جذور الشر

جذور الشر25%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54359 / تحميل: 8371
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جذور الشر

أحمد عبد الله

١

الإهداء

إلى جميع الذين نالهم الشرّ في بلادنا وما أكثرهم

أهدي هذا الجهد

أحمد

٢

المقدمة

وضحكت وأنا أتابع هؤلاء المزورين الجدد، وهم يجربون حظهم في تمرير خدعة كبيرة هذه المرة، لا تقف عند شخص أو أشخاص محدّدين وإنّما تتجاوزهم لتجعل من هذه الأزمة التي نعيشها منذ زمن طويل، وكأنها ظاهرة شاذة لا تمثل سماحة المسلمين ولا (ديمقراطيتهم)، أو سحابة صيف لن تلبث، مع شيء من الصبر والأناة، أن تنقشع عن صفاء عذب رقيق يعيدنا إلى الحياة السابقة من عصور الإسلام الزاهية؛ حيث الحكم لا يقوم إلاّ على الشورى والعدل واحترام الإنسان والرضا المتبادل بين الحاكم والمحكوم.

هذا هو ما يحاولون تسويقه الآن، وهم على علم، ربما أكثر مني بالمآسي التي عاشها المسلمون في ظل تلك العصور، والمظالم التي تعرضوا لها. وإن ما يجري اليوم ليس إلا امتداداً لما كان قبل اليوم في عصور الإسلام (الزاهية) تلك.

ضحكت، على قلة ما يضحك الإنسان في هذه الأيام، فهؤلاء الأغبياء لا يعلمون أن مزورين مثلهم قد سبقوهم على امتداد عصور طويلة قديمة أفرضوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث مقابل ثمن، كهذا الذي قبضوه، سعت إلى تحصين الحاكم ومنعت حتى التفكير بمحاسبته مهما فعل، وجعلت من الطاعة له مساوية للإسلام، ونزعها لأي سبب خروجاً على الإسلام، لما في ذلك من شق لـ (عصا) المسلمين وتمزيق لوحدتهم. فكأن وحدة المسلمين وقوتهم لا تقوم إلاّ بظلم الحاكم للمحكوم واضطهاده وسلخ جلده، دون أن يكون لهذا الحق في أن يصرخ وأن يقاوم.

هذا هو التأريخ الذي جاء المزورون الجدد ليزوروه ثانية.

ولا أراني مغالياً إذا قلت إنني لا أعرف تأريخاً أكثر تزويراً وتشويهاً من تأريخنا، فأنت لا تقرأ تأريخاً وإنما تقرأ ما يريده الحكام أن يكون تأريخاً.

الأزمة التي نعيشها ليست سحابة صيف، بل سحاباً متراكماً مظلماً كثيفاً يتصل صيفه بشتائه وماضيه بحاضره، ورثناه منذ زمن بعيد، عاشه آباؤنا قبلنا فيما يسمى كذباً: بالعصور الإسلامية الزاهية.

٣

وإذا كان هناك من اختلاف بين عصر وعصر، فهو اختلاف في درجة ما يتعرض له المسلمون من قهر واستبداد.

هذا إذن الوهم الذي عليّ أن أزيحه من طريقنا نحو بناء مستقبل زاهر سعيد، لا تزوير فيه ولا كذب ولا خداع، ننام مستريحين في ظله؛ حتى تنقشع غمامة الصيف عن مستقبل زاهر سعيد كما يريد أن يسخر منا هؤلاء المزورون الجدد.

وسيقولون: مالك وللتأريخ تنبشه: تعيب خلفاءنا ورموزنا وقيمنا، تريد أن تشعل فتنة نائمة، لعن الله من أيقظها.

وأضحك مرة أخرى، وشرُّ البلية ما يضحك. أضحك كثيراً وأنا أسمع ذاك.

لكم وددت أن تكون الفتنة نائمة. إذن سأكون أوّل من يلعن مشعلها ومثيرها ومن يشارك ومن يساعد على إشعالها وإثارتها.

لكن الأمر ليس كما يقولون، بل خلاف ما يقولون، فلم يكن تأريخنا مجرد ماضٍ وانقضی بأحزانه وآلامه، ولا أقول بأفراحه، فلم يكن فيه من فرح إلا للحكام وبطانتهم. وما أحسب الادعاء بغير ذلك إلا تزويراً جديداً يضاف الى تزوير قديم، وتهمة يطلقونها ضد كل من يريد أن يزيل القناع من المجرمين، ليحصن الحاضر، أو المستقبل على الأقل؛ حتى لا نستعبد مجدداً، حتى لا نتعرض لما تعرضت له أجيال طويلة، طويلة جداً، من ظلم وتعسّف واضطهاد، باسم الدين مرة، وطاعة أولي الأمر مرة، والخوف على الإسلام مرة، وحتى نحمي أجيالنا القادمة ممن يمتهنهم ويسلبهم الحياة أو يفرض عليهم حياة يريدها هو ولا يريدونها، حياة ذليلة متخلفة لا يمثلون فيها إلا دور المستعبد الضعيف.

لوددت أن يكونوا صادقين، وإننا نتحدث، حين نتحدث، عن تأريخ وماضٍ، إذن لصرفت قلمي إلى ما هو أولى أن يصرف إليه، وفي الحياة الكثير مما يصرف القلم إليه.

٤

ليت الأمر كان كذلك أو بعض ذلك. فالتأريخ الذي يتكلمون عنه، هو هذا الحاضر الذي نعيش مآسيه وآلامه وأحزانه اليوم.إننا نعيش التأريخ. إن تأريخنا هو حاضرنا أو أن حاضرنا هو تأريخنا وماضينا نعيشه بکل مآسيه وبکل آلامه وأحزانه وأوجاعه، لا أدري إن كنا انتقلنا إليه أم انتقل هو إلينا. وما أحاوله الآن هو أن أدرك هذا الحاضر إن استطعت، فأنقذ ما أقدر على إنقاذه منه. أو إن فاتني ذلك أو تعذر، فلأسرع إلى المستقبل الذي لن يكون في مأمن من هذا الماضي الذي سيزحف إليه بمخالب وأنياب ليشوهه ويسممه ويفسده كما فعل بحاضرنا.

إننا، ودون جميع الأمم، نعيش التأريخ، نتخاصم ونتقاتل فيه. ليتنا أمّة بلا تأريخ أو أمّة لا تعيش التأريخ!

أرأيت إلى هذا الماضي الذي لا يريد أن يتركنا؟ إنه يلاحقنا، يلاحقنا بكل تخلّفه وتعصّبه وجنونه، حتى فيما كان يبدو وكأنه خارج حدود الخلاف أو غير قابل للخلاف.

أرأيت إلى الثورات في تونس ومصر وليبيا؟ كانت الأقلام بنادق ومدافع وأناشيد للثوار المنتفضين ضد الطغاة المستبدين الظالمين.

لكن ما للثورة في البحرين وحدها تفقد (ثوريتها) وللثوار في البحرين وحدهم يفقدون (ثوريتهم) ليتحولوا إلى مجرد... فتتوقف الأقلام وتسكت الأصوات. بل ليتها توقفت وسكتت. لقد راحت تهاجم الثورة والثوار، فتصفهم بأي شيء إلا بما هو وصفهم.

لماذا؟!

ألأن الثوار في البحرين كانوا شيعة؟! وماذا في ذاك مما يعيب؟!

ولا قبل أنهم كانوا كلهم شيعة. فهل كان عليهم أن يسكتوا على الظلم ويقبلوا به ويستسلموا له؟! أكان الظلم هنا غير الظلم هناك؟! أكانوا هواة قتل تحت عجلات المدافع والدبابات؟! أكانت الثورة يوماً هواية يمارسها الثائرون؟!

أكانوا سيثورون لو لم يسلبهم النظام إنسانيتهم؟! لو سار بالعدل فيهم؟!

والله لقد طال بهم الظلم حتى خافوا أن يكونوا جزءاً منه أو أن يكون جزءاً منهم، وأن ستلعنهم الأجيال أن لم يثوروا.

لم اختلف الموقف منهم؟

٥

كيف تحولت ثورتهم إلى فوضى وتخريب، وتحولوا إلى مخربين ومجرمين، وكانت هذه أوصاف الحكام في تونس ومصر وليبيا... وفي البحرين وفي غير البحرين أيضاً؟!

أهناك غير التأريخ أفسر به اختلاف المواقف بين البحرين وبين سواها؟

أهناك غير التأريخ الذي ما نزال نعيشه، لم يتركنا ولم نتركه؟

أرأيت؟! حتى الثورة ضد الظلم والظالمين تغيرت وتغير اسمها بين بلد وبلد، فلم يعد الظلم في البحرين، ظلماً كما هو في غيرها؟!

ألم أكن محقاً حين قلت: ليتنا أمة بلا تأريخ! ليت هذا التأريخ لم يكن!

لكن مهلاً، فليس هذا فكر الثوار. إن فكر الثوار غير هذا. إن الذي تتحدث عنه هو فكر آخر، مختلف تماماً ومعاكس تماماً. إنه فكر هؤلاء الذين يعيشون على هامش الثورات، هؤلاء التافهين الصغار الذين يظهرون في بعض مراحل الثورات حين توشك أن تسجل انتصارها، ليضمنوا لهم مواقع فيها. يتبنون شعاراتها، وقد يزايدون عليها ليفجروها من داخلها إن استطاعوا أو ليخوفوا الناس منها ويبعدوهم عنها أو يبعدوها عنهم.

لا تبتئس فالثوار ليسوا هؤلاء. الثوار ما يزالون ثواراً؛ ثاروا حين رفضوا هذا التأريخ الذي أشبعه التافهون تزويراً، وجعلوا منه مأوى للمجرمين والفاسدين، وأداة لإفساد الفكر والعقل.

الثوار ستلقاهم هناك، تحتضنهم الخيم في الشوارع والميادين يقارعون الظلم والتخلف بصدور عارية وصبر واثق وإيمان لا يضعف ولا يلين.

إنهم التأريخ الجديد الذي سنفخر به. التأريخ الذي لم يكتبه المزوّرون.

٦

(١)

الأمن العراقي

١- الساعة الرابعة من فجر أحد أيام الشتاء عام ١٩٩٢م والعائلة نائمة: أب تجاوز الخمسين وأم وخمسة أولاد: ثلاثة أبناء وبنتان صغراهما زينب، لم تعبر السنة إلاّ منذ قليل، وقبل أيام احتفل أهلها بعيد ميلادها الأول.

مسح الأب عينيه ليتأكد إن كان حلماً ما يسمعه في حديقة البيت من أصوات لم يألفها، وهي تطلب منه بألفاظ لم يألفها أيضاً، أن يشرع بالنزول هو وباقي أفراد عائلته قبل أن يكسر عليهم الباب رجال (الأمن) في نظام صدام: صنف آخر من المجاهدين!!

وكانت الزوجة قد استيقظت وهي تسمع السباب ينهال على زوجها وعليها، ومع السباب، التهديد بأقسى العقاب.

لم تفعل العائلة شيئاً تستحق عليه هذا ولا بعضه، فالرجل صاحب محل في السوق، وهو معروف بحسن سمعته وسلوكه. ومنذ أيام (تبرّع) للحزب بمبلغ كبير. وليس في سيرة الأم ما تؤاخذ عليه (وطنياً) فهي لم تمارس السياسة، ولم تنتم لحزب الدعوة، بل تتجنب أن يذكر اسمه مدحاً أو ذماً مع وجودها. وعادل: أكبر الأولاد في الرابعة عشرة، طالب في الصف الثاني المتوسط. والأُخر: في مراحل مختلفة من الدراسة الابتدائية. كانوا يغطون في نوم عميق، وربما كانوا يحلمون بيوم جديد جميل.

وتتعالى الأصوات شديدة جافة وهي تطلب النزول.

وقبل أن توقظ الأم أولادها، كان الباب قد كسر ودخل رجال الأمن، وقد صوب كل منهم مسدسه باتجاه (أعداء) الوطن من هؤلاء الذين شبعوا من خيراته ثم خانوه!!

هات مفتاح القاصة: كان هذا هو السؤال الذي وجّهه كبيرهم إلى أبي عادل وهو يحدق في وجهه بعيني ثور هائج، والمسدس مصوّب إلى رأسه.

وأنت يا ...

ولم يكمل حين كانت أم عادل تسرع في نزع ما كان عليها من صيغة ذهبية بسيطة وتسلمه بتوسل ورعب إلى هذا الوحش الذي يقف أمامها وقد تدلى شارباه حتى تجاوزا طرفي فمه، والموت في يده لا تدري في أية لحظة يغتالها أو يغتالهم كلهم.

٧

ثم شدت عيون الجميع وأوثقت أيديهم وأنزلوا بملابس النوم التي كانوا فيها، يلوذ الواحد منهم بالآخر، لا يدرون إلى أين. لكن الوحش يدري.

ماما: إلى أين نحن ذاهبون؟ قالت سعاد كبرى الأختين. ولم تجب الأم، فهي الأخرى لا تعلم. ولو علمت لما استطاعت أن تقول شيئاً، وأصابع غليظة عُدمت الرحمة تسوقها بعنف.

ويسأل وسام: ماذا فعلنا؟ ويتلقى جواب سؤاله: ضربة قوية على رأسه من هذا الذي يبدو أنه ضاق بأسئلة المجرمين!!

الوجوه مصفرة مذعورة والأجسام ترتعش من الخوف والبرد. والدموع تسأل ولا تجيب.

وتدفع الأسرة إلى إحدى سيارتين قد غطي زجاجهما بستائر كثيفة، عدا عادل الذي اقتيد إلى السيارة الثانية.

وصرخت الأم وقد فقدت صوت عادل: وأين ابني عادل؟ لكن لكمة قوية على الرأس أسقطت زينب من بين يديها، كانت كافية لأن تفهم أن أي سؤال ممنوع، حتى لو كان عن الابن.

وقبل أن يودع الفجر كانت السيارة التي تحمل العائلة قد انطلقت بسرعة باتجاه الشرق، أما السيارة التي تقل عادل فقد أخذت طريقاً آخر يعرف العراقيون إلى أين يوصل وأين ينتهي.

كان صباحاً حزيناً هذا الذي تستقبله العائلة على غير ما اعتادت، صمت لا يقطعه إلاّ صوت عجلات السيارة وهي تنعطف مسرعة هنا أو هناك لتبلغ هدفها في الوقت المحدد.

وبعد مسيرة مضنية شاقة وقفت السيارة، طلب المرافق الذي يمكن أن تطلق عليه أي وصف إلاّ الإنسان، من أفراد العائلة أن ينزلوا، صوت غليظ متعال لا رحمة فيه ومسدس مصوّب دائماً.

ونزلت العائلة التي لا تعرف أين هي، لتجد عوائل أخرى مثلها قد سبقتها أو وصلت معها.

قال المرافق وهو يصعد إلى السيارة، هو ذا طريق إيران بلدكم الذي جئتم منه، أنتم ....

٨

لم يكن معهم ما يأكلون، لقد أعجلهم رجال صدام، أو منعوهم أن يحملوا شيئاً من الأكل.

وبدأ الأطفال يتضورون من الجوع، يصرخون. إنهم لم يطعموا شيئاً منذ عشاء البارحة، الأب لا يستطيع أن يساعدهم بشيء وهو يراهم وقد شحبت وجوههم. هو الآخر جائع مثلهم لكنه يتصنع الصبر أمامهم ويمنيهم بما يعلم أنه لن يكون. ما أقسى هذه العائلة! ماذا فعلت؟ أية جريمة ارتكبت؟ ما ذنب الأطفال؟ زينب هذه التي التصقت بثدي أمها الذي جفّ لهول ما لاقت.

لكنها ليست وحدها، فها هي العوائل الأخرى التي ألقت بها سيارات الطغاة في نفس المكان، تقاسمها الخوف والبرد والجوع، أطفال ونساء ورجال.

لا أحد يعرف لِمَ جيء بهم على هذا المكان ولِمَ حشروا فيه: هو ذا طريق إيران. هذا كل ما عرفوه، مع سباب كثير وشتائم أكثر.

وسار الموكب، يكفكف الكبار الذين يحبسون دموعهم، دموع الصغار التي لا تنحبس. الخطى متثاقلة بطيئة تزداد تثاقلاً وبطئاً كلما طال الطريق وبعدت المسافة.

لا يدرون إلى أين، كلهم متجهون إلى الشرق كما أمرهم الجلادون.

وماتت زينب ملتصقة بثدي أمّها ثم تبعتها الأم.

لا يعرف الأب الزوج ماذا يفعل، غير دمعة ساخنة جرت على خدّيه؛ ودع بها البنت والزوجة وهو يستعيد أيامه معها، إنه ينتظر مأساة أخرى ستقع غير بعيد.

ويسقط وسام. وتتبعه سعاد ثم سمير ابن الخامسة، الذي أصر على البقاء مع أُمّه وأُخته، إنه لا يعرف معنى الموت بعد، ولا يعرف معنى العذاب بعد.

وليت الذين يدافعون عن صدام يعرفون معنى العذاب الذي عاشه العراقيون، إلاّ أن يكونوا مثله.

٢- لم يكن سعيد قد تجاوز الرابعة من عمره حين اختطفه من أمام داره مجهولون ملثّمون ووضعوه في سيارة مضت به إلى حيث لا يعلم أحد.

كان الطفل كعادة الأطفال عندنا، يلعب مع أصحابه من أطفال الجيران ضحى أحد أيام أيلول من عام ٢٠٠٦، فهو لم يصل سن الدراسة بعد، وأبوه موظف في إحدى دوائر الدولة، والأم داخل المنزل مشغولة بما يشغل به مثلها من النساء.

٩

وفجأة تسمع أم سعيد طرقاً قوياً على الباب، لا تتوقع أحداً في تلك الساعة، النساء مثلها مشغولات في منازلهن، وأبو سعيد في عمله الذي يمتد إلى ما بعد الظهر، لم تفكر في سعيد، الطفل الذي خرج قبل قليل للعب مع أولاد الجيران كما اعتاد، في الشارع، غير بعيد عن البيت.

وأسرعت الأم وقد ضايقها طرق الباب المستمر، ولم تكد تفتح حتى سقطت أرضاً، وهي تسمع الأطفال يخبرونها بخطف ابنها من قِبَل مجهولين.

وتجمّع الجيران وقد خرجوا على صوت أم سعيد التي كانت تضرب على صدرها والدموع تنهمر من عينيها.

ماذا فعل سعيد، هذا الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة؟! أي ذنب يمكن أن يجنيه ليروع بانتزاعه من بيته، وليروع معه هذه الأم المسكينة، وهذا الأب الوادع الذي لم يؤذِ أحداً ولم يعرف غير البيت خارجاً وعائداً إليه من العمل؟! هذا ما كان الجيران يرددونه، وقد التقت عيونهم، مذهولين.

قال أحدهم: لعل الأطفال من أصحابه لم يتيقنوا الأمر ولم يكن خطفاً.

وقال آخر: ربما أراد الخاطفون غيره، وقد تجدونه في الشارع الثاني، أنزلوه هناك بعد ما تبيّن لهم أنه ليس من يطلبون، واتجه، ومعه آخرون لعلهم يجدون سعيداً هناك: في الشارع الثاني أو قريباً منه، لكنهم ما لبثوا أن عادوا دون أن يكون سعيد بينهم.

ولم يخطر في ذهن أحد أن سعيداً، هذا الطفل الذي لم يتجاوز الأربع سنوات يمثل خطراً على الإسلام، ولا اختطافه انتصاراً للإسلام، لو لم ينقل الأطفال وهم يروون الحادث، إنهم سمعوا المختطفين يهتفون حيث وضعوا سعيداً في السيارة: الله أكبر والمجد للإسلام، هذا هو مصير أعداء الإسلام.

وما هي إلا ساعات حتى كان على الهاتف من يقول لأم سعيد إن ابنها قد ذبحه جند (الإسلام) من أتباع الشيخ بن لادن.

ولم تحتمل الأم الصدمة، كانت أقوى منها؛ فسقطت ميتة، ذبحها (اللادينيون) حينما ذبحوا ابنها وانتصار آخر للإسلام!!!

١٠

هذان مثالان لجرائم ليست الأخطر ولا الأبشع في تأريخ طويل يبدأ بمذبحة حلبجة وانتفاضة شعبان لينتهي بـ (خير القرون): الأول الهجري!!

ومن هذين المثالين أحسب القارئ قد عرف ما أريد في هذا الكتاب، فأنا لا أريد أن أبحث في الحروب التي وقعت في هذه المنطقة. والعراق منها بوجه خاص، عبر التأريخ الذي رويناه، فالحروب وقعت فيها وفي غيرها، وتقع فيها وفي غيرها، لم يخل مكان منها قديماً، ولم يخلُ مكان منها حديثاً، وما أظن مكاناً سيخلو منها في مستقبل قريب.

ولا أريد أن أبحث في ما هو دون الحروب مما يقع من أحداث عنيفة، قد تكون دامية في الكثير من الأحيان.

لكني أريد أن أبحث ظاهرة تميز بها تأريخنا وتجدها فيه، أكثر مما تميز بها تأريخ آخر، وأكثر مما تجدها في تأريخ آخر.

تلك هي الوحشية التي ترافق الجريمة فلا يكتفي المجرم بالدم من ضحيته، وليس قليلاً ذلك، بل يضيف إلى جريمته ما يجعل الدم أهون ما فيها وأسهل ما فيها، ولقد قال العرب قديماً، وهم يقولون هذه الأيام أيضاً: (شر من الموت ما اختير معه الموت) يعنون بهذا، الوحشية التي تسبق أو ترافق الموت، وقد تعقبه وتأتي بعده، وأظنها الأبشع.

وأسارع إلى التأكيد صادقاً، أن هذا الأسلوب الوحشي عرفته الكثير من الشعوب والأمم ورافق الكثير من أحداث تأريخها، وهو ما قلته قبل قليل، لا أنكر ذلك ولا أحد ينكره أو يستطيع أن ينكره، لكنه كان خطأ في تأريخهم، وكان تأريخنا خطأ، فيه بعض الفواصل التي تخلو من الوحشية أو تقتصر على ما هو معروف ولا أقول، مقبول منها، أو ما لا يشوه ويسوء. وأقل منها، ما يفخر به الإنسان ويعتز ويحرص على مكان له في ذاكرته يعود إليه، كلما ضاق بجريمة، من ماضيه أو من حاضره، وما أكثر هذه الجرائم، وما أكثر وأطول ضيقنا.

١١

فهذا الأسلوب، إن كانت عرفته الشعوب والأمم الأخرى، فقد بقي محصوراً في مرحلة من تأريخها أو في شخص أو أشخاص منه، ولم يصبح وكأنه رفيق شبه دائم للحكم إلاّ عندنا، وفي تأريخنا.

فليس فيما جاء به صدام وابن لادن وما تقترفه طالبان إلاّ امتداداً لماضٍ طويل سيء حفل بجرائم وأحداث اتسمت بالقسوة والوحشية البعيدة عن قيم الإسلام وقيم الإنسان.

وإذا كان هؤلاء قد تجاوزوا الحدود وزادوا على ما وطّد الأسلاف من مناقب!! فذلك لا يزيد على أن يكون تطوراً (كمياً) في الوحشية وعدواناً على حقوق أولئك الأسلاف فيما ابتكروه وسبقوا إليه.

وأرجو أن يعلم القراء، وأنا أختم المقدمة، أنني لا أريد شتم تأريخي ولا الانتقاص منه، وهو ماضٍ لن يغير منه شتمي وانتقاصي، ولا مدحي وإطرائي، أريد أن نبدأ صفحة لن يكون فيها مكان لصدام أو لابن لادن أو لطالبان الذين وجدوا لهم أماكن وملاجيء وحصونا في صفحات هذا التأريخ، وعوناً لهم في جرائمهم. أن نفيد من تجاربه فلا نكررها ولا نعود إليها، فما لم نعرف الخطأ لن نعرف الصواب.

١٢

(٢)

إجرام البعث

هل كان هتلر إنساناً وهو يدفع بملايين اليهود إلى محارق جماعية (الهلوكوست) دون تمييز بين طفل وشيخ وعجوز، ودون توجيه تهمة إلى أحد منهم غير (يهوديته)؟

وهل كان موسوليني إنساناً وهو يذبح الملايين من الإيطاليين لمجرد الاختلاف في الرأي، ويقتل عمر المختار، الشيخ الذي تجاوز الثمانين، برميه من الطائرة وهي محلقة في الجو فيتمزق جسمه قبل أن يصل الأرض؟

وهل كان ستالين إنساناً وهو يهجّر ملايين الروس إلى سيبريا؛ ليموتوا هناك برداً وجوعاً وتعذيباً؟

وهل كان صدام إنساناً وهو يقتل الملايين من العراقيين بالأسلحة الكيماوية في حلبجة، أو يدفنهم أحياء في الجنوب، أو يهجّرهم عبر الحدود دون زاد أو ماء فلا يعبر الحدود إلاّ أقلّهم ويموت الآخرون في الطريق؟

وهل كان ابن لادن إنساناً وهو يحرض على ذبح الأطفال والنساء والعجزة على (الهوية) ويبارك الذبح والذابح؟

وهل كان الطالبان بشراً وهم يقتلون حتى التماثيل التي يبلغ عمرها آلاف السنين، ويغتالون القرن العشرين بحضارته وإنسانه؟

وهل كان...؟

وهل كان...؟

ليست هذه أسئلة أبحث عن جواب لها؟ فأنا أعرف جوابها، أعرفه جيداً، فلم يكن واحد منهم إنساناً: لا هتلر ولا موسوليني ولا ستالين، ولا صدام ولا ابن لادن، ولم يكن الطالبان بشراً.

لقد كانوا وحوشاً، وليس أخطر على الإنسان من الإنسان حينما يتوحش.

١٣

ثم انتهى هتلر وانتهى فكره النازي.

وانتهى موسوليني وانتهى فكره الفاشي.

وانتهى ستالين وانتهت الستالينية.

وعادت ألمانيا دولة ديمقراطية تحرّم النازية وتعاقب عليها.

وعادت إيطاليا دولة ديمقراطية تحرّم الفاشية وتعاقب عليها.

وعاد الاتحاد السوفيتي قبل أن ينحل ليحارب ستالين والستالينية.

لماذا؟

لأن هتلر وموسوليني وستالين كانوا ظواهر فردية طارئة، فرضتها ظروف داخلية وخارجية معروفة، فانتهت وزالت بزوال أسبابها ودواعيها.

فهل كان صدام وابن لادن وطالبان مجرد ظواهر فردية طارئة في هذا التأريخ العربي الممتد على قرون طويلة من الزمان، وفي هذا الحاضر العربي القائم على ذلك التأريخ والمستند إليه والمتغذي عليه؟

هل ستختفي ظاهرة صدام وابن لادن وطالبان كما اختفت ظاهرة هتلر وموسوليني وستالين؟

هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عليه عبر رحلة طويلة في الزمان وفي المكان.

١٤

(٣)

حلبجة

نوروز عيد الربيع والحب عند الأكرادن وعيد الرقص والغناء والملابس الملونة، ها هو يقترب، إنهم ينتظرونه على شوق، بعد أشهر الشتاء الطويلة في الشمال، لم يبق بينه وبينهم إلاّ أيام قليلة، ستة أيام ليطل عليهم بشمسه الدافئة كما اعتاد، ما أحلى الربيع! ما أحلى أيامه! ما أحلى عيده.

الكل فرحون سعداء وهم يستقبلونه، وكل يوم يقربه منهم ويقربهم منه.

لقد هيؤوا ملابسهم الجديدة، إنه يستحق أن تكون له ملابس جديدة، فهو عيد الربيع، عيد الملابس الجديدة، والسنة الجديدة.

يحتفل به الفتيان والفتيات وهم يحلمون، يرقصون له، يتواعدون فيه، ينشدون - وقد تشابكت أيديهم وقلوبهم وأحلامهم - أناشيد الفرح والحب والأمل.

ويحتفل به الشيوخ، وهم يستذكرون أيامهم العذبة فيه ورقصاتهم الجميلة التي لا يحسنها هؤلاء الشبان كما كانوا يحسنونها هم في تلك الأيام، هكذا كانوا يقولون لبعضهم والابتسامة تشرق على وجوههم، وهم يرون الأبناء والأحفاد يشاركونهم الرقص والحب، والملابس ذات الألوان الربيعية الزاهية.

ويطل صباح السادس عشر من آذار، يخرج أهل حلبجة والقرى المحيطة بها والقريبة منها كعادتهم كل صباح: الفلاح إلى حقله والطالب إلى مدرسته، والطفل يلاعب أصحابه من أطفال القرية غير بعيد عن قريتهم، والنساء مشغولات بإعداد ما يقدمنه للعائد من الحقل أو العائد من المدرسة أو اللعب.

١٥

لم يكن أحد منهم يدري أن هذا اليوم هو آخر يوم في حياتهم، لن يروا العيد بعده: العيد الذي انتظروه منذ سنة حين ودعوا العيد السابق، سيودعون الحياة قبل هذا العيد ولن يروه أبداً، لقد حكم صدام عليهم جميعاً بالموت لا استثناء فيه لأحد، الكل مجرمون يجب أن يموتوا، وما هذا السحاب الذي يرونه إلا الحكم الي سينفذ فيهم، كانوا يستبشرون به كلما أظلهم أو دنا منهم وهو يحمل الحياة لهم ولزرعهم ومواشيهم، لكنه يحمل لهم الموت هذا اليوم.

وبدأ السحاب - الموت

وتحجر طفل على صدر أُمه التي تحجرت هي أيضاً وعينها عليه.

وتقاربت بقايا أجسام كانت حية قبل قليل، إنها واحدة من ألوف العوائل التي نُفّذ فيها الحكم.

وتمنى الذين لم يُنفّذ الحكم فيهم، أن يكون قد نُفّذ، فهم بين مشوّه ومشلول، بين من فقد الرجل أو الرجلين أو اليد أو اليدين، لم تعد الحياة تعني له أكثر من مرارة يعيشها، أو مرارة يتذكرها ويعيشها.

وانقشع السحاب عن خمسة آلاف ضحية: واحدة من أبشع الجرائم التي عرفتها الإنسانية. وكان الضمير العالمي قد مات قبلهم، حكم عليه صدام بالموت، لكنه الموت الذي يتم باتفاق الطرفين، يدفع فيه صدام المال، ويتسلم ثمنه سكوتاً واعتذاراً ودفاعاً عنه؛ فتسابقت حكومات، لجان إلى إنكار الجريمة وبراءة صدام، وتزاحمت وفود على بابه ومعها دهان وصبغ وكلمات وحقائب فارغة.

وحين جاء العيد بعد خمسة أيام، كانت الملابس الجديدة قد تحوّلت إلى أكفان، وعاد سكون الموت يحتل حلبات الرقص والغناء والفرح.

لقد كانوا ينتظرونك أيها العيد ليحتفلوا بك كما اعتادوا، كلهم كانوا ينتظرونك، ينتظرون على شوق إليك.

١٦

لقد رأيت الحزن على وجهك وأنت تقترب من حلبجة في الحادي والعشرين من آذار، بعد خمسة أيام على المجزرة.

وبعد ثلاث سنوات وقبل عيد الربيع أيضاً، يصدر صدام حكماً بإعدام أهل الجنوب ودفنهم أحياء.

لقد أبى القدر إلاّ أن يوحدكم، أحياء وأمواتاً، فها هو المجرم الذي نفّذ فيكم حكم الموت عام ١٩٨٨ ينفذه في إخوانكم عام ١٩٩١ في نفس الشهر وقبل عيد الربيع.

١٧

(٤)

انتفاضة آذار (الانتفاضة الشعبانية)

اليوم هو الأول من آذار أول أشهر الربيع الذي يأتيك باسماً حتى ليكاد يتكلم كما يقول البحتري.

لقد أمضينا شتاء قاسياً، لا في برده وهو ليس بالقليل، وقد انعدمت وسائل التدفئة، بل في أحداثه التي تلاحقت.

الكل أيديهم على قلوبهم لا يدرون ما يأتي به الغد، بل ما تأتي به الساعة المقبلة.

هل سيصبحون؟ أم أنّه الموت الذي كتبه عليهم صدام ينفّذه هو فيهم أو سينفّذه الأميركان، لكنه دائماً بفعله وحمقه.

كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة السابع عشر من كانون الثاني ١٩٩١ رهيبة وستبقى رهيبة، لن ينساها يوماً، العراقيون الذين عاشوها.

أيقظنا دوي كاد يقتلعنا من فراشنا، أحسسنا كأن يوم القيامة الذي نتصوره ولم نره، قد جاء.

القصف يتلاحق ويزداد حدّة وعنفاً، الأطفال مرعوبون يسألون الكبار، المرعوبين أيضاً.

لا أحد يعرف ما يجري، وماذا عليه أن يفعل ليتجنب ما يجري، الكل مضطربون يتساءلون ولا جواب عند أحد.

البيوت تهتز من شدة القصف، ويتركها الناس، ولكن إلى أين؟

لم يعد البرد ما يشغلنا، بل الحياة.

ماذا نفعل الآن؟ إن بغداد تحترق، الطائرات الأميركية تغير بموجات لا انقطاع فيها، وهي تقذف الموت في كل مكان، في كل شارع من شوارع بغداد النائمة أو الساهرة حتى تلك الساعة من الليل.

١٨

هذا هو حصار الدكتاتورية، هذا ما جرّه الطاغية المجرم على العراق كله وليس بغداد فقط.

كنا نعرف أن شيئاً ما، شيئاً مخيفاً مرعباً سيحصل، لكننا لم نكن نتوقع الذي حصل؛ لأنه فوق ما كنا نتوقع.

- والآن بابا ماذا سنفعل؟ قالت آية: بنتي التي كنا سنحتفل قريباً بعيد ميلادها العاشر، وهي توجّه سؤالها مضطربة مذعورة.

ولم أدرِ بم أجيبها لأخفف من اضطرابها وذعرها، والذعر يلف البيت كله، بل البيوت كلها، بغداد كلها مذعورة.

ومضى الليل ليبدأ نهار حزين كئيب تنتشر فيه رائحة الموت والخراب، وملامح مستقبل مظلم قاتم الظلام.

واستمر القصف، ويوم آخر من الذعر والخوف... والزلزال... وأيام أخرى.

ودكّت بغداد كما لم تُدكّ يوماً وتهاوت معالمها وبيوتها وجسورها.

وخلت من ساكنيها: بين من هجرها وفرّ منها، وبين من لزم بيته لا يخرج منه، إلى أين سيذهب لو فكر في الخروج وقد ماتت الحياة، إنها لمجازفة فربما انفجرت فيه قنبلة أو انهد عليه بناء.

بغداد معشوقة الجميع ومدينة العشاق، بغداد الشاطئ وأبي نؤاس ودجلة، ماذا حلّ بها؟! إنها الآن موحشة مهجورة خائفة، قد خلت شوارعها وأظلمت بيوتها.

أسفي عليك بغداد! ما الذي دهاك؟

ما الذي فعله بك هذا المجرم التافه؟ أكان يساوي لحظة رعب من طفلة التصقت على صدر أُمّها؟ أكان يساوي بسمة لطفل يلاعب أترابه في شارع من شوارعك؟

أكنت ستجدين بين كل أعدائك، وأولهم وأشدهم أعداؤك العرب، كهذا العدو الذي كتب عليك أن تكوني أسيرته؟!

أسفي عليك، ماذا لقيت من هذا الوحش المجنون وماذا لقي العراق؟!!

ويأتي فجر الرابع والعشرين من شباط.

العراقيون ساهرون لا يذوقون النوم إلا ليوقظهم حلم مفزع.

١٩

ها هو بوش يعلن بدء العمليات العسكرية.

الجيش العراقي محطم منهوك، قد فقد روح القتال وعزيمة المقاتل؛ لأنه فقد الثقة بالقيادة، لا يدري لماذا يجب عليه أن يموت، لقد خرج قريباً من حرب مجنونة طويلة لم يعرف سبباً لها، قدّم فيها مئات الألوف من الضحايا.

وها هو يفرض عليه الآن أن يخوض حرباً مجنونة أخرى لا يعرف سبباً لها، وسيدفع أضعاف ما دفع من ضحايا في حربه الأولى، فهو يواجه قوة جبارة هائلة لا تكافؤ بينه وبينها في أي حال، وسيخرج الخاسر منها في كل حال.

والجنود يتساءلون: لِمَ نحن هنا؟ لِمَ كتب علينا ألا نخرج من حرب إلا لندخل حرباً؟ لِمَ نعرض أنفسنا للموت في هذه الصحراء، يقتلنا البرد والجوع قبل أن يقتلنا جيش أميركا وجيوش حلفائها، بعيدين عن الأهل والوطن؟

قال واحد منهم: لقد تركت طفلين: زينب وعلي وأُمّهما وليس لهم من عائل سواي.

كان علي يسرع قبلي إلى الباب كلما أردت الخروج صباحاً يحاول أن يمنعني، وزينب ما أحلاها! ما أحلى ابتسامتها، لا ترضى مني إلا بقبلة قبل الخروج، وبوعد بلعبة جديدة عند العودة، آه كيف هم الآن؟! هل سأراهم يوماً؟! لقد انقطعت أخبارهم عني منذ حين.

وقال الآخر: أنا الوحيد الباقي لأبوي الطاعنين في السن، كنا أربعة، قتل ثلاثة منا في الحرب مع إيران، ولم يبقَ لأُمي وأبي غيري، ماذا لو سمعا بقتلي، أو (استشهادي) الوصف الذي سيتكرم به علينا عبد الجبار محسن وهو يسوق خبر قتلنا في بياناته الشهيرة من دار الإذاعة، ما أظنهما سيحتملان الخبر، سيموتان حتماً عند سماعه.

وقال الثالث: في سبيل من نقاتل؟! ألنرضي غرور صدام وحمقه ونزواته؟! أليزداد ابناه وأهله وبطانته عدواناً على الناس في حياتهم وأعراضهم وأموالهم؟! هل لنا عدو غير صدام؟! أليس الأولى بنا أن نوجّه سلاحنا إليه، سيكون القتال ضدّه مشروعاً، بل واجباً، لسنا جبناء ولكننا لا نريد أن نموت دفاعاً عن عدوّنا، هناك القتال لا هنا، هناك عدوّنا الذي يجب أن نتوجّه إليه.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الخطاب، عن موسى بن بشار العطار(١) ، عن المسعودي، عن عبدالله بن الزبير، عن أبان بن تغلب والربيع بن سليمان وأبان بن أرقم وغيرهم، قالوا: أقبلنا من مكة حتى إذا كنا بوادي الاجفر(٢) إذا نحن برجل يصلي، ونحن ننظر إلى شعاع الشمس، فوجدنا(٣) في أنفسنا، فجعل يصلي ونحن ندعو عليه، حتى صلى ركعة ونحن ندعو عليه ونقول: هذا من شباب أهل المدينة، فلما أتيناه إذا هو أبوعبدالله جعفر بن محمّد عليهما السلام، فنزلنا فصلينا معه، وقد فاتتنا ركعة، فلما قضينا الصلاة قمنا إليه، فقلنا: جعلنا فداك، هذه الساعة تصلي؟ فقال: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت(٤) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) كذا في النسخ: وفي الكافي ٢: ٤٦٦/٣ كتاب العشرة، باب ٣، روى موسى بن يسار القطان عن المسعودي، فالظاهر إتحاده مع ما هنا ووقوع التحريف في أحد الموضعين.

(٢) الاجفر: موضع بين فيد والخزيمية، بينه وبين فيد ستة وثلاثون فرسخا نحو مكة.«معجم البلدان ١: ١٠٢».

(٣) وجد: غضب.

(٤) بحار الانوار ٨٣: ٥٩/١٨.

١٤١

[ ١٩ ]

المجلس التاسع عشر

وهو يوم الجمعة

الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٤٤/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، قال: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن محمّد بن عيسى وأبي إسحاق النهاوندي، عن عبدالله بن حماد، قال: حدّثنا عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: أقبل جيران أم أيمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله: إن أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتى أصبحت، قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أم أيمن فجاءته، فقال لها: يا أم أيمن، لا أبكى الله عينيك، إن جيرانك أتوني وأخبروني أنك لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينيك، ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمة شديدة، فلم أزل أبكى الليل أجمع. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فقصيها على رسول الله، فإن الله ورسوله أعلم. فقالت: تعظم علي أن أتكلم بها. فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما ترى، فقصيها على رسول الله.

قالت: رأيت في ليلتي هذه، كأن بعض أعضائك ملقى في بيتي. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: نامت عينك يا أم أيمن، تلد فاطمة الحسين، فتربينه وتلينه، فيكون بعض أعضائي في بيتك.

١٤٢

فلما ولدت فاطمة الحسين عليهما السلام، فكان يوم السابع، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحلق رأسه وتصدق بوزن شعره فضة وعق عنه، ثم هيأته أم أيمن ولفته في برد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أقبلت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: مرحبا بالحامل والمحمول، يا أم أيمن، هذا تأويل رؤياك(١) .

١٤٥/٢ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري، عن عليّ بن جابر، قال: حدثني عثمان بن داود الهاشمي، عن محمّد بن مسلم، عن حمران بن أعين، عن أبي محمّد شيخ لاهل الكوفة، قال: لما قتل الحسين بن عليّ عليهما السلام أسر من معسكره غلامان صغيران، فأتي بهما عبيد الله بن زياد، فدعا سجانا له، فقال: خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيق عليهما سجنهما، وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنهما الليل أتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح(٢) .

فلما طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرب إليه بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لعله يوسع علينا في طعامنا، ويزيد في شرابنا.

فلما جنهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح، فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّدا؟ قال: فكيف لا أعرف محمّدا وهو نبيي! قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف جعفرا، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء! قال: أفتعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف عليا، وهو ابن عم نبيي وأخو نبيي! قال له: يا شيخ، فنحن من عترة

______________

(١) بحار الانوار ٤٣: ٢٤٢/١٥.

(٢) القراح من كل شئ: الخالص.

١٤٣

نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيقت علينا سجننا، فانكب الشيخ على أقدامهما يقبلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أي طريق شئتما، فلما جنهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا - يا حبيبي - الليل، واكمنا النهار حتى يجعل الله عزّوجلّ لكما من أمركما فرجا ومخرجا. ففعل الغلامان ذلك.

فلما جنهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جننا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبي، فقد شممت الروائح كلها، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما، فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.

قالت العجوز: يا حبيبي، إن لي ختنا(١) فاسقا، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما. قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت: سأتيكما بطعام، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا.

فلما ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه، فتعال حتى أعانقك وتعانقني وأشم رائحتك وتشم رائحتي قبل أن يفرق الموت بيننا. ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما.

فلما كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتى قرع الباب قرعا خفيفا، فقالت العجوز: من هذا؟ قال: أنا فلان. قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشق مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي. قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من

______________

(١) الختن: كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها، وكذلك زوج البنت أو زوج الاخت.

١٤٤

عسكر عبيد الله بن زياد، فنادى الامير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شئ.

فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمّد خصمك في يوم القيامة. قال لها: ويحك إن الدنيا محرص عليها. فقالت: وما تصنع بالدنيا، وليس معها آخرة؟ قال: إني لاراك تحامين عنهما، كأن عندك من طلب الامير شيئا، فقومي فإن الامير يدعوك. قالت: وما يصنع الامير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البرية؟ قال: إنما لي طلب، افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح، فإذا أصبحت بكرت في أي الطريق آخذ في طلبهما. ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب.

فلما كان في بعض الليل سمع غطيط(١) الغلامين في جوف البيت، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير، فقال له: من هذا؟ قال: أما أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره.

قال لهما: من أنتما؟ قالا له: يا شيخ، إن نحن صدقناك فلنا الامان؟ قال: نعم. قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمة الله وذمة رسوله؟ قال: نعم. قالا: ومحمّد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين؟ قال: نعم. قالا: والله على ما نقول وكيل وشهيد؟ قال: نعم. قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل. فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما. فقام إلى الغلامين فشد أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين.

فلما انفجر عمود الصبح، دعا غلاما له أسود، يقال له: فليح، فقال: خذ هذين الغلامين، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب عنقيهما، وائتني برأسيهما لانطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.

______________

(١) الغطيط: الصوت الذي يخرج مع نفس النائم.

١٤٥

فحمل الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال: إن مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟ قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل: أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا. فانكب الاسود على أقدامهما يقبلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمي في القيامة. ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات، وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني! فقال: يا مولاي، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فإذا عصيت الله فأنا منك برئ في الدنيا والآخرة.

فدعا ابنه، فقال: يا بني، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها، فخذ هذين الغلامين إليك، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما، لانطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا شاب، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال: يا حبيبي، فمن أنتما؟ قالا: من عترة نبيك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يريد والدك قتلنا. فانكب الغلام على أقدامهما يقبلهما، وهو يقول لهما مقالة الاسود، ورمى بالسيف ناحية وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بني عصيتني! قال: لان أطيع الله وأعصيك أحب إلى من أن أعصي الله وأطيعك.

قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري، وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلما صار إلى شاطئ الفرات سل السيف من جفنه، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما، وقالا له: يا شيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمّد خصمك في القيامة غدا. فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم. فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من

١٤٦

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقال: ما لكما من رسول الله قرابة. قالا له: يا شيخ، فائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره. قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما. قالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سننا؟ قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئا. قالا: يا شيخ إن كان ولا بد، فدعنا نصلي ركعات. قال: فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة. فصلى الغلامان أربع ركعات، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: يا حي يا حليم(١) يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق.

فقام إلى الاكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة، وأقبل الغلام الصغير يتمرغ في دم أخيه، وهو يقول: حتى ألقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا مختضب بدم أخي. فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنيهما في الماء، وهما يقطران دما.

ومر حتى أتى بهما عبيد الله بن زياد وهو قاعد على كرسي له، وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلما نظر إليهما قام ثم قعد ثم قام ثم قعد ثلاثا، ثم قال: الويل لك، أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا. قال: فما عرفت لهما حق الضيافة؟ قال: لا.

قال: فأي شئ قالا لك؟ قال: قالا: يا شيخ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمك في القيامة. قال: فأي شئ قلت لهما؟ قال: قلت: لا، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.

قال: فأي شئ قالا لك؟ قال: قالا: ائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره. قال: فأي شئ قلت؟ قال: قلت: ليس إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما. قال: أفلا جئتني بهما حيين، فكنت أضعف لك الجائزة، وأجعلها أربعة آلاف درهم؟

______________

(١) في نسخة: يا حكيم. وكذا في الموضع الآتي.

١٤٧

قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلا التقرب إليك بدمهما.

قال: فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قال لي: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله. قال: فأي شئ قلت لهما. قال: قلت: ما لكما من رسول الله قرابة.

قال: ويلك، فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قالا: يا شيخ، ارحم صغر سننا. قال: فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئا.

قال: ويلك، فأي شئ قالا لك أيضا؟ قال: قالا: دعنا نصلي ركعات. فقلت: فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة، فصلى الغلامان أربع ركعات. قال: فأي شئ قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفيهما إلى السماء، وقالا: يا حي يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق.

قال عبيد الله بن زياد: فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟ قال: فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له. قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه، ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(١) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) بحار الانوار ٤٥: ١٠٠/١.

١٤٨

[ ٢٠ ]

المجلس العشرون

مجلس يوم الثلاثاء

لأربع ليال بقين من شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٤٦/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رحمه الله، قال: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن المؤدب، قال: حدّثنا أحمد بن عليّ الاصبهاني، عن إبراهيم بن محمّد الثقفي، قال: حدّثنا جعفر بن الحسن، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن محمّد بن عليّ السلمي، عن عبدالله بن محمّد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله الانصاري، أنه قال: لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في علي خصالا، لو كانت واحدة منها في جميع الناس لاكتفوا بها فضلا:

قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني كهارون من موسى.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني وأنا منه.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مني كنفسي، طاعته طاعتي، ومعصيته معصيتي.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حرب علي حرب الله، وسلم علي سلم الله.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولي علي ولي الله، وعدو علي عدو الله.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي حجة الله وخليفته على عباده.

١٤٩

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حب علي إيمان، وبغضه كفر.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حزب علي حزب الله، وحزب أعدائه حزب الشيطان.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي مع الحق والحق معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: علي قسيم الجنة والنار.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من فارق عليا فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزّوجلّ.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة(١) .

١٤٧/٢ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: حدّثنا أبوجعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول القاضي في داره بمدينة السلام، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا عليّ بن يزيد الصدائي، عن أبي شيبة الجوهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم وألسنتكم(٢) .

١٤٨/٣ - حدّثنا أحمد بن زياد رضي الله عنه، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدّثنا القاسم بن محمّد البرمكي، قال: حدّثنا أبوالصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعليّ بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه قد ألقم حجرا، قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال له: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الانبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل في قول الله عزّوجلّ:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٣) ، وقوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ

______________

(١) الخصال: ٤٩٦/٥، بشارة المصطفى: ١٩، بحار الانوار ٣٨: ٩٥/١١.

(٢) الخصال: ٣٢١/٥، بحار الانوار ٦٩: ٣٧٢/١٦، و ٧٧: ١١٣/٥.

(٣) طه ٢٠: ١٢١.

١٥٠

مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (١) ، وقوله في يوسف:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٢) ، وقوله عزّوجلّ في داود:( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٣) وقوله في نبيه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم:( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (٤) . فقال مولانا الرضا عليه السلام: ويحك - يا علي - اتق الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله عزّوجلّ برأيك، فإن الله عزّوجلّ يقول:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٥) . أما قوله عزّوجلّ في آدم عليه السلام:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فإن الله عزّوجلّ خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده، لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض تتم مقادير أمر الله عزّوجلّ، فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة، عصم بقوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٦) . وأما قوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنما ظن أن الله عزّوجلّ لا يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ:( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (٧) أي ضيق عليه، ولو ظن أن الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر. وأما قوله عزّوجلّ في يوسف:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) فإنها همت بالمعصية، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها

______________

(١) الانبياء ٢١: ٨٧.

(٢) يوسف ١٢: ٢٤.

(٣) سورة ص ٣٨: ٢٤.

(٤) الاحزاب ٣٣: ٣٧.

(٥) آل عمران ٣: ٧.

(٦) آل عمران ٣: ٣٣.

(٧) الفجر ٨٩: ١٦.

١٥١

والفاحشة، وهو قوله:( كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ) يعني القتل( وَالْفَحْشَاءَ ) (١) يعني الزنا.

وأما داود، فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال عليّ بن الجهم: يقولون: إن داود كان في محرابه يصلي، إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار، فخرج في أثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان(٢) ، فاطلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان أوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه: أن قدم أوريا أمام الحرب، فقدم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية: أن قدمه أمام التابوت، فقتل أوريا رحمه الله، وتزوج داود بامرأته.

قال: فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته، حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل!

فقال: يا بن رسول الله، فما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك، إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عزّوجلّ خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عزّوجلّ إليه الملكين فتسورا المحراب، فقالا:( خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَـٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه، فقال:( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ) (٣) ، ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة حكمه، لا ما ذهبتم

______________

(١) يوسف ١٢: ٢٤.

(٢) في نسخة: حيان، وفي اخرى: جنان.

(٣) سورة ص ٣٨: ٢٢ - ٢٤.

١٥٢

إليه، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ يقول:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (١) إلى آخر الآية؟

فقلت: يا بن رسول الله، فما قصته مع أوريا؟ فقال الرضا عليه السلام: إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام، فذلك الذي شق على (الناس من قبل)(٢) أوريا.

وأمّا محمّد نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقول الله عزّوجلّ له:( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) فإن الله عزّوجلّ عرف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في الآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وأحد من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى صلّى الله عليه وآله وسلّم اسمها في نفسه ولم يبده(٣) ، لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، قال الله عزّوجلّ:( وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) في نفسك، وإن الله عزّوجلّ ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم، وزينب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وفاطمة من علي عليهما السلام.

قال: فبكى عليّ بن الجهم، وقال: يا بن رسول الله، أنا تائب إلى الله عزّوجلّ أن أنطق في أنبياء الله عزّوجلّ بعد يومي هذا إلا بما ذكرته(٤) .

١٤٩/٤ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد الهمداني، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر محمّد بن علي، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين، عن أبيه سيد

______________

(١) سورة ص ٣٨: ٢٦.

(٢) أثبتناه من العيون.

(٣) زاد في نسخة: له.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ١٩١/١، بحار الانوار ١١: ٧٢/١.

١٥٣

الشهداء الحسين بن علي، عن أبيه سيد الوصيين أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطبنا ذات يوم، فقال: أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الايام، وليا له أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابة، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أو زاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين. أيها الناس، من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه.

فقيل: يا رسول الله، وليس كلنا يقدر على ذلك. فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء.

أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله

١٥٤

عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.

أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: فقمت فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الاعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الاعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّوجلّ، ثم بكى، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟

فقال: يا علي، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الاولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك.

ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا علي، من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبك فقد سبني، لانك مني كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله تبارك وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، فاختارني للنبوة، واختارك للامامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي.

يا علي، أنت وصيي، وأبو ولدي، وزوج ابنتي، وخليفتي على امتي في حياتي وبعد مماتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية، إنك لحجة الله على خلقه، وأمينه على سره وخليفته على عباده(١) .

وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلم كثيرا

______________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ٢٩٥/٥٣، فضائل الاشهر الثلاثة: ٧٧/٦١، بحار الانوار ٩٦: ٣٥٦/٢٥.

١٥٥

[ ٢١ ]

المجلس الحادي والعشرون

مجلس يوم الجمعة

سلخ شهر رمضان سنة سبع وستين وثلاثمائة

١٥٠/١ - حدّثنا الشيخ أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن عمر البغدادي الحافظ، قال: حدّثنا عبدالله بن يزيد، قال: حدّثنا محمّد بن ثواب، قال: حدّثنا إسحاق بن منصور، عن كادح - يعني أبا جعفر البجلي -، عن عبدالله بن لهيعة، عن عبد الرحمن - يعني ابن زياد -، عن سلمة بن يسار، عن جابر بن عبدالله، قال: لما قدم علي عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بفتح خيبر، قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم قولا لا تمر بملا إلا أخذوا التراب من تحت رجليك ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وإنك تبرئ، ذمتي وتقاتل على سنتي، وإنك غدا على الحوض خليفتي، وإنك أول من يرد علي الحوض، وإنك أول من يكسى معي، وإنك أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور، مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم، يكونون غدا في الجنة جيراني، وإن حربك حربي، وسلمك سلمي، وإن سرك سري، وعلانيتك علانيتي، وإن سريرة صدرك كسريرتي، وإن ولدك ولدي، وإنك

١٥٦

تنجز عداتي، وإن الحق معك، وإن الحق على لسانك وقلبك وبين عينيك، الايمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وإنه لن يرد علي الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك حتى يرد الحوض معك.

قال: فخر علي عليه السلام ساجدا، ثم قال: الحمد لله الذي أنعم علي بالاسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية خاتم النبيين وسيد المرسلين، إحسانا منه وفضلا منه علي. قال: فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي(١) .

١٥١/٢ - حدّثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدّثنا العباس بن الفضل المقرئ، قال: حدّثنا أبوالحسن عليّ بن الفرات الاصبهاني، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد البصري، قال: حدّثنا جندل بن والق، قال: حدّثنا عليّ بن حماد، عن سعيد، عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون عليا. قال: قربني إليهم، فلما أن أوقف عليهم، قال: أيكم الساب الله؟ قالوا: سبحان الله! من يسب الله فقد أشرك بالله. قال: فأيكم الساب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قالوا: من يسب رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم الساب عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزّوجلّ، ثم مضى.

فقال لقائده: فهل قالوا شيئا حين قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئا. قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:

نظروا إليك بأعين محمرة

نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك. قال:

خزر الحواجب، ناكسو أذقانهم

نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا. قال: لكن عندي.

______________

(١) إعلام الورى: ١٨٦، بشارة المصطفى: ١٥٥، بحار الانوار ٣٩: ١٨.

١٥٧

أحياؤهم خزي على أمواتهم

والميتون فضيحة للغابر(١)

١٥٢/٣ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: سمعته يقول: من صلى أربع ركعات بمائتي مرة( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) في كل ركعة خمسين مرة، لم ينفتل وبينه وبين الله عزّوجلّ ذنب إلا غفر له(٢) .

١٥٣/٤ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن زيد الشحام، عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، قال: ما من عبد يقول كل يوم سبع مرات: أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار، إلا قالت النار: يا رب أعذه مني(٣) .

١٥٤/٥ - حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبدالله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن معاوية بن وهب، عن معاذ ابن مسلم، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: اصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافئ من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه(٤) .

١٥٥/٦ - حدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدّثنا أبي، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمّد بن أبي عمير، عن جعفر الازدي، عن عمرو بن أبي المقدام، قال: سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: من قرأ آية الكرسي مرة، صرف الله عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا وألف مكروه من مكروه الآخرة،

______________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣: ٢٢١، فرائد السمطين ١: ٣٠٢/٢٤١، كفاية الطالب: ٨٢، كشف الغمة ١: ١٠٩، بحار الانوار ٣٩: ٣١١/١.

(٢) ثواب الاعمال: ٤٠، بحار الانوار ٩١: ١٧١/٢، ٣.

(٣) بحار الانوار ٨٧: ١/١.

(٤) الخصال: ٢٠/٧١، بحار الانوار ٧١: ٤١٦/٣٨.

١٥٨

أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر(١) ؟

١٥٦/٧ - حدّثنا عليّ بن الحسين بن شاذويه المؤدب رضي الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن عبدالله بن جعفر بن جامع الحميري، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد، عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن مدرك بن الهزهاز، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: يا مدرك، رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلينا، فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون(٢) .

١٥٧/٨ - حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدثني عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: إن داود عليه السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع إلا جاوبه، فما زال يمر حتى انتهى إلى جبل، فإذا على ذلك الجبل نبي عابد، يقال له: حزقيل، فلما سمع دوي الجبال وأصوات السباع والطير، علم أنه داود عليه السلام، فقال داود: يا حزقيل، أتأذن لي فأصعد إليك. قال: لا. فبكى داود عليه السلام، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا حزقيل: لا تعير داود، وسلني العافية، فقام حزقيل، فأخذ بيد داود فرفعه إليه، فقال داود: يا حزقيل: هل هممت بخطيئة قط؟ قال: لا. قال: فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادة الله عزّوجلّ؟ قال: لا. قال: فهل ركنت إلى الدنيا فأحببت أن تأخذ من شهوتها ولذتها؟ قال: بلى، ربما عرض بقلبي. قال: فماذا تصنع إذا كان ذلك؟ قال: ادخل هذا الشعب فأعتبر بما فيه.

قال: فدخل داود عليه السلام ذلك الشعب، فإذا سرير من حديد، عليه جمجمة بالية وعظام فانية، وإذا لوح من حديد فيه كتابة، فقرأها داود عليه السلام فإذا هي: أنا أروى شلم(٣) ، ملكت ألف سنة، وبنيت ألف مدينة، وافتضضت ألف بكر، فكان آخر

______________

(١) بحار الانوار ٩٢: ٢٦٢/١.

(٢) الخصال: ٢٥/٨٩، بحار الانوار ٢: ٦٥/٤.

(٣) في نسخة: سلم، وفي اخرى: بن أسلم.

١٥٩

أمري أن صار التراب فراشي، والحجارة وسادتي، والديدان والحيات جيراني، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا(١) .

١٥٨/٩ - حدّثنا أحمد بن زياد رضي الله عنه، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، قال: حدّثنا أبوأحمد محمّد بن زياد الازدي، عن أبان بن عثمان وغيره، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: من ختم صيامه بقول صالح أو عمل صالح، تقبل الله منه صيامه. فقيل له: يا بن رسول الله، ما القول الصالح؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والعمل الصالح: إخراج الفطرة(٢) .

١٥٩/١٠ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رحمه الله، قال: أخبرني أحمد ابن محمّد الهمداني، قال: أخبرنا المنذر بن محمّد، قال: حدّثنا إسماعيل بن عبدالله الكوفي، عن أبيه، عن عبدالله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال: خطب أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الناس يوم الفطر، فقال: أيها الناس، إن يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المسيئون، وهو أشبه يوم بيوم قيامتكم، فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم خروجكم من الاجداث إلى ربكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم إلى منازلكم في الجنة أو النار، واعلموا - عباد الله - أن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: ابشروا عباد الله، فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون(٣) .

١٦٠/١١ - وقال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام لبعض أصحابه: إذا كان ليلة الفطر، فصل المغرب ثلاثا، ثم اسجد وقل في سجودك، يا ذا الطول، يا ذا الحول،

______________

(١) كمال الدين: ٥٢٤/٦، بحار الانوار ١٤: ٢٥/٣.

(٢) التوحيد: ٢٢/١٦، معاني الاخبار: ٣٢٥/١، بحار الانوار ٩٦: ١٠٣/١، و ٣١٣/٨، وتقدم في المجلس (١٣) الحديث (٦).

(٣) بحار الانوار ٩٠: ٣٦٢/١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224