جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51010
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51010 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويتعرض الجيش العراقي لنكسة لم يعرفها، ويشعر، ويشعر العراقيون معه، بالإهانة التي ألحقها به وبهم، مَن لا يعرف معنى الإهانة وقد ولد ونشأ فيها.

وينتفض الجيش أو بقاياه، وينتفض العراقيون، لم يكن معهم من سلاح غير الغضب للكرامة؛ وما أمضاه من سلاح، سلاح لم يعوز العراقيين يوماً، ولم يتخلّ عنهم أن يتخلّون عنه يوماً، حاربوا به في العشرين، وها هم يحاربون به اليوم في آذار عام ١٩٩١.

ويهرب المسوخ وتتهاوى صور المجنون وتماثيله المنتشرة في كل مكان، وتكبر الانتفاضة وتلتحق بها مدن العراقن الواحدة بعد الأخرى، أو قبل الأخرى، وتتحول إلى مدٍّ عارم، إنها انتفاضة العراقيين التي لا يحسنها غيرهم، انتفاضة الكريم الذي لم يعرف الذلّ والإهانة حين يتعرّض للذل والإهانة، هذا هو الدرب الذي ضللوا وأبعدوا عنه، حتى لكأنه لم يكن دربهم.

لقد قاربت الانتفاضة نجاحها الكامل، لم يبق بينها وبينه إلاّ بغداد، وهي متجهة إليها.

وذعر حكام واهتزّت كراسٍ، وتراكضت وفود تحمل الحقد وتحمل مفاتيح خزائن لم يعرف بعضها قارون، وهي تتوسّل ببوش أن ينقذ صدام وينقذهم بالثمن الذي يريد، سيوقع صدام على بياض تاركاً لبوش أن يملأه كما يشاء، المهم أن يبقى صدام، أن تفشل الانتفاضة: هذا الزلزال الذي سيحرمهم الأمن والاطمئنان، وأحلاماً عذبة لن تكون بعد اليوم إلا كوابيس.

ويستجيب بوش، ها هي فرصته، ماذا يضيره أن يبقى صدام ويُذبح العراقيون، ويملي هو شروطه، هذا ما يريده ويسعى إليه، بل أفضل ما يريده ويسعى إليه؟

وأصدر بوش أمره بفكّ الحصار عن فرق تابعة لصدام كانت محاصرة، وبالسماح للدبابات العراقية المحاصرة هي أيضاً، وللطائرات بضرب الانتفاضة والقضاء عليها.

وقضي على الانتفاضة بوحشيّة لا مثيل لها، ليبدأ فصل، هو الآخر، لا مثيل له، فصل قلّما عرفت الإنسانية عند غيرنا، شبيهاً له.

٢١

هل ستساعدني اللغة على أن أصف ما حصل فأحسن الوصف؟

كان هذا أول ما فكرت فيه وأنا أريد الكتابة عن انتفاضة شعبان وقبلها عن مأساة حلبجة؟

ليت اللغة تستطيع أن تساعد! ليتها تستطيع.

هل رأيت هذا الطفل ذا الستة أشهر، الذي اختلط دمه بحليبه، وفمه في ثدي أُمّه؟!

هل كان يعرف أن مجرماً سيقتله ويقتل أُمّه معه، فيحرمه الحليب والأم والحياة؟

لا، لابدّ أنه كان يبتسم وهو يرى الوحش قد أخرج مسدسه.

لم يكن المسدس لعبة أيها العزيز. أو إنك لا تعرف. لقد كان لعبة الموت التي لا يحمل الوحوش غيرها، للأطفال، للكبار، لك ولأُمك.. وللحياة.

ها هم يغتالون بسمتك ومعها بسمة أمك الحانية عليك، لا تفارقك عيناها ولا تنتقل عنك، لقد حكم عليك وعليها وحش اسمه صدام.

عذراً لك أيتها الوحوش فلم أجد في اللغة غير هذا التشبيه لهؤلاء المجرمين، وليس ذلك ذنبي، وليس ذلك ذنب اللغة، فما أظنها عرفت مثلهم.

وهذا الصبي الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، ما له يتلوى تحت السياط وقد أخذته من كل جانب، حتى إذا سقط، تناولوه بأحذيتهم الخشنة الغليظة، لقد كف عن التنفس، ها هو يغمض عينيه وقد تناثر لحمه، لكن الوحوش لا يكفيهم هذا منه، حملوه ميتاً ليربطوه إلى خشبة ثم أطلقوا عليه نيرانهم، إنهم يضحكون الآن من هذا الذي يتمايل جسمه في الهواء.

وكريمة: هذه الفتاة التي أعرفها، لقد كنت أزور أهلها وأنزل ضيفاً عندهم فيكرمونني، لم يبقَ منهم غيرها، الوحوش يقتادونها ليفترسوها فترفض، ويحاولون فترفض، فيشدها بعضهم ويمزقون ملابسها، ثم يطرحونها أرضاً، لا ينتهي الواحد منهم إلا لوحش آخر ينتظر، حتى إذا انتهوا منها جميعاً، أفرغوا رصاصهم في جسدها وهم يلعنون أهلها الذين لم يحسنوا تربيتها!

٢٢

أيتها اللغة، إني لأحس عجزك وأحس ألَمك، فما كنت تحسبين أن جريمة كهذه ستقع لتوجدي لها ما يناسبها من المفردات.

والماء: مصدر الحياة للإنسان والحيوان والنبات، ما ذنبه؟ هل ثار؟ هل حمل السلاح؟ لقد كان صدام يكرهه ويحقد عليه، إنه الحياة، وصدام عدوها، لقد جففوا الهور فمات الإنسان والحيوان والنبات.

هل سمعت بكاء النخلة وهي تقتلع من أرضها، أو وهي تذوي وتموت عطشاً بعد ما انقطع الماء ويبست الأرض، هذه التي رافقت العراق منذ كان العراق، وبقيت رفيقة وفيّة يأكل منها ويصدر منها، حتى صارت رمزاً له وصار رمزاً لها.

وهذه الأشلاء المتناثرة هنا وهناك، هل تراها، لقد كانت قبل قليل ناساً مثلنا، يتكلمون ويسمرون ويحلمون، إني أعرفهم، إنهم من أهلي كنت عندهم أمس، لقد نسفت منازلهم وهم فيها؛ لأن أبناءهم كانوا في صفوف الانتفاضة وبين الثائرين على الطغيان.

وأرض العراق، ما لها صبغت حمراء فأنت لا تسير إلا على دم قديم تجمّد، أو دم جديد ما يزال يسيل، أينما تسير، هو الدم معك يذكرك بحجم المأساة التي ارتكبها صدام، وشارك فيها حكام عرب وغير عرب، كلهم كانوا يكرهون العراق والعراقيين، وكلهم كانوا يريدون الموت له ولهم.

ورأيت دموعي قد مسحت أكثر ما كتبت فتوقفت قبل أن أمسح انا ما بقي مما كتبت.

٢٣

(٥)

انقلاب ٨ شباط - يوم اغتيال الحياة

الساعة الآن حوالي التاسعة صباحاً من يوم الجمعة ٨ شباط ١٩٦٣، يدخل أخي جعفر كعادته كل يوم، لكنني أسمع صوته عالياً وهو يصرخ من الباب: افتحوا التلفزيون، افتحوه، انقلاب، انقلاب.

وأسرعنا إلى التلفزيون نتبين الخبر، كان البث لم ينقطع بعد، ثم ما لبث أن انقطع لتبدأ المأساة.

كان ذلك قبل خمسة وأربعين عاماً.

والآن وبعد خمسة وأربعين عاماً، هل أستطيع أن أكتب عن مأساة شباط، أن أصف ما حصل فيها؟ وما حصل هو اغتيال الحياة!

لقد حاولت مراراً قبل اليوم فأخفقت، وما أظن حظي سيكون اليوم بأفضل منه سابقاً، وليس ذلك ذنبي، بل ذنب اللغة، وسأخفق كما أخفقت، حتى لو استعنت بكل لغات العالم لا العربية وحدها؛ لأنها لأنها فوق الوصف.

ماذا سأفعل إذن وقد وصلت إليها وأنا أكتب عن وحشية الإنسان، وربما هناك من يلومني، وربما لمت نفسي اني لم أجعلها الأولى في هذا الموضوع، وإن تجاوزت التسلسل التأريخي الذي التزمته في الكتاب.

ويبدو أنني اهتديت أخيراً إلى حلٍّ أقنعني وقد يقنع الآخرين: أن أسوِّد ورقة من كلا صفحتيها وأكتب في أعلاها (٨ شباط ١٩٦٣).

بقي علي وقد عجزت عن الوصف وتركته مضطراً، أن أطرح اقتراحاً سيكون أجدى من كتابي، وهو أن يخصص يوم عالمي هو الثامن من شباط من كل عام، يطلق عليه (يوم حماية الحياة) فالحياة هبة الطبيعة، وهي مسؤولية إنسانية لا يملك أحد أن يتنكر لها ولا يملك أحد أن يلقي عن نفسه مهمة الدفاع عنها ليحصرها بغيره، لا، لن يكون إنساناً من يقف هذا الموقف، فالكل شركاء في هذه الإنسانية، وهي التي تجمعهم، إنها ليست مؤسسة تجارية تتحدد مسؤولية كل مساهم فيها بقدر حصّته.

٢٤

هذا اليوم العالمي الذي أقترحه أرى ألا يتحدّد بالمستوى الرسمي، بل يعمّم على جميع المستويات: في المدارس، والصحف والشوارع، في المحاضرات والندوات والمظاهرات.

فالحياة تستحق هذا وتستحق أكثر منه.

٢٥

(٦)

الدولة العباسية

أبو العباس السفاح، ابن هبيرة والعفو الذي لم يمنع القتل

ويلي عليك يا ابن هبيرة(١) والله لقد حيرني أمرك، فأنا لا ألومك حتى أعذرك، ولا أعذرك حتى ألومك، وأنت للاثنين مستحق، وأنا بين الاثنين حائر.

هل ألومك وقد أعطاك الأمان من يملك إعطاءه، بعد أربعين يوماً من الاتصالات والمفاوضات وتردد السفراء بينكم، شاورت خلالها العلماء وأهل الرأي والخبرة في صيغة عقد الأمان حتى ارتضيته واطمأننت إليه، ومن حقك ومن حق أي واحد كتب له، أن يرتضيه ويطمئن إليه، ولم تترك فيه ما يمكن النفاذ منه لنقضه أو نقض شيء مما تضمنه أو تفسيره خلافاً لما نصّ عليه، ثم بعثت به إلى المنصور الذي أنفذه إلى أخيه أبي العباس السفّاح فأمره بإمضائه.

فماذا يطلب أكثر من عقد أمان يوافق عليه الخليفة ويشهد عليه كبار القادة والرؤساء بصيغة لا تقبل شكّاً ولا تحتمل شكّاً؟!

لكنك تعرف غدر هؤلاء، وأمامك الغدر الذي بدؤوا به حكمهم حين نقضوا العهد الذي أعطوه لمحمد النفس الزكية ووثقوه بمسح أيديهم على يده، وبينهم السفاح والمنصور، وغير السفاح والمنصور من رجال آل العباس؟! وأنت تعرف ذاك ولست بعيداً عنه، وما أظنك تقيس نفسك بمحمد، ولا منزلتك عند المسلمين بمنزلته.

لقد كنت في سعة من أمرك: بقية جيش معك ومدينة محصنة هي واسط، تحميك وتمكنك على الأقل من المناورة والمطاولة، إن لم يكن القتال والانتصار، ثم القتل أخيراً حراً كريماً إذا كان لابد من القتال والقتل.

ولم تكن، وأنت تخوض الحروب، بعيداً عنه يوماً، أليس ذلك أفضل مما انتهيت إليه، والسيف يأخذ رأسك وسلاسل الحديد تثقل جسمك، ووجهك الشاحب الذليل يثير السخرية منك؟!

____________________

(١) يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، آخر قادة الحكم الأموي في العراق قتل في واسط عام ١٣٢ بعد الأمان الذي أعطاه إياه المنصور بموافقة أخيه أبي العباس السفاح .

٢٦

ورأيتني أسأل نفسي مرة أخرى. هل ألومك أم أعذرك؟ ربما يكون القارئ أقدر منّي على الجواب، والتفاصيل كلها في أحداث عام ١٣٢ في الطبري، وغير الطبري إن شاء الرجوع إليها.

وعلى كلٍّ فقد قتل يزيد بن هبيرة، لم ينفعه كتاب الأمان الذي أمضاه الخليفة وشهد عليه القادة والرؤساء، كما لم ينفع كتاب الأمان الذي سيعطيه المنصور لا لشخص كابن هبيرة، بل لعبد الله بن علي عم المنصور وأحد أكبر مؤسسي حكم العباسيين.

وإذا كان قتل ابن هبيرة يجد من يبرره عند من احترف تبرير الجرائم، فما ذنب هؤلاء الأمويين الذين أمنتهم يا أبا العباس، بعد زوال ملكهم فكانوا يحضرون مجلسك وتثنى لهم الوسائد فيه.

لِمَ قتلتهم بعد الأمان، ثم تجاوزت القتل إلى ما لا يفعله من يصدق عليه وصف الإنسان.

سأذكرك وما أظنك نسيت فمثلك لا ينسى ولا يذكر.

لقد حضروا مجلسك كما اعتادوا، لم يخطر ببال أيٍّ منهم أنه اليوم الأخير في حياته.

ودعوت بالغداء ذلك اليوم، وقبل أن يحضر غداؤك، كانت السيوف قد أخذتهم، ثم أمرت ببساط طرح عليهم، وجلست فوقه تأكل وهم يضطربون تحتك، منهم من مات ومنهم من لا يزال يعالج الموت. فلما فرغت من الأكل قلت: ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها.

ثم أمرت بأن يجروا بأرجلهم، فألقوا في الطريق، فكانت الكلاب تسحبهم وتأكل منهم حتى أنتنوا، فحفرت لهم بئر وألقوا فيها(١) .

ويحك يا أبا العباس، أيمكن أن يكون هذا فعل أمير المؤمنين؟!

والله لأمير الوحوش، لا أمير المؤمنين، أقل وحشية منك!!

أكنت بعثياً قبل البعثيين، أم كان البعثيون (سفّاحين) بعدك؟!

____________________

(١) الأغاني طبع دار الكتب ج ٤ ص ٢٤٦، ٢٤٧ .

٢٧

ما الذي حملك على ذاك، وكيف استجزته لنفسك، وقد أصبحت الخليفة، أن تفعل بمن أمنتهم من الأمويين ما فعلت، ولم يعد منهم خطر عليك ولا على سلطانك، وربما كان فيهم الصبي والغلام الذي لم يشارك فيما حصل، وربما كان فيهم من لا ذنب له إلاّ نسبه الأموي؟!

أنا لا أدافع هنا عن الحكم الأموي، ولا أريد أن يفهم من كلامي أني أحاول تبرئته مما اقترف من جرائم منكرة في حق المسلمين وغير المسلمين، ما نزال حتى اليوم نعيش آثارها ونحترب بسببها، ولكني أرفض يا أبا العباس هذا الأسلوب في التعامل مع الأعداء، فلا أنت الذي قتلتهم في الحرب فتعذر، ولا أنت الذي تركتهم وشأنهم يحيون كما يحيى الآخرون، وقد عدموا أسباب القوة، ولا أنت الذي احترمت عهدك لهم.

أنا لا أدافع إذن عن الأمويين كحكم، ولكن عن قيم إنسانية بعيدة عن الأشخاص، أمويين كانوا أم غير أمويين، بعيدة عن الحكم الأموي بعدها عن أي حكم آخر.

وأظنني سأكتفي من أول حكام بني العباس بهذا، فالطريق أمامي طويل وطويل جداً ولا أريد أن أحرم واحداً منهم حصّته من الحديث عن فضائله! فليعذرني أبو العباس إذا اختصرت حديثه فلم أعرض إلا لاثنتين من تأريخ حافل بالجرائم، وإن كان في الاثنتين ما يغني.

وليعذرني القارئ وهو عندي أهم من أبي العباس ومن كل المجرمين إذا اختصرت حديث أولهم، فلا أريد أن أخيفه، وهو بعد في أول الدرب، والدرب كما قلت طويل، من جرائم أراني مضطراً أن أقف عند بعضها، وأراني مضطراً أن أواجه هؤلاء المرتزقة من مزوّري التأريخ، وهم لا يستحيون أن يعرضوا تزويرهم وكذبهم وغباءهم على أنّه التأريخ.

٢٨

(٧)

المنصور

عبد الله بن المقفع وآية التنور والتنور

ما الذي منع عبد الله بن المقفع من إكمال معارضته للقرآن وقد قطع فيها شوطاً طويلاً، وصل الثلث أو تجاوزه من القرآن؟

لكم تمنيت أن ألقاه لأسأله، فقد أعياني أن أجد الجواب، والسؤال يلح علي منذ زمن بعيد، لِمَ كف عن المعارضة ووقف عند آية التنور فلم يتجاوزها، والقرآن معجز كله، وليس فيه آية أبلغ من آية؟ ومن قدر على أن يعارض ثلث القرآن بكل سوره وآياته، فما أظنه سيعجز عن معارضة ما بقي منه، ولن يكون ما بقي مختلفاً عما استطاع معارضته.

ولأدع المؤرخين يروون لنا قصة عبد الله، أو بالأخرى، قصة معارضته للقرآن.

يقول هؤلاء إن عبد الله بن المقفع قد اعتزم معارضة القرآن، وأنه شرع في معارضته وسار فيها حتى إذا وصل إلى آية:( حَتّى‏ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ ... ) وهي الآية (٤٠) من سورة هود، وقف وتحيّر، ولم يستطع أن يمضي؛ فمزّق ما كتب وترك المعارضة بعد ما تبيّن له عجزه.

ورغم أن مؤرخينا لا يعوزهم الخطأ أو الكذب فيما يروون، فما أحسبهم إلا كانوا صادقين هذه المرة، صادقين في نصف القضية فقط، أي في فوران التنور، فقد فار التنور فعلاً، ولكنه لم يكن التنور المذكور في الآية القرآنية والذي منع ابن المقفع من الاستمرار في المعارضة كما يزعم المؤرخون لتبرير قتل الرجل، كان تنوراً آخر، تنوراً في قصر أمير البصرة، يلتهم ابن المقفع فلا يبقي منه ما يستطيع أن يعارض القرآن ولا غير القرآن، لقد كان جسم ابن المقفع يقطع أوصالاً بسكين في أحد دهاليز ذلك القصر ويرمى جزءاً جزءاً في تنور مسجور كأنه جيء به من جهنم يلتهم ألف ابن مقفع ويطلب المزيد.

وإليكم حديث التنور كما هو، لا كما يرويه المتعصبون المتخلفون الذين يحقدون على ابن المقفع وعلى كل مفكر، ويودون لو أن هذا التنور لا تخمد ناره، وأنه لم يبق مفكّر قبل ابن المقفع ولا بعده، وحتى اليوم وبعد اليوم إلا ألقي فيه.

٢٩

كان المنصور قد عفا عن عمه عبد الله بن علي في أمر ليس هنا محل الحديث عنه، لكن عبد الله لا يثق بابن أخيه، لقد عملا معاً خلال الحكم الأموي وبعد الإطاحة به، وهو يعرف المنصور وغدره ونكثه بما يعاهد عليه؛ لذلك أراد أن يستوثق لنفسه بكتاب عفو يسد الطريق على المنصور أن ينفذ منه للتحلل من العفو الذي أعطاه.

ولجأ إلى عبد الله بن المقفع في كتابة صيغة العفو، فابن المقفع رجل فكر وأدب ومعرفة باللغة، وبما يمكن أن تحتمل الكلمات وما لا تحتمل، مما يساعد المنصور على الغدر لو أراد.

ويكتب ابن المقفع كتاب العفو، لا يترك فيه منفذاً أو ما يتصوره منفذاً، إلا سدّه بإحكام، يساعده في ذلك خلق عال ومعرفة واسعة باللغة واحترام للثقة التي وضُعت فيه.

وابن المقفع في هذا، لم يفعل إلا ما يفعله الرجل الكريم الذي لا يخون من يلجأ إليه ولا يشتري رضا السلطان بالتنازل عن مروءته، ولو لم يفعل، لما استحق إلا ما يستحق من أؤتمن على شيء فقصر في رعايته، وأهونه اللوم والاتهام بالغفلة، أو ربما الخيانة.

لم يكن يتصور أنه يرتكب ذنباً، وهو يصوغ كتاب العفو كما تقتضي الأمانة، ولم يكن يتصور أن المنصور، الذي كان يسر الغدر، قد يغفر له كل شيء إلا أن يكون أميناً وفياً، ولم يكن يتصور على الأقل، أن وفاءه سيصل حد قتله، وقتله بأبشع ما يقتل إنسان.

أسفي عليك يا ابن المقفع، ما أطيب قلبك، كأنك لا تعتبر بالشواهد ولا تعرف أن هذا المنصور، ليس أسهل عليه من نقض أي عهد سبق أن التزم به، إن الغدر عنده سياسة، والسياسة عنده غدر.

وغضب المنصور وثار مما فعل ابن المقفع الذي لم يترك له حيلة فيما أراد من عمه، وتساءل: ومن ابن المقفع هذا؟! ماذا ينتظر في قتله، وهو الذي قتل سادات العرب؟ وقتل أبا مسلم: الرجل القوي صاحب دولته ومشيّدها.

٣٠

وأسرع في الكتابة إلى واليه على البصرة بأن يقتله قتلة ما عرفها أحد. ووالي البصرة يومئذٍ سفيان بن معاوية من آل المهلب بن أبي صفرة، وهو يحقد على ابن المقفع الذي كان يسخر منه، ويتمنى قتله، لكنه لا يجد السبيل لذلك؛ إذ كان ابن المقفع يعتصم بعيسى وسليمان عمي المنصور اللذين بسطا حمايتهما عليه، ويخشى انتقامهما لو ناله بسوء.

إذن ها هي الفرصة قد جاءت للانتقام من عدوه ابن المقفع الذي طال صبره عليه، سيقتله آمناً، لن يخشى هذه المرة، عيسى ولا سليمان، فالخليفة نفسه هو الآمر بالقتل.

ويدخل ابن المقفع قصر الوالي في بعض شأنه، وهو غافل عما ينتظره، لم يحتط؛ لأنه لم يفعل ما يدعو إلى الحيطة، هكذا قدر، ويفاجأ بحراس القصر يحتجزونه ثم يعدلون به إلى واحدة من غرفه.

وفي وسط هذه الغرفة انتصب تنور كبير، أجلس ابن المقفع قريباً منه وقد كتف جيداً.

وبدأ الوالي الجزار يقتطع بسكينه من جسم ابن المقفع قطعاً ثم يرميها في التنور، حتى لم يبقَ من ابن المقفع شيء يرمى.

وتحول رماداً، مترجم كليلة ودمنة، وصاحب اليتيمة والأدب الكبير والأدب الصغير، وأحد مفاخر الأدب والفكر العربي.

على أن كتاب العفو الذي قتل ابن المقفع، لم يُنجِ عبد الله بن علي من القتل، قُتل الاثنان: كاتب العفو، ومَن كُتب له العفو.

ليت ابن المقفع لم يكتب كتاب العفو الذي لم ينفع في شيء، إذن لاستمتعنا بما كان سيكتب بعد كليلة ودمنة وبعد كتبه الأخرى، ولما اضطر المؤرخون إلى اختلاق رواية عن معارضته للقرآن.

ولنتابع القصة لنرى نهاية عبد الله بن علي، بعد أن رأينا نهاية عبد الله بن المقفع.

٣١

جاء عبد الله بناءً على طلب المنصور، ومعه أخواه عيسى وسليمان ابنا علي، وحين دخل عبد الله حبسه المنصور، وطال حبس عبد الله وأقام في محبسه تسع سنوات، فلما أراد المنصور الحج سنة مائة وتسع وأربعين دعا بعيسى بن موسى. الذي جعله ولياً للعهد بعد ابنه المهدي. (ودفع إليه عبد الله بن علي سراً في جوف الليل، ثم قال له يا عيسى إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي والخلافة صائرة إليك - ولم تصر الخلافة إليه أبداً - فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرت، ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه، فكتب إليه قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به وأنه قد قتل عبد الله بن علي، فكان عيسي حين دفعه إليه ستره ودعا كاتبه يونس بن فروة - أبو الربيع بن يونس وجد الفضل بن الربيع - فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمّه وأمرني فيه بكذا وكذا، فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله: أمرك بقتله سراً ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به، قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تستره في منزلك فلا تطلع على أمره أحداً، فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية ولا تدفعه إليه سراً أبداً فإنه وإن كان أسره إليك فإن أمره سيظهر، ففعل ذلك عيسى، وقدم المنصور ودسّ إلى عمومته من يحركهم على مسألة هبة عبد الله بن علي لهم ويطمعهم في أنه سيفعل، فجاؤوا إليه وكلموه ورققوه وذكروا له الرحم وأظهروا له رقة، فقال: نعم علي بعيسى بن موسى، فأتاه فقال له: يا عيسى قد علمت إني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن علي قبل خروجي إلى الحج وأمرتك أن يكون في منزلك، قال: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فقد كلمني عمومتك فيه فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله فأتنا به، فقال: يا أمير المؤمنين: ألم تأمرني بقتله، فقتلته؟ قال: ما أمرتك بقتله، إنما أمرتك بحبسه في منزلك. قال: قد أمرتني بقتله، ثم قال لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم

٣٢

وادعى أني أمرته بذلك وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قال: شأنكم به. فأخرجوه إلى الرحبة واجتمع الناس وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله، قال: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال، يعني عيسى: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته، قال: ائتنا به، فأتاه به فقال له عيسى: دبرت علي أمراً فخشيته فكان كما خشيت، شأنك وعمك. قال: يدخل حتى أرى رأيي، ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجري في أساسه الماء فسقط عليه فمات...

هذه هي رواية الطبري في مقتل عبد الله بن علي، عم المنصور، الذي أراد أن يتخلص في وقت واحد من الاثنين: عبد الله وعيسى، يأمر الثاني بقتل الأول ثم يقتل الثاني بحجة قتله الأول، كل ذلك وهو في طريقه إلى بيت الله للحج، وما أظنه أراد الحج إلا وسيلة يبتعد بها عن الشبهة ويلقي بالجريمة كلها على عيسى الذي لم يكن غافلاً عما دبر له (أمير المؤمنين) كما ظهر ذلك من حواره معه.

لكنك ستجد خاتمة الرواية بشكل مختلف عند المسعودي، أكثر وحشية وأشد قسوة، وإن كان لا حدود لوحشية وقسوة أمراء المؤمنين.

فلنستمع إلى المسعودي يصوّر لنا نهاية عبد الله بعد ما جاء به عيسى حياً.

(... قال: ادفعه إلى أبي الأزهر - أحد رجال المنصور من ذوي الاختصاص بالقتل - فدفعه إليه فلم يزل عنده محبوساً، ثم أمر بقتله، فدخل عليه ومعه - يعني عبد الله - جارية له، فبدأ بعبد الله فخنقه حتى مات ثم مده على الفراش، ثم أخذ الجارية ليخنقها فقالت: يا عبد الله!! قتلة غير هذه!!

ويلي عليك أيتها البائسة وأنت ترين هذه الأصابع الغليظة التي خنقت عبد الله، تمتد إليك.

٣٣

فكان أبو الأزهر يقول: ما رحمت أحداً قتلته غيرها!! فصرفت وجهي عنها وأمرت بها فخنقت، ووضعتها معه - مع عبد الله بن علي - على الفراش وأدخلت يدها تحت جنبه، ويده تحت جنبها كالمعتنقين، ثم أمرت بالبيت فهدم عليهما، ثم أحضرنا القاضي ابن علاثة وغيره فنظروا إلى عبد الله والجارية معتنقين على تلك الحال..).

ولو أعدت قراءة الرواية لرأيت في كل سطر منها جريمة لا يحسنها إلا أمراء المؤمنين!

سلسلة طويلة تبدأ بنقض العفو عن عبد الله حتى قتله ومحاولة قتل عيسى بن موسى معه، وحين فشل في قتل الثاني، فليكن قتل عبد الله وهذه الجارية البائسة التي ما أحسبها كانت من المتنافسين على ولاية العهد، أو الطامعين في الخلافة بعد المنصور، لكنها كانت - دون أن تعلم - جزءاً من خطة لا تكتمل إلا بها، فالخليفة - كما يبدو - لا يرضى من عبد الله بالقتل خنقاً وحده، إنه يريد أن يلحق به الفضيحة حتى في موته، ولن يتم ذلك إلا بأن يكون موته مع امرأة في فراش واحد، وكان ذلك قدر هذه البائسة، فبعد قتلهما خنقاً مددا على الفراش وأُدخلت يد كل منهما تحت جنب الآخر كالمعتنقين، وقد نزعت عنهما ملابسهما وعرّيا ليكمل المشهد كما أظن، ثم يحضر القاضي ليرى بنفسه عبد الله والجارية على تلك الحال، وحسبك بالقاضي من شاهد.

ومع ذلك فلم يسلم البيت فهدم عليهما!!

لقد أراد المنصور أن يضيف فضيحة أخلاقية إلى ما اتهم به عبد الله ليحط منه ويشوّه سلوكه عند أهله وأصحابه، وماذا يعني قتل امرأة بريئة إذا استطاع أن يحقق هذا الغرض، وقد قتل المنصور، وقتل الخلفاء قبله والخلفاء بعده، الألوف والألوف ولم يحتاجوا إلى ما يبررون به القتل، وإن احتاجوا فهم قادرون دائماً عليه.

عشر سنوات ١٣٧ - ١٤٧ مرت على ثورة عبد الله والعفو عنه وإعطاء الأمان له، لم تستطع أن تمسح حقد المنصور على عمه الذي كان من أكبر المؤسسين للدولة التي هو حاكمها، ولم يعد لديه ما يخافه المنصور على سلطانه بعد طول حبسه له، كيف سيتعامل إذن مع غير عمه، ممن ليس له في بناء دولته مثل أو بعض بلائه؟!

٣٤

لكن ما هو ذنب عيسى بن موسى(١) الذي شدد عليه المنصور في قتل عمه ليقاد به ويقتل، فيستريح من عدوين ويخرج هو سالماً مبرئاً من دمهما، بل رحيماً حليماً يتسع قلبه للعفو والمغفرة مع القدرة على خلافهما.

كل ذنبه أنه اختير ولياً للعهد بعد المنصور، أي إنه سيحجب المهدي ابنه ويتقدمه في الخلافة بعد وفاة أبيه المنصور، ولا أحد يدري ماذا سيكون بعد ذلك، فربما لن ينالها المهدي ولن تصل إليه، وصورة ما جرى في العهد الأموي ليست بعيدة عنه.

ورغم أن عيسى تنازل - مكرهاً طبعاً ولقاء مبالغ ضخمة - عن ولاية العهد للمهدي، على أن تعود إليه بعده - ولم تعد - إلا أن المنصور كان يخشى بقاء عيسى حياً ويريد التخلص منه ليأمن شره في حياته وبعد مماته، فبقاء عيسى حياً مع ما ناله من أبي جعفر بحرمانه من ولاية العهد التي يعتبرها (حقاً) له، سيجعل منه عدواً دائماً لأبي جعفر وأبنائه.

هذا ما فكر فيه المنصور، وهو يطلب من عيسى أن يقتل عمه فيقتل به ويتخلص هو من عدوّين في وقت واحد.

وعلى كلٍّ فقد فشلت الخطة كما رأينا، إذ كان عيسى عارفاً بمايدبره له المنصور، فقتل عبد الله وقتلت هذه التعيسة الحظ، وبقي عيسى ولياً لولي العهد، و(صار بعد غد، هذا الذي كان غداً) كما كان يتضاحك الأطفال عندما يرونه.

وما فعله المنصور مع عيسى، فعله المهدي حينما أفضت الخلافة إليه، فقد أجبره على التنازل لولديه الهادي والرشيد، ولم يعد هذا الذي صار بعد غد، يوماً من أيام الأسبوع ولا الشهر ولا السنة. لن يكون بعد الآن واحداً من الأيام، لقد مات في زمن المهدي ولم يلِ الخلافة.

ماذا فعلت بنا ولاية العهد التي ما ذكرتها إلا دعوت الله بالمغفرة لمن ابتدعها وكان السبب في تشويه صورة الإسلام وانتهاك حقوق المسلمين، وإلغاء حريتهم في اختيار خلفائهم، وتمهيد الطريق لظلم امتد عبر القرون حتى وصل إلينا، وما أظن أجيالاً أخرى قريبة قادمة ستنجو من شروره.

____________________

(١) هو عيسى بن موسى ابن أخي المنصور، وكان قد اختير في زمن السفاح ولياً للعهد بعد المنصور.

٣٥

وأراني انتهيت من حديث عبد الله بن المقفع وعبد الله بن علي وعيسى بن موسى مع المنصور، ولكن هل انتهيت من حديث الآخرين - وما أكثرهم - مع المنصور؟!

ما أظن، إنه حديث طويل، طويل، وما أحسب أبا الخلفاء وأمير المؤمنين إلا ساخطاً غضباناً لو اقتصرت منه على ما ذكرت، وأنا لا أطيق غضب أمراء المؤمنين فلأمضِ في الحديث لأكمل به صورته التي يتفنّن المؤرخون من المؤمنين في نقلها إلينا مشرقة براقة تكاد تضيء.

ولكن بأي ضحية سأبدأ، إذا تركت الشعب، وهو الضحية الكبرى في كل العهود التي سبقت المنصور أو أعقبته، غير فترات قصيرة لا تمثل إلا استثناء من قاعدة الحكم في الإسلام؟!

ما لك يا أبا جعفر ولأبي أيوب المورياني؟ لقد كان وزيرك وصاحب ديوانك وموضع سرّك، ما الذي فعله حتى انقلبت عليه فنكبته ونكبت أهله: إخوته وأبناء إخوته تتبعتهم واحداً واحداً، فراحوا بين من مات تحت التعذيب ومن مات قتلاً بالسيف.

ما لكم حين تغضبون لا تقفون عند حد؟! لا تكتفون بمن غضبتم عليه، وإنما تتبعونه في أهله وأسرته وإخوته وأبناء إخوته، ولو استطعتم ألا تبقوا أحداً ممن يمتّ له بصلة نسب أو قرابة أو حتى صداقة، لفعلتم. ما لهذا الحقد الدفين لا يشفيه شيء عندكم؟!

وهذا التعيس المدعو أبا الجهم، ولأفترض أنك كنت تكرهه، وأسباب الكره لا يمكن حصرها عند أمراء المؤمنين، مع أنه كان وزيراً لأخيك السفاح، ألم تستحي، وأنت الخليفة، وقد عطش أبو الجهم بعدما أطلت بقاءه عندك حتى عطش، أن تدعو له بسويق مسموم لم يبلغ جوفه حتى أحس الموت، ثم مات عند وصوله البيت.

أكان هذا فعل خليفة وأمير للمؤمنين؟! ماذا أبقيت لسفلة الناس وأراذلهم؟!

ما أظن صدام إلاّ قد تعلم منك ومن أمثالك من أمراء المؤمنين وهو يقتل من يريد قتله بفنجان شاي أو قهوة مسمومة.

٣٦

وهؤلاء الأسرى الذين جاء بهم قائدك خازم بن خزيمة، بعد فشل ثورة استاذ سيس. هل تعرف كم كان عددهم؟ لقد كانوا أربعة عشر ألف، قتلوا كلهم صبراً كما يذكر (الطبري أحداث سنة ١٥٠، وتأريخ ابن الأثير أحداث نفس السنة، وتأريخ الخلفاء للسيوطي) (المنصور أبو جند عبد الله) الذي يضيف أن قتلهم كان بعد علم من أسرهم.

وأصل الآن إلى جريمة كبرى من جرائمك، أنا مضطر أن أختم بها سجلّك الطويل العريض، المليء على طوله وعرضه، ذلك أني لم أخصص كتابي هذا لك وحدك، بل للمجرمين من خلفاء وحكّام العرب - وما أكثرهم - على امتداد القرون.

هذه الجريمة الجديدة القديمة، تتعلّق بآل محمد (النفس الزكية) ابن عبد الله بن الحسن، الثائر على ظلمك والمقتول عام ١٤٥.

وأريد أن أفترض أنك لم تنكث بيعته، وأنه هو الذي نكث بيعتك، رغم أن كل المؤرخين يذكرون العكس.

لكن ما لهؤلاء الأبرياء من شيوخ وشباب أهل بيته، تأخذهم بذنب لم يرتكبوه ولم يشاركوا فيه ولم يكونوا من جناته، وربما لم يكن لهم أو لبعضهم حتى علم به؟!

ولأبدأ من عام ١٤٠ فقد ذهبت حاجاً هذا العام، وبعد أن تركت المدينة متوجهاً إلى مكة توقفت في أوطاس على الطريق إليها، وكان على الغداء معك عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وألححت عليه في طلب ابنيه: محمد وإبراهيم، وحين أخبرك أنه لا يعلم مكانهما أمرت به فحبس، وكان قد بلغ أو تجاوز السبعين من عمره.

ما ذنب هذا الشيخ غير أنه لم يخبرك مكان ولديه؟!(١) .

هذا إذن كل ذنبه؟! وهل يمكن لأب أن يفعل خلاف ما فعله عبد الله، حتى لو كان يعلم مكانهما؟! هل سيأتي بهما إليك أو يدلّك على مكانهما لو علمه، وهو يعرف أنك لا تطلبهما إلاّ للقتل؟!

____________________

(١) الأغاني، طبع دار الكتب، ج ٢١ ص ١٢٣، والطبري ج ٧ ص ٥٢٤، وابن الأثير ج ٥، ومقاتل الطالبيين ص ٢١٣، ٢١٤، ٢١٥.

٣٧

أي أب هذا الذي يدل على مكان ولديه ليقتلا؟!

ثم لم تكتفِ بحبس عبد الله وحده، فأمرت عاملك على المدينة رياح بن عثمان المري بالقبض على بني الحسن وحبسهم مع عبد الله الذي كان ما يزال في الحبس(١) .

ويأتي عام ١٤٤ فتذهب للحج أيضاً، وحين استقبلك عاملك رياح في الربذة، رددته إلى المدينة وأمرته بإشخاص بني الحسن ومعهم محمد بن عبد الله العثماني(٢) إليك على الإبل تعض أعناقهم وأرجلهم السلاسل والقيود، تتشفى بمنظرهم قبل أن تأمر بسوقهم إلى محبسهم في الهاشمية من العراق (٣) .

قل لي يا أبا جعفر: ما لك كلما بيّتَ أمر سوء أو عزمت على ارتكاب جريمة، أو نويت الفتك بأحد، سلكت طريق مكة حاجاً؟!

أكان الله فرض الحج لمثل هذا؟! أم كنت تراه أفضل السبل لإبعاد التهمة عنك؛ باستغفال الناس وخداعهم بحج غير مبرور ولا مشكور، يبدأ من أول خطوة لك فيه بالشر وعصيان من ذهبت لحج بيته.

فعلت هذا بعبد الله بن الحسن عندما حججت عام ١٤٠.

وفعلت هذا بآل الحسن بن الحسن عندما حججت عام ١٤٤.

ثم فعلت هذا بعبد الله بن علي وعيسى بن موسى عندما حججت عام ١٤٧(٤) .

الحج هو طريق الخير والرحمة والنزوع عن الذنوب والتوبة منها إلاّ عندك، فما حججت مرّة إلا وفي رأسك خطة شر تريد تنفيذها. ولو عشت في وقتك لضربت في أقاصي الأرض أو اختفيت كلما سمعت أنك عازم على الحج.

____________________

(١) الطبري ج ٧ ص ٥٢٦، ٥٢٧، وابن الأثير ج ٥ ص ١٤٢، ومقاتل الطالبيين ص ٢١٨.

(٢) هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو عبد الله بن الحسن لأمّه وقد عذّب وقتل لهذا السبب.

(٣) الطبري ج ٧ ص ٥٤٠ و ٥٤٦، وابن الأثير ج ٥ ص ١٤٤، ١٤٦، وتأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٠٥.

(٤) تأريخ الطبري أحداث علي ١٤٠، ١٤٤، ١٤٧.

٣٨

وبعد الحبس الذي فرضته على هؤلاء الذين ليس لهم من ذنب إلاّ أنهم من أهل هذين اللذين تطلبهما، ولم يكن ذلك بأيديهم ولا من صنعهم، هل تستطيع أن تخبرني، وقد حبستهم وأمنت جانبهم، لماذا لم تساوهم بأدنى المحبوسين، فجعلتهم في سجن تحت الأرض لا يدرون أفي ليل هم أم في نهار، ولا يعرفون أوقات الصلاة إلاّ بأجزاء من القرآن يقرؤها عليهم أحدهم: علي بن الحسن بن الحسن؟!(١) .

ولماذا قيّدتهم، وهم في هذا السجن حتى أن عبد الله بن الحسن أخرج وهو يرسف في قيوده، ليصلّي على واحد منهم مات في السجن؟!

أكنت تخشى هربهم وهم لا يعرفون ليلاً من نهار، بعيدين عن الأهل والأنصار إلاّ من حرس يحيطون بالسجن، ويحيطون بهم داخل السجن؟!

وهذا الشيخ الذي بلغ الخامسة والسبعين، وكان رجل آل الحسن نبلاً وفضلاً وديناً؟! ألم ترعَ شيخوخته على الأقل فلا تستعجل قتله، ولو تركته ما أظنه كان سيبقى أياماً بعد اليوم الذي قتلته فيه؟!(٢) .

هل تعرف أنه استسقى ماء في أحد الأيام قبل أن تقتله، فأُتي بقُلّة فيها ماء، ودخل هذا الذي ولّيته أمرهم المدعو أبا الأزهر، فرآه يشرب والقُلّة على فيه، فما كان منه إلاّ أن ضرب القلّة برجله ومنعه الماء؟!(٣) .

ويحك يا أبا جعفر، أي وحش ساكن بين جنبيك؟!

ومحمد بن إبراهيم بن الحسن الذي كانوا يسمونه الديباج الأصفر، وما أرى في هذا ما يغيظ، وعلى كلٍّ فليس هو الذي سمّى نفسه، هل يعلم المزورون المدافعون عن ظلمك حتى اليوم كيف قتلته يا أمير المؤمنين؟! كم تمنيت أنهم أمضوا يوماً واحداً في الحبس مع آل الحسن!!

____________________

(١) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصبهاني ص ١٩٢، ١٩٤ و تأريخ الطبري ج ٧ ص ٥٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٢٢٧، وتأريخ الطبري ج ٧ ص ٥٤٨.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٢٢٥.

٣٩

سأروي لهم وليس لك، هذه القصة التي قد لا يعرفونها، أو لا يريدون أن يعرفوها أو - وهو ما أرجّحه - لا يريدون أن يعرفها أحد، وسأرويها لهذا (الأحد) ولكل (أحد).

لقد أمرت فجيء بالمحبوسين فنظرت إلى محمد بن إبراهيم بن الحسن وقلت: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم، فقلت: أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً من أهل بيتك. ثم أمرت بأسطوانة أُدخل فيها وبنيت عليه وهو حي(١) .

الله الله يا أمير المؤمنين، هكذا فليكن أمراء المؤمنين! ما أسعد المؤمنين بك وبعدلك، ولكن لم القسم يا أبا جعفر؟! ليكون التنفيذ لازماً، ولتقطع الطريق على أي عفو محتمل منك؟

ماذا كنت ستفعل بابني عبد الله بن الحسن: محمد وإبراهيم لو تمكنت منهما؟! ومع ذلك فأنت تطالب أباهما أن يدلّك على مكانهما!!

ويبدو أن دفن الناس أحياء هواية لك يا أمير المؤمنين. فها أنت لم تكتف من محمد بدفنه حياً، وإنّما جمعت مع الابن أباه، فقد دفنت إبراهيم بن الحسن هو الآخر حياً. نعمت الهواية. والله يا أميرالمؤمنين وإن كان دفن الناس أحياء سبقك إليه - كما أعلم - أمير آخر للمؤمنين، هو معاوية بن أبي سفيان(٢) .

ثم يتحدثون عن الشورى والحريات والعدل... و(الديمقراطية) الإسلامية التي شوهها هذا السارق المحترف الذي اجتاز إلينا المسافات من غرب الكرة الأرضية، ليأخذها ويضع ختمه عليها كما يفعل المحتالون من التجار هذه الأيام.

ويعقوب وإسحاق: ابنا الحسن اللذان قتلتهما في الحبس مع من قتلت من آل الحسن(٣) .

وبعد فشل ثورتي محمد وإبراهيم عام ١٤٥، لِمَ أبقيت المحبوسين الذين سلموا من القتل فلم تطلقهم وتخلّ عنهم؟ وقد انتهى كل شيء، وقتل محمد وقتل بعده إبراهيم، ولم يعد من سبب لبقاء من بقي حياً منهم، في الحبس؟!

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٠٠، وتأريخ الطبري ج ٧ ص ٥٤٦.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٢٢٨.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ١٨٩، ٢٢٨.

٤٠