيب أي منهم.

والدعوة الهاشمية (العباسية) على الطرف الشرقي من الامبراطيورية: في إقليم خراسان، تحرز في كل يوم نصراً جديداً وأرضاً جديدة، وتكسب في كل يوم أنصاراً وأتباعاً جدداً، لا يردها شيء ولا يوقف زحفها شيء، ينهض بها ويقودها دعاة وقادة على درجة كبيرة من الذكاء والدهاء غالبيتهم من العرب الصليبة: اليمن وربيعة ومضر، وبينهم من ينتمي إلى غير العرب، خصوصاً إقليم خراسان: معقل الثورة ومنطلقها.

الدعاة يتحركون، يتنقلون كما يشاؤون مستفيدين من ضعف الحكم وكره الناس له ومن قوة العصبية القبلية التي أثارها هذا الحكم بقوة لم تشهدها الجاهلية نفسها.

وتتحول الدعوة إلى قوة منظمة ضاربة يقودها رجل من خراسان شديد المراس حديد الذهن نافذ العزيمة هو أبو مسلم الخراساني؛ الذي استطاع أن يسيطر على أجزاء كبيرة في الشرق ويتهيأ لما هو أكبر.

والولاة يرون ما يجري ويشعرون بالخطر الزاحف، لكنهم لا يستطيعون شيئاً إزاءه، إنهم عاجزون عن رده، وعلى كل واحد أو جماعة منهم أن يدبر أموره بما تيسر لديه، بعدما عجز المركز في دمشق، وهو المشلول المشغول بصراعه، أن يمده أو يساعده بشيء، رغم اشتداد المطالبة بالمدد والمساعدة لمواجهة الخطر الوشيك.

١٥٨

وكل يوم يمر تزداد الدعوة - التي تحولت إلى ثورة - قوة، وموقف الحكم ضعفاً، و(تسود) المدن تباعاً: الواحدة بعد الأخرى.(١)

في هذه الظروف تولى مروان الخلافة، كانت الأحداث قد تجاوزته، وأظنها كانت ستتجاوز غيره، لو قدر لغيره أن يلي الخلافة.

وبعد معارك ضارية طويلة قتل مروان في بوصير إحدى قرى مصر عام ١٣٢ لينتهي بذلك الحكم الأموي.

وأنا لا أريد أن أؤرخ للاحداث التي انتهت بمقتل مروان، وهي مبسوطة في كتب التاريخ، ولكني أريد أن أقف عند مروان نفسه، كما فعلت مع من سبقوه من حكام الأمويين.

فما أن تولى مروان الخلافة حتى سارع إلى نصب ولديه: عبيد الله وعبد الله وليين للعهد وخليفتين بعده، لم يمنعه من ذلك حراجة الظروف التي يواجهها ولا فشل التجارب السابقة التي انعكست شؤماً على المسلمين.

فإذا تركت ولاية العهد فسأجدني في مواجهة هذه السمة التي لازمت الحكم الأموي، وهي الوحشية في التعامل مع الأعداء، لا في ميادين القتال، وهو ما قد يغتفر، ولكن خارج هذه الميادين.

فحين ظفر مروان بأهل حمص أمر بجمع قتلاهم، وكانوا خمسمائة أو ستمائة فصلبوا حول المدينة.

وحين أتي بثابت بن نعيم الجذامي(٢) هو وابنيه إلى مروان، أمر فقطعت أيديهم وأرجلهم وأقيموا مقطعين على باب مسجد دمشق. فبنو أمية ومنهم مروان، لا يكتفون - كما رأينا - بقتل الخصم ولا يشفي ذلك غيظهم منه، فلابد بعد القتل من صلب أو ذبح أو تقطيع أيد وأرجل أو حرق ونسف في البحر.

____________________

(١) السواد كان شعار الثورة الهاشمية (العباسية) فحين يقال: سود فلان أو سودت هذه المدينة أو تلك، فهذا يعني انها انضمت والتحقت بهذه الثورة، عكس البياض الذي كان شعار الأمويين، فيقال بيضت المدينة إذا أعلنت ولاءها للأمويين.

(٢) ثابت بن نعيم الجذامي أحد رجال اليمانية وأحد الولاة في زمن الأمويين وانظر في مقتله ومقتل بنيه الذين كانوا في يدي مروان بن محمد، الطبري ج ٥ أحداث عام ١٢٧.

١٥٩

وكان هذا آخر ما فعله مروان قبل أن يلقى مصرعه في أرض مصر على أيدي العباسيين الذين لم يقصروا معه حين ظفروا به، ولم يقصروا مع غيره حين تولوا الحكم.

١٦٠